باب الفظائع

وضعنا بين يدي المطالع جوهر ما كتبه المؤلفون الأوروبيون، وما نشره المراسلون الحربيون حتى الآن عن معارك البلقان في البر والبحر، فلم يبقَ منها ما يستحق الذكر إلا المعارك القليلة التي حدثت في شبه جزيرة كليبولي وجتالجه بعد فشل مؤتمر الصلح الأول، وهي وإن كانت معارك دموية شديدة لم تحسن شيئًا من حال العثمانيين كما سترى.

وإذا فكر المرء في تلك الحرب بل في جميع الحروب على ضروبها، وجدها كلها فظائع في فظائع ولكن التقليد والعرف والقانون الدولي جعلها جائزة بين الجيوش، وبات المفهوم من لفظة «فظائع» تعذيب الأسرى أو الجرحى، والفتك بالنساء والأطفال والشيوخ، والتمثيل بمن لزم الحياد، وما اختلف منصفان في أن الحرب إذا كانت فظيعة في ذاتها؛ لأنها تجيز قتل فتية هم أكبر مظهر من مظاهر قوات الأمم وأشد الأركان التي تعتمد عليها في بناء صروح النجاح، فإن قتل الضعفاء والأبرياء هو أكبر الفظائع وأدل الدلائل على أن نفس الإنسان ما زالت حتى هذا القرن الموصوف بقرن المدنية والنور منطويةً على غريزة وحشية، تنزل به إلى دَرَك لا يليق بمن ميَّزه الخالق عن جميع المخلوقات وملكه البر والبحر والهواء. ونحن ذاكرون هنا من الفظائع أخص ما ينسب إلى كل فريق، ثم نقول كلمتنا.

(١) ما يُنسب إلى البلقانيين

رأس الأمور التي ننكرها مع كل حر على البلقانيين أنهم أرسلوا إلى تراقيه ومقدونيا ألوفًا من رجال العصابات، الذين اشتهروا بارتكاب الفظائع في سالف الزمان وجعلوا تلك البلاد موطن الأهوال، وقد روى الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي خبر سفر العصابات البلغارية قبيل الحرب، واتخذه دليلًا في وقته على أن الحرب باتت أمرًا مقررًا لا مندوحة عنه ولا مناص منه، وليس هناك ريب ولا شبه ريب في أن سفر تلك الألوف من سفاكي الدماء كان بأمر حكوماتهم وتحت مراقبتها؛ إذ لا يعقل أن الحكومات التي حرمت على كل جندي أن يكتب كلمة إلى أبيه أو أمه أو حليلته، لا تراقب ألوفًا من رجال العصابات الذين أوفدتهم إلى جهات مختلفة ليقطعوا الصلات بين العثمانيين، ويساعدوا الجيوش البلقانية في مهمتها الحربية، وهذا يهدم حجة المراسلين الذين اعتذروا عن حكومة البلغار وغيرها بأن العصابات هي التي ارتكبت الفظائع لا الجيوش المنظمة. وإليك بعض ما طالعناه مأخوذًا عن جرائد ونشرات مختلفة ومذكورًا مع مصادره: قالت جريدة «فريستش»: إن مائتين من النساء والأطفال لجئوا إلى جامع في دده أغاج، فوضع البلغاريون تحته ديناميتًا ونسفوه بمن كان فيه فلم ينجُ واحد، وإن غور حصار أصبحت مهدًا للظلم والأعمال الوحشية، فقد أُحرق فيها المسلمون وهم أحياء، وكُلف عدد منهم أن يُدينوا بالمسيحية وإلا أحرقوا بالنار، ورُمي جماعة من كوملنجه في النهر وهم مكتوفُو الأيدي والجروح تقطر دمًا من أبدانهم ورءوسهم.

ونشر مراسل «الألوستراسيون» في جتالجه مقالًا تحت عنوان «ما هُدم وما بقي من جتالجه»، ذكر فيه أن حيَّ المسلمين الذي كان عدد أهله نحو ٣٠٠٠ خرب كله؛ لأن البلغاريين أحرقوا كل شيءٍ فيه قبل مزايلتهم تلك البلدة، فكل ما تبصره العين جدران قائمة ومسجدان اثنان محولان إلى إصطبلين، وما من شيءٍ يُبرر هذا التخريب المقصود بل هذا التوحش المنكر. أما بيوت اليونانيين والبلغاريين فإنها لم تُصب بأذى، وكل من ينظر إلى المدينة من جهة هذه البيوت يظنها سليمة لم تمس، ولما وصل الأتراك مروا بالخرائب التي كانت بيوتًا عامرة لإخوانهم المسلمين، وأبصروا كل ما حصل فيها ومع ذاك كله لم يكسروا زجاج نافذة واحدة من البيوت اليونانية والبلغارية، بل أبقوا عليها وعلى المدارس كما كانت، فهم يستحقون الثناء …

