الباب الثامن

فيما اخترناه من شعر أبي العلاء المعري

قال أبو العلاء:

عَلِّلاني فإن بِيض الأماني
فنيَتْ والظلام ليس بفاني

يقول تطاوَل ليلي ففزعتُ إلى أحاديث النفس ومخادعتها بالأماني، ففني ذلك ولم يفنَ الليل.

إن تناسَيتُما وداد أُناسٍ
فاجعلاني من بعض مَن تذكُران
رُبَّ ليلٍ كأنه الصبح في الحُسـ
ـنِ وإن كان أسود الطَّيلسان
قد ركَضْنا فيه إلى اللهو لمَّا
وقف النجم وقفةَ الحَيران
كم أردنا ذاك الزمان بمدحٍ
فشُغلنا بذمِّ هذا الزمان
فكأني ما قلتُ والبدر طفلٌ
وشباب الظَّلماء في عُنفوان

أي: لما ذممتُ العيش في هذا الزمان وانقضى طيب العيش بانقِضاء ذاك الزمان، صرتُ كأني لم أقل رضاء بذلك الزمان ليلتي هذه عروس من الزنج وحال البدر في تلك الليلة أنه طفل أي هو في أول الشهر هلال بعد لم يَبدر، وشباب ظلمة الليل في العُنفوان أي في أوله لم يَقتحِم بعد غمرة الليل.

ليلتي هذه عروسٌ من الزنج
عليها قلائدٌ مِن جمان

هذا البيت مقول كأني ما قلتُ أي كأني لم أقل في وصف تلك الليلة هي عروس زنجية.

هرب النوم عن جُفوني فيها
هرَب الأمن عن فؤادِ الجَبانِ

أي زال عني النوم في تلك الليلة لما دفعتُ إليه من السرى فيها.

وكأنَّ الهلال يَهوى الثريا
فهما للوداع مُعتنِقان
قال صحبي في لجَّتَين من الحنـ
ـدس والبيد إذ بدا الفَرقَدان

يقول: قال أصحابي حين تحيَّرنا في بحرَين ظلمة الليل والبرية.

نحن غرقى فكيف يُنقذنا نجـ
ـمان في حومة الدجى غرقان
وسهيلٌ كوَجنة الحبِّ في اللو
ن وقلب المُحبِّ في الخفقان
مستبدًّا كأنه الفارس المعـ
ـلم يبدو معارض الفرسان
يُسرِع اللمح في احمرار كما تُسـ
ـرِع في اللَّمح مقلة الغضبان
ثم شابَ الدجى وخاف من الهجـ
ـر فغطى المَشيب بالزعفران
ونَضا فجرُه على نَسرِه الوا
قع سيفًا فهمَّ بالطَّيَران
وبلادٍ وردَتها ذنَب السِّر
حان بين المهاةِ والسِّرحان

أي: وردتها وقت الصبح.

وعيونُ الركاب ترمق عينًا
حولها محجرٌ بلا أجفانِ

ترمق عينًا: أي عين ماء.

وعلى الدهر مِن دماء الشهيدَيـ
ـن عليٍّ ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرا
نِ وفي أُولياته شفَقانِ
ثبتا في قميصِه ليَجيء الـ
ـحشرُ مُستعديًا إلى الرحمَنِ

وقال أيضًا:

غير مُجدٍ في ملَّتي واعتقادي
نوح باكٍ ولا ترنُّم شادِ
وشبيهٌ صوتُ النعيِّ إذا قِيـ
ـسَ بصوتِ البشير في كلِّ نادِ

يقول: إذا نظر المرء إلى حال الدنيا وسرعة زوالها يَستوي عنده النعي بالميت أو البشارة بالمولود؛ إذ مصير المولود إلى الفناء.

أبَكَت تلكمُ الحمامة أم غنَّـ
ـت على فرع غُصنها الميَّادِ
صاحِ هَذي قبورنا تملأ الرحـ
ـبَ فأينَ القبور من عهد عادِ؟
خفِّف الوطأَ ما أظنُّ أديمَ الأ
رض إلا من هذه الأجسادِ
وقبيحٌ بنا وإن قدُم العهـ
ـدُ هوانُ الآباء والأجدادِ
سِر إن اسْطعتَ في الهواء رويدًا
لا اختيالًا على رفات العباد
رُبَّ لحدٍ قد صارَ لحدًا مرارًا
ضاحكٍ من تزاحُم الأضداد
ودفينٍ على بقايا دفينٍ
في طويل الأزمان والآبادِ
فاسأل الفرقدَين عمَّن أحسَّا
من قبيلٍ وآنسَا من بلادِ
كم أقاما على زَوال نهارٍ
وأنارا لمُدلِج في سواد
تعبٌ كلها الحياة فما أعـ
ـجب إلا مِن راغبٍ في ازديادِ
إن حزنًا في ساعة الموت أضعا
فُ سرورٍ في ساعة الميلاد
خُلِقَ الناس للبقاء فضلَّت
أُمةٌ يحسبونهم للنَّفادِ

يقول إن الناس خُلقوا للبقاء في الدار الآخرة دار الحياة والبقاء، ومن ظنَّ أنهم خُلقوا للفناء والنفاد فقد ضل.

إنما يُنقلون من دار أعما
لٍ إلى دار شقوةٍ أو رشاد
ضجعةُ الموت رقدةٌ يستريح الـ
ـجسمُ فيها والعيش مثل السهادِ

وقال أيضًا:

ولقد ذكرتُكِ يا أُمامة بعدما
نزَل الدليل إلى التراب يسوفُه

ساف الدليلُ التراب إذا شمَّه ليعلم أعلى قصد هو أم على غير قصد؛ يستدلُّ بروائح أبوال الإبل.

والعيس تُعلن بالحنين إليكم
ولغامها كالبرس طار نديفُه
فنسيتُ ما كلَّفتِنيه وطالما
كلَّفتِني ما ضرني تكليفُه
وهواكِ عندي كالغِناء لأنه
حسنٌ لديَّ ثقيلُه وخفيفُه

وقال أيضًا:

لا تَطويا السر عني يوم نائبةٍ
فإن ذلك ذنبٌ غير مُغتفَرِ
والخِلُّ كالماء يُبدي لي ضمائره
مع الصفاء ويُخفيها مع الكدر

وقال أيضًا:

يَمَّمتُه وبودِّي أنني قلمٌ
أسعى إليه ورأسي تحتيَ الساعي
على نجاةٍ من الفرصاد أيَّدها
ربُّ القَدوم بأوصالٍ وأضلاعِ

أراد سفينة متَّخذة من شجر الفرصاد، وربُّ القَدوم يعني النجار.

وقال أيضًا يمدح بعض الشعراء:

ردَّت لطافتُه وحدَّة ذهنه
وحشَ اللغات أوانسًا بخطابِه

أراد بوحش اللغات الألفاظ الغريبة البعيدة عن الاستعمال؛ أي أنه للطافة طبعه وحدَّة ذكائه يردُّ الألفاظ الوحشية المهملة إنسيَّة مُستعمَلة، يَعني لحذقه يستعمل اللغة الغريبة فيُقرِّبها من الأفهام بحيث تألفها الطباع.

والنحلُ يجني المر مِن نَور الرُّبا
فيَصير شهدًا في طريق رضابِه

أي إن غريب اللغات ووحشيها يصير باستعماله مألوفًا للطباع آنسًا لها كما أن النَّحل يَجني الأزهار المرَّة من الآكام فيأكلها فتصير حلوة في مجاري ريقه؛ أي إن المرَّ بمصاحبة النحل يصير شهدًا فكذا الوحش من اللغة يصير آنسًا باستعماله.

ومن منثور أبي العلاء في مدح شاعر قوله: لا أعدم الله الشعراء إرشادَك، ولا الملوك إنشادَك، فلو كان للقريض ولد لكُنتَه، ولو سكن بيتَ الشعر أحد لسكَنتَه.

وقال أيضًا في وصف الدرع:

رهنتُ قميصي عنده وهو فضلةٌ
من المزن يُعلى ماؤها برمادِ

أراد بالقميص الدرع.

أتأكل درعي إن حسبتَ قتيرها
وقد أجدبَت قيسٌ عيون جرادِ
أكنتَ قطاةً مرَّةً فظننتَها
جنى الكحص ملقًى في سرارة وادِ

الكحص نبت، وجناه حبُّه.

فليسَت بمحضٍ ترتغيه مبادرًا
ولا بغديرٍ تَبتغيه صوادي

ترتغيه: أي تأخذ رغوته. يقول ليست هذه الدرع لبَنًا تشربه.

إذا طُويت فالقعبُ يَجمع شملها
وإن نُثِلت سالت مسيل ثمادِ

الثماد جمع ثمد وهو الماء القليل. يقول إذا طُويت الدرع صغُر حجمها حتى صار القعب يسعها وإن نُشرت ولُبست سالت على البدن كالماء.

وما هي إلا روضةٌ سَدِكٌ بها
ذبابُ حسامٍ في السوابغ شادِ

سدك بالشيء أي لزمه.

