الفصل الثاني

ما الحياة؟

بدأتْ واحدةٌ من أنجح البعثات العلمية على مرِّ العصور في العشرين من أغسطس ١٩٧٧، حين انطلقت المركبةُ الفضائية «فوياجر ٢» إلى سماء فلوريدا، وتبعتها المركبةُ الفضائية الشقيقة «فوياجر ١» بعد ذلك بأسبوعين. وبعد عامين، وصلت المركبة الفضائية «فوياجر ١» إلى وجهتها الأولى، كوكب المشتري، حيث التقطَت صورًا للسحب الغازيَّة الدوَّارة العملاقة والبقعة الحمراء الضخمة الشهيرة، ثم انطلقت لتُحلق فوق السطح الجليدي لأحد أقمار الكوكب، قمر جانيميد، وتشهد ثوَرانًا بُركانيًّا على قمرٍ آخَر وهو قمر آيو. في هذه الأثناء، كانت المركبة الفضائية «فوياجر ٢» تُسافر في مسارٍ مختلف لتصلَ إلى كوكب زُحل في أغسطس عام ١٩٨١، وبدأت تُرسل إلى الأرض صورًا جميلةً لحلقات الكوكب، بدَت فيها الحلقات وكأنها عِقدٌ مجدولٌ من ملايين الصخور الصغيرة والأقمار. غير أنَّ عَقدًا بأكمله من الزمان تقريبًا قد مرَّ قبل أن تلتقطَ المركبةُ الفضائية «فوياجر ١» في الرابعَ عشر من فبراير ١٩٩٠، صورةً من أروع الصور التي التُقطت على الإطلاق: صورة لِبُقعةٍ زرقاء صغيرة على خلفيةٍ رمادية حبيبية.

على مدار نصف القرن المنصرِم، أتاحت بعثاتُ المركبتَين فوياجر وغيرها من المركبات الفضائية الاستكشافية للبشر أن يمشوا على القمر، وأن يستكشفوا وِديانَ المِرِّيخ عن بُعد، وأن يُمعنوا النظرَ في الصَّحاري الحارقة لكوكب الزهرة، كما أنها مكَّنَتهم حتى من رؤيةِ مذنَّبٍ وهو يندفع إلى الغلاف الجوي الغازي للمشتري. بالرغم من ذلك، فإنَّ جُلَّ ما اكتشفوه هو صخور فحسب، بل كمٌّ كبير منها. يمكن القول بالفعل إنَّ استكشافنا للكواكب الأخرى في مجموعتنا الشمسية كان دراسةً لصخورها، بدايةً من المعادن الكثيرة للغاية التي جلبها روادُ فضاء بعثة أبولو من القمر، أو الشظايا المجهرية للمذنَّب التي جلبَتها بعثةُ ستارداست التي أطلقتها وكالة ناسا، وحتى اللقاء المباشر لمسبار روزيتا مع أحدِ المذنَّبات في عام ٢٠١٤ أو تحليل سطح المريخ من خلال المركبة «كيوريوسيتي روفر»؛ كل ذلك ينطوي على الكثير والكثير من الصخور.

لا شكَّ أنَّ صخور الفضاء أجسامٌ رائعة؛ إذ يُمِدنا تركيبُها وبِنيتُها ببعض الدلائل عن أصل المجموعة الشمسية وتَكوُّنِ الكواكب وحتى الأحداث الكونية التي سبقَت تَكوُّنَ الشمس. لكنَّ معظم غير المتخصِّصين في الجيولوجيا لا يرَون اختلافًا كبيرًا بين مادة الكوندريت المريخية (وهي نوعٌ من النيازك الصخرية غير المعدنية) ومادة التروكتوليت القمرية (وهي حجر نيزكي غنيٌّ بالحديد والماغنيسيوم). على الرغم من ذلك، ثَمة مكانٌ في مجموعتنا الشمسية قد تجمَّعَت فيه المكوِّناتُ الأساسية التي تؤلف الصخور والأحجار، وهي تُوجَد فيه بدرجةٍ كبيرة من التنوُّع في التكوين والوظائف والمواد الكيميائية حتى إنَّ جرامًا واحدًا من المادة الناتجة يتفوق في تنوُّعه على جميع الموادِّ الموجودة في الكون الذي نشهده. ذلك المكان بالطبع هو النقطة الزرقاء الباهتة التي صوَّرَتها المركبةُ الفضائية «فوياجر ١»، وهذه النقطة هي الكوكب الذي نُسميه الأرض. غير أنَّ أكثر ما يَسترعي الانتباهَ أن تلك الموادَّ الخام المتنوِّعة التي تجعل سطح كوكبنا فريدًا للغاية، قد تجمَّعَت معًا لتتشكَّل الحياة.

الحياةُ مثيرةٌ للانتباه. لقد ناقَشْنا بالفعل حاسةَ الاستقبال المغناطيسي المذهلة التي يتمتع بها طائرُ أبي الحناء الأوروبي، لكنَّ تلك المهارة المميزة ليست سوى واحدةٍ من قدراته المتعددة والمتنوعة. فهذا الطائر يستطيع رؤيةَ الذباب وشمَّه وسماعَه واصطيادَه، ويمكنه أيضًا أن يقفز على الأرض أو بين أغصانِ شجرة، ويمكنه التحليقُ وقَطْعُ مئات الأميال بالطيران. والأكثرُ لفتًا للنظر أن هذا الطائر يستطيع، بعد تَلقِّي قدرٍ قليل من المساعدة من زوجه، أن يُشكل مجموعةً كاملة من الأفراخ المماثلة له، وذلك من المواد نفسِها التي تتألف منها كلُّ تلك الصخور. وليس طائر أبي الحناء سوى نوعٍ واحد من بين تريليونات الكائنات الحية القادرة على القيام بتلك العمليات المذهلة والعديد من العمليات الأخرى التي لا تقلُّ عنها في الإبهار.

ثمة كائنٌ آخَرُ مُثيرٌ للانتباه، وهو «أنت» بالطبع. حدِّقْ ببصرك في سماء الليل وستدخل فوتوناتُ الضوء إلى عينَيك؛ ومِن ثَم تُحولها أنسجة الشبكية إلى تيَّارات كهربية ضعيفة تسري في الأعصاب البصرية وتصل إلى الأنسجة العصبية في الدماغ. وفي الدماغ، تُحفز هذه الفوتوناتُ الأعصابَ في نمطٍ أشبهَ بالوميض تختبره في صورة النجم المتلألئ في السماء من فوقك. وفي الوقت نفسِه، يُسجل نسيجُ خلايا الشعر في أذنك الداخلية تبايناتٍ ضئيلةً للغاية في الضغط حتى إنها تصل إلى أقلَّ من واحدٍ على مليار من الضغط الجوي، مما يُولِّد إشاراتٍ عصبيةً سمعية تُنبِّئُك بحفيف الأشجار. علاوةً على ذلك، تعوم حَفنةٌ من الجزيئات في الأنف وتلتقطها مُستقبِلاتٌ شَمِّية مُتخصِّصة، وتُنقَل هُويَّتُها الكيميائية إلى الدماغ كي تُخبرك بقدوم الصيف وتفتُّح زهور نبات العسلة. ثم إنَّ كل حركة صغيرة تصدُر من جسمك، بينما تُشاهد النجوم وتسمع هفيفَ الرياح وتستنشق الهواء، تنتجُ عن العمل المشترك المتناسِق بين مئات العضلات.

وعلى الرغم من روعة العمليات التي تُنفذها أنسجةُ أجسادنا، فإنها ليست بالمُميزة مقارنةً بالعمليات الجسدية التي تقوم بها العديدُ من الكائنات الأخرى التي تعيش معنا على الكوكب. فالنمل قاطعُ الأوراق قادرٌ على حمل ما يزِنُ ثلاثين ضعفًا من وزنه؛ أي: ما يُعادل حَمْل سيارة على ظهرك. ونجد أيضًا أنَّ النمل ذا الفكِّ الصائد قادرٌ على زيادة سرعة فكَّيهِ من صفر إلى ٢٣٠ كم في الساعة في غضون ٠٫١٣ ميللي ثانية، في حين أن سيارة السباق «فورميولا ١» تستغرق وقتًا يبلغ أربعين ألفَ ضِعف ذلك الوقت (نحو ٥ ثوانٍ) للوصول إلى السرعة نفسِها. ويمكن لثعبان الماء الكهربائي الذي يعيش في حوض الأمازون توليدُ ٦٠٠ فولت من الكهرباء القاتلة. ويمكن للطيور أن تطير والأسماك أن تسبح، بينما تستطيع الديدانُ أن تحفر في الأرض، وتستطيع القرودُ التأرجُحَ بين الأشجار. ومثلما اكتشفنا بالفعل، تستطيع العديدُ من الحيوانات بما في ذلك طائر أبي الحناء الأوروبي أن تجد طريقَها عبر آلاف الأميال باستخدام المجال المغناطيسي للأرض. وفيما يتعلق بالقدرة على التخليق الحيوي، فلا شيء يُضاهي الحياة الخضراء على الأرض؛ إذ تجمع معًا جزيئات الهواء والماء (إضافةً إلى بعض المعادن)، فينبت العشبُ وأشجار البلوط والأعشاب البحرية والهندباء وأشجار السيكويا العملاقة والأشنات.

لكلٍّ من الكائنات الحية مهاراتُه الخاصة وسِماته المميزة، مثل حاسة الاستقبال المغناطيسي لدى طائر أبي الحناء أو سرعة الإطباق لدى النمل ذي الفكِّ الصائد، لكن الإنسان يمتلكُ عضوًا ليس لأدائه مثيل. فمهارةُ الحَوسبة التي تتمتَّع بها تلك المادةُ الرمادية اللينة الحبيسة داخل جُمجمة عظمية أعظم من جميع أجهزة الكمبيوتر الموجودة على الأرض؛ فتلك المهارةُ هي التي أنتجَت الأهرامات ونظرية النسبية العامة ومعزوفة «بحيرة البجع» ونصوص «ريجفدا»، وهي التي أنتجَت «هاملت»، ومشغولات «مينج» الخزفية وشخصية «دونالد داك». ولعل الأهمَّ من هذا كلِّه هو أن العقل البشري يمتلك القدرة على «معرفة» أنه موجود.

بالرغم من ذلك، فإن كل هذا التنوُّع في المادة الحية بأشكالها التي لا تُحصى، وتَنوُّع وظائفها الهائل، يتألف بدرجةٍ كبيرة من الذرَّات نفسِها التي وُجِدَت في كُتَل الكوندريت المريخي.

يُعنى السؤالُ الأكبر في العلم، وهو أيضًا أحد الأسئلة المركزية في هذا الكتاب، بكيف تتحوَّل الجزيئاتُ والذرَّات الخاملة في الصخور في كلِّ يوم إلى مادةٍ «حية» تجري وتقفز، وتطير وترتحل، وتسبح وتنمو، وتُحب وتكره، وتشتهي وتخاف، وتُفكر وتضحك وتبكي. صحيحٌ أنَّ الاعتياد يجعلنا نغفل عن ملاحظةِ هذا التحول الاستثنائي، لكن ينبغي أن نتذكَّر أنه حتى مع ما نمتلكُه في هذا العصر من تقنيات الهندسة الوراثية وعلم الأحياء التخليقي، لم يخلق البشر شيئًا حيًّا من موادَّ غيرِ حية تمامًا. إنَّ فشل التكنولوجيا حتى الآن في إنجاز تحوُّلٍ ينفذه أبسط ميكروب على الكوكب بلا جهدٍ يُخبرنا أنَّ معرفتنا بما يؤدي إلى ظهور الحياة غيرُ مكتملةٍ بعد. فهل أغفَلْنا شرارةً حيويةً ما تبثُّ الحياة في الكائن الحي وهي غيرُ موجودة في الجماد؟

غير أنَّ هذا لا يعني الزعمَ أنَّ نوعًا ما من القوة الحيوية أو الروح أو المكونات السحرية هو ما يؤدِّي إلى بثِّ الحياة. فقصتُنا أكثرُ تشويقًا من هذا بدرجةٍ كبيرة. وسنستعرِض بدلًا من ذلك أبحاثًا جديدة تُشير إلى أنَّ قطعةً واحدة على الأقل من القطع المفقودة في أُحجية الحياة، تكمُن في عالم ميكانيكا الكم، حيث يمكن للأجسام أن تُوجَد في مَكانَين في آنٍ واحد وأن تربط بينها اتصالات طيفية وأن تعبُر حواجزَ تبدو في ظاهرها غير قابلةٍ للاختراق. يبدو أنَّ الحياة تضع قدمًا لها في العالَم الكلاسيكي للأشياء اليومية، بينما تغرس قدمَها الأخرى في الأعماق الغريبة والعجيبة للعالم الكمِّي. ولهذا، فسوف نُحاجج بأنَّ الحياة تُوجَد على الحافة الكمية.

لكن هل يمكن حقًّا أن تكون الحيوانات والنباتات والميكروبات محكومةً بقوانينَ طبيعيةٍ نعتقد حتى الآن أنها لا تصفُ سوى سلوكِ الجسيمات الأساسية؟ لا شك أنَّ الكائنات الحية التي تتركَّب من تريليونات الجسيمات هي أشياءُ تُرى بالعين المجردة، ويمكن وصفُها وصفًا وافيًا بالقواعد الكلاسيكية مثل قوانين نيوتن للحركة وعلوم الديناميكا الحرارية، مثلها في ذلك مثل كُرات القدم والسيارات والقطارات البُخارية. ولكي نعرف سببَ احتياجنا إلى عالم ميكانيكا الكم الخفي في تفسير الخصائص المذهلة للمادة الحية، فإننا نحتاج أولًا إلى أن ننطلق في رحلةٍ قصيرة نُناقش فيها الجهودَ العِلمية المَعنيَّة بفَهم ما يُميز الحياة على نحوٍ خاص للغاية.

