الفصل الخامس

معاهدة أنزوس

انحازت أستراليا بطبيعة الحال، بل تلقائيًّا، إلى أمريكا في الحرب الباردة. ومن هذا المنطلق، تُعَدُّ الصورة التقليدية لأستراليا كحليف موثوق به للولايات المتحدة صحيحة إلى حد كبير، غير أنها تشير ضمنًا كذلك إلى ميل الشريك الأصغر إلى التبعية؛ الأمر الذي كان مفقودًا على نحو واضح. اتحدت دولتا المحيط الهادي هاتان كما جرت العادة في رؤاهما حول القضايا الأيديولوجية والاستراتيجية المهمة، غير أن علاقتهما في جوانب أخرى يمكن أن تُوسَم عن جدارة بالاضطراب، لا سيَّما إبان السنوات الشداد المحبطة التي شهدت تطوُّر المواجهة بين الشرق والغرب بعد هزيمة دول المحور مباشرةً. ولم تعكس الصدامات المتكررة بين واشنطن وكانبيرا في أوائل الحرب الباردة أيَّ خلافات أيديولوجية حقيقية بين حكومة حزب العمال الأسترالية والإدارة الأمريكية تحت قيادة الرئيس الأمريكي ترومان. وعلى النقيض من ذلك، كان مثار الخلاف الرئيسي هو إصرار قادة أستراليا من كلا حزبيها الرئيسيين على إقامة علاقة أمنية ملزمة بين أستراليا والولايات المتحدة، وإصرار صانعي السياسات الأمريكيين من كلا الحزبين الرئيسيين بالقدر نفسه، من جهة أخرى، على عدم الشروع في أي شيء من هذا القبيل في ظل الظروف القائمة آنذاك. بعبارة أخرى، أرادت أستراليا تحالفًا بينما تطلعت الولايات المتحدة إلى التعاون، غير أن كلا الطرفين لم يحصلا على مرادهما بالضبط.

fig9
شكل ٥-١: جون كيرتِن.1

(١) حرب المصالح

ظهر توتر العلاقات بين البلدين حتى قبل هزيمة عدوهما المشترك، فصُدِم وزير الخارجية الأسترالي جون كيرتن ووزير الشئون الخارجية هيربرت في إيفات في أوائل عام ١٩٤٢ لدى اكتشاف صياغة الأمريكيين لاستراتيجية «الأطلنطي أولًا» التي أعطت الأولوية الأولى في الحرب لهزيمة ألمانيا لا اليابان؛ الأمر الذي ولَّد شكوكًا قاربت حد جنون الارتياب في نوايا الأمريكيين في منطقة المحيط الهادي.

أدَّى نجاحُ قوات الحلفاء في منطقة المحيط الهادي، على مدار عام ١٩٤٣، إلى تهدئة مخاوف أستراليا تدريجيًّا حيال إمكانية إحراز اليابان للنصر، لتنصبَّ مخاوف أستراليا منذ ذلك الوقت فصاعدًا على تبعات النصر الأمريكي. وبدا أن مخاوف أستراليا تستمد بعض جذورها من تصريحات وزير البحرية الأمريكية فرانك نوكس ورئيس تحرير صحيفة شيكاغو تريبيون روبرت بي ماكورميك التي أوضحا فيها أن حماية أمن الولايات المتحدة بعد الحرب قد تقضي بالاستحواذ على بعض القواعد في مجموعات الجزر التابعة للكومنولث البريطاني وبعض البلدان الواقعة سابقًا تحت الانتداب الياباني على المحيط الهادي. ولم تهدأ المخاوف الأسترالية بتاتًا بما أعلنه وكيل وزارة الخارجية الأمريكية سامنر ويلز من التأكيد على أنه لا توجد نوايا لدى الولايات المتحدة للتدخل في سيادة شعوب جزر هذه المنطقة على أراضيها. فرتَّبَ إيفات لإبرام اتفاقية مشتركة مع نيوزيلندا تؤكد أنه لن تطرأ أي تغييرات سيادية تؤثر على المستعمرات الواقعة جنوب خط الاستواء من دون إقرار كانبيرا وويلنجتون؛ الأمر الذي قُوبِل بالاعتراض في واشنطن كما هو كان متوقعًا. فسخر وزير الخارجية الأمريكي كورديل هل مما يُسمَّى اتفاقية أنزاك، واصفًا إياها بأنها تقترح لمنطقة جنوب المحيط الهادي ما يشبه «مبدأ مونرو»، وأخبر رئيس الوزراء النيوزيلندي بيتر فريزر أنه: «من حيث النبرة والأسلوب؛ فإن الاتفاقية تشبه تمامًا الإجراء الذي اتخذته روسيا إزاء بريطانيا العظمى.» وقد وافقه رئيس الوزراء النيوزيلندي الرأي؛ الأمر الذي عزَّز ميل كورديل هل إلى إبراز إيفات على أنه رأس المشكلة. وقد أشار السفير الأمريكي السابق لدى اليابان جوزيف سي جرو بدوره إلى «قيادة إيفات الجازمة»، ورأى أن سياسة الولايات المتحدة إزاء المشكلات المتعلقة بالأراضي في منطقة جنوب المحيط الهادي «يجب أن تنصبَّ بالدرجة الأولى على منع النزعات التوسعية بعض الشيء — النابعة بالأساس من أستراليا لا من نيوزيلاندا — من تعقيد العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وهولندا بلا داعٍ.» ومن ثمَّ، تشككت كل حكومة في طموحات الأخرى.

لا شك أن جزءًا من المشكلة نبع من شخصية إيفات، فلم يسبق أن نجح دبلوماسي يُؤثِر الصالح العام ويَدِين بالولاء المطلق للغرب في تنفير أكثر مَنْ حرص على استرضائهم كما فعل إيفات؛ فوصفه السير ألكسندر كادوجان، وكيل وزارة الخارجية البريطانية للشئون الخارجية، الذي عُرِفَتْ عنه سخريته اللاذعة بأنه «أكثر رجل مخيف في العالم»، ونوَّه مغتبطًا إلى أن: «الجميع الآن يكره إيفات إلى حد انخفاض أسهمه بعض الشيء وتراجع أهميته.» وحذَّر مختص الشئون القانونية بوزارة الخارجية هنري رايف من أن وجود إيفات بالأمم المتحدة «ينذر بالمشاكل»، ومن أن مزاعمه ليست إلا واجهة لإخفاء طموحات أستراليا في المنطقة. دُهِش كورديل هل بدوره من سوء سلوك إيفات، ورأى ممثل الولايات المتحدة في كانبيرا نيلسون تي جونسون أن «جنون العظمة المتزايد» لدى الوزير الأسترالي يستأهل النقد؛ الأمر الذي كان لا يبشر كثيرًا ببداية علاقة تآلف أو تقارب.