وقال أيضًا:

دع اليراع لقومٍ يَفخرُون به
وبالطوال الردينيات فافتَخِرِ
فهنَّ أقلامك اللاتي إذا كتبَت
مجدًا أتت بمدادٍ من دمٍ هدر
وكل أبيضَ هنديٍّ به شُطَب
مثل التكسُّر في جارٍ بمُنحدَرِ
ما كنتُ أحسب جفنًا قبل مسكنه
في الجفن يُطوى على نارٍ ولا نهَرِ
ولا ظننتُ صغار النمل يُمكنُها
مشيٌ على اللجِّ أو سعيٌ على السُّعُرِ

وقال أيضًا:

أنتم ذوو النسب القصير فطولُكم
بادٍ على الكُبَراء والأشرافِ

معناه أن الرجل إذا كان شريفًا اكتفى باسم أبيه، فإذا ذكَر أباه وعُرف به قصَر نسبه وإذا لم يكن شريفًا افتقَر إلى أن يذكر آباء كثيرة حتى يصل إلى أبٍ شريف.

والراح إن قيل ابنة العنبِ اكتفَت
بأبٍ عن الأسماء والأوصافِ

وقال أيضًا:

رأوك بالعين فاستغوتْهُمُ ظُننٌ
ولم يروك بفكرٍ صادقٍ الخبرِ

أي إنما رأوك بالأبصار الظاهرة التي لا تُدرك إلا جِسام الصور والناس فيها سواسية فاستجهَلَهم الوهم حتى توهَّموك كبعض من يَرونه، ولم يروك بالبصيرة الباطنة التي تدرك المعاني التي هي أرواح الصور، ولم يُجيلوا الفكر فيك فيُطلِعَهم على صادق خبرك.

والنجم تَستصغِر الأبصارَ صورتُه
والذنبُ للطرف لا للنجم في الصِّغَرِ

وقال أيضًا:

حسَّنتُ نظم كلامٍ تُوصَفين به
ومنزلًا بكِ معمورًا من الخفَرِ

الخفر شدَّة الحياء.

فالحُسن يَظهر في شيئَين رونقه
بيتٌ من الشِّعر أو بيتٌ من الشَّعرِ

وقال أيضًا يذكر فرسًا:

أخفُّ من الوجيه يدًا ورِجْلًا
وأكرم في الجياد أبًا وخالا

الوجيه فرس من فحول الخيل.

وكلُّ ذؤابةٍ في رأس خودٍ
تمنَّى أن تكون له شِكالا

وقال أيضًا:

علوتُم فتواضعتُم على ثقةٍ
لما تواضع أقوامٌ على غرر
والكِبْر والحمد ضدَّان اتفاقُهما
مثل اتفاق فتاء السنِّ والكِبَر
يُجنى تزايُد هذا من تناقص ذا
والليل إن طال غالَ اليوم بالقِصَر

وقال أيضًا يصف خيلًا:

نشأنَ مع النعام بكل دوٍّ
فقد ألِفَت نتائجها الرئالا

الدو الأرض المقفرة، ونتائجها مهارها، والرئال جمع رأل وهو ولد النعام.

ولما لم يُسابقهنَّ شيءٌ
من الحيوان سابقنَ الظِّلالا
ترى أعطافَها ترمي حميمًا
كأجنحة البُزاة رمَت نسالا

الحميم العرق، والنسال ما يَنتثِر من ريش الطائر.

وقال أيضًا في البرق:

ألاح، وقد رأى برقًا مُلِيحًا
سرى فأتى الحِمى نضوًا طليحا

يقول أشفق صاحبي لما رأى برقًا لامعًا.

كما أغضَى الفتى ليذوقَ غمضًا
فصادف جفنُه جفنًا قريحا
إذا ما اهتاجَ أحمَر مُستطيرًا
حسبتُ الليل زنجيًّا جريحًا

وقال أيضًا:

إليك تَناهى كل فخرٍ وسؤدد
فأبْلِ الليالي والأنام وجدِّد
لِجَدِّك كان المجدُ ثم حويتَه
ولابنك يُبنى منه أشرف مقعَدِ
ثلاثة أيامٍ هي الدهر كله
وما هن غير الأمس واليوم والغدِ
وما البدر إلا واحدٌ غير أنه
يغيب ويأتي بالضياء المجدَّدِ
فلا تحسبِ الأقمار خلقًا كثيرةً
فجملتُها من نيِّرٍ متردد
وللحسَنِ الحُسنى وإن جاد غيره
فذلك جودٌ ليس بالمُتعمَّدِ
له الجوهرُ الساري يُؤمم شخصَه
يجوب إليه محتدًّا بعد مَحتَدِ

أي جوهره يؤمم: أي يقصد ويجوب إليه أصلًا بعد أصل حتى يكون هو من ذلك الجوهر.

ولو كتَمُوا أنسابهم لعزَّتهم
وجوهٌ وفعلٌ شاهدٌ كلَّ مشهَدِ
وقد يُجتدى فضل الغَمام وإنما
من البحر فيما يَزعم الناس يُجتدى

المعنى أن ما يُشاهِد في هؤلاء من الكرم إنما استَفادوه من شرف محتد آبائهم وراثة فالفرع يَتبع الأصل.

ويَهدي الدليل القوم والليل مُظلمٌ
ولكنه بالنَّجم يَهدي ويهتدي
فيا أحلم السادات مِن غير ذلةٍ
ويا أجودَ الأجواد من غير مَوعِدِ
وطئَت صروفُ الدهر وطأة ثائرٍ
فأتلفتُ منها نفسَ ما لم تُصفِّدِ

يريد: أذللتَ صروف الدهر منها ما صفدته أي أثقلته بالقيود وما لم تُقيده أهلكته.

ودانَت لك الأيام بالرغم وانضوَت
إليك الليالي فارمِ مَن شئتَ تُقصِدِ
بسبع إماءٍ مِن زغاوة زُوِّجَت
من الروم في نُعماك سبعة أعبُدِ

أي: ارمِ من شئت بسبع إماء من زغاوة وهي قبيلة من السودان. يريد: سبع ليالٍ أُنكحت من سبعة أعبُدِ من الروم، يريد سبعة أيام، أي أن الأيام والليالي عبيدُك وإماؤك، والدهر كله مبني من سبعة أيام وسبع ليالٍ.

ولولاك لم تسلَم أفاميةُ الردى
وقد أبصرَت من مثلِها مصرع الرَّدى

أفامية حصن سلم بالممدوح من الهلاك ولولاه لالتحقت بمثلها.

فأنقذتَ منها معقلًا هضباتُه
تلفَّع من نسج السحاب وتَرتدي

أي: خلصت من أفامية معقلًا كأن هضباته تتَّخذ السحاب رداء، وقال بعضهم:

سقى الله مِن أعلام بغداد قلعة
يَحوم بها نسر السماء على وَكرِ

نسر السماء هو السماك.

وحيدًا بثغر المسلمين كأنه
بفيه مُبقًّى من نواجذِ أدْرَدِ

أي: بقي هذا الحصن وحيدًا بالثَّغر وهو الدرب الذي بين دار الإسلام والكفر، كان هذا الحصن الفرد بفيه أي بفي الثغر ناجذ واحد بقيَ في فم أدرد.

بأخضر مثل البحر ليس اخضراره
من الماء لكن مِن حديدٍ مُسرَّدِ

أي: بجيش أخضر، يُريد من كثرة السلاح يُرى كأنه أخضر.

كأنَّ الأنوق الخرس فوق غباره
طوالع شيبٍ في مفارق أسود

الأنوق الرخم وهي تُوصف بقلَّة الصوت. شبَّه الرخم البيض الطائرة فوق الغبار الأسود بالشعرات البِيض في مفارق رجل أسود قد شاب مَفرق رأسه.

وليس قضيب الهند إلا كنابت
من القضب في كفِّ الهدان المعرَّدِ

الهدان الجبان، والقضب هو القت نبت معلوم.

متى أنا في ركبٍ يأمُّون منزلًا
توحَّد من شخص الرشيف بأوحَدِ

توحد: أي تميَّز عن سائر المنازل وصار أوحدها لما كان صاحبه أوحد الناس.

على شدقمياتٍ كأنَّ حُداتها
إذا عرَّس الركبان شرَّابُ مُرْقدِ

المرقد دواء يُشرَب ليُرقد صاحبه.

تُلاحِظ أعلام الفلا بنواظرٍ
كُحلن من الليل التمام بإثمد
يُخَلْنَ سمامًا في السماء إذا بدَت
لهنَّ على أينٍ سماوةَ مَورِدِ

السمام ضرب من الطير.

تظنُّ به ذوب اللُّجَين فإن بدَت
له الشمس أجرَت فوقه ذوب عسجدِ

أي: تظن أنت.

تبيتُ النجوم الزهر في حجراته
شوارع مثل اللؤلؤ المتبدَّدِ
فأطمعن في أشباحهن سواقطًا
على الماء حتى كدن يُلقطن باليَدِ

أي: ظهرت النجوم في الماء حتى أطمعَت مَن رآها، وقال العجاج:

باتت تظنُّ الكوكب السيارا
لؤلؤة في الماء أو مسمارا
فمدَّت إلى مثل السماء رقابها
وعبَّت قليلًا بين نَسْرٍ وفرقَدِ

أي: وردت الإبل الماء ومدَّت أعناقها للشرب إلى مورد مثل السماء لما يُرى فيه من النجوم فشربت ماءً قليلًا بين هذَين الكوكبَين.

وذُكِّرن من نَيل الشريف مواردًا
فما نلنَ منه غير شربٍ مُصرَّدِ

المصرد المقلَّل. يقول لما وردت الإبل الماء ناهِلة ذكرت أنها قاصدة هذا الممدوح وهي ترِد منهلًا من نيله، فقلَّلت شرب الماء لتُصيب ريًّا من موارد نيله وعطائه.

