الفصل الأول

نوع السلالة وتطور نوع الإنسان

(١) الإنسان المعاصر بين وحدة الأصل وتعدده

تنتمي كل الأنواع الحية من الإنسانية في وقتنا الراهن إلى نوع بيولوجي واحد، هو ما نسميه الإنسان العاقل، ولكن ذلك لم يكن الأمر خلال الفترة التي عاشها الإنسان وأشباهه على الأرض؛ فقد كانت هناك في الماضي أنواع مختلفة من الإنسان وأشباه الإنسان تصارع الظروف الطبيعية من أجل الحياة. واليوم تحتل الأرض سلالة الإنسان العاقل التي تنقسم إلى سلالات فرعية عديدة تكون ما نعرفه الآن من المجموعات السلالية الفرعية والرئيسية. ويدرس علم الأنثروبولوجيا الطبيعية هذه المجموعات الإنسانية لتحديد صفاتها المشتركة التي تؤلف فيما بينها الإنسان المعاصر من ناحية، كما يدرس المميزات الخاصة التي تنفرد بها كل مجموعة سلالية عن الأخرى من ناحية ثانية، ويهتم من ناحية ثالثة بدراسة تطور الإنسان منذ نشأته حتى اليوم.

وحينما يبدأ هذا العلم بدراسة الإنسان في ما قبل التاريخ؛ فإن مصدره الوحيد هو الهياكل العظمية، بالإضافة إلى قليل من المومياء، معظمها راجع إلى تاريخ حديث جدًّا بالمقارنة بتاريخ الإنسان الحفري القديم. وفي هذا المجال يأمل الأنثروبولوجيون السوفيت العثور على إنسان ما قبل التاريخ بلحمه وعظمه وشعره كاملًا مدفونًا في جليد سيبيريا، ولكن إلى أن نصل إلى هذا الكشف فعلينا أن نقنع بالمخلفات العظمية التي نجدها هنا وهناك في أجزاء مختلفة من العالم مطمورة في حفريات فيضية أو متحجرة.

وبما أن هذا الفرع من الأنثروبولوجيا يُعنَى بدراسة الإنسان بيولوجيًّا؛ فإن أول ما يجب أن نعالجه هو موضوع السلالة؛ لأن هدف هذه الدراسة هو تصنيف الإنسان القديم أو المعاصر في سلالات. فماذا تعني كلمة سلالة؟

في الماضي قبل أن تصبح الأنثروبولوجيا علمًا مستقلًّا، كان اختلاف المظاهر الخارجية الجسدية للناس مجالًا للكلام الكثير من جانب علوم الفلسفة؛ ذلك أن تغاير الصفات البشرية واضح بين مجموعة وأخرى في اللون أو شكل الشعر أو لون العين أو طول القامة أو شكل الأنف، وما إلى ذلك من المميزات الظاهرية للمجموعات الإنسانية.

وبعد أن انفصل هذا الموضوع وأصبح علمًا قائمًا بذاته له مناهجه الخاصة كان المتوقع أن يعطي العلم تفسيرًا واضحًا لمصطلح السلالة، إلا أن كلمة سلالة ما زالت أمرًا غامضًا يختلف عليه العلماء.

والملاحظ أن كلمة سلالة قد نشأت قبل أي تحديد علمي سابق؛ فقد لاحظ الناس منذ القدم اختلافات بين الصفات التي تميز بين المجموعات البشرية المختلفة، ولكن الناس لم يهتموا بدراسة هذه الخلافات، بل إن كل ما تطرق إلى ذهنهم هو هذا السؤال: هل هناك تعدد في الأنواع؟ ويلاحظ أن موضوع وحدة أصل الإنسان اقترن من ٢٠٠٠ سنة أو أكثر بفكرة الديانة عن أصل الإنسان. فالديانات السماوية الثلاث اتفقت فيما بينها على أصل واحد للإنسان (آدم وحواء)، وقد دعا هذا التأكيد الديني الكثيرين إلى التردد في مخالفة هذا النص الديني الصريح؛ مما جعل الناس متحيزين — سواء أرادوا أو لم يريدوا — لفكرة الأصل الواحد للإنسان.

ولكننا نلاحظ فيما بعد، وخاصة بعد التمرد على قيود الدين في أوروبا، وعلى الأخص مرة أخرى بعد الاستعمار الأوروبي لقارات العالم المجهولة من أمريكا وأستراليا إلى أفريقيا، نلاحظ أن بعض الكتَّاب قد حاولوا تدعيم فكرة وجود عدة أصول للإنسانية، بمعنى أن السلالات الأوروبية تختلف في أصلها اختلافًا كاملًا عن السلالة الزنجية والمغولية. ونلاحظ أن هذا الاتجاه لم يكن في بدايته موضوعًا علميًّا، ولكن كان من أجل تغلب وتدعيم فلسفة سيادة الرجل الأبيض وتبريرًا لإبادة أو استرقاق الأستراليين الأصليين والتسمانيين أو الهنود الحمر «الأمريند» Amerind والزنوج الأفريقيين.
وفي أوائل القرن العشرين عادت هذه الفكرة مرة ثانية إلى الظهور في صورة شبه علمية أخذت شكل شكوك، يعلن فيها بعض العلماء أنهم يظنون أن السلالة المغولية ذات أصل مرتبط بإنسان بكين Sinanthropos Pekinensis، وأن السلالة الزنجية مرتبطة بإنسان جاوة. هذه الشكوك ساورت الذين اكتشفوا هذه الحفريات، وخاصة الأستاذ فرانز فايدن رايخ Franz Weidenreich الذي قال: إن في إنسان بكين بعض المميزات التي تشابه مميزات السلالة المغولية المعاصرة، ولكن هذا الرأي قُوبِل بهجوم شديد من جانب العلماء المحنكين والحكماء.
وأخيرًا، يظهر لنا الأستاذ المعاصر كارلتون ستيفنس كوون١ بنظرية جديدة نشرها في ١٩٦٢، وفي هذا الكتاب يعدل Coon عن جميع آرائه السابقة ويعلن فكرة أصول مختلفة الإنسان المعاصر، ويرى أن هناك خمسة أصول لخمس سلالات تحتل العالم اليوم، وهي:
  • (١)
    الأستراليون أو الجنوبيون: (جنوب Austral) هؤلاء نشئوا في جزيرة جاوة أصلًا والأرض الآسيوية المجاورة لجاوة، وأصلهم الحقيقي يرجع إلى إنسان جاوة، ثم تطوروا على مر الزمن إلى أن أصبحوا سكان أستراليا الأصليين وسكان بابوا Papua (الجزء الأوسط والشرقي من غينيا الجديدة) والميلانيزيين وأقزام جنوب شرقي آسيا؛ قبائل الأييتا في جزيرة لوزون في شمال الفلبين، والسمانج في أواسط شبه جزيرة الملايو، والأندمانيون في جزر أندمان في خليج البنجال.
    ويُضاف إلى هذه المجموعات الجنوبية الأصل بعض مجموعات سلالية تسكن جنوب الهند؛ مثل تاميلي Tamili.
  • (٢)
    المغول: وهؤلاء نشئوا أصلًا في الصين منحدرين عن إنسان بكين، وبمرور الوقت تطوروا أيضًا إلى الإنسان العاقل، وانتشروا في المناطق التي ينتشر فيها المغول اليوم: شرق آسيا وشمالها باستثناء مجموعة الآينو Ainu الذين يعيشون في جزيرة هوكايدو في شمال اليابان، وجزيرة سخالين السوفيتية إلى الشمال منها. كما يمتد المغول أيضًا في بولينيزيا، وينتمي إليهم أيضًا الإسكيمو والأمرند في الأمريكتين.
  • (٣)
    القوقازيون: وهؤلاء نشئوا في مكان ما في غرب آسيا، وكانت ملامحهم على ما هي عليه من الصفات التي نسميها اليوم القوقازية.