كان الأمر محيرًا للغاية أيضًا؛ إذ لم يكن إيفات بأي حال مناهضًا للولايات المتحدة الأمريكية في سياسته العامة أو تصريحاته الخاصة، بل كان صادقًا عندما أخبر وزير الخارجية الأمريكي جيمس إف بيرنز بأن «قيادة دولتكم هي أساس التسوية في منطقة المحيط الهادي.» لكن العقبة الأساسية كانت في عدم استعداد إدارة ترومان للاضطلاع بالدور القيادي المحدَّد الذي كان في ذهن إيفات. وثمة سببان رئيسيان لذلك؛ أولهما أن إيفات آمن بلا شك أن العلاقات الأسترالية الأمريكية يجب أن يُنظَر إليها كعلاقات بين شريكين متكافئين يقيمان فيما بينهما مشاورات تامة ومؤثرة حول جميع القضايا ذات الاهتمام المشترك. لكن الولايات المتحدة لم تكن على استعداد لاعتبار أستراليا شريكًا مكافئًا لها، ولم يكن صانعو السياسات الأمريكيون على استعداد لقبول حق أستراليا في إبداء المشورة حول القضايا التي لا يُرى فيها مصلحة حقيقية لأستراليا. أما السبب الثاني، ولعله الأهم، فهو قناعة إيفات بضرورة أن تضمن الولايات المتحدة تشكيل تحالف عسكري رسمي مع أستراليا في منطقة المحيط الهادي؛ الأمر الذي رأى الأمريكيون أنه غير مقبول سياسيًّا، ويقف ضد مصالح أمريكا استراتيجيًّا؛ فالإمبراطوريات التي تنشأ بناءً على الاقتراح نادرًا ما تُسيِّر أمورها بسلاسة.

ومن ثمَّ، كانت المواجهة بين أستراليا والولايات المتحدة في الواقع محتمة الحدوث. أبدى إيفات استعدادًا للسماح للبحرية الأمريكية بإقامة قاعدة على جزيرة مانوس في مجموعة الجزر الأدميرالية الواقعة تحت الانتداب الأسترالي، شريطة توفير مَرافق في المقابل للأسطول الملكي الأسترالي في الموانئ الأمريكية. غير أن الأمريكيين آثروا التخلي عن مشروع مانوس، فطالب إيفات الولايات المتحدة بتضمين فقرة في معاهدة السلام التي تبرمها مع تايلاند، تحرم دخول تايلاند في أي اتفاقات خاصة بالسلع الدولية ما لم يسنح لأستراليا بأن تكون طرفًا في هذه الاتفاقيات. وفوق ذلك أخبر إيفات جون آر مينتر، القائم بأعمال الولايات المتحدة لدى كانبيرا، أنه يعتبر تدخل الولايات المتحدة في الشئون التايلاندية عملًا عدائيًّا، فكان رد مينتر هو أن إصرار إيفات على تضمين هذه الفقرة أمر على نفس القدر من العدائية. مضت التسوية السلمية كما خُطِّط لها، ونبَّه وكيل وزارة الخارجية الأمريكية دين جي أتشيسون الرئيس ترومان إلى أن تصور إيفات ﻟ «خطة الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلاندا كدفاع مناظر لخطة الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة وكندا» يجب محاربته بقوة؛ بوصفه تصورًا «سابقًا لأوانه، وغير مستحسَن، ويمكن أن يُشجِّع الاتحاد السوفييتي على المناداة باتفاقيات شاملة مماثلة في مناطق أخرى من العالم بما يضر بمصالح الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة الأمريكية.» ومن هنا، ولضمان تقييد فرص إيفات في الترويج لهذا الأمر بنفسه في واشنطن، نصح نائب رئيس المراسم والتشريفات ستانلي وودوارد بعدم المغالاة في تشجيع قبول طلبات وزير الشئون الخارجية الأسترالي لمقابلة ترومان، فكتب بلهجة حادة: «في حال تحديد موعد للوزير الأسترالي لمقابلة الرئيس ترومان، تأمل الوزارة بشدة أن تتم المقابلة في الموعد الذي يناسب الرئيس لا السيد إيفات.»

وافق أتشيسون، في ٨ يوليو عام ١٩٤٦، على أن تقيم الدولتان علاقات قائمة على تبادل التمثيل على مستوى السفراء بوصفه «نتيجة طبيعية لتزايد أواصر العلاقات الودية والوثيقة بين أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية.» غير أن اختيار المعيَّنين لمناصب السفراء أبرز أن العلاقة تفتقر إلى التماثل إلى حد كبير. كان ريتشارد جي كيسي أول سفير أسترالي لدى واشنطن عام ١٩٤١. وكان السير فريدريك إيجلستون من أكثر الدبلوماسيين الأستراليين حنكة الذين شغلوا هذا المنصب منذ عام ١٩٤٥. أما السفير الأسترالي الجديد وقتها لدى الولايات المتحدة الأمريكية، فكان نورمان جيه ماكين، الذي كان وزيرًا سابقًا ومتحدثًا باسم مجلس النواب الأسترالي وأول رئيس لمجلس الأمن. وعلى النقيض، كان أول سفير أمريكي لدى أستراليا رجل أعمال يُدعَى روبرت باتلر ولم يشغل منصبًا رسميًّا في حكومة الولايات المتحدة إلا قبلها بثلاثين عامًا، عندما كان يشغل منصب نائب محافظ مدينة مينداناو، وقد صنفه درو بيرسون ﮐ «أحد أنبل السفراء الأمريكيين هدفًا، غير أنه أخرقهم.» وقد بدا غير مدرك إلى حد مريع للمسئوليات المتوقعة منه في المناسبات الرسمية، فافتتح معرض لوحات يضم أعمال دُوقة جلوستر بخطبة مقتضبة قائلًا: «أحب الفنون. هذا المعرض هو ما كنا ننتظره.»