ولاحَت لها نارٌ يُشبُّ وقودها
لأضيافه في كل غورٍ وفدفَدِ
بخرقٍ يُطيل الجنح فيه سجوده
وللأرض زيُّ الراهب المتعبد

الخرق الفلاة، والجنح الليل، ويَطيل سجوده، أي يطول لُبثه.

فمرَّت إذا غنَّى الرديف، وقد ونَت
بذكراه زفَّت كالنعام المطرَّدِ

زفَّت النعامة إذا مشت مشيًا سريعًا.

يُحاذرون وطء البيد حتى كأنما
يطأن برأس الحَزن هامة أصيد
وينفرن في الظَّلماء عن كل جدول
نفار جبانٍ عن حسامٍ مجرَّدِ
تطاوَلَ عهدُ الوارِدين بمائه
وعُطِّل حتى صار كالصَّارم الصدي

أي أن هذا الجدول لم يَرِده الواردون وعلا ماءَه الطُّحلب.

إلى برَدى حتى تظل كأنها
وقد كَرَعت فيه لواثم مِبرَدِ

يقول ينفرن في الظلماء عن كل جدول رغبةً عنه سائرة إلى برَدى لتَشرب منها، وبردى نهر معروف.

وقال أيضًا:

شكوتُ من الأيام تبديل غادرٍ
بوافٍ ونقلًا من سرورٍ إلى هم
وحالًا كريش النَّسر بَينا رأيته
جناحًا لشهمٍ آض ريشًا على سَهم

وقال أيضًا:

حتى بدا الفجر به حمرةٌ
كصارمٍ غيَّر منه الدمُ

وقال بعضهم في صفة الفجر:

كأنَّ سواد الليل والصبحُ طالع
بقايا مجال الكُحل في الأَعيُن الزُّرقِ

وقال آخر:

وأذاع بالظَّلماء فتقٌ واضح
كالطعنة النجلاء يَتبعها الدمُ

وقال آخر:

وقد لاح فجر يغمر الجو نورُه
كما انفجرت بالماء عين على الأرض

وقال آخر:

والفجر فيه كأنه مطر الندى
ينهلُّ من سحِّ الغمام المُغدِق

وقال آخر:

وابتلَّ سربال النسيم وبَرَدْ
والفجر في ليلِ الظلام يَتَّقد

وقال أيضًا:

تَبُوح بفضلك الدنيا لتَحظى
بذاك وأنت تكرَه أن تبُوحا
وما للمِسك في أن فاحَ حظٌّ
ولكن حظُّنا في أن يفوحا

وقال أيضًا:

كم صائنٍ عن قُبلةٍ خده
سُلطت الأرض على خدِّه
وحامل ثِقْل الثرى جِيده
وكان يشكو الضعفَ من عِقده

وقال أيضًا:

يا مَن له قلمٌ حكى في فعله
أيم الغضى لولا سواد لعابه
عُرِفت جدودك إذ نطقتَ وطالما
لغط القطا فأبا ن عن أنسابه

وذلك أنه إنما سُمِّي القطا قطا لحكاية صوته قطاقطا، ولهذا قيل في المثل: أصدق من القطا لدلالة صوته عليه.

وقال أيضًا:

غَمرُ النوال ولن تَبقى على أحدٍ
حتى تُوقَّى بجودٍ ضد مُحتبِسِ

لن تبقى: أي الدنيا.

والنَّفس تحيا بإعطاء الهواء لها
منه بمقدار ما أعطتْه من نفَس

لما ذَكَر في البيت الذي تقدمه أن بقاء الدنيا بالجود بها ضرب لها مثلًا بالنفس وحياتها، وهو أن النفس إنما تَحيى باستنشاق الهواء والاستمداد منه، ولكن إنما تستمد من الهواء بقدر ما تُعطيه من نفسها.

وقال أيضًا يصف درعًا:

هينمة الخرصان في عطفِها
هينمة الأعجم للأعجَمِ
مُستخبراتٍ ما حوى صدرها
فأعرضَتْ عنها ولم تفهَمِ

أي: إنما تُهينم الخرصان لتعلم خبر ما حوى صدر الدرع أي لتصل إلى لابسها فترجع خائبات أي لا تَسلكها الرماح.

تزاحُم الزرق على وِرْدها
تزاحم الوِرْد على زمزم

وقال أيضًا يصف درعًا:

كأنها والنِّصال تأخذها
أضاة حَزنٍ تُجاد بالديم
أو منهلٍ طافت الحَمام به
فالريش طافٍ عليه لم يَصمِ

وقال أيضًا:

لو عرَف الإنسان مقداره
لم يَفخر المولى على عبدِه
لولا سجاياه وأخلاقُه
لكان كالمعدوم في وُجْدِه
تشتاق أيار نفوس الورى
وإنما الشوق إلى ورده

يريد: كما أن النفوس إنما تشتاق إلى الربيع لِما فيه من الزهور لا لعين الزمان بل لطيبه فكذلك الإنسان إنما يشرف ويُعتد به لأوصافه الجميلة لا لذاته وصورته.

وقال أيضًا يصف درعًا:

بيضاء خضراء مثل الماء طحلبه
مرَّ الزمان وما في اللون من صدإ
كأنما النَّبل في الهيجاء رِجْل دَبًا
طارتْ إليك، وقد ظنَّتك من كلإ

وقال أيضًا:

وأرضٍ بتُّ أَقري الوحش زادي
بها ليثوب لي منهنَّ زاد
فأُطعمها لأَجعلها طعامي
ورُبَّ قطيعةٍ جلب الوداد

وقال أيضًا يصف درعًا:

وهي بيضاء مثل ما أودع الصيف
حِمى الوهد نطفة الشؤبوب
فإذا ما نبذتَها في مكان
مستوٍ همَّ سردُها بالدبيب
كهلال الحياة أو كقَميصٍ
لهلال الحيات غير مَجوبِ

الهلال الماء، والهلال الثاني ذكر الحيات.

وإذا صادفَتْ حُدورًا جرت فيـ
ـه إراق الشريب ماء الذنوبِ
كفَّ ضرْبَ الكُماة في كل هَيجٍ
فضلاتٌ من ذيلها المَسحوبِ
نثرةٌ من ضَمانها للقَنا الخطي
عند اللقاء نثرَ الكُعوبِ

النثرة الدرع.

مثل وشي الوَليد لانت وإن كا
نت من الصُّنع مثل وشي حبيبِ

الوليد هو البحتري.

تلك ماذيةٌ وما لذباب الصيف
والسيف عندها من نصيب

الماذية الدرع البيضاء، والماذي العسل، وذباب السيف حدُّه، وذباب الصيف واحد الذبان.

وقال أيضًا:

فيا قلب لا تُلحِق بثُكلِ محمدٍ
سواه ليبقى ثكله بيِّنَ الوسم
فإني رأيتُ الحزن للحزن ماحيًا
كما خُطَّ في القرطاس رسمٌ على رَسمِ

ومن منثور أبي العلاء قوله: وحزني لفقده كنعيم أهل الجنة كلما نفَد جُدد.

وقال أيضًا:

فما كَبُرُوا حتى يكونوا فريسةً
ولا بلغوا أن يُقصدوا فيُنالوا
فإن أبا الأشبال يَخشاه مثلُه
ويأمن منه آرِضٌ ونِمَال

الآرض ضرب من الدود. يقول لم يبلغ الروم قدرًا يَصلُحون أن يكونوا لك صيدًا، بل هم أقل وأحقر، وصِغَر شأنهم آمنهم منك، ثم ضرب مثلًا وهو أن الأسد إنما يخشاه مثله لأنه عرضة لقصده، أما الآرض والنمال فلا تخشى الأسد لخسَّتها وأنها لا تصلح فرائس للآساد.

وقال أيضًا:

نكَّستِ قُرطيكِ تعذيبًا وما سحرا
أخِلْتِ قرطيك هاروتًا ومارُوتا
لو قلتِ ما قاله فرعون مُفتريًا
لخِفتُ أن تُنصبي في الأرض طاغُوتا

وقال أيضًا:

وكلامك المرآة تَصدُق في الذي
تحكي وأنت الصارم المصقولِ

وقال أيضًا يصف درعًا:

أضاةٌ لا يَزال الزغفُ منها
كفيلًا بالإضاءة في الدياجي
غديرٌ نقَّت الخِرصان فيه
نقيق علاجمٍ والليلُ داجِ

العلاجم الضفادع.

وقال أيضًا يصف درعًا:

هازئةٌ بالبِيض أرجاؤها
ساخرة الأثناء بالأَسهُمِ
لو أمسكت ما زلَّ عن سَردها
لأُبصر الدارع كالشَّيهَمِ

الشيهم ذكر القنافذ.

وقال أيضًا ينعت درعًا:

ودِلاصٍ كأنها
بعضُ ماء الثمادِ

الدلاص الدرع البراقة.

حُلَّة الأيم خُيطَت
بعيون الجرادِ

حلة الأيم: يريد سلخ الحية.

خِلْتُها والنبال تهو
ي كرِجْل الجرادِ
شيهمًا أو هي
القتادة لا كالقتادِ

الشيهم ذكر القنافذ.