    ويواصل كوون كلامه، فيقول: منذ ٢٥٠ ألف سنة (!) تطور بعضهم إلى صورة الإنسان العاقل الأوروبي الحالي، ومن هؤلاء تسلسل الأوروبيون وتشعباتهم عبر البحار إلى أقربائهم الأمريكيين وغيرهم، كما انتشروا أيضًا في الشرق الأوسط، ويعود إليهم معظم سكان الهند، كما أن هناك احتمالًا قويًّا أن يكون الآينو منهم أيضًا.

  • (٤)
    سلالة الرأس Capoids: وهؤلاء في نظر كوون يكونون سلالة قائمة بذاتها عبرت إلى شمال أفريقيا، ثم دفعت جنوبًا وشرقًا وتطورت إلى ما نعرفه اليوم البوشمن والهوتنتوث بجنوب غرب أفريقيا.
  • (٥)
    الكونغوليون Congoids: وهؤلاء يكونون السلالة الخامسة والأخيرة، وقد ظهرت في أفريقيا الوسطى، وأسماها كذلك نسبة إلى حوض الكنغو، وقد تطوروا فيما بعد إلى السلالات الزنجية والقزمية الموجودة في أفريقيا.
    وعلى الرغم من حداثة نظرية كوون؛ إلا أن إجماع العلماء يرفضها تمامًا.٢ والحقيقة أن سبب هذا الجدل والنقاش، هو عدم الاتفاق على مدلول ومفهوم ومعنى السلالة، فما هي السلالة؟

(٢) ما هي السلالة؟

في القرن الماضي اتفق معظم الباحثين على أنه لا وجود للجنس أو السلالة النقية في عصرنا الحالي، بل إن المجموعات البشرية المعاصرة في أركان العالم عبارة عن خليط. وقد قال البعض إن هذا الخليط ناجم عن سلالات نقية قديمة، وقد نشأ عن هذا اعتقاد في أن الخلط يفلح في تكوين سلالات جديدة. ومن الممكن نظريًّا أن نميز عددًا من الصفات تميز كل مجموعة منها سلالات نقية إلى حد ما، ثم يمكننا بعد ذلك أن نميز أنواعًا ودرجات مختلفة من الاختلاط يسميها البعض سلالات هي الأخرى، في حين يسميها البعض الآخر مجموعات جنسية أو شعوبًا أو قبائل. هذه الدرجات المختلفة هي التي يجب على الأنثروبولوجي الطبيعي دراستها ليميز مكونات الخليط — أي الأصول التي نشأ عنها هذا الخليط.

وكذلك نشأ في القرن الماضي بعض الذين يعتقدون في أثر مباشر لظروف البيئة الطبيعية على السلالات وتنوعها، وقد اختص المناخ باهتمام الكثيرين. وفي مقابل هؤلاء نَجِدُ جماعة أخرى من الدارسين تناقض هذا الموقف، وتنفي أي أثر للظروف البيئية على السلالات.

والواقع أننا نرى أن الموقف في القرن الماضي قد تضاعفت تعقيداته لسبب آخر، هو أن الباحثين من مؤيدي أو معارضي آثار البيئة لم تكن لديهم فكرة واضحة عن الاختلافات الأصيلة بين السلالات، وتمييزها عن الاختلافات الأخرى غير الأصيلة. ومن الأمثلة على ذلك أن الباحثين القدماء كانوا لا يعتقدون في الوراثة كعمل حاسم في نقل الصفات الجسدية، بل إنهم كانوا يفسرون بعض الصفات الجسدية على أنها آثار مباشرة للبيئة، مثل رأي لورنس عن فرطحة أنف الزنوج الذي أرجعه إلى طريقة الأمهات في حمل أطفالهن، وبالتالي نفى أن الأنف العريض لدى الزنجي صفة أساسية للزنوج، كما أن بافون Buffon قد وصف بعض التشويهات المتعمدة على أنها صفات جنسية أساسية. والواضح أن هذه المفهومات لكلمة سلالة كلها تشير إلى صفات ومميزات جسدية وراثية، لا يمكن تغييرها بواسطة عوامل البيئة.

وفكرة تقسيم السلالة البشرية إلى سلالات مختلفة على أساس وراثي يقوم عادةً على الفرض التالي: إذا كان هناك فرد ما يحمل مورثة بشرة سوداء مثلًا؛ فإنه لا بد وأن هذا الفرد يرتبط أوثق الارتباط — بواسطة الوراثة — بكل الأفراد الآخرين الذين يحملون مثل هذه المورثة، ويختلف عن الأشخاص الذين لا يحملونها، ويمكننا أن نشير إلى ظهور الشعر الزنجي بين النرويجيين للتدليل على هذا الافتراض.

وربما كان للاختيار الطبيعي أثر كبير في خلق ظروف ومميزات بشرية متماثلة في مناطق مختلفة، وبين مجموعات مختلفة. وبغضِّ النظر عن الوراثة، وبناء على ذلك؛ فإنه قد يكون من الممكن أن نفسر نشوء الصفات المتشابهة الزنجية والأسترالية فيما يختص بكثافة الجسيمات الملوَّنة في الجلد، على أنها تطور مستقل في كل من الحالتين نتيجة لظروف الاختيار الطبيعي في مناخات حارة، والواقع أننا نجد أن مثل هذه الحالات قد حدثت فعلًا.

وقد عرَّف أنصارُ نظريةِ الوراثةِ السلالةَ على أنها جماعة تشترك معًا في مجموعة من المورثات، اختلفت عن غيرها من الجماعات البشرية الأخرى نظرًا لعزلتها الجغرافية.

ولكن هل يمكننا أن نتتبع ونقسم النوع البشري إلى أقسام على أساس هذا التعريف. الواقع أن ذلك غير ممكن؛ لأن هذا التعريف ينصب على ما يُسمَّى بالسلالة النقية Pure Race، ومثل هذه السلالة النقية غير موجودة في أي مكان على الأرض الآن، وربما لم تكن موجودة أيضًا في الماضي. فنحن في الحقيقة نجهل هذا الأمر تمامًا. إن كل ما لدينا من أقسام للنوع البشري عبارة عن مجموعات متداخلة وسلالات من النوع الثانوي أو المركبة Secondary or Composite Races، وهذه نجمت عن التزاوج والاختلاط بطول تاريخ الإنسانية؛ لأنه لا توجد عزلة جغرافية كاملة. وبالتالي، لا توجد جماعة واحدة تشترك تمامًا في المورثات، بل نجد مورثات مختلفة داخل الجماعة الواحدة إلى جانب مورثات عامة.

السلالة تعديل للنوع بواسطة أسباب خارجية «أنصار البيئة الطبيعية»

إن هذه الفكرة قديمة، ولكن دخلها حديثًا بعض التعديلات، والفكرة القديمة كانت تسمح بالاعتقاد في تغيرات سريعة أو فورية نتيجة الظروف البيئية، وبذلك فإن فكرة السلالة كانت تعني ظاهرة انتقالية. وأبسط أشكال هذه الفكرة هي التي تفترض أسبابًا ميكانيكية للتغيير؛ مثل: تفسير أشكال الجماجم والرءوس بطريقة تربية الطفل في المهد والرضاعة، وهذه الفكرة تظهر بين حين وآخر إلى الوقت الحالي.

وقد اعترف بافون بدور الأسباب الميكانيكية، ولكنه علق أهمية كبرى على الغذاء والمناخ. وكان يعتقد أنه إذا عاش أناس مختلفو الأصل والصفات في بيئة واحدة؛ فإنهم سيتخذون — بعد عدد قليل من الأجيال — أشكالًا متشابهة.