وقال مراسل الديلي تلغراف في كليبولي: «إني لا أستطيع وصف البؤس الذي حلَّ بمهاجري البلقان في كليبولي، فإن معظم النساء فقدن رجالهنَّ إما بالحرب وإما بغدر الوحوش واللصوص من رجال العصابات، أو من مواطنيهم اليونانيين والبلغاريين، فقد روت امرأة عجوز: أن الأهالي اليونانيين خانوا المسلمين في موطنها، مع أن الفريقين تعاهدا على أن يحمي كل منهما الآخر عند المقدرة، فإذا دخلت الجنود التركية المدينة أولًا فإن المسلمين يحمون المسيحيين، وإذا دخلتها رجال العصابات أولًا فإن المسيحيين يحمون المسلمين، ولقد حدث أن العصابات دخلت قبل الأتراك فأخذت تسأل عن أعيان المسلمين، وقبضت على سبعة وستين منهم ثم قادتهم إلى غابة فأثخنتهم طعنًا بالرماح، ثم قطعت حفيد تلك العجوز إربًا إربًا، «وهنا أخذت العجوز تقطع شعرها وترفع بنظرها إلى السموات وهي تستنزل الرجز واللعنة على أولئك الوحوش».» ثم روى المراسل أنه سمع حكايات أشد فظاعة وهولًا من فاجعة العجوز، كالفتك بالنساء والأطفال، وقال إن الفلاح التركي الساذج لا يكذب ولا يعرف أن يستنبط حكايات من هذا الطراز.

وروت شركة روتر في ٢٢ مارس سنة ١٩١٣ أن الجبليين شدوا وثاق كاهن و٣٠٠ شخص من الكاثوليك، ثم وقف على رءوسهم كاهن أرثوذكسي فأراهم بنادق الجنود الجبلية وقال لهم: إما أن تذهبوا المذهب الصحيح الوحيد، وإما أن يُرسل هؤلاء الجنود أرواحكم إلى الجحيم؛ فقبل الثلاثمائة مكرهين ورفض الكاهن، فأخذوا يقطعون أطرافه ويعذبونه أشد العذاب حتى لفظ روحه، ولما انتهى هذا الخبر إلى حكومة النمسا أرعدت وأبرقت، على أن الجبليين أنكروا ما نسب إليهم، والله أعلم.

وذكر حضرة كامل بك تيمور التاجر الإسكندري الذي سافر إلى البلقان في مهمة خيرية أنه قابل قنصلي النمسا وإنكلترا في مناستر، فعلم منهما ومن مفتي تلك المدينة أن مناستر كان فيها يوم وصوله خمسة عشر ألف مهاجر بلا مأوى ولا غذاء، وأن خمسة آلاف وستمائة فقط كانوا ينالون جراية يومية من الخبز لا تزيد عن نصف أقة لكل واحد، وذاك على يد قنصلية إنكلترا التي كانت تتلقى من جمعية الصليب الأحمر في لندرا، ومن جمعية إعانة مقدونيا ما يكفي لإطعام ثمانمائة نفس، وعلى يد السيدة مكين التي كانت تتلقى ما يكفي لغذاء ألف نفس، «وكان عند السيدة المذكورة مستشفى للمهاجرين مشتمل على ثلاثين سريرًا.» وعلى يد جمعية المبشرين الأمريكيين الذين كانوا يطعمون ثمانمائة شخص، ثم على أيدي الراهبات اللواتي كنَّ يطعمن ألف نفس، ويد قنصلية النمسا التي كانت تسعف ثمانمائة شخص، أما بقية المهاجرين وهم نحو عشرة آلاف، فكانوا يموتون جوعًا وبردًا، والمرجح أن قيمة ما نهب من المسلمين في ولايات أدرنه وسلانيك ومناستر وأسكوب يبلغ — على تقدير الكاتب — نحو مليار من الفرنكات.

ونشر الموسيو ستفان لوزان رئيس تحرير الماتين بعض رسائل من المبشرين المسيحيين مشتملة على وصف عدة فظائع اقترفها البلقانيون، وهذا موجز ما كتبته البعثة الكاثوليكية بمقدونيا في ٢١ نوفمبر من يانيجه:

لما دخل اليونانيون المدينة كان عندنا وعند الراهبات نحو ألفي نفس، فجاء اليونان وانتزعوهم من أيدينا برغم تضرعنا إليهم، ثم أخذوا يُذبحونهم أمامنا وأمام الراهبات جماعات جماعات. وبعد ذلك جعلوا يحرقون الأسواق التركية التي نهبها الأهالي، وما زال في يانيجه حتى الآن بضعة آلاف من اليونان وهم ينهجون نهج إخوانهم في سلانيك، فيسرقون وينهبون وينهكون حرمة النساء، ولا تنحصر فظائعهم في يانيجه وحدها بل تتعداها إلى الدساكر والقرى المجاورة لها، ثم إنهم يُظهرون التعصب الشديد على كل إنسان لا يذهب مذهب الأرثوذكس، بل هم يتعدون هذا الحد بإساءتهم إلى البلغاريين الأرثوذكس، فقد أخذوا من شيخ بلغاري مسكين ستة وثمانين خروفًا ولم يدفعوا ثمنها.