القوة الحيوية

يتمثَّل اللغز المركزي بشأن الحياة في السؤال التالي: لماذا تتبع المادةُ سلوكًا مختلفًا للغاية عندما يتألَّف منها مخلوقٌ حي، مقارنةً بسلوكها عندما تكون صخرة؟ كان اليونانيون القدماء من أوائل الشعوب التي حاولت الإجابةَ عن هذا السؤال. وقد أصاب الفيلسوف أرسطو، وهو على الأرجح أولُ العلماء العِظام في العالم، في تحديد خصائصَ مُعيَّنة للجمادات يمكن الاعتماد عليها والتنبُّؤ بها؛ ومن هذه الخصائص على سبيل المثال أن تميل الأجسام الصُّلبة إلى السقوط بينما تميل النيران والأبخرة إلى التصاعد، والأجسام السماوية إلى التحرك في مساراتٍ دائرية حول الأرض. غير أنَّ الحياة كانت مختلفة؛ فعلى الرغم من أن العديد من الحيوانات تسقط، فإنها تركض أيضًا، والنباتات تنمو إلى الأعلى، ثم إنَّ الطيور تُحلق في أرجاء الأرض. فما الذي يجعل هذه الكائناتِ مختلفةً عن بقية العالم؟ اقترح المفكرُ اليوناني العظيم سقراط إجابة عن هذا السؤال وسجَّلها تلميذُه أفلاطون إذ قال: «ما ذلك الذي يجعل الجسدَ حيًّا حين يُوجَد فيه؟ إنها الروح.» اتفق أرسطو مع سقراط في أنَّ الكائنات الحية لها أرواح، لكنه قال إنها تأتي في مَراتب مختلفة. أدنى تلك المراتبِ هي التي تُوجَد لدى النباتاتِ وهي التي تُمكِّنُها من النموِّ والحصول على الغذاء، بينما تأتي أرواحُ الحيوانات في مرتبةٍ أعلى حيث إنها وهَبَت تلك الحيوانات الشعورَ والحركة، لكنَّ الروح البشرية هي الوحيدة التي منَحَت أصحابها التفكير والعقل. وبالمثل، اعتقد الصينيون القدماء أنَّ الحياة تدبُّ في الكائنات الحية بفعل قوةٍ معنوية تُسمى «تشي»، تسري في هذه الكائنات. بعد ذلك، دخل مفهومُ الروح في كل الأديان الكبرى في العالم، لكن كُنْه تلك الروح وعلاقتها بالجسد ظلَّا لغزًا.

ثمة لغزٌ آخرُ أيضًا، وهو الموت. لقد كان الاعتقاد السائد أنَّ الأرواح خالدة، فلِمَ تزول الحياة سريعًا إذن؟ تمثَّلَت الإجابة التي توصَّلَت إليها معظمُ الثقافات في أنَّ الموت يُصحَب بمغادرة تلك الروح الواهبة للحياة من الجسد. وحتى وقتٍ حديث للغاية في عام ١٩٠٧، زعم الطبيب الأمريكي دانكان ماكدوجال أنه يستطيع قياسَ الروح عن طريقِ وزن المرضى المحتضرين قبل الموت وبعده مباشرة. وأقنعَته تَجارِبُه أن الروح تزنُ نحو ٢١ جرامًا. غير أنَّ السبب في خروج الروح من الجسد بعد السبعين عامًا تقريبًا المخصَّصة له ظلَّ لغزًا.

على الرغم من أنَّ مفهوم الروح لم يعُد جزءًا من العلم الحديث، فقد فصل على الأقل بين دراسة الجماد والكائن الحي، مما أتاح للعلماء أن يَدرُسوا أسبابَ الحركة في الجمادات دون عبء أسئلة الفلسفة واللاهوت التي عرقلَت أيَّ دراسة للكائنات الحية. إنَّ تاريخ دراسة مفهوم الحركة طويل ومعقَّد ومذهل، لكننا سنُقدم عنه في هذا الفصل نبذةً مختصرة للغاية. لقد ذكَرْنا بالفعل رأيَ أرسطو بشأن نزعة الأجسام إلى الحركة تجاه الأرض أو بعيدًا عنها أو حولها، وقد اعتبر أنَّ تلك الحركات كلَّها «طبيعية». لاحظ أرسطو أيضًا أنَّ الأجسام الصُّلبة يمكن أن تُدفَع أو تُسحَب أو تُرمى، وقد أطلق على كلِّ تلك الحركات اسم «الحركات العنيفة» واعتبر أنها تتولد عن نوعٍ من القوة يُقدِّمه جسمٌ آخر، مثل الشخص الرامي. لكن ما الذي يُنتج حركة الرمي نفسَها، أو تحليق الطائر؟ بدا أنه لا يُوجَد سببٌ خارجي. فزعم أرسطو أنَّ الكائنات الحية قادرةٌ على إصدار حركتها من تِلْقاء نفسها، على خلاف الجمادات، وأنَّ سبب الحركة في هذه الحالة هو روح الكائن الحي.

ظلَّت آراءُ أرسطو عن مصادر الحركة هي السائدة حتى العصور الوسطى، غير أنَّ شيئًا عظيمًا قد حدث بعد ذلك. بدأ علماء (وصفوا أنفسهم حينذاك باسم فلاسفة الطبيعة) في وضع نظرياتٍ بشأن حركة الجمادات بلُغة المنطق والرياضيات. لا يُوجَد اتفاق بشأن المسئول عن هذا التحول الاستثنائي والمثمر الذي شهده الفكرُ البشري، لكنَّ المؤكد أن العلماء العرب والفارسيِّين في العصور الوسطى مثل ابن الهيثم وابن سينا أسهَموا بدورٍ كبير في ذلك، ثم تَبنَّت المؤسساتُ التعليمية الأوروبية الناشئةُ مثل جامعة باريس وجامعة أكسفورد هذا الاتجاهَ. غير أنَّ هذه الطريقة في وصف العالم قد آتت ثمارَها للمرة الأولى على الأرجح في جامعة بادوفا بإيطاليا؛ حيث وضع جاليليو قوانينَ بسيطةً للحركة في صورة صِيَغ رياضيَّة. مات جاليليو سنة ١٦٤٢، وفي السنة نفسِها وُلد إسحاق نيوتن بلنكنشاير بإنجلترا، وقد قدَّم وصفًا رياضيًّا ناجحًا جدًّا لكيفية تغيُّرِ حركة الجمادات بفعل القُوى، ويُعرَف هذا النظام الذي وضَعه نيوتن حتى يومنا هذا باسم الميكانيكا النيوتنية.

كانت قُوى نيوتن أفكارًا غامضة في البداية، لكن ارتباطها صار يتزايد على مرِّ العقود التالية بمفهوم «الطاقة». كان يُقال إن الأجسام المتحركة تمتلك طاقةً يمكن أن تنتقل إلى الأجسام الثابتة التي تصطدم بها، مما يتسبَّب في حركتها. غير أنَّ القُوى يمكن أن تنتقل بين الأجسام «عن بُعد» أيضًا، ومن الأمثلة على ذلك قوةُ جاذبية الأرض التي سحبَت تفاحة نيوتن إلى الأرض، أو القُوى المغناطيسية التي تتسبَّب في انحراف إبرة البوصلة.

في القرن الثامن عشر، شهد التقدمُ العلمي الهائل الذي بدأه جاليليو ونيوتن قدرًا كبيرًا من الزخم، وباقتراب القرن التاسع عشر، كان الإطارُ الأساسي لما عُرف فيما بعدُ باسم «الفيزياء الكلاسيكية» قد اكتمل تقريبًا. بحلول ذلك الوقت، صار من المعروف أنَّ أشكالًا أخرى من الطاقة، مثل الحرارة والضوء، قادرةٌ هي أيضًا على التفاعل مع عناصر المادة والذرات والجزيئات، مما يُؤدِّي إلى زيادةِ درجة حرارتها أو إصدارها للضوء أو تَغيُّر لونها. وكان العلماء يرَون أنَّ الأجسام تتكوَّن من جسيمات تخضع حركتها لقوة الجاذبية أو القوة الكهرومغناطيسية.١ وبِناءً على هذا، قَسَّم العالم المادي — أو ما به من جماداتٍ على الأقل — إلى مجموعتَين مُتمايزتَين وهما المادة المرئية المكوَّنة من الجسيمات، والقُوى غير المرئية التي كانت تؤثر فيما بينها بطريقةٍ لم تكن مفهومةً على نحوٍ جيد آنذاك، سواء فيما يتعلق بموجات الطاقة التي تنتشرُ عبر الفضاء أو مجالات القُوى. لكن ماذا عن المادة الحيوية التي تتكوَّن منها الكائنات الحية؟ مِمَّ تتكون؟ وكيف تتحرك؟

انتصار الآلات

إنَّ الفكرة القديمة القائلة بأنَّ الحياة تُنفَخ في كلِّ الكائنات الحية بفعل مادةٍ ما خارقةٍ للطبيعة أو كِيانٍ ما قد قدَّمَت على الأقل بعضَ التفسيرات للاختلافات البارزة بين الكائن الحي والجماد. كانت الحياة مختلفة وفقًا لهذه الفكرة؛ لأنَّ ما يُحركها هو قوةٌ روحية وليست أيًّا من القوى الميكانيكية المعتادة. لكن هذا التفسير لم يكن وافيًا أبدًا؛ إذ إنه مرادفٌ لتفسير حركة الشمس والقمر والنجوم القائل من خلال الزعم بأنَّ الملائكة تدفعها. الحقُّ أنه لم يكن يُوجَد تفسيرٌ فِعلي لأن طبيعة الأرواح (والملائكة) ظلت غامضةً تمامًا.

في القرن السابعَ عشر، قدَّم الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت وجهةَ نظرٍ مختلفةً تمامًا. كان شديدَ الإعجاب بالساعات والألعاب الميكانيكية والدُّمى الآلية التي كانت مصدرَ التسلية في البلاط الأوروبي حينذاك، وقد ألهمَته آلياتُها طرْحَ زعمِه الثوري بأن أجسام النباتات والحيوانات — بما في ذلك البشر — ليست سوى آلاتٍ معقَّدة تتألفُ من موادَّ تقليديةٍ وتُحركها أجهزة ميكانيكية شبيهة بالمضخات والتروس والمكابس والكامات، وهي خاضعةٌ بدورها إلى القُوى نفسِها التي تحكم حركةَ الجمادات. استثنى ديكارت العقل البشري من نظريته الميكانيكية، وعزا نشاطَه إلى وجود روحٍ خالدة، لكن فلسفته حاولتْ على الأقل أن تُقدِّم إطارًا عِلميًّا لتفسير الحياة في سياق القوانين الفيزيائية التي كان يكتشف أنها تحكم الجمادات.

استمرَّ النهج الميكانيكي البيولوجي على يدِ معاصرٍ قريب للسير إسحاق نيوتن وهو الطبيب ويليام هارفي الذي اكتشف أنَّ القلب ليس سوى مِضخَّةٍ ميكانيكية. وبعد ذلك بقرن، أوضح عالمُ الكيمياء الفرنسيُّ أنطوان لافوازييه أنَّ الخنزير الغيني يستنشق الأكسجين في عملية التنفُّس، ويُخرج ثانيَ أكسيد الكربون، وذلك على نحوٍ شبيه بالنار التي وفَّرَت قوة الدفع في تقنية المحركات البخارية الجديدة. وبناءً على ذلك استنتج أنَّ «التنفُّس عبارةٌ عن ظاهرةِ احتراقٍ بالغةِ البُطء شبيهةٍ بعملية احتراق الفحم إلى حدٍّ كبير». وعلى النحو الذي كان يمكن لديكارت أن يتنبَّأ به، بدا أن الحيوانات لا تختلف كثيرًا عن القاطرات التي تعمل بطاقةِ الفحم التي سرعان ما كانت تنقل الثورةَ الصناعية في ربوع أوروبا.

لكن هل يُمكن حقًّا أن تكون القُوى التي تُحرك القطارات البخارية هي ما تُحرك الحياة أيضًا؟ للإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نفهم كيفيةَ سير القطارات البخارية وصعودها على التِّلال.

طاولة بلياردو جزيئية

ثَمة مجالٌ في العلم يصف كيفية تفاعل الحرارة مع المادَّة ويُدعى «الديناميكا الحرارية»، وقد طُرِحَت فكرته الأساسية في القرن التاسعَ عشَر على يد عالم الفيزياء النمساوي لودفيج بولتزمان الذي اتخَذ الخطوة الجريئة المتمثِّلة في التعامُل مع جزيئات المادة وكأنها مجموعةٌ كبيرة من كرات البلياردو التي تتصادم عَشوائيًّا وتتبع قوانين الميكانيكا التي وضعها نيوتن.

تخيل سطح طاولة بلياردو٢ مقسَّمًا إلى جانبَين باستخدام عصًا متحركة. تقع كلُّ الكرات بما فيها الكرة البيضاء على الجانب الأيسر من العصا، وجميع الكرات مرتَّبةٌ بانتظامٍ على شكل مثلَّث. والآن تخيل ضرب مجموعةِ الكرات بالكرة البيضاء ضربةً قوية أدَّت إلى تحرُّك الكرات بسرعةٍ في كل الاتجاهات، بينما تتصادم بعضُها مع بعضٍ وترتدُّ عن الجدران الصُّلبة للطاولة والعصا المتحرِّكة. تأمَّل ما سيحدث للعصا: ستتعرَّض إلى قوة العديد من الاصطدامات الآتية من جهة اليسار التي تُوجَد فيها الكرات، لكنها لن تتعرَّض إلى اصطدامات من الجانب الأيمن للطاولة حيث لا تُوجَد كُرات. على الرغم من أنَّ حركة الكرات عشوائيةٌ تمامًا، فسوف تتعرَّض العصا — بفعل كل تلك الكرات التي تتحركُ عَشوائيًّا — إلى قوةٍ متوسطة تدفعها نحوَ اليمين مما يؤدِّي إلى توسيع مساحة اللعب الواقعة في الجهة اليسرى وتضييق المساحة الفارغة. لِنتخيَّلْ أيضًا أننا نَستخدِمُ طاولة البلياردو في القيام بوظيفةٍ ما عن طريقِ بناء أداةٍ غريبة مكوَّنةٍ من رافِعات وبَكرات تُوقف حركةَ العصا إلى جهة اليمين وتُعيد توجيهَها حتى تدفع — على سبيل المثال — لعبة قطار لصعود تل.

أدرك بولتزمان أنَّ تلك هي الطريقة نفسُها التي تتبعها المحرِّكات الحرارية لدفع القطارات البخارية الفعلية كي تصعدَ التل، ويجب أن تتذكر أننا نتحدثُ عن عصر الطاقة البخارية. إنَّ سلوك جزيئات المياه داخل أسطوانة المحرك البخاري شبيهٌ إلى حدٍّ كبير بسلوك كُرات البلياردو بعد تفرُّقها جَرَّاء اصطدام الكرة البيضاء بها؛ إذ تتسارع حركاتها العشوائية بفعل حرارة الفرن فتتصادمُ الجزيئات بعضُها مع بعض؛ ومِن ثَم يندفع مكبس المحرك بمزيدٍ من القوة نحو الخارج لتحريك الأعمدة الدوَّارة للمحرِّك والتروس والسلاسل والعجلات في القطار البخاري، ومن ثَمَّ تتولد حركةٌ مُوجَّهة. بعد ما يزيد على قرنٍ من نظرية بولتزمان، لا تزال السيارات التي تعمل بالبنزين تعمل وفقًا للمبادئ نفسِها تحديدًا، باستثناء أنَّ نواتج احتراق البنزين حلت محلَّ البخار.