وهناك مثال آخر ما زال يجد تأييدًا من بعض المصادر حتى الآن، وهذا هو ما يختص بالمناخ وشكل الأنف (آراء تومسون وبكستون ١٩٢٣ وديفز ١٩٣٢)، وكذلك فسر كل من سرجي (١٩٥٠) وسيمنوف (١٩٥١) شكل العين المغولية والبربرية على أنها دفاع عضوي ضد الضوء والعمل الميكانيكي للرياح.

والواقع أن هذا التفسير الآلي كان له أسبابه ودوافعه الدينية في الماضي والخلقية في الحاضر؛ فقد كان إعلان عدة أصول لا أصل واحد للسلالات مناقضًا للتعاليم الدينية، كما هو مناقض للقيم الخلقية العامة؛ لأنه يستحيل تخيل نشوء عدد من الأجناس والسلالات في الفترة التي تحددت في الكتاب المقدس لعمر الإنسان وهي ٦٠٠٠ سنة؛ لهذا كان الباحثون مضطرين إلى تفسير التغاير الجسدي للسلالات على أساس صدف وحوادث وآثار بيئية مباشرة. ويجب أن نعرف أنه لا توجد فعلًا أي مميزات بشرية نتجت عن عوامل بيئية مباشرة وسريعة. صحيح أن هناك بعض التغيرات المسجلة نتيجة التغير المكاني، مثل أبحاث شابيرو٣ التي أثبتت زيادة في طول قامة المغول المهاجرين بالمقارنة مع أصولهم في مناطقهم الأصلية، ولكن هذا التغير محدود، ولا يمكن القول إطلاقًا أن هؤلاء قد انفصلوا عن مجموعاتهم الأصلية تمامًا في الصفات الطبيعية (لا يمكن القول أنهم أصبحوا غير مغول).

وهكذا نرى في المؤلفات الحديثة أن هناك ما يؤكد عدم الاستقرار المحدود في بعض الصفات نتيجةً للظروف البيئية، إلا أن هذا لا يؤدي بالباحثين إلى القول أن هذا التغير يؤدي إلى تكوين سلالات جديدة، وبعبارة أخرى فإن هناك فوارق جوهرية بين الرأيين القديم والحديث عن مدى أثر البيئة المباشر على المميزات الجسدية.

وعلى أي حال، فإن عدم الاستقرار هذا في بعض الصفات الجسدية قد أدى إلى مواقف مختلفة بين العلماء. فبعضهم يتطرف إلى حد القول أنه ليس للصفات الجسدية المعتادة أي فائدة حين الكلام عن علاقات وارتباطات الجماعات والسلالات؛ لأن هذه الصفات غير ثابتة، والبعض الآخر يرى أن مثل هذا التغير ثانوي الأهمية، وبعض العلماء يلجئون إلى استخدام الأقسام الإنسانية الكبرى — كالأسود والأبيض — على أنها مجموعات ثابتة. والبعض لجأ إلى القول باستبعاد بعض الصفات الطبيعية واستبقاء البعض الآخر على أساس السيئ والجيد، مثل استبعاد القامة كصفة سيئة؛ نظرًا لتغايرها كما أوضح شابيرو في حالة المغول المهاجرين. ولكننا نجد أن تأكيدات شابيرو الخاصة بالتغير المحدود، بالإضافة إلى أبحاث مورانت على الإنجليز (١٩٤٩) وكيل (١٩٣٩) على النرويجيين، تثبت أن القامة ليست فعلًا صفة سيئة.

وعلى العموم فإننا نرى أنه ما زالت هناك شكوك حول التغير السريع للصفات؛ مما يدعو إلى دراستها دراسة أعمق.

تغير الصفات نتيجة التزاوج والاختلاط «أنصار الوراثة»

ظهرت هذه الفكرة بين الطبيعيين في القرن الماضي في بعض الأحيان، وكان بروكا Broca وتوبينار أول من نادوا بأن الأوروبيين ليسوا أجناسًا نقية بل سلالات خليطة. وفي عدة السنوات العشر الأولى من هذا القرن، رأى البعض أنه لا بد من الاستعانة بعلم الوراثة، ورأى البعض أن الصفات السلالية تُنقَل بالوراثة على أساس القانون «المندلي» البسيط؛ وتبعًا لذلك فإنه يمكن فصل ومعرفة الصفات المركبة بسهولة. ومن ثم كانت آراء تشيكانوفسكي Czekanowski ١٩٢٨ ودافنبورت Davenport ١٩٢٩ عن ضرورة البحث عن العنصرين أو العناصر التي اشتركت في تكوين أي خليط (الخليط إذن عبارة عن اشتراك سلالتين أو أكثر).
وقد ارتبط بذلك الرأي القائل إن التهجين والاختلاط ينتج عنه نوع جديد يصبح بدوره ثابت الصفات، ويمكن بذلك تسميته سلالة. وقد كان كاترفيج Quatrefages أول الأنثروبولوجيين الذين نادوا بهذه الفكرة، وقد أكد تشيكانوفسكي وجود سلالات خليطة (وليس مجموعات خليطة) تنشأ عن اختلاط وتهجين سلالات رئيسية. وقد أعرب هادون Haddon عن مثل هذا الاعتقاد أيضًا (١٩٢٤) وقال بوجود «سلالات ثانوية» تنجم عن اختلاط سلالتين أو أكثر من السلالات الرئيسية، على شرط أن تسنح فرصة السلالة الثانوية أن تثبت فيها وتستقر صفاتها الجديدة، وهذه الفرصة تتوفر في حالة واحدة هي الانعزال الجغرافي.
وقد كسبت هذه الفكرة تأييد الكثير من العلماء الحاليين،٤ فيما يختص بأن زنوج أمريكا قد أصبحوا — أو في الطريق إلى أن يصبحوا — سلالة جديدة؛ نظرًا للاختلاط والتهجين الكثير، وأصبح من السهل أن نجد في الكتابات الجديدة اعترافًا بأن التهجين يؤدي إلى صفات سلالية جديدة ثابتة.

وعلى الرغم من كل هذا التأييد؛ فإن الموضوع ما زال أمرًا نظريًّا بحتًا، ونجد خلافات ومصاعب شديدة أثناء البحث العملي لتحديد طبيعة بعض المجموعات وموقفها من السلالات العامة، وهذا ما سنبحثه في النقطة التالية.

السلالات المهجنة، والأنواع المتوسطة، والمجموعات غير المصنفة

إن هناك الكثير من الجدل وعدم الاتفاق حول تحديد موقف بعض السلالات والجماعات الخليطة. في الماضي كان يُطلَق على مثل هذه الجماعات: جماعات مختلطة أو متحولة Metamorphic، ولكن نرى الآن وجهة نظر جديدة ترتبط بفكرة الأنماط أو النماذج أو الأنواع المركبة أو المجمعة Synthetic types، وذلك لتسهيل تصنيف المجموعات أو الشعوب التي لم يُتفَق بعد على تحديد أصول عملية التهجين التي أدت إلى نشوءها. ويرى فالوا Vallois (١٩٣٢) أن هناك جماعات يمكن أن نسميها جماعات ما زالت موحدة لم تنفصل Undifferentiated، مثل بعض الجماعات الإثيوبية التي يُفضَّل لها هذا الاسم على القول أنها نتيجة تهجين بسيط بين السلالات البيضاء والسوداء. وقد وافق هادون على أن النماذج والجماعات المتوسطة يمكن أن تكون أيضًا نماذج لم تنفصل. كذلك رأى فلير Fleure (١٩٣٧) أنه يوجد بين الإنجليز نوع سابق لانفصال النوعين السائدين حاليًّا؛ وهما: الطويل الأشقر طويل الرأس، والقصير طويل الرأس البني الشعر. وعلى أي حال، فإن علم الوراثة لا يمكن بوضعه الحالي أن يساعد كثيرًا على حل معضلة السلالات المهجنة وتحديد أصولها، وأن يضع بذلك حدًّا لوجهات النظر المتضاربة هذه.