ثم قالوا في كتابٍ ثانٍ من تلك المدينة أيضًا: إن اليونان والبلغار يسلكون مسلكًا دنيئًا في مقدونيا، والنصارى الساكنون في القرى يذبحون المسلمين وينزعون الحلي من آذان النساء ويعتدون عليهنَّ. وحدث في براجوتوفو أن النساء والفتيات لجأن إلى الأديرة بعد قتل الرجال، ولكن الأهالى المسيحيين هجموا عليهن وقتلوهنَّ، وفي دولني يورسي أخذ المسيحيون يضربون الترك رجالًا ونساءً وصبيةً بالسياط ثم يُمزقونهم جرحًا وطعنًا، وفي جالدينوفو لم يُبقِ المسيحيون من الترك أحدًا وهلم جرَّا، قال رئيس تحرير الماتين — وصدق في قوله: «ومما يزيد تلك الفظائع هولًا أن رجال الدين المسيحي هم الذين يشهدون بها.»

وكتب أحد مراسلي جريدة كيلوزيتويغ أن جماعة من القسوس في مقدونيا نشروا رسالة قالوا فيها: إن الواجب المفروض على كل مسيحي أن يقدم روحًا إسلامية على هيكل الكنيسة، فكان لتلك الرسالة صدى عظيم عند البلغاريين، ثم أخذوا يعملون بوصيته، وقد امتد الاعتداء إلى المساجد فنكست المنابر وأُلقيت خزائن الكتب، فأثر في نفسي هذا العمل تأثيرًا شديدًا، ولعنت تلك المدنية «الحمراء».

وذكر مراسل جريدة المساجيرو الإيطالية أن الصربيين أفرغوا كل جهدهم في قتل المسلمين الألبانيين، وضربوا المدن التي احتلوها بدعوى أنهم وجدوا فيها مقاومة، وذبحوا كثيرين بينهم عدد كبير من النساء.

ونشرت جريدة كونيش زيتونغ كتابًا في شأن الفظائع التي ارتكبها البلغاريون «في قوله» قال كاتبه: «وصلت خمس عصابات بلغارية منذ شهر فأسرت الحاكم وأعلنت أن مدينة قوله صارت بلغارية، فابتهج الأعيان بقدوم هؤلاء اللصوص، ثم وصل أيضًا نحو ثلاثين لصًا من الطراز نفسه وأخبروا بأن آلايًا بلغاريًّا وصل إلى هناك، فخرجت المدينة في ١٠ نوفمبر لاستقبال ذاك الآلاي وسار مطرانها في مقدمة المستقبلين، ثم أخذت النساء تزين بنادق الجنود واللصوص البلغاريين بالأزهار والرياحين، وقرعت جميع الكنائس أجراسها. ولما كان اليوم الثاني شرعوا يطاردون الأتراك ويقتلون أعيانهم بلا محاكمة، ويرتكبون أعمالًا وحشية في معاملة أناسٍ ليس لهم من ذنبٍ إلا كونهم مسلمين، وعند نصف الليل كانوا يخرجون بالسجناء فينزعون قمصانهم وكل ما يستر عورتهم ثم ينحون عليهم طعنًا بالحراب في أدق الجهات شعورًا من أجسامهم، ويضربونهم بأخشاب البندقيات حتى يخرجوا أرواحهم، وقد أعدموا على هذا النمط ستة وثلاثين في الليل الأول لوصولهم، وخمسة عشر في الليل الثاني، وثمانية في الليل الثالث وهلم جرَّا، حتى بلغ الذين قتلوا في قوله وحدها مائة وخمسة عشر، ثم اعتدوا على أعراض النساء والبنات اللواتي قُتل رجالهنَّ.

أما في سرس فإن الأتراك أخذوا يُدافعون عن أنفسهم فقتلوا جنديين من الصربيين، فلما علم الضابط الصربي بقتلهما فتح ساعته وقال لجنده: «نحن في الساعة الرابعة بعد الظهر فيمكنكم أن تفعلوا ما تريدون منذ الآن حتى الساعة نفسها بعد ظهر غد.» فما صدر هذا الإذن إلى تلك الوحوش الكاسرة حتى هجموا على الأتراك فقتلوا منهم في أربعٍ وعشرين ساعة ١٢٠٠ أو ١٩٠٠ على رواية أخرى.»