من الجوانب الرائعة في علم الديناميكا الحرارية أنَّه يتلخَّص فِعليًّا فيما أوضحناه. فالحركةُ المنتظمة في جميع المحركات الحرارية منذ اختراعها تتولَّد عن طريق استخدام متوسطِ حركة تريليونات الذرَّات والجزيئات التي تتحركُ عَشوائيًّا. علاوةً على ذلك، فهو مجالٌ عمومي على نحوٍ استثنائي؛ إذ لا ينطبق على المحركات التي تعمل بالحرارة فحسب، بل على كل الأنماط الكيميائية القياسية التي تحدث عندما نحرقُ الفحم في الهواء، أو نترك مِسمارًا حديديًّا حتى يَصْدأ، أو نطهو وجبة، أو نُصنِّع الفولاذ، أو نُذيب المِلح في الماء، أو نغلي الماء، أو نُرسل صاروخًا إلى القمر. فجميع هذه العمليات الكيميائية تتضمَّن تبادُل الحرارة، وما يُسيرها جميعها على مستوى الجزيئات هو مبادئُ الديناميكا الحرارية التي تعتمد على الحركة العشوائية. الحقُّ أنَّ كل العملياتِ غيرِ البيولوجية (الفيزيائية والكيميائية) التي تؤدي إلى تغييرٍ في عالمنا تستندُ إلى مبادئِ الديناميكا الحرارية. فتياراتُ المحيطات والعواصف العنيفة وتَجْوية الصخور واحتراق الغابات وتآكل المعادن، كلها ظواهرُ خاضعةٌ لقُوى الفوضى الحتميَّة التي تقوم عليها الديناميكا الحرارية. ربما تبدو جميعُ العمليات المعقَّدةِ مُهيكلةً ومرتَّبة في نظرنا، لكنها تقوم في جوهرها على الحركة العشوائية للجزيئات.

هل الحياة فوضوية؟

هل ينطبق الأمر نفسُه على الحياة؟ لِنَعُد إلى طاولة البلياردو، لكننا سنعود إليها في بداية اللعبة والكراتُ مرتبةٌ على شكلِ مثلث. وفي هذه المرة، سنُضيف عددًا كبيرًا من الكرات الإضافية (لنتخيَّل أنها طاولةٌ كبيرة للغاية)، وسنُخطط لأنْ نضربها بقوةٍ بالقُرب من مثلث الكرات الأصلية. مرةً أخرى، ستُستخدَم الحركة العشوائية للعصا القاسمة، التي هي ناتجةٌ عن التصادم، في عملٍ مُفيد، لكن بدلًا من الاكتفاء باستخدامها في دفع قطار لُعبة للصعود على تل، سنخترع جهازًا أذكى. ففي هذه المرَّة، ستقوم آلتُنا التي تُسيرها الحركةُ التي أثارَتْها الارتدادات الفوضوية لكلِّ تلك الكرات بشيء خاص، وهو: الحفاظ على ترتيب الكرات الأصلية على شكلِ مثلَّث في وسط هذه الفوضى. فكلَّما خرجَت إحدى الكُرات من مكانها في المثلَّث بسبب الحركة العشوائية لكرةٍ أخرى، ثَمة جهاز استشعاريٌّ سيكتشف ذلك ويمدُّ ذراعًا ميكانيكيَّةً ليستبدلَ بالكرة المفقودة من المثلث كرةً أخرى مُماثلة لها يأخذها من بين الكرات المتصادمة عشوائيًّا، وربما يسدُّ بها فجوةً في إحدى زوايا المثلث.

نرجو أنَّك تُدرك أن النظام يَستخدِم الآن جزءًا من الطاقة التي توفَّرَت نتيجةَ كلِّ تلك التصادمات العشوائية بين الجزيئات للحفاظ على جزءٍ من نفسه في حالةٍ بالغةِ الترتيب. في الديناميكا الحرارية، يُستخدَم مصطلح «الإنتروبي» لوصف غياب النظام، ومن ثَم تُوصَف الحالات التي تتَّسم بدرجةٍ عالية من الترتيب بأنها تتضمَّن قدرًا ضئيلًا من الإنتروبي. وفيما يتعلَّق بطاولة البلياردو، يمكن القولُ إنها تكتسب طاقةً من التصادمات (الفوضوية) ذات درجة إنتروبي عالية للحفاظ على جزءٍ من نفسِها، وهو مثلَّث الكرات في المنتصف، في حالة (منظمة) ذات درجة إنتروبي منخفضة.

ليس عليك أن تنشغل في الوقت الحاليِّ بكيفية تصميم اختراعٍ صعب كهذا، فالمهم أن شيئًا مثيرًا جدًّا للاهتمام يجري على طاولة البلياردو المحكومة بمفهوم الإنتروبي. فمن خلال الحركة العشوائية للكُرات فقط، يتمكَّن هذا النظام الجديد المتمثل في الطاولة والعصا وجهاز اكتشاف الكرات والذراع المتحرِّكة، من الحفاظ على النظام في نظامٍ فرعي من نفسِه.

لِنتخيَّل الآن مستوًى آخرَ من التعقيد؛ ففي هذه المرة، يُستخدم جزءٌ من الطاقة التي تُوفِّرها العصا المتحركة — وسنُطلق عليها «الطاقة الحرة» للنظام٣ — من أجل «بناء» جهازِ استشعارٍ و«الحفاظ» عليه، إضافةً إلى تشكيلِ ذراعٍ متحركة واستخدام عددٍ كبير من كُرات البلياردو باعتبارها مادةً خامًا لبناء هذه الأجهزة في المقام الأول. الآن، أصبح النظامُ بأكمله قائمًا بذاته، ويُمكنه من حيث المبدأُ الحفاظُ على نفسه إلى ما لا نهاية؛ بشرط تزويده على الدوام بعددٍ كبير من الكرات ذاتِ الحركة العشوائية ومساحة تسَعُ حركةَ العصا.

وأخيرًا، فعلاوةً على حفاظ النظام على نفسِه، سيُنجِز هذا النظام مهمةً أخرى مذهلة: سيستخدم الطاقةَ الحرة المتوفرة للكشف عن كُرات البلياردو والإمساكِ بها وترتيبِها لعمل نسخةٍ من نفسه بالكامل؛ أي: الطاولة والعصا وجهاز اكتشاف الكرات والذراع المتحرك ومثلث الكرات. وبالطريقة نفسِها، ستكون هذه النُّسخ قادرةً على استخدام كرات البلياردو «الخاصة بها» والطاقة الحرة المتوفرة من عمليات تصادُم هذه الكرات لعمل المزيد من مِثل هذه الأجهزة الذاتيةِ الاستدامة. وتلك النُّسخ تصنع المزيدَ من النسخ الأخرى …

حسنًا، ربما خمَّنت إلى أين يُفضي بنا كلُّ هذا. لقد أنشأ مشروعُنا اليدويُّ الخيالي نظامًا قائمًا على كرة بلياردو يُكافئ الحياة. ومِثلما هو الحال مع الطائر أو السمكة أو الإنسان، يستطيع الجهاز الخيالي تعزيزَ ذاته ومضاعفتَها عن طريق استخدام الطاقة الحُرَّة من التصادمات الجزيئية العشوائية. وعلى الرغم من تعقيدِ تلك المهمَّة وصعوبتها، فإنَّ قوتها الدافعةَ تُعتبر بوجهٍ عام هي نفسُها القوةَ المستخدَمة في دفع القطارات البخارية لصعود التلال. في حالة الحياة، تُستبدَل بكرات البلياردو الجزيئاتُ المكتسَبةُ من الطعام، وصحيحٌ أنَّ العملية أكثرُ تعقيدًا للغاية من العملية المذكورة في مثالنا البسيط، لكن المبدأ واحد؛ تُوجَّه الطاقة الحرة المكتسَبة من التصادم العشوائي للجزيئات (وتفاعلاتها الكيميائية) للحفاظ على جسمٍ ما وصُنع نسخةٍ منه.

فهل الحياة فرعٌ من الديناميكا الحرارية فحسب؟ هل نهبط التلالَ حينما نتنزَّه عن طريق العمليات نفسِها التي تدفع القطارات البخارية؟ وهل رحلةُ طائر أبي الحناء لا تختلف كثيرًا عن رحلةِ قذيفة المدفع؟ وهل الشرارة الحيوية للحياة في جوهرها ليست سوى حركةٍ عشوائية للجزيئات؟ للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي أن نتأمَّل البِنية الدقيقة للكائن الحي.

سَبْر أغوار الحياة

حدث أولُ تقدمٍ كبير في الكشف عن البِنْية الدقيقة للحياة في القرن السابعَ عشر على يد «عالم الفلسفة الطبيعة» روبرت هوك الذي أمعنَ النظر في مجهره البدائي، ورأى في شرائحَ رفيعةٍ من شجرة الفلين ما أسماه ﺑ «الخلايا»، وعلى يد اختصاصيِّ المجاهر الهولندي أنطوني فان ليفينهوك الذي ميَّز في قطراتٍ من مياه إحدى البِرَك ما أطلق عليه اسم «الحيوانات الدقيقة»، التي نعرفها الآن باسم الكائنات أحادية الخلية. إضافةً إلى ذلك، فحص ليفينهوك خلايا النباتات وخلايا الدم الحمراء وحتى الحيوانات المَنوية. فُهِم فيما بعدُ أن جميع الأنسجة الحية تنقسِم إلى تلك الوحدات الخَلوية، وأنَّ تلك الوحدات هي وحداتُ بناء أجسام الكائنات الحية. ففي عام ١٨٥٨، كتب الطبيب وعالمُ الأحياء الألماني رودولف فيرشو ما يلي:

مثلما أنَّ الشجرة تُمثل كُلًّا مُرتَّبًا بطريقةٍ محددة، اكتشفنا في جميع أجزائه، سواء أكانت الأوراقَ أم الجذورَ أم الجذعَ أم الأزهار، أنَّ الخلايا هي العناصرُ الأوَّلية المُكوِّنة له، فإنَّ الأمر نفسَه ينطبق أيضًا على جميع أشكال الحياة الحيوانية. فكلُّ الحيوانات تتألف من مجموعةٍ من الوحدات الحيوية، وتتَّسِم كلٌّ من هذه الوحدات بجميع خصائص الحياة.

عندما دُرست الخلايا الحية بقدرٍ أكبر من التفاصيل باستخدام مَجاهرَ أقوى، تبيَّن أن بِنْيتها الداخلية معقَّدة للغاية؛ إذ تحتوي كلُّ خلية على نَواةٍ في المركز ممتلئةٍ بالكروموسومات ومحاطة ﺑ «السيتوبلازم» الذي يحتوي على وحداتٍ فرعية متخصصة تُسمى «العُضَيَّات»، وهي تؤدِّي مَهامَّ محددةً داخل الخلية، على غِرار أعضاء جسم الإنسان. فعلى سبيل المثال، تُوجَد عُضَيَّة تُسمى الميتوكوندريا تؤدِّي وظيفةَ التنفُّس داخل خلايا الإنسان، بينما تُوجَد عُضية أخرى تُسمى البلاستيدة الخضراء تؤدِّي وظيفة البناء الضوئي في الخلايا النباتية. وبوجهٍ عام، يمكن تشبيهُ الخلية بأنها مصنعٌ مصغَّر للغاية منشغلٌ بالتصنيع. ولكن ما الذي يُحافظ على استمرارها؟ ما الذي «يبثُّ الحياة» في الخلية؟ كان الاعتقاد السائد في بادئ الأمر أنَّ الخلية ممتلئةٌ بالقُوى «الحيوية»، وهو اعتقادٌ يتطابق في جوهره مع مفهوم أرسطو عن الروح، وقد ظلَّ هذا الاعتقاد بالمذهب الحيوي؛ أي: بأنَّ ما يبثُّ الحياةَ في الكائنات الحية هو قوةٌ لا تُوجَد في الجمادات، قائمًا على مدار الجزء الأكبر من القرن التاسعَ عشر. فقد كان يُعتقد أنَّ الخلايا ممتلئةٌ بمادة غامضة تُسمى «البروتوبلازم» وُصِفت بمصطلحاتٍ مبهَمة باطنيةٍ للغاية.

غير أنَّ المذهب الحيوي قد ضعُف بسبب أعمال العديد من علماء القرن التاسعَ عشر الذين نجَحوا في عزل موادَّ كيميائية من الخلايا الحية، واتضَح أنها مُطابقة للمواد الكيميائية المصنَّعة في المختبَر. ففي عام ١٨٢٨ على سبيل المثال، نجح عالمُ الكيمياء الألماني فريدريش فولر في تصنيع اليوريا، وهي مادةٌ كيميائية حيوية كان يُعتقَد قبل ذلك أنها خاصةٌ بالخلايا الحية فحسب. علاوةً على ذلك، فباستخدام موادَّ مُستخلَصةٍ من الخلايا الحية (سُمِّيَت فيما بعدُ بالإنزيمات)، نجح لوي باستور في إعادة إنتاج تحولاتٍ كيميائية مثل التخمُّر، وكان يُعتقد سابقًا أن الكائنات الحية تتفردُ بهذه التحولات. وبدأ يتضح على نحوٍ متزايد أنَّ الكائنات الحية تتألَّف من الموادِّ الكيميائية نفسِها التي تتكوَّن منها مادةُ الجمادات؛ ومن ثمَّ فربما تخضع هي أيضًا للكيمياء نفسِها. وتدريجيًّا، راح المذهب الحيوي يُفسح المجالَ للمذهب الميكانيكي.

بنهاية القرن التاسع عشر، كان علماء الكيمياء الحيوية قد تغلَّبوا تقريبًا على أنصار المذهب الحيوي.٤ وصارت الخلايا تُرى باعتبارها مجموعاتٍ من المواد الكيميائية الحيوية تعمل بعمليَّةٍ كيميائية معقَّدة، غير أنها تعتمد أيضًا على الحركة الجزيئية العشوائية الشبيهة بحركةِ كرات البلياردو كما وصفها بولتزمان. وبصفةٍ عامة، ساد الاعتقاد بأن الحياة ليست في حقيقة الأمر سوى نظامٍ معقَّد يخضع لقوانينِ الديناميكا الحرارية.