تلك في الطيِّ قدر
مشرب ظمآن صادِ

وقد شبَّه بعضهم وجه الفارس باديًا من الدرع بالقمر طالعًا من الماء.

وقال أيضًا على لسان درع:

تضيَّفني الذوابل مكرهاتٍ
فترحل ما أذيقت من لماجِ

تقول الدرع تصيبني الرماح فلا تؤثر فيَّ.

تَفيء غروبهن الزرق عني
بلا كربٍ يُعد ولا عناجِ

يقول ترجع أسنة الرماح الزُّرق مكسَّرات.

فلو كان المثقَّف جملة اسمٍ
أبى الترخيم صار حروف هاجِ

أي: لو كان الرمح اسمًا لا يحتمل الترخيم — يُريد صلبًا مندمجًا — ثم قارع هذه الدرع لصار حروفًا متفرِّقة يتهجاها الإنسان واحدًا واحدًا؛ أي انكسر الرمح وصار قطعًا متفرقة.

كبيت الشِّعر قطَّعه لوزنٍ
هجينُ الطبعِ فهو بلا انتساجِ

شبَّه الرمح بعد تقطُّعه بمقارعة الدرع ببيت من الشعر قُطع بميزان العَروض ليعرف وزنه رجل هجين الطبع أي بليده.

المختار من لزوميات أبي العلاء المعري

قال:

بُعدي من الناس برءٌ من سقامهم
وقربُهم للحِجى والدين أدواء
كالبيت أُفرد لا إيطاء يُدركه
ولا سِناد ولا في اللفظ إقواء

وقال أيضًا:

أقضيةٌ لا تزال واردةً
تحارُ من كونها الألباء
جُدَّ مقيمٌ وخاب ذو سفرٍ
كأنه في الهجير حرباء

وقال أيضًا:

تواصَلَ حبلُ النسل ما بين آدمٍ
وبيني ولم يُوصَل بلامِي باءُ
تثاءب عمروٌ إذ تثاءب خالدٌ
بَعدوى فما أعدتنيَ الثوباءُ
على الوُلدِ يَجني والدٌ ولو انَّهم
ولاةٌ على أمصارهم خُطباءُ
وزادَك بُعدًا من بَنيك وزادهم
عليك حقودًا أنَّهم نُجباءُ
يَرون أبًا ألقاهم في مؤرَّبٍ
من العقد ضلَّت حله الأُرباءُ

وقال أيضًا:

رويدك قد غُرِرْتَ وأنت حرٌّ
بصاحب حيلةٍ يعظُ النساءَ
يُحرِّم فيكمُ الصَّهباء صبحًا
ويَشربها على عمدٍ مساءَ
يقول لكم غدوتُ بلا كساءٍ
وفي لذَّاتها رهَنَ الكساءَ
إذا فعَل الفتى ما عنه ينهى
فمن جهتَين لا جهةٍ أساءَ

وقال أيضًا:

إنما هذه المَذاهب أسبابٌ
لجذب الدنيا إلى الرؤساءِ
فانفَرِد ما استطعتَ فالقائل الصا
دق يُضحي ثِقْلًا على الجُلَساءِ

وقال أيضًا:

لعلَّ أُناسًا في المَحاريب خوَّفوا
بآيٍ كناسٍ في المَشارب أطربوا
إذا رام كيدًا بالصلاة مُقيمها
فتاركها عمدًا إلى الله أقرب
فلا يُمسُّ فخارًا من الفخرِ عائدٌ
إلى عنصر الفخار للنفعِ يُضرَبُ

قوله: إلى عنصر الفخار، الفخار هو الخزف أو الطين المطبوخ.

لعلَّ إناءً منه يُصنع مرةً
فيأكل فيه من أراد ويَشرب
ويُحمل من أرضٍ لأُخرى وما درى
فواهًا له بعد البِلى يتغرَّبُ

وقال آخر:

يَحسُن مرأًى لبني آدمٍ
وكلُّهم في الذوق لا يعذُبُ
ما فيهم بَرٌّ ولا ناسكٌ
إلا إلى نفعٍ له يَجذبُ
أفضل من أفضلهم صخرةٌ
لا تظلم الناس ولا تكذبُ

وقال أيضًا:

دنياكَ دارٌ إن يكن شُهَّادها
عقلاء لا يبكوا على غُيَّابها
ومن العجائب أن كلًّا راغبٌ
في أُمِّ دَفْرٍ وهو من عُيَّابها

وقال أيضًا:

للمليك المُذكَّرات عبيدٌ
وكذاك المؤنثات إماء
فالهلال المنيف والبدر والفر
قد والصبح والثرى والماءُ
والثُّريا والشمس والنار والنثـ
ـرة والأرض والضُّحى والسماء
هذه كلها لربك ما عابك
في قول ذلك الحكماءُ
خلِّني يا أخي أستغفر الله
فلم يبقَ فيَّ إلا الذماءُ
ويقال الكرام قولًا وما في
العصر إلا الشخوص والأسماءُ
هذه الشهب خِلْتُها شبَكَ الدَّ
هر لها فوق أهلها إلماء
إن دنياك من نهارٍ وليلٍ
وهي في ذاك حيةٌ عَرماءُ

وقال أيضًا:

سيان من لم يضق ذرعًا بُعيد ردًى
وذارعٍ في مغاني فتيةٍ سحبا

الذارع زق الخمر. يقول إن المرء بعد الموت يكون هو والزق سيان.

فافْرَق من الضحك واحذر أن تُحالفه
أمَا ترى الغيم لما استضحَكَ انتَحَبا

وقال أيضًا:

فاهجر صديقك إن خفتَ الفساد به
إن الهجاء لمبدوءٌ بتشبيبِ
والكفُّ تُقطَع إن خيف الهلاك بها
على الذراع بتقديرٍ وتَسبيبِ

وقال أيضًا:

تقادَمَ عُمر الدهر حتى كأنما
نجوم الليالي شَيبُ هذي الغياهِبِ
وإن قطوف الساع فيما علمتُه
أحث مرورًا من وساع السلاهبِ

وقال أيضًا:

لا تلبسِ الدنيا فإن لباسَها
سقمٌ وعَرِّ الجسم من أثوابها
ولتفعل النفسُ الجميلَ لأنه
خيرٌ وأحسن لا لأجل ثوابها

وقال أيضًا:

خَفْ دنيًّا كما تخاف شريفًا
صال ليثُ الشَّرى بظفرٍ ونابِ
والصلالُ التي يُخاف رداها
شرها في الرءوس والأذنابِ

وقال أيضًا:

أيا جسد المرء ماذا دَهاك
وقد كنتُ من عنصرٍ طيِّبِ
تصير طهورًا إذا ما رجعت
إلى الأصل كالمطر الصيِّبِ

قال بعض الحكماء: كانت الروح في المحل الأرفع طاهرةً خالصة حتى تلبَّس بها هذا الجسم فتلطَّخت بحمأته، ثم جاء الموت فاستلَّها منه وردَّها إلى أصلها بيضاء نقية، فمثلها مثل نقطة صافية من الغيث في مزنها نزلت في صبيب المطر فاختلطت بطين الأرض وتلوَّثت به، وبينا هي كذلك إذ طلعت الشمس وقرعها شعاعها فاجتذبها مما هي فيه وردَّها إلى ما كانت عليه خالصة صافية.

وما لَك مالٌ وإن حُزته
فأعطِ عُفاتك أو خيِّبِ

وقال أيضًا:

دَهري قتادٌ وحالي ضالةٌ ضَؤُلَت
عما أريد ولوني لون لبلابِ
وإن وُصِلْت فشُكري شكر برْوَقةٍ
ترضى ببرقٍ من الأمطار خلابِ

البروقة شجيرة إذا غامَت السماء اخضرت بدون مطر، ومنه المثل: أشكَر من بروقة.

وقال أيضًا:

وما العلماء والجهال إلا
قريبٌ حين تنظر من قريبِ
متى ما يأتني أجَلي بأرضٍ
فنادِ على الجنازة للغريبِ

وقال أيضًا:

وجانب الناس تأمَن سوء فِعلهم
وأن تكون لدى الجُلاس ممقوتا
لا بد من أن يذمُّوا كل من صحبوا
ولو أراهم حصى المعزاء ياقُوتا

وقال أيضًا:

أغنى الأيام تقيٌّ في ذُرى جبلٍ
يَرضى القليل ويأبى الوَشْي والتاجا
وأفقر الناس في دُنياهم ملِكٌ
يُضحي إلى اللجب الجرَّار مُحتاجا

وقال أيضًا:

أتعوج أم ليس المشوق بعائجٍ
هاجت وساوسه لبرقٍ هائج
سبحان من برَأ النجوم كأنها
درٌّ طفا من فوق بحرٍ مائج

وقال أيضًا:

البابلية باب كل بليةٍ
فتوقَّينَّ هجوم ذاك الباب
جرَّت ملاحاة الصديق وهجره
وأذى النديم وفُرقة الأحباب
أُمُّ الحباب وإن أُميتَ لهيبُها
بمزاجها وافَت كأُمِّ حُباب

وقال أيضًا:

أصاحِ هي الدنيا تُشابه ميتةً
ونحن حوالَيها الكلابُ النوابح
فمَن ظلَّ منها آكلًا فهو خاسرٌ
ومن راح عنها ساغبًا فهو رابحُ

وقال أيضًا:

عجبي للطبيب يُلحِد في الخالق
من بعد درسِه التشريحا
رُبَّ رُوحٍ كطائر القفص المسـ
ـجون ترجو بموتها التَّسريحا

وقال أيضًا:

دعَوا وما فيهم ذاكٍ ولا أحدٌ
يخشى الإله فكانُوا أَكلُبًا نُبحا
وليس عندهم دينٌ ولا نُسكٌ
فلا تغرَّك أيدٍ تحمل السِّبَحا

وقال أيضًا:

هي الراح أهلًا لطول الهجاء
وإن خصَّها معشرٌ بالمِدَح
قبيحٌ بمن عدَّ بعض البحار
تغريقُه نفسه في قَدَح

عد: أي أجاز.