ولما دخلوا دراما قطعوا رأس أحد الأتراك ونصبوه على صندوق، ثم وضعوا بين شفتيه غليونًا.

وقبض جماعة من الجبليين على ضابط عثماني فقطعوا أنفه وأذنيه وفقأوا عينيه قبل موته، فرسمته جرائد الأستانة وبعض الجرائد الأوروبية، ووضع بيير لوتي الكاتب الفرنساوي ذاك الرسم الفظيع على صدر كتابه «تركيا المحتضرة».

وأحرقت العصابات ٣٨ قرية من ٩٨ في قضاء كاوردار، وذبحت جميع أهالي درينوفو، وحفرت بين هذه القرية وباليكورا عدة قبور دفنت فيها الذين عذبتهم وهم في قيد الحياة أو على وشك الموت، فكان عابر السبيل يبصر رءوس تلك الضحايا نابتة من الأرض على شكلٍ فظيع.

وحدث أن إحدى السيدات المسلمات رأت بعينها رجال بعض العصابات البلغارية يعتدون على ابنتها، فأخذت بندقية وأطلقتها على البلغاريين فكان عملها سببًا في مذبحة هائلة، ومما فعله أولئك الوحوش أنهم حبسوا النساء والبنات في إحدى القهوات وأحرقوها بهن، ثم ارتكبوا مثل هذا الجرم في كوركوتوفو، فأحرقوا نساءها وهن داخل مسجد.

ونشرت جريدة ريشبوست تقريرًا مفصلًا عن الفظائع التي ارتكبها الصربيون في ألبانيا، وخلاصة ما تضمنه أن الصربيين أبادوا أهالي مدن بأسرها، وأنهم ذبحوا في ولاية قوصوه وحدها ٢٥٠٠٠ نفس، ثم طلب واضع التقرير من الدول الأوروبية أن تؤلف لجنة تحقيق للتثبت من حقيقة تلك الفظائع.

وقال مراسل الديلي تلغراف: إن المراسلين الحربيين من نمساويين وإنكليز وإيطاليين ونرويجيين أظهروا الفظائع التي ارتكبتها الجنود الصربية في كثير من جهات مقدونيا، أما الفظائع التي ارتكبتها في ألبانيا فيظهر أن الخوف من إمكان نشوب حرب أوروبية عامة حوَّل عنها الأفكار، ولكن الاهتمام بها عاد في هذا الوقت (أوائل يناير)، فجمعت الحكومة النمساوية جميع التقارير المشتملة على أخبارها، وقد سنحت لي فرصةٌ للاطلاع عليها فوجدت أن جنود الجنرال يانكوفتش أعادوا في القرن العشرين جميع ضروب الاضطهاد القاسي التي رواها التاريخ، فإنهم لم يكتفوا أيام زحفهم في الأنحاء الألبانية بذبح الألبانيين المسلحين غيلةً وخداعًا، بل دفعهم التوحش إلى قتل أناسٍ عُزلٍ من السلاح والفتك بالشيوخ والنساء والأولاد حتى الأطفال الرضع، ومما قاله الضباط الصربيون وهم في سكرة النصر: إن خير وسيلة لنشر لواء الراحة والسلام في ألبانيا إنما هي إبادة المسلمين فيها، وما اتصل هذا الكلام بآذان الجنود الصربية حتى أسرعت إلى إنفاذه، فبلغ عدد الذين أعدموا فيما بين كومانوفو وأسكوب ٣٠٠٠ نفس، وعند برشتينا ٥٠٠، وما كان هذا الفتك بهم في معركة شريفة، بل في عدة مذابح لا يمكن تبريرها، وقد اخترعت الجنود الصربية لتبريد شوقها إلى الدم أساليب جديدة فكانت تحيط بالمنازل وتشعل فيها النيران، ثم ترمي بالرصاص كل من يطلب الخلاص، وتعمد إلى قتل الرجال أمام نسائهم وأولادهم ثم تضطر الوالدات البائسات إلى حضور مشهد الفتك بأبنائهن وتقطيعهن إربًا إربًا.

وكان الإعدام اليومي سلوان الجنود الصربية، فإنها كانت تقبض على كل من تجد عنده سلاحًا ثم تقتله شنقًا أو رميًا بالرصاص، وقد أعدمت في يوم واحد وثلاثين نفسًا، وبلغ توحشها إلى حد أن الصربيين المقيمين في بلاد المجر أظهروا استياءهم من المذابح التي ارتكبها إخوانهم في ألبانيا، فإن الموسيو توميتش الذي كان سكرتيرًا للموسيو باسيتش رئيس الوزارة الأسبق، روى أنه لما سافر من بريزرند إلى إيبك لم يجد على جانبي الطريق إلا قرى محرقة ومهدمة حتى مستوى الأرض، وكانت الدروب مزروعة من المشانق والجثث معلقة بها ولا سيما درب ديا كوفيتزا.