أما فيما يختص بالمجموعات غير المصنفة؛ فإنها — كما يتضح في كتابات معظم الأنثروبولوجيين — تخرج عن نطاق السلالات المهجنة والنماذج المتوسطة. وقد نشأ عن وجود تلك الجماعات التي يصعب تصنيفها بعض الآراء التي تصف بالخطأ فكرة تصنيف كل المجموعات البشرية في مكان محدود. وقد حاول فعلًا بعض العلماء تشكيل تصنيف عام يحدد مركز وعلاقة كل مجموعة بشرية، ولكن كانت هناك دائمًا جماعات مشكوك فيها. وقد أخذ بهذا الرأي الجديد كثير من العلماء، إما لقلة البحوث عن بعض الجماعات (وبالتالي فإنه سيمكن القيام بالتصنيف فيما بعد)، وإما لأنه لا توجد أي فرصة لتشكيل أسس تصنيف تشتمل على كل المجموعات البشرية.

السلالة كتجميع لصفات الأفراد (الأسس الأنثروبومترية)

يمكننا أن نبدأ بالقول أن كلمة سلالة تعني — على الفور — تجميعًا لصفات الأفراد. ويبدو أن هذه الفكرة كانت رائد الطبيعيين القدماء في تقسيماتهم للنوع البشري، رغمًا عن أنها لم تكن واضحة الوضوح التام. كما أن كثيرًا من الأنثروبولوجيون كانوا يطبقونها أثناء دراستهم؛ إذ كانوا يصنفون الأفراد حسب بعض مميزات أو صفات يختارونها، بدلًا من دراسة الأفراد على أساس مجموعات متكاملة من الصفات مثل فون إيكشتد ١٩٣٦. ويبدو أن ذلك المفهوم أيضًا كان رائد البعض في تحديد معنى «السلالة»؛ فقد ذكر كاترفيج (١٨٥٩): «مجموع الأشخاص المتشابهين يكوِّن السلالة.» وكذلك قال زالر Saller (١٩٣١) «ارتباط بين صفات موروثة ذات تغاير معين … يتميز بها أفراد سلالة عن السلالات الأخرى.» ومارتن Martin (١٩٢٨) «أن الأفراد الذين ينتمون إلى جنس معين مشتركون معًا في عدد من الصفات السلالية، ومجموع هذه الصفات هو ما يميزهم عن غيرهم من المجموعات.»

وكذلك نلاحظ نفس المبدأ في تعريف السلالة الذي قدمته الجمعية الأنثروبولوجية الملكية في بريطانيا ١٩٣٦ «أن الصفات الوراثية التي تميز سلالة هي التي تنطبق على غالبية الأفراد الذين يقع عليهم البحث، على ألا تكون صفات باثولوجية.» ولكن أصدرت الجمعية تعريفًا آخر يعكس وجهة نظر مغايرة: «السلالة مجموعة بيولوجية تشترك في عدد غير محدد من الصفات الوراثية تتميز به من غيرها من المجموعات.»

وترتبط هذه المشكلة بالمتوسط القياسي «الأنثروبومتري» الذي يعتمد على قيم قياسية مطلقة متفق عليها. وعلى أي حال، فإن فكرة السلالة على أنها ارتباط صفات معينة تتكرر في كل فرد على حدة، لم تنفصل عن فكرة السلالة على أنها مجموعة بشرية تتحدد بواسطة صفات ليس من الضروري أن ترتبط بنفس الطريقة على كل فرد على حدة.

وخلاصة هذه الآراء المتعددة تعود بنا مرة أخرى إلى طرح السؤال: ما هي السلالة؟

إن حقائق الاختلاف الجسدي والمميزات الجسدية العامة للبشر لا شك كثيرة، وتدعو الإنسان إلى الكلام عن جماعات بشرية كما لو كانوا منفصلين تمامًا عن بعض. ولكننا نجد الآن — وبعد البحوث العلمية الكثيرة — أن المجموعات البشرية لا تختلف عن بعضها اختلافًا هائلًا، وأنه يمكننا أن نجد مميزات جسدية مختلفة داخل المجموعة الواحدة. ومن أهم الأمثلة على ذلك ما لُوحِظَ أخيرًا من وجود الشعر الصوفي بين بعض النرويجيين، على الرغم من أن هذا النوع من الشعر خاص بالمجموعة السلالية التي نسميها الزنوج. ولا شك أن وجود هذا النوع من الشعر بين النرويجيين هو نتيجة لتغير مُوَرِّثة واحدة، وبذلك فهو ينتقل بطريقة بسيطة من الأب إلى الابن، وهناك مثال آخر أن البولينيزيين يظهر فيهم ارتباط بين الصفات والمميزات الخاصة بالمجموعات البشرية الثلاث الرئيسية: القوقازي، والزنجي، والمغولي.

وفي الوقت نفسه نجد اختلافات ملحوظة بين المجموعات الكبرى، والكثير من هذه الاختلافات يتحدد بواسطة المورِّثات — أي تحديد وراثي داخلي. كما يبدو أن بعض هذه الخلافات ناجم عن عملية الاختيار الطبيعي، وكذلك لُوحِظَ أن بعض المميزات الهامة، مثل طول القامة، تتأثر بواسطة البيئة، ويمكن أن تتعدل بطريقة ملحوظة في جيل أو جيلين.٥
فإذا عرفنا كل هذا فإنه لا بد لنا وأن نتساءل: ما معنى سلالة؟ وهذا السؤال يفترض أو يفرض وجود السلالة كشيء قائم فعلًا؛ لأنه توجد كلمة أو لأنه يوجد اصطلاح يُسمَّى السلالة. والحقيقة أننا إذا تصفحنا عدة قواميس فإننا سنجد معاني كثيرة لكلمة السلالة Race، وكذلك إذا تصفحنا كتبًا أو بحوثًا متخصصة؛ فإننا سنجد أيضًا عددًا من المعاني لمفهوم السلالة.

ومع ذلك فإن لكل من هذه التعريفات مسبباته، ونجد البعض أثناء استخدامه للمصطلح يشير إلى أشكال بشرية معينة مختلفة عن بعضها مثل اختلاف الزنجي والأوروبي (رغم وجود درجات مختلفة تمتزج فيها هذه الصفات)، أو ربما يشير إلى اختلافات كالتي تُوجَد بين اليوناني والنرويجي مثلًا، أو ربما يشير البعض إلى اختلافات بين الجنسيات؛ مثل: أمريكي، وإيطالي.