وقال أيضًا:

لا يَفقدنْ خيرُكم مجالسَكُم
ولا تكونوا كأنَّكم سَبَخُ
ولا كقومٍ حديثُ يومهم
ما أكلوا أمسَهم وما طبَخوا

وقال أيضًا:

إن كان قلبك فيه خوف بارئه
فلا تُجاوز حذار الله بالحسَدِ
هما نقيضان لا يُستجمَعان به
والظبي غير مُقيمٍ في ذُرى الأسَدِ
والرُّوح في حب دنياها معذبةٌ
حتى يُقالَ لها بِيني عن الجسَدِ
ما لا تُطيق هلاكٌ حين تَحمله
والدرُّ يُهلِك دون النظم في المسَدِ

وقال أيضًا:

نُفارق العيش لم نظفر بمعرفةٍ
أيُّ المعاني بأهل الأرض مقصودُ
لم تُعطنا العلمَ أخبارٌ يَجيء بها
نقلٌ ولا كوكبٌ في الأرض مرصُودُ
وابيضَّ ما اخضرَّ من نبتِ الزمان بنا
وكل زرعٍ إذا ما هاجَ محصُودُ

وقال أيضًا:

وأنا نباتٌ والزمان حصادنا
أليس يوافي كلَّ شهر بمنجَلِ

وقال أيضًا:

لا شام للسُّلطان إلا أن يُرى
نَعَمُ البداوة كالنَّعام الطاردِ
ويكونَ للبادينَ عذبُ مياهِه
مثل المدامة لا تحلُّ لوارِدِ
وتظلُّ أبياتٌ لهم شِعريةٌ
كبُيوتِ شعرٍ في البلاد شوارِدِ
ويقوم ملْكٌ في الأنام كأنَّه
ملَكٌ يُبرِّح بالخبيث الماردِ
صنع اليدين بقتل كل مُخالفٍ
بالسيف يَضرب بالحديد البارِدِ

وقال أيضًا:

قلَّدتَني الفُتيا فتوِّجْني غدًا
تاجًا بإعفائي من التقليدِ
ومن الرزية أن يكون فؤادُك الـ
ـوقاد في جسدٍ عليه بليدُ
وحوادث الأيام تُولَد جلةً
وتعود تَصغُر ضدَّ كل وليدِ

وقال أيضًا:

من يُوقَ لا يُكْلم وإن عمَدَت
له نُبلٌ تُغادر شخصه كالقنفذ
بَلغَتْه مرهَفَة النصال وأُثبِتَت
فيما عليه وكلُّها لم ينفذ

وقال أيضًا:

متى ما فعلتَ الخير ثم كُفِرته
فلا تأسفَنْ إنَّ المُهيمِنَ آجِرُ
فنزِّه جميلًا جئتَه عن جزايةٍ
تُؤمَّل أو ربحٍ كأنَّك تاجِرُ

وقال أيضًا:

حاجي نظيمُ جمانٍ والحياةُ معي
سلكٌ قصيرٌ فيأبى جمعَها القِصَرُ
أما المراد فجمٌّ لا يُحيط به
شرحٌ، ولكن عمر المرء مُختَصَرُ
والدهر يَخطب أهل اللبَّ مُذ عَقلوا
ما خاف عيًّا ولا أذرى به الحصَرُ
والغيُّ في كل شيءٍ ليس يعدمه
باغيهِ حتى من الأعتاب يُعتصَرُ

وقال أيضًا:

من يَخضب الشعرات يُحسب ظالمًا
ويُعد أخرق كالظليم الخاضِبِ

الظليم ذكر النعام، والخاضب هو الظليم إذا اغتلَم واحمرَّت ساقاه وأكل الربيع فاحمر ظنبوباه.

والشَّيب في لون الحسام فلا تدع
جسد النجيع على الحسام القاضب

الجسد الدم.

عمري غديرٌ كلُّ أنفاسي به
جُرعٌ تُغادِره كأمس الناضِبِ

وقال أيضًا:

قد صَحبنا الزمان بالرغم منا
وهو يُردي كما علمتَ الصِّحابا
والجسوم الترابُ تَحيى بسُقيا
فلهذا قلنا سُقيتَ السَّحابا

وقال أيضًا:

حديث فواجرٍ وشرابُ خمرٍ
وقتلى يُطرحون لأُمِّ عمرو
ومَهلك دولةٍ وقيام أخرى
كذاك الدهر أمرٌ بعد أَمرِ

وقال أيضًا:

ما أجهل الأُمم الذين عرفتهم
ولعلَّ سالفَهم أضلُّ وأتبَرُ
يَدعون في جُمعاتهم بسفاهةٍ
لأميرِهم فيَكادُ يَبكي المنبَرُ
ما قيلَ في عِظَم المليك وعزِّه
فالله أعظمُ في القياس وأكبَرُ
وكأنَّما دنياك رؤيا نائمٍ
بالعكس في عُقبى الزمان تُعبَّر
فإذا بكيتَ بها فتلك مسرةٌ
وإذا ضحكتَ فذاك عينٌ تَعبُرُ
سُرَّ الفتى مِن جَهلِه بزمانه
وهو الأسير ليومِ قتلٍ يُصبَر
لعبَت به أيامه فكأنه
حرفٌ يُليَّن في الكلام ويُنبَرُ

النبر الهمز.

شرُف اللئيم وكم شريفٍ رأسه
هدرٌ يُقطُّ كما يُقط المِزبَرُ

المزبر القلم.

والشرُّ يَجلبه العلاء وكم شكا
نبأً عليٌّ ما شكاه قُنبر

وقال أيضًا:

لا تدنونَّ من النِّساء
فإن غِبَّ الأَري مُرُّ
والباء مثل الباء تَخفِـ
ـضُ للدناءة أو تجرُّ

وقال أيضًا:

كأن وليدًا ماتَ قبل سقوطِه
على الأرض ناجٍ مِن حُبالته ظفرا
تمنَّيت أني بين روضٍ ومَنهلٍ
مع الوحش لا مِصرًا أحُلُّ ولا كَفْرا

وقال أيضًا:

يا ساكني الأرض كم ركبٍ سألتُهم
بما فعلتم فلم أَعرِف لكم خبرا
زالَت خطوبٌ فلم تُذكر شَدائدها
والعَود يَنسى إذا ما أُعفيَ الدَّبرا

وقال أيضًا:

والسَّعد يُدرك أقوامًا فيَرفعهم
وقد يُنال إلى أن تَعبُد الحَجَرا
وشرَّفَت ذاتُ أنواطٍ قبائلها
ولم تُباين على علَّاتها الشَّجرا

وقال أيضًا:

وكم ساعٍ ليُخبر في بناءٍ
فلم يُرزق بما يَبنيه حَبرا
كأُمِّ القز يَخرُج من حشاها
ذُرى بيتٍ لها فيعود قَبرا

وقال أيضًا:

لقد عَجِبوا لأهل البيت لما
أتاهم عِلمُهم في مسك جَفرِ
ومرآة المنجم وهي صُغرى
أرتْه كل عامرةٍ وقَفرِ

وقال أيضًا:

ويدلُّني أن المَماة فضيلةٌ
كون الطريق إليه غير مُيسَّرِ
لولا نفاسته لسُهِّل نَهجُه
كأذى الضَّعيف على لئيم المَكْسِرِ

يقال لئيم المكسر لمن يوجد لئيمًا عند الخبرة.