لكن هذا باستثناءِ وجهٍ واحدٍ منها، ويمكن القول إنه الأهمُّ على الإطلاق.

الجينات

على مدار قرونٍ طويلة، ظلَّت قدرةُ الكائنات الحية على نقل التعليمات نقلًا دقيقًا من أجل استنساخ نفسِها، سواءٌ أكانت طيرًا مثل أبي الحناء أو نباتًا مثل الردندرة أو إنسانًا، لُغزًا مُحيرًا للغاية. في «التمرين التشريحي الحادي والخمسين» الذي ظهَر عام ١٦٥٣، كتب الجرَّاح الإنجليزي ويليام هارفي يقول:

بالرغم من أنَّهُ من المعروف والمتفَق عليه أن الجنين يكتسب أصلَه وميلاده من الذكَر والأنثى، ومن ثَمَّ تنتج البيضة من الديكِ والدجاجة كِلَيهما، ثم يخرج الفرخ من البيضة، فلم تكشف مدارسُ الأطباء أو عقلُ أرسطو الفَطِن عن الكيفية التي يُسهِم بها الديكُ وبذرتُه في تشكيل الفرخ داخل البيضة.

بعد ذلك بقرنَين، اتضح جزءٌ من الإجابة على يد الراهب وعالم النبات التِّشيكي جريجور مندل الذي كان يعمل في عام ١٨٥٠ تقريبًا على تهجين البازلَّاء في حديقة الدير الأغسطيني في برنو. قادته ملاحظاتُه إلى اقتراحِ أن السِّمات مثل لون الزهرة أو شكل حبَّة البازلاء تحكمُها «عوامل» وراثيةٌ يمكن أن تنتقل من جيلٍ إلى آخَر دونما تغيير. وبِناءً على هذا، قدَّمَت «عواملُ» مندل مستودَعًا من المعلومات الوراثية يُتيح للبازلاء أن تحتفظ بسِماتها عبر مئات الأجيال، أو يُتيح «للديك وبذرته تشكيلَ الفرخ داخل البيضة».

لم ينتبِه غالبيةُ مَن عاصروا مندل، بمن فيهم داروين، إلى أعماله التي لم يُعَدِ اكتشافُها حتى أوائلِ القرن العشرين. أُعيدَت تسمية هذه العوامل باسم «الجينات»، وسرعان ما وُظِّفَت فيما شهِدَه القرن العشرون من توافقٍ متزايدٍ في الآراء بشأن الرؤية الميكانيكية لِعلم الأحياء. وصحيحٌ أنَّ مندل قد أوضَح أنَّ تلك الكيانات تُوجَد داخل الخلايا الحية بالتأكيد، لكنها لم تُرَ قط ولم تُعرَف مكوناتها. غير أنَّ عالم الوراثة الأمريكي والتر ساتون لاحظ في عام ١٩٠٢ وجود بِنًى تقع داخل الخلايا تُسمى «الكروموسومات» غالبًا ما تتبع وراثةَ العوامل المندلية؛ ممَّا دفعه إلى القول بأن الجينات تُوجَد داخل الكروموسومات.

لكن الكروموسومات بِنًى كبيرةٌ (نسبيًّا) ومعقَّدة، تتكوَّن من البروتين والسكر ومادة كيميائية حيوية تُسمَّى بالحمض النووي (دي إن إيه). لم يكن واضحًا في البداية أيٌّ من تلك المكونات هو المسئول عن الوراثة. وبعد ذلك في عام ١٩٤٣، تمكن العالم الكندي أوزوالد إيفري من نقلِ جينٍ من خليةٍ بكتيرية إلى أخرى عن طريق استخراج الحمض النووي من الخلية المانحة وحقْنِه في الخلية المستقبِلة. وقد أوضحَت التجرِبةُ أنَّ الحمض النووي الموجود داخل الكروموسومات هو الذي يحمل كلَّ المعلومات الجينية الضرورية، وليس البروتينَ أو غيرَ ذلك من المواد الكيميائية الحيوية.٥ وعلى الرغم من ذلك، لم يبدُ أنَّ الحمض النووي يتَّسم بأي خاصية مميزة؛ إذ كان يُعَد حينها مادةً كيميائية عادية فحسب.

غير أنَّ السؤال قد ظلَّ قائمًا: ما آليةُ عملِ ذلك كله؟ كيف تقوم مادةٌ كيميائية بتوصيل المعلومات اللازمة لتوفير «الكيفية التي يُسهِم بها الديكُ وبذرته في تشكيل الفرخ داخل البيضة؟» وكيف تُنسَخ الجيناتُ وتُضاعَف من جيلٍ إلى الجيل التالي؟ لم يبدُ أنَّ الكيمياء التقليدية التي تقوم على أساسِ جزيئات بولتزمان الشبيهة بكرات البلياردو، تُوفر السبيلَ لتخزين المعلومات الجينية ونَسخِها ونقلِها بدقة.

ظهرَت إجابة هذا السؤال واشتهَرَت في عام ١٩٥٣ حين تمكَّن كلٌّ من جيمس واتسون وفرانسيس كريك — العاملان في مختبر كافندش بكامبريدج — من التوصُّل إلى بِنْيةٍ مميزة تتوافق مع البيانات التجريبيَّة التي استخلصَتها زميلتُهما روزاليند فرانكلين من الحمض النووي، وهي: اللولب المزدوج. تبيَّن أن كلَّ جَديلةٍ من جديلتَي الحمض النووي عبارةٌ عن نوعِ سلسلة جزيئية تتكون من ذراتٍ من الفوسفور والأكسجين ونوعٍ من السكر يُسمى بالريبوز منقوص الأكسجين، وبها بِنًى كيميائيةٌ تُسمَّى «النكليوتيدات»٦ وهي تصطفٌّ على تلك السلسلة مثل حبَّات الخرَز. تأتي حبَّات النكليوتيد في أربعة أشكال وهي: الأدينين (A) والجوانين (G) والسيتوسين (C) والثايمين (T)؛ ومِن ثمَّ تترتَّب على جَديلةِ الحمض النووي في صورة تسلسُلٍ أحاديِّ البُعد من الحروف الجينية مثل GTCCATTGCCCGTATTACCG. كان فرانسيس كريك قد قضى سنواتِ الحرب وهو يعملُ لدى مكتب الأميرالية (وهي الهيئةُ المَنوطة بقيادة القوات البحرية الملكية)؛ لذا فمن المحتمَل أنه كان على درايةٍ بالشفرات، مثل تلك التي كانت تُنتجها آلاتُ «إنيجما» الألمانية، وكانت تُفكُّ في بلتشلي بارك. على أيِّ حال، حينما رأى كريك سلسلةَ الحمض النووي أدرَك على الفور أنها شفرة؛ أي: تسلسلٌ من المعلومات التي تُوفر التعليمات الوراثية البالغةَ الأهمية. ومثلما سنعرف في الفصل السابع، فإن التعرف على بِنْية الحمض النووي ذاتِ الشكل اللولبي المزدوج قد حلَّت مشكلةَ كيفيةِ نقل المعلومات الوراثية. وهكذا بضربةٍ واحدة، تمكن العلماءُ من حلِّ لُغزَين من أكبر الألغاز العلمية.

إنَّ اكتشاف بِنية الحمض النووي قدَّم وسيلةً ميكانيكية حلَّت ألغازَ الجينات. فالجينات موادُّ كيميائية، وليست الكيمياء سوى ديناميكا حرارية؛ فهل أدى اكتشافُ اللولب المزدوج أخيرًا إلى دخول الحياة بالكامل إلى مجال العلوم الكلاسيكية؟

ابتسامةٌ غريبة من الحياة

في روايةِ لويس كارول «مغامرات أليس في بلاد العجائب»، كان من عادةِ القط تشيشاير أن يَختفيَ مُخلفًا وراءه ابتسامتَه فحَسْب؛ مما دفع ألِيس إلى التعليق بأنها «كثيرًا ما رأت قططًا من دون ابتسامة، لكنها لم ترَ ابتسامةً من دون قطٍّ مُطلقًا.» الحقُّ أنَّ العديد من علماء الأحياء يختبرون شعورًا مماثلًا بالحيرة؛ إذ يُدركون آليةَ عمل الديناميكا الحرارية في الخلايا الحية ويعرفون كيفية تشفير الجينات لجميع المعلومات اللازمة من أجل تكوين الخلية، غير أنَّ اللغز المتمثِّل في ماهيَّة الحياة نفسها لا يَفْتأ عن الابتسام لهم.

تتمثَّل إحدى المشكلات في التعقيد الشديد للتفاعلات الكيميائية الحيوية التي تحدث داخلَ كلِّ خليةٍ حية. فعندما يُنتج علماءُ الكيمياء أحدَ الأحماض الأمينية أو السكريات اصطناعيًّا، غالبًا ما يُصنِّعون منتجًا واحدًا في المرة، وهم يتمكَّنون من ذلك عن طريق التحكُّم الدقيق في الظروف التجريبية بما يتلاءم مع التفاعل المحدَّد، مثل درجة الحرارة وتركيزات المُكوِّنات المختلفة من أجل تصنيع المركَّب المستهدف على الوجه الأمثل. ليست تلك بالمهمة السهلة، وهي تستلزم التحكُّم الدقيق في العديد من الظروف المختلفة داخل التقنيات المخصَّصة وأجهزة التكثيف وأعمدة العزل وأجهزة الترشيح وغيرها من الأجهزة الكيميائية المعقَّدة. غير أنَّ الخلية الحية في جسم الإنسان لا تتوقَّف عن تصنيع آلافِ الموادِّ الكيميائية الحيوية المحددة داخل غرفة تفاعلات لا تحتوي إلا على بضعة أجزاء من المليون من الميكرولتر من السائل.٧ فكيف تجري كلُّ تلك التفاعلات المختلفة في الوقت نفسه؟ وكيف يُنسَّق كلُّ هذا النشاط الجزيئي داخل خليةٍ لا تُرى إلا تحت المجهر؟ يُمثل هذان السؤالان مِحورَ العلم الجديد المسمَّى «علم أحياء الأنظمة»، لكن يجدُر بنا القولُ إنَّ الإجابات لا تزال غيرَ معروفة!
الموت أيضًا معضلةٌ مُلغِزة من ألغاز الحياة. فتتمثَّل إحدى سِمات التفاعلات الكيميائية في أنها يُمكن عكسُها دومًا. يمكننا أن نكتب تفاعلًا كيميائيًّا بالاتجاه الآتي: الموادُّ المتفاعلة المواد الناتجة. غير أنَّ التفاعلَ العكسي: المواد الناتجة المواد المتفاعلة؛ دائمًا ما يحدث في اللحظة نفسِها في واقع الأمر. كلُّ ما هنالك أنَّ اتجاهًا واحدًا يُهيمن في العادة عند توفُّر ظروفٍ معيَّنة. بالرغم من ذلك، فمن الممكن دومًا أن تتوفر مجموعةٌ أخرى من الظروف التي تُعطي الأفضلية للتفاعل الكيميائيِّ العكسي. على سبيل المثال، عندما يحترق الوقودُ الحفريُّ في الهواء، فإن الموادَّ المتفاعلة هي الكربون والأكسجين، وتُصبح المادة الناتجة الوحيدة هي غاز الدفيئة ثاني أكسيد الكربون. عادةً ما يُعَد هذا التفاعل غيرَ قابلٍ للانعكاس، غير أنَّ بعض أشكال تقنية احتجاز الكربون تحاول عكس العملية باستخدام مصدرِ طاقةٍ يُوجِّه التفاعلَ الكيميائي إلى الاتجاه المعاكس. على سبيل المثال، أنشأ ريتش ميسل من جامعة إلينوي شركةً أسماها «ديوكسايد ماتريالز» يتمثَّل هدفُها في استخدام الكهرباء لتحويل غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي إلى وَقودٍ للمَرْكبات.1
أما الحياة فهي تختلف عن ذلك. إنَّ أحدًا لم يكتشف من قبلُ ظرفًا يُعطي الأفضلية للاتجاه: خلية ميتة خلية حية. تلك الأُحْجية بالطبع هي ما دفع أسلافَنا إلى التوصُّل إلى فكرة الروح. إننا لم نَعُد نعتقد أنَّ الخلية تتمتع بروحٍ ما بأيِّ شكلٍ من الأشكال، لكن ما ذاك الذي يُفقَد إلى الأبد عندما تموت الخليةُ أو الإنسان؟

لعلَّك تتساءل إذن: ماذا عن علم الأحياء التخليقيِّ الحديثِ النشأة؟ لا بد أنَّ المشتغِلين بهذا العلم يمتلكون المِفتاحَ لحلِّ لغز الحياة. ربما يكون أشهرُ المشتغِلين بعلم الأحياء التخليقي هو كريج فينتر الرائد في أبحاث تحديدِ تسلسل الجينوم، والذي أثار عاصفةً عِلمية عام ٢٠١٠ عندما ادَّعى أنه أوجد «حياة اصطناعيَّة». تَصدَّر عملُه عناوينَ الصُّحف على مستوى العالم، وأشعل نيرانَ الخوف من أن تُهيمن على الكوكب كائناتٌ اصطناعيةُ المنشأ. غير أنَّ فينتر وفريقَه لم يتمكَّنوا إلا من تعديلِ شكلٍ موجود من أشكال الحياة، لا خَلْقَ حياةٍ جديدة في حقيقة الأمر. وقد قاموا بذلك عن طريق تخليقِ حمضٍ نووي يُشفر الجينوم الكامل لأحد أنواع البكتيريا المسبِّبة للأمراض في الماعز يُعرَف باسم «المفطورة الفطرانية». بعد ذلك، حقَن الفريقُ جينوم الحمض النووي المخلَّق في خليةٍ بكتيرية حية، وتَمكَّنوا على نحوٍ بارع من حثِّها على استبدال الكروموسوم المخلَّق بالكروموسوم الأصلي (الوحيد) فيها.

لا شك أنَّ هذا العمل كان نصرًا تقنيًّا مذهلًا. ذلك أنَّ الكروموسوم البكتيري يحتوي على ١٫٨ مليون حرفٍ جيني يجب أن تُرتَّب جميعُها معًا بدقةٍ شديدة بالتسلسل الصحيح. غير أنَّ ما فعله العلماء في الأساس هو إجراء التحوُّل نفسِه الذي نفعله جميعُنا تلقائيًّا عندما نُحول الموادَّ الكيميائية الخاملة في طعامنا إلى لحمِنا الحي.