السلالة كفكرة مطلقة

وهذه النقطة تقودنا إلى المسألة الصعبة، وهي التي يختلف عليها العلماء كثيرًا، وهذه هي مسألة السلالة كفكرة قائمة بذاتها ولا نظير في الواقع. والواقع أننا نجد أن الاختلاف قد حدث منذ منتصف القرن الماضي، وقد قال كل من بروكا وتوبينار أن السلالة بمعناها المطلق لا توجد إلا في صورة مختلطة مبعثرة، وقد أثرت هذه الأفكار على من أتى بعدهما من العلماء. فنجد مثلًا ربلي Riply يقول: إنه ليس من الضروري لدراساتنا أن نعزل ونميز جماعات أو أفرادًا معينين يمثلون السلالة في أنقى درجاتها. فالسلالة فكرة مطلقة، وهي فكرة الاستمرار داخل عدم الاستمرار أو فكرة الوحدة داخل التفرق. وعلى الرغم من أننا قد نجد أفرادًا قليلين جدًّا يمثلون النماذج النقية القياسية للسلالة إلا أن كلمة السلالة ما زالت قائمة ومستخدمة لدينا. وكذلك نجد مثل هذه الأفكار في أبحاث الروس؛ مثل فوربيف Vorobieff، ومندس كوريا Mendes Correa، ونستورخ Nesturkh. وعلى الرغم من أن الاعتقاد بأن السلالة فكرة مطلقة قد شاع الآن، إلا أن ذلك الاعتقاد لم يحل محل الاعتقاد بأن السلالة تظهر في الواقع في شكل ارتباطات الصفات في الأفراد. ولكن من الغريب أن نرى أن الاعتقادين يظهران أحيانًا في آراء الكاتب الواحد، وعلى أي الحالات فإن فكرة السلالة على أنها شيء مطلق قد سبقت تاريخيًّا فكرة السلالة القياسية، وهذه تعني أن السلالة تتحدد في الواقع والتطبيق بعد صفات معينة. ورغمًا عن الخلافات الشديدة في المناهج فإننا نجد أن الأنثروبولوجيين لا يختلفون كثيرًا في عدد السلالات في العالم، وذلك راجع إلى أنهم — أرادوا أم لم يريدوا — يستخدمون الصفة الإقليمية أو الجغرافية للسلالة، وذلك عن طريق تجمع عدد من الصفات الجسدية في أقاليم جغرافية معينة، وأكبر دليل على ذلك عدم الاختلاف الكبير في عدد السلالات وتحديدها تحديدًا إقليميًّا.

وعلى هذا يمكن أن نخلص إلى أن السلالة عبارة عن تجميع لعدد من الصفات القياسية والوراثية، وأن هذا التجميع مؤقت ومرتبط بأقاليم جغرافية.

(٣) تاريخ تطور السلالات البشرية

الإنسان المعاصر — كما هو معروف وكما يتضح من الأشكال المرفقة ١-١، ١-٢، ١-٣، ١-٤ — هو نوع ثانوي من نوع الإنسان العاقل المتفرع عن جنس الإنسان عن عائلة الهومينيديا عن رتبة الرئيسيات عن طبقة الثدييات عن فصيلة الفقاريات. ويوضح الرسم التخطيطي التالي هذه النسبة:
التصنيف البيولوجي للإنسان المعاصر.
الإنسان المعاصر: نوع ثانوي Living Races: Sub-Spieces
الإنسان العاقل: نوع Homo Sapiens: Spieces
الإنسان: جنس Homo: Genus
الهومينيديا: عائلة Hominidae: Family
الرئيسيات: رتبة Primates: Order
الثدييات: طبقة Mamalia: Class
الفقاريات: فصيلة Vertebrae: Phyla
الحيوان: مملكة Animal: Kingdom
ولا شك أن أهم ظاهرة ميزت الإنسان عن بقية المملكة الحيوانية، والتي أدت إلى الكثير من ارتقائه الفكري، هي وقوفه على قدميه، تاركًا لديه حرية التصرف والحركة المستقلة عن السير. وحقيقةً لم يكن الإنسان هو أول من سار على قدميه، ففي الزمن الجيولوجي الثاني — أي قبل ظهور الإنسان بنحو أكثر من ٧٠ مليون سنة — سارت الحيوانات الضخمة المعروفة باسم مجموعة الديناصورات Dinosauria على قدميها، لكن الأيدي كانت جزءًا عاجزًا. وقد قال أحد الكتَّاب عن حق:
إن الإنسان يقف وحده (في ترتيبه في الحياة)؛ لأنه الوحيد الذي يقف على قدميه Man Stands alone because he alone Stands.

وقد أدى تخلص الأيدي من المساهمة في عملية حركة الإنسان إلى تخصيص الأيدي من أجل العديد من الأشياء التي يصنعها الإنسان، وأهمها الأدوات والآلات التي تعطيه قدرات أعظم من قدراته العضلية، وأعظم من أي قدرات جسمية لأي كائن حي على ظهر الأرض.

fig24
شكل ١-١
fig25
شكل ١-٢: تطور رتبة الرئيسيات (بما فيها الإنسان).
ملاحظات: الأرقام ١–٥ المكتوبة داخل الدوائر توضح بالتقريب النقاط التي عندها بدأ إشعاع «انفصال» الأنواع المختلفة. الخطوط المزدوجة تمثل: الخط أ-أ: إشعاع وانفصال البروسيمان. (ب) إشعاع بروسيميان مدغشقر. (ﺟ) إشعاع قردة العالم الجديد ceboids. (د) إشعاع قردة العالم القديم cercopithecoid. (ﻫ) إشعاع الهومينيديا.

والإنسان ليس متخصصًا في صفاته الجسدية مثل بقية الحيوانات، بل إن كل صفاته عامة. فعلى سبيل المثال يحتوي فم الإنسان على قواطع وأنياب وضروس تمكنه من القطع والتمزيق والطحن، على عكس الحيوانات التي تخصصت إما في الطحن فأصبحت نباتية، وإما في التمزيق والقطع فأصبحت من رتبة آكلة اللحوم. وبذلك يمكن للإنسان أن يعيش على الغذاء النباتي والحيواني معًا، وهي صفة عمومية على عكس تخصص بقية عالم الحيوان.

وكذلك فالإنسان قوي جنسيًّا؛ إذ لا يرتبط بموسم التناسل مثل بقية الحيوان، بل على العكس نجد أن الرغبة الجنسية عنده دائمة على مدار السنة؛ ولذلك فليس ثمة خطر على الإنسان من أن يتخصص في صفة جسدية معينة، وبالتالي لا يقف تطوره عند حد معين يصبح أسيرًا له مثل تخصص الحيوانات في مناخات معينة، ومن ثم فإنه يعمر كل مناطق العالم (مثال التخصصات التالية: الجسم الأسطواني للأحياء البحرية، خرطوم الفيل، رقبة الزرافة، الغطاء الثقيل للسلحفاة أو التمساح … إلخ).

وقد ذكرنا أن وقوف الإنسان على قدميه قد مكَّن يديه للقيام بأعمال أخرى، وخاصةً صناعة الأدوات؛ ولهذا فإن الصفة الثانية للإنسان التي تميزه عن الحيوان هي أنه «صانع أدوات». وصحيح أن بعض القردة العليا تستطيع أن تستخدم عصيًّا أو أفرع شجر،٦ ولكن ذلك لا يمثل نمطًا سلوكيًّا عند هذه القردة، ولا تستخدم عصيًّا من نوع معين أو تهذب بطريقة معينة تخدم هدف استخدامها.

والصفة الثانية التي تميز الإنسان هي القدرة على التفكير الغريزي وغير الغريزي، والنقل والمحاكاة والتوارث الفكري والاجتماعي، وهذه هي أعلى صفات موجودة في المملكة الحيوانية.

وتلتقي كل الصفات التي تميز الإنسان عن الحيوان في المخ، ومخ الإنسان كبير بالنسبة لحجم الإنسان ووزنه، بل إن مخ الإنسان هو الرابع في الوزن في عالم الأحياء كله. أكبر حجم هو مخ الحوت الذي يبلغ ٦٠٠٠ سنتيمتر مكعب، ثم الفيل ٥٠٠٠سم٣، ثم بعض أنواع الحيتان الصغيرة والدرافيل وغيرها ١٨٠٠سم٣، ثم الإنسان بمتوسط ١٤٥٠سم٣، بينما يبلغ المخ عند أقرب الرئيسيات إلى الإنسان ٥٠٠سم٣ عند الغوريلا، ٤٠٤سم٣ عند الشمبانزي، ٣٩٥سم٣ عند الأورانج أوتان، و١٢٨سم٣ عند الجيبون.

