خاتمة: الحياة الكمية

نجحَت أنثى طائر أبي الحناء الأوروبي التي قابلناها في الفصل الأول في قضاءِ فصل الشتاء، تحت شمس البحر الأبيض المتوسط الساطعة، وهي الآن تتنقلُ بين الغابة غيرِ الكثيفة والأحجار القديمة في قَرْطاج بتونُس، وتُغذي نفسها على الذباب والخنافس والديدان والبذور، والتي كلها عبارة عن كتلةٍ حيوية انبثقَت من الهواء والضوء عبر آلات البناء الضوئي الكمية التي نُطلق عليها النباتات والميكروبات. ولكن الشمس الآن ترتفع في سماء الظهيرة وحرارتها الملتهبة جفَّفت التيارات الضحلةَ التي تمتدُّ في مساراتٍ متعرجة عبر الغابة. وتبدأ الغابة في الجفاف وتُصبح غيرَ موائمة لأنثى أبي الحناء الأوروبية الخاصة بنا. يَحين الآن وقتُ رحيلها.

الوقت الآن آخر النهار، وتطير أنثانا الصغيرة لأعلى لتجثم على غُصن عالٍ من شجرة أرز. ثم تُهندم نفسها بعناية، مثلما فعلتْ منذ عدة شهور، بينما تستمع إلى نداءات طيور أبي الحناء الأخرى التي شعَرَت مثلها بالرغبة في الاستعداد لرحلة طويلة. ومع انخفاضِ آخِر أشعة الشمس تحت الأفق، تُدير منقارَها نحو الشمال وتنشر جَناحَيها وتنطلق في سماء المساء.

تُحلق أنثى طائر أبي الحناء تجاه الساحل الشمال أفريقي، وتستمرُّ في الطيران بطول البحر الأبيض المتوسط، وتسلك الطريقَ ذاتَه ولكن في الاتجاه المعاكس، مثلما فعلتْ منذ ستة أشهُر، تُوجهها مرةً أخرى في ذلك بوصلتُه ذاتُ التشابُك الكمِّي. كل خفقةٍ من جَناحيها يدفعها انقباضُ الألياف العضلية، التي تستمدُّ طاقتها من النفق الكمي للإلكترونات والبروتونات عبر إنزيمات التنفُّس. بعد عدة ساعات، تصل أنثانا إلى ساحل إسبانيا، وتنزل في وادي أندلسيا الذي تُوجَد به أشجارٌ ونهر، حيث تحطُّ وسط غطاءٍ نباتي وفير، يتضمن أشجارَ الصَّفصاف والقيقب والدَّرْدار والألدر وأشجار الفاكهة وشجيرات الزهور مثل الدِّفْلَى، والتي كلها نتاجٌ لعملية بناءٍ ضوئي قائمة على العالم الكمي. تنطلِق جزيئاتُ الرائحة في تجاويف أنفها، محتجِزةً جزيئات مستقبلات الرائحة، ومطلِقةً أحداث النفق الكمي التي تُرسل إشاراتٍ عصبية — عبر القنوات الأيونية ذات الترابط الكمي — إلى دماغها كي تُخبرها أنها على مقربةٍ من زهور الحمضيات، التي يحطُّ عليها النحلُ والحشرات الملقَّحة الأخرى اللذيذة التي ستوفر لها قوتًا إضافيًّا للمرحلة التالية من الرحلة.

بعد عدة أيامٍ من الطيران، تصل أنثى طائر أبي الحناء أخيرًا إلى غابة التنوب الاسكندنافية التي انطلقَت منها قبل عدة أشهر. المهمة الأولى لها هي البحث عن وليف. وصلتْ ذكورُ أبي الحناء قبل عدة أيام، ومعظمها عثر على مواقعَ مناسبة لإقامة أعشاشها التي تُروِّج لها للإناث عبر تغريدها. تنجذب أنثى أبي الحناء إلى طائرٍ يُغرد بألحان شجية خاصة، وتستمتع بالعديد من اليرقات اللذيذة التي جمعها الذَّكر؛ إذ يعتبر ذلك جزءًا من طقس المغازلة. بعد تزاوجٍ سريع، يتَّحد مَنيُّ الذكَر مع بويضة الأنثى وتُنسخ المعلومات الجينية الكمية التي تُشفر الشكلَ والبنية والسمات الكيميائية الحيوية والخاصة بوظائف الأعضاء، وحتى التغريد للزوجين، بنحوٍ لا تشوبه شائبةٌ تقريبًا في جيلٍ جديد من طيور أبي الحناء. ستُوفر الأخطاء القليلة القائمة على النفق الكمي المادة الخام للتطوُّر المستقبلي للنوع.

بالطبع، وكما أكَّدنا في الفصول السابقة، لا يمكننا القطعُ بعدُ بأن كل السمات التي ذكرناها لتوِّنا تندرِج ضمن ميكانيكا الكم. لكن لا شك أن الكثير من الأشياء الرائعة والفريدة عن طيور أبي الحناء، والسمك المهرج، والبكتيريا التي تعيش تحت جليد قارة أنتاركتيكا، والديناصورات التي جابت الغابات الجوراسية، والفراشات الملكية وذباب الفاكهة والنباتات والميكروبات؛ مستمدةٌ من حقيقة أنها، مثلنا، متجذرةٌ في العالم الكمي. لا يزال هناك الكثيرُ الذي يجب اكتشافه، ولكن جمال أيِّ مجال بحثيٍّ جديد يكمُن في الأشياء المجهولة تمامًا. وكما قال إسحاق نيوتن:

لا أعرف كيف أبدو أمام العالم، لكني أرى أنني أبدو كأنني مجردُ صبي يلعب على شاطئ البحر، يُسلِّي نفسه بين الحين والآخَر بالعثور على حَصاة أنعم، أو صَدَفةٍ أجمل من المعتاد، بينما يمتدُّ محيط الحقيقة العظيم غيرَ مكتشَف أمامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