إنَّ النجاح الذي حقَّقه فينتر وفريقه في تخليق كروموسومٍ بكتيري بديل وحقنه؛ يفتح البابَ لمجال علم الأحياء التخليقيِّ الجديد تمامًا، وهو ما سنتناولُه مجددًا في الفصل الأخير. ثَمة احتمالٌ أن يُنتج هذا المجالُ العلميُّ طرقًا أكثرَ فعاليةً لصناعة العقاقير أو زراعة المحاصيل أو التخلُّص من المُلوثات. بالرغم من ذلك، ففي هذه التجارِب وغيرها من التجارِب العديدة المماثلة، لم يخلق العلماء حياةً جديدة. وصحيحٌ أنَّ فينتر قد حقَّق إنجازًا رائعًا، لكن لُغز الحياة الجوهري لم يزَلْ قائمًا. ويُنسَب إلى عالم الفيزياء الحائز على جائزة نوبل ريتشارد فاينمان أنه قال: «إنَّ ما لا نستطيع صُنعه، لا نستطيع فَهْمه». وبِناءً على هذه العبارة، فإننا لا نفهم الحياة لأننا لم نتمكَّن حتى الآن من صُنعها. يُمكننا مزجُ الموادِّ الكيميائية الحيوية أو تسخينُها أو تعريضها للإشعاع، يُمكننا حتى استخدامُ الكهرباء لبثِّ الحياة بها، على غِرار شخصية فرانكشتاين للكاتبة ماري شيلي، لكنَّ الطريقة الوحيدة التي يُمكننا بها إنشاءُ حياةٍ هي حقنُ تلك الموادِّ الكيميائية الحيوية في خلايا حيةٍ بالفعل، أو أكلها؛ ومِن ثمَّ نجعلها جزءًا من أجسادنا.

فما السببُ إذن في عدم قدرتنا على تنفيذ حيلةٍ تُنفذها بكلِّ سلاسةٍ تريليوناتٌ من الميكروبات البدائية للغاية في كل ثانية؟ هل ينقصنا مكوِّنٌ ما؟ هذا هو السؤال الذي فكَّر فيه عالمُ الفيزياء الشهير إرفين شرودنجر منذ أكثرَ من سبعين سنة، والإجابة المفاجئة التي اقترحها تُعَد من المحاور الأساسية في هذا الكتاب. ولكي نفهم السبب في أنَّ إجابة شرودنجر عن أعمقِ ألغاز الحياة كانت ولا تزال ثوريةً للغاية؛ علينا الرجوع إلى بداية القرن العشرين، قبل اكتشاف تركيب اللولب المزدوج، حين انقلب عالمُ الفيزياء رأسًا على عَقِب.

الثورة الكَميَّة

أدى التدفُّق الكبير للمعرفة العلمية خلال عصر التنوير في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر إلى ظهور الميكانيكا النيوتنية والفيزياء الكهرومغناطيسية والديناميكا الحرارية، وأثبت أنَّ دمج هذه المجالات الفيزيائية معًا قد نجح في وصفِ حركة جميع الأجسام والظواهر اليومية التي نراها بأعيُنِنا في عالمنا؛ بدايةً من قذائف المدفعيَّات إلى الساعات، ومِن العواصف إلى القطارات البُخارية، ومن البندولات إلى الكواكب، إضافةً إلى نجاحه في وصفِ سلوكياتها. بالرغم من ذلك، فحين حوَّل علماءُ الفيزياء، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، اهتمامَهم إلى المُكونات المجهرية للمادة، وهي الذرَّات والجزيئات، اكتشَفوا أن القوانين المعروفة لم تَعُد تسري عليها. فاحتاجت الفيزياءُ إلى ثورة.

تحقق أولُ إنجاز كبير — مفهوم «الكم» — على يدِ عالم الفيزياء الألماني ماكس بلانك الذي قدَّم النتائج التي توصَّل إليها في ندوةٍ عقَدَتها الجمعيةُ الفيزيائية الألمانية في الرابعَ عشر من ديسمبر ١٩٠٠، وهو تاريخٌ يرى الكثيرون أنه شهد مولدَ نظرية الكم. كان الفَهمُ السائد حينَذاك أنَّ إشعاع الحرارة ينتقلُ عبر الفضاء في صورة موجات، على غِرار أشكال الطاقة الأخرى. وتمثَّلَت المشكلةُ في عدم قدرة نظرية الموجات على شرح الكيفية التي تتبعها أجسامٌ ساخنة معيَّنة في إشعاع الطاقة. ولهذا، اقترح بلانك فكرةً جديدة مفادها أنَّ المادة في جُدران هذه الأجسام الساخنة تهتزُّ بتردُّداتٍ منفصلة معيَّنة؛ مما يؤدي إلى عدم إشعاع الطاقة إلا في صورةِ كتلٍ صغيرة منفصلة — أو «كموم» — لا يمكن تقسيمها إلى أقلَّ من ذلك. حقَّقَت نظريتُه البسيطة نجاحًا كبيرًا، لكنها كانت تحولًا جذريًّا عن نظرية الإشعاع «الكلاسيكية»، التي ترى أنَّ إشعاع الطاقة يتدفَّق متواصلًا. فقد اقترحَت نظريةُ بلانك أن الطاقة لا تتدفَّق من المادة كما يسيل الماءُ من الصنبور دون توقف، بل تأتي في صورةِ مجموعة من الحُزَم المنفصلة التي لا يمكن تقسيمها — وكأنها مياهٌ تتساقط ببطءٍ من الصنبور في شكل قطَرات.

لم يطمئنَّ بلانك مطلقًا إلى فكرة أنَّ الطاقة عبارةٌ عن كتل، لكن بعد خمس سنوات من اقتراحِه لنظرية الكم، وسَّع ألبرت أينشتاين هذه الفكرةَ واقترح أنَّ الإشعاع الكهرومغناطيسي بكلِّ أشكاله — بما في ذلك الضوء — «مُكمم» لا مستمر، وهو يكون في صورةِ دفعاتٍ منفصلة أو جُسيمات نُسمِّيها اليوم بالفوتونات. اقترح أينشتاين أنَّ هذه الطريقة في التفكير بشأن الضوء يمكن أن تُفسر اللغزَ القديم المعروف باسم التأثير الكهروضوئي، وهي ظاهرةٌ يحدث فيها أن يتمكَّن الضوءُ من طرد الإلكترونات من المادة. لقد كان هذا العمل هو ما أدَّى إلى فوز أينشتاين بجائزة نوبل عام ١٩٢١، لا نظرياته الشهيرة أكثر عن النسبية.

غير أنَّ الأدلة كانت كثيرةً أيضًا على أنَّ الضوء يسلك سلوكَ الموجات المنتشرة والمتواصلة. فكيف يمكن للضوء إذن أن يكون كتلةً وموجةً في آنٍ واحد؟ لم يبدُ ذلك منطقيًّا حينها، لا سيَّما في نطاق العلوم الكلاسيكية على الأقل.

تحقَّقَت الخطوة الكبرى التالية على يدِ عالم الفيزياء الدانماركي نيلس بور الذي وصَل إلى مانشستر عام ١٩١٢ ليعملَ مع إرنست رذرفورد. كان رذرفورد قد اقترح للتوِّ نَموذجَه الكوكبيَّ الشهيرَ للذَّرة، الذي يتكون من نَواةٍ صغيرة كثيفة في المركز، وتُحيط بها إلكترونات أصغرُ تتحرك في مَدارات. لكنَّ أحدًا لم يفهم كيف أنَّ الذرات تبقى مستقرَّة. فطِبقًا للنظرية الكهرومغناطيسية القياسية، لن تتوقف الإلكتروناتُ السالبة الشحنة عن إصدار الطاقة الضوئية في أثناء دورانها حول النَّواة الموجبة الشحنة. وفي قيامها بتلك العملية، سوف تفقد الإلكترونات طاقةً وسرعان ما ستدور إلى الداخل باتجاهِ النواة (في غضونِ جزءٍ من ألف تريليون من الثانية)؛ مما سيؤدِّي إلى انهيار الذرة. لكن الإلكترونات لا تفعل ذلك. فما سرُّها إذن؟

لكي يشرح بور استقرارَ الذرات؛ اقترح أنَّ الإلكترونات لا تتمتع بالحرية في شَغْلِ أيِّ مدار حول النواة، وإنما تدور في مداراتٍ محدَّدة وثابتة («مكممة»). ولا يستطيع الإلكترون أن يهبط إلى المدار التالي الأدنى إلا بإصدارِ كتلة — أو كمٍّ — من الطاقة الكهرومغناطيسية (الفوتون)، تتطابق قيمتها مع الفارق في قيمة الطاقة بين المَدارَين المَعنيَّين. وبالمثل أيضًا، لا يمكن للإلكترون أن يقفز إلى مدارٍ أعلى إلا بامتصاص فوتون يحتوي على القدر المناسب من الطاقة.

إحدى طرُق تَوضيح الفرق بين النظرية الكلاسيكية ونظرية الكم وشرح السبب في أنَّ الإلكترون لا يَشغل سوى مداراتٍ ثابتة ومحددة داخل الذرة؛ تتمثَّل في المقارنة بين كيفيَّة عزف النغمات الموسيقية على الجيتار وبين عزفِها على الكمان. إنَّ عازفَ الكمان يضغط بإصبعه على أيٍّ من الأوتار الموجودة بطول العنق لتقصير الوتر؛ ومن ثَم يحصل على النغمة المطلوبة عندما يمرُّ القوس على ذلك الوتر فيؤدِّي إلى اهتزازه. تهتزُّ الأوتارُ الأقصر بتردُّداتٍ أعلى (أي: عدد كبير من الاهتزازات في الثانية) لإصدار نغماتٍ عالية، بينما تهتزُّ الأوتار الأطولُ بتردداتٍ أقل (أي: عددٍ قليل من الاهتزازات في الثانية) لإصدار نغمات منخفضة.

قبل الاستمرار في مناقشةِ هذا المثال، ينبغي توضيحُ بعض الأمور عن إحدى السِّمات الأساسية في ميكانيكا الكم، وهي الارتباطُ الوثيق بين التردُّد والطاقة.٧ رأينا في الفصل السابق أنَّ الجسيمات دون الذرِّية تتَّسم أيضًا بخصائصَ مَوجيَّة؛ مما يعني أنَّ لها طولًا مَوجيًّا وتردُّدًا للتذبذب، على غِرار أيِّ موجة. ودائمًا ما تتمتَّع الاهتزازات السريعة أو الذبذبات بطاقةٍ أكبر من تلك التي تتمتَّع بها الاهتزازاتُ البطيئة، ويمكنك أن تجد مثالًا على ذلك في المجفِّف الدوَّار الذي يجب أن يدور (يتذبذب) بتردُّدٍ عالٍ؛ من أجل أن يمتلك الطاقةَ الكافية لطردِ المياه من الملابس.

لِنُتابع الآن حديثَنا عن الكمان. يمكن لِحدَّة النغمة (تردُّدِها الاهتزازي) أن تتفاوتَ باستمرارٍ بِناءً على طول الوتَر بين طرَفِه الثابت وإصبع العازف. وهذا مُكافئٌ للموجة الكلاسيكية التي يمكن أن تتَّخذ أيَّ طولٍ مَوجي (وهو المسافة بين القِمَم المتتالية). ولهذا، سنُعرِّف الكمان بأنها «آلة كلاسيكية»، لكننا لا نعني ذلك من منظور «الموسيقى الكلاسيكية»، بل من منظور الفيزياء الكلاسيكية غير الكمية. ذلك بالطبع هو السببُ في صعوبةِ إجادة العزف على الكمان؛ إذ ينبغي على العازف أن يعرف تمامًا أين يضعُ إصبعه للحصول على النغمة الصحيحة.

أما الجيتار فعُنقه مختلفة؛ ذلك أنه يحتوي على «دساتين» تُوجَد على مسافاتٍ بطول العنق، وهي عبارةٌ عن ألْسِنة معدِنية توضع على مسافاتٍ محدَّدة بارتفاعٍ طفيف عن العُنق دون أن تلمس الأوتارَ الموجودة فوقها. لذا، عندما يضع عازفُ الجيتار إصبعَه على وترٍ ما، فإنه يضغط على الدستان الموجودِ تحته، مما يجعل هذا الدستان هو طرَفَ الوتر مؤقتًا بدلًا من الإصبع. وعند نقْرِ الوتر، فإن حدَّة النغمة الناتجة تتشكَّل بفعلِ اهتزاز الوتر بين الدستان والجسر فحسب. إنَّ عدد الدساتين المحدودَ يعني أنه لا يمكن العزفُ سوى لِنَغمات معينةٍ ومحددة على الجيتار. ثم إنَّ وضع الإصبع بين اثنين من الدساتين لن يُغيِّر النغمة عند نقر الوتر. ومن ثَمَّ فإنَّ الجيتار أشبهُ بآلةٍ موسيقية «كَمية». ولهذا، فبِناءً على نظرية الكم، فإن التردُّد والطاقة مُرتبطان أحدُهما بالآخَر، ولا بد أن يكون لوتر الجيتار المهتزِّ طاقاتٌ منفصلة وليست مُستمرَّة. وبطريقةٍ مشابهة، لا بد للجسيمات الأساسية — مثل الإلكترونات — أن ترتبط بتردُّدات مَوجية لها سماتٌ مميزة ترتبط كلٌّ منها بمستوى طاقةٍ مُنفصل خاص بها. وعندما ينتقل الجُسيم من إحدى حالات الطاقة إلى أخرى، فيجب أن يمتصَّ من الإشعاع أو يصدر منه ما يتطابق مع الفرق في الطاقة بين المستوى الذي ينتقل منه إلى المستوى الذي يستقرُّ عليه.

بحلول منتصفِ عشرينيَّات القرن العشرين، عاد بور إلى كوبنهاجن، وكان من بين عددٍ من علماء الفيزياء الأوروبيين الذين يعملون بحماسٍ لإيجاد نظريةٍ رياضية أكثرَ اكتمالًا واتساقًا، تصفُ ما يحدث في العالم دونَ الذرِّي. وكان من بين ألمع العلماء في هذه المجموعة ألمانيٌّ عبقري شاب، يُدعى فيرنر هايزنبرج. بينما كان هايزنبرج يتعافى من حُمَّى القش في جزيرة هيلجولاند الألمانية في صيف عام ١٩٢٥، أحرَز تقدمًا كبيرًا في صياغة الرياضيات الجديدة اللازمة لوصف عالم الذرَّة. غير أنها كانت نوعًا غريبًا من الرياضيَّات، وما أخبرَتنا به عن الذرَّات كان أغرب. على سبيل المثال، لم يُحاجج هايزنبرج فحسبُ بأننا لا نستطيع معرفةَ مكان أحد إلكترونات الذرَّة على وجه التحديد إذا لم نكن نقيسه، وإنما أيضًا أن الإلكترون نفسَه ليس له موقعٌ محدد؛ لأنه ينتشِر بطريقةٍ غير واضحة وغيرِ معروفة.

