مبادئ انحلال الإمبراطورية وعهد إخناتون

(١) مقدمة

في ختام القرن الخامس عشر قبل الميلاد وصلت مصر إلى قمة المجد؛ فاتسعت رقعتها، وامتد نفوذها من أعالي دجلة والفرات شمالًا إلى «نباتا» عند الشلال الرابع جنوبًا، وصارت مهيبة الجانب نافذة الكلمة، يذعن لقوتها وبطشها أرباب التيجان وأصحاب الدول، ويسعى كل عاهل في الشرق إلى أن يخطب ودها ويفوز برضاها، وكان أهلها في رغد من العيش، ينعمون بحياة ناعمة، ويتمتعون بخير كثير جاءهم من تلك الممتلكات المترامية الأطراف، التي تتبع بلادهم، وتفيض من خيرها عليهم.

من أجل ذلك انصرف حَمَلة الأقلام إلى الإنتاج من الأدب الرفيع، وافتنَّ الصناع ومهروا بفضل ما أمدَّتهم به مستعمرات مصر من خير ورجال، وانكبَّ علية القوم على مناهل اللذة يكرعون من وردها ما شاء لهم الفراغ وطيب العيش.

فليس من الغريب إذن أن نرى مليك البلاد في هذه الفترة «أمنحتب الثالث» الذي تسلم عرشها حوالي سنة ١٤٠٥ق.م يغترف من فيض اللذة والنعيم ما سمح له به الثراء الواسع والجاه العريض، ولم يشأ هذا العاهل العظيم أن يترسم خطا آبائه وأجداده أباطرة مصر الذين دوَّخوا العالم، ورأوا مجدهم في الغزو وامتشاق الحسام، بل آثر حياة الدعة والمتعة، يقضي يومه في الصيد وليله بين الغواني، فما أشبهه بامرئ القيس الملك الضليل في الفترة الأولى من حياته.

رمى «أمنحتب» بنفسه بين أحضان النساء في غير قصد أو اعتدال، وكلما ازداد انغماسًا في تيارهنَّ اشتد وَلَهَه بِهِنَّ، وازدادت لهفته عليهن، وإذا زهد في الزوجة طلب الخليلة، وإذا أشبع رغبته من المصريات وجد بغيته بين أحضان الأجنبيات. فلقد حدثتنا الكشوف الأثرية أن هذا العاهل الجبار قد تزوَّج بأخت ملك «متني» في شمال «سوريا» المسماة «جلوخيبا» ثم ثنى بأخته الأخرى «تاتوخيبا»، واستقدم مع الأولى ثلاثمائة وسبع عشرة غادة من حسان «نهرينا» الأماليد، وكان هذا حدثًا سعيدًا في تاريخ حياته، خلَّده «أمنحتب» بنقش جُعل تذكاري رصده في عدة نسخ زهوًا ومباهاة، وتحدثًا بنعمة الله.

وجاء في خطاب كُشف حديثًا في «تل العمارنة» أرسله هذا الملك مع رسوله «خانيا» إلى أمير «جيزر» «ميلكيلي»١ يطلب إليه أن يرسل إلى مصر أربعين من العذارى يتخيرهن من حسان قومه وأجملهن قوامًا، وأن يكنَّ صبيحات الوجوه، وليس في إحداهن ما يشين جمالها، أو يزري بمحاسنها، وجاء في هذا الخطاب ما يدل على شدة شغف الفرعون بالجمال وولعه بالنساء؛ إذ قال لهذا الأمير: «وسأتخذ من هذه الهدية مقياسًا لحسن ذوقك وخبرتك.» وحسبك بهذه الكلمة تصدر من عاهل عظيم لأمير تابع له حتى يذرع أقطار بلاده جاهدًا منقبًا عن رغيبة مولاه؛ لأنه بذلك يرتفع قدره لديه، ويصير أثيرًا عنده مقرَّبًا إليه.
ولم يقصر «أمنحتب» هذا في طلب النساء من آفاق إمبراطوريته الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلًا؛ فقد طلب من أحد أمراء «سوريا» المسمى «شوباندو» عشرين٢ عذراء، كما طلب من أمير «أورشليم» «عبدي خيبا» أن يرسل إليه إحدى٣ وعشرين فتاة من أبكار بلاده، يتمتع بهن في قصره الفرعوني، وأن يسلم هذه الهدية النفيسة إلى عامله الأمين «شوتا» حتى تصل إليه كما برأها خالقها لم يمسسها بشر.

وجاء في خطاب آخر من وثائق «تل العمارنة» أن هذا الفرعون بعينه قد طلب من حاكم إحدى الولايات الآسيوية أن يرسل إليه ابنته لأنه معجب بها، كما تدلنا وثائق أخرى وصلتنا عن هذا العصر أن هذا المليك كان يحتفظ في قصره بأميرة بابلية يحبها.

فليت شعرى أي شره هذا! وليس بالكثير على رجل هذه مُتَعُه المحببة أن تقاس أقدار الرجال عنده بما يقدمون إليه من غوانٍ تملأ العين والقلب، فهذا «توشرتا» ملك «متني» يهدي إليه٤ ثلاثين حظية من البيض الرعابيب، كما أن علامة رضاه على العلية والأشراف من رعاياه أن يهبهم مما أفاء الله عليه من سبايا الحرب ما يستهوي القلب من ذوات الدل والخفر. فأصبح الهوى مسيطرًا على قلوب الرجال، وتمتعت الغواني بمنزلة فريدة، وتطلع القوم إلى المثل العليا في الجمال لا لعبادته وشمه، لكن لقطفه وضمه، والناس في ذلك معذورون؛ لأنهم على دين ملوكهم يسيرون.

(٢) إخناتون

نظرة عامة في حياته: لقد صدق من قال: إن الولد سر أبيه. فهذا «إخناتون»٥ بن «أمنحتب الثالث» قد ورث عن أبيه حبه للنساء وولعه بالأجنبيات منهن اللائي دلفن إليه من المستعمرات المصرية، وقد أفرد لهن جناحًا خاصًّا في قصره يزوره كلما برح به الشوق أو دفعه الهوى، وإنك لتجد في قصره الذي تركه في «إخناتون» (أفق آتون) منظرًا يجذب الأبصار إليه لجماله وغرابته، يمثل حورًا عينًا كأمثال اللؤلؤ المكنون في مقصورات خاصة بهن في القصر الملكي قد توفرن على التزين والتجمل أفرادًا وجماعات، فمن تزجيج وتكحيل، إلى تطرية وترجيل، وبعضهن يتمايلن راقصات، وأخر يتواثبن عازفات، وإذا أنعمت النظر في لباسهن وزينتهن، وطرق تصفيف شعورهن، وفي آلاتهن الموسيقية عرفت أن جمهرتهن أجنبيات وردن إلى قصر الأمير من «سوريا» وغيرها من البلدان التي تدين لمصر بالولاء والسلطان (راجع Davies, “El Amarna”, VI, Pl. XXVIII, p. 36ff).
ولقد أصبح التعرف بالأجنبيات والتودد إليهن، والاتصال بهن عن طريق الزواج أو التسري نزعة محببة إلى النفوس، وموجه جارفة طغت على مصر في ذلك العهد، وشملت الأمراء وغير الأمراء، وما كان المصريون يحيدون عن تقاليد البلاد الموروثة لولا أنهم تأسوا بفراعنة البلاد سادتهم وآلهتهم، وموضع الرجاء والتقديس فيهم؛ وذلك أن ملوك الأسرة الثامنة عشرة منذ أن تولوا أريكة الملك دأبوا على تحطيم التقاليد التي جرى عليها القوم؛ فتزوجوا أولًا من بنات الشعب، ثم انتقلوا من ذلك إلى التزوج بالأجنبيات، وقد كان فارس حلبتهم في هذا المضمار «أمنحتب الثالث» كما قدَّمنا، فكانت زوجته «تي» التي تزوجها من عامة الشعب، وتنتسب لأبوين من دهماء القوم أحب زوجاته عنده، وأقربهن إليه، وكان الرأي ما تراه والحكم ما ترضاه؛ حتى سيطرت على أمور الدولة،٦ ووجهت سياسة الإمبراطورية المصرية، وكان زوجها «أمنحتب» لحبه العميق لها وسلطانها العظيم عليه فخورًا بها، ويحتفل دائمًا بذكرى زواجه السعيد منها، وقد خلده بنقشه على جُعل عُملت منه عدة صور، وذكر فيه صراحة أن التي يحبها وتسيطر على قلبه ليست بذات جاهٍ ولا غنًى، ولكنها من أبوين فقيرين، معلنًا بذلك فخره وخروجه على التقاليد البالية الموروثة.
fig12
شكل ١: إخناتون في شبابه.
من هذه الزوجة المحبوبة وُلد «أمنحتب الرابع» (إخناتون)، وترعرع في كنف والده مدللًا محبوبًا، ولم يلبث والده أن أنهكته الشهوات التي غرق في بحارها فحطمت قواه، وألزمته الفراش، ولم تُجْدِه الرقى والتمائم، ولم يَشْفِه طب الطبيب ولا سحر الساحر، ولم تستطع الإلهة «عشتارت»٧ التي أرسلها إليه صهره ملك «متني» من «نينوة» أن تبعث البرء والصحة في جسم حطمته الخلاعة وتجرَّع اللذة في نهم وإسراف، فأشرك معه ابنه «إخناتون» في حكم البلاد عجزًا منه عن القيام بأعبائه، ورغبة في أن يتفرغ لإرضاء شهواته وميوله التي لم يقلل من إقباله عليها علته التي ألحت عليه.

مكث «إخناتون» يدير الملك مع والده أكثر من تسع سنوات، بل يُقال اثنتا عشرة سنة، ثم ما لبث والده أن دفع صحته وشبابه ثمنًا لملاذه وأهوائه؛ فمات ولم يتجاوز الخمسين ربيعًا من عمره، ولا نستبعد أن يكون قد عرف قبل مماته ذلك الانقلاب الديني الذي يعد ابنه «إخناتون» العدة لإحداثه؛ فقد عُثر على صورة في مقبرة «حوى» أحد رجال بلاط «إخناتون» ظهر في جهة منها «أمنحتب الثالث» على عرش الملك ومعه الملكة «تي»، وفي الجهة المقابلة لهما ظهر «إخناتون ونفرتيتي» وعليهما تاج الملك أيضًا، ووُجد قرص الشمس (آتون) مرسومًا فوق كل من الملكين، ومرسلًا أشعته التي تتدلى منها أياد ترمز إلى الخيرات التي يمنحانها من هذا المعبود. ويرجع تاريخ هذا المنظر إلى السنة الثانية عشرة من حكم «إخناتون»، وإن كان من المحتمل أنه رُسم تذكارًا لزيارة والدته «تي» له في «إختاتون»، وتخليدًا لذكرى والده وإظهارًا لرضائه عن مذهبه الجديد، غير أنه توجد شواهد أخرى تعزز أنه عاش حتى هذا التاريخ وانفرد «أمنحتب الرابع» (إخناتون) بالملك بعد موت والده، وكان قد تزوج من «نفرتيتي» أخته بنت «تي» على أصدق الأقوال.

ولدينا من الحقائق التاريخية ما يجعلنا نعتقد أن الانقلاب الديني الذي أحدثه لم يتم بغتة، وأن مقدماته قد ظهرت منذ عهد «تحتمس الرابع» جد «إخناتون»؛ فقد عثرنا على لوحة بجوار معبد «بو الهول» ظهر فيها «تحتمس» يعبد قرص الشمس «آتون» وقد تدلى من هذا القرص شعاع ينبعث من الشمس حاملًا إليه الخيرات، وهذه الصورة تنطبق إلى حد كبير على الصورة الرمزية لديانة «إخناتون»؛ فقد كان يتعبد إلى قرص الشمس الذي ينبعث منه شعاعات تنتهي بأياد إنسانية. يُضاف إلى ذلك أن «تحتمس الرابع» كان أول فرعون ثار على سلطان كهنة «آمون» وانتزع من يدهم وظيفة رئيس كهنة القطرين، وقلدها أحد قواده الذين يركن إليهم ويثق فيهم. وفي عهد «أمنحتب الثالث» خطا الميل إلى عبادة قرص الشمس خطوة ثانية؛ إذ نشاهد هذا العاهل يطلق على القارب الذي كان يتنزه فيه في بحيرته الصناعية بمدينة «هابو» اسم آتون يضيء (تحن آتن).

