الفصل السابع

الأنثروبولوجيا الاقتصادية١

(١) الاقتصاد والتكنولوجيا

تتميز كل المجتمعات البشرية من البدائية إلى أصحاب الحضارات العليا بنظمٍ اقتصادية معينة، تمكِّنها من الحصول على الغذاء والاستمرار في الحياة. ويمكن أن نحدد الاقتصاد على أنه مجموع الآراء والأفكار والعادات والتكنولوجيات المرتبطة باستغلال البيئة الطبيعية من أجل إشباع حاجات المجتمع.

ولعلَّ التكنولوجيا هي أهمُّ أقسام النظام الاقتصادي؛ لأنها تمثِّل الوسيط المادي بين النظرية الاقتصادية المعينة للجماعة وبين الإنتاج الفعلي لإشباع رغبات المجتمع وحاجاته. فالتكنولوجيا إذن هي منهج تطبيقي يستخدم مبتكرات معينة هي: (١) أدوات الإنتاج. (٢) استخدام أحسن ظروف البيئة الجغرافية لتشغيلها إنتاجيًّا. (٣) تنظيم الجماعة للعمل. ولكي يتضح ذلك نأخذ الزراعة على سبيل المثال، فالتكنولوجيا الجيدة هي تلك التي تبتكر أدوات زراعية تساعد على تقليل الطاقة المبذولة وتعطي نتائج جيِّدة في الإنبات والمحصول دون هدرٍ كبيرٍ في الجهد والمنتج. كذلك تقوم التكنولوجيا الجيدة (تجريبيًّا بالطبع) باستغلال ظروف البيئة المساعدة على الإنتاج الزراعي: نوع التربة، ونوع النبات المنتج بالارتباط بظروف الإنبات المثلي (تربة، حرارة، مطر، أو مياه ري)، وأكثر أنواع النبات إنتاجية بالارتباط بالعادات الغذائية أو بطلب السوق. وكذلك تقوم التكنولوجيا الجيدة بترتيبات معينة في جماعة المنتجين، مثل تقسيم العمل بين الجنسين أو فئات الأعمار، وبذلك يحدث تخصص أو ما يشبه التخصص الإنتاجي في صورة وظائف معينة واضحة ومحددة. ويدخل ضمن هذه الترتيبات في المجتمع أشكال ملكية الأرض والحيازة، وارتباط ذلك بنوع الزراعة؛ بحيث يسود نوع من الملكية أو الحيازة يؤدي إلى أحسن النتائج بالنسبة للجهد الاقتصادي المبذول. وعلى هذا النحو، يمكننا أن نقول باختصار شديد: إن التكنولوجيا هي معرفة كيفية فعل الشيء لإعطاء أحسن النتائج مع أقل هدرٍ في الجهد والمنتج.

(٢) المراحل الأساسية في الأنماط الاقتصادية

وعلى هذا الأساس نجد أن النظم الاقتصادية تختلف من حضارة إلى أخرى، وتعتمد على التفاعل بين جماعة ما بنظمها الحضارية وبين البيئة الطبيعية؛ ولهذا نجد أنواعًا عديدة من النظم الاقتصادية في العالم، يمكن أن نصنفها إلى ثلاث فئات كبيرة هي:
  • (١)

    اقتصاديات الجمع والصيد والسماكة، ويمكن أن تُسمَّى جميعًا اقتصاديات الجمع.

  • (٢)

    اقتصاديات التحويل البسيط التي تضم الزراعة وتربية الحيوان.

  • (٣)

    اقتصاديات التحويل المركب، وتشتمل على الزراعة والرعي التجاريين، والصناعة والخدمات.

وهذه الأقسام الرئيسية الثلاثة يمكن أيضًا أن تربط بأنواع الحضارات، فعند الحضارات البشرية البائدة، وعند البدائيين المعاصرين نجد أن اقتصاديات الجمع هي النمط السائد. وتمثِّل بعض اقتصاديات التحويل البسيط نمطًا اقتصاديًّا لعددٍ آخر من الحضارات البدائية المعاصرة التي تعيش في مناطق منفتحة على الاتصال والاحتكاك البشري والحضاري، بينما اقتصاديات الجمع تظهر في البيئات القاسية أو مناطق العزلة الجغرافية. ولقد كانت اقتصاديات التحويل البسيط هي الأساس الذي قامت عليه الحضارات العليا القديمة في البحر المتوسط وآسيا وأمريكا الوسطى، أمَّا اقتصاديات التحويل المركب فتمثل النمط الاقتصادي السائد للحضارة المعاصرة (حضارة عصر الصناعة).

وقد أثار هذا التصنيف في أذهان المفكرين والإثنولوجيين فكرة المراحل الاقتصادية، ولعل التطوريين الإثنولوجيين كانوا أكثر من ساهموا في وضع نظام محكم لمراحل التطور الاقتصادية في الحضارات العالمية. ونظرًا لارتباط النظم الاقتصادية بالتنظيمات الاجتماعية في صورة دائمة التفاعل، فإن الأنماط الاقتصادية المختلفة كانت وما زالت أساسًا من الأسس القوية التي اعتمد عليها التطوريون في فكرة المراحل الحضارية عامة: الوحشية مرتبطة باقتصاد الجمع والصيد، البربرية مرتبطة بنظام الزراعة والرعي، والمدنية مرتبطة بنظام الاقتصاد الحديث، وحينما هُوجِمَتْ أفكار المدرسة التطورية هُوجِمَتْ أيضًا فكرة المراحل الاقتصادية. ولا شكَّ في أن الأساس الذي اعتمد عليه معارضو المراحل الاقتصادية التطورية هو أساس سليم قائم على كثرة المعلومات التي تجمعت لدينا عن المجتمعات البدائية، بعد مرور أكثر من سبعين عامًا من كتابات التطوريين الأول. فالاختلافات التفصيلية واضحة بين شكل وآخر من أشكال الاقتصاد البدائي، كما أن العمليات المختلفة داخل الأنماط الاقتصادية البدائية، التي تعمل على بقاء أو توازن الاقتصاد والمجتمع، أو التي تؤدي إلى تطوير أشكال الاقتصاد والمجتمع؛ قد أصبحت أيضًا معروفة لدينا لكثرة الدراسات العملية بين المجتمعات البدائية بصورة لم تكن موجودة أو متاحة عند التطوريين الأول.

وبرغم هذا الكم التفصيلي من المعلومات عن أشكال الاقتصاد البدائي وأنماط دينامية العملية الاقتصادية، إلَّا أننا لا نرى مبررًا لرفض الفكرة التصنيفية العامة، ولا نرى مبررًا لرفض فكرة التطور المرحلي للأنماط الاقتصادية، فهذه التصنيفات قائمة في وقتنا الراهن، وكذلك عملية المرحلية قائمة تحت أعيننا. فالتحول من الاقتصاد البسيط إلى المعقد أمرٌ لا ينكره أحد في الماضي أو الحاضر، ولعل الهجوم على التطورية الاقتصادية هو أضعف نقاط الهجوم على فكرة التطوريين الحضاريين عامة.

وليس معنى المرحلية الاقتصادية حتمية مرور المجتمعات كلها من مرحلة إلى أخرى بالترتيب. لقد حدث ذلك في الماضي حينما انتقل أصحاب الحضارات العليا من الجمع والصيد إلى الزراعة والرعي البسيط إلى الزراعة والرعي الموجَّه إلى السوق، وكذلك انتقل سكان أوروبا من الجمع إلى الزراعة إلى الصناعة، ولكن الاتصال بين الحضارة الصناعية والمجتمعات البدائية تؤدي في الوقت الحاضر إلى الانتقال مباشرة إلى بعض أشكال الاقتصاد الحديث دفعة واحدة.

وكذلك ليس معنى المرحلة الاقتصادية أن تُنحَّى المرحلة الأولى جانبًا، وتُترَك نهائيًّا بمجرد الوصول إلى مرحلة اقتصادية أعلى، فلا شكَّ أن الانتقال لا يحدث فجأة، ويظل الاشتراك بين النظامين مستمرًّا لفترة طويلة إلى أن يصبح النظام الجديد هو النمط السائد، ومع ذلك تظل هناك جماعات تمارس أشكال الاقتصاد القديمة، ويحدث تطور ملحوظ في هذه الأشكال يتناسب مع هذا التطور وما يرتبط به من تقدم في تكنولوجية الإنتاج؛ ولهذا فإننا نجد أشكالًا من اقتصاديات الجمع مطورة وممارسة في المجتمع الصناعي المتقدم. فقد تطورت حرفة السِّماكة تطورًا تكنولوجيًّا كبيرًا بحيث تكون الآن إحدى حرف الإنتاج والاقتصاد المركب، برغم أنها في أساسها حرفة جمع، كذلك تمارس الأسر الأوروبية جمع الثمار البرية في العطلات الأسبوعية في مواسم الإنبات لتعمل منها المربيات، وتحولت حرفة الرعي البدائي إلى حرفة تربية الحيوان في مزارع علمية مرتبطة بإنتاج السوق.

وفي بداية التفكير التطوري كان الاعتقاد السائد أن النظم الاقتصادية قد تطورت من الجمع إلى الزراعة ثم الرعي، وظلت هذه الأفكار سائدة إلى أن طوَّرها وفصَّلها الجغرافي والإثنولوجي الألماني إدوارد هان E. Hahn الذي أعلن في سنة ١٨٩١ أن المراحل يجب أن تترتب على أساس أن الزراعة تنقسم إلى قسمين مختلفين كل الاختلاف في التكنولوجيا والإنتاج وشكل المجتمع. هذان هما زراعة الفأس Hoe cultivation وزراعة المحراث Plough cultivation، والنوع الأول يمكن أن يُسمَّى الزراعة اليدوية أو الزراعة الأولية أو الزراعة المتنقلة أو البسيطة، أمَّا النوع الثاني فيستدعي وجود الحيوان لجر المحراث، وهو بذلك تكنيك جديد يرفع ويجدد خصوبة الأرض ويؤدي إلى استقرار الحقول والمساكن.

وعلى هذا الأساس أعلن «هان» أن المراحل الاقتصادية يمكن أن تترتب على النحو التالي: جمع وصيد ← زراعة يدوية ← استئناس الحيوان ← زراعة المحراث. ويرى أن زراعة الفأس أمكن اكتشافها عدة مرات في أماكن منفصلة من العالم، إلَّا أن زراعة المحراث واستئناس الحيوان قد اكتُشِفا معًا في منطقة الشرق الأوسط، وانتشرا بعد ذلك إلى بقية أجزاء العالم.

(٣) تأثير الاقتصاد على التركيب الاجتماعي

والاتفاق العام بين الإثنولوجيين هو أن النظام الاقتصادي الأولي (جمع – صيد – زراعة أولية – رعي بدائي) ليس هو النظام المسيطر على حياة المجتمعات البدائية، في حين تصبح الأنظمة الاقتصادية المركبة والموجهة لإنتاج السوق هي العامل المسيطر على حياة المجتمع، وتميل إلى أن تكون لها السيادة على بقية النظم الاجتماعية، وبالتالي لها دور أساسي في إعادة صياغة وتشكيل التركيبات الاجتماعية.

ولهذا التفريق مبرراته إلى حدٍّ بعيد وبطريقة نسبية، ففي المجتمعات البسيطة نجد أن تكنولوجية النظام الاقتصادي السائد هي السبب في ذلك، فالفرد يتعلم الحرفة التقليدية الشائعة في مجتمعه، وحين يتعلمها يصبح وحدة اقتصادية كاملة ومستقلة استقلالًا لا بأس به عن الآخرين؛ ولهذا نجد العديد من الروابط الأخرى التي تربط الفرد بالمجتمع متمثلة في النظم الاجتماعية؛ مثل: القرابة، والنسب، ودرجات السن، واللغة، والدين، وعلاقات المكان، والجوار.

أمَّا في المجتمعات ذات النظم الاقتصادية المركبة، فإنه مهما تعلم الإنسان الشكل العام للبناء الاقتصادي، إلَّا أنه لا يخرج عن كونه تعلم تخصصي، ومن ثمَّ لا يمكن أن يصبح وحدة مستقلة في الإنتاج. فالنظام المركب شديد التخصص ومن ثم لا بدَّ وأن يكون الترابط بين الأفراد قائمًا على أساس التعامل والتكافل الاقتصادي بين كافة التخصصات، ويترتب على ذلك أن تضعف نسبيًّا أشكال الروابط الاجتماعية بالقياس إلى الروابط والمصالح الاقتصادية، وعلى عكس الحضارات البدائية تمامًا، تحل الطبقات ذات المصالح المشتركة محل تنظيمات القرابة أو تنظيمات المكان والجوار، ويصبح توازن المجتمع مرتبطًا بدينامية الحركة الدائمة في أشكال الاقتصاد والنمو الاقتصادي.

ويترتب على ذلك فروق كبيرة بين مجتمعات الاقتصاد الأولي والمركب، فالأولى شديدة التوازن؛ لأن التركيبات الاجتماعية مرتبطة أوثق الارتباط بأسس ثابتة لا يطرأ عليها التطور سريعًا، تلك هي أنظمة القرابة وعلاقات النسب والدم في صورة البدنة أو العشيرة أو القبيلة. وبذلك تسيطر الروح المحافظة على حياة المجتمع، ويصبح التطور وتقبل عناصر حضارية جديدة أمرًا بطيئًا يحدث فيه صراع كبير طرفاه القوى المحافظة للمجتمع والقوى الجديدة للاستحداث، وفي أحيانٍ كثيرة كان يترتب على هذا الصراع هجرة القوة الأضعف في طرفي النزاع خارج المجتمع، ولعل ذلك هو واحدٌ من أهم أسباب الهجرة القديمة (إلى جانب زيادة السكَّان عن طاقة الأرض المنتجة طبعًا)، لكن علينا أن نلاحظ أن عملية خروج بعض الأفراد عن المجتمع التقليدي بالهجرة عملية تحتاج إلى شجاعة نادرة؛ لأنها في أقرب صورها لنا تشبه عملية النفي خارج الوطن بكل ما في ذلك من العوامل النفسية والعاطفية؛ ولذلك فإنها لم تكن كثيرة الحدوث ولم يرتبط حدوثها إلَّا بالموضوعات الهامة في الحياة كظهور ديانة جديدة أو النزاع على وراثة الزعامة.

أمَّا مجتمعات الاقتصاد المركب فإنها لا تتسم بالثبات والتوازن الدائم الذي لاحظناه في المجتمعات البدائية، بل لأن النظام الاقتصادي هو المحور القطب في حياة المجتمع، ولأن النظام الاقتصادي المركب قائم على سرعة التغير، فإن الحركة داخل الطبقات الاجتماعية صعودًا وهبوطًا حركة دائمة على عكس الطبقات ومجموعات القرابة الجامدة. فمهما كان نشاط الإنسان في المجتمعات البسيطة، فإنه مقيَّد بنسب دموي أو طبقي لا يمكن تخطيه إلَّا بالهجرة أو الثورة، وكلتاهما غير شائعة في تلك المجتمعات، بينما يؤدي النشاط الفردي في مجتمعات الاقتصاد المركب إلى تحرك الأفراد داخل الطبقات دون قيد بيولوجي ثابت، ولكننا نجد اتجاهًا إلى تثبيت الطبقات الاقتصادية لطول بقائها، ومن ثم تُتاح لأفراد الطبقة العليا فُرَص أكثر في البقاء في أعلى المجتمع، ونادرًا ما تسنح الفرصة لأفراد الطبقة الفقيرة أن تتسلق السلم إلى أعلى بحكم قُوَى التثبيت التي تصنع ما يشبه القيود الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية لكل طبقة.

ويتميز الاقتصاد المركب بأنه يقوم على أساس استخدام كل الخامات الطبيعية ومنتجات الاقتصاد الأولي (الزراعة وتربية الحيوان) على أنها مجرد خامة، ثم يقوم بتحويلها على عدة مراحل مركبة، لدرجة أن الإنتاج في النهاية يتخذ صورًا بعيدة كل البعد عن حالة الخام الأصلي، ومن ثمَّ يؤدي هذا النمط إلى إنشاء شبكة معقدة النسيج تشمل غالبية أفراد المجتمع المنتجين في نظام محكم يُربَط فيه المنتج الأوَّلي والمنتج الصناعي ووسائل النقل والأسواق وكافة نشاطات الخدمات، وبذلك يدخل كل الناس ضمن دائرة النفوذ الاقتصادية؛ لأن النشاط الاقتصادي بهذه الطريقة يستغرق معظم وقت الناس، هذا النشاط الاقتصادي المكثف يفترق بشدة عن الأنظمة السابقة في أنه لم يَعُد قائمًا لمجرد إشباع الحاجيات الضرورية للمجتمع، بل تعدَّى ذلك إلى فرض مبتكرات جديدة تتحول بعد قليل إلى حاجات ضرورية، ومن ثم لم تَعُد الكماليات ثابتة جامدة كما كان في الماضي، بل أصبحت الكماليات تعبيرًا وقتيًّا صغيرًا لمجموعة من المنتجات تتحول بسرعة إلى احتياجات، وبذلك تحول النظام الاقتصادي المركب إلى طاقة أعلى في أحيان كثيرة من التنظيم الاجتماعي، بل وتقوم بقيادة هذا التنظيم وتشكله، وهذا عكس ما كان سائدًا من توازن تام بين المجتمع ونظامه الاقتصادي. وترتب على ذلك ظهور الأفكار الخاصة بدور الاقتصاد في تحريك التاريخ وتوجيهه.

وبغض النظر عن الجدال في أهمية النظام الاقتصادي المركب بالنسبة للمجتمع، فإن واحدًا من أخطر مشاكل هذا النظام هو أنه شديد الحساسية والاهتزاز لكثيرٍ من الطوارئ التي تحدث بين الحين والآخر، مثل الأزمات الاقتصادية. وتفسير هذه الطوارئ أمرٌ يطول شرحه، ولم يتوصل إلى تفسير يرتضيه الجميع، لكن الذي يهمُّنا هو أن هذه الطوارئ تنجم عن مجموعتين من الأسباب؛ أولاهما: العوامل الطبيعية التي تؤثر على ذبذبة الإنتاج الأولي وإنتاج المعادن، وقد أصبح في الإمكان تدارك آثارها بقدر لا بأس به. أمَّا المجموعة الثانية فهي العوامل البشرية المتعددة والمتشابكة بصورة يتعذر معها تدارك النتائج المترتبة على أي قصور يحدث في جانب واحد؛ لأن صداه يتعدد شكلًا ويسير في طرق مختلفة ليؤثر على بقية العناصر البشرية في الإنتاج. مثلًا تأثير العمالة على رأس المال أو العكس يمثل طرفين في مجموعة العناصر البشرية، وفيما بينهما تحدث أصداء مختلفة لأي اضطراب في علاقاتهما. وتختلف الأصداء اختلافًا غير معروف السبب والكم في النواحي البشرية الأخرى، كحركة التعامل في الأوراق المالية، وقوة النقد، وموقف النقد العالمي، وحركة السوق والتجارة، من بين أشياء أخرى كثيرة تتداخل بين مجموعة العوامل البشرية.

