تحالف دول البلقان وكيفَ كانَ

ما كان يدور في خلد أحد، ولا يمر على مرآة الخيال أن اليونانيين الذين كانت عصاباتهم في مقدونيا تحرق القرى البلغارية وتمثل بأهلها تمثيلًا، وأن البلغاريين الذين ما وجدت عصاباتهم يُونانيًّا إلا جندلته قتيلًا، يمكنهم أن يكونوا حلفاء في السراء والضراء، على أن المصلحة تفعل العجائب وهي التي أرتنا أعجوبة ذاك التحالف الذي كانت أوروبا نفسها تحسبه مستحيلًا.

وليس بين أيدينا من الجرائد الأوروبية التي طالعناها منذ نشوب الحرب إلى اليوم، ولا من الكتب الستة التي ظهرت حتى الآن في موضوعنا ما هو أجدر بالمطالعة من الفصل الذي أنشأه الموسيو ريني بيو مراسل التان الحربي، الذي زار عاصمة الصرب وعاصمة البلغار وحادث كبار ساستها قبل أن سافر إلى ساحة القتال، وإليك صفوة ما قال:

ليت شعري كيف جهلت أوروبا إلى هذا الحد ما وضعته الدول البلقانية من المشروعات واتخذته من القرارات، ثم كيف قدرت تلك الدول نفسها التي طالما ظنوا أنها معادية بعضها لبعض، على عقد التحالف الذي سيمكنها من التغلب على الدولة التركية الضخمة؟!

أرى من المفيد لجلاء هاتين النقطتين أن أذكر حديثًا دار بيني وبين الموسيو سبالايكوفتش معتمد الصرب في عاصمة البلغار الذي كان كاتب سر عام في وزارة الخارجية الصربية، والذي يرجع إليه وإلى الملك فردينان فضل المحالفة التي عُقدت في ١٣ مارس سنة ١٩١٣.

ثم روى أن المعتمد المذكور أخبره بأن الغرض من الحرب هو إزالة «الحالة المؤلمة التي تضغط على الحياة الوطنية في البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود، وأن الإصلاح المقدوني لم يكن مأمولًا لا من تركيا ولا من الدول»، إلى أن قال: «إن أوروبا ارتكبت غلطتين؛ الأولى: أنها تأخرت في سعيها إلى منع الحرب، والثانية: أنها أخطأت في تقدير غايتنا ومقدرتنا على العمل، فقد كان الواجب أن تهتم بحل المشكلة البلقانية في اليوم الثاني لإعلان الحرب بين تركيا وإيطاليا، لا منذ ثلاثة أسابيع حين اضطرتنا التعبئة العثمانية إلى القيام بتعبئة عامة، ولا منذ أربعة أو خمسة أشهر عندما شاع خبر الاتفاق بين الصرب والبلغار، أو بعد سفر الموسيو بوشكوفتش إلى أثينا حيث كانت المسألة البلقانية شغله الشاغل، ألا كيف غاب عن السياسة الأوروبية أن الدول البلقانية وجدت الفرصة التي ترجوها وتنتظرها من زمن طويل، وأنها ستعمد إلى اغتنامها لتحل المسألة القديمة؛ إن السنة التي مضت على الحرب العثمانية الإيطالية مكنتنا من عقد روابط اتحادنا، وجعلت الموسيو جيشوف «رئيس الوزارة البلغارية» المعروف بميله إلى السلم وإلى تركيا، يطلب الحرب بعزمٍ راسخٍ ويُمسي من أقوى نصرائها.»

غير أنه يجدر بنا أن نعترف هنا بإسرافنا في الوقت قبل أن نفذنا الفكرة السياسية الحكيمة التي أبداها أستاذي المأسوف عليه ميلوفانوفتش، أعني فكرة الاتحاد السياسي بين الصرب والبلغار، فإن الأستاذ المشار إليه هو الذي أظهر وجوب العمل لعقد ذاك الاتحاد مخافة أن يجيء التيار الغربي فيجرف الأمتين، وأول خطأ ارتكبته أوروبا: هو أنها لم تدرك منذ مدة أن عقد هذا الاتفاق سيتم بحكم الضرورة.

أما الخطأ الثاني الذي ارتكبته أيضًا: فهي أنها بقيت تنظر إلينا بعين غلادستون، فلا تحسبنا قادرين على تجنيد ٧٠٠٠٠٠ جندي وإرسال ١٥٠٠ مدفع إلى مواقع القتال، ولا تعدُّنا إلا أطفالًا في الأسرة الأوروبية الكبرى، ثم أَلِفَت هذا الفكر إلى حدِّ أنها باتت تعتقد أن هؤلاء الأطفال يكفيهم أن يُعنَّفوا ولا يُطعموا إلا الخبز الجاف ليخلدوا إلى السكينة، وفاتَها أنَّا بلغنا سن الرجال وطلبنا حريتنا في العمل.