مع ذلك، بدا أن باتلر يتمتع بشعبية في أستراليا؛ فحتى أكثر السفراء حنكة لم يكن ليفلح في إصلاح الضرر في العلاقات الأمريكية الأسترالية الذي تسببت فيه مهارة إيفات التي لا تفتر في إغضاب أقرانه الأمريكيين. وسرعان ما نشب جدل مرير آخر حول قرار القائد الأعلى لقوات الحلفاء بالسماح لبعثة يابانية لصيد الحيتان بدخول القطب الجنوبي في موسم الصيد لعام ١٩٤٦-١٩٤٧. زعم إيفات أن القائد الأعلى لقوات الحلفاء اتخذ هذا القرار بمفرده دون استشارة مسبقة لحكومات الحلفاء المعنية كحكومة أستراليا. وقد دعا هذا جورج أتشيسون الابن، المستشار السياسي للولايات المتحدة في اليابان، إلى أن يزعم أنه في حقيقة الأمر ثمة إخطار مسبق على الأقل بقرار القائد الأعلى لقوات الحلفاء، ومن ثمَّ يُعَدُّ تصريح إيفات مخادعًا فيما تضمَّنه من معانٍ. وعلى أي حال، أخبر أتشيسون وزير خارجية الولايات المتحدة جورج سي مارشال بأن:

التصريحات المحرَّفة والانتقادات غير المبرَّرة الصادرة عن الجهات الرسمية الأسترالية اتسمت بالعنف الشديد، وذاعت ذيوعًا كبيرًا في الشرق الأقصى، إلى الحد الذي دعا الولايات المتحدة إلى الحفاظ على مكانتها في اليابان والشرق الأقصى؛ حيث كانت الولايات المتحدة قد اتخذت قرارات في ذلك وأعلنت عنها … ويرى المقربون من المشهد السياسي الأسترالي أن المعارضة الأسترالية منبعها سياسة قائمة على السعي — عبر التصريحات الصارخة — إلى الوصول بأستراليا إلى الهيمنة الفعلية على الشرق الأقصى … وأي ترضية للأستراليين ستقوض بلا شك مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الجزء من العالم.

(٢) منطقة حوض المحيط الهادي

تبيَّن من جديد أن الولايات المتحدة وأستراليا ليستا شريكتَيْ سلام بقدر ما هما غريمتان تتنازعان نزاعًا مريرًا للسيطرة على منطقة حوض المحيط الهادي. ولم يكن النزاع — قطعًا — نزاعًا خطرًا، غير أن ما ارتأت الولايات المتحدة خطورته الشديدة هو ما شكَّله تعنت أستراليا من تهديد للاستراتيجية الكبرى للحرب الباردة المفترض تطبيقها على نحو فعال. ففي ٨ مايو عام ١٩٤٧، في خطبة تُنبئ ﺑ «مشروع مارشال»، ربط أتشيسون بين اليابان وألمانيا بوصفهما «اثنتين من أهم ورش العمل في أوروبا وآسيا؛ حيث اعتمدت هاتان القارتان على إنتاجهما إلى حد كبير قبل الحرب.» لكنهما «عجزتا تمامًا عن بدء عملية إعادة إعمارهما؛ نظرًا لعدم وجود تسوية سلمية.»

كانت العقبة الأساسية التي تعترض إبرام تسوية سلمية مع اليابان هي تشبث إيفات بتبني سياسة صارمة تجاه اليابان، تؤدي في النهاية إلى تدمير قدرة هذا البلد على شن الحروب، وهو ما يستلزم — منطقيًّا — كبح ازدهاره الصناعي ومراقبته بقوة. ظل تهديد اليابان لبقاء أستراليا في حد ذاته حيًّا في أذهان الأستراليين. ومن ثمَّ، رفض إيفات قبول دعوة الأمريكيين لحضور مؤتمر في التاسع عشر من أغسطس عام ١٩٤٧ لمناقشة صياغة مسودة تسوية سلمية مع اليابان، وعقد بدلًا من ذلك مؤتمرًا خاصًّا به في كانبيرا في ٢٦ أغسطس، بدا أنه خُطِّط فيه لخرق واضح لمعاهدة السلام. غير أن إيفات واصل مخالفته للتوقعات، فزار الجنرال ماكارثر في طوكيو في شهر يوليو وغيَّر موقفه على ما يبدو ليتبنى الموقف الأمريكي فيما يخص اليابان، مؤكِّدًا لأتشيسون المتشكك لدى مغادرته أنه «يتمنى تحقيق أقصى تعاون بين الكومنولث البريطاني والولايات المتحدة بالاشتراك مع اليابان.» وصرَّح في الوقت نفسه في كانبيرا للصحافة الأسترالية التي أصابتها الحيرة أنه وجد نفسه والقائد الأعلى لقوات الحلفاء «متفقين على الخطوات اللازم اتخاذها في عملية التفاوض حول معاهدة السلام اليابانية، وحول المبادئ الرئيسية التي يجب أن تشتمل عليها المعاهدة، وحول سبل آلية الإشراف الممكنة على اليابان التي يجب إرساؤها بموجب المعاهدة.» غير أن وسائل الإعلام الأسترالية استطاعت أن تجاري تغير موقف إيفات الواضح بافتراض أنه اكتشف أن الجنرال ماكارثر كان طيلة الوقت يسلك السياسات الأسترالية.

لا شك أن زيارة إيفات لطوكيو — وفقًا لما نقله مسئول وزارة الخارجية الأمريكية روبرت إيه لوفيت لترومان — بَدَتْ وكأنها قد رأبت فجوة كبيرة في العلاقات ما بين البلدين، وأن «إيفات والجنرال ماكارثر قد توافقا على نحو رائع.» ولا شك على الإطلاق في أن إيفات رغب تمامًا في أن يتوافق كذلك مع الرئيس ترومان؛ فقد أكَّد للرئيس أنه صديق ومناصر مخلص له، وامتدحه على ««قوته» الفطرية التي تعززها «إنسانيته» و«اهتمامه» الدائم بالكادحين والمحرومين.» وزعم أنه «لا يمكن لعاقل أن يتشكك في «إخلاصه» التام لقضية السلام ولرخاء البشرية كافةً.» واختتم بنبأ مدهش للغاية صرَّح فيه بأن السفير باتلر «قد فاز بثقة وصداقة كل قطاعات هذا المجتمع.» ولم يكن بإمكان ترومان في ظل هذه الظروف إلا أن يرد على إيفات بأنه يؤمن تمامًا ﺑ «ضرورة أن تشاطر أستراليا الولايات المتحدة علاقة ود قوية.» وأنه يأمل أن يحرص إيفات دائمًا على لقائه كلما جاء لزيارة الولايات المتحدة، الأمر الذي أصرَّ مستشاروه بوضوح على الإقلال منه قدر الإمكان.

لم يكن أمام إيفات إلا أن يأمل في الأفضل؛ ففي إحدى خطبه الأخيرة كوزير شدَّد على أهمية «الحفاظ على «علاقات بلاده» الخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية» التي رأى أن أستراليا تشاركها «علاقة ود وصداقة وثيقة». لكن على النقيض، لم يتوقَّع الأمريكيون من جراء تلك العلاقة إلا المشاكل ما دام إيفات وزيرًا للشئون الخارجية الأسترالية. وكان لوفيت قد حذَّر ترومان، في وقت سابق، من أسلوب إيفات «الحاد المتمركز حول ذاته وخطابه الفظ في المفاوضات والعلاقات الشخصية»، ورأى أنه «لا يمكن دومًا البتُّ بصورة قاطعة فيما إن كانت دوافعه نابعة من وطنية حقيقية أم غرور محض.» وذكرت وثيقة سياسات لوزارة الخارجية الأمريكية بصورة صارمة أن «الموقف الأسترالي إزاء الصراع حول إجلاء الاستعمار عن إندونيسيا لا يعين جهودنا للتوصل إلى نتيجة مُرْضِية … إلى حد أن هذا الموقف من الجانب الأسترالي يعمل على تقويض الجبهة الديمقراطية، وقد تسبَّب — وسيتسبَّب لنا — في الإحراج.» وبالمثل، جاء رأي وزير الدفاع الأمريكي جيمس في فوريستال حول إيفات أنه «كرئيس للجمعية العمومية هو مصدر إزعاج والتباس دائم. قادت أفعاله … إلى حد كبير إلى إضعاف موقف الولايات المتحدة الأمريكية بين الدول المحايدة.»