وفيما بين الرواج والكساد، والعمالة والبطالة، والسلم والحرب، والاستثمارات والضغوط الاقتصادية، واحتكارية رأس المال والتأميم، فيما بين كل هذه المتناقضات وكثيرٍ غيرها، أصبح المجتمع المعاصر أقل ثباتًا وأكثر اهتزازًا من المجتمعات السابقة؛ لأن التوازن فُقِد بين الاقتصاد والمجتمع، فقد سبق الاقتصاد التنظيم الاجتماعي وترتب على ذلك هوة زمنية كبيرة وهوة تنظيمية أكبر.

إن مقدمات هذا التخلف بين النظامين الاجتماعي والاقتصادي قد بدأت باتجاه الإنتاج إلى السوق بدلًا من إشباع الحاجة الضرورية؛ أي إن المقدمات تعود إلى وجود فائض الإنتاج، وخاصةً بعد اكتشاف زراعة المحراث واستخدام الطاقات المضافة (بيولوجية – حيوانية – وغير بيولوجية)، ولكن الفوارق الكبرى بين شكل الاقتصاد والتركيب الاجتماعي قد حدث بعد أن أصبح فائض الإنتاج يكوِّن استثمارًا جديدًا لإنتاج فائض أكبر.

ففي المجتمعات القديمة ذات الإنتاج الفائض، كانت هناك عشرات الوسائل التي ابتكرها المجتمع لتدمير هذا الفائض بحيث لا يصبح قوة مضافة. مثلًا في مجتمع جزر هبريدز الجديدة (قرب أستراليا) يشتد النشاط الاقتصادي الاجتماعي ويتكاثف حول ملكية الخنازير، وهناك عشرات الأنظمة التي تدور حول الخنازير: تسليف الخنازير، تبادل الخنازير، فوائد على الخنازير المقترضة. ولكن يحدث في حفل طقسي يُقام كل بضع سنوات أن يقضي الجميع على خنازيرهم بذبحها وإقامة المآدب لأيامٍ طويلة، وعلى قدر ما يُقدِّم الشخص من خنازير تكون مكانته الاجتماعية عالية أو منخفضة. وعند الكثيرِ من سكان ميلانيزيا الزراعيين يقوم كل شخص بوضع جزء من المحصول الجديد من اليام (نبات درني كالبطاطا) أمام بيت الزعيم، ويتراكم هرم اليام أمام البيت، ثم يعطب ويفسد، لكن كلما كبر الهرم النباتي كان ذلك مدعاة لفخر العشيرة ككل، وبين سكان الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية؛ مثل: الهاييدا، والتلنجت، والكواكيوتل يُقام حفل كل بضع سنوات، أو عندما تزيد ثروة الشخص، يتم فيه تدمير جانبٍ كبيرٍ من هذه الثروة، ويُعرَف هذا الحفل باسم بوتلاتش Potlatch.

مثل هذه الأعمال — وإن اتخذت صورة طقسية اجتماعية — إلَّا أنها تعكس الرقابة والإشراف الحضاري والاجتماعي على نمو الثروة ومنعها من أن تتطور إلى قوة اقتصادية، وهذا النوع من الرقابة هو ما نسميه «تسوية» للتناقضات الاقتصادية.

وفي مجتمعات الحضارة العليا القديمة كانت هذه «التسوية» تحدث أيضًا في صورة البذخ والإنفاق الواسع للثروة، والتمتع بمباهج الحياة، والتطلع إلى مكانة اجتماعية مرموقة. لقد كانت هناك حدود لتراكم الثورة، لكنها في هذه الحضارات لم تكن حدودًا اجتماعية فقط، بل حدودًا سياسية اقتصادية معًا، فلم يكن هناك استثمار بالمعنى المفهوم من الاستثمار الحديث، وكذلك لم يكن الحكَّام يتركون الأشخاص يثرون فوق المستوى الذي يكونون معه خطرًا على نفوذهم السياسي أو الديني أو هما معًا. وفي الوقت الحاضر تقوم الضرائب التصاعدية بدور الإشراف على تراكم الثروة، لكننا نلاحظ اختلافًا جذريًّا بين نوع «التسوية» البدائية وتلك في مجتمعات الحضارات العليا القديمة والمعاصرة. فالأولى تؤدي إلى إنفاق كامل للثروة المتراكمة بينما الثانية تؤدي إلى إنفاق جزئي. و«التسوية» البدائية تؤدي إلى مركز اجتماعي فقط بينما «الإشراف» الحالي يترك للثروة المتراكمة قوتها ويضيف أيضًا إلى المركز الاجتماعي.

وأيًّا كانت التفصيلات والفروق فإن العرض الحالي يهدف إلى بيان الفروق بين الأنظمة الاقتصادية الأولية والمركبة وتأثيرها على التركيب الاجتماعي، ويتضح هذا التأثير بصورة قاطعة في الشكل النهائي الذي يتخذه تأثير النظام الاقتصادي على التساند والترابط الاجتماعي في كافة مستوياته، فنظم الاقتصاد الأولية بتوازنها مع التركيب الاجتماعي لا تؤدي إلى ظهور مصالح فوق مصالح المجتمع: عشيرة أو قبيلة. وبذلك يظل جميع أعضاء المجتمع متمتعين بولاء عام يشارك فيه الجميع: زعماء ورعية، أغنياء وفقراء. وتؤدي عملية «التسوية» إلى إيجاد روابط كثيفة بين كل الأفراد فوق روابط القرابة.

fig51
شكل ٧-١: توزيع الأنظمة الاقتصادية الرئيسية (عدا الصناعة).

(١) الجمع والصيد والسماكة. (٢) الرعي. (٣) الزراعة الأولية. (٤) الزراعة الأولية مع الرعي. (٥) الزراعة الكثيفة. (٦) الزراعة الكثيفة مع الرعي. (٧) الزراعة الآلية.

أمَّا في مجتمعات الحضارة العليا فإن ثقل كفة النظم الاقتصادية على بقية النظم الحضارية يؤدي إلى ظهور مرحلة تجريدية ترتفع فيها مصالح الاقتصاد فوق الترابط والتساند الاجتماعي لأبناء المجتمع الواحد، وتصبح هناك تعاطفات فوق القومية العادية بين قطاعات ممثلي القوى الاقتصادية عبر الحدود، وإن كانت هناك أيضًا حدود لهذا التعاطف تنتهي إلى الحروب في الحالات القصوى من التعارض.

(٤) اقتصاديات الجمع Food Gathering

من الثابت أن حرفة الجمع والالتقاط والصيد والسماكة تمثل في مجموعها أقدم ما عرف الإنسان من حِرَف للحصول على الغذاء. ولا شكَّ أن كل الجماعات قد مرت بهذه المرحلة قديمًا؛ ولذلك فإن المجتمعات التي تعيش في الوقت الحاضر على الصيد والجمع تعطينا صورة واضحة — في الخطوط العريضة وليس في التفصيلات — عن الشكل الذي كان سائدًا بين إنسان العصور الحجرية للحصول على الغذاء واستمرار الحياة.

ونظرًا لتنوع أشكال هذه الحرفة تنوعًا هائلًا في النوع الرئيسي الذي يُمارَس، وفي تكنيك الحصول على الغذاء؛ فقد أصبح من الصعب إعطاء اسم موحد يشتمل على الأشكال المختلفة، وإن كان الاتفاق قد ساد على تسمية عامة هي «الجمع» أو «جمع الغذاء»؛ وذلك لأن أهم ما يجمع هذه الأشكال المختلفة من الحرف هو أن الغذاء يجمع من الطبيعة كما هو دون محاولة لإنتاجه؛ ولهذا أيضًا اقترح البعض تسمية الجماعات التي تعيش على هذا النوع من الاقتصاد باسم «شعوب الطبيعة» أو «الشعوب التي تعيش على الطبيعة»، وقد شاعت هذه التسمية كثيرًا في الكتابات الألمانية مقابل «جمَّاعو الغذاء» في الكتابات الأنجلوساكسونية.

وسواء كان هذا الاصطلاح أو ذلك فإن أهم ما يتميز به هؤلاء الجماعين، هو أنهم يعيشون داخل الظروف الطبيعية دون إدخال تغيير متعمد على شكل البيئة، فالمحافظة على البيئة يعطي الناس نوع الغذاء الذي اعتادوه، ولكن برغم ذلك فإن مجرد نشاط الإنسان في هذا الاتجاه التجميعي قد أدى إلى انقراض بعض أنواع الحياة التي يسرفون في استخدامها كمادة أساسية للغذاء، ومن ثمَّ يحدث تغير في إيكولوجية الحياة الطبيعية رغم إرادة الناس، وتقوم أحيانًا بعض الأفكار الثاقبة — من قبل رجال الدين أو الزعماء — بالمحافظة على بعض المصادر المهددة بالتناقص السريع في صورة إعلان تحريم Taboo ديني على صيد نوع من الحيوان أو الأسماك أو كثرة استخدام نوع من النبات، ويتم ذلك التحريم لفترة قد تمتد إلى جيل أو تمتد إلى أكثر من ذلك؛ حتى ينسى الناس أصل التحريم ويتحول التحريم إلى جزءٍ من الطقوس الدينية، ولكن كثرة صيد الحيوان أو جمع النبات المعين تؤدي إمَّا إلى هجرة الجماعة وراء مصدر الغذاء، أو تحول الإنسان إلى نوعٍ آخر من الغذاء النباتي والحيواني.

ونظرًا لتنوع الحرفة، فإن هناك تخصصًا بين الجماعات المختلفة على أساس الاستجابة لنوع البيئة، فالبشمن تخصصوا في صيد الحيوان الكبير، وأمريند الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية تخصصوا في صيد الأسماك، وأمريند السهول الغربية الأمريكية تخصصوا في صيد البيسون (الجاموس البري)، وأمريند السهول الشمالية الأمريكية تخصصوا في صيد الكاريبو، والإسكيمو تخصصوا في صيد الأحياء البحرية، وسكان شمال آسيا تخصصوا في صيد الرنة، وأقزام أفريقيا تخصصوا في صيد الفيل. ولا شكَّ أن الفوارق كبيرة بين المتخصصين، على سبيل المثال: الفوارق كبيرة بين الإسكيمو الذي يعيشون على لحوم البحر والبشمن الذين يعيشون على لحوم الزراف والتياتل، والسمانج (وسط الملايو) الذين يعيشون أساسًا على جمع النباتات. ويؤدي مثل هذا التخصص أيضًا إلى اختلافات كبيرة في نوع الأدوات والأسلحة التي تُستخدَم لجمع الغذاء، واختلافات أخرى مرتبطة بإيكولوجية النبات والحيوان، ومن ثم تنتظم كل جماعة في تركيب اجتماعي يتفق مع الظروف البيئية، وتتحدد حركة الناس وهجراتهم الموسمية تبعًا لهذه الظروف.

ودرجة التخصص الكاملة في نوعٍ من الغذاء لا وجود لها إلَّا نظريًّا، فلا توجد جماعة واحدة نعرفها من معاصرينا البدائيين يعيشون على نوعٍ واحدٍ من الغذاء، إنما ما قلناه عن التخصص ليس سوى مجرد صفة للنوع الرئيسي للغذاء، وقد كانت هناك أفكار تقول إن الإنسان بدأ متخصصًا فقط في جمع الغذاء النباتي، وترتبط هذه الأفكار بحياة الرئيسيات من الغوريلا والشمبانزي … إلخ، لكن الغالب أن الإنسان بدأ كما هو الآن؛ أي متعدد المذاقات — آكل نباتي وحيواني معًا — وهي صفة من الصفات البيولوجية التي تميِّز الإنسان عن بقية المملكة الحيوانية. على أي حال، ربما كان حال الإنسان كذلك في البداية؛ لأن اصطياد الحيوان — حتى الحيوانات الصغيرة — يحتاج إلى نوعٍ من الأدوات والابتكارات. ولا شكَّ أن هذه المرحلة لم تَعِشْ طويلًا مع الإنسان، بسبب كبر حجم مخه، وإمكانه استخدام يديه في صنع الأدوات أو الإمساك ببعض ما في الطبيعة من أحجار وأخشاب وعظام ورميها تجاه الحيوان الذي يريد صيده.

ورغم أننا نجد جماعات معاصرة تميل إلى الاعتماد بشكل أكثر على الغذاء النباتي الطبيعي مثل السمانج أو بعض سكان أمازونيا، إلَّا أن ذلك مرتبط بقلة الحياة الحيوانية التي يمكن صيدها، وغنى الأقاليم بالثروة الغذائية النباتية. ومع ذلك فإن هذه الجماعات تمارس صيد الطيور والحيوانات الصغيرة بواسطة قصبة النفخ (بندقية النفخ)؛ وهي عبارة عن قصبة طويلة تُجوَّف جيدًا ويُوضَع داخلها سهمٌ صغير (مسمم أحيانًا تسميمًا خفيفًا)، ثم ينفخ الشخص في طرف القصبة فينطلق السهم في اتجاه الهدف بدون ضوضاء، كذلك يستخدمون بعض أنواع الشباك البسيطة. وعلى نقيض هذه الحالة نجد الإسكيمو الذين يعيشون أساسًا على اللحوم من الصيد البحري (الفقمات وفيل وعجل البحر والحيتان والأسماك)، وقليلٍ من الصيد البري (الكاريبو)، ومع ذلك فإنهم يقومون بجمع النباتات والزهور والثمار التي تنبت خلال موسم الصيف القصير، وعلى هذا النحو نجد هناك — مهما كانت درجة التخصص — موارد إضافية من الغذاء إلى جانب الغذاء الرئيسي؛ إذ يقوم جمَّاعو الثمار والغذاء النباتي ببعض الصيد، ويجمع الصيادون والسماكون بعض الغذاء النباتي.

ويمكننا أن نقسم جماعي الغذاء إلى قسمين رئيسيين؛ هما: جامعو الغذاء، والصيادون. والقسم الأول يستند أساسًا إلى جمع الغذاء النباتي مع القليل من الصيد، بينما القسم الثاني يضم جماعات متخصصة أساسًا في الصيد إلى جانب جمع بعض الغذاء النباتي. ويمثل النوع الأول: السمانج، وسكان جزر أندمان في خليج البنغال، والأستراليون، والتسمانيون، وبعض سكان أمازونيا، وبعض الأمريند مثل قبائل كاليفورنيا والحوض العظيم وعلى الأخص قبيلة الشوشوني. بينما يمثل الصيادين: البشمن، والأقزام في أفريقيا، والإسكيمو، وأمريند الشمال، والسهول العظمى، والساحل الشمالي الغربي في أمريكا الشمالية، وسكان تييرا دلفويجو في أقصى جنوب أمريكا الجنوبية، والقبائل السيبيرية المختلفة في الشمال والشرق الأقصى في الاتحاد السوفيتي.

ويتنقل جامعو الغذاء كثيرًا وراء النباتات والجذور، ويُعرَف الذين من دأبهم حفر الأرض وراء الجذور باسم «الحفارين»، مثل الشوشوني الذين يأكلون ما يزيد عن مائة نوع من البذور والثمار والجذور. والأداة الرئيسية في الحصول على مثل هذا الغذاء هي عصا الحفر المدببة من أحد طرفيها، إلى جانب نوع من المضارب الخشبية لضرب الأعشاب والحصول على البذور التي تُجمَع في السلال. كذلك يأكل جامعو الغذاء الكثير من الحشرات مثل فرس النبي والنمل، وتُحمَّر هذه الحشرات تحميرًا خفيفًا ثم تُطحَن وتُعجَن وتُصنَع منها فطائر لكل منها مذاق حسب نوع الحشرة، وفي أحيانٍ كثيرةٍ يُضاف الجراد إلى مائدة هؤلاء الناس، وتُصاد الحيوانات القارضة الصغيرة كالأرانب بالفخوخ البسيطة أو بالمطاردة، وأحيانًا يقوم هؤلاء الجماع أيضًا بصيد الغزال، وفي كل الحالات يقوم الصياد بتعقب فريسته لمسافات طويلة، وقد يستغرق تعقبه لها (باقتفاء أثر أقدامها) يومين حتى تسقط الفريسة من الإعياء. وغالبا ما تؤكل اللحوم نيئة، وبعض الجماعات مثل البشمن والأقزام يشوون اللحم — أو على الأقل جزءًا منه — على النار.

أمَّا الصيَّادون، فإنهم برغم اعتمادهم على الغذاء النباتي اليومي، إلَّا أنهم يميلون دائمًا إلى أكلِ اللحوم. وصيدُ الحيوان لا يمكن أن يتم بدون سلاح إلَّا في حالات خاصة، وذلك بدفع الحيوانات صوب هاوية كما كان يفعل إنسان العصور الحجرية. وفي الوقت الحاضر لا يتم الصيد بدون أسلحة هجومية للرمي والقذف والطعن والضرب بواسطة القسي والسهام والحراب والسكاكين والعصي والفئوس المرتدة وغير المرتدة، إلى جانب وسائل أخرى من الفخوخ والحفر والسموم. وفي أحيانٍ كثيرةٍ تقوم الكلاب بمساعدة فعَّالة في الصيد، كما هو الحال عند معظم الصيادين، وخاصة سكان تييرا دلفويجو والإسكيمو. ورغم أن أحسن أسلحة الصيد الحالية هي القسي والسهام إلَّا أنها حديثة نسبيًّا؛ إذ لم تظهر إلَّا في أواخر العصر الحجري القديم الأعلى أو في الحجري الحديث؛ ولهذا فإن إنسان نيندرتال كان يستخدم الرماح والعصي والحجارة فقط. ونظرًا لميزة السهم فإنه منذ اكتشافه انتشر بسرعة في سائر أرجاء الأرض، ويستخدمه الصيادون بمهارة فائقة، وهم يضيفون إلى هذه المهارة التنكر في شكل الفريسة لكي يمكن التسلل داخل القطيع والتصويب الدقيق عن قرب. ويشتهر البشمن بتقليد الزراف، وكان أمريند الشايين يصطادون النسور وهي محلقة عن قرب، وكان الفرد منهم يختبئ في حفرة وسط الأعشاب ثم يلوِّح ببطء بقطعة من القماش حتى يسترعي انتباه النسر فيحلِّق هابطًا.

وفي العادة نجد أن عمليات الصيد الكبير — كالزراف عند البشمن أو الفيلة عند الأقزام أو الحوت عند الإسكيمو — عملية جماعية، وتحتاج إلى تنظيم ودقة في التنفيذ مع الكثير من الشجاعة والإقدام. ولما كان هناك دائمًا ضحايا خلال هذه العمليات الكبيرة؛ فإن هذه العملية قد اقترنت بطقوس دينية وسحرية لتعطي الصيادين الشجاعة والنجاح، وتتحول بعض هذه الطقوس إلى ما يشبه الديانة والعبادة، كعبادة الحوت عند الإسكيمو قبل البدء في الصيد.

وتقسيم العمل عند جامعي الغذاء عامة يقوم على أساس الجنس، وتقوم النساء بعمليات الجمع القريبة من المعسكر، بينما الصيد دائمًا من اختصاص الرجال؛ لما يتطلبه من جهد وكفاءة عضلية. وبرغم حياة الترحل عند جماعي الغذاء إلا أنهم لا يهيمون دون حدود معينة تفصل بينهم وبين جيرانهم، لكن هذا التحديد ليس ثابتًا، بل يتغير حسب قوة الجماعة عدديًّا.

وفي المناطق ذات الصيد الوفير نجد السكان يستقرون فيما يشبه القرى، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين يمارسون صيد الأسماك.