عبأنا جيوشنا فلقَّبُوا تعبئتنا بخدعة كبيرة النفقة، وإن هذا القول إلا جهلٌ تامٌ للحالة الراهنة، ويظهر أن الدول العظمى أصبحت لا تدرك معنى السياسات الوطنية التي لا تسير طبقًا لمصالحها المادية.

ثم كرر هذا المعتمد الصربي أن الغاية من الحرب إنقاذ إخوانه البلقانيين ومحو السلطة التركية، ثم قال:

ألا كيف يكون المستقبل وكيف يكون حكم السيف؟ إن الجواب لا يستطيعه أحدٌ الآن، لكن جنودنا ستقاتل قتال الأسُود والبغضاءُ تغلي في قلوبها وحب الانتقام يملأ صدورها، وسيبقى وقتٌ كافٍ لتنظيم البلاد التي سننقذها بعد أن يصدر السيف حكمه، ويجب حينئذٍ على أوروبا التي أخطأت نظراتها في الماضي، أن تفعل ما تقتضيه المصالح الأوروبية العظمى، فإن الاتفاق بين الدول موقوف على ما ستفعله عندئذٍ، ومهما يكن من شأن تضامن الدول على السعي السلمي الذي تدل عليه المذكرة الروسية النمساوية، فإن الذي يستوقف روسيا في أوروبا إنما هو المصالح البلقانية، والضمان الوحيد للتوازن الذي تعيش به الدول اليوم هو اتفاق فرنسا وإنكلترا مع روسيا على العمل يدًا واحدة في مسائل البلقان بعد إسكات المدفع وإغماد السيف.

نقل مراسل التان الحربي هذا الحديث عن سياسي من أعرف ساسة الصرب، ثم فرش للقارئ دخلة المسألة بإيضاحٍ قال فيه:

والواقع أن فكرة الاتفاق بين البلغار والصرب قويت واشتدت بعاصمتي هاتين الدولتين في شهر سبتمبر سنة ١٩١٢؛ أي وقت إعلان الحرب بين تركيا وإيطاليا فأسرع الموسيو مليوفان ميلوفانوفتش وزير خارجية الصرب إلى إرسال منشور سري إلى دول الاتفاق الثلاثي؛ أي روسيا وفرنسا وإنكلترا، ذكر فيه أن الحالة التي نشأت عن الحرب العثمانية الإيطالية من شأنها أن تُحدث تأثيرًا في البلقان، وأن دولة الصرب عقدت العزم على فعل ما تراه واجبًا لحماية مصالحها عند حدوث مشاكل.

وكتب الموسيو هارتويج المعتمد الروسي في عاصمة الصرب (الذي يشتغل منذ سنة ١٩٠٩ بعقد اتحاد بين صقالبة الجنوب) إلى الموسيو سازونوف وزير خارجية روسيا يحول نظره إلى أهمية الحوادث التي يتأهبون لها في شبه جزيرة البلقان، ولكن الحكومة الروسية بقيت جامدة بعد هذا التنبيه، أما الحكومة الصربية فإنها عزمت على العمل وكان معتمدها بالعاصمة البلغارية وقتئذ غائبًا عن منصبه فأصدر إليه وزير الخارجية الصربية أمرًا بالرجوع مسرعًا إلى صوفيا ليشتغل بعقد معاهدة بين دولته والبلغار.

ثم ازداد الأمر خطرًا واستفحالًا في ذاك الوقت بتعبئة جانب من الجيش العثماني في البلقان؛ لأن الحكومة العثمانية تفزَّعت من أن يكون لصدى حرب طرابلس رجعًا قويًّا في البلاد البلقانية، ثم قامت الدولة البلغارية تريد تعبئة جيشها أيضًا. فأخذ وزير خارجية الصرب يُفرغ الجهد في حمل بلغاريا على الصبر والأناة رجاء أن يدخر قوتها إلى ما بعد المحالفة التي كان يشتغل بتمهيد سبيلها؛ لأن هذا السياسي المحنك كان يدرك أن كلًّا من جيش الصرب وجيش البلغار لا يستطيع وحده أن يقهر الجيش العثماني برغم ما عرفه الجواسيس من ضروب الخلل.