وقال أيضًا:

قدِم الفتى ومضى بغير تئيةٍ
كهلال أول ليلةٍ من شهره
لقد استراحَ من الحياة مُعجَّلٌ
لو عاش كابد شدةً في دهرِه

وقال أيضًا:

ما بال هذا الليل طال، وقد يُرى
متقاصرًا عن جلسة السُّمار
أتروم فجرًا كالحسام ودونه
نجمٌ أقام تمكُّن المسمار

وقال أيضًا:

حادث كتابك فهو آمن جانبًا
من أهل تسبيدٍ وأهل وَفارِ
وفوائد الأسفار جَمعُ السِّفْرِ في الدُّ
نيا تفوق فوائد الأَسفارِ

وقال أيضًا:

الدهر يَصمُت وهو أبلغ ناطقٍ
من موجزٍ ندسٍ ومن ثَرثار
يَمشي على قدمين من ظلمائه
ونهاره ما همَّتا بعثار

وقال أيضًا:

أحسِن جوارًا للفتاة وعُدَّها
أختَ السِّماك على دنوِّ الدار
كتجاوُرِ العينَين لن تتلاقَيا
وحجاز بينَهما قصير جدارِ

وقال بعضهم:

أُجاور من أهوى ولا وَصلَ بينَنا
كأني ومَن أهواه ثغر مُفلَّجُ

وقال أيضًا:

كنت طفلًا في المهد والآن لا
أهوى رجوعًا إليه فاعجَب لأمري
ولعلي كذاك في داريَ الأُخرى
إذا ما ادَّكرتُ ريق عمري

وقال أيضًا:

أوجز الدهر في المقال إلى أن
جعل الصمت غاية الإيجاز
منطقًا ليس بالنثير ولا الشِّعر
ولا في طرائق الرُّجَّازِ
وعَدَتنا الأيام كل عَجيبٍ
وتلوُّن الوعود بالإنجازِ
هي مثل الغواني إن تَحسُن الأ
وجُهُ منها فالثِّقل في الأَعجازِ
من يُرِدْ صفوَ عيشةٍ يبغِ مـ
ـن دنياه أمرًا مبيَّن الإعجازِ
فافعَلِ الخيرَ إن جزاك الفَتى
عنه وإلا فالله بالخير جازي
لا تقيِّد عليَّ لفظي فإني
مثل غيري تَكلُّمي بالمجازِ

وقال أيضًا:

الوَغد يجعل ما أُنيل غنيمةٌ
ويغير في الأطماع كل مَغارِ
والحر يجزي بالصنيعة مسديًا
فكأنَّ فعلهما نكاحُ شغارِ

وقال أيضًا:

تحفَّظ بدينك يا ناسكًا
يرى أنه رابحٌ ما خَسِر
فلستَ كغيرك أُطلقتَ في
حياتِكَ بل أنت عانٍ أُسِر
وللسَّبك رُدَّ كَسير الزجاج
ولا يُسْبك الدرُّ إن يَنكسِر
ولا تيأسَنَّ من المُلك أن
يعود إذا جيشُ قومٍ كُسِر
فقد يرجع القمر المُستنير
مُقتبلًا بعد أن يَستسِر
هو الدهر يَفنى ونَفسي على
وناها وكون مُناها عَسِر
وكم فيكَ يا بحرُ مِن لؤلؤٍ
ولكنَّ لجَّكَ لا يَنحسِر
فأَكرِه على الخير مجبولةً
على غيرِه في علانٍ وسِر
فلم يُجعَلِ التبرُ حَليَ الفتاة
حتى أُهينَ وحتَّى كُسِر

وقال أيضًا:

والصُّبح قد غسل الدجى بمعينه
إلا بقيَّة إثمد الأشفارِ

وقال أيضًا:

الدِّين إنصافك الأقوام كلهم
وأيُّ دينٍ لآبي الحقِّ إن وجبا
والمرء يُعييه قَودُ النفس مصحبةً
للخير وهو يقودُ العسكر اللُّجبا

وقال أيضًا:

على الموت يَجتاز المعاشر كلهم
مقيمٌ بأهلَيه ومن يتغرَّبُ
وما الأرض إلا مثلنا الرزق تبتغي
فتأكل من هذا الأنام وتشرب

وقال أيضًا:

وما دفعَت حكماء الرجال
حتفًا بحكمة بُقراطها
ولكن يَجيء قضاءٌ يريك
أخا غيِّها مثل سُقراطها

وقال أيضًا:

من الناس من لفظُه لؤلؤٌ
يُبادره اللقط إذ يُلفظ
وبعضُهم قوله كالحصا
يُقال فيُلغى ولا يُحفظ

وقال أيضًا:

كأن إبارًا في المَفارِق خيطت
برود المنايا والليالي سُلوكها

وقال بعضهم:

لما رأيتُ البياض حين بدا
في أسود الشعر صحتُ وا حزني
هذا وحقِّ الإله أحسبه
أول خيط سُدِّي من الكفَنِ
فلا ترغبوا في المُلك تعصُون بالظبا
عليه فمِن أَشقى الرجال ملوكها

وقال أيضًا:

والمرء مثل الحرف بين سُهاده
وكَراه يسكُنُ تارةً ويُحرَّك
قد يُدرك الساعي لباريه رضًا
ورضى البرية غايةٌ لا تُدرَك

وقال أيضًا:

إذا قال فيك الناس ما لا تحبه
فصبرًا يفيء ودُّ العدوِّ إليكا
وقد نطَقوا مَيْنًا على الله وافترَوا
فما لهم لا يَفترُون عليكا

وقال أيضًا:

وجدتُكُم لم تَعرفوا سبُل الهدى
فلا تُوضِحوا للقوم سبل المهالك
أخيرٌ على مَجرى قديمٍ كلهذمٍ
يُفرِّج للخطِّيِّ ضيق المسالكِ
إذا كان هذا التربُ يَجمع بيننا
فأهل الرزايا مثل أهلُ المَمالِكِ

وقال أيضًا:

وبين بني حواء والخَلقِ كلِّه
شرورٌ فما هذي العداوة والذحلُ
تَقِ الله حتى في جنى النحل شُرْتَه
فما جمعَت إلا لأنفسها النحلُ

وقال أيضًا:

جهلتُ أقاضي الريِّ أكثر مأثمًا
بما نصَّه أم شاعرٌ يتغزَّلُ
وكم مِن فقيهٍ خابطٍ في ضَلالةٍ
وحُجته فيها الكتاب المُنزَّلُ
وقارئكم يَرجو بتطريبِه الغنى
فآضَ كما غنَّى ليكسب زُلْزُلُ
فما لعذابٍ فوقَكُم لا يعمُّكم
وما بال أرضٍ تَحتَكم لا تُزلزَلُ

وقال أيضًا:

وقتٌ يمر وأقدارٌ مسببةٌ
منها الصغير ومنها الفادح الجلل
والله يقدر أن يُفني بريَّتَه
من غير سقمٍ ولكن جندُه العِلَلُ

وقال أيضًا:

يَتحارَبُ الطبع الذي مُزجت به
مُهَج الأنام وعقلهم فيفلُّه
ويظل ينظر ما سناه بنافعٍ
كالشمس يَسترها الغمام وظلُّه

وقال أيضًا:

ما لي غدوت كقاف رؤبة قُيِّدت
في الدهر لم يُقْدَر لها إجراؤها

يشير إلى أرجوزة رُؤبة التي أولها: وقاتم الأعماق خاوي المُخترق.

أُعللت علَّة قال وهي قديمةٌ
أعيى الأطبة كلَّهم إبراؤها
مُلَّ المقام فكم أُعاشِر أُمةً
أمَرَت بغير صلاحها أمراؤها
ظلَموا الرعية واستجازوا كيدها
فعَدَوا مصالحها وهم أجراؤها
فِرقًا شعرتُ بأنها لا تقتني
خيرًا، وأن شرارَها شعراؤها
وإذا النفوس تجاوَزَت أقدارها
حذو البعوض تغيَّرت سُجراؤها
كصحيحة الأَوزان زادتها القوى
حرفًا فبانَ لسامعٍ نكراؤها
سبحان خالقك الذي قرَّت به
غبراء تُوقَد فوقها خضراؤها
هل تعرف الحسدَ الجيادُ كغيرها
فالبُهم تُحسَد بينها غراؤها
ووجدتُ دنيانا تُشابه طامثًا
لا تستقيمُ لناكحٍ أقراؤها
هُويَت ولم تُسعِف وراح غنيها
تعبًا، وفازَ براحةٍ فقراؤها
وتجادَلَت فقهاؤها من حبها
وتقرَّأت لتَنالها قراؤها
وإذا زجرتَ النفس عن شغفٍ بها
فكأنَّ زجر غويها إغراؤها

وقال أيضًا:

لو تعلم النحلُ بمشتارها
لم ترها في جبلٍ تَعسِلُ
والخير محبوبٌ ولكنه
يعجز عنه الحيُّ أو يَكسُلُ
والأرض للطوفان مُشتاقةٌ
لعلَّها من درنٍ تُغسَلُ

وقال أيضًا:

والأرض غذَّتنا بألطافها
ثم تغذَّتنا فهل أنصفَت؟
تأكل مَن دبَّ على ظهرها
وهي على رغبتِها ما اكتفَت

هذا كما قيل: إنى آكُل التفاحة لأنها ستأكلني.

وقال أيضًا:

خيرٌ لعَمري وأهدى مِن إمامهم
عكازُ أعمى هدتْهُ إذ غدا السُّبُلا
من اهتدى بسِوى المعقول أورده
من باتَ يَهديهِ ماءً طالَما تَبَلا

وقال أيضًا:

ورُبَّ شهادةٍ وردَت بزورٍ
أقام لنصِّها القاضي عُدولَه
ومن شرِّ البرية رب مُلكٍ
يريد رعيةً أن يَسجدوا له

وقال أيضًا:

إذا طرَق المسكين دارك فاحْبُه
قليلًا ولو مقدارُ حبة خردَلِ
ولا تَحتقِر شيئًا تُساعِفْه به
فكم من حصاةٍ آيَدَت ظهر مجدَلِ

وقال أيضًا:

أعجبتُ للطفل الوليد بمهدِه
لم يخطُ كيف سرى بغير رَواحِلِ
قد عاشَ يومَيه وعُمِّر ثالثًا
ثم استراحَ من المدى المُتماحِلِ
كم سار من سنةٍ أبوه فيا له
قطع المسافة في ثلاث مَراحِلِ

وقال أيضًا:

غلَت الشرور ولو عقلنا صُيرت
دية القتيل كرامةً للقاتلِ

وقال أيضًا:

لا تطلبنَّ بغير حظٍّ رتبةً
قلمُ البليغ بغير حظٍّ مِغزَلُ
سكَن السماكان السماء كلاهما
هذا له رمحٌ وهذا أعزَلُ

وقال أيضًا:

أتى ولدٌ بسجلِّ العناء
فيا ليت واردَه ما وصَل

يريد بسجل العناء الدنيا.