وروت جرائد بلغراد نفسها بعض ما كانت جنود الصرب تجترمه من القسوة والتوحش، فمن الروايات التي لم تخجل من نشرها أن الكولونل أوبستش لما دخل بريزرند مع ألايه صاح في جنوده «ألا فاقتلوا»، فهجمت الجنود على المنازل وفتكت بكل من وقع تحت يدها، ولو عدت الجنايات التي ارتكبتها الجنود الصربية في برلبه وقوصي وفرسيريزا لعادلت كل ما قاساه الألبانيون في مدة الحكم التركي.

ثم روى المراسل نفسه في موضع آخر نقلًا عن تقارير الحكومة النمساوية أيضًا أن الصربيين كانوا يذبحون الشيوخ والنساء والأطفال، وأن الجنرال ستفانوفتش أوقف مائتي أسير صفين متناسبين وأخذ يطلق عليهم قنابل الميتراليوز، وأن الجنرال زيفكوفتش قتل ٩٥٠ عينًا من الألبانيين والأتراك بحجة أنهم أبدوا بعض المقاومة.

وأرسل المستر مرمدوك بكثول الكتاب الآتي إلى جريدة التيمس:

إن شهرة التيمس باستقلال الرأي تحملني على الرجاء منكم أن تسمحوا لي بتوجيه الخواطر على صفحات جريدتكم إلى حالة مسلمي مقدونيا، فقد دلت الأخبار التي جاءتني وجاءت غيري أن هناك مكيدة مدبرة لذبح غير المقاتلة من الرجال والنساء والأولاد، وقد بدأت المذابح منذ أسابيع ولا تزال قائمة حتى الآن، وليس لها غاية إلا إبادتهم عن آخرهم، ويقال: إن عدد الضحايا (وفي جملتهم الهاربون) زاد كثيرًا حتى الآن على نصف مليون نسمة، والواقع — إذا صحت الأنباء التي وصلتني، وليس هناك ما يحملني على الارتياب في صحتها البتة — أن أفظع المذابح في العصور الحديثة تجري باسم المسيحية.

أنا آخر من ينتظر المحافظة على أصول المروءة في الحروب الشرقية، ولكن ما يجري ليس بحرب بل هو مجزرة، وكلما انتشرت أنباء تلك المذابح عم السخط الشديد من ميل الحكومة الإنكليزية إلى إخفائها على ما يظهر، وهذا ما لا يدرك سره رجل مثلي كان يتصور أن تربية حسن الظن والشعور بين المسيحيين والمسلمين هي جزء من سياسة إنكلترا الثابتة، ولا ريب أن سكوتنا عن تلك الفظائع الهائلة يقع أسوأ وقع في صدر كل مسلم يعلم قيامنا وقعودنا من جراء مذابح محلية صغيرة أقدم عليها الأكراد أو الألبان.

ألا كم كان عدد المسلمين منذ شهرين في البلاد التي فتحتها الجيوش البلقانية، وكم عددهم الآن؟ وما هي الآلام التي حلت بتلك الخلائق البائسة من رجال ونساء؟ وما هي العصابات البلغارية؟ أليست مماثلة لعصابات الباشبزق العثمانية التي ملأنا الآفاق ضجيجًا بسبب أعمالها في الماضي؟ فهل شنق البلغاريون رجلًا من رجال تلك العصابات؟ ثم ماذا فعلت الجنود النظامية من بلغاريا وصربيا؟

تلك المسائل وغيرها (أي تعذيب اليهود) تتطلب تحقيقًا مختلطًا، وشرف المسيحية والحضارة أيضًا يتطلب تحقيقًا كاملًا.

وهنا نحبس القلم عن إيراد بقية الأخبار المؤلمة، ونؤكد للقارئ أن بين أيدينا من الرسائل الشبيهة بما ذكرنا ما يملأ مجلدًا كبيرًا، وجُلَّها من مصادر غير عثمانية تختلف في مبانيها وتتفق في معانيها؛ أي الإحراق والإغراق والنهب والسلب وهتك أعراض النساء والفتك بالضعفاء والأبرياء، وما شاكلها من الأعمال التي تنزل بالإنسانية وتحط من قدر المدنية، وتظهر حقيقة الذين سلُّوا سيوفهم لخدمة العدل والحرية …

(٢) ما يُنسب إلى العثمانيين

أما الجنود العثمانية فقد ذكرنا في موضع آخر من هذا الكتاب أنها فتكت بجماعة من الأبرياء أيام تقهقرت أمام الجيش اليوناني، ثم طالعنا في كتاب الموسيو رينيه بيو مراسل التان الحربي الصحيفة الآتية:

رأيتُ مشهدًا فاجعًا، رأيتُ أوتومبيل فيه ضابطان جريحان ماتا من شدة البرد، وبلغ عدد الذين ماتوا في هذا الليل نحو ٢٠٠٠، أما أنا فلم أسرِ على «طريق النزع والاحتضار» الذي اتبعه الجيش التركي المتقهقر، بل درت دورة تبلغ نحو ١٠ كيلومترات من الجهة الجنوبية، راكبًا على جوادي بقصد أن أرى قرية أصبو، وهي إحدى القرى المسيحية العديدة التي أحرقتها الجنود التركية، ولما بلغتها لم أجد إلا أطلالًا وخرائب، ولم تكتفِ تلك الجنود بإحراق المنازل بل ذبحت الأهالي المخلدين إلى السكينة، ولقد رأيتهم يدفنون ثمانين من أولئك المساكين وأبصرت بعيني بعض الجثث مطروحة، وطفلًا رضيعًا سُحقت ميمنة وجهه بضربة شديدة من خشبة بندقية أو رفسة بكعب، وفتاة بين السادسة والسابعة من العمر مخروقة الجسم بحربة، وكان الناظر يبصر أيضًا بعض جثث أخرى تحت الأنقاض؛ لأن الجنود ذبحت كل من وجدت ولم تُبقِ إلا على عشرٍ من الفتيات …

وحدث أن خمسين من الأهالي لجئوا إلى إحدى الكنائس فأحاط الجانون بهم ثم أحرقوهم فيها، وكان أدلائي جماعة من الشيوخ الذين هربوا قبل وصول الجنود، وبينهم واحد يبكي بكاءً يفطر الفؤاد؛ لأنه خسر كل آله وماله.

أما في سراي فإن الجنود التركية لم تجد وقتًا لسفك الدم، ولكنها صبَّت جام الانتقام على كنيسة يونانية صغيرة، فكسرت ثرياتها بالعصي ومزقت الصور ورمت بالأقذار في المحل المقدس وشوت اللحم هناك ومزقت الإنجيل.

وأشار الموسيو هوشوختر في كتابه إلى إحراق القرى أيضًا، وطالعنا عدة رسائل في وصف فظائع العصابات الألبانية، وهي كلها لا تخرج عما ذكرنا من تلك الأعمال الوحشية.

•••

غير أنه يجب علينا أن نثبت هنا خدمةً للحقيقة والتاريخ أن الرسائل التي وقعت إلينا منذ ابتداء الحرب في شأن الفظائع البلقانية هي أضعاف أضعاف الرسائل والفصول المتعلقة بالفظائع التركية والألبانية؛ ولذاك ارتفعت أصوات كثيرة من بلاد الحرية والمدنية اعتراضًا على البلقانيين، فقد نشر الموسيو بيير لوتي الكاتب الفرنساوي الكبير رسائل عديدة في الطعن على جمود أوروبا أمام الفظائع البلقانية، ثم ألَّف منها ومن غيرها كتابه المسمى «تركيا المحتضرة». وإذا قيل أن بيير لوتي مشهور بغلوه في الدفاع عن الأتراك، قدمنا للمعترض شطرًا من المقدمة الآتية التي وضعها السير أدام بلوك رئيس مجلس إدارة الديون العمومية، فإن هذا المالي الذي لم يشتهر بتطرف أو غلو كتب في صدر تقريرٍ عن الفظائع يقول:

كان من المنتظر أن الضغائن الجنسية والدينية التي أوقظت في مقدونيا مدة الخمس والعشرين سنة الماضية، والتي لا تعزى إلى سوء الإدارة العثمانية وحده — تزداد شدةً عند نشوب الحرب، وأسذج ساذج كان يستطيع الإنباء بالنتائج التي لا بد أن تتبع التجاء ممالك البلقان إلى السيف.

قاست مقدونيا في الأشهر القليلة الماضية أكثر مما كانت تقاسيه من سوء الإدارة العثمانية لو دامت سنين جمة. فقد أُضيف إلى فظائع حربٍ هلك فيها مئات ألوف من الرجال إبادة سكان مقدونيا المسلمين، فإن الحرب الحاضرة قامت سوقها بلا اكتراث لقواعد الحروب المعترف بها عند الأمم المتمدنة، وليس من السهل أن نجد لها مثيلًا في الحروب الحديثة بين الممالك الحضرية.

وإن عدم استطاعة المنصورين منع القتال والنهب وسائر الفظائع لا يمكن أن يعود عليهم بالسمعة الحسنة. ولست أعزو إليهم العزم على إبادة العنصر الإسلامي عمدًا، ولكن هذا ما جرى تقريبًا، وسيندم الحلفاء لأن مقدونيا باتت الآن شبه «بيضة فارغة»؛ بلادًا أكلها السيف والنار وأقصى عنها أهلها المسلمون حرَّاث الأرض، بسبب ما نالهم من الضيق والفاقة، وكثير من الذنب على الحلفاء أنفسهم.