ولما وصل الموسيو سبالايكوفتش معتمد الصرب إلى صوفيا كان سبب السلم مضطربًا كل الاضطراب، وملك البلغار يستحم في النمسا، والموسيو جيشوف رئيس وزارته يجول في أوروبا، والموسيو تيودورف وزير المالية ينوب عنه في الرئاسة، فوقعت الوزارة البلغارية في حيرةٍ لا تدري أي نهجٍ تنهج، وإنها لعلى تلك الحال إذا بتلغراف من رئيس الوزارة يطلب فيه إلى زملائه أن يحجموا عن كل قرار ريثما يصل إلى صوفيا ثم أخبرهم بأنه قابل مولاه الملك في المدينة التي كان يستحم فيها وحادثه مليًّا في شأن الحالة.

ثم وصل رئيس الوزارة غير مبطئٍ إلى صوفيا وأخبر زملاءَه بأنه حادث الملك فردينان واتفق معه على الصبر والتؤدة أمام التعبئة العثمانية، وبأنه سافر مع وزير الخارجية الصربية واتفقا أيضًا على وجوب عقد محالفة بين الدولتين. ثم دارت المفاوضة في هذا الشأن بين معتمد الصرب ورئيس الوزارة البلغارية، وفي ١٣ مارس سنة ١٩١٢ تمَّ توقيع معاهدة هجومية دفاعية بين حكومتي صوفيا وبلغراد.

وكانت الحكومة الروسية حامية الصقالبة أول العارفين بذاك الحادث السياسي الخطير في الشرق، ثم تطرق الخبر إلى باريس فلندرا، وأصبح في وسع حكومتي الصرب والبلغار منذ تلك الساعة التاريخية أن تفكرا في مسألة إعلان الحرب على تركيا.

على أنهما رأتا من الحكمة وأصالة الرأي أن تسعيا في إدخال العدو الثالث لتركيا في هذا التحالف الجديد، فأخذتا منذ اليوم التالي في استطلاع طلع اليونان واستجلاء رأي حكومتهم، فوجدتا منها إقبالًا سريعًا على الدخول في سلك المحالفة البلقانية، وكان أكبر أنصارها في العاصمة اليونانية الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة، فأمضت الحكومة اليونانية معاهدة التحالف على «العدو العام» كما يقولون، فلم يبقَ إلا اختيار الوقت الموافق لإيقاظ السيف الهاجع.

سرت ريح هذا النبأ من دواوين السياسيين إلى مكاتب الصحافيين، لكنه أتاهم غامضًا مبهمًا فحاموا حول الموضوع وخبطوا بعض الخبط، ثم تمكنوا من إثبات وجود التحالف، أما الحكومة العثمانية وقتئذ فلم تقم بكل ما وجب عليها من التأهب تلافيًا للشر، بل عززت الجيش بعض التعزيز ولبثت تعتقد أن الخطر غير داهم إما لجهل من معتمديها في عواصم الدول الثلاث وقصورهم عن معرفة ما يُهدد دولتهم، وإما لتطرف رجالها في التفاؤل الحسن وفي الثقة بسياسة أوروبا.

وليس لدينا شك بعد ما قاله معتمد الصرب بالعاصمة البلغارية (كما عرفنا من حديثه المتقدم) في أن الحرب الطرابلسية كانت من العوامل التي جعلت الدول البلقانية تعقد العزيمة وتوطن النفس على إعلان الحرب بلا مهل؛ فلذلك كانت حكومات صوفيا وبلغراد وأثينا تود من صميم القلب أن تفشل الدول في التوسط بين الحكومة العثمانية والحكومة الإيطالية، كما قال الموسيو رينيه بيو، ثم ازداد خوفها من ضياع تلك الفرصة «الفريدة» حين اقترحت الحكومة النمساوية على الحكومة العثمانية أن تتبع طريقة الاستقلال الإداري المحلي (اللامركزية)، وقام في خلدها أن النمسا ما اقترحت هذا الاقتراح إلا وهي تضمر التقدم جنوبًا فتستولي على سنجق نوى بازار، ثم تهبط سلانيك، ثم تجعل ألبانيا كمستعمرة نمساوية، والواقع أنه لا يسع أحدًا أن ينكر سعي النمسا في بسط نفوذها بأنحاء ألبانيا على أيدي رجال الدين كما كانت تفعل في البوسنة والهرسك في سالف الزمان، وهي تدعي حماية الكاثوليك الألبانيين وتنفق في سبيل نفوذها هناك مالًا كثيرًا.