ويمكننا أن نلخص أهم الصفات المميزة للجماعين والصيادين المتنقلين على النحو التالي:
  • (١)

    إن إنتاجهم من الغذاء هو من الضآلة وعدم الثبات بحيث لا يعطي فائض إنتاج إطلاقًا، ويترتب على ذلك أنه لا توجد نقود أو أسواق، كما أن التبادل يتم في صورة هدايا. وفي أحيانٍ قليلة يتم التبادل بين الصيادين والزرَّاع المجاورين، وخاصة في المناطق التي يمكن أن يكون فيها للزراع سيطرة سياسية غير مباشرة على الصيادين مثل التجارة الصامتة بين الأقزام والمزارعين من الزنوج والبانتو المجاورين لهم في وسط أفريقيا.

  • (٢)

    عدد السكان دائمًا قليل ومنتشر على مساحة واسعة لكي يسهل عليهم التنقل وجمع الغذاء؛ ولذلك فإنهم بدو متحركون بصفة مستمرة حسب مواسم الإنبات وكمية النبات والحيوان.

  • (٣)

    يتكون التجمع الأولي لهذه الجماعات من وحدات صغيرة من بضع أسر قد لا يزيد عدد أعضائها عن أربعين إلى خمسين شخصًا، وفي أحيانٍ قليلةٍ نجد تجمعات تصل إلى بضع مئات من الأشخاص، ويحدث هذا التجمع الكبير مؤقتًا وفي مناطق الغنى النسبي أثناء فترة من الجفاف أو تبعًا لتركز الحيوان في موسم معين في منطقة معينة.

  • (٤)

    تبعًا للعدد القليل من الأشخاص الذين يكونون الوحدات، وتبعًا لانتشار المجموعات والعصب على مساحات واسعة من الأرض؛ فإن الجمَّاعين لم يكوِّنوا تجمعًا سياسيًّا بصورة من الصور، وتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية يسير وفق أسس ديموقراطية صرفة، يتولى فيها كبار السن رئاسة المجموعة أو العصبة، وحتى هذه الرئاسة لا تظهر إلَّا في فترات محددة خاصة عند تنظيم الصيد الكبير الذي يدعو إلى رسم خطة واشتراك الأعضاء القادرين على العمل.

  • (٥)

    في غالبية الأحوال يتم توزيع الغذاء الذي يحصل عليه الرجال من الصيد والنساء من جمع الثمار على أعضاء العصبة لإشباع احتياجات الغذاء للجميع، ولكن في أحيانٍ قليلة يكون استهلاك الغذاء فرديًّا، خاصة إذا كانت البيئة غنية والعمل الإنتاجي فردي.

  • (٦)

    ويتبع هذا الشكل من الحياة الاقتصادية، أنه لا توجد ادعاءات ملكية على أي جزءٍ من الأرض، فكل الأرض ملك مشاع للجميع يمارسون فيها الجمع والصيد، وفي غالبية الأحوال تصبح أدوات الإنتاج — كالرمح أو السهم والقوس — ملكية فردية، وفي أحيان كثيرة قد لا تصبح كذلك، ويترتب على هذا أنه لا توجد فروق اجتماعية بين الأفراد.

أمَّا مجتمعات الصيادين المستقرين، وخاصة السمَّاكين، فتفترق عن الجمَّاعين في النقاط الهامة الآتية:
  • (١)

    في العادة نجد عددًا كبيرًا من السكان يزيدون أضعاف المرات عن أعداد الجماعين.

  • (٢)

    نظرًا لوفرة الصيد، وخاصة عند أولئك الذين يعيشون على صيد الأسماك؛ فإننا نجد المجتمع ينقسم إلى عدة مجتمعات فردية مستقرة. وفي العادة قد لا يزيد أعضاء هذه القرى عن خمسين شخصًا، ولكن هناك دائمًا قرية مركزية (يتجمع فيها السوق والرئاسة) يتعدى سكانها الدائمون بضع مئات الأشخاص. وفي بعض القرى المركزية بين أمريند السواحل الشمالية الغربية لأمريكا الشمالية قد يصل العدد إلى ما بين ألف وألفين من السكان.

  • (٣)

    تقسيم العمل يتم أيضًا على حسب الجنس، ويقوم الرجال دائمًا بصيد الأسماك والحيوان، بينما تجمع النساء الغذاء النباتي، وتُنظَّم عمليات الصيد بواسطة زعيم وراثي، سواء كان هذا الزعيم رجلًا أو امرأةً حسب نوع التنظيم الاجتماعي السائد. وفي عمليات الصيد الكبيرة لا تتحرك كل الجماعة، بل المتخصصون في الصيد فقط، ويظل الباقون من أعضاء المجتمع في القرية بصفة دائمة. وهذه الحركة خارج القرية لا تحدث إلَّا في مواسم معينة، وفيما عدا ذلك يحدث الكثير من الصيد والجمع الفردي بصفة مستمرة.

  • (٤)

    توزيع إنتاج الصيد الكبير لا يتم على أعضاء المجتمع كما رأينا في الحالات السابقة، بل إن الصيد يُقسَّم إلى أنصبة غير متساوية، فالزعماء والأغنياء بالوراثة يحصلون على أنصبة أكبر، ويُوزَّع الباقي على الجميع؛ وذلك لأن الكثير من المشتركين في الصيد الكبير يقومون بالعمل في صورة شبيهة بالتجنيد لحساب الزعماء والنبلاء.

  • (٥)

    على الرغم من أن عمليات الصيد والجمع اليومية أعمال فردية يُستهلَك ناتجها بواسطة منتجيها وأسرهم، إلَّا أن بعضًا من هذا الناتج يذهب إلى الزعماء في صورة هدايا رمزية.

  • (٦)

    هناك بعض التخصص الإنتاجي فوق تقسيم العمل على أساس الجنس، فهناك بعض الرقيق الذي يحدث نتيجة الحروب بين الجماعات، وهؤلاء الرقيق يُستخدَمون أساسًا في الأعمال اليدوية؛ كصناعة القوارب والسلال والنسيج والحفر على الخشب. وقد توسَّع بعض أمراء الساحل الشمالي الغربي في الحروب للحصول على الرقيق بعد أن تملكوا البنادق الحديثة، وزادت بذلك مقدرتهم العسكرية كثيرًا عن الأسلحة التقليدية. وقد كان هذا واحدًا من أنواع العملية التحضيرية ذات النتائج السيئة في العالم الأمريكي، بالإضافة إلى الخمور والأمراض واستهلاك الموارد الاقتصادية ذات القيمة التجارية بالنسبة للتجار الأوروبيين، وكلها أدَّت إلى انقراض كثيرٍ من الأمريند (ويزيد على ذلك عمليات الإبادة الأوروبية وطرد الأمريند من مواطنهم إلى مواطن أفقر وبيئات اقتصادية غير تلك التي اعتادوها).

  • (٧)

    إلى جانب العمل المتخصص الذي كان يقوم به الرقيق، بدأت أيضًا بعض مظاهر التخصص الإنتاجي بين السكان، فالبعض كان يميل إلى التخصص في صيد وإعداد الفراء، وآخرون يجففون سمك السلمون، وغيرهم يعدُّون أشكال الزينة من الأصداف والقواقع؛ كل هذا إلى جانب عمليات جمع وصيد الغذاء. وترتب على ذلك ظهور كميات من فائض الإنتاج الذي يُسوَّق في القرى المركزية؛ مما يؤدي إلى تكوين الثروة.

  • (٨)

    وفوق هذا فإن بعض مناطق الصيد والجمع كانت ملكًا للنبلاء والزعماء الوراثيين، وقد تضمنت هذه الأملاك بعض مناطق صيد الأسماك أو مناطق الأصداف والقواقع على ساحل البحر وبعض الغابات. وترتب على وجود الملكية الخاصة في مصادر الغذاء تراكم الثروة في أيدي النبلاء وتكوين طبقة من الفقراء اتخذت صورة الطبقات الوراثية، وقد تضاعفت قوة النبلاء بما يفرضونه من ضرائب أو حقوق ارتفاق على الصيد في أملاكهم، بالإضافة إلى الرقيق الذين يُقدِّمون لهم إنتاجًا مجانيًّا، وكذلك الحصول على جزءٍ كبيرٍ من الغرامات المفروضة على المتخاصمين.

  • (٩)

    هناك بعض القيود الاجتماعية على تراكم الثروة، وخاصة تلك الحفلات الطقسية الاجتماعية الضخمة التي تحدث بين الحين والآخر، والتي يقوم فيها النبلاء والزعماء بتوزيع جانب كبير من الثروة على الأصدقاء والأقارب والزعماء المجاورين في صورة هدايا، مثال ذلك حفلات البوتلاتش التي سبق أن ذكرناها، ولكن لا شكَّ في أن استخدام الأسلحة النارية والاحتكاك التجاري بالأوروبيين قد أدى إلى خلل (عدم توازن) واضح بين البوتلاتش ومصادر الثروة التي يمتلكها الزعماء. ومن ثمَّ، فإننا نعتقد أن البوتلاتش كانت مفيدة في إيجاد التوازن الاجتماعي الاقتصادي في الماضي حينما كانت أسلحة الصيد التقليدية متوازنة مع الاحتياجات وفائض الإنتاج محدودًا بعزلة المجتمع. وحينما استخدمت أسلحة حديثة، وانفتحت المنطقة على سوق تجارية أوروبية، ظهرت روح التوسع عند الزعماء وعصاباتهم المسلحة، وأصبحت حفلات البوتلاتش مجرد اعتيادات لإبراز القوة والثروة، ولا تقضي على الثروة بأكملها. فضلًا عن أن الزعماء يتلقون ما يقابل التعويض من الزعماء الآخرين في صورة الهدايا التي يتبادلونها في حفلات البوتلاتش المتكررة. وبذلك فقدت هذه الحفلات الطقسية قيمتها النمطية نتيجة لتغير القوالب الحضارية.

  • (١٠)

    نظرًا لاستقرار هذه الجماعات، فإن نظام السكن يختلف كثيرًا عن الصيادين الرحل، فالمساكن هنا مبنية من مواد تتحمل وقتًا طويلًا؛ كالبيوت الحجرية أو الخشبية عند أمريند الساحل الشمالي الغربي لأمريكا، أو الأكواخ الكبيرة عند صيَّادي الأسماك في جزر المحيط الهادي، بينما مساكن الصيادين المتنقلين بسيطة تتكون غالبًا من مصدَّات الرياح عند الأقزام الذين استقروا في غابات جابون وجنوب الكمرون. أو قد تتعدد أشكال المسكن تبعًا للظروف المناخية والإيكولوجية كما رأينا عند الإسكيمو وصيَّادي سيبيريا الشمالية.

أمَّا فيما يختص بالتنظيمات الدينية والاجتماعية والسياسية، فإن هناك اختلافات كبيرة بين الجمَّاعين والصيَّادين، بعضها يرتبط مباشرة بالنظم الاقتصادية، والبعض الآخر يرتبط بالتركيب الحضاري عامةً أو الاحتكاك الحضاري خاصةً.

وعلى هذا، وبرغم التشابه العام في الصفات التي ذكرناها، هناك اختلافات جمَّة في شكل الحرفة بين جامعي الغذاء عامةً أكثر مما نجده بين المزارعين البدائيين. ولعلَّ السبب في ذلك راجع إلى الاختلافات الكبيرة بين بيئات الجماعين في المناطق القطبية أو الاستوائية أو الصحراوية، وما يترتب على ذلك من موارد متاحة وفيرة أو فقيرة، سهلة أو صعبة المنال، ويرجع كذلك إلى مدى العزلة والاحتكاك بجماعات أخرى ذات أنظمة مشابهة أو مختلفة، وما يترتب على ذلك من تقدم في تكنولوجية الإنتاج وأدوات للإنتاج تساعد على استغلال المصادر الغذائية أو تقوم عقبة في تعدد استغلال هذه الموارد كمًّا ونوعًا.

(٥) اقتصاديات التحويل البسيط

(٥-١) الثورة الاقتصادية الأولى

الزراعة والرعي هما أولى الخطوات التي رفعت الإنسان من مستوى الاعتماد على الإنتاج الطبيعي كما هو، إلى مستوى التحكم بصورة أو أخرى في المساهمة في إنتاج الغذاء. ولقد مضى وقت طويل جدًّا على حياة الإنسان على الأرض قبل أن يكتشف أن في وسعه محاكاة الطبيعة بطريقة تؤمِّن غذاءه، فبدايات الزراعة واستئناس الحيوان — حسب معلوماتنا الراهنة — قد لا تزيد عن تسعة إلى عشرة آلاف سنة، بينما يتراوح عمر الإنسان بين مليون سنة أو أكثر من ذلك قليلًا. وتكوِّن الزراعة بأشكالها المختلفة وتربية الحيوان في صورة الرعي البدائي أو العلمي مجموعة من النشاطات الاقتصادية التي يسمِّيها الاقتصاديون اقتصاديات التحويل البسيط، وهي في مجموعها عبارة عن إجراء تحويلات بسيطة في النتاج الطبيعي، وذلك بتعمد إنتاجها. لكن الجهد الإنساني في مجموعه يقف عند حدِّ تعمد هذا النوع من الإنتاج الطبيعي وتكثيفه؛ فهو لا يشارك كثيرًا في العملية التي تحدث لنمو النبات في باطن الأرض، أو العملية البيولوجية التي تحدث بين حيوان الرعي. ومهما قلنا عن نشاط الإنسان في مراقبة هذا النمو وتشجيعه باستخدام المخصِّبات واقتلاع الأعشاب الضارة أو تشجيع التزاوج بين أنواع معينة من النبات والحيوان، وحماية الناتج من الأمراض والأوبئة والأعداء الطبيعيين؛ إلَّا أن ذلك كله لا يخرج عن حدِّ تعمد الإنتاج وتكثيفه والمحافظة عليه دون التدخل في العملية البيولوجية على الإطلاق. والعلم الحديث يعرف الكثير من خصائص العملية التي تحدث للتكاثر والتناسل في الحياة النباتية والحيوانية، بل والبشرية أيضًا، لكن معرفة ما يحدث شيء والتدخل في هذه العملية شيءٌ آخر. وهذا التدخل أمرٌ حديثٌ جدًّا، ولا يتم في عالمَي النبات والحيوان إلَّا بتكاليف باهظة؛ ولهذا فإن أكثر الأشكال الإنتاجية اقتصادية هو عدم تعمد الاستنبات إلا ضمن نطاق مجموعة من الظروف الطبيعية التي تؤهل لذلك.

وعلى أي حال، فإن بداية الزراعة وتربية الحيوان لم تخرج عن مساهمة بشرية لتشجيع النمو الطبيعي لأنواع معينة من النبات والحيوان، ومع أن هذه المساهمة كانت بسيطة، إلَّا أنها استحقت من جانب الدارسين وصفها بأنها «الثورة الإنتاجية الأولى». لقد تمكن الإنسان بذلك من التخلص من الاعتماد على الإنتاج الطبيعي وحده، وإن لم يستطع أن يتخلص من الظروف الطبيعية التي تحد الإنتاج. وبرغم ذلك فقد تحوَّل الإنسان من مستهلك إلى منتج مع ما في ذلك من فروق كبيرة، وإلى جانب ذلك فإن الزراعة والرعي قد ساعدا — برغم عمرهما القصير — على أن يعيد الإنسان صياغة الشكل الطبيعي للأرض في كثيرٍ من جهات العالم، فمن أجل الزراعة قطع الإنسان مساحات كبيرة من الغابات لتحل محلها مساحات كبيرة من الحقول، وشجع تكاثر أنواع معينة من النبات الذي يستطيبه كغذاء، أو الأنواع التي يقدِّمها للحيوان كغذاء أيضًا، وقضى بذلك على أنواع كثيرة من النبات. وبما أن مذاق الإنسان متغير بالارتباط مع القيم الغذائية والطبية والحضارية، فإن هناك أنواعًا تسود (كالقمح والشعير مثلًا)، وأخرى تنكمش مساحاتها، وكذلك فعل الإنسان في عالم الحيوان، قضى على الكثير من الحشرات الضارة والحيوانات غير المفيدة بالنسبة له كالذئاب مثلًا، كما أنه قضى بإسرافه الشديد — منذ العصور الحجرية — على أنواع أخرى من الحيوان المحبب للصيد أو الحيوان المعادي لوجود الإنسان.

ولا يقتصر أثر هذا النوع من الاقتصاد على «استئناس Humanization» المنظر الطبيعي العام للأرض، ولكنه أدى إلى إعادة تنظيم المجتمع تنظيمًا يتفق مع موسمية المحصول النباتي والتناسل الحيواني، ومن ثم ظهرت فكرة التخزين الغذائي وطقوس المحصول الجديد. وفي المناطق الوفيرة الإنتاج أصبح هناك فائض إنتاجي كبير دعا إلى نشأة نظام مستمر للتبادل والتسويق، كما أدَّى فائض الإنتاج وتراكم الثروة إلى تنويع التركيب الطبقي للمجتمع حسب المكانة المادية الوراثية. ومع هذا كله، ظهر التخصص الإنتاجي، وساعد ذلك على التطور التكنولوجي في أدوات الإنتاج، وزادت قدرات الناس على التخلص من آثار التحكم الطبيعي، وفي النهاية بدأت دورة التفاعل المتبادل بين البيئة الطبيعية والحضارة الإنسانية.

كيف نشأت الزراعة؟

إن تغير الإنسان من جامع إلى منتج حدث تاريخي لا جدال فيه، لكن المشكلة التي ما زالت بدون أدلة واضحة هي: كيف تم هذا الانتقال؟ وهناك رغم اختلاف الآراء اتفاق عام حول ضرورة الدخول إلى هذا الموضوع الشائك من مدخل إيكولوجي بحت، ففي البليوستوسين كانت الظروف الإيكولوجية متأثرة بشدة بالعصر الجليدي المتقدم حتى هوامش أوروبا الوسطى. ومع تقهقر الجليد في آخر البليوستوسين بدأت الظروف المناخية والنباتية تتغير بسرعة في أوروبا وأفريقيا وآسيا، فالرياح الغربية الدافئة الممطرة بدأت تتحرك شمالًا لتغطي معظم أوروبا وتترك شمال أفريقيا وغرب آسيا لظروف تزداد جفافًا.

وقد كان لتراجع المناخ القطبي في أوروبا ولحلول الجفاف في شمال أفريقيا وغرب آسيا آثار شديدة الاختلاف من الناحية الإيكولوجية، وقد أثرت أيضًا على اختلاف أشكال النشاط الاقتصادي بين سكان الإقليمين الأوروبي والجاف.