اضطُرَّ هايزنبرج إلى استنتاج أن العالم الذريَّ مكانٌ طيفي هشٌّ لا يتبلور إلى كِيانٍ مُحدَّد إلا عندما نعدُّ جهازَ قياس للتفاعل معه. تلك هي عملية القياس الكمي التي ذكَرْناها باقتضابٍ في الفصل السابق. أوضح هايزنبرج أن هذه العملية لا تكشف إلا عن السِّمات التي صُمِّم الجهاز تحديدًا لقياسها — وذلك مثلما أنَّ الآلاتِ الموجودةَ في لوحةِ معلومات السيارة تُقدِّم كلٌّ منها معلوماتٍ عن جانبٍ واحد من جوانب عملية تشغيل السيارة مثل السرعة أو المسافة المقطوعة أو درجة حرارة المحرِّك. ومِن ثمَّ، يُمكننا إجراءُ تجرِبةٍ لتحديد المكان الدقيق لإلكترونٍ ما في وقتٍ محدَّد، وإجراءِ تَجرِبةٍ أُخرى لقياسِ سرعة الإلكترون نفسِه. لقد أثبت هايزنبرج رياضيًّا استحالةَ إجراء تجرِبةٍ واحدةٍ يُمكننا أن نَقيس بها كلًّا من مكان الإلكترون وسرعة حركتِه في آنٍ واحد وبالدقَّة المرجوَّة. في عام ١٩٢٧، تجسَّد هذا المفهومُ في المبدأ الشهير، المعروفِ باسم مبدأ اللايقين لهايزنبرج، وقد ثبتَت صحتُه آلافَ المرات في المختبرات على مستوى العالم. الحقُّ أنه لا يزال أحدَ أهمِّ الأفكار في العلوم ككلٍّ، وأحدَ أساسياتِ علم ميكانيكا الكم.

في يناير عام ١٩٢٦؛ أي: في الوقت نفسِه تقريبًا الذي كان هايزنبرج يُشكِّل فيه أفكارَه، كتب عالمُ الفيزياء النمساوي إرفين شرودنجر بحثًا يُقدم فيه صورةً مختلفة للغاية عن الذرَّة. اقترح في هذا البحث مُعادلةً رياضية تُعرَف الآن باسم معادلة شرودنجر، وهي لا تُوضِّح الكيفيةَ التي يتحرَّك بها الجسيم، بل كيفية تَشكُّل الموجة. تقترح المعادلة أنَّ الإلكترون ليس جُسيمًا غامضًا لا يُعرَف موقعُه في أثناء دورانه حول النواة، بل هو موجةٌ تنتشِر في الذَّرة. وعلى خلاف هايزنبرج الذي كان يعتقد باستحالة التقاط أيِّ صورة للإلكترون ما لم نكن نقيسُه، رأى شرودنجر الإلكترون باعتباره موجةً فيزيائية حقيقية حين لا ننظر إليه، لكنه «ينهار»٩ إلى جُسيمٍ مُحدد متى نظرنا إليه. عُرِفَت نسخته من النظرية الذرية باسم «ميكانيكا الموجة»، وتصف معادلته الشهيرة كيفيَّة تشكُّل تلك الموجات وطبيعة سلوكها على مدار الوقت. وفي الوقت الحالي، يُعَد وصفا هايزنبرج وشرودنجر كلاهما طريقتَين مختلفتَين في تأويل رياضياتِ ميكانيكا الكم، ويُعَد كِلاهما صحيحًا بطريقتِهِ الخاصة.

دالة شرودنجر المَوجيَّة

عندما نرغب في وصفِ حركة الأجسام المعتادة في عالمنا سواءٌ أكانت قذائفَ مدفعية أو قطاراتٍ بُخارية، أو حتى كواكب، والتي كلٌّ منها يتكون من تريليونات الجسيمات، فإننا نحلُّ المشكلةَ باستخدام مجموعةٍ من المعادلات الرياضية التي تعود إلى إسحاق نيوتن. لكن إذا كان النظام الذي نريد وصْفَه ينتمي إلى العالم الكَمِّي، فسيتعيَّن علينا حينها استخدامُ معادلة شرودنجر. وهنا يكمنُ الفرْق الجوهريُّ بين النهجَين؛ ففي عالم نيوتن يأتي حلُّ المعادلة في صورةِ عددٍ أو مجموعةِ أعدادٍ تُحدد الموقعَ الدقيق للجسم في لحظةٍ معينة من الزمن. أما في العالم الكمي، فيأتي حلُّ معادلة شرودنجر في صورةٍ كَمية رياضية تُسمَّى الدالَّة الموجية، وهي «لا» تُخبرنا بالموقع الدقيق لإلكترونٍ ما — على سبيل المثال — في لحظةٍ محدَّدة من الزمن، بل تُمدُّنا بمجموعةٍ كاملة من الأعداد التي تصفُ «احتماليةَ» وجودِ الإلكترون في مواقعَ مختلفةٍ في الفراغ «إن بحَثْنا عنه هناك».

لا شكَّ أنَّك سترى في بادئِ الأمر أنَّ هذه الإجابةَ ليست جيدةً بما فيه الكفاية؛ لأنَّ تحديد المكان «المحتمل» للإلكترون لا يبدو معلومةً ذاتَ فائدةٍ كبيرة. فأنت ترغب بالطبع في معرفةِ المكان الدقيق الذي «يُوجَد» فيه الجُسيم. غير أنَّ الإلكترون يختلف عن الجسم الكلاسيكيِّ الذي يَشغل دائمًا حيزًا محددًا في الفراغ؛ إذ يمكن له أن يُوجَد في عدةِ أماكنَ في آنٍ واحد حتى اللحظة التي يخضع فيها للقياس. ثم إنَّ الدالَّة المَوجية الكَمية موزَّعةٌ على الفراغ كلِّه؛ ومعنى هذا أنَّ أفضل ما يُمكننا التوصلُ إليه في حالةِ وصف الإلكترون، مثلًا، هو مجموعةٌ من الأعداد التي لا تُعطينا احتماليةَ العثور على الإلكترون في مكانٍ واحد، وإنما تُمدنا باحتمالية العثور عليه في كلِّ نقطة من الفراغ في آنٍ واحد. بالرغم من ذلك، تجدر الإشارةُ إلى أنَّ تلك الاحتمالاتِ الكميةَ لا تُمثل قصورًا في معرفتنا يمكن معالجتُه بالحصول على المزيد من المعلومات، بل هي سِمةٌ جوهرية في العالم الطبيعي على النطاق المِجهري هذا.

تخيَّلْ لِصَّ مجوهرات حصلَ على إخلاء سبيل مشروطٍ وخرج من السجن. وبدلًا من تقويم سلوكه، عاد من فوره إلى عادته القديمة وبدأ يسطو على المنازل في كلِّ أرجاء المدينة. وبدراسة الخريطة، تتمكَّن الشرطة من تعقُّبِ الأماكن التي ارتادَها على الأرجح منذ لحظةِ الإفراج عنه. وصحيحٌ أنَّ الشرطة لا تستطيع تحديدَ مكانه الدقيق في أيِّ زمن محدد، لكنها تستطيع تعيينَ احتمالاتٍ لأماكن عمليات السطو التي ارتكبها في مُختلِف الأحياء.

في البداية، ستكون المنازلُ القريبة من السجن هي الأكثرَ عرضةً للسرقة، لكن مساحة الأماكن المهدَّدة ستزدادُ بمرور الوقت. وبمعرفة المُمتلَكات التي كان يستهدفها في الماضي، تستطيع الشرطة أن تفترض بقدرٍ من الثقة أنَّ أحياء الأثرياء ممن يَحوزون مجوهراتٍ ثمينةً أكثرُ عرضةً للخطر من الأحياء الأفقر. يمكننا النظرُ إلى هذه الموجة التي تُعبِّر عن جريمة رجل واحد، والتي تنتشر في المدينة بأكملِها باعتبارها موجةَ احتمال. ليست تلك الموجةُ بالملموسة ولا الحقيقية، بل مجموعة أعداد مجردة يمكن تعيينُها لمختلِف الأنحاء في المدينة. وبطريقةٍ مُشابهة، تنتشر الدالَّة المَوجية من النقطة التي شوهد فيها الإلكترونُ آخِرَ مرة. ويمكننا من خلال حساب قيمة هذه الدالَّة الموجية في مواضعَ وأوقاتٍ مختلفة تعيينُ احتمالاتٍ للمكان الذي سيظهر فيه تاليًا.

والآن، ماذا إن أخذَت الشرطة بمعلومةٍ من مصدر قريب من اللصِّ وتمكَّنَت من القبض على اللص، متلبسًا وهو يتسلَّل من نافذةٍ وعلى كتفه حقيبةُ «مسروقاته»؟ تنهار على الفور موجةُ توزيع الاحتمالات المنتشرة، التي تصفُ الأماكنَ التي يُحتمل أن يُوجَد فيها اللصُّ لتتلخَّص إلى مكانٍ واحد فحسب، ويصبح مؤكَّدًا أيضًا أنه لا يُوجَد في أي مكانٍ آخَر. وعلى المنوال نفسِه، إذا عُثر على الإلكترون في موقعٍ مُعيَّن، فإنَّ دالَّتَه الموجية تتغير على الفور. وفي لحظة تحديد موقع الإلكترون، تُصبح احتمالية العثور عليه في أي مكان آخر صفرًا.

بالرغم من ذلك، فحتى قبل القبض على اللص، لا تملك الشرطةُ إلا أن تُعين احتمالاتٍ للأماكن التي يمكن أن يُوجَد فيها، وهم يعرفون أن السبب في ذلك هو افتقارهم إلى المعلومات، وهنا لا يعود التشبيهُ بين الحالتين صالحًا. فاللصُّ لم ينتشر بالفعل في جميع أرجاء المدينة، وصحيحٌ أنه يجبُ على الشرطة أن تضعَ في اعتبارها أنه قد يُوجَد في أيِّ مكان، فالواقعُ أنه لا يمكن أن يُوجَد إلا في مكانٍ واحد في وقتٍ معيَّن. وعلى العكس من ذلك تمامًا، إذا كنا لا نتتبَّع حركةَ الإلكترون، فلا يمكن أن نفترض وجودَه في مكانٍ محدَّد في وقتٍ معين. ولا يمكننا وصفُه حينذاك إلا من خلال الدالة الموجية، التي تعني أنه موجودٌ في كل مكانٍ في آنٍ واحد. إنَّ فعل النظر إلى الإلكترون فقط (إجراء عملية قياس)، هي التي تُمكِّننا من «إجبار» الإلكترون على أن يُصبح جُسيمًا له موضعٌ محدَّد.

بحلول عام ١٩٢٧، وبفضل جهود هايزنبرج وشرودنجر وغيرِهما، اكتمَلَت الأسُس الرياضية لميكانيكا الكمِّ بصفةٍ مبدئية. واليوم، صارت تُشكل الأساسَ الذي يستند إليه قدرٌ كبير من الفيزياء والكيمياء، وهي تُمدُّنا بصورةٍ مكتملة إلى حدٍّ كبير لوحدات البناء الأساسية التي يتألَّف منها الكونُ بأكمله. الحقُّ أنه لولا ما تتَّسمُ به ميكانيكا الكم من قوةٍ تفسيرية هائلة في وصف توافُق عناصر العالم جميعها معًا، لَما صار قدرٌ كبير من التكنولوجيا الحديثة ممكنًا.

لذا، في أواخِر عشرينيَّات القرن العشرين، مبتهِجين بما حقَّقوه مؤخرًا من نجاحاتٍ في تطويع عالم الذرَّات، خرج العديدُ من روَّاد ميكانيكا الكم من مُختبرات الفيزياء لغزوِ مجالٍ مختلِف من العلوم، ألا وهو علم الأحياء.

روَّاد علم الأحياء الكمي

في عِشرينيَّات القرن العشرين، كان كُنه الحياة ما يزال لُغزًا. فبالرغم مما حقَّقه علماء الكيمياء الحيوية في القرن التاسعَ عشر من تقدُّمٍ كبير في تأسيس فَهْمٍ ميكانيكي لكيمياء الحياة، ظل العديد منهم مُتمسِّكين بالمبدأ الحيوي القائل بأنه لا يمكن اختزالُ علم الأحياء في الكيمياء والفيزياء، بل يستلزم مجموعةَ قوانينَ خاصةً به. كان «البروتوبلازم» الموجودُ داخل الخلايا الحية لا يزال يُرى على أنه شكلٌ غامض من أشكال المادة التي تُحركها قُوًى غيرُ معروفة، وظل سرُّ الوراثة يُراوغ علم الوراثة المتنامي.

غير أنَّ ذلك العَقد شهد ظهورَ مجموعةٍ جديدة من العلماء عُرفوا باسم أنصار النظرية العضوية الذين رفَضوا المبادئ التي يقوم عليها المذهبُ الحيوي والمذهب الميكانيكي على حدٍّ سواء. وافق هؤلاء العلماءُ على أنَّه يوجد شيءٌ غامض بشأن الحياة، لكنهم زعَموا أنه من «الممكن» مَبدئيًّا تفسيرُ هذا اللغز من خلال قوانينَ فيزيائيةٍ وكيميائية لم تُكتشَف بعد. ومن أكبر مُناصري حركة المذهب العضوي عالم نمساوي آخر اسمه غريب وهو لودفيج فون بيرتالانفي، الذي كتب بعضًا من أوائل الأبحاث عن نظريات التطور البيولوجي، وركَّز في كتابه الصادر عام ١٩٢٨ بعُنوان «النظرية النقدية للتشكل» على ضرورةِ وجود مبدأ بيولوجي جديد لوصفِ جوهر الحياة. وقد أثَّرَت أفكارُه — لا سيما هذا الكتاب — في العديد من العلماء، من بينهم رائدٌ آخَرُ في فيزياء الكم وهو باسكوال يوردان.