وإن أنظرَتْه خطوب الزما
ن عضَّ بنابٍ شديدِ العَصَل
وريعَ من الغِيَر الطارقا
ت بالرمح صرَّ وبالسيف صَلْ
وقال له صلِّ داعي الهدى
وقال له مُلحدٌ لا تُصَل
وشبَّ وشاب وأفنى الشباب
وسُقيًا له من خضابٍ نَصَل
ومِن بعد ذاك يجيء الحِمام
فانظر على أي شيءٍ حصَل
فيا راحة النَّفس عند المَمات
إن كان هذا الحساب انفصَل

وقال أيضًا:

لقد صَدِأت أفهامُ قومٍ فهل لها
صقالٌ ويَحتاج الحسام إلى الصقَّلِ
وكم غرَّتِ الدنيا بَنيها وساءني
مع الناس مينٌ في الأحاديث والنَّقلِ
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدًا
وأرحلُ عنها ما إمامي سوى عَقلي
ومَن كان في الأشياء يَحكم بالحِجا
تَساوى لديه من يحبُّ ومَن يَقلي

وقال أيضًا:

يَخونُك من أدى إليك أمانةً
فلم ترْعَه يومًا بقولٍ ولا فِعلِ
فأحسِن إلى من شئت في الأرض أو أَسِئ
فإنك تُجزى حذوَكَ النَّعلِ بالنَّعلِ

وقال أيضًا:

ماذا يَريبك من غرابٍ طار عن
وكرٍ يكون به لبازٍ مسقَطُ
وا فضْحَتا لك في شمالك غاديًا
عُود المراة وفي يَمينِكِ ملقَطُ
أوَما قرأتَ سجلَّ دهرك ناطقًا
بالهُلكِ يُشكَل بالخُطوب ويُنقَطُ

عود المراة: يُريد المرآة التي يَنظر فيها صورته وما بدا عليه من الشيب. وعلى ذكر المرآة أذكر عبارة لطيفة وجدتها في أوراق أعجمية؛ وهي أن بعض الشعراء كان يهوى غانيةً حسناء ولا يُعلمها بذلك وإنما يَذكُر لها أنه يهوى حسناء صفتها كذا وكذا ويَنعتها بكل نعت جميل ووصف نبيل، فسألتْه ذات يوم أن يُريها محبوبته تلك التي يصف، فأبى عليها ذلك، فقالت: فأرني صورتها إذن، فقال: أما صورتها فأُرسلها لكِ غدًا، ثم أرسل لها في غده «مرآة».

وقال أيضًا:

بقيتُ وإن كان البقاء محبَّبًا
إلى أن وددتُ العيش لا يتزيَّدُ
وما العمر إلا كالبِناء فإن يَزِد
على حدِّه يهوِ الرفيع المشيَّدِ

وقال أيضًا:

المال يُسكِت عن حقٍّ ويُنطِق في
بُطْلٍ وتُجمع إكرامًا له الشِّيَع
وجزية القوم صدَّت عنهمُ فغَدَت
مساجد القوم مَقرونًا بها البِيَعُ

وقال أيضًا:

وخفَّ بالجهل أقوامٌ فبلَّغهم
منازلًا بسناء العز تَلتفِعُ
أمَا رأيت جبال الأرض لازمةً
قرارها وغبار الأرض يرتفعُ؟

وقال أيضًا:

الدهر كالشاعر المقْوي ونحن به
مثل الفَواصل مخفوضٌ ومرفوعُ
ما سرَّ يومًا بشيءٍ من محاسِنه
إلا وذاك بسوء الفعل مَشفوعُ

وقال أيضًا:

فإنْ أكدى المنيل فلا تلُمه
فقد تخلو من الرِّسل الضُّروعُ
وذكِّر بالتُّقى نفرًا غفولًا
فلولا السقيُ ما نمَتِ الزُّروعُ

وقال أيضًا:

إن شقًّا يلوح في باطن البرَّة
قَسمٌ بيني وبين الضَّعيفِ

وقال أيضًا:

صحبْنا دهرَنا دهرًا وقِدمًا
رأى الفضلاء أن لا يَصحبُوه
وغِيظَ به بنوه وغِيظَ منهم
فعذَّب ساكنيه وعذَّبوه
فإن يأكلهمُ أسفًا وحقدًا
فقد أكلَ الغزال مُربِّبُوهُ
رجَوا أن لا يَخيب لهم دعاءٌ
وكم سأل الفقيرُ فخيَّبُوهُ
ألظوا بالقبيح فتابَعُوه
ولو أُمروا به لتجنَّبوهُ

وقال أيضًا:

إن صحَّ عقلُك فالتفرُّد نعمةٌ
ونوى الأوانس غايةُ الإيناس
أبلستُ من وسواس حليٍ خِلتُه
إبليس وسوسَ في صدور الناسِ

وقال أيضًا:

يا ربِّ أخرجني إلى دار الرضا
عَجِلًا فهذا عالمٌ منكوسُ
ظلوا كدائرةٍ تحوَّل بعضُها
من بعضها فجميعها مَعكُوسُ
وأرى ملوكًا لا تحوطُ رعيةً
فعلامَ تؤخذ جزيةٌ ومكوس

وقال أيضًا:

يَسُوسون الأمور بغير عقلٍ
وينفذ أمرهم فيُقال ساسَه
فأُفٍّ للأنام وأُفَّ مني
ومن زمنٍ رياستُه خَساسه

وقال أيضًا:

لا يستوي ابناك في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ
إن الحديدة أُمُّ السيف والجلمِ

من أحسن ما قيل في شقي الجلم قول القائل:

ومُصطنعَين ما اتُّهما بعشقٍ
وإن وُصفا بضمٍّ واعتناقِ
لعمرُ أبيكَ ما اجتمعا لشيء
سوى معنى القطيعة والفراقِ
اضرب وليدَك تأديبًا على رشدٍ
ولا تقُل هو طفلٌ غير مُحتلِمِ
فرُبَّ شِقٍّ برأسٍ جرَّ منفعةً
وقِس على شِقٍ رأسَ السِّهم والقلم

وقال أيضًا:

تبارَكَت أنهارُ البلاد سوائحٌ
بعذبٍ وخُصَّت بالملوحة زمزمُ
هو الحظُّ غير البيد سافَ بأنفِه
خُزامى وأنفُ العود بالذلِّ يُخزَمِ

وقال أيضًا:

توهمتُ خيرًا في الزمان وأهله
وكان خيالًا لا يصحُّ التوهم
فما النورُ نوارٌ ولا الفجر جدولٌ
ولا الشمس دينارٌ ولا البدرُ درهمُ

وقال أيضًا:

وكلٌّ يُوصي النفس عند خلوِّه
بزهدٍ ولكن لا تصحُّ العَزائمُ
وأين فراري من زماني وأهله
وقد غص شرًّا نجْدُه والتهائم
وفي كل شهرٍ تَصرع الدهر جِنةٌ
فتُعقد فيه بالهلال التمائمُ

وقال أيضًا:

الموت نومٌ طويلٌ لا هبوبَ له
والنوم موتٌ قصيرٌ بعْثه أُممُ
وفي الخمول حِمامٌ والفتى قبَلٌ
وفي النباهة عيشٌ والفَتى رِمَمُ

وقال أيضًا:

قال المنجِّمُ والطبيب كلاهما
لا تُحشَرُ الأجسادُ قلتُ إليكما
إن صح قولُكما فلستُ بخاسرٍ
أو صح قولي فالخَسار عليكُما

وقال أيضًا:

دنياك أشبهت المدامة ظاهرٌ
حسنٌ وباطن أمرها ما تعلمُ
أنفق لتُرزق فالثراء الظُّفر إن
يُترك يَشِن ويعود حين يُقلَّمُ

وقال أيضًا:

إذا أُلِفَ الشيء استهان به الفتى
فلم يره بؤسى تُعدُّ ولا نُعْما
كإنفاقِه من عمره ومساغه
من الريق عذبًا لا يُحِسُّ له طَعما
وما ارتاب في لُقيى الردى وكأنه
حديثٌ أتى من كاذبٍ يُبطِل الزعما

وقال أيضًا:

جاران شاكٍ ومسرورٌ بحالته
كالغيث يبكي وفيه بارقٌ بسما

وقال أيضًا:

الجسم والرُّوح من قبل اجتماعهما
كانا وديعين لا همًّا ولا سَقما
تفرُّد الشيء خيرٌ من تألُّفه
بغيره وتجُر الأُلفة النقما

وقال أيضًا:

اسمع مقالة ذي لبٍّ وتجربةٍ
يُفِدكَ في اليوم ما في دهره عِلما
إذا أصاب الفتى خَطبٌ يضرُّ به
فلا يظنُّ جهولٌ أنه ظُلِما
قد طال عُمريَ طول الظُّفر فاتَّصلَت
به الأذاة وكان الحظُّ لو قُلِما

وقال أيضًا:

اصدُقْ إلى أن تظنَّ الصدق مهلكةً
وعند ذلك فاقعُد كاذِبًا وقُمِ
فالمين ميتَة مُضطرٍّ ألمَّ بها
والحقُّ كالماء يُجفي خيفة السقَمِ

وقال أيضًا:

من لي بناجيةٍ سفيهة مدلجٍ
فالعيس لم تُحمد ذوات حلوم
رُوح الظلوم إذا هوت فإذا ارتقَت
فكأنما هي دعوة المظلومِ

وقد أهدى بعض الأمراء فرسًا لشاعر فمات الفرس ليلة وصوله، فكتب إليه الشاعر يقول: إنه لا شيء أسرع من الفرس الذي أهديته إليَّ، فقد وصل من الدنيا إلى الآخرة في ليلة واحدة.