وحتى الاستخبارات المركزية الأمريكية رأت أن موقف حكومة حزب العمال الأسترالية إزاء الشيوعية يتسم باللين، ونوَّهت للمستقبل إلى أن أخا إيفات كان رئيسًا لإحدى منظمات الجبهات الشيوعية في نيو ساوث ويلز. ورأى القائم بالأعمال الأمريكية في كانبيرا أندرو بي فوستر أن «سياسة إيفات القائمة على المنهج الأكاديمي البحت تجاه المشكلات الدولية» ستظل تقود إلى «معارضة تلقائية تجاه اقتراحات الولايات المتحدة وسياساتها فيما يخص مستقبل اليابان» وأن حكومة حزب العمال الأسترالية بأسرها «تحرص حرصًا شديدًا على وضع أستراليا كدولة مستقلة، وتنظر بعين الشك إلى ما تعده إمبريالية اقتصادية أمريكية، وتصر على ألا تُساق» في الوقت الذي تشارك فيه شعب أستراليا في «افتراض أن الولايات المتحدة ستنقذ أستراليا عندما تأتي الحرب القادمة، إن كانت هناك حرب أخرى، كما فعلت آخر مرة. وهو افتراض قائم على الرضا بالوضع الراهن.» وبدا أن أستراليا تنتظر التمتع بكل مزايا تحالفها مع الولايات المتحدة دون الاضطلاع بمسئولياتها.

ومرةً أخرى، لم ينجح تعيين أمريكا لسفير جديد لدى أستراليا في تحسين العلاقات الأسترالية الأمريكية إلا فيما ندر. فقد كرَّس المحامي ورجل الأعمال مايرون إم كوين فترةَ عمله في كانبيرا بين يوليو عام ١٩٤٨ ومارس عام ١٩٤٩ بالدرجة الأولى لحل المشكلات المتعلقة بالضرائب المزدوجة بين أستراليا والولايات المتحدة؛ الأمر الذي لم يكن في حد ذاته ليستفز الكثير من العداء على جانبي الأطلنطي، غير أن ثائرة إيفات ثارت عندما نُقِل كوين بناءً على طلبه إلى الفلبين قبل إتمام مدة خدمته المقررة في أستراليا. ويبدو أن محاولات إيفات لعرقلة نقله قد ألهمت كوين تعزيزَ مصالح الفلبين على حساب أستراليا؛ فذُهِل وزير الهجرة الأسترالي آرثر إيه كالويل عندما وجد نفسه متهمًا من قِبل كوين في مانيلا بالسعي وراء «إثارة نزاع طويل منفصل مع الفلبين». ولعل دهشة إيفات وسخطه كانا أكبر عندما اكتشف أن كوين كان «مسئولًا تمامًا» — بسبب تصرفات إيفات — عن تحركات تمَّتْ لحمله على إحلال فيليبينو كارلوس بي رومولو محل إيفات في رئاسة الجمعية العمومية، ويُرجَّح أن إيفات كان سيشعر بغضب أكبر إذا ما علم بقرار ترومان بإسناد منصب السفير الأمريكي في كانبيرا إلى عضو الكونجرس المنهزم في ولاية ألاباما بيت جارمان الذي لم يتقدم للمنصب إلا لاحتياجه إلى المال، فقد كتب في طلب تقدمه للوظيفة: «بما أنني أحتاج حقًّا لراتب، فسأقدِّر كثيرًا إسراعك بإسناد هذه الوظيفة إليَّ بأي وسيلة ممكنة.» بل رأى بعض من مناصري ترومان أن جارمان ليس أهلًا لهذه المهمة، رغم إجماعهم على أن كانبيرا ستكون بمنزلة منفى مناسب له. من هنا، كتب الأمين الدولي للاتحاد الدولي للعاملين في مجال الصناعات الخشبية في أمريكا إلى ترومان يقول: «أرى أنك قد رشحت عضو الكونجرس السابق عن ولاية ألاباما بيت جرمان للعمل سفيرًا لدى أستراليا، ويؤسفني سماع هذا. فقد عملنا هنا جاهدين لهزيمته؛ لأنه كان مناهضًا لبرنامجك ولبرنامج حزب العمال، لكن قد يكون من الحكمة مجددًا أن تتيح تعيين العديد من نواب الكونجرس من الجنوب في مناطق نائية.» وحقيقة، قد يبدو أن واشنطن لم تكن تُولِي أولوية كبيرة لتحسين علاقاتها مع حكومة حزب العمال الأسترالية.

كانت إدارة ترومان تعتمد في الواقع على رحيل حكومة حزب العمال مبكرًا ورحيل إيفات معها، ومن ثمَّ عزفت عن المصالحة أو حتى التعاون معها على نحو فعال، وقد وجد الدبلوماسيون الأستراليون أنفسهم في مواجهة مشهد مقلق كان أتشيسون فيه أبعد ما يكون عن الميل إلى الاسترضاء. وكان السفير الأسترالي ماكين قد تقدم آسفًا إلى وزير الخارجية الأمريكي في سبتمبر عام ١٩٤٩ برسالة «عاجلة» كالعادة من إيفات، يُعرِب فيها الأخير عن استيائه لدى علمه بانعقاد مباحثات في واشنطن تتصل بشئون الشرق الأقصى من دون مشاركة ممثل عن أستراليا، الأمر الذي أثار غضب أتشيسون. كانت الرسالة «غريبة للغاية … ويستحيل تمامًا أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم مناقشة أي مسألة تتعلق بالشرق الأقصى إلا بحضور ممثل من أستراليا.» إن إيفات «مدرك تمامًا للموقف ويفهم أننا سنتابع عملنا كما كنا نفعل.» ومن ثمَّ، دعا مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأقصى دبليو والتون باتروورث في الإطار نفسه إلى «عدم إذعان الولايات المتحدة لأي طلب من أستراليا في الوقت الراهن لتقديم ضمانات أمنية لها» إن جدد إيفات المطالبة بإبرام اتفاقية حول منطقة المحيط الهادي نظير موافقة أستراليا على مقترحات الولايات المتحدة فيما يخص عقد تسوية سلمية مع اليابان. وعليه، أشار مسئول شئون المستعمرات ذاتية الحكم جيه هارولد شَلو عشية الانتخابات الفيدرالية الأسترالية إلى أن «الحكومات الأسترالية المحافِظة ستكون أقل ميلًا إلى الكلام الحماسي، وستكون أكثر تعقلًا وأقل عداءً لوجهة النظر الأمريكية.» وفي يوم الانتخابات، كتب السفير «جارمان» إلى ريتشارد جي كيسي، الرئيس الفيدرالي للحزب الليبرالي، مهنئًا إياه مقدمًا على هزيمة حزبه لحزب العمال الأسترالي، وكان هذا ردًّا مثيرًا للاهتمام على جميع بوادر النوايا الطيبة التي قدَّمَها إيفات للديمقراطيين.