فلما تولى «إخناتون» عرش البلاد وجد الأمور مهيَّأة بعض الشيء لعبادة إله الشمس وحده، ورمز له بقرصها الذي سماه «آتون»، وقال عن معبوده: «إنه القوة الكامنة وراء هذا القرص، وإنه واحد لا شريك له»، وبنى له في بادئ الأمر معبدًا في «طيبة» عاصمة الملك، فلم يغضب ذلك كهنة «آمون رع»؛ لأن معبودهم «آمون رع» يمثل إله الشمس أيضًا، ولكن الذي أحفظهم إصرار «إخناتون» على عبادة إلهه وحده، وتحريم عبادة «آمون» وغيره من الآلهة الأخرى. ولقد أفلح في نشر مذهبه في طول البلاد وعرضها، وفي القضاء على المذاهب الأخرى بدون كبير عناء؛ مما يدل على أن الأذهان كانت مستعدة لقبوله، وعلى أن للفرعون قداسة، وعلى أن قوله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه معصوم من الخطأ، والقول ما قال، وهذه بلا شك أفكار كان يخضع لها الشعب؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الملك إله وابن إله. ومن الغريب أن هذا المليك الذي بدا لنا سديد الرأي صائب النظر فيما اتخذه من إصلاح ديني يتمثل في توحيد الإله وتمجيد ذاته مما يدل على عقل راجح، ونفس صافية، وتفكير عميق؛ من الغريب أن صاحب هذه المثل العليا في الإصلاح كان شاذًّا في خلقه، وكما يُقال شاذًّا في عقله، منحدرًا إلى الحضيض في بعض تصرفاته.

أما شذوذه الجسمي فلا دخل له فيه، ولا ذنب له في أنه خُلق على تلك الهيئة التي لا تناسب بين أعضائها ولا انسجام، وتماثيله تدل على تركيب غريب شاهد بقدرة الله، وأما شذوذه العقلي فلمخالفته لأهل عصره في عدم تشيعه لآلهة «طيبة» ومقته الشديد للإله «آمون»، وأما شذوذه الخلقي فهذا موضع الغرابة، وقد وصل فيه إلى مرتبة يتنزه عنها الحيوان الأعجم إذا صح ما قيل، فإننا لفي شك مريب في تلك العلاقة بينه وبين أخيه «سمنكارع»؛ إذ كان حبه له وتعلقه به خارجًا عن نطاق العقل والمألوف.

وإن انحطاطه الخلقي ليتجلى كذلك في زواجه من ابنته الثالثة «عنخس إن با آتون» التي أصبحت زوجة «لتوت عنخ آمون» فيما بعد، كما تلمس خشونته في تحوله عن حبه لزوجته الجميلة (نفرتيتي) وسوء معاملته لها؛ على حسب ما توحي به الآثار المكشوفة. مما سنفصل فيه القول.

كان «إخناتون» يمقت الإله «آمون» مقتًا شديدًا؛ فأغلق معابده حيثما وُجدت، ومحا اسمه أينما رآه، بل محا اسم والده؛ لأن في تركيبه اسم «آمون» (أمنحتب)، ثم ولَّى وجهه شطر الآلهة الأخرى فأنزل بها ما فعل «بآمون»، وزاد بأن محا لفظة الآلهة بصيغة الجمع في كل المعابد؛ حتى لا ينصرف الذهن إلا إلى إله واحد، والظاهر أن «إخناتون» قد وجه اهتمامًا كبيرًا لمذهبه الجديد عندما كان شريكًا لوالده في إدارة الملك، ولم يستعمل القوة في نشره احترامًا لعقيدة والده الذي كان يتعبد للإله «آمون رع»، والذي أعاد لكهنة هذا الإله وظيفة رياسة معابد القطرين بعد أن انتزعها منهم «تحتمس» الرابع كما قدمنا.

وكان والده «أمنحتب الثالث» من جهة أخرى لا يعارض ابنه في عبادته «لآتون» والعمل على نشرها؛ بدليل أنه تركه يبني لهذا الإله معبدًا في «الكرنك»، وليس من البعيد أن يكون والده «أمنحتب» ووالدته «تي» قد خشيا عليه تحمسه لمذهبه الجديد، فأسديا له النصح بالهجرة من «طيبة» والاستقرار في بلدة يتخذها مركزًا لنشر مذهبه الجديد، وإن كان «إخناتون» ينكر ذلك، ويدعي في نقش له على إحدى لوحات مدينة «إختاتون» التي هاجر إليها، أنه ترك «طيبة» من تلقاء نفسه، ويقسم أغلظ الأيمان على أنه هو الذي أراد ذلك، ولم يوجهه أحد إليه، ولقد كان تعلقه شديدًا بعاصمته الجديدة، فأوصى بأن يكون مرقده الأخير فيها إن مات هو أو أحد أفراد أسرته، وإن شاءت الأقدار أن يموت خارجها فلتُحمل جثته إليها حتى يهدأ بالًا، ويرتاح في حياته الثانية.

بنى «إخناتون» عاصمته الجديدة «إختاتون» في سرعة، وكانت البيوت الأولى لعظماء الدولة ورجال البلاط على طراز صحي فاخر، وقد استوفى وسائل الراحة والترف، وقد عمد كل موظف إلى نقش اسمه وألقابه على واجهة بيته بجانب أدعية للإله «آتون»، وبعد أن استقر المقام بعلية القوم توافد الصناع تدريجًا على العاصمة الجديدة، فاتخذوا مساكنهم في الفضاء المتخلف بين منازل كبار الموظفين، ومن هنا ترى في هذه المدينة القصر المنيف يسكنه الوزير بجانب الكوخ الحقير يأوي إليه الصانع الصغير، ولقد سمى الكاشفون الأحداث شوارعها باسم أعظم بيت فيها؛ فسموا شارع الوزير، وشارع رئيس الكهنة، وهكذا.

ولما هاجر «إخناتون» إلى مدينته تبعه جمٌّ غفير من الأشراف وكبار رجال الدولة اقتناعًا بدينه الجديد، أو جريًا وراء مغانم ينتظرونها، فكثير من الناس يقتفون أثر النجم الساطع، ويولون ظهورهم للكوكب الآفل، أو هاجروا إليها فرارًا من أذى أتباع «آمون» إن بقوا في «طيبة» على مذهبهم الجديد متعبدين لإلهه الواحد. ظل «إخناتون» يحكم في عاصمته بتل العمارنة مدة طويلة بانيًا لإلهه معابد مختلفة منثورة في مختلف جهات القطر بالكرنك، والأشمونين٨ وأسيوط، ومنف، وفي نوبيا العليا عند الشلال الثالث، وفي سوريا. ومع هذا الإخلاص العظيم للدين الجديد لم يتورع «إخناتون» عن الاستجابة لداعي الشهوة إذا دعاه. فها هو ذا لا يزال متورطًا مع أخيه «سمنكارع» في أقبح عادة عرفها الناس، ثم هو لا يخجل من أن يطلق على أخيه لقبًا نسويًّا من ألقاب الملكة «نفرتيتي» وهو «الجمال الفائق لآتون» (نفر نفرو آتون)، ولا يخجل من أن يطلق عليه لقب «محبوبه»، ولا يخجل من أن يمثل على لوحة محفوظة الآن في متحف «برلين» تدل على منتهى الاستهتار بالأخلاق والآداب يبدو فيها «إخناتون» ملاصقًا لأخيه «سمنكارع» مطوقًا خصره بإحدى يديه، ويداعب بالأخرى ذقنه في حب وتدليل، وكل منهما يلبس تاج الملك، ولا شك في أن هذه الصورة تبعث في نفس من يراها معاني كثيرة عن العلاقة الجنسية الشاذة بين الأخوين، وتعيد إلى الأذهان تلك العلاقات الجنسية الشاذة التي كانت تربط الإمبراطور «هدريان» بغلامه «أنطونيوس» (راجع Newberry, J. E. A, Vol. XIV, pp. 3ff). ولم تُطِقْ «نفرتيتي» زوجه الجميلة صبرًا على ذلك، فقام نزاع بينها وبين الفرعون؛ فهجرت قصرها طوعًا أو كرهًا إلى حي آخر في المدينة يُسمَّى «ظل رع»، وانتحت مع «توت عنخ آمون» هذا المكان الجديد، وتركت قصرها الأول «لإخناتون» وأخيه المحبوب «سمنكارع» وزوجته، وهي الابنة الثانية له المسماة «مريت آتون». ومن هنا وجدنا الملك قد أمر بمحو اسم «نفرتيتي» من كل مكان يتحلى به في القصر، ونقش بدله اسم «مريت آتون وسمنكارع»، ولأمر ما أثبت «إخناتون» اسم «مريت آتون» على قصر والدتها «نفرتيتي» مع ذكر نسبتها إليه دون أمها، مخالفًا بذلك التقاليد الملكية التي كانت متبعة. على أن هناك أمرًا ذا بالٍ ربما كان سببًا في ازدياد النفور بين «نفرتيتي» و«إخناتون»، ذلك أن «إخناتون» لم يقتصر في ضلاله على الحد الذي ذكرنا، بل إنه تمادى وتزوج من ابنته الثالثة «عنخس٩ إن با آتون»، ووضعت منه أنثى سُميت بهذا الاسم، فأي صلاح يُرجى منه بعد، ولم يكن زواج الملوك من بناتهم شائعًا حتى ذلك الوقت، ولا نعرف منه إلا ثلاث حوادث من هذا النوع في تاريخ الفراعنة، منها واحدة مشكوك فيها.
fig13
شكل ٢: إخناتون وسمنكارع (؟).
وهذه الحوادث الشاذة هي زواج «أمنحتب الثالث» من ابنته «ست آمون»، ويقول بعض المؤرخين إنها أخته بنت «تحتمس الرابع» وليست ابنته، والحادثة الثانية هي التي نحن بصددها الآن، أما الثالثة فإنا نعرف أن «رعمسيس الثاني» قد تزوج باثنتين من بناته على أقل تقدير (راجع (Ibid, p. 108)).
نرجع مرة أخرى «لسمنكارع» حبيب «إخناتون» وأخيه معًا، فنقول: إن هذا الخليع — إذا صح ما يقال عنه — بعد أن تمَّ له الاشتراك مع أخيه في الملك آثر الذهاب إلى «طيبة» رغبة منه في أن يستل سخائم كهنة «آمون»١٠ ويعيد أواصر الود والصفاء بينهم وبين أخيه بعد أن رأى أخوه انفضاض الناس من حوله، وتآمرهم على قتله، حتى اتخذ حرسه من رجال «المازوي»١١ (الشرطة)، ومع هذه الحيطة فقد تمت المؤامرة عليه، واشترك فيها هؤلاء الأجانب، ولولا يقظة رئيس الشرطة (ماحو) لنجحت المؤامرة، ولقضي على «إخناتون» وقتها على أبشع صورة، ولقد وجدنا رسمًا مفصلًا لتلك المؤامرة في مقبرة رئيس الشرطة المذكور، فرأيناه يستدفئ١٢ ذات يوم قر، وأحد خدمه يعبث بالنار ليزيدها اشتعالًا، فسمع صياحًا، فامتطى عربته، وأخذ في ركابه أربعة من رجاله الأقوياء، فباغت المتآمرين في وكرهم، وكبَّلهم بالأغلال، وساقهم إلى قاعة الوزير للمحاكمة، ثم نرى الوزير يحف به الكبراء والأشراف في حضرة الفرعون يُقدم إليه المجرمون، وهم: مصري أصلع الرأس، وأجنبيان قد استرسل شعرهما، وقصرت لحيتهما، وعندئذٍ نزل «ماحو» من عربته وصاح قائلًا: «أيها الأمراء، حاكموا بأنفسكم هؤلاء الأجانب المقبوض عليهم.» وهنا توجه الوزير بالشكر «لآتون» الذي وفقهم لكشف هذه المؤامرة قبل تنفيذها.
والواقع أن هذا الانقلاب الديني الذي أحدثه «إخناتون» جاء سابقًا لأوانه، ولو أنه يدل على تفكير راجح لفرعون مصر، ولقد تقبله الناس مرضاة لراعيهم وسيدهم، ولكنهم لم يكونوا مخلصين له مرتاحين إليه، اللهم إلا في «إختاتون» نفسها حيث الملك يقيم، وحيث ذوو الزلفى والأطماع يحرقون البخور بين يديه، ولقد خشيت والدته مغبة نفور الناس من بدعته التي استحدثها؛ فذهبت إليه زائرة في «إختاتون» تقدم إليه النصيحة، وقد لمست تحرج الأحوال في داخل البلاد وخارجها، فأكرم وفادتها وفاء عليها من ولائمه وقصوره وخدمه، ولكنه لم يستمع لرجائها على ما يبدو فإنا رأيناه يزور معها معبد «آتون» ويتعبدان لإلهه. لم تستطع تلك المبادئ الدينية السامية، وهذه الآراء الفلسفية العالية التي أتى بها «إخناتون» ونادى بها الأنبياء المرسلون فيما بعد أن تحفظ إمبراطورية سليمة من بواعث الوهن والتصدع؛ فقد رُزق بطانة سيئة مرتشية ضربت حجابًا كثيفًا بينه وبين الحقائق المؤلمة التي كانت تتورط إمبراطوريته العظيمة فيها، فما كانت تقفه إلا على الزيف من الأخبار السارة، أما المآسي والثورات وغضب الشعب ومخاوفه فما كانت تصل للمليك من بطانته، فكان بينه وبين الحقيقة هوة كبيرة، وليس من إخلاصك للعرش أن تقدم لصاحبه ما يسره ويرضيه، وإن كان كاذبًا زائفًا، وأن تبعد عنه ما يقضه وإن كان حقيقة لا مراء فيها، بل الإخلاص أن تبسط إليه الحال كما وقع، وتشير بالرأي إذا هدى ولمع؛ حتى يتملك ناصية الأمر، ويتخذ للموضوع أهبته، ويثب على المارق في الوقت المناسب وثبته، عندئذٍ تكون قد أدَّيت الرسالة، ومكنت مولاك من أن يصيب المحز فيما يفعل وفيما يذر. لم يجد «إخناتون» هذه البطانة المخلصة؛ فتزلزلت أركان إمبراطوريته وهو لا يدري عن ذلك شيئًا، بل إن سخرية القدر تجعله يرسل إلى مختلف بقاع مملكته الواسعة غير عالم بما فيها يقول لرعاياه:
اعلموا أن المليك يتمتع بكل عافية مثل الشمس في السماء، وأن جنوده وعرباته الحربية تجوس خلال الديار الجنوبية والشمالية، وتطوي كل مكان تشرق عليه الشمس وتغرب في أمن وسلام.» (راجع الخطاب ١٦٢ Mercer, “Tell el Amarna Tablets”, p. 525)، ولو درى ما تحت قدمه مما حُجِبَ عنه لأرسل جزءًا من هذه القوة المحاربة إلى بلاد آسيا لتحمي جزءًا من إمبراطوريته التي كادت تذوب وتفنى.