وقال أيضًا:

كأنَّ نجوم الليل زُرقُ أسنَّةٍ
بها كلُّ مَن فوق التراب طعينُ
ولائحَ هذا الفجر سيفٌ مجرَّدٌ
أعان به صرف الزمان مُعينُ

وقال أيضًا:

ما كان في الأرض من خيرٍ ولا كرمٍ
فضلَّ من قال إنَّ الأكرَمين فنوا
أعفى المنازلِ قبرٌ يُستراحُ به
وأفضل اللبس فيما أعلمُ الكَفنُ

وقال أيضًا:

بئست الأم للأنام هي الد
نيا، وبئس البنون للأم نحنُ
كلُّنا لا يبرُّها بمقالٍ
فاعذروها إذ ليس بالفعل تحنو
فسَدَ الأمر كله فاتركوا الإعـ
ـراب إن الفصاحة اليوم لحنُ

وقال أيضًا:

وأحسبُ الناس لو أعطوا زكاتهم
لمَا رأيت بني الإعدام شاكينا
فإن تعش تُبصر الباكين قد ضَحِكوا
والضاحكين لفرط الجهل باكينا

وقال أيضًا:

فأودعن فاتكًا حصاةً
وأودعن ناسكًا جمانه
كلاهما ليس بالمؤدي
إليك في المودَع الأَمانه

وقال أيضًا:

يشقى الوليد ويَشقى والداه به
وفاز من لم يُولِه عقلَه ولَدُ
إذا تلبَّس بالشجعان جبَّنهم
وبالكرام أسرُّوا الضنَّ أو صلَدُوا

وقال أيضًا:

أرى حيوان الأرض غير أنيسها
إذا اقتات لم يَفرح بظُلمِ ولا جِدا
أتعلم أُسْد الغيل بعد افتراسها
تحاول درًّا أو تُحاول عَسجدا
وما اتَّخذ الأبرادُ سِرحانُ قفرةٍ
ولا شبَّ نارًا أين غار وأنجدا
وأضعفُ مَن تلقاه من آل آدمٍ
إذا ما شتا يَبغي وقودًا وبُرجدا

البرجد كساء مخطط.

وقال أيضًا:

اصمُت وإن تأبَ فانطِق شطرَ ما سَمِعت
أُذناك فالفم نصف اثنين في العددِ
واجعله غاية ما يأتي اللسانُ به
وإن تَجاوَزْ لم يَقرُب من السَّدَدِ

وقال أيضًا:

تمنَّت شيعة الهَجَري نصرًا
لعلَّ الدهر يسهُل فيه حَزنُ

الهجري هو القرمطي الخارجي المشهور.

وقد أضحَتْ جماعتهم شريدًا
فلا يَفنى لهم أسفٌ وحُزنُ
وقالوا إنها ستعودُ يومًا
فتَثبُتُ ما سقى الآفاق مُزنُ

أي أنهم يقولون بأن الدولة ستعود لنا وتَثبُت فينا وأن تفرُّقنا الآن ليس إلا أمرًا مؤقتًا.

وبيت الشِّعرِ قُطِّع لا لعيبٍ
ولكن عنَّ تصحيحٌ ووزنُ

وقال أيضًا:

لا يتركنَّ قليلَ الخير يفعله
من نال في الأرض تأييدًا وتمكينا
فالطبعُ يَكسِر بيتًا أو يُقوِّمه
بأهون السعي تحريكًا وتَسكينا

وقال أيضًا:

تشاءَمَ بالعَواطِسِ أهلُ جهلٍ
وأَهوِنْ إن خَفتنَ وإن عَطسْنَهْ
وأعمار الذين مضَوا صغارًا
كأثوابٍ بَليْنَ وما لُبِسْنَه

وقال أيضًا:

لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته
فقيرٌ معرًّى أو أميرٌ مُدوج

مدوج: لابس الدواج.

وقد يُرزق المجدودُ أقوات أُمةٍ
ويُحرم قوتًا واحدٌ وهو أحوجُ

وقال أيضًا:

وقلَّما تُسعِف الدنيا بلا تعبٍ
والدر يُعدم فوق الماء طافِيه
ومَن أطال خِلاجًا في مودته
فهجره لك خيرٌ من تَلافيه

الخلاج الاضطراب وعدم الاستقامة.

ورُبَّ أسلاف قومٍ شانَهم خلفٌ
والشِّعر يؤتى كثيرًا من قَوافيهِ
عجبتُ للمالك القنطار مِن ذهبٍ
يبغي الزيادة والقيراطُ كافيهِ
وكثرةُ المال ساقَت للفتى أشرًا
كالذَّيلِ عثَّر عند المشي ضافيهِ

وقال أيضًا:

تمنَّيتُ أني مِن هضاب يَلملمِ
إذا ما أتاني الرُّزء لم أتألَّمِ
فمِي أخذَت منه الليالي وإنني
لأشرب منه في إناءٍ مثلَّم

وقال أيضًا:

ومن الرَّزايا ما يُفيء لك العلا
كالمِسك فاح بموقع الأفهارِ

وقال أيضًا:

والدهر أرقم بالصباح وبالدُّجى
كالصلِّ يَفتِك باللديغ إذا انقلَب
وأرى الملوكَ ذَوي المَراتب غالَبُوا
أيَّامَهم فانظر بعينِك من غلب

وقال أيضًا:

لا تَقسِني على الذي شاع عني
إنَّ دنياك معدنٌ للخِلاب
قد يُسمِّي الفتى الجبانَ أبوه
أسدًا، وهو مِن خساس الكلاب

وقال أيضًا:

استنبطَ العُرب في الموامي
بعدك واستعرَبَ النبيطُ
كأنَّ دُنياك ماء حوضٍ
آخره آجِنٌ خبيطُ

وقال أيضًا:

إذا انفرَد الفتى أُمنت عليه
دنايا ليس يُؤمنها الخِلاطُ
فلا كذبٌ يُقال ولا نميمٌ
ولا غلطٌ يُخاف ولا غِلاطُ
وكم نهض امرؤٌ من بين قومٍ
وفي هاديه من خزيٍ عِلاطُ

العلاط سمة تكون في العنق.

وقال أيضًا:

إذا أعمل الفكرَ الفتى جعَل الغنى
من المال فقرًا والسرورَ به حُزنا
يكون وكيلًا للبرية باذلًا
وللوارثيه إن أراد له خَزنا

وقال أيضًا:

فيا دار الخَسار أَلِي خَلاصٌ
فأذهب في الجنوبِ أو الشمال؟
وظلمٌ أن أُحاول فيك ربحًا
ولم أَخرج إليك برأس مال

وقال أيضًا:

تُحاربنا أيامُنا ولنا رضًا
بذلك لو أن المنايا تُهادِنُ
إذا كان جسمي للرَّغام أكيلةً
فكيف يسُر النفس أني بادِنُ

وقال أيضًا:

ألم ترَ عالَمًا يَمضي ويأتي
سواه كأنه مرعيُّ بقلِ
وكيف أجيد في دارٍ بناءً
ورب الدار يُؤذِنني بنَقلِ

وقال أيضًا:

يود الفتى أن الحياة بسيطةٌ
وأن شقاء العيش ليس بعيد
كذاك نَعام القفر يخشى من الرَّدى
وقُوتاه مروٌ بالفلا وهبيدُ

المرو الحجارة، والهبيد حَب الحنظل.

وقد يُخطئ الرأي امرؤٌ وهو حازمٌ
كما اختلَّ في وزن القريض عبيدُ

عبيد هو عبيد بن الأبرص الشاعر المشهور، يشير إلى قصيدته التي أولها:

أقفر من أهله ملحوب
فالقُطبياتُ فالذَّنوبُ

وفيها أبيات خارجة عن الوزن منها قوله:

والمرء ما عاش في تكذيب
طول الحياة له تَعذيبُ

وقال أيضًا:

أعُدُّ لبذلك الإحسان فضلًا
وكم من معشرٍ بخلوا وسادُوا
فجُد إن شئتَ مربحة الليالي
فما للجود في سُوقٍ كساد
أبيتُ المال بيتٌ من مقالٍ
متى يُنقَص يُلِمُّ به الفسادُ

يريد: ليس بيت المال كبيت الشعر الذي يَفسد إن نقص منه حرف.

وقال أيضًا:

والخير يَجلب شرًّا والذُّباب دعا
إلى الجنى أنه في الطُّعم قنديد
وأشرف الناس في أعلى مراتبه
مثل الصديد ولكنْ قيلَ صَنديدُ

وقال أيضًا:

اصغُر لتَعظُم كم تجمَّع واثبٌ
ثم استعزَّ فعزَّ بعد صَغارِ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