ففي أوروبا انتشرت الغابات النفضية عامة في أعقاب الجليد، وتبع ذلك هجرة أنواع مختلفة من الحيوان. ووراء هذا الزحف النباتي والحيواني هاجرت مجموعات من الإنسان العاقل أيضًا صوب الشمال، وقد قضى هذا التغير الإيكولوجي والبشري على مجموعات إنسان نيندرتال التي كانت قد تخصصت تمامًا في حياة الأجواء والبيئة الجليدية الأوروبية. وقد كوَّنت البيئة الجديدة جنة لصيادي العصر الحجري القديم الأعلى، فانتشروا انتشارًا واسعًا في أرجاء أوروبا الوسطى والغربية حتى حدود إسكندنافيا، وأسرفوا إسرافًا شديدًا في صيد الحيوان الكبير. وبالإضافة إلى ذلك، يبدو أنهم تخصصوا في صيد أنواع معينة من الحيوان في مناطق مختلفة؛ ففي كهوف أوكرانيا التي ترجع إلى الحضارة الأورنياسية كان ٩٩٪ من العظام الموجودة لحيوان الصيد هي عظام الدببة، وفي حضارة فترة «الجرافيتي Gravetti» في جنوب روسيا ووسط وغرب أوروبا كانت معظم العظام المكتشفة من حيوان الماموث،٢ وفي حفائر سوليتريه في حوض الدوردوني (غرب فرنسا) وُجِدَتْ بقايا عظمية لمائة ألف حصان.٣ ويبدو أن ذلك الإسراف قد ارتبط بانتشار القسي والسهام في العصر الحجري القديم الأعلى في إسبانيا، وانتقاله تدريجيًّا إلى وسط أوروبا وشمالها في العصر الحجري الأوسط، وقد أعطى هذا السلاح للإنسان طاقة عظيمة في الصيد أحسن من قاذف الرمح (وهو أقدم في البحر المتوسط وأوروبا من السهم).
وقد أدى نقص الحيوان في خلال الفترة الحضارية التالية، وخاصة في العصر الحجري الأوسط (حضارتا ماجلموس Magelmose وأرتبول Ertebolle حوالي الفترة بين ٦٨٠٠ إلى ٥٠٠٠ق.م في أوروبا الوسطى والشمالية)، إلى استقرار السكان وتجمعهم بدلًا من انتشارهم، وتحوُّل اهتمام الناس في تلك الفترة إلى صيد الأسماك قرب الأنهار والمستنقعات وسواحل البحار. وحفائر هذه الفترة غنية بأنواع الشباك وحراب صيد الأسماك والهاربون (رمح مسنن لصيد الأسماك أيضًا)، وكذلك نجد أقدم أنواع الشصِّ لصيد الأسماك. ويرتبط بذلك أيضًا أوائل القوارب المحفورة وأدوات نجارة كاملة (حجرية طبعًا)، وعلى عكس المدافن المتناثرة في عصور صيد البر نجد مدافن متجمعة في هذه الفترة الحضارية؛ مما يعطينا صورة طيبة عن استقرار السكان في تجمعات أو قرى كبيرة نسبيًّا بعد أن أصبحت الحرفة لا تستدعي التنقل. وعلى هذا، فإن تغيُّرًا حضاريًّا هامًّا قد حدث نتيجة تغير إيكولوجية الحيوان والغذاء.٤

أمَّا في غرب آسيا وشمال أفريقيا فإن حلول الجفاف محل الأمطار قد أدى ببعض السكان إلى الهجرة، وأخذ الباقون يتجمعون حول مصادر الماء الدائمة في الواحات وعند الينابيع أو المجاري النهرية. وبذلك نجد أيضًا اتجاهًا إلى تركز سكاني في النطاق الجاف مماثلًا للتركز السكاني خلال العصر الحجري الأوسط في أوروبا، ولكن هذه العملية كانت أسبق بكثير في العالم الجاف، لعلها تعود إلى أكثر من ١٢ ألف سنة قبل الميلاد.

والذي يهمُّنا هو أن تغير البيئة في هاتين المنطقتين من العالم قد أدَّى إلى اقتراب الناس كثيرًا من مظاهر الحياة النباتية على وجه خاص، فحياة الصيد المتنقل كانت تقلل كثيرًا من اهتمامات الناس بالحياة النباتية نتيجة الانكباب على الغذاء المكوَّن أساسًا من اللحم.

ومثل ذلك — لا شكَّ — قد حدث في شرق آسيا وفي أمريكا، لكن معلوماتنا الأركيولوجية أكثر اتِّساعًا وأكثر دقةً بالنسبة لأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، ويرى بعض الأركيولوجيين الأمريكيين أن الاهتمام بالنبات قد بدأ يظهر أيضًا في أمريكا الوسطى في حوالي الألف الثالثة قبل الميلاد.

وعلى وجه العموم، فإن التغيرات الإيكولوجية عامة تظهر بصورة واضحة في وجود كثير من الأدوات الحجرية الخاصة بطحن أو سحق الحبوب في كافة حضارات الحجري الأوسط الأوروبي، وخاصة في حضارتي أزيل (فرنسا) وتاردنواز٥ (إسبانيا – فرنسا – وسط أوروبا)، وكذلك في بواكير العصر الحجري الحديث في الشرق الأوسط (الحضارة الناتوفية في سفوح جبل الكرمل بفلسطين على وجه خاص والتي تعود إلى حوالي ٨٠٠٠ق.م، وفي حفائر منطقة كردستان التي تعود إلى فترة مشابهة أو أقدم قليلًا) نجد مثل هذه الأدوات الحجرية لسحق الحبوب، وأكثر من ذلك نجد أيضًا مناجل (شرشرة) من الحجر ذات أسنان من الحجر الصوَّان بالإضافة إلى الهاون والمدق الحجريين.

وليست هذه سوى أدلة على أن الطعام النباتي قد احتلَّ الصدارة — أو على الأقل — بدأ يظهر كغذاءٍ دائمٍ، لكن هذا ليس بدليل على أن أصحاب هذه الحضارات كانوا يمارسون الزراعة، بل إن إجماع الآراء هو أن هؤلاء الناس كانوا يحصدون أنواعًا غير معروفة من الأعشاب والحبوب التي تنمو طبيعيًّا كالقمح أو الشعير البرِّي.

وفي فترة لاحقة اكتُشِف بين حفائر الفيوم (مصر) وسيالك (إيران) مناجل ذات مقبض خشبي وأسنان صوَّانية، وكذلك عُثِر في حفائر الفيوم على حبوب لا تمت بصلة إلى الشعير البري، ويبدو أن الفيوميين قد طوَّروا الزراعة بالتهجين، وهناك تشابه بين الشعير الذي وُجِد في هذه الحفريات والشعير الذي يُزرَع في المناطق البدائية من شمال أفريقيا في الوقت الراهن.٦

وتعطينا حفريات الفيوم تتابعًا زمنيًّا جيدًا لدراسة التطور الحضاري في منطقة الشرق الأوسط، مثلها في ذلك مثل حفريات أريحا في فلسطين. ففي حفائر الفيوم التي تعود إلى العصر الحجري القديم والأوسط نجد الناس ينتشرون في مجتمعات كثيرة صغيرة العدد، بينما تركز السكان في قرى مستقرة كبيرة السكان على شواطئ بحيرة مورس (قارون الحالية) خلال العصر الحجري الحديث.

وبرغم أن الزراعة البدائية يمكن أن تكون قد اكتُشِفَتْ في أماكن مختلفة من العالم دون الحاجة إلى انتشار حضاري، إلَّا أن ما عندنا من الأدلة يؤكد أن الزراعة في بداياتها قد انتشرت من الشرق الأوسط في اتجاهات مختلفة من العالم. وقد حدث ذلك أيضًا مرة أخرى حينما اكتُشِفَتْ زراعة المحراث في الشرق الأوسط (راجع الخريطتين رقم ٧-٢ و٧-٣).

وتقوم فكرة إمكان نشأة الزراعة مستقلة في عدة أماكن منفصلة كالصين أو أمريكا على أسس منطقية وعملية. فحياة الاستقرار والالتصاق بجمع الغذاء النباتي يمكن أن تؤدي مرارًا إلى إمكانية نشأة الزراعة عن طريق الملاحظة والتجربة؛ ولذلك قِيلَ في أحيان كثيرة إن النساء هنَّ اللواتي اكتشفن الزراعة بحكم أن جمع الغذاء النباتي إحدى وظائفهنَّ، بينما الصيد حرفة الرجال، ونحن لا نشك في أن اكتشاف الزراعة كان فعلًا «حادثة» تاريخية، لكن هل تكررت مثل هذه «الحادثة» أم أنها من الأحداث التي لا تتكرر كتشغيل المعادن واكتشاف طاقة البخار؟ وبرغم أن اكتشافًا معينًا كان يمكن أن يحدث في أكثر من مكان، إلَّا أننا نجده يحدث دائمًا في مكان واحد نتيجة لتجمع عدة ظروف قد لا يكون لها مثل التركيب المؤدي إلى ظهور الاكتشاف في أي مكان آخر.

ويجب أن نترك موضوع احتمالية ازدواج النشأة عند هذا الحد، فالباب ما زال مفتوحًا لمزيد من الكشوف والتأريخ والتنظير، وذلك أن موضوع نشأة الزراعة في أصولها الأولى لا يحتاج فقط إلى الدراسة الإثنولوجية، بل يحتاج أيضًا إلى مزيدٍ من البحث في علوم إيكولوجية الحياة. وهذه تنطوي على دراسات كثيرة دقيقة في المناخ والتربة ونوع النبات والحيوان في مناطق الحفائر لتقصي الشكل الإيكولوجي السائد في المنطقة في الفترة التاريخية المعينة. كما تقتضي الدراسة أيضًا مزيدًا من الاعتماد على الجيولوجيا، فضلًا عن الأركيولوجيا والجغرافيا التاريخية والدراسة التأريخية للحفريات بواسطة الوسائل الحديثة، وخاصةً بواسطة «كربون ١٤» (وإن كان مرتفع التكلفة).

fig52
شكل ٧-٢: انتشار الزراعة (دون زراعة المحراث).

(١) المناطق الرئيسية التي تم فيها استئناس أنواع مختلفة من النبات. (٢) حدود انتشار الزراعة في العصر الحجري الحديث (النيوليتي) حوالي ٥٠٠٠ق.م. (٣) حدود انتشار الزراعة في العصر الحجري الحديث بين ٣٠٠٠ق.م و١٠٠٠ق.م. (٤) حدود انتشار الزراعة حتى سنة … ميلادية.

وأيًّا كان الاختلاف الراهن بين الإثنولوجيين على أصل الزراعة، فإن الوقائع التي لدينا تشير إلى أن «حادثة» كشف الزراعة قد حدثت في منطقة الشرق الأوسط. ويعطينا قِدَمُ الزراعة في هذه المنطقة بالقياس إلى أي منطقة أخرى دليلَ إثبات قويًّا على أن ظهور الزراعة في بقية أجزاء العالم قد حدث في صورة انتشار حضاري بغض النظر عن الأبعاد والعقبات، مثله في ذلك مثل البخار وأشكال الطاقة الحديثة.

فقد عُثِر في أريحا على بقايا قرية زراعية أرَّخها «كربون ١٤» بسبعة آلاف سنة قبل الميلاد، وعُثِر أيضًا في المنطقة نفسها على بقايا حضارة ترجع إلى العصر الحجري الأوسط، سابقة على الزراعة بحوالي ٨٠٠ سنة. وتدل نتائج هذه الحفريات أيضًا على أن الإنسان الذي سكن أريحا قد استطاع أن يتطور من الحجري الأوسط للحجري الحديث في خلال الألف الثامنة ق.م.

كذلك دلَّت أبحاث الأركيولوجيين في كردستان على وجود مجتمعين زراعيين؛ أحدهما في جارمو بكردستان العراقية، والثانية في تيبه زارب Tepe Sarab في كردستان الإيرانية. والمعتقد أن سكان هاتين المنطقتين عاشوا بين ٦٥٠٠ و٧٠٠٠ق.م، وكان سكان جارمو قد استأنسوا الحيوان وزرعوا الشعير ونوعين من أنواع القمح، والمؤكد أنهم استأنسوا الماعز بالإضافة إلى احتمال تمكُّنهم من استئناس الحصان والكلب والماشية.
وبالقرب من سواحل بحر قزوين تم الكشف عن الزراعة في منطقة تُسمَّى بلت كيف Belt Cave، وقد عاش سكان هذا الكهف كصيادين حوالي ٦٦٠٠ق.م ولكن الناس الذين سكنوا الكهف حوالي ٥٨٠٠ق.م، كانوا يرعون الماعز والخراف. وفي ٥٣٠٠ق.م كان السكان قد بدءوا يصنعون الفخَّار ويحصدون الحبوب، ويربون الخنازير ثم الأبقار، وهكذا تشير الكشوف الأركيولوجية إلى أن اكتشاف الزراعة قد بدأ في الشرق الأوسط حوالي الألف الثامنة ق.م.

وفي الأمريكتين دلَّت الكشوف المماثلة في أودية نهري شيكاما وفيرو في شمال بيرو على وجود جماعات زراعية عاشت قبل الفخار ولم تزرع الذرة إلَّا حوالي ٢٢٠٠ق.م، وكذلك فُحِصت بعض شواشي الذرة في نيو مكسيكو والمكسيك بواسطة الإشعاع الكربوني، وكانت نتائج التأريخ ٣٦٥٠ق.م و٢٥٠٠ق.م على التوالي.

هل اختُرِعَتِ الزراعة نتيجة هجرة إلى أمريكا، أم اكتُشِفَتْ مستقلة عن الشرق الأوسط؟ لا شكَّ أن الحضارة الزراعية قد هاجرت بسرعة من الشرق الأوسط إلى الشرق. فقبل ٣٣٠٠ق.م وصلت بلوخستان، فهل توقفت عند السند أم امتدت عبر هضاب وسط آسيا؟ وفي الصين وجنوب شرق آسيا اكتُشِفَت الزراعة حوالي ٥٠٠٠ق.م، فهل وصلت الزراعة هناك بواسطة هجرة من الشرق الأوسط، أم كان ذلك اكتشافًا مستقلًّا؟ وأين كان؟ هل في منطقة خليج البنجال أم منطقة بحر الصين الجنوبي؟ هل يعني هذا منطقة اكتشاف ثالثة مستقلة بجوار الشرق الأوسط وأمريكا؟

إن معلوماتنا الحالية ما زالت أقلَّ كثيرًا من جهلنا بالكثير مما حدث في مناطق العالم، ولكن ذلك لم يمنع بعض الكتَّاب من تأييد نظرية أو أخرى مثل C. O. Sauer الذي تمسك — دون دليل — بسبق الشرق الأقصى في الزراعة، وانتشارها من المنطقة إلى غيرها من بقاع العالم.

ومع ذلك — وحسب معلوماتنا الراهنة — فإنه لا شكَّ أن الزراعة قد عُرِفت في الشرق الأوسط حوالي ٧٠٠٠ق.م، بينما كان معظم سكان العالم آنذاك يعيشون على الصيد والجمع، ومن ثمَّ فإن انتشار النيوليتيين بحضارتهم واقتصادهم الجديد كان يتَّبع طرقًا معينة استطاع جمهور الباحثين أن يتفقوا عليها بعد الكثير من الحذر والتروي، وبعد الكثير من الاكتشافات الأركيولوجية في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا.

في مصر أكدت الأبحاث الأركيولوجية وجود الحبوب المزروعة في الفيوم حوالي ٥٠٠٠ق.م، ومنها بدأت الهجرة جنوبًا على طول طريق النيل، فوصلت السودان حوالي ٣٥٠٠ق.م، وكينيا حوالي ٣٠٠٠ق.م.

وفي الوقت نفسه انتشرت الثورة الزراعية في أوروبا، وكان الدانوب والبحر المتوسط الطريقين اللذين عبرتهما الثورة الزراعية إلى الغرب؛ فقد انتقلت الزراعة حسب رأي فارانياك٧ من مصر إلى كريت، وعلى طول الساحل الجنوبي للبحر المتوسط إلى صقلية، وشمال أفريقيا، وجبل طارق، وعبر البوغاز إلى غرب أوروبا. ومن صقلية شمالًا إلى الريفيرا، ومنها إلى أعالي الراين ووسط فرنسا وغربها، ومن كريت إلى اليونان، ومنها إلى جنوب إيطاليا من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى مقدونيا ثم الدانوب الأوسط، ومن هناك إلى بولندا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا وشمال إيطاليا، وكذلك انتقلت الحضارة الزراعية من الأناضول عبر البسفور على طول ساحل البحر الأسود الغربي إلى أوكرانيا، ومصدر ثالث: قبرص إلى كريت ثم اليونان.

وعلى هذا النحو انتشرت الزراعة في أوروبا حتى جنوب السويد في الفترة بين ٤٥٠٠ و٢٠٠٠ق.م، ثم عبرت بحر المانش إلى إنجلترا، ولم تحل ١٥٠٠ق.م إلَّا وكانت الزراعة سائدة تمامًا كحرفة رئيسية في كل أوروبا ما عدا الأقاليم القطبية ونطاق الغابات المخروطية في شمال إسكندنافيا والاتحاد السوفيتي؛ حيث ظل الإنسان يمارس الصيد إلى فترة قريبة جدًّا (القرن الحالي). وفي العالم الجديد انتشرت الزراعة انتشارًا محدودًا من أمريكا الوسطى إلى شرق الولايات المتحدة وإلى حوض الأمازون، ولم يُقدَّر للزراعة الانتشار في كل الأمريكتين وفي أستراليا وسيبيريا، إلَّا بعد فترة التوسع الأوروبي بعد الكشوف الجغرافية الكبرى في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

دور المحراث في الزراعة

وفي حوالي الألف الثالثة قبل الميلاد اخترع مزارعو الشرق الأوسط أداة جديدة من أدوات الزراعة كانت لها آثار أبعد مدى من الزراعة بواسطة الحفر بعصا الحفر أو الفأس؛ تلك الأداة هي المحراث، وفكرة المحراث تقوم أيضًا على حفر الأرض، لكن في صورة خطوط طويلة، بدلًا من حَفر حُفَر متعددة لوضع البذور بالفأس أو غيرها من أدوات الحفر، وهكذا كان ابتكار المحراث عبارة عن عملية إعداد الأرض «بالجملة»؛ مما يؤدي إلى سرعة العمل وإمكان زراعة مساحات أكبر من مجرد زراعة الفأس. وفي الوقت نفسه يؤدي المحراث إلى إمكان تجديد خصوبة الأرض بتهويتها وقلب جزء منها وتعريضه للشمس. وقد أدى هذا كله إلى استقرار الحقل بدلًا من الانتقال من منطقة إلى أخرى كلما أُجهِدت التربة.

والدوافع إلى ظهور المحراث كثيرة ومتفاعلة مع بعضها، وعلى رأس هذه الدوافع:
  • (١)

    أن المحراث عبارة عن تطوير تكنيكي للفأس وعصا الحفر؛ فالمحراث في صورته الأساسية عبارة عن فأس ذي مقبض طويل ورأس حفَّار مدبب مثبت إلى المقبض بزاوية حادة.

  • (٢)

    إن هذا الشكل — وخاصة المقبض الطويل — يتيح استخدامه بواسطة الجر. وبهذا فإن القوة العضلية الكاملة لجسم شخص أو شخصين أكبر أضعاف المرات من القوة العضلية للذراع التي تضرب الفأس. وسرعان ما تبيَّن الإنسان أن في وسعه استخدام القوة العضلية للحيوان لجرِّ المحراث بدلًا من استخدام الإنسان، خاصةً وأن استئناس الحيوان كان قد تم في الشرق الأوسط في وقت مبكِّر مزامن أو لاحق لاستئناس النبات.