وليست المسألة مجرد الحجم، بل إن بنسبة حجم المخ إلى وزن الكائن نجد أن الإنسان يتفوق على أقرب منافس له، وهو الغوريلا — بستة أضعاف.

جدول يوضح عمر العصور الجيولوجية الحديثة.
الزمن الجيولوجي العصر الجيولوجي العمر بمليون سنة الشكل الأساسي للحياة
الزمن الرابع الهولوسين الحديث ٠٫٠٣ عصر الإنسان
البليوستوسين ١٫٠
الزمن الثالث البليوسين ١١٫٠ عصر الثدييات
الميوسين ١٦٫٠
الأوليجوسين ١١٫٠
الإيوسين ١٩٫٠
البليوسين ١٧٫٠
fig26
شكل ١-٣: تخطيط التطور العام للهومينيديانية.

(أ) الشمبانزي. (ب) الغوريلا. (ﺟ) أورانج أوتان. (د) الجيبون. (١) بداية عائلة الهومينيديا. (٢) الوقوف على القدمين. (٣) مرحلة الانتقال من الحيوان إلى الإنسان. (٤) بدايات ما قبل الإنسان. (٥) فجر الإنسان. (٦) السلالات المعاصرة. ملاحظة: مرحلة التأنسن = بداية اتخاذ الصفات الإنسانية.

fig27
شكل ١-٤: مبسط تطور وعلاقة الهومينيديانية.
والآن لِنَرَ كيف تطوَّر الإنسان من أصوله الأولى التي ترجع إلى عصر الأوليجوسين — أي: إلى حوالي ٣٠ مليون سنة مضت. ففي نهاية الأوليجوسين بدأ شكل جديد من أشكال الحياة يتطور عن رتبة الرئيسيات، ومن هذا الشكل الحيواني الجديد الذي يمكن أن نسميه عائلة الهومينيديانية Hominidae (راجع أشكال ١-٢، ١-٣، ١-٤) تفرعت أصول الإنسان والقردة العليا، ولا نعرف تمامًا كيف كان شكل هذا الأصل، لكنه ربما شابه أحد أشكال النسانيس والقردة التي تُسمَّى ليمنوبثكس Limnopithecus والذي وُجِدَتْ حفرياته في شرق أفريقيا (كينيا). وأقدم الأدلة على هذا الاتجاه عُثِرَ عليه في حفرتين من عصر الأليجوسين في مصر (الفيوم): وهما بارابثكس Parapithecus الذي يُعَدُّ أصل قردة العالم القديم، وبربليوبثكس Propliopithecus، وهو يُعتبَر من أصول الهومينيديانية، وهما بذلك أقدم من الليمنوبثكس. وقد كان في إمكان هذا القرد أن يعيش على الأشجار ويسير بصعوبة لمسافات قصيرة على الأرض. وفي الميوسين بدأ الجو يميل للبرودة؛ مما اضطر بعض الليمنوبثكس إلى النزول إلى الأرض لجمع الغذاء بعد أن قلَّ محصول الشجر، وزاد العشب والحشائش على حساب الحياة الشجرية التي تباعدت أشجارها.
وقد تمكن هذا الفرع الذي نزل إلى الأرض من الاستمرار في السير على قدميه، وكون في النهاية أصول الإنسان. والمتفق عليه أنه في أوائل الميوسين — منذ حوالي ٢٥ مليون سنة — حدث انقسام بين هذه القردة التي سارت على الأرض، أدى إلى تكوين:
  • (١)

    أصول الجيبون؛ وهو أقدم القردة العليا انفصالًا، وأكثرها التصاقًا بالحياة الشجرية، وأقلها من حيث حجم المخ.

  • (٢)
    أصول عائلة الهومينيديا في شكل من الرئيسيات يُعرَف حاليًّا بجنس بروكونسول Proconsul الذي تشعب إلى نوعين معروفين؛ هما: (أ) البروكونسول بنوعية الكبير (يمكن أن يكون أصل الغوريلا)، والصغير (الذي يمكن أن يكون أصل الشمبانزي). (ب) دريوبثكس بأنواعه المختلفة، وهو أحدث من البروكونسول (أواخر الميوسين)، وقد وُجِد كثير من حفرياته في تلال سيفاليك في الهند، وقليل منها في أفريقيا وأوروبا. وإجماع الآراء هو أن قرد الدريوبثكس هو أقرب ما لدينا من حفريات لأصول التشعب في عائلة الهومينيديا إلى خطى التطور: القردة العليا والإنسان. أما حفرية أوريوبثكس التي وُجِدَتْ في شمال إيطاليا؛ فإنها لا تُعَد الآن جزءًا من التطور العام في الخط الإنساني، بل جنس تطور وحده في منطقة المستنقعات والغابات في أواخر الميوسين وانقرض.
fig28
شكل ١-٥: الفروق الأساسية في تطور الجمجمة.
ولفترة حوالي عشرين مليون سنة بعد كشوف أواخر الميوسين لا نجد حفريات، لكن لا شك أن عائلة الهومينيديا كانت تتطور في هذه الفترة الطويلة. ثم نجد بعد ذلك حفريات طلائع الإنسان، وأكثر هذه الطلائع بداية وأقل اقترابًا من الإنسان هي حفريات القرد الجنوبي Australopithecenia الذي وُجِدَ في جنوب أفريقيا في أواخر البليوسين وأوائل البليوستوسين. والمعتقد أنه إشعاع تطوري من خط الهومينيديا الرئيس انفصل وانقرض، وبعد ذلك اكتُشِفَتْ حفريات أخرى من البليوستوسين يتفق العلماء على أنها تبدأ سلسلة جنس الإنسان. وأقدم هذه الحفريات هي تلك التي اكتُشِفَتْ في جاوة وأُطْلِقَ عليها اسم الإنسان الواقف Homo Erectus أو بثكانتروبوس بمعنى الإنسان القرد. وهناك فروق كبيرة في جميع الصفات الجسدية وصفات المخ بين الإنسان الواقف وما قبله من حفريات سوف نفصلها فيما بعد. ومنذ بداية الإنسان الواقف تصبح صورة التطور البشري أوضح نسبيًّا عن الصورة السابقة؛ لكثرة الحفريات وتصاعد الصفات الجسدية للحفريات اللاحقة في اتجاه الصفات البشرية الحالية، ما يعطينا دليلًا مستمرًّا على نمو التطور البشري.

هذا باختصار موجز لتاريخ تطور عائلة الهومينيديا في اتجاه السلالات المعاصرة، وإن اتفق العلماء على هذا التاريخ بتصورات متقاربة، إلا أن الاختلاف كبير على الطريق أو الطرق التي تؤدي إلى هذا التطور.

(٤) كيف تطورت السلالات البشرية؟

من المشكلات الهامة في الأنثروبولوجيا معرفة تاريخ تطور السلالات المعاصرة من الإنسان العاقل من أصولها القديمة. ونظرًا لعدم كفاية الأدلة الحفرية؛ فإن هناك تضاربًا كبيرًا في هذا الموضوع. فهل تطورت السلالات المعاصرة عن إنسان نياندرتال أم عن الإنسان الواقف، أم عنهما معًا، أم نشأ نشأة منفصلة عنهما؟

ولا نريد أن ندخل في متاهات كثيرة. لقد كان الرأي إلى أواخر الخمسينيات يستبعد أن يكون الإنسان العاقل قد نشأ نتيجة تطور لمجموعة نياندرتال، بل كان أقرب إلى استبعاد هذه المجموعة على أنها نوع من جنس لإنسان نشأ موازيًا لخط التطور الأساسي من الإنسان الواقف إلى الإنسان العاقل. لكن المؤتمر الذي عُقِدَ في عام ١٩٦٢ في بورج فارتنشتاين بالنمسا لدراسة التطور البشري وتصنيفه، قد انتهى إلى اعتبار نياندرتال نوعًا فرعيًّا، وليس نوعًا منفصلًا من جنس الإنسان، وأنه قد انقرض أو اندمج مع مقدمات الإنسان العاقل حسب الأماكن الجغرافية المختلفة.