ساهم غياب إيفات عن الساحة في تحسين العلاقات الأسترالية الأمريكية وزاد من التوافق، غير أن واشنطن لم تأخذ في الحسبان ما قد تواجهه بدلًا من إيفات. زار جيمس بليمسول، عضو الوفد الأسترالي في لجنة شئون الشرق الأقصى، صديقَه القديم جون إم أليسون مدير مكتب شئون شمال شرق آسيا؛ لينبهه إلى أنه رغم تمنِّي الحكومة الأسترالية الجديدة «التعاون إلى أقصى حد مع الولايات المتحدة الأمريكية في الشأن الياباني»، فإنه «واثق من أن هذا التعاون يمكن أن يغدو أسهل إن تمَّ التوصل إلى اتفاقيات دفاع معينة فيما يخص منطقة المحيط الهادي بين الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا.» وقد يكون إيفات قد اختفى عن الساحة بفعل المعارضة، لكن سياساته ظلَّتْ مطبقة ومعمولًا بها.

في الواقع، اكتسب الأستراليون بطلًا جديدًا كان في العديد من النواحي أكثر حظوة بالاحترام والتقدير من إيفات نفسه. ولم يزعم أحد قط أن وزير الشئون الخارجية الأسترالي الجديد السير بيرسي سي سبيندر تمتع بسعة إيفات الفلسفية ورؤيته الفكرية، لكن أحدًا لم ينكر قط أنه تمتع بسمات أخرى أكثر ملاءمة للساحة الدبلوماسية. خطَّطَ سبيندر في الأصل لمستقبل مهني بصفته رياضيًّا محترفًا، لكنه قرر بدلًا من ذلك مزاولة القانون، حيث أكسبه أسلوب تعامله مع شهود الخصوم لقبًا مثيرًا للإعجاب رغم قساوته؛ وهو «الطائر الجزار». وقد ظهرت مهاراته تلك في الأسبوع الأول له كوزير، عندما مرر سلسلة من الاقتراحات حول التعاون الاقتصادي عبر مؤتمر لوزراء خارجية دول الكومنولث في كولومبو في يناير عام ١٩٥٠، وأطاح بالمعارضة بتسريب خبر إلى الصحف الأسترالية في سيدني يدين «ميل ربوع القوة والنفوذ إلى إبقاء الأمور على ما هي عليه في الوقت الحالي … كامتداد للتفكير السائد خلال فترة الحرب الذي يقدم الشأن الأوروبي على الشأن الآسيوي.»

(٣) البحث عن الأمن الجماعي

كان من أهم الدروس التي تعلمها سبيندر في كولومبو أن اتحاد الكومنولث في حد ذاته لم يكن أساسًا مناسبًا يمكن تشكيل نظام أمن جماعي عليه؛ فزعم أن مسألة إبرام معاهدة دفاع حول منطقة المحيط الهادي «قد أُثِيرَتْ عمدًا بمؤتمر الكومنولث على هذا النحو ليتم رفضها.» ومن ثمَّ، عدَّل حديثه ليلقى استحسان الأمريكيين في خطاب ألقاه في ٩ مارس عام ١٩٥٠ أصرَّ فيه على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة قصيرة المدى لمواجهة «ترسخ الشيوعية في الصين، والخطر الواضح الذي سيترتب على بروزها كقوة نامية في منطقتي الجنوب والجنوب الشرقي من آسيا.» تمثَّلَت المجهودات التي ستُبذَل من أجل «تحقيق استقرار الحكومات وخلق ظروف حياة اقتصادية ومستويات معيشة تفقد الشيوعية في ظلهما ما تثيره من جاذبية فكرية زائفة» في «إجراءات طويلة المدى بالضرورة». وكان من الضروري في الوقت نفسه أن «تدرس فورًا جميع الحكومات — التي تهتم اهتمامًا مباشرًا بالحفاظ على السلام في جنوب وجنوب شرق آسيا، وتهتم كذلك برفع مستوى رخاء البشرية في ظل نظام ديمقراطي — إمكانيةَ إبرام شكل من أشكال المعاهدة الإقليمية للدفاع المشترك من الناحية العملية.»

خدمت الظروف سبيندر أكثر مما خدمت إيفات بدرجة كبيرة. ففي ٢٤ يونيو أبلغ سفير الولايات المتحدة الأمريكية في سول جون موتشيو عن شن «هجوم شديد مختلف عن غارات الدوريات التي اندلعت في الماضي» بلغ في رأيه حدَّ «الهجوم الشامل على جمهورية كوريا». ومن ثمَّ، لم يلبث كيث سي شان، مندوب أستراليا لدى الأمم المتحدة، أن استفسر على الفور — بناءً على تعليمات من سبيندر — عن الخطوة التي يمكن اتخاذها لمقابلة القوة بالقوة، وظنَّ على الأرجح أن الأستراليين في موقف يمكِّنهم من تقديم يد المساعدة في حال قررت الأمم المتحدة اتخاذ إجراء حاسم لمواجهة هذا العدوان. كان سرب الطائرات رقم ٧٧ من سلاح القوات الجوية الملكية الأسترالية متأهبًا للهجوم بالفعل في اليابان؛ حيث كان تحت إمرة إدارة العمليات التابعة لسلاح القوات الجوية الأمريكية الخامس. وفي ٢٩ يونيو، عرضت الحكومة الأسترالية على أتشيسون رسميًّا مساعدة سرب الطائرات إلى جانب المدمِّرة باتان وبارجة شولهافين، وفي صبيحة الثاني من يوليو بدأت طائرات الموستانج التابعة لسرب الطائرات رقم ٧٧ قصف طائرات تي-٣٤ التابعة لكوريا الشمالية، وقصف قوات كوريا الجنوبية التي تسلك الاتجاه نفسه أحيانًا. ولم يكن الأستراليون على وجه التحديد أول من قدَّموا عرضًا إيجابيًّا بتقديم المساعدة للولايات المتحدة، لكنهم كانوا حقيقةً أول من خاض تلك الاشتباكات.