إن الحرب وأخذ البلاد إنما يبرَران إذا عادا بالخير والرخاء على أهل تلك البلاد. ومن الممكن — وإن يكن ليس من المؤكد — أن تبديل الحكام يعود بالفائدة على أهل مقدونيا المسيحيين، ولكن من الواضح وضوح النهار أن الحرب لم تفد المسلمين بتاتًا، وخرابهم لا بد أن يكون عظيم الضرر على مستقبل البلاد.

ولستُ أزعم أن الترك كانوا بريئين من الجرائم والفظائع في الماضي أو أنهم لم يسفكوا دمًا بريئًا في الأشهر القليلة الماضية، على أنه لا يمكن أن يكون ميزانان ومقياسان. وصحف أوروبا وفي جملتها صحف إنكلترا التي ذمت فظائع الترك في أزمانها شديد الذم صمتت في هذا الوقت صمتًا غريبًا.

لطالما احترم الشرقي وخصوصًا التركي الرجل الإنكليزي ووثق به لما اشتهر عنه من حب العدل والإنصاف، ولكني أخشى أن يكون هذا الاعتقاد آخذًا في الزوال، وعندي أن شعور التركي بذهاب روح العدل والإنصاف من الإنكليزي إنما يستأصل بالإلحاح في طلب تحقيق تلك الفظائع ومعاقبة المجرمين.

إني لم أشترك في البحث والتحقيق اللذين أفضيا إلى نشر هذا التقرير، ومهما يبد الناس من الشك في صحة جميع التفاصيل المذكورة فيه، فإنه يبقي ما يكفي ليحملنا على الأمل أن أوروبا التي كانت سريعة التصديق لأنباء فظائع الترك لا تنبذ جانبًا تلك الأدلة المعروضة عليها نبذ المستخف بها.

وخطب لورد كرومر في مجلس اللوردة عند تناقش المجلس في مسألة ذبح الجنود البلقانية غير النظامية للمسلمين فقال:

مهما تكن نتيجة الحرب فإني لا أشك أن المسألة المقدونية تبقى بيننا، فقد كان الناس يرجون ويؤكدون أنه متى زال الحكم العثماني من مقدونيا لم نعد نسمع بالمذابح، ولكن خابت آمال الذين يظنون أن الجهاد في سبيل المسيحية هو جهاد في سبيل المروءة والفلاح، وإني أبرئ الحكومة الإنكليزية من كل تهمة إهمال، ولكن لا يسعني إلا المقابلة بين الغيظ الشديد الذي كان بعض الطبقات يظهرونه في بلادنا لما كانت المسألة مسألة ذبح الترك للمسيحيين، وبين ما يظهرونه الآن من شدة الجمود لما صارت المسألة مسألة ذبح المسيحيين للترك.

تلك قطرةٌ من بحر عن الفظائع التي صبغت هضاب البلقان بدم الإنسان، وجلبت على مرتكبيها من العار ما لم تجلبه فظائع القرون الوسطى؛ لأن أهل ذاك الزمن كان لهم عذر الجهل والهمجية، فما هو اليوم عذر أهل هذا العصر الذين طلعت عليهم شمس العلم وقاموا يدعون المدنية؟

إنا طالعنا بحكم مهنتنا الصحافية جميع الأعذار التي انتحلها أصدقاء البلقانيين لهم، وهي تنحصر في ثلاثة وجوه؛ أولها: أن جنود الأتراك والباشبزق فتكوا بالبلقانيين في سالف الزمان، فلا تجد بلغاريًّا ولا صربيًّا ولا يونانيًّا ولا جبليًّا إلا ويسمع من والديه وأجداده وجدَّاته أقوالًا تُشيب الأطفال قبل الرجال، ولا يفتح صحيفة من صحائف تاريخه إلا ويجد فيها ما يضرم نار الحقد في صدره على تركيا. والثاني: أن جميع الجنود في معظم الحروب لم يسلم شرفها من المذمة، ولم يخلُ تاريخها من أخبار القسوة والحوادث المؤلمة في إبَّان تحمسها. والثالث: أن ما نُشر عن تلك الفظائع كان فيه غلو كبير، وأن العصابات هي التي اقترفت معظمه فلا يصح أن يُنسب كله إلى الجنود المنظمة.