وُلد باسكوال يوردان وتعلَّم في هانوفر ثم درس على يدِ واحدٍ من مؤسِّسي ميكانيكا الكم وهو ماكس بورن١٠ في جوتنجن بألمانيا. وفي عام ١٩٢٥، نشَر يوردان وبورن الورقةَ البحثية الكلاسيكية: «عن ميكانيكا الكم». وبعد عام، نشر كلٌّ من يوردان وبورن وهايزنبرج «تتمَّة» لهذه الورقة البحثية بعنوان «عن ميكانيكا الكم ٢». عُرفت هذه الورقة البحثية باسم «البحث الثلاثي التأليف» وتُعتبر من كلاسيكيات ميكانيكا الكم؛ لأنها عالجَت التقدُّم الكبير الذي حقَّقه هايزنبرج وطوَّرتْهُ إلى طريقةٍ رياضية أنيقة لوصفِ سلوك عالم الذرَّات.
وفي العام التالي، فعل يوردان ما كان سيفعله أيُّ فيزيائي أوروبي كفءٍ من جيله إن واتَتْه الفرصة: قضى وقتًا في كوبنهاجن يعمل مع نيلس بور. وفي عام ١٩٢٩ تقريبًا، بدأ الرجلان في مناقشةِ ما إذا كان من الممكن تطبيقُ ميكانيكا الكمِّ في علم الأحياء بنحوٍ ما. عاد باسكوال يوردان إلى ألمانيا للعمل في جامعة روستوك، لكن المراسَلات ظلَّت مستمرةً بينه وبين بور على مدار العامين التاليَين بشأنِ علاقة الفيزياء بالأحياء. تمخَّضَت أفكارُهما عمَّا يمكن اعتبارُه أولَ بحثٍ علمي عن علم الأحياء الكمي، والذي كتبه يوردان عام ١٩٣٢ لمجلة «دي ناتورفزينشافتن» الألمانية بعُنوان «ميكانيكا الكم والمشكلات الجوهرية في علم الأحياء وعلم النفس».2

تنطوي كتابات يوردان بالفعل على العديد من الأفكار المهمة بشأن ظاهرةِ الحياة، غير أنَّ النزعة السياسية في تكهُّناته البيولوجية بدأتْ تزداد بما يتَّسق مع الأفكار النازية، حتى إنه زعَم أنَّ مفهوم القائد المستبدِّ الأوحد أو المرشد (الفيورر) من المبادئ الأساسية في الحياة.

نعلم أنه من بين عددِ الجزيئات الكبير الذي تتكوَّن منه البكتيريا، يُوجَد عددٌ ضئيل للغاية من الجزيئات الخاصة التي تتمتع بسُلطة مستبدَّة على الكائن الحي كله؛ فهي تُمثل مركزَ قيادةٍ للخلية الحية. إنَّ امتصاص كمٍّ من الضوء في أيِّ مكانٍ خارج «مركز القيادة» لن يقتلَ الخلية إلا بقدرِ ما يمكن أن تُبادَ أمةٌ عظيمة بقتلِ جندي واحد منها. غير أنَّ امتصاص كمٍّ من الضوء في مركز قيادة الخلية يمكن أن يودِيَ بحياة الكائن الحي كلِّه ويؤدِّيَ إلى تفكُّكِه، مثلما يمكن لتنفيذ هجومٍ ناجح على أحد قادة الدولة أن يؤديَ إلى تفكيك الدولة برُمَّتها من أعماقها.3

إنَّ هذه المحاولةَ لإقحام الأفكار النازية في علم الأحياء مذهلةٌ ومرعبة في آنٍ واحد. بالرغم من ذلك، فهي تنطوي على فكرةٍ وليدة مثيرة للاهتمام؛ وهي ما أسماه يوردان بنظرية التضخُّم. أوضحَ يوردان أن الجمادات يحكمها متوسطُ الحركة العشوائية لملايين الجسيمات؛ ومن ثمَّ لن يكون لحركةِ جزيء واحد أيُّ تأثير يُذكر على الجسم ككُل. غير أنه زعم أنَّ الحياة مختلفة عن ذلك؛ إذ يحكمها عددٌ ضئيل للغاية من الجزيئات يُوجَد داخل مركز القيادة وله تأثيرٌ طاغٍ؛ ولهذا فإن الأحداث التي تجري على المستوى الكمِّي وتحكم حركةَ هذه الجزيئات، مثل مبدأ اللايقين لهايزنبرج، تتضخَّم حتى تُؤثر في الكائن الحي ككل.

إنها فكرةٌ مثيرة للاهتمام وسنعود إليها لاحقًا، لكنها لم تتطوَّرْ حينذاك ولم يكن لها تأثيرٌ كبير لأن الأفكار النازية التي اعتنَقها يوردان أفقَدَته مِصداقيته بين مُعاصريه بعد هزيمة ألمانيا في الحرب عام ١٩٤٥؛ فأُهمِلَت أفكاره في مجال علم الأحياء الكَمِّي. تفرَّق الآخرون ممن حاولوا التوفيقَ بين علم الأحياء وفيزياء الكمِّ عقب الحرب، وزُلزِلت أوساط علم الفيزياء بسبب استخدام القنبلة الذرية؛ ومِن ثَم تحوَّل الاهتمام إلى المسائل ذاتِ الصِّبغة التقليدية أكثر.

لم يكن أحدٌ ليُحافظ على اشتعال شعلة علم الأحياء الكمِّي سوى مخترعِ ميكانيكا الموجة الكمية إرفين شرودنجر. في عشيةِ الحرب العالمية الثانية، غادر يوردان النمسا إذ لم تكن زوجته من «العرق الآري» بموجب القوانين النازيَّة، واستقر في أيرلندا، وفي عام ١٩٤٤ نشر كتابًا يطرح عُنوانُه السؤالَ: «ما الحياة؟» وفيه صاغ فكرةً جديدة في علم الأحياء، لم تزَل فكرةً محورية في مجال علم الأحياء الكمي، وفي هذا الكتاب بالطبع. وسوف نستعرض هذه الفكرةَ بقليلٍ من العمق قبل أن ننتهيَ من هذا الفصل التاريخي.

نظامٌ حتى النهاية

كانت المسألة التي أثارت اهتمامَ شرودنجر هي عملية الوراثة الغامضة. ربما تتذكر أنه في ذلك الوقت خلال النصف الأول من القرن العشرين عرَف العلماء أنَّ الجينات تنتقلُ بالوراثة من جيلٍ إلى جيل، لكنهم لم يكونوا يعرفون بعدُ ماهيَّة تلك الجينات ولا آليةَ عملِها. تساءل شرودنجر عمَّا تكون تلك القوانين التي تُزود الصفات الوراثية بذلك المستوى العالي من الدقَّة؟ بعبارةٍ أخرى، كيف تنتقل نُسَخ متطابقةٌ من الجينات من جيلٍ إلى جيل من دون أن يطرأ عليها تقريبًا أيُّ تغيُّر؟

أدرك شرودنجر أنَّ القوانين الدقيقة التي يمكن تَكرارُ إثبات صحتِها في الفيزياء الكلاسيكية والكيمياء، مثل قوانين الديناميكا الحرارية، التي تدفعها الحركةُ العشوائية للذرَّات والجزيئات، هي قوانينُ إحصائية في الواقع؛ مما يعني أنها لا تكون صحيحةً إلا «في المتوسط» ولا يُعتمَد عليها إلا لأنها تتضمَّن عددًا كبيرًا من الجسيمات المتفاعلة. بالعودة إلى مثال طاولة البلياردو، سنجد أن التنبُّؤ بحركةِ كرةٍ واحدة ليس ممكنًا على الإطلاق، لكن إذا ألقيتَ عددًا كبيرًا من الكرات على الطاولة وضربتَها عشوائيًّا مدةَ ساعة تقريبًا، فسوف يمكنك التنبؤُ بأن معظم الكرات ستستقرُّ في النهاية في جيوب الطاولة. تلك هي آليَّة عمل الديناميكا الحرارية: متوسط سلوك عددٍ كبير من الجزيئات هو الذي يمكن التنبُّؤ به، لا سلوك الجزيئات الفردية. أشار شرودنجر إلى أن القوانين الإحصائية — مثل قوانين الديناميكا الحرارية — لا تصف الأنظمةَ التي تتكوَّن من عددٍ صغير من الجسيمات وصفًا دقيقًا.

لنضربْ مثالًا بقوانين المادة الغازيَّة التي ذكَرها روبرت بويل وجاك شارل منذ ثلاثِمائة سنة. تصف هذه القوانينُ كيف أن حجم الغاز في البالون يَزيد عند التعرُّض للحرارة ويتقلَّص عند التعرُّض للبرودة. يمكن وضعُ هذا السلوك في صيغةٍ رياضية بسيطة تُعرَف باسم قانون الغاز المثالي.١١ يتبع البالون هذه القوانين المنتظمة؛ بمعنى أنه يتمدَّد بالحرارة وينكمش بالبرودة. وهو يتبع تلك القوانينَ على الرغم من أنه مملوءٌ بتريليونات الجزيئات التي تتصرَّف منفردةً مثلما تتصرَّف كُرات البلياردو غير المنظمة ذات الحركة العشوائية تمامًا، حيث إنها تتصادم بعضُها ببعض وتتدافع وترتدُّ عن الجدار الداخلي للبالون. فكيف للحركة الفوضوية أن تولِّد قوانينَ منتظمة؟

عندما يتعرَّض البالون للحرارة، تَزيد سرعةُ اهتزاز جزيئات الهواء ما يضمن تصادمها بعضها مع بعض، واصطدامها أيضًا بجدران البالون بقوةٍ أكبر قليلًا. يتولَّد عن هذه القوة الإضافية درجةٌ أكبر من الضغط على المادة المرنة للبالون (مثلما فعلت مع عصا طاولة البلياردو التي ضرب بها بولتزمان المثَل)؛ مما يؤدي إلى تمدُّده. تتوقَّف درجةُ التمدُّد على مقدار الحرارة التي يتعرَّض لها البالون، ويمكن التنبُّؤ بذلك بسهولةٍ تامة ووصفُه بدقةٍ باستخدام قوانينِ الغاز. ما يُهمنا من هذا المثال أنَّ الجسم الفرديَّ — وهو البالون — يتبع قانونَ الغاز بدقةٍ لأن الحركة المنظمة لسطحه الفردي الممتد المرن تَنتُج عن حركاتٍ غير منتظمة لعددٍ هائل من الجسيمات؛ ومن ثَم يتمخَّض النظام من اللانظام، على حدِّ قول شرودنجر.

حاجَج شرودنجر بأنَّ قوانينَ المادة الغازية ليست هي القوانينَ الوحيدة التي تستمدُّ دقَّتَها من الخصائص الإحصائية للأعداد الكبيرة، بل إنَّ «جميع» قوانين الفيزياء الكلاسيكية والكيمياء — بما في ذلك القوانين التي تحكم ديناميكا الموائع أو التفاعُلات الكيميائية — تعتمدُ على مبدأ «حساب متوسِّط الأعداد الكبيرة» أو «تُولِّد النظامَ من اللانظام».

بالرغم من ذلك، فبينما يتبع البالون ذو الحجم العادي الممتلئُ بتريليونات الجُزَيئات من الهواء قوانينَ المادة الغازية، لا يتبعها بالونٌ مجهري بالغُ الصغر تكفي حَفنةٌ من جزيئات الهواء لِمَلئه. يرجع السبب في ذلك إلى أن تلك الحَفنة من الجزيئات سيبتعد بعضُها عن بعضٍ في بعض الأحيان وبطريقةٍ عشوائية تمامًا؛ مما سيؤدي إلى تمدُّد البالون حتى مع ثبات درجة الحرارة. وبالمثل، سينكمش البالون في بعض الأحيان دون سببٍ سوى أنَّ الجزيئات تتحرَّك بطريقةٍ عشوائية نحو الداخل. وبناءً على هذا، سيتعذَّر التنبُّؤ بسلوك بالونٍ بالغ الصغر.

لا شك أنَّ اعتماد الانتظام وإمكانية التنبؤ على وجود أعداد كبيرة من الأمور التي نألفُها في شتَّى ضروب الحياة. فعلى سبيل المثال، يلعب الأمريكيون البيسبول أكثرَ من الكنديِّين، ويلعب الكنديُّون الهوكي الجليديَّ أكثرَ من الأمريكيين. وبناءً على هذا «القانون» الإحصائي، يمكن للمرء التوصلُ إلى مزيدٍ من التنبؤات بشأن كل بلد، فيمكن التنبؤ مثلًا بأن أمريكا ستستوردُ من كُرات البيسبول أكثرَ مما تستوردُه كندا، بينما ستستورد كندا من عِصِيِّ الهوكي أكثرَ مما تستورده أمريكا. وصحيحٌ أنَّ هذه القوانين الإحصائية تُوفر قيمًا تنبؤيَّة عند تطبيقها على بلدانٍ كاملة بها ملايينُ السكان، لكنها لا توفر تنبؤات دقيقة بشأن حجم التجارة في عِصي الهوكي أو كرات البيسبول في مدينةٍ صغيرة واحدة مثل مينيسوتا أو ساسكاتشوان.

لم يكتفِ شرودنجر بملاحظة أنَّ القوانين الإحصائية للفيزياء الكلاسيكية لا يمكن الاعتمادُ عليها حين يتعلَّق الأمر بالمستوى المجهري، وإنما عيَّن قيمةً كمية للتراجع في الدقة؛ إذ أشارت حساباتُه إلى أنَّ مقدار الانحرافات عن تلك القوانين يتناسب عكسيًّا مع الجذر التربيعي لعدد الجسيمات المتصادمة. وبِناءً على هذا، فإنَّ بالونًا ممتلئًا بتريليون (مليونِ مليون) جُسَيم ينحرف عن السلوك الصارم لقوانين المادة الغازيَّة بنسبةٍ لا تتجاوز واحدًا في المليون. لكنَّ بالونًا ممتلئًا بمائةِ جسيم فقط سينحرف عن السلوك المنتظم بنسبة واحدٍ في العشرة. وعلى الرغم من أن هذا البالون سيتمدَّد عادةً بالحرارة وينكمشُ بالبرودة، فلن يحدث ذلك على نحوٍ يمكن وصفُه بأيِّ قانونٍ حتمي. تخضع كلُّ القوانين الإحصائية للفيزياء الكلاسيكية إلى هذا القيد؛ بمعنى أنها تنطبق على الأجسام التي تتكوَّن من عددٍ كبير من الجسيمات، ولكنها لا تستطيع وصْفَ سلوك الأجسام التي تتكوَّن من عددٍ صغير من الجسيمات. ولهذا لا بد لأيِّ شيءٍ يعتمد على القوانين الكلاسيكية من أجل الموثوقية والانتظام أن يتكوَّن من عددٍ كبير من الجسيمات.