  • (٣)

    أن حالة الجفاف في مناخ الشرق الأوسط كانت تقلل من فرص انتقال الزراعة من الحقل المنهك إلى حقل جديد، بالإضافة إلى زيادة عدد السكان نتيجة للوفرة الغذائية التي نجمت عن الزراعة. وبعبارة أخرى، فإن زيادة عدد السكان الزراعيين باطِّراد، والمناخ الجاف في الشرق الأوسط، قد أوجد مشكلة الضغط على الأراضي القليلة الصالحة للزراعة، وألزم السكان بالاستقرار فيها، ومن ثم اضطر الإنسان إلى التفكير في توسيع الإنتاج رأسيًّا. وقد ساعد المحراث على ذلك بتجديد خصب التربة كما ذكرنا، وبالإضافة إلى ذلك عرف الإنسان تجريبيًّا أن روث الماشية المستخدمة في عمليات الحقل يزيد أيضًا من خصب التربة.

fig53
شكل ٧-٣: انتشار زراعة المحراث في العالم القديم.

(أ) موطن نشأة المحراث. (ب) الحدود التي انتشر إليها المحراث حتى ١٥٠٠م. (١) وصول المحراث إلى مصر العليا ٢٥٠٠ق.م. (٢) وصول المحراث إلى بريطانيا ٢٠٠٠ق.م. (٣) وصول المحراث إلى الدانمرك ١٥٠٠ق.م. (٤) وصول المحراث إلى إيطاليا ١٤٥٠ق.م. (٥) وصول المحراث إلى السند ١٤٠٠ق.م. (٦) وصول المحراث إلى شمال الصين ٤٠٠ق.م. (٧) وصول المحراث إلى جاوة ٢٠٠ق.م. (٨) وصول المحراث إلى جنوب الصين ١٠٠ق.م. (٩) وصول المحراث إلى كوريا ٦٠٠م. (١٠) وصول المحراث إلى اليابان ٧٥٠م.

ومعنى هذا أن المحراث قد نشأ في الشرق الأوسط كاستجابة لعددٍ من الظروف والعوامل الطبيعية (الجفاف)، والبشرية (زيادة السكان)، والتكنولوجية (استخدام طاقة الحيوان وتطوير تكنيكي للفأس).

لقد انتشر المحراث بسرعة من منطقة النشأة إلى مناطق مختلفة من العالم، على عكس الانتشار البطيء لاستئناس النبات، ويرجع ذلك إلى أن المحراث تطوير كمي لفن الزراعة؛ ولذلك تقبلته الجماعات الزراعية بسرعة، بينما كان استنبات النبات يقتضي تغييرًا نوعيًّا في نمط الاقتصاد من حرفتي الجمع والصيد إلى الزراعة. وتوضح (الخريطة رقم ٧-٣) المراحل الرئيسية في انتشار المحراث من منطقة النشأة. وأهم ما نلاحظه هو أن المحراث لم ينتشر في معظم أفريقيا، وذلك برغم معرفة زراعة الفأس. ولعلَّ مردَّ ذلك إلى نقص الحيوان المستأنس في النطاق الاستوائي، وإلى سيادة حرفة الرعي في نطاق السفانا وشرق أفريقيا؛ مما يترتب عليه عدم استخدام الحيوان في الأعمال الزراعية. وكذلك يقول بعض علماء التربة إن معظم التربات المدارية الأفريقية غير صالحة للحرث، وإلَّا تعرضت للجرف أو إلى تغير كيميائي يحيلها إلى تربة غير صالحة للزراعة فيما بعد، ولكن المحراث الآلي قد دخل أجزاء من أفريقيا دون أن يصيب التربة بأضرار واضحة حتى الآن. أمَّا في أمريكا فلم يدخل المحراث الزراعة إلَّا بعد الاستيطان الأوروبي.
ولقد دخل على المحراث تطور تكنيكي كبير في الخمسة آلاف سنة الماضية، وأصبحت هناك أنواع عديدة من المحراث الذي يجره الحيوان في أوروبا والشرق الأوسط والشرق الأقصى.٨

ويمكننا أن نصنف أشكال المحاريث في العالم إلى نوعين أساسيين؛ الأول: يستخدم الطاقة الحيوانية، والثاني: يستخدم أشكال الطاقة الحديثة غير البيولوجية متمثلة في صورة الجرارات الميكانيكية. ومن ناحية أخرى، فإن وظيفة المحراث قد تغيرت من مجرد شقِّ التربة بواسطة السلاح العادي إلى تقليب التربة بواسطة السلاح القلاب الميكانيكي، ولكن ليس معنى هذا ضرورة استخدام السلاح الأحدث؛ فلكل تربة مواصفات خاصة يرتبط بها نوع المحراث المستخدم.

المناطق التي تم فيها استئناس النبات

سبق أن ذكرنا أن فن الزراعة كان حادثة تاريخية في منطقة الشرق الأوسط على الأغلب. وليس معنى هذا أن كل أنواع النباتات قد استؤنست أيضًا في هذه المنطقة الجغرافية المحدودة؛ ذلك أن لكل منطقة جغرافية ظروفها الخاصة التي تساعد على نمو أنواع معينة من النبات. ولهذا؛ فانتشار الزراعة من الشرق الأوسط تضمنت فقط انتشار تكنيك الزراعة الذي طُبِّق على الأنواع المختلفة الصالحة للاستنبات والاستخدام الغذائي للإنسان في الأقاليم الجغرافية المختلفة.

وتوضح (الخريطة رقم ٧-٤) وجداول مناطق استئناس النباتات الرئيسية ٧-٥، ٧-٦، ٧-٧، الأقاليم التي يتفق غالبية العلماء على أنها المواطن الأساسية لأنواع مختلفة من النباتات التي تُزرَع في العالم في الوقت الراهن.
fig54
شكل ٧-٤: مناطق استئناس الأنواع المختلفة من النبات.
fig55
شكل ٧-٥
fig56
شكل ٧-٦
fig57
شكل ٧-٧
ويتضح لنا من الجداول عدد من الحقائق، نوجزها فيما يلي:
  • (١)

    إن هناك فارقًا كبيرًا بين النباتات المزروعة من حيث احتكارية الأصل أو توزع الأصول والبدائل المشابهة. فمجموعة المكيِّفات والمكسرات، ومجموعة نباتات الزيوت، ومجموعة العطريات والمتبِّلات، توضح احتكارًا للإقليم المداري في أصول نشأتها. وما زالت هذه المجموعات النباتية تكوِّن احتكارًا إنتاجيًّا في الوقت الحاضر للإقليم المداري، ويرتبط ذلك بدون شك بتكيف النبات تمامًا للظروف المناخية والطبيعية. أمَّا مجموعة الحبوب والخضروات والفواكه والألياف، فتمثل توزعًا إقليميًّا واسعًا، هي أو بدائلها، من حيث أصول النشأة.

  • (٢)

    من حسن الحظ أن المجموعات النباتية الواسعة الانتشار هي نفسها — أو أغلبيتها — التي كوَّنَت الغذاء الإنساني النباتي الأساسي: الحبوب، والخضروات، والفواكه. وكذلك كان لتعدد أصول نباتات الألياف أثرٌ في تعدد أشكال خامات الملابس في المناطق المختلفة. أمَّا استخدام النباتات العطرية والمتبلات أو المكيِّفات ونباتات الزيوت، فكلها تمثل انتقالًا حضاريًّا في مذاق الغذاء الأساسي، وقد ظلَّ بذلك مرتبطًا بغذاء الطبقة العليا في الحضارات العليا القديمة. ومن ثم، فإن دخوله في الغذاء الشعبي قد حدث متأخرًا جدًّا — في العصر الحديث — بعد أن تمكن النقل الكبير الحجم (وعلى وجه الخصوص السفن التجارية الحديثة) ونمو التجارة العالمية من خفض أسعار هذه السلع المدارية.

  • (٣)

    لا تزال الحبوب والخضروات الإقليمية تكون أساس الغذاء في أقاليم العالم المختلفة: الأرز في شرق وجنوب آسيا، الدخن والسرغم والفونيو وغيرها من أنواع الذرة الرفيعة في أفريقيا المدارية وأجزاء كثيرة من الهند، القمح في المناطق الشمالية المعتدلة ذات الحضارة الغربية.

    ورغم انتقال القمح إلى مناطق متعددة، إلَّا أن أكبر هجرة نباتية في مضمار الحبوب الغذائية تمثلها الذرة الأمريكية الأصل التي وَجَدَتْ لها في أجزاء كثيرة من العالم الجديد والقديم ميدانًا واسعًا للزراعة والانتشار في ظروف مناخية متناقضة. فالذرة تُزرَع في المناطق المعتدلة الشمالية (حوض الدانوب على سبيل المثال)، وتُزرع في مناطق موسمية (الهند)، وفي مناطق استوائية (غرب أفريقيا).

    وبالمثل، نجد أيضًا توزعًا إقليميًّا محدودًا لكثيرٍ من الخضروات، بينما انتشرت الطماطم والكوسة من أمريكا الوسطى إلى العالم القديم، وانتشرت السبانخ من العالم القديم إلى أجزاء مختلفة من العالم الجديد، ورغم أن البطاطس قد انتشرت في صورة هجرة واسعة من أمريكا الجنوبية (منطقة الأنديز) إلى المناطق المعتدلة في العالم القديم، إلَّا أن العالم القديم كان مليئًا بنباتات درنية كثيرة في مناطقه المدارية. وفي مقابل الكثير من المحاصيل الهامة التي أعطاها العالم الجديد للعالم القديم (الذرة، الطماطم، البطاطس، الكاكاو، التبغ، المطاط)؛ فإن العالم القديم قد أعطى للعالم الجديد الكثير من الفواكه (التفاح، الخوخ، المشمش، الكمثرى، الأجاص) والقمح والأرز والبنجر (الشمندر)، والبن وقصب السكر. ولا شكَّ في أن المجموعة الأخيرة من النبات هي على جانب كبير من الأهمية في الغذاء والتجارة الأمريكية الحديثة.

  • (٤)

    من ناحية تقييم مناطق استئناس النبات الإحدى عشرة المعطاة في الجدول، نجد أن الإقليم الثاني — الممتد من السند إلى الهضبة الإيرانية الأفغانية ومعظم العراق والقوقاز — هو أهمها على الإطلاق، يليه الإقليم السادس الذي يضم معظم الهند. فمن بين ٩٤ نباتًا يعطيه الجدول نجد الثلث (٣١ نباتًا) قد استُؤنِسَتْ في إقليم السند-القوقاز، و٢٠ نباتًا في إقليم الهند. وأقل الأقاليم كانت منطقة الأنديز؛ وذلك لظروفها المناخية المتطرفة (جفاف وبرد شديد).

  • (٥)

    ومن ناحية القيمة الاحتكارية لأصول النباتات نجد أيضًا إقليم السند-القوقاز يترأس الأقاليم الأخرى. فمن بين ٥٥ نباتًا احتكاريًّا (استُؤْنِسَ مرة واحدة في منطقة واحدة من العالم، ثم انتشر منها إلى بقية العالم) نجد إقليم السند-القوقاز يحتكر أصول ١٦ نوعًا نباتيًّا، ويليه في الترتيب إقليم البحر المتوسط باحتكاره أصول تسعة أنواع من النبات. وكانت أقل المناطق هي منطقة غرب أفريقيا التي احتكرت أصول الكولا ونخيل الزيت فقط.

  • (٦)

    أمَّا من حيث الأهمية التجارية المعاصرة، فإننا نجد إقليم البرازيل قد ساهم في نشأة عدد كبير من المحاصيل التجارية (فول سوداني، كاكاو، تبغ، مطاط)، بينما ساهم شرق أفريقيا بالبن، وجنوب شرق آسيا بالشاي، وإقليم السند-القوقاز بالقمح، وأمريكا الوسطى بالذرة.

المميزات العامة للزراعة

إن أحد أهم الاختلافات بين اقتصاديات الجمع والزراعة هو أن النشاط الزراعي لا يترابط بسهولة مع الظروف البيئية، بل لا بدَّ من جهدٍ بشريٍّ واضح لكي يمكن للنبات أن ينمو (تهيئة التربة، توفير المياه وشق القنوات إذا لزم الأمر، اقتلاع الأعشاب الضارة، وقاية المحصول من الحيوان من بين أشياء كثيرة أخرى)، كذلك تستلزم الزراعة حفظ الغذاء وابتكار الوسائل المتعددة من أجل ذلك. أمَّا الجماعون والصيادون فلا يقومون بمثل هذه الأعمال، بل كل نشاطهم هو الإفادة مما تعطيه البيئة. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتعداه إلى فروقٍ كثيرة بين مجتمعات الزرَّاع والجماعين في النواحي الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية.

وبين المزارعين — كما رأينا — اختلاف واضح في ممارسة الزراعة بواسطة عصا الحفر أو الفأس، أو استخدام المحراث. ورغم أن هناك عددًا من الصفات المشتركة في شكل الحياة الاقتصادية الهيكلية، إلَّا أن هناك اختلافات كبيرة بين زراعة الفأس — أو الزراعة الأولية — وبين زراعة المحراث. وفيما يلي سنوضح المميزات العامة لهذين النوعين من الزراعة.

(أ) الزراعة اليدوية (الأولية)

fig58
شكل ٧-٨: أدوات الزراعة اليدوية وزراعة المحراث.

(١) مجموعة من الفئوس المستخدمة في الزراعة. (٢) مجموعة من أشكال عصي الحفر. (٣) «أ» المحاريث المبكرة. (٣) «ب» الفكرة الأساسية في المحراث.

  • (١)

    يمكن أن يُطلَق عدة أسماء على هذا النوع من الزراعة، منها زراعة الفأس أو الزراعة المتنقلة أو اليدوية أو الأولية … إلخ, ولكن من هذه الأسماء جانب كبير من الصواب، ولكن لعل الزراعة اليدوية أو الأولية هي أكثر الأسماء شمولًا؛ لأن الإنسان هو طاقة العمل الوحيدة.

  • (٢)
    الصفة الغالبة للزراعة اليدوية هي التنقل من قطعة أرض إلى أخرى كلما أُجهِدت القطعة الأولى. وتختلف قدرة الأرض في تحملها للإنتاج عدة سنوات متتالية، ولكن المتوسط الحالي في المناطق المدارية يتراوح ما بين ٣–٦ سنوات، وبعد ذلك يختار المزارع قطعة أرض أخرى للزراعة بضع سنوات، وفي أحيانٍ كثيرة يعود المزارع إلى استخدام قطعة الأرض الأولى مرة ثانية أو ثالثة على أكثر تقدير؛ ذلك أن تطهير الأرض بصفة مستمرة من الأشجار والأعشاب وتعرضها للأمطار الساقطة يؤدي إلى الإضرار بالتربة أو إزالتها بعد فترة من استغلالها. ولم يكتشف المزارعون البدائيون وسيلة لتجديد خصوبة التربة إلَّا تحت تأثير حضاري خارجي، وبرغم التنقل الدائم للمزارع فهناك بعض المجتمعات الزراعية اليدوية التي لم تمارس الانتقال من مزرعة إلى أخرى إلَّا في أحوال نادرة نتيجة تجدد خصوبة التربة المستمر في دالات الأنهار أو الأودية الفيضية. كذلك لم تنتقل بعض الجماعات الزراعية لعدم وجود أراضٍ يمكن الانتقال ضمن نطاقها لسبب أو آخر (كثرة السكان أو لظروف مناخية محددة). ومن أمثلة التغلب على هذا النقص في الموارد أن الهوبي Hopi (من أمريند جنوب غرب الولايات المتحدة) كانوا في بيئتهم شبه الجافة يتركون مسافات واسعة بين كل بذرة وأخرى بغية عدم إجهاد التربة في سنوات قليلة.

    والغالب إذن أن التنقل يحدث في المناطق المطيرة القليلة السكان كغالبية أفريقيا المدارية وأمزونيا (في أمريكا الجنوبية)، وكذلك في داخلية الهند الصينية (بين أسام وكمبوديا)، وكثير من داخلية جزر إندونيسيا والفلبين (خاصة جزيرتي بورنيو وغينيا الجديدة).

  • (٣)
    يستخدم جميع الزراع اليدويين الطاقة العضلية الإنسانية، وتختلف أداة حفر الأرض في النوع والشكل. وقد استخدم الإنسان أشكالًا كثيرة من عصي الحفر، وهي في مجموعها عصي خشبية ذات طرف مدبب، قد يُضاف إليه ثقل حجري في أعلاه أو يُربَط إليه بروز خشبي قرب أسفله ليستخدم موطئ قدم لمزيد من الضغط (راجع شكل ٧-٨). وعندما ظهرت معارف الحديد أصبح الفأس وسيلة جيدة للزراعة، لكنه لم يحل محل عصا الحفر في كل مكان. وتختلف أشكال الفئوس كثيرًا؛ فهناك فئوس ذات مقابض قصيرة وأخرى ذات مقابض طويلة (تزيد عن المتر أو المترين). وقد كانت هناك فئوس حجرية ذات مقابض خشبية (راجع شكل ٦-١)، ولكن استخدامها في الزراعة لم يكن واضحًا، ربما لأن قيمتها كأداة زراعية كانت قليلة.
  • (٤)

    أمَّا من حيث المحاصيل المزروعة، فإنها تنقسم إلى نوعين أساسيين؛ أولهما: الحبوب في المناطق المعتدلة والسفانا المدارية، والثاني: الدرنيات في النطاق الاستوائي الغابي. وقد كان القمح والشعير هو أهم محاصيل زراع العصر الحجري الحديث في الشرق الأوسط وغرب آسيا وأوروبا والصين الشمالية، وأصبح الشيلم والشوفان هو المحصول الأساسي في المناطق الباردة الأوروبية والآسيوية، وكان الدخن (الدرة الرفيعة) سائدًا بأنواعه العديدة في النطاق الموسمي والسفانا من العالم القديم، والذرة الأمريكية سائدة في أمريكا الوسطى، وفي النطاق الاستوائي الحار من آسيا وأفريقيا والبرازيل كانت أنواع من الدرنيات سائدة: البطاطا والمانيوك في أمريكا الجنوبية، واليام والقلقاس في العالم القديم الاستوائي.

  • (٥)

    ولما كانت الدرنيات تشتمل على عدة محاصيل في السنة (لأن معظم أشهر السنة صالحة للنمو والإنضاج)؛ فإن زرَّاع الدرنيات لم يكونوا بحاجة إلى تخزين المحصول لفترة طويلة من السنة. أمَّا مجتمعات زراعة الحبوب، فقد كانت بحاجة إلى أدوات تخزين مستمر؛ لأن المحصول فصلي.

  • (٦)

    لا تقضي الزراعة على حرفة الجمع تمامًا، ففي كثيرٍ من المجتمعات تصبح الزراعة مهنة المرأة، بينما يقوم الرجال بالصيد. وفي بولينيزيا تُعَدُّ مهنة صيد الأسماك أكثر قيمةً واحترامًا بالنسبة للرجال من الزراعة. وقد تطورت هذه الفكرة إلى أن أصبح الرؤساء التقليديون في بولينيزيا يشاركون في بعض عمليات السماكة الطقسية وليس لهم أدنى صلة بالعمليات الزراعية.