وتتفق الآراء الآن على أن الإنسان العاقل هو عبارة عن نوع متعدد المورفولوجية، متعدد النمط، تطوَّر بصفة مستمرة خلال الزمن من الإنسان الواقف.

لكن هناك اتجاهين لتفسير تطوره؛ الاتجاه الأول: أنه تطور عن إحدى المجموعات البشرية التابعة للإنسان الواقف، المنعزلة جغرافيًّا، ثم انتشر وقضى على مجموعات الإنسان الواقف بما يستحوذ عليه من درجة أعلى في صفات البقاء متمثلًا في حجم المخ الكبير (وبالتالي افتراض درجة ذكاء أعلى) وابتكارات للأدوات أحسن من الإنسان الواقف. ومن أكبر مؤيدي هذا الاتجاه بيردسل، ويُسمَّى هذا الاتجاه الأصل الشقي أو الجزئي cladogenetic؛ لأن جزءًا واحدًا تطور.
أما الاتجاه الثاني — وهو الأحدث — فيقول إن التطور قد سرى على كل مجموعات الإنسان الواقف، بحيث تحول إلى الإنسان العاقل بواسطة تبادل الجينات أو المورِّثات والهجرة المستمرة والتعديلات الملائمة لأماكن الهجرة الجديدة والطفرات التي تحدث فيها. ويُسمَّى هذا الاتجاه بالأصل الكلي anageletic؛ لأن كل الإنسان الواقف قد تطور بدرجات متفاوتة متبادلة. ومن أكبر مؤيدي هذا الاتجاه دوبزانسكي.٧

ويرى دوبرزانسكي أن «السلالة» ليست سوى مجموعة من الناس المتوالدين المترابطين بواسطة القرابة، المنعزلين جزئيًّا. وما دام الانعزال جزئيًّا؛ فإن تبادل الجينات سوف يستمر في تغيير هؤلاء الناس، وحينما تحدث هجرة تنكسر العزلة وتؤدي تغيرات البيئة إلى تأثير قوي على قوى الاختيار الطبيعي. ويُذكَر في هذا الصدد أن التغيرات الحضارية من الصيد إلى الزراعة، أو من الريف إلى المدن، تؤثر بشدة على عملية الانتخاب الطبيعي.

وبهذه الصورة يعالج دوبزانسكي مشكلة السلالات الحالية على أنها تخضع بصفة مستمرة للتغير التدريجي، كما حدث للسلالات السابقة.

أما أصحاب نظرية التطور الشقي فإنهم يعتمدون على صور العزلة التي كان يعيش من خلالها إنسان العصور الحجرية القديمة. ففي تلك الفترة لم يتجاوز سكان العالم مليونًا من الأشخاص منتشرين في أرجاء الدنيا في صورة جماعات صغيرة العدد لا تتجاوز بضع عشرات إلى مئات قليلة من السكان. ومثل هذه الظروف تُعَدُّ مثالية للعزلة التي تمكن من حدوث التغير السلالي في قسم واحد من الناس. كما أن تبادل الجينات سوف يكون في منتهى البطء؛ بحيث يسمح فعلًا بانقسام السلالات وتمايزها.

وبرغم ما تبدو عليه هذه الأفكار من قوة، إلا أن التشكك يمكن أن يداخلنا إذا ما أضفنا عاملًا حضاريًّا على جانب كبير من الخطورة. فنظام الاغتراب في الزواج Exogamy هو نظام قديم لتجنب التزاوج بالمحرمات incest taboo، وإن كانت بعض الجماعات في البداية قد سمحت بالمحرمات، إلا أن التقسيم الاجتماعي والديني سرعان ما يفرض الاغتراب على أبسط المجتمعات، وهذا أمر نلاحظه في كثير من القبائل البدائية المعاصرة في حوض الأمازون الذي يحدث فيه الاغتراب في الزواج حتى ولو كانت الزوجة من مجموعة لغوية أخرى، ولا شك أن هذا يسرع بعملية تبادل الجينات ويضمن تطورًا عامًّا مشتركًا في السلالات المختلفة. وليس الزواج وحده هو العامل الأساسي، وإلا سار تبادل الجينات ببطء شديد، لكن هناك أيضًا التحركات القبلية المختلفة في صورة غزوات وأسر وسبي وهجرات تؤدي إلى تدافع المجتمعات من أماكنها إلى أماكن غيرها في حركة تكاد لا تتوقف وخاصةً غزوات وهجرات الرعاة.

ولا شك أن فكرة التطور الشامل أو الكلي أكثر قوة من الفكرة الجزئية، ويشبه دوبزانسكي التطور البشري بنهر واحد كبير كثير الانحناءات توازيه مجارٍ عديدة صغيرة، وقد يحدث أن يبتعد مجرى صغير وينتهي إلى الفناء، لكن الغالبية تلتحم وتفترق عن النهر الكبير في صورة متكررة. وتمثل هذه المجاري الصغيرة السلالات التي تنشأ في ظل ظروف خاصة، لكنها تندمج مع التيار الكبير ذي الصفات السلالية العامة. وبعبارة أخرى: فإن السلالة عبارة عن تيار مؤقت يذوب في التيار العام للتطور البشري.

ويؤكد الأستاذ السوفيتي نستورخ أن سلالات الإنسان هي نتيجة التطور التاريخي.٨
فلا شك أن البيئة الطبيعية كان لها أثر كبير على الإنسان، خاصة في مراحل تطوره الأولى أكثر من الوقت الحاضر، وكان التأثير واضحًا على عدد من المظاهر مثل لون البشرة. كذلك كانت طريقة الحياة لها أثرها الواضح على تطور الإنسان: تقدمه أو انقراض سلالته. وهذه وجهة نظر معارضة تمامًا لوجهة نظر العلماء الذين يعتقدون أن تكوين السلالات جاء نتيجة لتغاير ترتيب وتعادل مورثات لا يمكن أن تتغير Genes «مورثات».

فحينما انتشرت السلالات عبر الظروف البيئية المختلفة كان لذلك ولا بد أثر فعال، ولكنه لا يصل إلى أثر البيئة على سلالات الحيوان؛ وذلك لأن الإنسان اختلف كيفًا عن الحيوان عن طريق معارضته الدائمة للبيئة التي يعيش فيها، على عكس الحيوان الذي يرغب في الإبقاء على مظاهر البيئة التي تكيف وتأقلم حيالها. وقد عارض الإنسان بيئته عن طريق العمل الجماعي من أجل تغيير مظاهرها لصالحه الخاص.

ويعتقد العلماء السوفيت أن الإنسان في بدايته كان يمتلك عددًا من الصفات التي يمكن أن تتكيف وتتأقلم، ولكن هذه الصفات قد قلَّتْ أهميتها ثم فُقِدَتْ تمامًا نتيجة لزيادة الدور الاجتماعي الإيجابي في تهيئة الظروف البيئية للحياة رغم اختلافها. وهكذا فإن قوانين الاختيار الطبيعي، وإن كان لها دورها في بداية عصر الإنسان، إلا أنها أصبحت غير ذات قيمة بعد الجهد الإيجابي الاجتماعي للمجتمع الإنساني.