كان أمام سبيندر خيار بديل آخر. قرر ترومان في ٣٠ يونيو إرسال قوات برية تابعة للولايات المتحدة لخوض المعركة في كوريا، واعتبرت هيئة الأركان المشتركة أن «أستراليا قادرة على الإمداد بثلاث كتائب مشاة … وأن هذا الإسهام من جانب أستراليا مطلوب للغاية.» فقرَّر رئيس وزراء أستراليا روبرت جي مينزيز زيارة لندن لاستشارة الحكومة البريطانية قبل تحديد سياسة أستراليا، حيث أُبلِغ هناك بأن البريطانيين يؤيِّدون قراره بعدم توريط القوات الأسترالية في الحرب. وبعدما بلغ مينزيز وسط الأطلنطي عائدًا إلى بلاده، قرر البريطانيون حينها إرسال قواتهم الخاصة. ولما أبلغ الدبلوماسي الأسترالي السير ألان وات سبيندر بنوايا البريطانيين، بدأ سبيندر على الفور في الضغط على القائم بأعمال رئيس الوزراء السير آرثر فادن لإصدار بيان — على مسئوليته ودون استشارة مينزيز أو أي وزراء آخرين — كتبه سبيندر مفاده أن الحكومة الأسترالية قرَّرَتْ توفير القوات البرية اللازمة لخوض المعركة في كوريا استجابة لنداء الأمم المتحدة، وكان توقيت سبيندر مثاليًّا؛ إذ تزامَنَ في الواقع بيانه غير التقليدي إلى درجة كبيرة مع بيان الحكومة البريطانية، ونجحت أستراليا أخيرًا في تصدر صف دول الكومنولث.

بات سبيندر يتطلَّع إلى مقابل لخدماته، غير أن مينزيز عارض تمامًا — تحت ضغط من بريطانيا — فكرةَ إبرام معاهدة بشأن منطقة المحيط الهادي تُستثنَى منها بالضرورة غالبيةُ دول الكومنولث الأخرى، وأخبر فادن بأن يحذر سبيندر من أن هذا المشروع «غير مطروح على خريطة المنطقة.» ووصفه بنفسه بأنه مشروع «بنية فوقية قائمة على أساس من الهلام.» غير أن «الطائر الجزار» لم يتأثر بذلك، وصرَّح سبيندر في المؤتمر السنوي لإدارة نيوساوث ويلز في الحزب الليبرالي، في الرابع من أغسطس، أن «المشاورات بين أعضاء الكومنولث البريطاني ليست دائمًا مُقنِعة أو مؤثرة.» ومن ثم صرَّحَت الحكومة الأسترالية بأنها:

منذ تولِّيها السُّلْطة في ديسمبر الماضي شدَّدَت، بوجه خاص، على رغبتها في تأسيس علاقة وثيقة إلى أقصى درجة مع الولايات المتحدة … وما حدث في كوريا يُعبِّر عن العلاقة الوثيقة التي سَعَيْنا جاهدين إلى تأسيسها، ومن ثم ستسعى الحكومة الأسترالية إلى توثيق أواصر هذه العلاقات أكثر؛ لينشأ على جانبي المحيط الهادي دولتان متفاهمتان يمكنهما العمل مع الديمقراطيات الأخرى في المنطقة؛ بهدف إرساء الاستقرار في هذا الجزء من العالم.

كان بيرسي سبيندر أكثر تحديدًا في خطابه للأمة عشية مغادرته في جولة إلى لندن وواشنطن؛ فصرح بأنه:

يجب على أستراليا أن تسعى لإحياء علاقة العمل الوثيقة التي قامت مع أصدقائنا الأمريكيين خلال الحرب، وهذه العلاقة يجب أن تأخذ في الوقت المناسب شكلًا رسميًّا في إطار معاهدة خاصة بمنطقة المحيط الهادي.

لكن ظلَّ على سبيندر إقناع الأمريكيين بالمعاهدة، وقد قرَّر عن دهاءٍ انتهاج أسلوب المصارحة عندما التقى الرئيس الأمريكي ترومان؛ فأوضح للأخير أن إبرام معاهدة خاصة بمنطقة المحيط الهادي لن يكون له معنى ما لم تكن الولايات المتحدة طرفًا فيها، لكنه فشل تمامًا في إحراز أي تقدم خلال مفاوضاته في هذا الصدد مع حكومات دول الكومنولث الأخرى. فوافق ترومان على مناقشة الأمر مع وزير خارجيته أتشيسون، الذي لم يشعر بالارتياح على الفور تجاه سبيندر، وأخبره على نحو مقتضب بأنه لا يتصور تعرض أستراليا لهجوم عدائي، أو فشل الولايات المتحدة في تقديم المساعدة لها، وفيما عدا هذا لم يقدم أتشيسون سوى:

أحكام عامة حول المصاعب التي تعترض اتخاذ أي إجراءات أمنية إقليمية … والاختلافات الكبيرة بين مجموعات دول شمال الأطلسي ودول غرب المحيط الهادي وآسيا، وهو موقف غدا مكررًا ومألوفًا.

أبدى ممثِّل الولايات المتحدة الخاص جون فوستر دولز تشبثًا برأيه أكثر من أتشيسون عندما التقى سبيندر في حديقة فلاشنغ ميدوز العامة لمناقشة معاهدة السلام اليابانية. بدأ دولز بمواجهة سبيندر — من دون أي مقدمات — بأكثر المواقف الأمريكية تشددًا وعنادًا، مُقدِّمًا إليه وثيقة حذفت أي إشارة على الإطلاق إلى أي قيود على حرية اليابان في إعادة التسلح، الأمر الذي لم يكن سبيندر ليقبل به على الإطلاق، فأخبر دولز بأن أستراليا لن تقبل أبدًا بمعاهدة كهذه، ولم يرَ أن اقتراح دولز بأن تُبقي الولايات المتحدة على بعض القوات التابعة لها في اليابان من شأنه أن يوفر أدنى حماية أمنية لأستراليا. وكان الحل الوحيد من وجهة نظره هو إبرام معاهدة حول منطقة المحيط الهادي، فما كان من دولز إلا أن صرح بأن مخاوف سبيندر من اليابان مغالًى فيها؛ فكان جواب سبيندر هو أن أوجه اعتراض دولز على إبرام المعاهدة مجرد أوهام، ورغم هذا اتفق دولز مع سبيندر على وجوب التوصل إلى تسوية.

fig10
شكل ٥-٢: جون فوستر دولز.2
كانت التسوية التي تم الاتفاق عليها في ٣٠ أكتوبر بين كلٍّ من سبيندر ودولز ودين راسك، بعد عقد المزيد من المباحثات، اقتربت فعليًّا من حيث المبدأ من الموافقة على اقتراح الجانب الأسترالي. تحدَّث سبيندر أمام البرلمان الفيدرالي في كانبيرا مشيرًا إلى مسودة صدَّق عليها راسك وقال:

وجدتُ في الولايات المتحدة الأمريكية مشاعرَ صداقة خالصة إلى أقصى حد تجاه أستراليا والشعب الأسترالي … ولا شك لدي، في هذه اللحظة، في أن هذه الدولة الصديقة ستهب فورًا وعلى نحو مؤثر لمساعدتنا في حال تعرض أستراليا للاعتداء. غير أن ما تتطلع إليه أستراليا ليس مسألة التزامات من جانب واحد … فنحن نتطلع إلى أساس إقليمي دائم لتحقيق الأمن المشترك تتم صياغته طبقًا لميثاق الأمم المتحدة، يرتكز في محوره على التزامات مماثلة للالتزامات التي حددتها الفقرة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي، التي تقضي على وجه التحديد بأن الهجوم المسلح على إحدى الدول الأعضاء يُعَد هجومًا مسلحًا على جميع الدول الأعضاء، ونرغب في أن نرى آلية رسمية تُتخَذ نكون بموجبها شركاء للولايات المتحدة من بين دول أخرى؛ مما سيسمح لنا بالتخطيط على نحو فعال لاستخدام مواردنا وقوتنا العسكرية.

(٤) الحرب الكورية

لعلَّ تطلعات سبيندر كانت ستظل صعبة المنال لولا أن الولايات المتحدة كانت في حاجة ماسة إلى حليف يمكنها أن تعوِّل عليه مع خوض القوات الصينية الحرب الكورية في ٢٥ أكتوبر. فقد أعلن وزير الخارجية البريطاني إيرنست بيفن صراحة أنه لا يستطيع تبنِّي مقترح الولايات المتحدة بأن تدخُّل الصين قد يستلزم قيام قوات الأمم المتحدة بخرق حدود منشوريا. وفي المقابل، حثَّ سبيندر على ضرورة التطرق بوضوح في مجلس الأمن إلى أن استمرار قوات الأمم المتحدة في التزام ضبط النفس أمر غير منطقي ولن يكون في مصلحتها من الناحية العسكرية، وحذَّر الأستراليين من أن الاتحاد السوفييتي يستغل الصين لتضطلع بدوره بدلًا منه سعيًا وراء تحقيق خطة طويلة الأمد للسيطرة على العالم، وشدَّد على أنه في ظل هذه الظروف «يجب ألا نسمح لشيء بالوقوف في وجه الشعوب الحرة، لا سيَّما الشعب البريطاني الذي يقف صامدًا مع الولايات المتحدة في ظل الصعوبات التي تواجهنا.» وقد ساعدت تصريحات سبيندر القوية حول دعم الولايات المتحدة هيئة أركان الحرب المشتركة في التوصل إلى قرار بأن تبدأ الخارجية الأمريكية في أقرب فرصة بَحْثَ سبل إبرام معاهدة سلام لمنطقة المحيط الهادي مع أستراليا، غير أن هيئة أركان الحرب المشتركة لم تكن على استعداد للنظر في احتمال استقبال بعثة عسكرية أسترالية في واشنطن لبحث تفاصيل المعاهدة معها، وكانت وجهة نظرهم التي دعموها بقوة:

من الناحية العسكرية، أي مكاسب يمكن تحقيقها من دعوة الحكومة الأسترالية إلى إرسال بعثة عسكرية رفيعة المستوى إلى واشنطن ستكون مكاسب مؤقتة، وعلى الأرجح لا تُذكَر. ومن ناحية أخرى، ترى هيئة أركان الحرب المشتركة أن قدوم هذه البعثة إلى واشنطن سيؤدِّي إلى أضرار عسكرية خطرة بعيدة الأثر، ولا سيما في ضوء تخطيط الولايات المتحدة في الوقت الراهن لخوض حرب عالمية.

على الرغم من ذلك تزايدت صعوبة تجاهل المساعي الأسترالية؛ إذ تعجَّل سبيندر مرة أخرى إبرام المعاهدة، وصاغ كيث سي شان، مندوب أستراليا بالأمم المتحدة — بناءً على توجيهات سبيندر بالأساس — مسودة قرار أمريكي بمجلس الأمن في ٢٠ يناير عام ١٩٥١ لإدانة ضلوع الصين في الهجوم على كوريا، على الرغم من نصح مينزيز له بتوخي الحذر بناءً على توجيهات لندن. ومن هنا تساءلت صحيفة «إيدج» التي تصدر من مدينة ملبورن الأسترالية، مشيرة إلى تبدل موقف كيث سي شان كثيرًا بناءً على من يلتقيه أخيرًا من مينزيز أو سبيندر: «هل ستكون سياستنا الجديدة هي القبول بأي ما يصدر عن واشنطن؟» ارتأى سبيندر أن تسلك السياسة الأسترالية الجديدة هذا النهج على الأقل حتى يتم توقيع معاهدة منطقة المحيط الهادي، ويُنتزَع النصر. ووفقًا للسير آلان وات، نجح سبيندر في بث درجة من الوئام في العلاقات الأسترالية الأمريكية لم تشهدها هذه العلاقة منذ حرب المحيط الهادي، وقد سهَّل من مجهودات سبيندر في هذا الاتجاه بلا شك عدم وجود معارضة مؤثرة بالبرلمان الأسترالي، خلا معارضة رئيس وزرائه مينزيز في واقع الأمر. لم يكن مفهوم الحزبين المتعارضين موجودًا بمعناه الحقيقي في المناخ السياسي الأسترالي، غير أن حزب العمال كان على أقل تقدير يُقدِّم دعمًا بطريق غير مباشر من خلال استنكار محدودية دعم أستراليا العسكري للولايات المتحدة الأمريكية في كوريا، وقد كانت له أسباب وجيهة في ذلك. فشدَّد رئيس حزب العمال جوزيف بي تشيفلي على أن «المسألة لا تتعلق بطبيعة الحكومة المعيَّنة في كوريا الشمالية أو كوريا الجنوبية، ما يهم هو أن ثمة دولة تعرضت لهجوم وحشي غاشم بما يخالف مبادئ ميثاق الأمم المتحدة.»

رغم هذا كان الطريق لا يزال طويلًا. ظل مينزيز معارضًا لإقصاء البريطانيين عن المباحثات، ووصل دولز إلى كانبيرا في ١٤ فبراير لإجراء المباحثات مع الأستراليين والنيوزيلنديين، مستعدًّا للتظاهر بأن مسألة معاهدة منطقة المحيط الهادي لم تُثَر قط على نحو يرتبط بمعاهدة السلام مع اليابان. وإذا بسبيندر يخبر دولز على الفور بأن الحكومة الأسترالية لن تقبل أبدًا بمعاهدة كالتي يقترحها دولز من دون إجراءات تصاحبها لضمان أمن أستراليا. من جهة أخرى، حثَّ مينزيز سبيندر على عدم الضغط بشدة لإبرام معاهدة دفاع ثلاثية؛ لئلا يجازف بفرص الحصول على ضمان رئاسي على الأقل بتأمين أستراليا ونيوزيلندا، غير أن سبيندر (الطائر الجزار) وعى طبيعة مَنْ يتعامل معه، وأقر دولز في نهاية المطاف بأنه كانت لديه النية طوال الوقت للتباحث بشأن معاهدة منطقة المحيط الهادي. وبعد ثلاثة أيام من الجدل العنيف، اتفقت الوفود الثلاثة على مسودة معاهدة أمن تمثل نص معاهدة أنزوس النهائي مع اختلافات طفيفة.