    ولكن في معظم الجماعات الزراعية يقوم عبء الزراعة على الرجال، مثل الكثير من مناطق أفريقيا المدارية؛ حيث يشارك الزعيم في طقوس أول حصاد. وفي هذه المجتمعات يصبح الصيد عملية ثانوية يقوم بها متخصصون في الصيد، بينما في بولينيزيا وغيرها نجد مصدر الصيد وفيرًا وموارد الزراعة محدودة، ومن ثم كان الاهتمام بالصيد كحرفة الرجال. وفي مجتمعات الزراعة الصرفة نجد نوعين من المزارع: الحقل الكبير الذي يُزرَع فيه المحصول الرئيسي، وهو غالبًا بعيد عن القرية، ويتولى الرجال العمل فيه. ثم هناك مزرعة المطبخ؛ وهي مزرعة صغيرة غالبًا ما تمتد وراء المساكن أو بجوار القرية مباشرة، وتُزرَع فيها محاصيل إضافية في مساحات صغيرة لتغطية غذاء البيت، وتقوم المرأة بالعمل في هذه المزرعة الصغيرة، وقد تتصرف في إنتاجها إذا كانت هناك سوق قريبة. وعلى هذا النحو، نجد أن تقسيم العمل يتخذ دائمًا من الجنس مقياسًا له، فالعمل الكبير البعيد عن المسكن هو من اختصاص الرجال غالبًا.

  • (٧)

    كل مجتمعات الزراعة اليدوية مجتمعات مستقرة في قرى ذات مساكن ثابتة مبنية بالخامة الأساسية المتوفرة في المكان، وحتى أولئك الذين ينتقلون مع مزارعهم يبنون بيوتًا ثابتة، تُهجَر إذا كان الحقل الجديد بعيدًا أو تظل مسكونة إذا كان الحقل الجديد ضمن نطاق الحركة اليومية للرجال، وحينما تُهجَر القرية فإنها لا تُهدَم بل تُترَك كما هي، حتى يمكن استخدامها مع قليل من الإصلاحات في حالة العودة إلى الحقل القديم.

  • (٨)

    تمتلك الكثير من المجتمعات الزراعية بعض الحيوان الصغير (الماعز والأغنام)، ولكن الفائدة من هذه الحيوانات محدودة، وتكاد تقتصر على الألبان والصوف والجلود، أمَّا اللحوم فغالبًا ما تُؤكَل في الأضاحي والمناسبات الطقسية. وفي سفانا شرق أفريقيا والسودان يمتلك بعض المزارعين أعدادًا كبيرة من الأبقار ذات القيمة الاقتصادية المحدودة، ولكن قيمتها الاجتماعية كبيرة لدرجة أن تقسيم العمل يعطي للرجل مهنة رعاية الماشية ويترك الزراعة للنساء.

  • (٩)

    تتفاوت المجتمعات الزراعية كثيرًا في الحِرَف والصناعات اليدوية بين الأدوات الحجرية والخشبية الرديئة لدى قبائل البورو في أمزونيا، وبين أعمال البناء وتشغيل المعادن والنسيج المتطور لدى قبائل غرب أفريقيا أو مجتمعات الإنكا والمايا في أمريكا. ولا شكَّ أن سبب تطور بعض الجماعات الزراعية اليدوية راجع إلى تأثير حضاري خارجي قديم. وفيما يختص بالفخَّار، نجد كل الجماعات الزراعية تعرف صناعة الفخَّار اليدوية، بينما لا تظهر عجلة الفخار إلَّا عند زراع المحراث، ولا نعرف سببًا لانتشار نوع من النسيج وتفضيله على نوع آخر؛ مثلًا في غرب أفريقيا يعرفون النول، وفي شرق أفريقيا استمر استخدام لحاء الشجر برغم معرفة النول. كذلك ليس من المعروف سبب انتشار الحديد بين المزارعين اليدويين، بينما لم يعرفوا النحاس والبرونز إلَّا بعد الاحتكاك الأوروبي، وهذا عكس التطور العام في استخدام المعادن كما عرفنا من قبل.

  • (١٠)
    تختلف المجتمعات الزراعية اختلافًا كبيرًا في عدد أعضاء المجتمع، فهناك جماعات زراعية أقل عددًا من جماعات الصيد الغنية؛ مثل: الفانج (جمهورية جابون في أفريقيا الوسطى)، واليوما Yuma (في وادي كولورادو في جنوب غرب الولايات المتحدة)، كما أن هناك مجتمعات زراعية ضخمة الأعداد؛ مثل: اليوربا والأشانتي في غرب أفريقيا التي تُعَدُّ بالملايين.
  • (١١)
    ملكية الأرض عند المزارعين اليدويين ملكية جماعية؛ فالملكية الفردية ليس لها أهمية، حيث إن المزارع غالبًا ما تنتقل بعد إجهاد التربة. ومن ثم، فإن الأهمية المعلقة على الأرض لا تظهر فقط إلَّا في حالة استغلالها المؤقت لسنين محدودة، وبذلك فإن هناك حيازات لا ملكيات، بمعنى أن الأرض تصبح لحائزها طالما كان يستخدمها. ونظرًا لأن الجميع في احتياج دائم إلى أرض جديدة، فإن نظام الملكية الجماعية للقبيلة كان أكثر النظم القانونية القبلية استجابةً للحركة الدائمة للحقول والمزارع.٩

(ب) زراعة المحراث

سَبَقَ أن ذكرنا أن زراعة المحراث هي زيادة كَميَّة في الإنتاج الزراعي اليدوي بواسطة استخدام الطاقة العضلية للحيوان، لكن ذلك قد أدَّى إلى تغيُّرات جذرية في نوعية الزراعة من حيث استقرار الحقول وتجديد خصوبة الأرض. وقد ترتب على ذلك أن زراعة المحراث قد اختلفت عن الزراعة اليدوية في النقاط التالية:
  • (١)

    أصبحت الأرض ذات قيمة أعلى نتيجة لتجدد خصوبتها ولاستقرار الحقول.

  • (٢)

    أصبح في الإمكان إنتاج أكثر من محصول في ظروف الري الصناعي، وخاصةً في الأودية الفيضية.

  • (٣)

    أصبح في إمكان الأرض إعطاء غذاء أكثر من حاجة الاستهلاك الذاتي.

  • (٤)

    فائض الإنتاج الزراعي يسمح ﺑ: (أ) تراكم الثروة. (ب) نظام تسويق منتظم. (ﺟ) إمكان توفير الغذاء لعدد كبير من السكان غير الزراعيين الذين يتخصصون في مهن وحرف أخرى. ومن ثم فإن فائض الإنتاج الزراعي يعطي للمجتمعات أسس التقدم الاقتصادي وأسس بناء الدولة في الحضارات العليا القديمة في الشرق الأوسط.

  • (٥)

    أدى هذا إلى ظهور قيمة العمل الرخيص في الزراعة، متمثلًا في الرق أو نظام رقيق الأرض (كما كان ذلك سائدًا خلال فترات الإقطاع).

  • (٦)

    نتيجة لكل هذا تحولت الأرض من حيازة إلى ملكية فردية، وأصبحت بذلك سلعة قيمة بعد أن كانت قيمتها لا تظهر إلَّا من خلال إنتاجها. وقد ترتب على ذلك ظهور مجموعة من القوانين الخاصة بالملكية، والحيازة، والوراثة، والبيع، والرهن، والتأجير.

  • (٧)

    تتميز زراعة المحراث بأنها تقترن بعدد من المعارف التكنولوجية في مجموعها أعلى من زراعات الفأس وعصا الحفر. وتتمثل هذه المعارف في: (أ) المحراث نفسه تكنيك أعلى من الفأس. (ب) نظام الري الصناعي بشق القنوات والمصارف. (ﺟ) ووسائل رفع المياه إلى الحقل (الساقية، والطنبور، والشادوف، والأهوسة، والقناطر، وأخيرًا السدود). (د) ظهور أهمية الحيوان في العمليات الزراعية: جر المحراث وغيره من أدوات إعداد الأرض وتسويتها وتقسيمها للزراعة، رفع المياه إلى الحقول، بذر الحبوب ودرسها، وأخيرًا تظهر أهمية الحيوان أيضًا كمصدر للألبان والجبن والزبد وكمصدر للحم.

ولكن علينا ألَّا نعتقد أن وجود المحراث يعني كل هذه التطورات، فهناك مناطق لا تستخدم المحراث، ومع ذلك طوَّرت نظمًا مشابهة في قيمة الأرض المغلة وأهمية استخدام الحيوان، ففي هضاب جنوب شرق آسيا وجنوب الصين وفي مناطق مدرجات الأرز يصعب تشغيل المحراث، ومع ذلك فإن النظام الزراعي متطور بالطريقة التي ذكرناها.

تاريخ استئناس الحيوان

من الثابت أن الكلب كان أول حيوان استأنسه الإنسان، وكان ذلك في العصر الحجري الأوسط، ولطول تلاؤم الإنسان والكلب يُقال أحيانًا إن الكلب استأنس إلى الإنسان، وأيًّا منهما كان له فضل السبق، فإن الإنسان والكلب قد أفادا من تلازمهما إفادة كاملة؛ فقد حصل الكلب على غذاء ثابت، وكسب الإنسان رفيقًا ممتازًا في الصيد والحراسة، سواء كان ذلك في مرحلة الصيد الحضارية أو في بقية المراحل الحضارية الإنسانية الأخرى. أمَّا بقية الحيوانات المستأنسة فقد ظهرت ابتداءً من العصر الحجري الحديث؛ أي مع أو بعد الزراعة.١٠

وما سبق أن ذكرناه عن التغير في إيكولوجية الحياة والبيئة الطبيعية في النطاق الجاف، ينطبق بصورة أو أخرى على استئناس الحيوان، فإن أسباب تركز المجتمعات البشرية حول مصادر الماء في المنطقة الجافة هي نفسها أسباب تركز الحيوان حول هذه المصادر، وبذلك أُتِيحَت الفرصة للإنسان أن يتعايش عن كثب مع بعض الحيوان العشبي غير الخطر. ولعل حماية الإنسان لهذه الحيوانات من الحيوان المفترس — بطريقة غير مباشرة؛ لأنه يحمي نفسه أيضًا — قد زادت من الصلة بين الإنسان وعالم الحيوان. وتبين الإنسان أنه — بهذه الحماية — قد أصبح يمتلك مصدرًا غذائيًّا إلى جواره. ومن المعروف عن رعاة الرنة في شمال إسكندنافيا وسيبيريا، أنهم يرعون قطعانًا شبه برية إلى برية. فمع إضافة عددٍ قليلٍ من الحيوان المستأنس يتمكن هؤلاء الرعاة من اجتذاب القطعان البرية إلى جوارهم كمصدر للحم، ولعل ذلك إعادة — بصورة ما — لما حدث في الماضي. وربما استطاع الإنسان أن يسرع بعملية الاستئناس بطرد وقتل أنواع الحيوان العشبي البري صعب الاستئناس، وبذلك تتبقى لديه الأنواع القابلة للاستئناس؛ مثل: الماعز، والأغنام، والأبقار، وأنواع من الخنازير.

ولكن لم تُكلَّل كل المحاولات التي بذلها الإنسان القديم لاستئناس الحيوان بالنجاح؛ فمن المعروف أن المصريين حوالي ٣٠٠٠ق.م حاولوا استئناس قطعان من الوعول والغزال في صورة شبه برية، لكنهم فشلوا في تحقيق ذلك، بينما كان النجاح حليف استئناس الماعز والخراف والخنازير والماشية. ولم يكن الأمر مجرد قابلية الحيوان لذلك، بل إن الإنسان قد أدرك أن بعض الحيوان ليس مجرد مصدر للحوم فقط، وإنما هو مصدر غذاء آخر: الألبان، وبذلك يمكن أن يستفيد الإنسان من الحيوان دون أن يقتله مباشرة كما كان يفعل من قبل للحصول على اللحم. هذا إلى جانب استخدام الحيوان في منافع أخرى: الجلود، والفراء، والصوف. ومن ثم استطاع الإنسان تجريبيًّا أن يتدخل في الاختيار الطبيعي في عالم الحيوان. فهو يقتل الحيوان الذي يهدد أمنه، وبذلك تنقرض أنواع كثيرة من الحيوان آكل اللحوم، ويخصص بعض الحيوان الذي يربيه لأنواعٍ خاصة من الاستخدامات خلال حياته، ثم يستفيد منه في النهاية كمصدر للحم. وبهذه الطريقة أدى الإنسان إلى تكاثر أنواع من الحيوان، وأباد أنواعًا أخرى، وهجَّن أنواعًا للحصول على فائدة أكبر: في اللحم أو الألبان أو الجلود أو الأصواف.

وعلى هذا النحو يكون الإنسان قد أضاف إلى تغيير المنظر الطبيعي للأرض (بواسطة الزراعة) تغييرًا آخر في التكوين البيولوجي في العالم. وفي الماضي فعل الإنسان مثل هذا التغيير بصورة مسرفة؛ مما أدى إلى إحداث أضرار بالغة بالمكوِّنات الأساسية للحياة البيولوجية، وخاصة التربة. فاقتلاع الأشجار وتعريض التربة للأمطار يؤدي في أحيانٍ كثيرةٍ إلى ضعف التربة أو إزالتها أو تمليحها، وكذلك كان للرعي المفرط (نتيجة كثرة الحيوان) آثار سيئة على التربة وإجهادها؛ إذ أدت إلى تحويل مساحات من الأراضي العشبية إلى أراضٍ قاحلة.١١ وعلى أي حال، فإن العلم الحديث يحاول إصلاح ما أفسده الإنسان.

وأقدم ما نعرفه عن استئناس الحيوان — باستثناء الكلب — هو حفريات جارمو وزاراب في كردستان؛ حيث نجد مجتمعات تعيش على رعي الماعز في حدود الألف السابعة قبل الميلاد، وتقوم بالتنقل بين بطون الأودية شتاءً (حيث توجد القرى الثابتة) والسفوح العليا للجبال صيفًا (حيث توجد معسكرات الرعاة العليا)، وكذلك يبدو أن استئناس الحمار قد تم في فترة بعيدة، لكنها تالية لاستئناس الماعز والأغنام. والحمار حيوان أصيل في منطقة شمال شرق أفريقيا، ولم يكن الحمار مفيدًا كحيوان لبن أو لحم (قد يكون ذلك هو حكمنا الحالي)، ولكنه كان مفيدًا كحيوان حمل ثم كحيوان للجر. وقد استُخدِم لجر المحراث في فترة لاحقة في سهول العراق، وفي جر العربات حوالي ٣٠٠٠ق.م، وكذلك استُخدِم الثور في الجر لفترة أسبق من ذلك، لكننا لا نعرف بالضبط متى كان ذلك، وحينما استُؤنِس الحصان استُخدِم أيضًا في الجر.

وفي الغالب، تم استئناس الحصان متأخرًا عن الماشية والحمير، كما أن الأدلة الحالية تشير إلى أن ذلك قد تم في تركستان، وفي المنطقة نفسها عُثِر على عظام الجمل، ولو أنه عُثِر في مصر على نموذج للجمل يرجع إلى حوالي ٣٠٠٠ق.م وبرغم ذلك، فإن الجمل لا يظهر بعد ذلك في الرسوم المصرية إطلاقًا، ولعل ذلك راجع إلى واحد من افتراضين متعارضين؛ أولهما: أن يكون الجمل من الشيوع بحيث لا يُرسَم (ولكن الحمار كان شائعًا وتعدد رسمه). والثاني: أن يكون قد دخل أفريقيا متأخرًا جدًّا (حوالي أواخر الألف الأولى ق.م)، والافتراض الثاني أكثر قبولًا.

وتتفق الكثير من الآراء على أن الحصان لم يُستخدَم للركوب إلا في حدود ألف قبل الميلاد، بينما شاع استخدامه في الشرق الأوسط لجر العربات قبل ٢٠٠٠ق.م، ولم تُستخدَم الخيول في مصر إلا بعد أن أدخلها الهكسوس حوالي ١٦٥٠ق.م وقد عُثِرَ على سرج في حفريات موهانجو-دارو، هارابا (السند) ولكن لا يوجد دليل على أنه استُخدِم للحصان، بالرغم من أن الحمير والجمال لم تكن معروفة في الهند في ذلك الوقت. وكل ما نعرفه حاليًّا هو أن سكان سكيزيا في جنوب روسيا كانوا يرعون الخيول ويستخدمونها للألبان وللركوب، وأن غزواتهم السريعة ضد الأشوريين والأوروبيين في حوالي منتصف الألف الأولى قبل الميلاد قد أعطت أعداءهم فكرة ركوب الخيل والفروسية.

وأيًّا كان الحال، فلا شك أننا لا نعرف على وجه الدقة تاريخ استئناس الكثير من الحيوانات، ولكن الشيء الذي نستطيع أن نؤكده هو أن الإنسان استطاع في العصر الحجري الحديث أن يعرف فن استئناس الحيوان في منطقة ما — لعلها الشرق الأوسط — ومع انتشار هذا الفن إلى مناطق أخرى من العالم استطاع الإنسان أن يستأنس الحيوانات التي يمكن استئناسها في الأقاليم المختلفة. تمامًا مثل الزراعة، فإنها كفنٍّ عُرِفَتْ في منطقة ثم انتشرت إلى المناطق الأخرى، ومع انتشارها أصبح الإنسان قادرًا على استنبات أنواع النبات البري الموجود في بيئاته المختلفة (انظر الخريطة رقم ٧-٩).

وعلى أي حال، فإن الإنسان في خلال العصر الحجري الحديث قد استأنس غالبية الحيوانات المعروفة حاليًّا كحيوانات تربية ورعي، ولم يحل منتصف الألف الثالثة (٢٥٠٠ق.م) حتى كان الإنسان في مناطق العالم يعرف استئناس الكلب والقط والدواجن والحمام والماعز والخراف والأبقار والحمير والخيل والإبل والرنة واللاما (أمريكا الجنوبية) والفيل (الهند وجنوب شرق آسيا). ويضيف الإنسان في الوقت الحاضر تربية أنواع مختلفة من حيوان الفراء الصغير في كل من شمال الاتحاد السوفيتي وكندا.

fig59
شكل ٧-٩: المناطق الرئيسية لاستئناس الحيوانات المختلفة.
ومن بين كل هذه الحيوانات نجد الكلب والحمام اللذين أصبحا استئناسهما كاملًا، بحيث يندر أن يرجعا إلى الحالة البرية إلَّا في أقصى الظروف — كأن يهاجر الإنسان أو ينقرض.١٢ أمَّا بقية الحيوانات الأخرى فإنها ما زالت تمتلك «روحها» البرية، ويمكن أن تنطلق وتعيش بمفردها لولا أن استئناسها يتم منذ ولادتها. وبرغم ذلك، فإنها قابلة للحياة البرية حينما تسنح لها الفرصة سواء كانت ماعزًا أو ماشيةً أو خيولًا أو جمالًا أو حميرًا. وما زال القط — برغم طول فترة استئناسه — يظهر الكثير من المظاهر البرية داخل البيوت (كاقتناص الدواجن أو غير ذلك من المأكولات المعدَّة)؛ ولهذا فإن تربية القط عملية لصالح القط أكثر منها لصالح الإنسان إذا استثنينا الناحية العاطفية عند الإنسان.
مناطق استئناس الحيوان والطيور.
الحيوان الشرق الأوسط وسط أوروآسيا جنوب وشرق آسيا أمريكا الوسطى وبيرو
الماعز * *
الأغنام * *
الخنزير * *
الماشية * *
الجاموس *
الرنة *
الياك *
الإبل *
اللاما *
الحمير *
الخيل * *
الدواجن * *
الرومي (الحبش) *
الطاووس *
البط * * *
الأوز * *
الحمام *
البجع *
الأرانب *
الكلب * *
القط * *
الفيل *
ويجب ملاحظة أن هناك أنواعًا مختلفة من بعض الحيوانات الرئيسية، فالإبل بنوعيها ذات السنام (العربية Camelus dromedarius) والبكتيرية C. Bactrianus قد استُؤْنِسَتْ في وسط آسيا. وللماشية أنواعٌ مختلفةٌ منها: الزبيو Bos namadicus والهندي B. indicus استُؤنِسا في الهند، وأبقار طوروس B. Taurus في غرب آسيا ووسطها، وفي أمريكا الجنوبية استُؤنِس نوعان من اللاما؛ هما: اللاما Lama glama، والألباكا L. pacos. وبرغم أن الفيل قد استُؤنِس منذ فترة طويلة في آسيا الجنوبية إلَّا أنه لم يُعرَف إلَّا في أحوال قليلة أن الفيل قد نشأ في الأسر، ومن ثم فإنه لا يمكن أن يُقال إن الفيل قد استُؤنِس تمامًا.