•••

وليس من فضلة الكلام أن نذكر هنا محصل ما نشره الموسيو ﻫ. وجنر الكاتب الحربي الشهير في النمسا، ومراسل «الريشبوت» أيام الحرب البلقانية، فإن هذا الكاتب الذي قربه إليه ملك البلغار ورئيس الوزارة البلغارية عقد فصلًا عن التحالف البلقاني في كتابه المسمَّى «في سبيل الانتصار مع جيش البلغار» نأخذ منه ما يلي:

إن فكرة الحرب البلقانية لم تمتد وتنتشر إلا بعد نشوب الحرب الطرابلسية التي هي أول حرب قاست تركيا الدستورية نيرانها وخاضت معمعانها، وهي التي هيَّجت شوق الحكومات البلقانية «إلى تصفية حساب» المنازعات القديمة دفعة واحدة مع الدولة العثمانية، فعمدت إلى المفاوضة الأولى في ذاك الوقت إرادة أن تنال منها نتيجة قبل أن تضع الحرب الطرابلسية أوزارها. وفي ذاك الوقت أيضًا ذهب مندوبون مقدونيون إلى روما للمذاكرة في الموضوع.

وكان أثر الحرب الطرابلسية على أشده في البلاد البلغارية، حيث يعتقد جماعة من السياسيين منذ زمن طويل أن تضامن الصرب والبلغار واليونان هو أمر ممكن برغم التنازع الذي كان قائمًا بينهم، ثم قويت الفكرة شيئًا فشيئًا حتى اتجهت إليها أفكار الحكومات وكان الموسيو فنزيلوس رئيس الوزارة اليونانية من أشد أنصارها.

ولما كان شهر مايو سنة ١٩١٢، وضع مشروع أولي للتحالف، وجميع القرائن تدلنا على أن دولة الصرب ودولة البلغار هما اللتان تفاوضتا واتفقتا أولًا، ثم أخذت الحكومة البلغارية تفاوض حكومة اليونان، وأخذت حكومة الصرب تفاوض الجبل الأسود وتوقف الحكومة البلغارية على مجرى المفاوضة، والظاهر أن حكومة الصرب هي التي شرعت في تلك الحركة قبل غيرها، وأن الاتفاق بُني أولًا على شئون سياسية واقتصادية لا على مقاصد عدائية، ثم عقد التحالف العسكري قبل نشوب الحرب بمدة قصيرة.

وروى الموسيو وجنر في محل آخر من كتابه أن الموسيو جيشوف رئيس الوزارة البلغارية عقد في فينا اجتماعًا من معتمدي دولته السياسيين في باريس وفينا وروما وبرلين وشاورهم في أمر الحرب، فارتأى معتمدا فينا وبرلين على ما قيل: إن الوقت غير موافق لحل العقدة بحد السيف.

أما معتمد باريس الدكتور ديمتري ستانيسيوف فخالفهما في الرأي، وذهب إلى أن تصريح الدول بعزمها على حفظ خريطة تركيا كما هي لا يُعْتدُّ به ولا يُنظر إليه بعين الجدِّ، ولا سيما أن إحدى تلك الدول (إيطاليا) هبت تخالف ذلك. ثم وافقه الموسيو ريزوف معتمد البلغار في العاصمة الإيطالية وطلب أن لا تُضيِّع بلغاريا فرصة الحرب الطرابلسية كما أضاعت فرصة ١٩٠٨-١٩٠٩.

وأما الموسيو جيشون رئيس الوزارة البلغارية فلم يكن شديد الميل إلى معاداة الدولة العلية، وليس جنوحه إلى المسالمة في ذاك الحين إلا اجتنابًا للمجازفة والمخاطرة، فإن الرجل مثل سائر البلغاريين يدعوهم الطمع والحقد والسياسة والجنس والدين إلى تلقف كل ما يمكن أخذه من يد السلطنة العثمانية. ومما يُذكر هنا كتاب بُعث به إلى الموسيو وجنر (فنشره في صدر مؤلفه)، وروى فيه أن ولاة الأمور العثمانيين قبضوا عليه بمدينة فليبولي في شهر سبتمبر سنة ١٨٧٧ وزجوه في السجن؛ لأنه نشر في جريدة التيمس سلسلة مقالات طعن فيها على الحكومة العثمانية، ثم اتفق له بعد سجنه أن نظر في جريدة تركية اسمها «وقت»، فإذا فيها أن المحكمة أصدرت حكمًا بإعدامه، ولكنه ما لبث أن نجا بأعجوبة — على قوله — من المشنقة، وبعد ذاك الحادث بخمس وثلاثين سنة صار رئيسًا لمجلس النظار البلغاري، ولما عرضت فرصة الانتقام ورآها موافقة لدولته أصبح هو حربًا على تركيا بعد أن كان يبتسم لها ويميل إلى مجاملتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