لم يتغير موقف أستراليا على نحو جذري تجاه الولايات المتحدة الأمريكية مع تغير الحكومة الأسترالية في كانبيرا. وكان إيفات قد حرص على عقد تحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية بقدر ما حرص عليه بيرسي سبيندر. لكن كان وجه الاختلاف الوحيد ببساطة هو أن محاولات إيفات باءت بالفشل فيما أفلحت محاولات سبيندر، كما وقفت الظروف في صف سبيندر على عكس إيفات. وكان سبيندر بلا شك أكثر حنكة في إدارة الأمور، غير أن كل المهارات التكتيكية في العالم ما كانت لتُجدي نفعًا أمام عناد وتصلب رأي أتشيسون ودولز، ما لم يدفع تدخل الصين في كوريا بالولايات المتحدة إلى إبرام معاهدة مع اليابان من دون إبعاد أستراليا، ظهيرتها الصاخبة في منطقة المحيط الهادي. من هنا، كان ماو زيدونج هو العرَّاب الحقيقي لمعاهدة أنزوس، غير أنه لا يمكن الاستهانة بالدور الذي لعبه تعاون الحزبين الرئيسيين بأستراليا في السياسة الأسترالية؛ فقد كان تعاونًا صلبًا، علاوة على أن سبيندر تحالف عامدًا مع الولايات المتحدة كلما سنحت له الفرصة، فيما بدا — في واشنطن على الأقل — أن إيفات يفعل العكس، غير أن إلحاح سبيندر كان ذا هدف في رؤيته. انتُزعت معاهدة أنزوس في نهاية المطاف من واشنطن رغم مخاوف وزارة الخارجية الأمريكية ورغم إصرار هيئة أركان الحرب المشتركة الأمريكية، الذي لا يتزعزع، على أن يظل التواصل مع الأستراليين والنيوزيلنديين في مسائل الدفاع الأمني ظاهريًّا قدر الإمكان.

fig11
شكل ٥-٣: توقيع معاهدة أنزوس في سان فرانسيسكو عام ١٩٥١.3

وُقِّعَتْ معاهدة أنزوس — أو معاهدة الأمن التي ضمت كلًّا من أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأمريكية — في سان فرانسيسكو في الأول من سبتمبر عام ١٩٥١، وصدَّق عليها الرئيس الأمريكي ترومان في ١٥ أبريل ١٩٥٢، ودخلت حيز التنفيذ بعد أسبوعين من إبرامها في ٢٩ أبريل. إذا ما نظرنا إلى هذه الاتفاقية سنجد أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعقد ما سُمِّي باتفاقية سلام «ناعم» مع اليابان، وتأتي منافية للاتهامات التاريخية بتصاغر الطرف الأقل قوة؛ لذا فإن مفاوضات تحالف الأنزوس لم تأتِ إلا بعد مساومات شاقَّة. كان مثار الخلاف الرئيسي، الذي شكَّل نوعًا من المفارقة، هو إصرار قادة الحزبين الرئيسيين بأستراليا على تأسيس علاقة تحالف أمني مُلزمة بين أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، وإصرار صانعي السياسات الأمريكيين من الحزبين المتعارضين في الولايات المتحدة الأمريكية بالقدر نفسه على عدم الشروع في أي إجراء من هذا القبيل. ببساطة، أرادت كانبيرا ضمانًا استراتيجيًّا بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية لها في المرة القادمة التي تُجابِه فيها المشكلات، فيما تطلعت الولايات المتحدة إلى تعاون أو فرصة للاستفادة من موقع أستراليا الجغرافي الفريد في منطقة غرب المحيط الهادي، بالإضافة إلى موقعها السياسي بوجه عام في جنوب شرق آسيا، غير أن كليهما لم يحظَ بما أراد بالضبط، مع احتفاظ قادة أستراليا مستقبلًا بحق النظر إلى التحالف الأمريكي الأسترالي على نحو مختلف قليلًا عن منظور الولايات المتحدة الأمريكية له. يذكر المؤرخ كورال بيل، الذي كان يعمل في وزارة الشئون الخارجية الأسترالية آنذاك، أنه في مختلف الأحوال «كان التفسير الأصيل للاتفاقية بالنسبة إلى صانعي القرار في كانبيرا … أن المنطق الذي استندت إليه المعاهدة هو اعتبار أن المعاهدة — في ٩٠٪ منها — غطاء أمني يقي من تجدد الطموحات اليابانية في منطقة المحيط الهادي، و١٠٪ منها يُعتبَر كبوليصة تأمين للوقاية من الميول التوسعية الصينية مستقبلًا.» فآسيا ستظل دومًا بقعة خطرة بالنسبة إلى أستراليا من دون تدخل الولايات المتحدة الأمريكية الاستراتيجي.

(٥) خاتمة

لم تكن العلاقة بين أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مجرد تناقض؛ فمن ناحية، كان تشاطُرُ علاقةٍ وثيقةٍ بين البلدين هو الوضع المنطقي بين هاتين القوتين اللتين تشكل كلٌّ منهما قارة، واللتين أنجبتهما بريطانيا، وشكلتهما حدودهما، وكلتاهما مهتمتان بقضية الأمن الدولي، وتتشاركان قواسم ثقافية وسياسية مذهلة. ومن جهة أخرى، لم تكن أي علاقة دبلوماسية تنشأ بينهما إلا علاقة غير متوازنة، وهو الأمر الذي فرضته الظروف؛ إذ استطاعت الولايات المتحدة بطبيعة الحال منذ العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر الاعتمادَ على تعداد سكاني يزيد بمقدار خمس عشرة مرة عن تعداد أستراليا، وعلى موارد اقتصادية تَفُوق موارد أستراليا بمقدار تسع عشرة مرة. وكان لهذا التفاوت الكبير في القوى نتيجة حتمية؛ ففي أي شراكة دبلوماسية بين الدولتين كانت الولايات المتحدة تمثِّل أهمية أكبر بكثير لأستراليا مما كانت تمثله أستراليا بالنسبة للولايات المتحدة، ومن ثم يمكن النظر إلى معاهدة أنزوس على أنها انتصار للدبلوماسية الأسترالية.

هوامش

(1) © Bettmann/Corbis.
(2) © Paul Schutzer/Time Life Pictures/Getty Images.
(3) © PA Photos.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