المميزات العامة لحرفة الرعي

  • (١)

    إن حرفة الرعي كنظام اقتصادي أساسي لعدد من المجتمعات، لم ينمُ ويظهر بوضوح إلَّا في العالم القديم؛ ذلك أن تربية أنواع اللاما في جبال الأنديز كان جزءًا من النظام الزراعي، ولم يحدث أن تحولت مجموعة من الأمريند إلى نظام اقتصادي قوامه الوحيد رعي هذا الحيوان، لكن بعض الأمريند تحوَّلوا إلى تربية الحيوان بسرعة بعد وصول الحصان والأغنام مع الاستيطان الأوروبي، ومن أمثلة ذلك تحول النافاهو إلى رعي الأغنام كنظام منقول عن الإسبان.

  • (٢)

    يرتبط الرعي في العالم القديم بأقاليم جغرافية معينة؛ لأن الرعاة يرتبطون ببيئة حيوان الرعي، وتمتد مناطق الرعاة الآن في نطاق متقطع من التندرا الأوروآسيوية إلى سفانا شرق أفريقيا، وينقسم هذا النطاق إلى عدة مناطق في كل منها نوع معين من حيوان التربية؛ في التندرا نجد رعاة الرنة في شمال أوروبا وسيبيريا، وفي سهول الأستبس في وسط آسيا من جبال ألتاي إلى نهر الفولجا يمتد نطاق رعاة الخيل من القوزاق. وقد تحول الكثير منهم إلى حياة مستقرة قوامها الزراعة أو الرعي العلمي الحديث، وفي منغوليا والهضبة الإيرانية الأفغانية وسنكيانج يوجد نطاق رعي الإبل البكتيرية، وفي التبت نطاق رعي الياك، وفي جنوب غرب آسيا والصحراء الكبرى يمتد نطاق هائل قليل السكان من رعاة الإبل العربية الذين يختلفون كثيرًا فيما بين بدو الجزيرة العربية وطوارق جبال الحجاز، وفي نطاق السفانا السودانية من السنغال إلى النيل، وفي شرق أفريقيا حتى شرق إقليم الكاب في جنوب أفريقيا يمتد رعي الأبقار. وأخيرًا، يوجد نطاق آخر لرعي الأبقار في المناطق الجبلية الممتدة من جبال الألب إلى جبال كردستان.

  • (٣)
    أهم ما يميز الرعاة جميعًا هو أن حياتهم تنتظم في هجرة موسمية تبعًا لهجرة الحيوان ووراء احتياجاته من الماء والكلأ، وتُسمَّى ظاهرة التنقل هذه في مجموعها باسم Transhumance، وإن كان هذا المصطلح أكثر التصاقًا بحركة الرعاة في المناطق الجبلية بين بطون الأودية شتاءً وسفوح الجبال العليا صيفًا. أمَّا الرعاة الآخرون فيمارسون الهجرة الفصلية أفقيًّا؛ أي على مساحة من الأرض قد تكون كبيرة أو صغيرة حسب نوع الحيوان والبيئة. وأطول حركات الهجرة الفصلية هي تلك التي يقوم بها رعاة الإبل عامةً والعربية خاصةً؛ لأنهم يعيشون في أكثر مناطق النطاق الجاف جفافًا.
  • (٤)

    يترتب على شكل الهجرة الموسمية هذه أن حياة الاستقرار عند الرعاة غير موجودة إلَّا في حالات خاصة؛ فرعاة البقر في نطاق السفانا الأفريقية يقومون غالبًا بالزراعة اليدوية أيضًا؛ مما يترتب عليه إقامة مساكن ثابتة. ولهذا ينقسم المجتمع أثناء موسم الهجرة إلى قسمين: طبقة الشباب (طبقة الرعاة) تقوم بالحركة الموسمية مع الأبقار، بينما تظل بقية المجتمع في القرى الزراعية، وكذلك لا يتحرك كل مجتمع رعاة البقر في النطاق الجبلي الألبي، بل تظل غالبية المجتمع مقيمة في القرى الدائمة في الأودية، بينما يصعد الرعاة فقط مع الحيوان إلى أعالي الجبال. وفي حالة رعاة البقر الأفريقيين نجد أن الرعاة يقيمون معسكرات متحركة أثناء حركتهم الفصلية مع الحيوان، أمَّا عند رعاة البقر في النطاق الألبي فإن هناك أكواخًا وبيوتًا دائمة في أعالي الجبال ينتقل إليها الرعاة دون أن ينقلوا معهم مساكن مؤقتة. وباستثناء هذه الحالات، فإن الغالبية الأخرى من الرعاة تنقل معها مساكن سهلة النقل، ومعظمها أنواع وأشكال مختلفة من الخيام، وفي أحيان كثيرة تصبح هذه الخيام المساكن المفضلة للرعاة — سواء في موسم الهجرة أو في موسم الاستقرار — مثل خيام البدو، ويُورِّث القوزاق والمغول.

  • (٥)

    معظم الرعاة يعرفون الزراعة، وقلة منهم لا تعرفها ولا تمارسها مثل الهوتنتوت (رعاة البقر) في نامبيا، ورعاة الرنة (لقسوة المناخ وقصر موسم النبات). لكن هناك من الرعاة من يعرف الزراعة ويستنكف من ممارستها؛ ولهذا نشأ نوع من نظام الرق يتولى الزراعة بمقتضاه هؤلاء الرقيق أو هؤلاء الذين يقبلون حماية الرعاة العسكرية لهم، بينما يظل الرعاة سادة على الإقليم. مثل ذلك التكوين الطبقي المهني موجود بين الطوارق في هضبة الحجار أو بين مجموعات رعاة البقر من الباهيما والواتوتسي والأنكولي في منطقة جنوب أوغندا ورواندا وأطراف جمهورية زائيري (الكنغو) الشرقية، الذين كانوا يستغلون مجموعات البانتو في الزراعة. وعلى هذا النحو يقيم كثيرون من الرعاة من أنفسهم أرستوقراطية عسكرية حاكمة بالنسبة للزراع. ويرجع ذلك إلى تفوقهم في الحركة والتنظيم، بينما المزارعون مجتمع مستقر ذو تكوين مرتبط بالإنتاج الزراعي الثابت، ولا يمكن أن يقيم نظامًا عسكريًّا إلَّا إذا تفرغ أفراد منه لهذه المهنة.

  • (٦)

    رغم أن المجموعات الرعوية تُسمَّى وتُعرَف باسم حيوان واحد كرعاة الخيل، إلَّا أن ذلك لا يعني أنهم لا يمتلكون حيوانات أخرى. والغالب أنه توجد دائمًا أعداد كبيرة من الحيوان الصغير، وعلى الأخص الماعز والأغنام، إلَّا في حالات استثنائية حيث لا تسمح الظروف الطبيعية كنطاق رعاة الرنة، ويجمع رعاة الخيل إلى الماعز والأغنام الأبقار أيضًا، وبذلك فإنهم أكثر الجماعات الرعوية غنًى ووفرةً وتنوعًا.

  • (٧)

    في أحيان كثيرة، دخل الحصان إلى مناطق عدد كبير من الرعاة، عدا منطقة رعاة الرنة ورعاة شرق أفريقيا وجنوب السودان. ودور الحصان في مثل هذه المناطق دور عسكري بحت؛ لأنه أسرع حركة من الإبل أو بقر السفانا السودانية، وكثيرًا ما كان يحتفظ بأعداد من الخيول رغم التكاليف الباهظة التي يتطلبها ذلك؛ لأنها دليل على المكانة الاجتماعية والقوة والنبالة.

  • (٨)

    في كثيرٍ من الأحيان، يغير الرعاة حرفتهم مضطرين، وغالبًا ما يحترفون الزراعة، لكن بعض الجماعات تمارس حرفة الرعي حتى في ظروف إيكولوجية غير ملائمة. وأشهر الأمثلة على ذلك قبيلة الياكوت التركمانية الأصل التي نزحت إلى سيبيريا الشرقية في القرن العاشر أو الحادي عشر نتيجة للقلقلة التي أحدثها انتشار المغول وغزواتهم في وسط آسيا والصين. وفي مواطنهم الجديدة، ظل الياكوت على رعي الخيل برغم أن كل الظروف غير ملائمة، وهم يجهدون أنفسهم كثيرًا في المحافظة عليها ويبنون لها الإسطبلات لحمايتها من البرد القارس، ويحصدون محاصيل عشبية سريعة النضج لغذاء الخيل، ويعلمونها أيضًا أكل السمك. وقد أضاف الياكوت الرنة إلى حيوان التربية، وكذلك أخذوا يربون الأبقار ويسرجونها كما كانوا يفعلون مع الخيول، وفي الوقت الحاضر يقومون أيضًا بالزراعة تحت تأثير السياسة الاقتصادية السوفيتية، لكنهم ما زالوا يكنون للخيل كل التقدير والمشاعر العاطفية القديمة.

  • (٩)

    على الرغم من أن مجتمعات مختلفة قد ترعى حيوانًا واحدًا، فإننا نجد بين هذه المجتمعات اختلافات كبيرة في مدى الإفادة من الحيوان، فرعاة البقر من العرب في نطاق السفانا السودانية مختلفون تمامًا عن النيليين وغيرهم من رعاة البقر الوثنيين. فبينما العرب البقارة يستخدمون الحيوان للنقل وأحيانًا للركوب لا نجد مثل ذلك عند النيليين، ويرتبط الاختلاف في أساسه بالتركيب الحضاري العام للمجموعتين، ودور الحيوان الاقتصادي الاجتماعي داخل هذا التركيب، كذلك نجد في وسط آسيا أن الناقة لا تُحلَب إلَّا نادرًا، وأن الجمال لا تُستخدَم للركوب (وإن كانت تُستخدَم للحمل)، وذلك على عكس ممارسات العرب الأبالة.

  • (١٠)

    المفهوم حاليًّا أن استخدام الحيوان يعني: (أ) أكل اللحم واستخدام الجلود، وهذا يشابه استخدام الحيوان عند الصيادين. (ب) استخدام صوف الحيوان كمادة للنسيج وحلب الحيوان، وبذلك يتكون غذاء ثابت دون الحاجة لقتل الحيوان. وهذه هي المرحلة التي وصل إليها معظم الرعاة في استفادتهم من الحيوان، وهي مرحلة تجعلهم يختلفون تمامًا عن الصيَّادين. (ﺟ) استخدام الحيوان في الركوب أو الحمل أو الجر أو لكل هذه الاستخدامات معًا. وهذه مرحلة لم يمارسها كل الرعاة لأسباب حضارية. (د) تحويل الألبان إلى منتجات غذائية تدوم فترة أطول من الحليب. وهذه المرحلة لم تصل إليها غير مجموعات محدودة من رعاة البقر والأغنام، وخاصة في مناطق جبال الألب حيث تشتد الحاجة إلى وجود غذاء محفوظ خلال الشتاء القاسي.

وقد يبدو غريبًا أن الرعاة لا يعرفون جميع هذه الاستخدامات، ولكن واقع الأمر هو أن المجتمع الذي يعرف هذه الاستخدامات كافة هو مجتمع غير رعوي. إنه مجتمع زراعة المحراث الذي يقوم بتربية الحيوان لأغراضٍ كثيرةٍ من أعمال الحقل وتأمين الغذاء النباتي والحيواني بحفظه بطرق مختلفة في صورة الجبن ومنتجات الألبان الأخرى إلى جانب اللحوم المقددة والمدخنة.

(٥-٢) سمات الاقتصاد البسيط على ضوء المعايير الاقتصادية الحديثة

إن هذه الصور من أشكال الإنتاج البدائي في الجمع والزراعة والرعي تبدو غريبة بالنسبة لأشكال الاقتصاد الحديث، لكنها كانت كافية ومترابطة بالتركيب الحضاري العام للجماعات البدائية. ولكي نفهم أسس هذه الأنظمة وكفايتها النسبية يمكن أن نلقي عليها الضوء على أساس بعض المعايير الاقتصادية الحديثة.

  • أولًا: «تكنولوجية الإنتاج وتقسيم العمل»: سبق وأن أكدنا أن أهم ما يميز هذه المجتمعات عن الحضارة العليا المعاصرة، هو أنها تستخدم تكنولوجية إنتاج بسيطة وبدائية. وبرغم تخلف هذه الوسائل الإنتاجية إلَّا أنها تتكافأ مع بساطة العمليات الإنتاجية المطلوبة وبساطة هدف الإنتاج، وهو تلبية احتياجات الغذاء بالطرق المتعارف عليها عند كل حضارة على حدة. إن الكثير من أدوات الإنتاج البدائية هي في حد ذاتها ابتكار عظيم متلائم أشد التلاؤم مع الظروف البيئية، إلَّا أن كل أشكال الإنتاج تسير بواسطة طاقة الإنسان أو الحيوان البيولوجية، وهي كما عرفنا ذات جهد محدود. ومن ثم لا بدَّ وأن يكون الإنتاج محدودًا ومتكافئًا مع القوة العددية للعمالة البشرية أو الحيوانية من ناحية ومع احتياجات المجتمع من ناحية أخرى؛ ولهذا أيضًا لم تنشأ اقتصاديات السوق الكبيرة كما هو واقع الأمر الحالي، ولم يكن هناك اعتماد متبادل بين مجتمع وآخر إلَّا في الكماليات، وقد كان هذا الوضع سائدًا في كل جهات العالم قبل الثورة الصناعية.

    ويرتبط بالكفاية الذاتية لكل المجتمعات البسيطة نظام تقسيم العمل الذي كان يقوم باستمرار على أساسين: الجنس، والسن. وقد رأينا أن تقسيم العمل على أساس الجنس تقسيم واضح وبسيط: يختص الرجال بكل الأعمال التي تقتضي جهدًا عضليًّا وبعدًا مكانيًّا عن القرية أو المعسكر، بينما تقوم المرأة بالنشاط الاقتصادي القريب من المسكن. أمَّا تقسيم العمل على أساس درجات السن، فيتضح في حياة الرعاة والمزارعين بصورة أكثر مما نجده عند الجمَّاعين. هذا وما زال تقسيم العمل في أشكال الاقتصاد الحديثة قائمًا على هذين الأساسين، فنادرًا ما تقوم المرأة بأعمال التعدين أو الصناعات الثقيلة أو الخطرة، وقلما تقوم بأعمال تقتضي تجوالًا بعيدًا عن المدينة أو القرية، وكذلك هناك تقسيم للعمل على أساس فئات السن، وإن كانت فترة الإنتاج عندنا قد طالت إلى سن الستين أو أكثر بينما كان الرجال في المجتمعات البسيطة يتحولون إلى مجتمع كبار السن والحكماء في نحو الأربعين من العمر. ولا شكَّ أن ذلك يرتبط أيضًا بمتوسط العمر الذي كان قصيرًا في الماضي بالقياس إلى متوسط العمر الحالي.

    وبرغم التشابه في أسس تقسيم العمل بين المجتمعات البسيطة والحديثة، إلَّا أن هناك فارقًا جوهريًّا يفصل بينهما. ذلك هو موضوع التخصص؛ ففي المجتمعات البسيطة يعرف الإنسان الحرفة الأساسية معرفة جيدة — سواء كانت الجمع أو الصيد أو الزراعة أو الرعي — فجميع الأفراد يتعلمون في مدرسة واحدة هي المشاهدة والتجربة منذ الطفولة والممارسة العملية منذ البلوغ. ويترتب على ذلك أن جميع الأفراد يعرفون أصول المهنة وأسرارها بالتجربة، ويُثرون هذه المعرفة بالاستماع في معظم الأمسيات إلى تجارب كبار السن في المجتمعات أو الأندية؛ ولهذا لم يكن هناك تمايز كبير بين الفرد والآخر في أداء العمل الاقتصادي. وقد تكون هناك فوارق بسيطة نتيجة لحذق شخص معين أو تجربة آخر، لكن هذه الفوارق سرعان ما تزول؛ لأنها تشيع فور حدوثها ويتعلمها الآخرون في اجتماعات الأمسيات.

    ويترتب على هذا أن كل فرد يصبح وحدة عمل اقتصادية متكاملة. وبرغم ذلك، فإن بعض أشكال النشاط الاقتصادي تدعو إلى العمل الجماعي: عمليات الصيد الكبير، عمليات الهجرة والتنقل الموسمي بحيوان الرعي، عمليات النفير (استنفار أعضاء المجتمع العاملين) من أجل إعداد الحقول الجديدة للزراعة اليدوية بقطع الأشجار وحرق الأعشاب البرية وتخطيط الحقول أو البذار وجني المحصول.

    وهذه الأشكال من العمل الاقتصادي تختلف تمامًا عن شكل العمل شديد التخصص في المجتمع المعاصر، فكل فرد يتعلم مهنة معينة ويتعذر عليه الانتقال من مهنة إلى أخرى إلَّا بالتعلم. ومن ثم، فإن التخصص الاقتصادي في المجتمع الحديث يعلو على بقية الأشكال الحضارية في إيجاد الترابط بين أفراد المجتمع، وبذلك فهو ترابط جبري يؤدي إلى حدوث المنازعات والشقاق داخل المجتمع، ويؤدي أيضًا إلى الثورات الاقتصادية الاجتماعية، وهو أمرٌ غير معروف داخل المجتمعات البسيطة. فالنزاعات التي تحدث داخل المجتمعات البسيطة لا تقوم لأسباب اقتصادية فقط، إنما ترتبط بالعصبية الدموية (العشائرية ومجموعات النسب والمكان)، ولا تؤدي إلى ثوراتٍ، إنما إلى انقسام المجتمع إلى قسمين؛ واحد يبقى والآخر ينسحب إلى مكانٍ آخر. وقد تكرر ذلك في صورة الهجرات القبلية العديدة التي عمَّرت العالم. وبطبيعة الحال، كانت هناك هجرات أخرى مردُّها زيادة السكان عن الموارد المتاحة في الإقليم، لكننا لم نعرف أن نزاعات داخل المجتمعات البسيطة قد أدَّت إلى فرضِ رأي على آخر أو تحكم مجموعة وتسلطها على أخرى إلَّا في حالات الغزو وفرض حكم أرستوقراطي بواسطة الغزاة.

