المذكرات الحربية لمحمود مختار باشا قائد الفيلق الثالث

لما وصلنا في هذا المؤلَّف إلى هنا وقفنا على خلاصةٍ لمذكرات القائد الباسل محمود مختار باشا، فلم نشأ أن نختم مباحثنا عن الحرب البلقانية الأولى بدون أن نذكر مجمل رأي هذا القائد الكبير الذي يمكنه أن يتقلد سيفه وهو مرتفع الرأس.

وقبل الكلام على آرائه يجمل بنا أن نذكر هنا أنه قدم مذكراته للأبطال الذين أنقذوا شرف السيف العثماني في تلك الحرب، كشكري باشا وأسعد باشا ووهيب بك ورضا باشا. ولا عجب فإن الشجاع يحب الشجاع.

أما وجوه الانتقاد التي ذكرها فمن أهمها أن القيادة العامة كانت تبني حسابها على العدد لا على القوة الحقيقة ومقدرة الفرق، فلما احتشد في أدرنه وغيرها من تراقيه نحو ١٥٠ ألف جندي، ظن ناظم باشا أن الهجوم صار ممكنًا، ولكن سوء حال الجنود ظهر منذ أوائل الحرب، بدليل أنه بدء بالأعمال الحربية في ١٨ أكتوبر سنة ١٩١٢، وما جاء ٢٠ منه حتى أُصيب قسم من الجنود بهلع شديد تحت جنح الظلام، فتفرق شملهم أمام قوة ضعيفة من الأعداء، ثم حدث مثل ذاك الهلع في بترا فانخلعت القلوب وتقهقرت الجنود إلى قرق كليسا نفسها بلا موجب، وبات فريق من الضباط لا يفكر إلا في نفسه وأهله، فتركوا جنودهم ورحلوا. وكان معظم هؤلاء الضباط من القرى المجاورة فاغتنموا فرصة الظلام لينسلُّوا إلى قراهم.

ثم وصف محمود مختار باشا المنظر الأليم الذي شهده يوم التقهقر من قرق كليسا، فقال: «إني رأيت المدافع والأسلحة مطروحة على طريق ويزه، والجنود والفلاحين هاربين هائمين، ودلائل الفزع والهلع بادية على وجوههم، فأضاعوا نصف مدافع الفيلق وقدرًا كبيرًا من صناديق الذخيرة والأمتعة. وكان ذاك المنظر فاجعًا أليمًا لا يوفيه حقه من الوصف إلا قلمُ أميل زولا. وليس هذا كله نتيجة كسرة طاردنا العدو على أثرها بل هو نتيجة رعب لم يذكر التاريخ العسكري مثله، فإن البلغاريين فازوا فوزًا عظيمًا بلا قتال شديد والجنود العثمانية فشلت وهربت بلا سبب قاهر.»

ثم روى المؤلف أن أحد القواد الذين كانوا تحت إمرته كتب إليه يقول: «لقد كان من أشد الصعوبات قيادتنا لطوابير لا يعرف جنودها كيف يستخدمون بنادقهم، ولا يستطيع رؤساؤها أن يأتوا أقل حركة قبل أن أصدر إليهم الأوامر وأذهب لتنفيذها، وكان بعض الرؤساء إذا صدر إليه أمر رأيته كمن يُريد البكاء والعويل، وظهر في أدنى مظاهر الذل رجاء أن يتملص من عبء تنفيذه.»

ثم تطرق إلى تنظيم الفيلق الثالث بعد ذاك الخطب فذكر أنه تمكن من تأليفه، وإضافة فرقتين إليه وقاتل العدو منذ ٢٨ أكتوبر إلى أول نوفمبر شرقي بونار حصار فألحق به خسارة كبيرة، وبعد معركة لوله بورغاز تقهقر مع الجيش كله إلى جتالجه حيث ألفت القيادة العامة هناك ثلاثة فيالق ثم فيلقًا احتياطيًّا، وبقي محمود مختار باشا مستلمًا قيادة الفيلق الثالث منها حتى أصيب بجرح بالغ في ١٨ نوفمبر، فنُقل إلى الأستانة ثم عُين سفيرًا في برلين وما زال فيها حتى صدور هذا الكتاب.

وبعد أن بحث المؤلف في أسباب الفشل التي لا يخرج معظمها عما ذكرناه ختم بالعبارة الآتية:

وصفوة القول أن البلغاريين لم يغلبونا بل نحن كنا ضحيَّةً لسوء إدارتنا وغلطاتنا، فيجب علينا أن ننظر نظرة صادقة في أحكامنا على أنفسنا، وأن نعود إلى قواعد متينة سواء كان من الوجه الأدبي أو الاجتماعي أو الحربي أو السياسي، وإذا كانت الدروس القاسية التي تلقيناها لا تكفي لتسييرنا في طريق الخلاص فلا شك أنَّا صائرون مصير بولونيا.

كان أجدادنا قبيلة من الرُّحَّل، فنهض بهم جدهم إلى مقام دولة عالمية عظيمة، ثم جاءت عدة أسباب فأودت بالجهد الذي بذله أولئك الأجداد الأبطال، فإذا لم نستأصل تلك الأسباب أوشكنا أن نضيع استقلالنا، بل السلطنة كلها.

تلك صرخة عثماني لم يضن على دولته بالنفس ولا بالنفيس، جعل الله لصداها رنة في قلوب العثمانيين طرًّا لعلهم يصلحون فيفلحون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