وكان انعزال السلالات البشرية في البداية في بيئات جغرافية متغايرة ذا أهمية كبرى، ولكن زيادة السكان ونمو الاتصالات البشرية أدى إلى اختلاط السلالات. ويرى عدد من الأنثروبولوجيين أن الانعزال ثم الاتصال والاختلاط قد حدثا عدة مرات في تاريخ البشرية، وعلى فترات زمنية طويلة، وفي كل مرة يزداد فيها الإنسان ويختلط تستقر المميزات السلالية الجديدة، إلى أن ظهر الإنسان الحديث فعمَّر سطح الأرض جميعًا.

ورغم أن عددًا من الظروف الجغرافية (الجبال العالية – الصحاري – الغابات الكثيفة) كانت عوائق أمام هجرات الإنسان؛ إلا أنها لم تمنع الهجرات عبرها. وهكذا نجد أن العزلة – الهجرة – زيادة السكان – الاختلاط السلالي من العوامل الرئيسية التي حدثت فرادى ومشتركة وأدت إلى تكوين السلالات المعاصرة.

(٥) التطور والإنسان الحديث

قد يُقال إن السلالات قد استقرت على صفات ثابتة منذ فترة طويلة. لكن دراسة السلالات ليست قديمة؛ ولهذا لا نستطيع أن نعرف ماذا يحدث من تطور في السلالات الحالية، ويكفي أن نعرف أن القرون الأربعة الماضية — منذ الكشوف الجغرافية الكبرى — قد أدت إلى هجرات واسعة وبأعداد كبيرة إلى بيئات جديدة، ومعلوماتنا عن عملية التطور هذه ما زالت هامشية. ولكن الحركة المستمرة في العالم عبر الحدود الدولية، ومن الريف إلى المدينة قد ساعدت بدون شك على سرعة انتقال الجينات عبر العالم باستثناء مناطق محدودة معزولة. وبما أن الإنسان يسعى إلى التحكم في بيئته، فإنه بسعيه هذا إنما يؤدي — بدرجات مختلفة — إلى تغير نمط الانتخاب الطبيعي.

وبالإضافة إلى ذلك فإن التقدم الطبي الملحوظ في أرجاء العالم قد ساعد على تناقص أو اختفاء جينات أمراض معينة، فلم تَعُدْ تُورَّث بالضرورة، ولكنه ساعد أيضًا على ظهور جينات أمراض جديدة للبيئة الجديدة. وقد يتساءل بعض الأنثروبولوجيين: ألم يَحِن الوقت الذي يجب فيه التخلص من الجينات الضارة؟ ولكن ذلك يستدعي تعقيمًا إجباريًّا لحاملي مثل هذه الجينات؛ فهل يمكن أن يتم ذلك برضاء المجتمع؟

وليست الجينات خاضعة فقط لغزو الطب الحديث، بل إنها تخضع أيضًا لظروف المناخ والريف والمدينة والاختلافات الاجتماعية والعادات الغذائية، وغير ذلك كثير مما تعمل من خلاله الجينات من أجل استمرار التطور البشري.

وخلاصة القول أن انهيار أسوار العزلة، وزيادة أعداد الناس في العالم، والاختلاط المتزايد منذ القرون الأربعة الماضية قد أصبح يؤهل الإنسان العاقل الحالي إلى تطور سريع جدًّا. وبعبارة أخرى فإن زيادة قدرة الإنسان على التكيف تؤدي إلى توسيع احتمالاته للتطور البيولوجي.

ويقول الأستاذ واشبورن Washburn:٩ «إننا نعرف أن الذكاء أو طول الأعمار أو السعادة لا تتحقق إلا من خلال النظام الاجتماعي لأي مجتمع. إن النظام الاجتماعي (بما فيه) يغير من أنواع الجينات. لكننا لا نعرف مجتمعًا بدأ في التعرف على القدرات الجينية لأفراده. إننا لا نزال بدائيين نعيش على عادات قديمة وسط تقدم علمي. إن السلالات هي خلق الماضي، وهي ليست سوى آثار دراسة لظروف لم تَعُدْ قائمة، والعنصرية أيضًا أثر بالٍ لا يدعمه العلم الحديث. وقد لا نعرف تفسير شكل وجه المغولي … ولكننا نعرف فوائد التعليم والتقدم الاقتصادي، ونعرف أن ثمن التعصب العنصري هو الموت، واليأس، والكراهية.»
١  Coon, C. S., “The Origin of Races” New York 1962.
٢  تعرض كوون لنقد لاذع من عدد من الأخصائيين نذكر منهم: (١) تيودوسيس دوبزانسكي الذي قال: «احتمال أن الإنسان العاقل قد تطور مستقلًّا خمس مرات احتمال شديد الضآلة Vanishingly Small. ولا شك أن الإنسان العاقل نوع شديد التنوع، لكن درجة الاختلاف لا يمكن أن تصل إلى مرتبة تكوين أنواع جديدة …» (٢) جوزيف بيردسل الذي قال بعد الدراسة: «… إن ٢٪ فقط من الأستراليين يتصفون بالصفات الجنوبية حسب تصنيف كوون … كذلك كثير من المقاييس الوجهية التي ابتكرها كوون لتدعيم رأيه قد أُسِيء تطبيقها، وإن تطبيقها في الواقع يؤدي إلى تشابه كبير لنفس المقاييس على السلالة المنفصلة التي ذكرها كوون، لكنه لم يختر من التطبيق إلا ما يؤيد ويدعم نظريته الجديدة — أي استخدام الأدلة حسب اختياره — وهو بذلك ليس خاضعًا للموضوعية.» (٣) رالف بيلز وهاري هوجر يؤكدان أن منهج كوون يمكن أن يكون صحيحًا فيما لو كان يعالج أنواعًا منفصلة من الحياة، لكنه نسي الحقيقة الأصلية في أنه يواجه خمس مجموعات من نوع واحد وليس خمسة أنواع. ارجع إلى: (1) Dobzhansky, T. “Possibility that Homo Sapiens evolved independently Five Times is Vanishingly Small” in “Current Anthropology”, Oct 1963, (2) Birdsell, I. B., “The Origin of Human Races” in “Quarterly Review of Biology” June 1963, (3) Beals, R. & H. Hoijer, “An Introduction to Anthropology” 3d. ed. New York 1967.
٣  Shapiro, H. “Migration and Environment” New York., 1939.
٤  Coon, C. S., M. Garn, & J. B. Bridsell, “Races, a study of Race Formation” Springfield, 1950.
٥  كان فرانز بواس أحد الأنثروبولوجيين القلائل الذين اهتموا بهذا الموضوع، وقام بعدة دراسات مطولة لحساب إدارة الهجرة الأمريكية عن المهاجرين القادمين إلى أمريكا ومقارنتهم بأبنائهم، وانتهى إلى أن تغيرات كثيرة قد حدثت في القامة وشكل الرأس، ولكن آراء بواس في هذا المجال قد هُوجِمَتْ في حينها (العشرات الأولى من هذا القرن). انظر: Boas, F., “Race Language and Culture”, New York 1940, PP. 60–88 (2. Ed. 1956).
٦  لُوحِظ أن بعض الشمبانزي في الأسر يمكن أن يستخدم بعض الأدوات المعقدة، والشمبانزي الطليق يمكن أن يستخدم عصا يبللها بلعابه ويُدخلها جحور النمل ويسحبها بما علق عليها من النمل ليأكله ويكرر العملية. لكن يبدو أن لكل شمبانزي شكلًا محببًا من العصي، وأنه لا يوجد شكل عام يستخدمه الكل.
Beals, R., & H. Hoijer “An Introducation to Anthropology” Macmillan, New York 1967, P. 58.
٧  Dobzhansky, T., “Manking Evolving: The Evolution of the Human species” New Haven, 1962.
٨  Nesturkh, M., “The Origin of Races”, Moscow 1966.
٩  Washburn, S. L., “The Study of Man” in “American Anthropologist”, 1963, P. 531.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