  • ثانيًا: «تركيب وعضوية الجماعة المنتجة»: قلنا إنه لا يوجد تخصص إنتاجي بين أفراد المجتمع سوى التخصص المبني على الجنس والسن، وحتى التخصص لا يكوِّن طبقات عمل في سائر أنحاء القبيلة أو العشيرة، بل هو يرتبط فقط بالجماعة المحلية، سواء كانت مجموعة نسب أو مجموعة مكان (قرية)؛ ولهذا فإن تنظيمات القرابة والمكان الاجتماعية هي نفسها تنظيمات العمل.

    وعلى هذا، فإن للتنظيمات الاجتماعية — أسرة أو أسرة ممتدة أو مجموعة نسب وقرابة أو مجموعة مكان — عدة وظائف: اجتماعية، ودينية، وسياسية، واقتصادية. وكل هذه الوظائف مترابطة معًا بحيث لا يمكن فصلها إلَّا لغرض الدراسة فقط، بينما نجد في أشكال الاقتصاد الحديثة انفصالًا واضحًا بين التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

    ويترتب على الترابط الحيوي بين وظائف التنظيم الاجتماعي الاقتصادي في المجتمعات البسيطة عدة اختلافات جوهرية عن التنظيم الاقتصادي الحديث، فلا توجد سوق للعمل ولا عمل أجير، ويحل محل ذلك العمل الجماعي غير الاختياري بين أعضاء التنظيم الاجتماعي على نحو ما فصَّلنا آنفًا. يترتب على عدم وجود سوق للعمل أنه لا يوجد رأس مال إنتاجي يستثمر في العمل الأجير، ولا رأس مال تسويقي؛ لأن فائض الإنتاج محدود ووسائل النقل أيضًا محدودة. وبرغم وجود نظام للرق أو ما يشابهه في بعض المجتمعات البسيطة، إلَّا أن العمالة المطلوبة من الرقيق محدودة بطبيعة أدوات الإنتاج ومحدودة بإعالة ملاك الرقيق (غالبًا الرؤساء، والزعماء، أو الرعاة)، ومحدودة بطبيعة السوق الاستهلاكي الصغير، وعدم وجود استثمارات بالمعنى الحديث.

  • ثالثًا: «نظم ووسائل التبادل وفكرة النقود»: إن تقدير تكاليف الإنتاج غير ذات موضوع بالنسبة للنظم الاقتصادية البسيطة، ويزيد من غموض فكرة تقييم الإنتاج والأرباح في التبادل عدم وجود فكرة النقود بالمعنى الذي نعرفه حاليًّا أو عرفته الحضارات العليا القديمة؛ فالتبادل بين أشكال الإنتاج والمجتمعات يحدث للمنفعة وليس للربح، والتجارة الصامتة١٣ التي تحدث بين بعض المجتمعات دليل على ذلك. لكن معظم الجماعات البسيطة قد ابتكرت قيمة معينة للتبادل: في ميلانيزيا أنياب الخنزير، وفي أفريقيا أصداف معينة Cowrie shell، وحبوب الكاكاو عند الأزتك (المكسيك)، وأصداف أو أقراص حجرية ضخمة مثل أحجار الرحى عند سكان بولينيزيا.
    ولكن هذه ليست نقودًا بالمعنى المفهوم؛ لأنها لا تكوِّن دورة تعامل مثل النقود، بل دورة محدودة. فهناك تبادل من أجل الغذاء، ونوع آخر من التبادل فيما يعتقد أنه كماليات، وثالث خاص بالتبادل بين النبلاء والزعماء وأصحاب المراكز الاجتماعية في القبيلة أو العشيرة. فمثلًا نجد عند قبائل التيف Tiv في وسط نيجيريا هذه الأشكال المتعددة للتبادل: الغذاء يبادل الغذاء (لحوم أو دواجن أو ألبان مقابل محاصيل نباتية). ويمكن أيضًا أن يحدث تبادل بين الغذاء وقضبان النحاس، وتُعتبَر قضبان النحاس في التبادل عالية القيمة كالنساء أو الرقيق، وعند قبائل النيليين في السودان الجنوبي هناك قيمة لكل شكل من أشكال الإنتاج؛ مثلًا البقرة تعادل عددًا معينًا من الخراف أو عددًا آخر من الماعز أو عددًا من الرماح والقوارب المصنوعة من البردي أو القوارب المحفورة.

    وفي مجتمعات زراعة المحراث طُوِّرت أشكالٌ من النقود، لكنها لم تتحول إلى مفاهيم النقد والعملة إلَّا في حالات استثنائية، وخاصةً في مجتمعات زراعة المحراث ذات الحضارات العليا القديمة في الشرق وأوروبا. أمَّا في المجتمعات الزراعية الغنية ذات الإنتاج الفائض، فقد قام نظام تسويقي في صورة أسواق أسبوعية محلية وأسواق مركزية دائمة أو موسمية، لكن هذا النظام لم يقتضِ وجود شركات ورأسمال تسويقي ومصارف وغير ذلك مما نعرفه، فلم تظهر تجارة جملة أو تجارات متخصصة، بل إن غالبية التجارة القديمة كانت تقوم دائمًا على أساس بيع كل السلع (كما هو الحال في المناطق الريفية أو الأسواق الشرقية).

  • رابعًا: «تراكم الثروة»: إن السلع الإنتاجية الرئيسية في الحضارات المختلفة هي الإنسان والأرض، وفي نظم الاقتصاد البسيط ليست هذه السلع ملكًا فرديًّا لأحد إلَّا في أحوال شاذة. أمَّا أدوات الإنتاج فهي غالبًا ملك للأفراد، وعند مجتمعات الرعي لا نجد ملكية للأراضي، وكذلك في حالة الزراعة اليدوية التي يسودها نظام الحيازة، يكون من حق الزعيم المحلي إعادة توزيع الحيازات في حالات مختلفة، ولكن نظام القرابة ومجموعات النسب كثيرًا ما تتدخل أيضًا في توزيع الحيازات الزراعية. أمَّا الجهد الإنساني في العمل، فإنه يتم من أجل تأدية العمل المطلوب، وليس من أجل الوصول إلى مستوى أمثل وإنتاج أكثر، إلَّا إذا كانت الظروف الطبيعية قد تدخلت في موسم ما لزيادة الإنتاج الزراعي أو نمو عشب أغنى وأوفر في المراعي؛ مما يترتب عليه وفرة غذاء حيوان الرعي.

    كل هذه الظروف — في داخل الإطار الحضاري العام البسيط — تجعل في النهاية الإنتاج والعمل الإنتاجي وأدوات الإنتاج أمورًا مترابطة معًا، بحيث لا تزيد أو تنقص عن احتياجات المجتمع إلَّا بتدخل الظروف الطبيعية أو البشرية (حروب وغزوات وتدمير). وبطبيعة الحال، يؤدي هذا إلى توازن إنتاجي، لكنه في الوقت نفسه ثبات أو ركود في الإنتاج حسب تعريفاتنا الحالية. وعلى أي حال، فإن هذا التوازن لا يؤدي إلى تكوين رأس مال يُعاد استثماره من قِبَل أفراد معينين. ولكن في حالات كثيرة نجد عند المجتمعات البسيطة اتجاهات إلى تراكم الثروة ومزيد من الإنتاج. وكما سبق أن ذكرنا فإن الأنظمة الحضارية لمثل هذه الجماعات قد ابتكرت وسائل متنوعة لتدمير هذه الثروة المتراكمة في مقابل تعويض اجتماعي وتقديري، ومعظم هذه الوسائل لإعادة توزيع الثروة المتراكمة تتخذ شكل الحفلات الطقسية التي تُبعثَر فيها الثروة المجموعة على معظم أفراد المجتمع. ولا شكَّ أن هذه الوسائل ليست سوى نوع من الإشراف الحضاري والمحافظة على التوازن الاجتماعي الاقتصادي داخل المجتمع ومنع تكون طبقة جديدة على أسس اقتصادية استغلالية.

(٦) التغيير الاقتصادي ومهمة الأنثروبولوجيا الاقتصادية

وخلاصة القول أن نظم الاقتصاد البسيطة تتعايش مع التنظيم الاجتماعي داخل الإطار الحضاري في توازن واستمرارية مكانية وزمانية، وأن التفاعل السببي بين النظامين الاقتصادي والاجتماعي يدور دائمًا حول محور وحيد وهام؛ تأمين تسهيلات الحياة.

وحينما يحدث تغير في التركيب الاجتماعي أو الاقتصادي لا بدَّ من أن يكون لذلك صدى في الآخر؛ ولهذا نرى أن التغير الاقتصادي من الجمع إلى الزراعة أو الرعي قد أحدث تغيرات مماثلة في التركيب الاجتماعي. ومثل ذلك حدث حينما تغير المجتمع إلى اقتصاديات الصناعة. ومع نمو قطاع الخدمات في الصناعة حدثت تسهيلات معينة في الحياة اقتضت تغيرات مماثلة في التركيب الاقتصادي والاجتماعي معًا. وبعبارة أخرى، فإن لكل مضمون حضاري تفاعلاته الخاصة التي تؤدي إلى تسوية الاختلافات في النمو بين مجموعة من العناصر الحضارية (كمجموعة النظم الاقتصادية) وبقية العناصر الحضارية الأخرى (النظم الاجتماعية والسياسية وأحيانًا الدينية).

ولقد كانت العملية الحضارية التي تؤدي إلى تسوية الاختلافات في مكونات الحضارة عملية بطيئة في الماضي، وما زالت عملية بطيئة حتى الآن؛ ولهذا فإذا ما تعددت أشكال التغير في مكوِّن حضاري، وأسرعت عملية الاحتكاك والانتشار الحضاري بهذا التغيير؛ فإن المجتمع يظل يعاني من عدم توازن حضاري لفترة طويلة قد تقضي على تكامله الحضاري وتؤدي إلى تفتته. وهذا هو الذي حدث حينما احتكَّت الحضارة الصناعية بالجماعات البدائية في مختلف المناطق، فالكثيرُ قد قُضيَ عليه استخدامات حضارية غريبة عنه تمامًا؛ مثل تعاطي الخمور الأوروبية التي أهلكت أعدادًا غفيرة من البدائيين وخاصةً من الأمريند، كذلك انتقال أمراض الأوروبيين إلى البدائيين قد حصدتهم تمامًا، وفوق هذا كان استخدام الأسلحة النارية الأوروبية عاملًا ثالثًا في مزيدٍ من الفوضى والتفتيت والإبادة للعناصر البدائية نتيجة نزاعها مع بعضها باستخدام هذه الأسلحة، ونتيجة استخدام الأوروبيين لهذه الأسلحة ضدهم جميعًا.

وحتى حالات الاحتكاك الأوروبي المسالم — كاحتكاك الكنديين بالإسكيمو في الوقت الحاضر — نجم عنه تدمير جوهري في أسس حضارة الإسكيمو الذين أصبحوا الآن في مجموعهم يعيشون كالعجزة، عالةً على مراكز الخدمات الاجتماعية ومراكز الإعاشة الكندية، وأصبح نشاطهم الاقتصادي محدودًا، بل تحول بعضهم إلى نحت تماثيل صغيرة من الأحجار وبيعها كسلعة سياحية. وفي ذلك قضاء تدريجي على الإسكيمو بالإضافة إلى مناعتهم المحدودة ضد الأمراض الأوروبية، أمَّا صيادو الرنة في شمال سيبيريا فلم يلاقوا مثل هذا المصير العاجز عن الأخذ بهم إلى نوعٍ جديدٍ من الحرفة أو حافزٍ جديدٍ لتشجيعهم على تطوير تكنيك حرفتهم. فالكثيرون من هؤلاء الصيادين القطبيين قد أصبحت تستقطبهم المدن التعدينية الجديدة في الشمال السوفيتي، وتستقطبهم بعض مشروعات المدن التعدينية الجديدة في الشمال السوفيتي، وتستقطبهم بعض مشروعات الزراعة التجريبية السوفيتية (كمجموعة الياكوت) أو مزارع تربية حيوان الفراء أو الرنة.

وليست هذه سوى أمثلة محدودة عن قضية التغير الاقتصادي الاجتماعي للبدائيين نتيجة الاحتكاك بالحضارة الصناعية، فهناك عشرات الأمثلة في النطاق المداري الأمريكي والأفريقي والآسيوي، ولقد أصبح التناقض داخل هذه المناطق المدارية صارخًا بين مناطق محدودة دخلتها أنظمة الإنتاج الأوروبي الحديثة في صورة تعدين أو زراعة المحاصيل التجارية، وبين محيط كبير من الحضارات البدائية التي تأثرت هامشيًّا بهذا الاحتكاك. فشتَّان بين حياة القبائل البدائية داخل جزيرة بورنيو وبين الحياة في بعض سواحل بورينو حيث تُزرَع المحاصيل التجارية. وشتَّان بين الركود الحضاري لسكان تلال خاسي وبين الوديان القريبة التي تزرع الشاي في أسام، وشتَّان بين زراع الكاكاو في جنوب غانا والقبائل البدائية في شمال غانا.

وليس التناقض الصارخ هو كل شيء، فالجماعات البدائية التي تأثرت بالمواجهة المباشرة لأساليب الإنتاج الحديثة قد تفككت في ترابطها الحضاري، ولم يَعُدْ باستطاعة الإثنولوجيين والاجتماعيين أن يميِّزوا نمطًا للأسرة أو الزواج أو العبادة أو التنظيم السياسي والاجتماعي لديهم، بل إن كل المكونات الحضارية قد انفرط عقدها بصورة لم يكن لها مثيل حضاري من قبل.

ولهذا فإن أحد مهام الأنثروبولوجيا الاقتصادية العاجلة هي دراسة التغيير الاقتصادي الذي يؤدي بالجماعات البدائية إلى دخول مضمار الاقتصاد العالمي (طبعًا كمنتجين للخامات الزراعية والمعدنية). ففي مواجهة الأنثروبولوجيا الاقتصادية عددٌ من المشكلات لم يكن لها وجود من قبل داخل التركيبات الاقتصادية الاجتماعية لهذه الجماعات. ومن هذه المشكلات الخطيرة ما يلي:
  • العمل الأجير ← الإنتاج الموجه إلى السوق العالمية.

  • المدينة الحديثة ← نشأة البروليتارية المدينية ← تكوين مجتمعات متعددة الحضارة واللغة.

  • تفكك المجتمع ← نشأة البروليتارية الريفية ← الهجرة إلى المدن.

  • تغير التكنولوجيا ← ظهور أهمية المهارة الاقتصادية والحرفية.

  • تفكك القبائل ← تغيير العقائد ← الصراع بين القديم والحديث.

وفي مقابل هذه المشكلات الموجودة نجد خططًا اقتصادية للدول الحديثة العهد بالاستقلال التي ترى في التصنيع الإجابة الصحيحة لمشكلاتها المعقدة، لكن التصنيع وحده ليس هو الإجابة الكاملة، بل إن المشكلة كما نراها تنحصر أساسًا في إعداد الناس لاقتصاديات النقود، وهذا يستدعي إدخال كتل السكان الريفيين والرعاة في عمليات الإنتاج من أجل السوق، وليس من أجل الكفاية الذاتية، وبذلك نضمن تحوُّلًا سليمًا يمكن أن يُؤسَّس عليه التصنيع.١٤ ولهذا فالمشكلة مبدئيًّا يمكن أن نصوِّرها على الوضع التالي:

تحويل الإنتاج الزراعي والحيواني إلى السوق ← تحويل الناس إلى اقتصاديات النقود ← بناء الصناعة.

١  Economic Anthropology.
٢  الماموث هو أكثر حيوانات ما قبل التاريخ التي نعرفها، وكان أشبه بالفيل الهندي، ولكن له شعر صوفي طويل سميك وأنياب طويلة مقوسة بدرجة أكبر من الفيل الحالي، كذلك فإن ارتفاعه كان يبلغ حوالي ٤٫٥ أمتار، وكان يملأ نطاقًا قطبيًّا خلال العصر الجليدي من جنوب بريطانيا إلى السهل الأوروبي إلى سيبيريا، وقد عُثِر على ماموث متجمد بكل صفاته الجلدية وشعره ولحمه تحت جليد سيبيريا، وكأنه مات لتوِّه، لدرجة أن الكلاب قد نهشت لحمه، بالرغم من أنه لقي حتفه في حفرة جليدية منذ قرابة عشرين ألف سنة.
٣  Childe, G. V., “Social Evolution” Fontana, London, 1963, p. 78.
٤  مما يدل على أن التغير الاقتصادي في الحرفة كانت له آثار حضارية أبعد من مجرد الاستقرار والتجمع السكني، أن الإنسان أصبح يدفن شص الصيد مع الموتى، بعد أن كان القوس والحربة وقاذف الرمح يُدفَن في مقابر صيادي البر.
٥  حضارة تاردنواز عبارة عن موجتين من الهجرات التي قدمت من شمال أفريقيا إلى إسبانيا وغرب أوروبا حتى بريطانيا، وقد يؤدي هذا بنا إلى أن نرد أصل التغير الاقتصادي إلى جمع النباتات والغذاء النباتي في أوروبا إلى انتشار حضاري من النطاق الجاف كمقدمة لانتشار الزراعة أيضًا من النطاق الجاف.
٦  Cottrell, L., “The Concise Encyclopedia of Archaeology”, Hutchinson, London, 1970, pp. 360-361.
٧  Varagnac, A., “l’Homme Avant l’Ecriture”, Paris 1959.
٨  Riad, M., “Native Plough in Egypt” Bul. Egyptian Geographical Society, Cairo 1960.
٩  للاستزادة عن موضوع ملكية الأرض؛ راجع: محمد رياض «الزراعة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في أفريقيا» البحوث الاقتصادية، شركة النصر للتصدير والاستيراد، القاهرة ١٩٧١، صفحات ٦٦–٧٦.
١٠  لم يُعثَر حتى الآن على ما يدل على امتلاك مزارعي أريحا للحيوان رغم أنهم أول من عرفوا الزراعة. وبهذه المناسبة يجب أن نعلم أن أريحا هي إحدى «الصدف» الأركيولوجية، فقد تكون هناك مناطق أقدم منها في الزراعة، ولكننا لم نعثر عليها حتى الآن.
١١  تحوَّلت مساحات كثيرة من شمال أفريقيا إلى مناطق قاحلة بعد دخول الجمل بكثرة إلى هذه المناطق في القرن الحادي عشر.
١٢  تحولت الكلاب إلى الحالة البرية بعد أن هاجر سكان النوبة المصرية في أوائل الستينات نتيجة لتكوين بحيرة السد العالي.
١٣  أشهر أمثلة التجارة الصامتة هي تلك التي تحدث بين أقزام وسط أفريقيا وجيرانهم من الزنوج والبانتو. فإذا أراد الأقزام تبادل المنفعة مع الزنوج المجاورين؛ فإن القزم يضع حيوان صيد أو أكثر في حقل أحد الزنوج، ويضع الزنجي بعضًا من المحصول، فإذا جاء اليوم الثاني ولم يحمل القزم المحصول يزيد الزنجي الكمية أو يأخذ محصوله إذا لم تكن الصفقة تعجبه. وتحدث هذه التجارة الصامتة خلال الليل ودون أن يلتقي الطرفان إلَّا نادرًا.
١٤  كتطبيق لهذه المشكلة، راجع: محمد رياض «الزراعة والتغيير الاقتصادي والاجتماعي في أفريقيا»، شركة النصر للتصدير والاستيراد، القاهرة ١٩٧١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