فنقول في الوجه الأول: إن مثَل من ينتحل لهم هذا العذر مثَل من يبرئ السارق أو القاتل؛ لأن أناسًا آخرين سرقوا وقتلوا، ثم إن البلقانيين ادَّعوا دعوى عريضة يوم زحفهم، وهي أنهم يريدون رفع المظالم والمغارم عن رعايا تركيا في مقدونيا، فكيف يجوز لمن يدعي تلك الدعوى أن يظلم الأبرياء والضعفاء، وينهك الأعراض، ويتفنن في ارتكاب الفظائع؟ فهم ينهون عن خلُقٍ ويأتون مثله، وهو عارٌ كبيرٌ.

ثم إنهم فوق ذاك كله أعلنوا الحرب باسم الصليب، ورمز الصليب إنما هو الرحمة والرأفة، فأين الرحمة في إحراق الشيوخ والنساء والأطفال في الجوامع والقهوات، أين الرحمة في دفن الشبان وهم أحياء، أين الرحمة في تعذيبهم وتقطيعهم إربًا إربًا أمام والداتهم وفي تدنيس عفة البنات؟ إنا لا ننكر والتاريخ شاهد أن الجنود التركية من باشبزق وغيرها فتكت بالبلقانيين فتكًا ذريعًا في أوقات مختلفة، ولكن مذبحة البلقانيين قبل معاهدة برلين، تلك المذبحة التي اهتزت لها أوروبا من شرقها إلى غربها وشماليها إلى قبليها، بلغ عدد ضحاياها ما بين ١٥ و٢٠ ألف نفس، والمأخوذ اليوم من عدة روايات غير عثمانية أن الذين ذبحتهم الجنود المتحالفة في ولاية واحدة يربو على هذا العدد.

ونقول في الوجه الثاني: وهو أن جميع الجنود في جميع الحروب لا يخلو تاريخها من أنباء القسوة والحوادث المؤلمة؛ أجل إن الروسيين في حرب بولونيا، والألمانيين في حرب السبعين، والإنكليز في حرب الترنسفال، لم تخل أعمالهم من ضروب القسوة والخشونة، ولكن الفرق كبير بين حوادث معدودة تقع هنا وهناك وبين فظائع عامة شاملة يراد بها استئصال جنس من الأجناس، أو إنقاص عدده إلى حيث يتولاه الضعف فلا تقوم له قائمة، ولو كان مبلغ الفظائع البلقانية في حرب البلقان كمبلغ الفظائع العثمانية فيها، أو مبلغ فظائع الألمانيين في حرب السبعين لقلنا إن الجيوش المؤلفة من مئات الألوف لا يمكن أن تكون كلها مدنية مهذبة الطبع كريمة الخلق، بيد أن متسع الفظائع التي تنسب إلى الحلفاء بلغ حدًّا قصيًّا، حتى قال فيه بعض الكُتاب الأحرار: «إنه إذا صحت جميع أخبارها فإن البلقانيين ارتكبوا في خمسة أشهر بقدر ما ارتكبه الباشبزق والجنود التركية في خمسة قرون.»

أما الوجه الثاني أن كون الأخبار المنشورة لا تخلو من غلو كثير وأن العصابات هي التي اقترفت معظم الفظائع، فهو ما يعجز مثلنا عن تكذيبه قبل التحقيق، ونحن لم نرَ لسوء طالع الإنسانية ولسوء سمعة أوروبا أن أصوات الأحرار الذين طلبوا التحقيق وقعت في آذان مصغية مفتوحة، على أنَّا نعود فنذكر هنا الملاحظة التي قدمناها، وهي أن تلك العصابات مشت إلى تراقيه ومقدونيا بأوامر من حكوماتها التي جعلت لها مهمات معينة، وحكوماتها أعرف الناس بالفظائع التي ارتكبتها سحابة أعوام في القرى المسيحية نفسها لأجل النفوذ السياسي، فإن العصابات اليونانية كانت تفتك بالأهالي البلغاريين، والعصابات البلغارية كانت تجر ذيل الخراب والدمار على القرى اليونانية وهلم جرَّا، أفما كان الواجب الإنساني يقضي على تلك الحكومات التي رفعت الصليب يوم زحفها بأن تأمر زعماء تلك الشراذم القاسية بالوقوف عند حدِّها؟ لا ننكر أن ضبط زمامها صعب ولكن الحكومات كان يمكنها بما عندها من الحول والقوة أن تخفف كثيرًا من جرائمها وفظائعها، ولكنها لم تفعل، فلم يجد المنصفون لإهمالها مبررًا.

على أن اللوم ليس كله عليها بل يجب أن يلقى شطر كبير منه على أوروبا؛ لأنها لو تحركت للفظائع التي جرت في الشهرين الأولين، كما فعلت أيام ارتكبت الجنود العثمانية آثامها قبل معاهدة برلين في بلاد البلغار؛ لاضطرت الحكومات البلقانية إلى إيقاف تيار الهول، ولكان نصرها باهرًا نقيًّا من الشوائب والمخجلات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