ماذا إذن عن الحياة؟ هل يمكن تفسيرُ سلوكها المنتظم — مثل قوانين الوراثة — بالقوانين الإحصائية؟ عندما فكَّر شرودنجر في هذا السؤال، توصَّل إلى أن مبدأ «تولُّد النظام من اللانظام» الذي يدعم الديناميكا الحراريةَ لا يمكن أن يحكم الحياة؛ إذ رأى أنَّ بعض الآلات البيولوجية الدقيقة للغاية على الأقلِّ أصغرُ كثيرًا من أن تَحكمها القوانينُ الكلاسيكية.

على سبيل المثال، في الوقت الذي كتب فيه شرودنجر عملَه «ما هي الحياة؟» — وقد كان من المعروف حينها أنَّ الجينات هي ما يحكم عمليةَ الوراثة، وإن كانت الجيناتُ نفسُها لم تزَل لُغزًا — طرح سؤالًا بسيطًا وهو: هل الجينات كبيرةٌ بما يكفي لأن تستمدَّ دقَّتها التكاثُّرية من القوانين الإحصائية القائلة ﺑ «تولُّد النظام من اللانظام»؟ توصل إلى الحجم التقديري للجين الواحد، ووجد أنه يُساوي مكعبًا يبلغ طول ضلعه ٣٠٠ أنجستروم (والأنجستروم يساوي ٠٫٠٠٠٠٠٠١ ميلليمتر). يسَعُ مثلُ هذا المكعب مليونَ ذرةٍ تقريبًا. قد يبدو هذا العددُ كبيرًا لكن الجذر التربيعي للمليون هو ألف؛ ومن ثَمَّ فإن مستوى عدم الدقة أو «التشويش» في الصفات الوراثية سيبلغ واحدًا في الألف تقريبًا، أو ٠٫١ بالمائة. لذا، إذا كانت الوراثة تعتمد على القوانين الإحصائية؛ فإنها ستولِّد أخطاء (أي: انحرافات عن القوانين) بنسبةٍ واحد في الألف. لكنَّ المعروف أنَّ الجينات يمكن أن تنتقل بنُسَخ مطابقةٍ للأصل بمعدلاتِ طفراتٍ (أخطاء) أقلَّ من واحدٍ في المليار. وهذه الدرجة الاستثنائية من الدقة قد أقنعَت شرودنجر باستحالة أن تتأسَّس قوانينُ الوراثة على القوانين الكلاسيكية القائلة ﺑ «تولُّد النظام من اللانظام». واقترح بدلًا من ذلك أن الجينات أشبهُ على الأرجح بذرَّاتٍ أو جزيئات فردية لا تخضع إلى القواعد الكلاسيكية، بل إلى قواعد التنظيم الغريبة للعلم الذي أسهَم في تأسيسه، وهو ميكانيكا الكم. اقترح شرودنجر أن الوراثة تستندُ إلى مبدأٍ جديد وهو «تولُّد النظام من النظام».

في البداية، طرح شرودنجر نظريته في سلسلةٍ من المحاضرات بكلية ترينيتي في دبلن عام ١٩٤٣، ثم نشَر هذه المحاضرات في السنةِ التالية في كتاب «ما الحياة؟» الذي جاء فيه: «يبدو أن الكائن الحيَّ نظامٌ عيانيٌّ يقترب في جزءٍ من سلوكه من ذلك … الذي تميل إليه الأنظمةُ جميعها كلَّما اقتربَت درجة الحرارة من الصفر المطلق، وزال اللانظامُ الجزيئي». فلأسبابٍ سنستعرضها قريبًا، تخضع كلُّ الأجسام إلى قوانين الكمِّ لا إلى قوانين الديناميكا الحرارية عندما تصل درجةُ الحرارة إلى الصفر المطلَق. كان شرودنجر يرى أنَّ الحياة ظاهرةٌ على المستوى الكَمِّي، قادرةٌ على التحليق في السماء، أو المشي على رِجلَين أو أربع، أو السباحة في المحيط، أو النموِّ في التُّربة، أو قراءة هذا الكتاب بالطبع.

القطيعة

شهدَت السنواتُ التي تلَتْ نشرَ كتاب شرودنجر؛ اكتشافَ التركيب الحلزوني المزدوج للحمض النووي، والتقدُّمَ الصاروخي في علم الأحياء الجزيئي، وهو علمٌ تطوَّر بصورةٍ مستقلَّة عن ظاهرة الكم إلى حدٍّ كبير. تطورَ استنساخُ الجينات والهندسة الوراثية والبصمة الجينية والتسلسل الجيني على يدِ علماء قنَعوا بوجهٍ عام بتجاهُل العالم الكمي الذي يتَّسم بصعوبته الرياضية، والحقُّ أنَّ لهم بعضَ العُذر في ذلك. كانت هناك محاولاتٌ من وقتٍ لآخر لغزوِ الحدود بين علم الأحياء وميكانيكا الكم. بالرغم من ذلك، نسي معظمُ العلماء دَعْوى شرودنجر الجريئةَ، بل إن العديد منهم جاهَر برفضه لفكرةِ أن ميكانيكا الكم ضروريةٌ لتفسير الحياة. ففي عام ١٩٦٢، على سبيل المثال، كتَب عالم الكيمياء والعلوم المعرفية البريطاني كريستوفر لونجيت–هيجنز:
أتذكر مناقشةً جرَت منذ بضع سنواتٍ عن احتمالية وجود قُوًى ميكانيكيةٍ كَمية طويلة المدى بين الإنزيمات وركائزها. غير أنَّ العلماء قد أصابوا تمامًا في التعامُل مع هذه الفرضية بتحفُّظ، وليس ذلك لضعف الأدلة التجريبية فحسب، بل لما تطرحُه أيضًا من صعوبةٍ بالغة في التوفيق بين تلك الفكرة والنظرية العامة للقُوى بين الجزيئية.4
حتى في عام ١٩٩٣، حين نُشر كتابُ «ما الحياة؟ الخمسون عامًا التالية»،5 الذي جمَع أبحاثًا كتَبها المشاركون في اجتماعٍ انعقد في دبلن بعد خمسين سنةً من طرحِ فكرة شرودنجر، لم تُذكَر ميكانيكا الكمِّ إلا قليلًا.

لقد تجذَّر قدرٌ كبير من الشك، الذي لازم دعوى شرودنجر حينذاك، على الاعتقاد السائدِ بأنه من غير الممكن للحالات الكميَّة الدقيقة أن تزدهرَ في البيئات الجزيئية داخل الكائنات الحية؛ لما تتَّسم به من دفءٍ ورطوبةٍ وازدحام. فمثلما اكتشفنا في الفصل السابق، هذا هو السبب الرئيسي في تشكُّك العديد من العلماء حينها (وحتى وقتِنا هذا) بشأنِ فكرة أنَّ ميكانيكا الكم هي ما تحكم بوصلة الطائر. ولعلك تتذكَّر ما قُلناه عن هذه القضية حين تناوَلْناها في الفصل الأول، من أنَّ الخصائص الكمِّية للمادة «تختفي» بفعل الترتيب العشوائيِّ للجزيئات داخل الأجسام الكبيرة. وإذا أخَذنا منظورَ الديناميكا الحرارية في الحُسبان، فسنرى مصدرَ هذا الاختفاء، وهو تدافُع الجزيئات الشبيه بتدافُع كُرات البلياردو، الذي وصَفه شرودنجر بأنه مصدرُ قوانين «تولُّد النظام من اللانظام» الإحصائية. يمكن للجسيمات المتناثرة أن تصطفَّ مرةً أخرى لتكشفَ عن أعماقها الكَميَّة، لكن هذا لا يحدث إلا في ظروفٍ خاصة، وعادةً ما يكون لمدةٍ وجيزة للغاية. فقد رأينا مثلًا كيف يمكن لأنوية الهيدروجين الدوَّارة المبعثرة في أجسامنا أن تصطفَّ كي تُولِّد من سمة الدوران الكمية إشارةَ تصويرٍ بالرنين المغناطيسي تتَّسم ﺑ «الترابط»، لكن هذا لا يحدث إلا بتوفيرِ مجالٍ مغناطيسي قوي يُنتجه مغناطيسٌ كبير وقوي، ولا يستمرُّ إلا مدةَ استمرارِ تلك القوة المغناطيسية؛ ففورَ تعطيلِ هذا المجال المغناطيسي، تتوزَّع الجسيمات عشوائيًّا مرةً أخرى نتيجةً للتدافع الجزيئي؛ ومِن ثَم تتبعثر الإشارة الكمية ولا يمكن تحديدُها. تلك العملية التي تدفع الحركة العشوائية للجزيئات إلى الإخلال بالأنظمة الميكانيكية الكمية المصطفَّة بعنايةٍ تُسمى ﺑ «فك الترابط»، وهي سرعان ما تُزيل التأثيراتِ الكميةَ الغريبة في الجمادات الكبيرةِ الحجم.

إنَّ ارتفاع درجة حرارة الجسم يَزيد من طاقةِ تدافع الجزيئات وسرعتها؛ ومن ثَمَّ يقع فكُّ الترابط بسهولةٍ أكبر في درجات الحرارة المرتفعة. لكن لا تعتقد أنَّ «ارتفاع» درجة الحرارة يعني السخونة. واقعُ الأمر أنَّ فكَّ الترابط يحدث فوريًّا تقريبًا حتى في درجة حرارة الغرفة. وهذا هو السبب في استبعادِ فكرة إمكانية حفاظ أجسام الكائنات الحية الدافئة على حالاتٍ كميةٍ دقيقة، وإن كان ذلك في البداية على الأقل. فقط عندما تنخفض درجةُ حرارة الأجسام وتقترب من الصفر المطلق — أي ما يُكافئ ٢٧٣ درجةً مئوية تحت الصفر — تتوقف الحركة الجزيئية العشوائية تمامًا، وتَحول دون فكِّ الترابط؛ مما يُتيح لسماتِ ميكانيكا الكم أن تظهر بوضوح. حينئذٍ يتجلَّى معنى عبارة شرودنجر، المقتبَسة فيما سبق، بدرجةٍ أكبر. فقد كان الفيزيائيُّ يزعم أنَّ الحياة تتمكَّن بنحوٍ أو بآخَر من العمل حسَب قواعدَ لا تُفعَّل في المعتاد إلا في درجاتِ حرارة أبردَ من أيِّ كائنٍ حي بمقدار ٢٧٣ درجة مئوية.

بالرغم من هذا، ومثلما قال يوردان وشرودنجر، ومثلما ستكتشفُ إذا واصلتَ القراءة، فالحياة تختلف عن الجمادات لأن العددَ القليل نسبيًّا من الجسيمات ذات درجة التنظيم العالية، مثل الجسيمات الموجودة في جينٍ ما أو في بوصلةِ طائر، يمكن أن تُشكل فرقًا في كائنٍ حي بأكمله. ذلك ما أسماه يوردان التضخُّم وأسماه شرودنجر تولُّد النظام من النظام. إنَّ لون عينَيك وشكل أنفك وسِمات شخصيتك ومستوى ذكائك وحتى مدى قابليتك للإصابة بالأمراض، قد تحدَّدَت كلُّها بالفعل بستةٍ وأربعين بالضبط من الجسيمات الفائقة العالية التنظيم، وهي كروموسومات الحمض النووي التي ورثتَها من والديْك. ما من جمادٍ عياني معروف في هذا الكون يتَّسم بتلك الحساسية تجاه البِنْية التفصيلية للمادة في مستواها الأكثرِ جوهريةً، وهو المستوى الذي تسود فيه قوانينُ ميكانيكا الكم لا القوانين الكلاسيكية. لقد حاجَج شرودنجر بأنَّ هذا ما منح الحياةَ تميُّزَها. وفي عام ٢٠١٤؛ أي: بعد سبعين سنةً من نشر كتاب شرودنجر، بدأنا أخيرًا في تقديرِ تلك النتائج المذهلة التي تتمخَّض عن إجابته الاستثنائية للسؤال: ما الحياة؟

هوامش

  • (١)

    في القرن التاسع عشر، أوضح عالم الفيزياء الاسكتلنديُّ جيمس كليرك ماكسويل أنَّ القوة الكهربية والقوة المغناطيسية وَجْهان للقوة الكهرومغناطيسية نفسِها.

  • (٢)

    نتحدث هنا عن لعبة البلياردو الأمريكية.

  • (٣)

    «الطاقة الحرة» هي أحدُ المُصطلحات المهمَّة في علم الديناميكا الحرارية، وهو يتوافق إلى حدٍّ كبير مع الوصف المذكور في هذا الموضع.

  • (٤)

    على الرغم من ذلك، ينبغي توضيحُ أن بعض علماء الكيمياء الحيوية كانوا من أنصار المذهب الحيوي.

  • (٥)

    بالرغم من ذلك، لم تُعَدَّ تَجارِبُ إيفري حينها دليلًا قاطعًا على أنَّ الحمض النووي هو المادة الوراثية، بل ظلَّ هذا الجدال دائرًا في زمن كريك وواتسون.

  • (٦)

    تتكوَّن هذه البِنْيات الكيميائية من قواعدِ نكليوتيد تتكون من الكربون والنيتروجين والأكسجين والهيدروجين، إضافةً إلى مجموعةٍ واحدة على الأقل من الفوسفات، وتندمج تلك المكوناتُ كيميائيًّا في سلسلةِ الحمض النووي.

  • (٧)

    ميكرولتر واحدٌ من الماء يساوي ميلليمترًا مكعَّبًا واحدًا.

  • (٨)
    تتجسَّد هذه العلاقة بالفعل في المعادلة التي اقترحَها ماكس بلانك عام ١٩٠٠. كُتبت المعادلة بالصورة التالية: ؛ حيث ترمز للطاقة، و للتردد، و لثابت بلانك. ونرى مِن هذه المعادلة أنَّ الطاقة تتناسب طرديًّا مع التردد.
  • (٩)

    تُسمى تلك العمليَّة في بعض الأحيان «انهيار الدالة المَوجيَّة»، وفي المراجع القياسية الحديثة، فإنها تُشير إلى تغيُّر الوصف الرياضي للإلكترون، وليس الانهيار الفيزيائي للموجة الحقيقية.

  • (١٠)

    كان ماكس بورن أولَ مَن ربط بين دالةِ شرودنجر الموجيَّة والاحتماليات في ميكانيكا الكم.

  • (١١)
    ضُمِّن القانون في المعادلة ؛ حيث إن ترمز إلى كمية الغاز في العيِّنة، و إلى ثابت الغازات العام، و إلى الضغط، و إلى حجم الغاز، و إلى درجة الحرارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