وبعد، فقد قضى هذا الرجل نحبه بعد أن حكم ثمانية عشر ربيعًا إلا قليلًا، ولا ندري إن كان قد مات حتف الأنف على فراشه أو اغتاله المتآمرون بعد أن غفلت عنه عين العناية التي كانت تحرسه، وكل ما قرأناه في الكشوف الأثرية أنه قد مات في وقت لمع فيه نجم مملكة «الخيتا» وازدادت قوة وشوكة، فأخذت تطرق أبواب سيدتها مصر، وتهاجم حدودها آملة أن تسودها.

مات «إخناتون» بعد أن وضع سياسة دينية قويمة، وبعد أن خطا بالعقيدة خطوات موفقة نحو الغاية الصحيحة، التي أُرسل من أجلها الأنبياء.

(٣) عرش مصر بين «سمنخكارع» و«نفرتيتي»

fig14
شكل ٣: الملك «سمنخكارع» (؟).

قام بأعباء الملك بعد «إخناتون» أخوه ذلكم الشاب «سمنخكارع» الذي اتخذ منه «إخناتون» شريكًا في الملك أثناء حياته.

تولى «سمنخكارع» واستقر هو وزوجته «مريت آمون» بنت «إخناتون» في «طيبة»، وأراد رجال البلاط وعلى رأسهم الكاهن «آي» الذي كان أكبر مشجع «لإخناتون» على نشر مذهبه الجديد أن تستقر الأمور، ولكن «نفرتيتي» كانت لهم بالمرصاد، دفعها الحقد على سمنخكارع، والحسرة على الهناءة التي سُلِبَتْها في كنف زوجها الراحل أن تنتقم؛ فلم تبايع «سمنخكارع» بالعرش، ولم تعترف له بأي حق فيه، واستمالت نصيره الأول «آي»، ثم استنجدت بملك «خيتا»١٣ وطلبت منه أحدَ أبنائه ليكون زوجًا لها ووارثًا لعرش مصر، وهكذا كادت «لسمنخكارع»، وسببت له متاعب كثيرة، ولما تأكد «شبيليوليوما» ملك «الخيتا» من صدق رغبة «نفرتيتي» أرسل أحد أنجاله إلى مصر، ولكن الأمور كانت تجري سريعة في «تل العمارنة» وفي «طيبة»؛ فقد مات الملك «سمنخكارع»، وهنا وثب الثوار على ابن ملك «خيتا» وقتلوه في الطريق غيلة؛ فتعقد الموقف، ثم انفرج باعتلاء «توت عنخ آمون» بن «أمنحتب الثالث» عرش البلاد، ومعه زوجه «عنخس إن با آتون» بنت «إخناتون» و«نفرتيتي».

(٤) عصر إخناتون وما حدث فيه من تجديد

أعطينا القارئ فيما سبق لمحة خاطفة عن «إخناتون» وما تمَّ في عصره، والآن سنعطيه صورة مفصلة موضحة لهذا الإجمال، مبتدئين بذكر فصل عن التدرج في عبادة «آتون» وتأسيسه مدينة «إختاتون» عاصمة ملكه الجديدة، ثم نشفعه بفصل آخر عن التوحيد والمدى الذي أحدثه من التطور العالمي، وبخاصة في الفن المصري القديم، ثم نختم ذلك بفصل عن الإمبراطورية المصرية وانسياقها إلى التدهور والانحلال نتيجة انشغال «إخناتون» بدينه الجديد، وتركه شئون الملك ومهامه.

(٤-١) التدرج في إعلان عبادة «آتون»

«أفق آتون»: تدل كل أعمال «إخناتون» على أنه لم يقم دفعة واحدة بالانقلاب الديني الذي كان يختلج في صدره، وهو ذلك الانقلاب الذي كانت قد ظهرت بوادر الاستعداد للقيام به منذ عهد أسلافه من قبله،١٤ وبخاصة أنهم كانوا يوجهون عناية تامة لعبادة إله الشمس «رع»، على الرغم من تعظيمهم «آمون» ويعتبرونه الإله الأعظم لكل الدولة. والظاهر أن هذه الفكرة لم تخرج لحيز العمل في خلال حكم من سبق «أمنحتب الثالث»؛ لأنهم كانوا في شغل شاغل لتوطيد سلطان الملك ومدِّ نفوذهم في الأقطار المجاورة، ولا نزاع في أن «أمنحتب الرابع» الذي وُلد في فترة السلام قد سار على نهج أسلافه في تعظيم شأن «رع»، بل من المحتمل أنه في صباه كان يقوم على تربيته الدينية كهنة من «عين شمس» نفسها، فملئوا فكره بعقيدة التوحيد الشمسية، ولقد رأى بثاقب فكره التناقض الغريب بين تعاليم كهنة «عين شمس» وتعاليم كهنة «آمون» والآلهة الآخرين؛ فقد كان في وسع الإنسان أن يسمي إله الشمس باسم «رع» وباسم «حور أختي» (حور الأفق) وحتى باسم «آتوم»، وكان على النقيض من ذلك يرى أن من الخبل وخطل الرأي والكذب الصراح أن يعبد آلهة آخرين في صورة حيوانات، وبخاصة عبادة «آمون» الذي كان يُصوَّر في صورة كبش، هذا فضلًا عن كهنته؛ لما رأوا ما في ذلك من خطل الرأي أضافوا لاسمه اسم إله الشمس «رع»؛ ليجعل له مكانة مثل مكانة الإله «رع» الذي يسيطر على العالم كله بضوئه وأشعته منذ فجر التاريخ المصرى.
وبعد أن احتفل «أمنحتب» بتوليته على العرش في مدينة «أرمنت» — كما كانت العادة المتبعة — بدأ يعمل لنشر عقيدته الجديدة بين أفراد الشعب المصري، وقد كان أوَّل عمل قام به هو بناء معبد لإله الشمس في «الكرنك»١٥ وهي المدينة المقدسة للإله «آمون»، وقد سمى إله هذا المعبد «رع حور أختي» (أي رع هو حور الأفق)، ثم ميَّزه بأنه الذي ينعم في الأفق بوصفه الضوء اللامع الذي يوجد في أشعة الشمس، وهذه الجملة الطويلة في الواقع يُعبَّر عنها باختصار بلفظة «آتون»؛ أي: قرص الشمس. بعد ذلك بَنَى «إخناتون» لنفسه قصرًا وأطلق عليه اسم «الفرح في الأفق»، وهذا نعت لإلهه. ولا أدل على سرعة «أمنحتب» في الاتجاه نحو تنفيذ فكرته من النقش الذي وجدناه على محاجر السلسلة١٦ الذي يعلن فيه كل عمال قطع الأحجار في كل جهات القطر من «إلفنتين» حتى «الدلتا» وكذلك موظفيه بالذهاب إلى هذه الجهة لقطع مسلة من الحجر الرملي لإلهه، وقد كانت المسلة منذ القدم رمزًا لإله الشمس، ولقد هُدم معبده الذي أقامه في «الكرنك» بعد وفاته، وبقيت منه أحجار عدة استعملها «حور محب» في بناء بوَّابته المعروفة في الكرنك. ونجد على واجهة إحدى الأحجار على اليمين الصورة المعتادة «لأمنحتب الثالث» وفوقه صورة الشمس «لحور بحدت»، ويدل وجود هذا الحجر هنا على أن هذا الملك كان قد بدأ بناء معبد له في هذا المكان، وهو الذي حوَّله ابنه «أمنحتب الرابع» إلى معبد للشمس، ولكنا من جهة أخرى نشاهد في الصورة التي على الجهة اليسرى أن «أمنحتب الرابع» قد محى اسم والده ووضع بدلًا منه اسمه هو، وكذلك وضع اسم إلهه الجديد الذي كان يُمثل في صورة صقر باسم «حور أختي» وفوق رأسه قرص الشمس، وقد كان هذا الإله فيما قبل لا يزال يمثل إله الشمس، ولم تكن عبادة الآلهة الأخرى وقتئذٍ تتعارض مع عبادة «آتون» في نظر «أمنحتب الرابع»؛ فقد وجدنا صورة في «السلسلة» يُرى فيها متعبدًا كالمعتاد للإله «آمون» وفوقه قرص الشمس المجنح.

وقد كانت المسلات تُقام كالمعتاد بمناسبة عيد «سد»؛ أي العيد الثلاثيني، وكانت تُقام فيه كل المراسيم القديمة المتبعة التي كان يسير على نهجها من سبقه من الملوك، ولم يكن الاحتفال بها بعد ثلاثين عامًا من تولية العرش كما يدل اسمها على ذلك، بل كانت تُقام على إثر تولية الفرعون العرش، وقد اتخذ «أمنحتب الرابع» فرصة هذا الاحتفال ليقدس فيها معبده الجديد، ويشيد باسم إلهه الجديد «آتون»، ويعلنه لكل الشعب، ثم رأى أنه لا بد من اتخاذ خطوات أخرى لتحديد عبادة إلهه، والصورة التي لا بد أن يظهر فيها نهائيًّا؛ إذ كان اسم إلهه «آتون» لا يزال يرادفه كلمة «رع» و«حور أختي»، وكان ذلك في نظره مقبولًا بعض الشيء، ولكن الشيء الذي لم يستسغه هو أن يرى إلهه يصوَّر في صورة إنسان أو بجسم إنسان، ورأس حيوان؛ ولذلك عقد النية على أن يصوِّره كما هو ظاهر للعيان؛ أي على هيئة قرص الشمس الذي يرسل أشعته من السماء على الأرض فيعيش بها الناس. ولقد كانت الأهمية الأساسية للاحتفال بالعيد الثلاثيني (عيد سد) في نظر «أمنحتب» محصورة في تقديم الديانة الحقة للشعب، ووصف الإله بأنه هو «آتون» الحي العظيم الذي يضيء الأرضين في العيد الثلاثيني، وسيد السماء والأرض.

ومن ثَمَّ أخذ الملك يقيم المعابد لإلهه في كل أنحاء القطر، وبخاصة في «هرموبوليس» (الأشمونين) و«منف» و«عين شمس»، وقد كان الإله «آتوم رع» الذي يُعبد في هذه البلاد موحدًا مع الإله «آتون» الجديد، ولقد كان «أمنحتب» في بادئ الأمر يظن أن عبادة إله الشمس في صورة «آتون» التي تعبر عن صورته الحقة وهو قرص الشمس ستقضي على الديانة القديمة بإعطائها للقوم تعبيرًا صحيحًا عن مراميها، وأنه سيكون في استطاعته أن يغض الطرف ولو مؤقتًا عن الآلهة المصرية الآخرين، ولكنه لم يطِقْ صبرًا على هذه الحال؛ إذ لم يجد غير بضعة أتباع له بين الكهنة يعضدون عقيدته، في حين أن الجمَّ الغفير منهم كانوا متمسكين بالديانة القديمة، بل زاد تمسكهم بآلهتهم، وبخاصة كهنة الإله «آمون» في «طيبة» الذين كان في يدهم كل السلطة، وقد كان عامة الشعب في جانبهم.

ولقد كانت الأزمة على أشدها في العام السادس من حكمه عندما أراد أن يقيم لنفسه مدينة خاصة لعبادة إلهه «آتون»، عندئذٍ قلب للإله «آمون» ظهر المجن؛ فقد عامله بوصفه مغتصبًا لمكانة إلهه «آتون»؛ فهشم تماثيله، ومحا اسمه أينما وُجد حتى في سجل خطابات تل العمارنة المكتوبة بالخط المسماري؛ لأنه كان يقصد القضاء على كيانه في عالم الوجود؛ وذلك زعمًا منه أن محو صورة الإنسان يعني القضاء عليه، وهذا ينطبق كذلك على الإله؛ وذلك لأن روحه كان يسكن التمثال أو اسمه، وهذا نفس ما قصده «تحتمس الثالث» حينما هشم تماثيل «حتشبسوت» وأتباعها، ومحا اسمهم من الآثار، وقد امتد تخريب آثار «آمون» ومحو اسمه إلى كل جهات القطر، وكذلك إلى بلاد النوبة. ويمكن للإنسان أن يتصور مقدار التخريب الذي كان يحدثه هؤلاء الجنود الذين أطلق الفرعون لهم العنان، فخرَّبوا المعابد، ومحوا اسم الإله آمون أينما وُجد في المقابر النائية، وكيف أنهم كانوا يقضون على كل من يقف في طريقهم في أثناء تنفيذهم أوامر الملك، حتى إنهم تركوا المعابد التي كان يُقدس فيها هذا الإله خاوية على عروشها، على أن الآلهة الأخرى لم تكن بأحسن حالًا، بل كذلك سارع هؤلاء الجنود لمحو أسمائهم، اللهم إلا أسماء الآلهة الشمسية مثل «آتوم» و«حور»؛ وذلك لأن وجودهم مع الإله الواحد الأحد إله الشمس كان لا يمكن الصبر عليه، هذا فضلًا عن أن الكلمة التي تدل على اسم الآلهة بالجمع قد مُحِيَتْ من عالم الوجود من كل الآثار أيضًا؛ وذلك لأنها تتنافى مع الوحدانية.

وبعد ذلك رأى أنه من العار والتناقض أن يكون اسمه يحوي اسم الإله «آمون»؛ فمنذ السنة السادسة غيَّر اسمه فأصبح يُسمَّى «إخناتون» (أي آتون مسرور)، وكذلك مَحى من اسم والده لفظة «آمون»، وأصبح لا يسميه هو وأجداده إلا باللقب الذي كان يُطلق على كل منهم عند توليته العرش وبذلك؛ انفصل هذا الملك عن التقاليد الدينية القديمة تمام الانفصال، وبخاصة عندما انتقل إلى عاصمته الجديدة التي كان قد شرع في بنائها، هذا فضلًا عن أنه قبل مغادرته «طيبة» قد سمَّاها مدينة ضوء «آتون»١٧ العظيم.

(٤-٢) مدينة «تل العمارنة»

لم تكن فكرة نقل عاصمة الملك إلى «إخناتون» ناشئة عن غضب أو ضغينة في صدر «إخناتون» على كهنة «آمون» وسكان «طيبة» وحسب — وإن كان للغضب وحب المحافظة على النفس نصيب كبير في هذه الحركة — ولكن الدافع الحقيقي لهذه الحركة كان جزءًا من فكرة مبيتة الغرض؛ منها أن يفسح لمذهب «آتون» مأوًى أمينًا ومعقلًا حصينًا في كل جزء من أجزاء الإمبراطورية لنشر دعوته في هدوء وسلام؛ ذلك لأن إله الدولة لم يكن في نظره إله مصر وحدها، بل كان إلهًا يشمل سلطانه كل العالم؛١٨ ولذلك كان من الحكمة أن تُقام له مراكز مقدسة لا في مصر وحدها بل في آسيا وبلاد١٩ النوبة، فنعلم أن مدينة خاصة بعبادته كانت له في سوريا،٢٠ غير أننا لا نعلم موقعها بالضبط. أما في «النوبة» فكان مركزها بالقرب من الشلال الثالث وكانت تُسمى «جم آتون» (راجع Baedeker’s Egypt (1929) p. 477)، كذلك كان الغرض من بناء عاصمته الجديدة في مصر أن تكون مركز الحكومة والبلاط، وكان «إخناتون» يريد من هذا أن يكون بمعزل هو وحاشيته عن الوسط الخطر الذي كان يحيط به في «طيبة»؛ وبذلك يضمن لنفسه مكانًا آمنًا خصبًا ليبذر فيه بذور عقيدته الجديدة حتى يتسنى له أن يجني ثمرتها، ويعاقب الجامحين من رجال «طيبة» والناصحين لهم من كهنتها في نفس الوقت.

ولا شك في أن انتقال رجال البلاط كان له أثر سيئ جدًّا في نفوس القوم، وبخاصة عندما عرفوا أن إلههم «آمون» «الطيب» وملكهم الرحيم الذي يُعدُّ في نظرهم المظهر البارز لصورة إلههم قد حجب عنهم ضوء وجهه الوضاح، وهو غاضب عليهم ونافر منهم.

موقع مدينة إختاتون

تقع البقعة التي أقام فيها «إخناتون» مدينته الجديدة «إختاتون» (أفق آتون) على مقربة من مدينة «ملوي»،٢١ وهي جون في هضبة الصحراء الغربية، يبلغ طولها نحو ستة أميال، وأقصى عرضها نحو ثلاثة أميال، ولم تكن العاصمة الجديدة تشغل كل هذه المساحة في عز ازدهارها؛ لأن أنقاض المدينة القديمة تمتد من نقطة على مسافة تقرب من ميل شمال قرية «التل» (وهي التي اشتُق منها اسم تل العمارنة الذي يُستعمل الآن في الكتب العلمية للدلالة على «إختاتون» القديمة)، إلى قرية «الحواطة»؛ حيث نشاهد تنائف الجبل تحيط بهذه البقعة، حتى تكاد تتلاقى مع شاطئ النيل؛ وبذلك تمتد نيفًا وخمسة أميال في اتجاه شمالي فقبلي. ولكننا حين نشاهد أن طول المدينة يشمل كل المساحة التي على امتداد شاطئ النهر، فإننا نجد من جهة أخرى أن عرضها يشمل أكثر من ثلث هذه المساحة؛ إذ يمتد نحوًا من كيلومتر أو أكثر بقليل؛ وعلى ذلك يمكننا أن نتصور عاصمة «إختاتون» في صورة بلد تشغل شريطًا ضيقًا من الأرض تبلغ مساحته نحو خمسة أميال طولًا في نحو كيلومتر عرضًا، وتقع بين منطقة ضيقة من الأرض الخصبة على شاطئ النهر والصحراء الرملية خلفها فتمتد حتى سفح التلال. ويرجع السبب الذي من أجله جاء تصميم طول المدينة غير متناسب مع عرضها إلى أمرين؛ فمن جهةٍ كانت الأراضي الخصبة التي على شاطئ النهر لا بد من الاحتفاظ بها للزراعة، ومن جهة أخرى كان من المستحيل أن تُقام مبانٍ في داخل الأراضي القاحلة في الصحراء لانعدام المياه فيها؛ من أجل ذلك كان «إخناتون» مضطرًّا أن يضع تصميم عاصمته الجديدة على حسب مقتضيات طبيعة الأرض لا على حسب ما يريد.
ولقد كان من الجلي الواضح أن فكرة النزوح من العاصمة القديمة قد دُبرت من قبل بزمن، وذلك أنه على الرغم من أن كل ما كان يُحتاج إليه لإقامة هذه المدينة هو اللبن والأيدي العاملة الوفيرة حتى يتمكن الفرعون من أن يبني المدينة بسرعة تفوق الوصف؛ فإنه كان لا بد من إنفاذ هذا العمل الضخم في مدَّة لا تقل عن سنتين على أقل تقدير؛ ليتسنى له أن يجهز على وجه السرعة المساكن اللازمة لكل بلاطه وكل مصالح الحكومة. وقد اشترك الملك وزوجه «نفرتيتي» في وضع تخطيط المدينة، وقد احتفل بهذا الحادث احتفالًا عظيمًا، وسجل الفرعون ذلك على لوحات الحدود التي أقامها في حرم مدينته المقدسة، وما أبقت الأيام عليه من هذه اللوحات أربع عشرة لوحة سُجل على واحدة منها ما يأتي:
السنة السادسة،٢٢ الشهر الرابع من الفصل الثاني، اليوم الثالث عشر (!) (يلي ذلك مديح الملك وألقابه وألقاب الملكة)، في هذا اليوم كان الملك في سرادق من نسيج أمر جلالته بصنعه (له الحياة والصحة والعافية)، في «إختاتون» واسمها «أفق آتون». وقد زار جلالته في عربته العظيمة المصنوعة من الذهب مثل «آتون» عندما يشرق في الأفق، وملأ الأرضين بجماله، وذلك لما بدأ السير في طريقه إلى «إختاتون» عندما يشرق في الأفق، وملأ الأرضين بجماله، وذلك لما بدأ السير في طريقه إلى «إختاتون»، عندما قام جلالته بأول جولة فيها (له الحياة والصحة والعافية) ليؤسسها أثرًا لآتون، وذلك على حسب أمر والده «آتون» معطي الحياة إلى أبد الآبدين، ولأقوم له بعمل أثر في وسطها. ولقد أمر الواحد (الملك) أن تُقدم قربات عظيمة من الخبز والجِعة والثيران، والعجول، والماشية والطيور، والخمر، والذهب والبخور، وكل الأزهار الجميلة، وفي هذا اليوم أُسست «إختاتون» لآتون الحي؛ حتى يمنح الملك «إخناتون» الحظوة والحب.
(راجعDavies, Ibid. Vol. V, p. 32)، ويوجد قبالة «إختاتون» على الضفة الغربية للنيل جون آخر يقع بين النيل وسلسلة جبال صحراء «لوبيا» يحتوي على مساحة عظيمة من الأرض الزراعية يشقها الآن «بحر يوسف»، ولقد أضافها «إخناتون» إلى حرم مدينته المقدسة؛ إذ بدونها يستحيل على المدينة أن تحافظ على كيانها؛ وبذلك أصبح طول المدينة نحو ثمانية أميال شمالًا وجنوبًا، وعرضها يتراوح بين اثني عشر وخمسة عشر ميلًا شرقًا وغربًا، وقد أقام الفرعون سلسلة من اللوحات العظيمة، نُحت فيها صورة للملك والملكة وأسرتهما وهم يتعبدون جميعًا للإله «آتون»، كما نُقش عليها كذلك تفاصيل عن هذا الإقليم المقدس، وقد أُقيمت هذه اللوحات في الشمال والجنوب والشرق والغرب عند المواقع الهامة حتى لا يجهل إنسان حدود الأراضي المقدسة للإله الجديد. وهاك النقش:

إنه يمين الصدق الذي أحلف به (وهو اليمين الذي لن أقول عنه إنه كاذب إلى أبد الآبدين)، إنها لوحة بلدة «إختاتون»، وهي التي اتخذت عندها محطًّا، ولن أتخطاها من جهة الجنوب أبد الآبدين، وأقمت اللوحة الجنوبية الغربية مقابلة لها تمامًا على الجبل الغربي لإختاتون.

أما اللوحة الوسطى التي عليها جبل «إختاتون» الشرقي، فإنها لوحة (إختاتون)، وقد أُقيم عندها محط، ولن أتخطاها شرقًا أبد الآبدين. وأقمت اللوحة التي في الوسط على الجبل الغربي «لإختاتون» مقابلة لها بالضبط.

أما اللوحة الشمالية الشرقية «لإختاتون» التي جعلت منها محطًّا فهي اللوحة الشمالية لإختاتون فلن أتعداها منحدرًا في النهر أبد الآبدين، ولقد أقمت اللوحة الشمالية الغربية التي تقع على جبل إختاتون الغربي مقابلة لها بالضبط.

أما مدينة «إختاتون» فإنها تمتد من اللوحة الجنوبية حتى اللوحة الشمالية، ويبلغ طول ما بين اللوحتين على جبل «إختاتون» الشرقي ستة آتر ونصف، وربع خت٢٣ وأربعة أذرع. وكذلك من لوحة إختاتون الجنوبية الغربية حتى اللوحة الشمالية الغربية في الجبل الغربي لإختاتون تبلغ ستة آتر ونصف ربع حكي وأربعة أذرع بالضبط أيضًا. والمساحة التي تقع بين هذه اللوحات الأربع من الجبل الشرقي إلى الجبل الغربي هي «إختاتون» نفسها، وهي ملك الأب «حور آتون» بما فيها من جبال وصحارٍ ومراعٍ وجزر وأرض عالية ومنخفضة وماء وقرًى ورجال وحيوان وأحراش؛ وكل الأشياء التي سيأتي بها والدي «آتون» إلى الحياة إلى أبد الآبدين، ولن أهمل هذا اليمين الذي أخذته على نفسي لوالدي «آتون» أبد الآبدين، بل سيُوضع على لوحة من الحجر بمثابة حدود جنوبية شرقية، وكذلك بمثابة حدود شمالية شرقية لإختاتون، كما سيوضع على لوحة من الحجر بمثابة حدود جنوبية غربية، وكذلك بمثابة حدود شمالية غربية «لإختاتون». ولن تُمحى، ولن تُزال ولن تُزاح، ولن تُرجم بالحجارة، ولن يُقضى عليها، وإذا حدث أنها فُقدت أو أُتلفت أو سقطت اللوحة التي كانت عليها فإني سأجددها ثانية في المكان الذي كانت فيه. (Ibid. p. 33.) مما سبق يتضح أن العاصمة الجديدة كانت مركزًا مقدسًا «لعبادة آتون» حُرِّم دخول أي شيء دنيوي فيه؛ فكان لها من القداسة ما «لملكة» و«بيت المقدس»، ويُلحظ في الفقرات التي اقتُبست من لوحات الحدود أنه قد ذُكر يمين جاء ذكره في اللوحات التي عُملت في العهد الأوَّل من حكم هذا الملك: «لن أتجاوز حدود لوحة «إختاتون» من الجهة الجنوبية، كذلك لن أتجاوز لوحة «إخناتون» من الجهة الشمالية.»

وقد رأى البعض في هذه العبارة أن الملك قد أخذ على نفسه المواثيق بأن لا يبرح حدود هذه البلدة طيلة حياته، ولا شك في أن الألفاظ قد تحمل هذا المعنى، وقد تعني أنه لن يتعدى حدود هذا البلد لأنها ملكه الخاص، والأخذ بهذا المعنى يبرره ما جاء في المتن المطوَّل الذي جاء بعد: «لن أتجاوز لوحة «إختاتون» الشمالية نحو الشمال لأقيم فيه «إختاتون»»؛ أي إن ملك «آتون» يبقى فيها وحسب، ولن يُزاد فيها ظلمًا في أي من جهاتها، والواقع أن هذا المعنى أنسب من المعنى القائل إن «إخناتون» أراد أن يحبس نفسه بين جدران مدينته المقدسة طول حياته، ويترك مملكته ترعى نفسها بنفسها. حقًّا كان «إخناتون» متعصبًا، ولكنه لم يكن مأفونًا كما يعتقد بعض نقاده، ولا نزاع في أنه أهمل أمر إمبراطوريته في الخارج كما سنرى بعد، ولكن السبب في ذلك أنه كان يعلم أنه لن يتسنى له ذلك إلا بالحرب التي كان يكرهها من أعماق قلبه. على أن عدم قيام ثورات في داخل مصر نفسها لَأكبر دليل على أنه لم يتهاون في واجباته التي يفرضها عليه الملك كما يعتقد بعض المؤرخين.

ولقد كان اختيار موقع «إختاتون» من عمل الملك نفسه، كما أن فرحه بتأسيس مدينته المقدسة كان عظيمًا جدًّا، وقد أوضح لنا ذلك في لوحات الحدود الأولى:
لقد وقف جلالته أمام الأب «حور آتون»، وأضاء عليه «آتون» بالحياة وطول العمر، ومقوِّيًا جسمه كل يوم.» وقال جلالته: «آتوني بأصحاب الملك الوجهاء العظماء وضباط الجنود … في كل البلاد.» وقد أُتي بهم إليه في الحال؛ فسجدوا على بطونهم أمام جلالته، وقبَّلوا الأرض خضوعًا لإرادته، وقال لهم جلالته: «انظروا «إختاتون» التي يريد «آتون» أن أجعلها له أثرًا باسم جلالتي أبديًّا، وإن «آتون» والدي الذي أتى بي إلى «إختاتون» فلم يقدني إليها شريف قائلًا إنه يجدر بجلالته أن يقيم «أفق آتون» (إختاتون) في هذه البقعة، لا بل إنه «آتون» والدي الذي أرشدني إليها لأجعلها له «أفق آتون»؛ وعليه سأقيم «إختاتون» لآتون والدي في هذه البقعة، ولن أتخذ له «إختاتون» جنوبيها ولا شماليها ولا غربيها ولا شرقيها: ولن أتجاوز حدود لوحة «إختاتون» الجنوبية نحو الجنوب، ولن أتجاوز حدود لوحة «إختاتون» الشمالية نحو الشمال لأقيم له فيها «إختاتون»، وكذلك لن أقيمها له في الجهة الغربية «لإختاتون»، بلى، ولكن سأقيم «إختاتون» لآتون والدي في الجهة الشرقية، وهو المكان الذي أحاطه لنفسه بالصخر، وسأقيم له معبدًا في وسطها؛ حتى يتسنى لي أن أقدم له فيه القربان.٢٤ هذه هي «إختاتون»، ولن تقول لي الملكة: انظر، يوجد مكان آخر لإختاتون في جهة أخرى، وأستمع لما تقول. ولن يقول لي أي شريف من القوم الذين في الأرض: انظر، إنه يوجد مكان طيب «لإختاتون» في جهة أخرى، وأسمع لهم، سواء أكان ذلك المكان في الشمال أم في الجنوب أم شرقًا أم غربًا، ولن أقول سأهجر «إختاتون» أو سارع عنها وأقيم «إختاتون» في ذلك المكان الآخر الطيب أبد الآبدين. بلى، ولكني قد أسست «إختاتون» هذه للإله «آتون» وهي التي رغب فيها بنفسه والتي فرح بها أبديًّا.
وبعد أن يعدد الملك المعابد المختلفة والمقاصير التي عقد النية على إقامتها «لآتون» في مدينته الجديدة يصرح الملك بتصريح له رنة أسًى في النفس منقطعة النظير؛ حينما يذكر الإنسان كيف أن النهاية التي كان يتنبأ لنفسه بها قد جاءت على عكس تنبئه:

وسيُنحت لي ضريح في الجبل الشرقي ويُحتفل بدفني في الأفراح العديدة التي أمر بها والدي «آتون»، وكذلك سيُحتفل بدفن الملكة زوج الملك الشرعية «نفرتيتي» في تلك السنين العدة … كذلك سيحتفل ببنت الملك «مريت آتون» فيها بعد سنين عدة، فسيُؤتى بي وأُدفن في «إختاتون»، وإذا ماتت كذلك الملكة «نفرتيتي» في أية بلدة في الشمال أو الجنوب أو الغرب أو الشرق بعد سنين يخطؤها العد فإنه سيُؤتى بها وتُدفن في «إختاتون»، وإذا ماتت بنت الملك «مريت آتون» في أية بلدة في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب فإنه سيُؤتى بها وتُدفن في «إختاتون».

ولا يسع المرء هنا إلا أن يقرن بين النهاية المرجوة والنهاية التي لاقاها بعد موته؛ فبدلًا من أن يُدفن بإقامة الأفراح والاحتفالات الضخمة التي تليق بمقامه وهي التي تنبأ لنفسه بها في «إختاتون» مدينته المقدسة التي أحبها بكل قلبه؛ نجد أنه قد قُذف به في قبر دنس من مقابر وادي الملوك في «طيبة»، تلك المدينة التي كان يمقتها من أعماق قلبه. ولعمري فإن ذلك لَمَثَل من الأمثلة القليلة التي سخر فيها القدر ولعب فيها دوره المعكوس بين الحقيقة والنبوءة.

وليس لدينا من النقوش ما يدل على الشجار الذي قام بين «إخناتون» وكهنة «آمون» إلا جملة في لوحة من لوحات الحدود الأولى. وهي تظهر لنا بجلاء روح البغضاء المريرة التي كان يشعر بها هذا الفرعون حتى وهو في وسط السرور الذي كان ينعم به من عمله الجديد؛ فيذكر لنا المقابلة السيئة التي قُوبلت بها تعاليمه على يد من يُعلِّمون الناس والصدق. كذلك يشير إلى الصراع الذي قام بين هؤلاء الكهنة وبين جده «تحتمس الرابع»: إني أقسم بحياة والدي «حور آتون» … الكهنة، كانوا أشد إثمًا من الأشياء التي سمعتها حتى العام الرابع، وأشد ضررًا من الأشياء التي سمعتها في عام … أشد ضررًا من الأشياء التي سمعها «منخبرو رع» تحتمس الرابع … في فم العبيد، وفي فم أي قوم … والأشياء الفظيعة التي سمعها «تحتمس الرابع»، وقد سبق الكلام عنها؛ لأنه كما ذكرنا من قبل قد حارب كهنة «آمون» وأخضعهم على يد «حور محب».

أسرة إخناتون

ويُلحظ هنا أن أسرة «إخناتون» كانت تتألف قبل بناء هذه المدينة من الملك و«نفرتيتي» ثم الأميرة «مريت آتون»، وفي خلال المدة الواقعة بين تخطيط «إختاتون» والانتقال إليها وُلد له بنتان أخريان، وهما «مكت آتون» و«عنخس إن با آتون».

وتدل كذلك الآثار على أنه رُزق ابنة رابعة اسمها «نفرنفرو آتون تاشيري» ونحن نعلم أن الأولى قد تزوَّجت من «سمنخكارع» خليفة «إخناتون»، غير أننا لم نسمع عنها شيئًا قط بعد وفاة زوجها الذي لم يحكم أكثر من ثلاثة أعوام، أما الثانية «مكت آتون» فقد ماتت قبل والدها، وقبرها معروف في «تل العمارنة»، والثالثة وهي «عنخس إن با آتون» كما نعلم قد تزوَّجها «توت عنخ آمون» الذي ولي العرش بعد «سمنخكارع»، وبعد وفاته تزوجها «آي» ليتمكن من الجلوس على العرش؛ إذ كانت بطبيعة الحال الابنة الباقية لإخناتون، ولكن الكشوف الحديثة قد أماطت لنا اللثام عن حادث غريب في حياة هذه الأميرة ووالدها «إخناتون»؛ فقد دلَّت الآثار على ما يحملنا على الظن بأنها كانت قد تزوجت من والدها قبل أن تتزوج من «توت عنخ آمون»، وأنها كذلك قد رُزقت منه ابنة سمتها باسمها وميَّزتها عنها بلقب «الصغيرة».

فقد عُثر على قاعدة تمثال منقوش عليها «… سيدة كل الأرض، الزوجة الشرعية للفرعون، التي يحبها، وسيدة الأرضين، «الجمال الفائق» لآتون (نفرتيتي) … بنت الملك من صلبه التي يحبها «عنخس (با) آتون» والتي ولدتها زوجة الملك (الجمال الفائق) لآتون.» هنا نجد أن طغراء الملك قد مُحي في كلتا الحالتين، والظاهر أنه كانت تُوجد على هذه القاعدة مجموعة مؤلفة من الملك والملكة وأولادها أو على الأقل الملكة وبنتها «عنخس إن-با-آتون»، وكان هذا التمثال بالقرب من القصر الملكي الرئيسي. وهذا المحو له أهمية عظمى؛ فقد محى اسم الملكة حبًّا في بنتها «مريت آتون» في قصر «مارو آتون»، وكذلك على التمثال الذي نشره «شارف». أما قاعدة التمثال هذه فهي الأولى من نوعها وفيها اسم «عنخس إن-با-آتون»، وفيها محى اسم أمها، ويظن «جرفث» أن كلًّا من «مريت آتون» و«عنخس إن-با-آتون» قد أصبحت ملكة على البلاد بعد طرد والدتها أو موتها لتكون هي الملكة الوحيدة، ولكنا من جهة أخرى نعلم أن «مريت آتون» قد تزوجت من «سمنكارع»، وكذلك كانت تُسمى أكبر بنات الملك، وليست تحمل لقب ملكة، ويظن مستر «ديفز» أن الملكة قد انضمت إلى صفوف الأعداء في «طيبة» وتَسَمَّت باسم «نفرنفرو» (آمون)، ولكن أليست هذه هي «نفرنفرو آتون تاشري» البنت الرابعة «لإخناتون»، وقد ادعت لنفسها الصفة الملكية في أزمة من الأزمات؟! ولكن الغريب في قاعدة هذا التمثال أن «عنخس إن با آتون» قد محت اسم والدتها وصلتها بها؛ ومن ذلك نعلم أن من الجائز جدًّا بل من المحقق أنها تزوجت من والدها كما جاء في نقوش الأشمونين، فقد عُثر على أجزاء من معبد «الأشمونين» الذي بناه «إخناتون» في هذه الجهة، وفيها أن الأميرة الملكية «عنخس إن با آتون» قد رُزقت بنتًا اسمها «عنخس إن با آتون» (عنخس إن با آتون تاشري)؛ وذلك مما يثبت الرأي القائل إن «إخناتون» لم يتولَّ الملك وهو لم يبلغ الحلم بعد؛ من أجل ذلك لا بد أن ابنته الثالثة «عنخس إن با آتون» قد وُلدت في السنة الرابعة أو الخامسة من حكمه، وأقدم صورة لهذه الأميرة وُجدت على لوحة من لوحات الحدود في السنة السادسة، ومن جهة أخرى نعلم أن «إخناتون» قد حكم على الأقل ١٨ سنة، وأن البنات كُنَّ يصلحن للزواج في سن مبكرة ويحملن؛ ولذلك فإنه من الممكن أن هذه الأميرة قد تزوجت في سن مبكرة، ورُزقت ابنة أسمتها باسمها، وتدل كل الأحوال على أن «إخناتون» هو والد الأميرة الصغيرة (A. Z. Vol. LXXIV, p. 104–108).
أما ابنته الصغيرة «نفرنفرو آتون تاشري» فلا نعلم عنها شيئًا، وكل ما نعلمه أن أحد خطابات «بورا بور باش» ملك بابل أرسل خطابًا للفرعون «إخناتون» نفهم منه أن إحدى بنات الفرعون كانت زوجة لأحد أولاد هذا الملك، ولكنها كانت تسكن في قصر والدها، ولا بد أن هذا الزواج كان بالوكالة، ولم يكن بين بنات الفرعون وقتئذٍ ابنة في سن الزواج إلا كبراهن، ونحن نعلم أنها تزوجت «سمنخكارع»، فمن المحتمل أن هذا الأمير البابلي قد تزوج من إحدى صغيرات بنات الفرعون ولكنه في الوقت نفسه أبقاها عند والدها، وقد أرسل بهذه المناسبة ملك «بابل» للأميرة زوج ابنه٢٥ (أ) عِقدًا من الأحجار الثمينة يبلغ عدد حباته ١٠٤٨ حبة، وقد حرص هذا العاهل أن يعد حبات هذا العقد حتى لا يُسرق منه شيء في أثناء الطريق، ومن المحتمل جدًّا أن هذه الأميرة هي «نفرنفرو آتون» (Mercer, “Tell el Amarna Tablets”, No. 10, 41ff)، هذا وتدل الآثار على أن «إخناتون» كان له بنتان أخريان وهما «نفر نفرو رع» و«ستب إن رع» (L. D. III, Pl. 99).
fig15
شكل ٤: أسرة «إخناتون».

وهنا نلحظ أن «إخناتون» لم يتمسك في أخريات حياته بإضافة اسم «آتون» إلى تركيب أسماء بناته، كما فعل من قبل؛ وذلك يدل على أنه لم يكن متعصبًا للفظة «آتون» في آخر حياته كما كان يحرص عليها عندما نقل الحكم إلى «إختاتون» مباشرة، فهل يُفهم من ذلك أنه رأى تعصبه لإلهه قد جرَّ عليه المتاعب، وأثار الفتن فارتد إلى التسمية القديمة «رع» وهي التسمية التي ألفها الشعب منذ فجر التاريخ، وبذلك أرضى نفسه، وأرضى شعبه؟ إنها لسياسة رشيدة ومحكمة جدًّا، وبخاصة إذا علمنا أن «سمنخكارع» بعد أن اشترك مع «إخناتون» في الحكم عاد إلى «طيبة» وأخذ في تهدئة الحال مع كهنة «آمون». وقد وجدنا له قصيدة في مدح «رع» بين آثار «توت عنخ آمون» التي اغتصبها الأخير منه.

وصف مدينة إختاتون

وفي السنة الثامنة من حكم «إخناتون» وجدنا أن نقل البلاط قد نفذ تمامًا وأصبحت «إختاتون» العاصمة للملك. وهذه الحقيقة قد قُرِّرت بعبارة خاصة ظهرت في كثير من لوحات «تل العمارنة»، وهي كما يأتي: «وهذا اليمين (الخاص بالحدود) قد كُرر في السنة الثامنة من الشهر الأول من الفصل اليوم الثامن؛ فقد كان عرش الملك في «إختاتون» والفرعون (له الحياة والصحة والعافية) قد وقف ممتطيًا عربته العظيمة المصنوعة من السام يفحص لوحات الإله «آتون» التي أُقيمت على الجبل بمثابة الحد الجنوبي الشرقي للمدينة «إختاتون».» ويُعد تجديد هذا اليمين بمثابة الخطوة الرسمية النهائية لنقل مقر الملك. وعلى ذلك يكون العمل في تأسيس العاصمة قد بُدئ في العام السادس، وانتهى في العام الثامن.

ويرجع الفضل في كشف النقاب عن تخطيط البلد القديم إلى البعثات الألمانية والإنجليزية التي حفرت هذه البقعة حفرًا علميًّا منظمًا.

تكلمنا فيما سبق عن مميزات مدينة «إختاتون»؛ من حيث الطول والعرض، وعن السبب الذي دعا إلى تخطيطها على هذا النحو. فهذه البلدة العظيمة الطول الضيقة العرض قد وُضع تصميمها بشكل منسجم لا بأس به، وكانت تخترقها من الشمال إلى الجنوب ثلاثة شوارع رئيسية تقاطعها في زوايا قائمة شوارع أخرى تخترقها من الشرق إلى الغرب، وخلافًا لهذا النظام المستطيل الشكل لم يحاول المهندس واضع التصميم إيجاد انسجام في وضع المنازل التي كانت تختلف اختلافًا عظيمًا من حيث التخطيط، والظاهر أن فكرة تخطيط مدينة على طراز ممتاز لم يَدُرْ بخلد مهندسي «مدينة الأفق»، وذلك على الرغم من أنه كانت أمامهم قطعة أرض أخرى بكر يمكن تخطيطها على طريقة هندسية دقيقة. وربما يرجع السبب في ذلك إلى السرعة التي كان يتطلبها إنجاز المدينة وإعدادها، وكذلك حالَ هذا بين تقسيم رقعة المدينة إلى حي مساكن عمال، وآخر لمساكن عِلْية القوم والموظفين؛ فالتصميم الذي لدينا يدل على أن المساكن قد خُططت دون مراعاة توزيعها إلى مجاميع منسجمة؛ فبينا نرى منزلَ شريفٍ بفخامته وسِعَة أرجائه نجد منزلًا حقيرًا لعامل أو صانع قد لَاصَقَه، حتى ليخيل للإنسان في أيامنا أنها خُططت لتكون بلدة ديمقراطية، فالكاهن الأعظم يقيم في محاذاة صانع الجلود، والوزير بجوار صانع الزجاج، ويرجع السبب في ذلك إلى أن عظماء القوم عندما حلوا بالمدينة استولى كل منهم على قطعة عظيمة من الأرض ليقيم فيها قصره، ولكنه بعد أن أخذ ما يكفيه لبناء بيته تخلف بعد ذلك فضاء اتخذه العمال والصناع الذين وفدوا إلى المدينة لبناء منازلهم الصغيرة، ولم يكن لهم الخيار في أن يتخذوا أماكن أخرى لإقامة منازلهم؛ لئلا يبتعدوا عن المياه فيصبح نقلها عسيرًا عليهم.

fig16
شكل ٥: تصميم منزل بمدينة إختاتون (تل العمارنة).
ومن المحتمل أن مدينة «إختاتون»٢٦ المقدسة لم تكن رائعة في منظرها لعدم انسجام مجاميع البيوت التي تتألف منها إذا قِيست بالمدن الحديثة، غير أن عدم التكافؤ هذا في المباني كان يعطيها بهجة خاصة وهي بهجة التناقض، وبضدها تتميز الأشياء، فإذا تصور الإنسان قصر الرجل العظيم بما فيه من أبهة وفخامة، وما يحيط به من عظمة وبهاء، ثم يرى في الوقت نفسه كوخًا حقيرًا لعامل وراء جدران هذه الحديقة، بدا الكوخ كأنه عش طائر صغير في أصل شجرة باسقة وارفة. والواقع أن قصور العظماء كانت منازل فسيحة الأرجاء بما فيها من ردهات زُينت جدرانها وأرجاؤها بما ينم عن ذوق سليم، هذا إلى حجرات عدة للسكن والنوم جُهزت بحمامات عظيمة ودورات مياه، وقد كان حجم البيت المتوسط من الطراز الأنيق في تلك المدينة المقدسة يتراوح بين ٦٥ إلى ٧٠ قدمًا مربعًا.

وقد عُثر أخيرًا على بعض منازل أمكن لأحد المهندسين أن يكوِّن منها فكرة صحيحة عن البيت في عهد إخناتون، وسنفصل القول هنا بعض الشيء في وصف هذا البيت ومحتوياته ليأخذ القارئ فكرة عن البيت في عهد الأسرة الثامنة عشرة على وجه عام.

(أ) البيت المصري في عهد إخناتون

تدل شواهد الأحوال على أن البيت المصري في عهد الفرعون «إخناتون» كان غاية في الأناقة وحسن الذوق والتنسيق الصحي البديع. وقد استطاع أحد المهندسين أن يضع أمامنا صورة حية لبيت من البيوت التي كُشف عن بقاياها في مدينة إختاتون المعروفة الآن بتل العمارنة.

والبيت الذي سنصفه هنا يقع في الضاحية الشمالية من المدينة المذكورة، ويُعدُّ من أجمل البيوت وأفخمها. وتدل الآثار على أنه كان مؤلفًا من طابقين.

فهذا البيت وما يتبعه من حديقة وملحقات قد سُوِّر بجدار عالٍ يكتنفه من جانبين شارعان ومن الجانبين الآخرين ضياع رب المنزل، ويقع المدخل العمومي لهذا البيت على شارع، وقد أُقِيمت في أوَّله حجرة حارس البيت، وتحتوي على مقعد وموقد مسطح. أما المدخل نفسه فيتألف من برجين أنيقين يكتنفانه ويعلوهما «كرنيش» محلًّى برسوم على هيئة جريد النخل، وقد لوَّن مصراعا بابيه باللون القرمزي.

وبعد اجتياز الإنسان هذا المدخل بقليل يستقبل طريقًا زُين جانباه بصفين من الأشجار الصغيرة غُرست في أحواض مملوءة بغرين النيل الخصب، وفي نهاية هذه الطريق يجد الزائر أمامه محرابًا صغيرًا على هيئة معبد قد أُقيم على رقعة من الأرض مرتفعة بعض الشيء يرقى إليه الإنسان بسلم ذي درج. والجزء الأوسط من هذا المحراب عارٍ من السقف؛ وذلك تمشيًا مع شعيرة عبادة الإله «آتون» الذي يُمثل في قرص الشمس المشرق. أما قاعة عمد هذا المحراب فيزينها سقف جميل. وعند الفراغ من تقديم فروض العبادة في المحراب يتجه الزائر نحو ردهة داخلية يصل إليها بطريق تقع على محور زاوية قائمة مع المحراب نفسه. وهذه الردهة تؤدي إلى البيت بوساطة مدخل له خارجة بارزة وبابه ملون بالألوان الزاهية، وكُتب اسم صاحب البيت وألقابه بالخط الهيروغليفي على عارضتي الباب المصنوعتين من الحجر، وكذلك يوجد للبيت باب آخر خاص بالتجار وأصحاب الحاجات، ويقع على الطريق العامة. ويؤدي إلى ساحة عامة نُصبت فيها مخازن الغلال المفعمة بالحبوب المكدسة في صوامع مخروطية الشكل وتشبه من كل الوجوه الصوامع التي يخزن فيها الفلاحون غلالهم إلى يومنا هذا في ريف مصر وصعيدها.

وقد خُصص القسمان الجنوبي والشرقي من هذا المبنى العظيم لإصطبلات الخيل ومساكن الخدم والمطبخ وحظائر الماشية وغير ذلك.
  • الإصطبل: يتألف الإصطبل من رقعة مرصوفة من الأرض تسع ثمانية جياد لكل منها مذود ومربط مصنوع من الحجر، ومثبت في أصل الطوار، وخلف هذه المذاود ممر ليُوضع فيه علف الخيل، ويصل إليه الإنسان من الخارج، ولا شك أن إنشاء الإصطبلات بهذه الصورة يُعد حديثًا. ويلحق بهذا الإصطبل حجرة طويلة خُصصت لصيانة سرج الخيل ولجمها … إلخ، هذا مع وجود مكان صغير لتُحفظ فيه عربة صغيرة من الخشب وآخر لتُحفظ فيه فضلات الخيل.
  • قسم الخدم: ويشتمل القسم الخاص بالخدم على حجرة كبيرة ذات خارجة صغيرة مثبتة في مدخلها، ويرتكز سقفها على عمد مربعة من اللبن.
  • المطبخ: ويتألف من مسكن رئيس الطهاة أو مدير البيت. وهو مبني على نمط حجر البيت الرئيسية ولكن بحجم مصغر. أما المطبخ نفسه فيتألف من صف أفران تماثل بالضبط أفران الخبز التي نشاهدها في قرى الريف الآن، ويتصل بهذا المطبخ حجرة أخرى بُني فيها رف لما يُخزن، ولتقديد الخبز. هذا إلى حجرة أخرى ثُبتت فيها لوحة مبطنة بالإسمنت كانت تُستعمل لخلط العجين وتجهيزه. وأُقيمت خلف البيت كذلك حظائر الماشية وفناء متوسط الحجم فيه وجران للكلاب. وبجوار المدخل المعد لخدَّام البيت بئر قريبة الغور يُوصل إليها بدرج حلزوني للسقاية، أما الركن الشمالي الشرقي من هذه الضيعة فقد هُيئ ليكون حديقة منظمة ليتمتع بها صاحب البيت وأسرته.
  • البيت: أما البيت نفسه فكان يتألف من قاعة رئيسية مرتفعة عن باقي حجرات تحتل وسط البيت مضاءة بنوافذ، وحجرات أخرى خارجية مضاءة من الجوانب. والواقع أن حياة الأسرة تتركز في هذه القاعة ذات العمد القرمزية اللون والأبواب الملونة؛ لأنها متصلة بالحجرات الخاصة الأخرى، وكذلك تتصل بقسم الخدم الواقع في الجهة الجنوبية، وبالسلم الذي يؤدي للدور العلوي في الجهة الشرقية، هذا فضلًا عن أنها تؤدي إلى القاعتين الشمالية والغربية. وهكذا عندما يتخطى الزائر الباب تواجهه القاعة الشمالية، وهي حجرة كانت تستعملها الأسرة عادة عندما تكون حرارة الشمس لافحة في فصل الصيف، لها منفذ يوصلها بالمطابخ، كما أن لها باب خدم من جهة مخزن الغلال، والسقف في هذه الحجرات الواسعة يتألف كل منها من عرق رئيسي فوق الأعمدة ملون بلون زاهٍ وزخرفة، هذا إلى عروق صغيرة ملونة باللون القرنفلي، وبين هذه العروق ألواح ملونة بالأبيض. وتوجد في جدران الحجرة منافذ صغيرة للإضاءة، وتضم جدران هذه القاعة الشمالية ثلاثة أبواب تؤدي كلها إلى القاعة الوسطى العظمى، وأوسط هذه الأبواب يعلوه عتب نُقش عليه ثانية اسم صاحب البيت وألقابه. وعندما يخترق الإنسان هذا الباب يسير بين العمد الأربعة العالية، ثم يصل إلى طوار مرتفع بعض الشيء مصنوع من اللبن. وقد فُرش بالجلود والطنف حيث كان يجلس صاحب البيت ليدير شئونه أو ليستقبل الضيفان. وهذه الحجرة تُضاء بنوافذ فُتحت بالقرب من السقف، وصُورت في الجدار المقابل نوافذ كاذبة لتكون المقابلة تامة بين الجدارين. وفي أحد جوانب هذه القاعة وُضع حجر للغسيل واسع، ومعه إناء يغتسل منه الزائر عند وصوله، وبالقرب من الطوار وُضع موقد على هيئة طبق يُوقد فيه الفحم.

    أما القاعة القريبة وسلسلة الحجرات الخاصة بالضيفان التي تُفتح عليها، وكذلك حجرات الخزن المختلفة وجميعها تكمل الجزء العام من البيت؛ فإنها صورة مصغرة من القسم الشمالي من هذا البيت، وفي الغالب كانت تُستعمل في أثناء فصل الشتاء عندما يكون القسم الآخر من البيت باردًا لا تصله الشمس كثيرًا.

  • قسم النساء: والآن لم يبقَ أمامنا إلا الجزء الخاص من البيت، ويشمل قسم النساء وحجرة نوم رب البيت، وكلها مجتمعة حول حجرة صغيرة مربعة داخلية كانت مستعملة للجلوس.

ويُلاحظ أن النساء والأطفال كانوا يسكنون على ما يظهر في ثلاث حجرات صغيرة، أما رب البيت فكان يحتل حجرة فسيحة بملحقاتها الفخمة التي لا تقل في نظامها وحسن ترتيبها عما نجده في فندق حديث؛ إذ نشاهد حجرة نومه التي كان يصل إليها من باب قاعة الجلوس قد صُنعت فيها كوة مرتفعة بعض الشيء عن سطح الحجرة لتحتوي سريره. ويُلاحظ أن السرير كان مرفوعًا فوق أربع قطع من الحجر، وكذلك نشاهد بابًا آخر في حجرة الاستقبال مؤدِّيًا إلى حجرة التعطير والزينة، وقد عُثر فيها على قطعة من الأثاث مؤلفة من ثلاث أوانٍ مقطوعة في حجر واحد. ولا تزال واحدة منها تحمل بقايا بلورات تشبه أملاح الحمام، ومقعد من الحجر كان يجلس عليه رب البيت في أثناء تعطيره. وخلف هذه الحجرة نجد حمامًا لرش الجسم (دش) مبنيًّا من الحجر الجيري، كان يقف فيه رب البيت في حين يصب عليه الماء عبدٌ من خلف جدار حاجز مبنيًّا. ويلي هذا الحمام كنيف يُرى فيه المقعد الحجري المثقوب الذي كان يجلس عليه لقضاء الحاجة، ويكتنفه حوضان مملوءان بالرمل، وكان لا يزال في واحد منهما إناء من الفخار. وكانت حجرة التعطير والحمام والكنيف ملونة باللون الأبيض.

ومما هو جدير بالملاحظة أن جميع أبواب هذا البيت كانت مصنوعة من الخشب وأسكفاتها من الحجر، أما درجات السلم فكانت من اللبن تحميها من التفكك قطع خشب.

ولا شك في أن الدور العلوي من البيت كان قد أُقيم على نظام خاص غير أن معلوماتنا عنه ضئيلة ولا يمكن وصفه بصورة قاطعة، ولا نزاع في أن هذا النظام الذي وجدناه فيما تبقى لدينا من بيوت مدينة إختاتون كان شائعًا في عهد الدولة الحديثة، بل ربما كان في العصور التي سبقته غير أن عوادي الدهر قد قضت عليها جملة.

أما قصر الوزير «نخت» فهو من أجمل أنواع المعمار في المدينة؛ إذ يبلغ حجمه نحو ٩٥ قدمًا في ٨٥ قدمًا. وأما بيوت العمال فقد كانت نسبة حجمها إلى أحجام بيوت عِلية القوم ضئيلة جدًّا، فالبيت لا يحتوي على أكثر من قاعة أمامية، وحجرة استقبال وحجرة نوم ومكان للطهي. وقد كانت جميع بيوت المدينة سواء أكانت لعلية القوم أم لصغار العمال مبنية باللبن، ولم يشذ حتى الجزء الأعظم من قصر الفرعون نفسه من ذلك، وهذا النوع من البناء كان يتفق مع رأي المصري وفلسفته؛ فيرى أن كل إنسان يجب أن يقيم مبناه لمدة حياته هو، وفق ميوله الشخصية، وعلى حسب ذوقه الخاص؛ فلا يصح إذن أن يفرض على خلفه منزلًا مقامًا من الحجر الصلب ربما لا يروق في نظره، هذا فضلًا عن أن البناء باللبن يخفف من وطأة حرارة الشمس وبخاصة في فصل الصيف.

وقد أقام «إخناتون» لنفسه قصرًا في حي المدينة الشمالي على مسافة قليلة جنوبي المعبد الكبير وعلى مقربة من شاطئ النيل. على أن يد الدهر لم تُبقِ لنا شيئًا كثيرًا من مبانيه حتى أصبح من المتعذر علينا أن نميز حال العمد التي وجدناها في القاعة العظمى أكانت تتألف حقيقة من عمد أم كانت حوامل أُقيمت عليها رقعة حجرة أخرى فوق الطبقات السفلية من القصر. على أن أهم ما يلفت النظر في هيئة هذا المبنى الضخم الغريب هو حجرة العمد التي يبلغ عرضها ٤٢٨ قدمًا وطولها ٢٣٤ قدمًا؛ مما يجعل قاعات القصور الملكية أو غيرها تتضاءل بجانبها، هذا إذا ما قرناها بمساحة القصر كله الذي كان يبلغ ١٤٠٠ قدم طولًا ٤٠٠ أو ٥٠٠ عرضًا، وهذه القاعة تنتظم ٥٤٢ عمودًا، فإذا كانت الأعمدة التي وُجدت فيها حقًّا أعمدتها كانت تلك القاعة في بهائها تمثل غابة مزدحمة بالأشجار الباسقة. وعلى الرغم من حقارة المادة التي صُنعت منها جدران هذا القصر فإن النقوش التي كانت عليها غاية في الفخامة والروعة. ومما يؤسف له جد الأسف أن رقعة حجرات هذا القصر المزينة بالألوان التي قد أسبغ عليها صانعها قوة طبعية بما وُضع فيها من الرسوم الناطقة المنسجمة. وكذلك الزينات التقليدية التي كانت تُحلى بها تيجان العمد وهي التي أُحكم صنعها بزجاج مطلي براق زادها بهجة ورواء؛ لم يبقَ منها إلا نتف صغيرة يمكننا أن نستخلص منها ما كان يحدث في نفس الزائر عند التمتع برؤيتها، ولا غرابة إذن في أن يتخيل الإنسان أن قصر «إخناتون» كان جنة الله على الأرض، ينعم فيها في هدوء بعيدًا عن متاعب طيبة وفتنها وأحابيل كهنتها. وكانت «إختاتون» حافلة بالمعابد المختلفة الأنواع والأحجام، ولم يكن الفرعون وحبه لإلهه لينسيه احترام ذكرى أجداده العظام على الرغم من أنه قطع حبل الصلة بينه وبينهم من جهة العقائد الدينية؛ فقد وجدنا في المدينة بقايا عدة معابد كانت قد أُهديت لملوك الماضي العظام مثل «أمنحتب الثاني» و«تحتمس الرابع».

وبجانب هذه كانت تُوجد معابد صغيرة مثل معبد «بيت راحة آتون»، وكانت الملكة «تي» والدة إخناتون تقوم بتأدية الشعائر فيه، هذا إلى معبد للأميرة «باك آتون» أخت «إخناتون» الصغيرة، وآخر للأميرة «مريت آتون» أسنِّ بنات الفرعون، ويُسمَّى بيت الفرح للإله آتون في جزيرة آتون الممتاز في أعياده، ثم معبد النهر والجوسق المقدس التابع لرحبة البركة الجنوبية ومعبد «مرو آتون» أي رحبة آتون، أما معبد الدولة العظيم فكان يغطي على كل ما سواه حجمًا وفخامة وأبهة. وفي أقصى جنوب سهل «تل العمارنة» وبالقرب من قرية الحوطة يوجد على حساب الكشوف الحديثة حي من أهم أحياء مدينة «إختاتون»، وهذا الحي يُسمَّى «مرو آتون» أي «رحبة آتون»، وهو اسم لا بد قد أُطلق على جزء كبير مسوَّر كانت تنعم فيه الملكة كأنه جنة على الأرض، فهي تتمتع بالهواء الطلق في ظلال الحدائق الوارفة التي كان يحبها كل مصري. هذا إلى قاعة استقبال أنيقة ومعبد صغير، والواقع أن حب الطبيعة يتجلى في كل تعاليم «إخناتون» الدينية، والظاهر أنه قد ابتُدع وسائل المتعة بجمال الطبيعة في «مرو آتون» وهو ذلك الجمال الذي وهبه إياه إلهه «آتون»، فقد أوجد بيئة محفوفة بمتع الحياة، ومزينة بمناظر الطبيعة التي أوجدها «آتون»، ليمكنه أن ينتقل في أرجائها في أقل من لمح البصر لعبادة خالق كل هذا؛ إذ كانت مناظر الطبيعة وملاذ الحياة توجد جنبًا لجنب مع المعبد، وقد كانت «مرو آتون» هذه مؤلفة من مبنيين محاطين بسور يفصل بعضهما عن بعض جدار. وتبلغ مساحة المبنى الشمالي وهو أكبرهما ٢٠٠ × ١٠٠ متر، أما الثاني فتبلغ مساحته ١٦٠ × ٨٠ متر، ويمتاز المبنى الأصغر بقاعة استقبال ذات عمد وبحيرة من صنع الإنسان، أما باقي مساحته فالمرجح أنها كانت مزروعة بالأزهار المنسقة والأعشاب النضرة. وقد كان الجزء الأعظم من القسم الأكبر من هذه الجنة يشغله بحيرة مستطيلة أو حوض يبلغ مساحته ١٢٠ × ٦٠ مترًا وعمقها نحو متر، وفي نهاية تلك البحيرة من الجهة الغربية أُقيم طوار داخل في الماء ليكون بمثابة سلم مريح لمن أراد التنزه في سفينته في ذلك الخضم المترامي الأطراف، وقد زُينت شواطئ تلك البحيرة بمبانٍ مختلفة أشكالها، وكانت مجموعة المباني التي في الركن الشمالي الشرقي من البحيرة أهم ما يسترعي النظر والاهتمام؛ فعلى الرغم من أنها كانت بمثابة قاعة استقبال في الجهة الشمالية من البحيرة فإن كهوفها لا بدَّ كانت يومًا مكتظة بزجاجات الخمر. ويدل على ذلك أختامها المصنوعة من الطين، وهذا لعمري يبرهن على أن تمتع «إخناتون» بجمال الطبيعة ومفاتنها لم يجعله ينسى نصيبه من ملاذ الحياة الدنيا ومتاعها، أما أقصى الركن الشمالي الشرقي لتلك الجنة فكان يشغله مبنًى مزخرف مما جعله بهجة للناظرين، والظاهر أنه كان نوعًا من الأحواض التي تنمو فيها النباتات المائية على مختلف أنواعها وألوانها، وجنوب هذا الحوض المائي ذي النباتات الفيحاء تقع عين الناظر على طائفة من أسرة الزهر اليانع، وجنوب هذه يجري جدول مائي يلتف حولها من الجوانب الأربعة مكونًا جزيرة صغيرة كان يصل إليها الزائر من الجنوب بوساطة دهليز معبد مقام على عمد، وله بوابتان، وينتهي بجسر صغير يمر فوق خندق إلى جزيرة، وعند مدخل الجزيرة من هذه الناحية يواجه الفرعون جوسقين هما توأمان في الصورة والتصميم، وأمام كل منهما أُقيمت واجهة ذات عمد غير مسقوفة، وفي نهاية المطاف يصل الفرعون وضيوفه من أصحاب الحظوة عنده إلى سلم معبد صغير أُقيم في منتصف رقعته مائدة، وخلفها باب يؤدي إلى جسر آخر يتصل بحديقة النباتات المائية السالفة الذكر.

هذه لمحة عن مفاتن مدينة «إختاتون» الخلابة، وعلى الإنسان أن يرخي لخياله العنان فيتصور الفرعون وهو عائد مثقل بأعباء مهام الدولة فيطرحها عن نفسه بما سيجده من متاع بين أصدقائه وسماره، وقد ملأ البشر والفرح قلوبهم، ثم يأخذ بنصيب من مسرات الحياة ومفاتنها قبل أن يأتي اليوم الذي يقصم فيه الأسى والحزن قلبه وتكسر الهموم من حدة روحه الفتية الوثابة. ولا غرابة؛ فإن كل ما وصفناه هنا من مناظر ومتاع دنيوي هو من مميزات الطبيعة المصرية، وبخاصة بعد أن سما بها «إخناتون» في عهد «تل العمارنة» إلى أعلى عليين، وهذا الحب للطبيعة جزء لا يتجزأ من ديانة «آتون»، بل كان في الواقع ولعًا لا تخبو ناره في نفسه إلى أن صعدت روحه إلى عالم السماء، مع خالقه «آتون» المشرق في ربوعه. (راجع Baiki The Amarua Age p. 277).

وسط المدينة (إختاتون)

أما وسط المدينة فيقع جنوبي المعبد الكبير، وهو يحتوي على المخازن التي بين ضياع الفرعون وبين صفوف بيوت الكهنة الواقعة جنوبيها. وجنوب الضياع الملكية كانت تقوم مصلحة السجلات، وهي تقع في الجزء الغربي للمدينة وتسمى مكان مراسلات الفرعون — له الحياة والصحة والعافية — والظاهر أن مكان هذه الإدارة كان قد أُعدَّ لكتاب العمال، وقد هُدم فيما بعد، وحلَّت محله إدارة السجلات،٢٧ وقد أُقيمت الجامعة في المكان الشرقي لهذه الإدارة، وقد عُثر على لبنات تدل على ذلك، كما عُثر هناك على عدة «إستراكا» كُتب عليها قوائم بأسماء الكتاب الملكيين، ويُحتمل أنهم كانوا المحاضرين في الجامعة. وفي شمالي السجلات كانت تُوجد مجموعة إدارات وقد وُجد بعض أبواب هذه المباني مغلقًا باللبنات، وذلك يدل على أن الشك كان يخالج نفوس الموظفين فيما إذا كان الانتقال إلى «طيبة» سيستمر أم لا، ونحن نعلم أن طبقة الفنيين لم يكونوا متأكدين من ذلك؛ لأنهم تركوا منازلهم قابلة للسكنى. وجدير بالملاحظة هنا أن معظم الإيجي٢٨ كان من هذا الجزء من المدينة؛ إذ وُجد هنا بكثرة، وكانت المنازل الخاصة يحتلها الفقراء الذين لم يمكنهم الذهاب إلى «طيبة».

وفي جنوبي هذه البقعة صفوف من بيوت الكتاب، وفي الشرق عدة مخازن، كذلك وُجد في هذا المكان الثكنات العسكرية، وكان فيها جنود المازوي (القرطة) وكذلك إصطبلات الخيل.

(٤-٣) التوحيد (أقدم عقيدة للتوحيد العالمي)

مقدمة

لقد أثرت السلطة الاجتماعية التي سادت مصر في العهد الإقطاعي تأثيرًا كبيرًا في دينها وأخلاقها، كما تركت الحكومة المصرية في عهد الأهرام مثل ذلك الأثر في التشريع السياسي. وكلا الأثرين كان ينحصر في دائرة القطر المصري وحده.

والواقع أن عصر الأهرام لم يجنِ إلا فكرة مبهمة عن أملاك إله الشمس الواسعة، وقد خُوطب ذلك الإله مرة في متون الأهرام باللقب الطنان «غير المحدود»، وإن كان قد ظهر في هذا العصر ما يبشر بنمو اجتماعي عند بعض الكتاب النابهين أمثال «بتاح حتب» الذين آمنوا بوجود قيم خلقية عالمية تسيطر على الملك، وتخضع لإله الشمس، وهذا يدلنا على أن المصريين كانوا قد بدءوا يسيرون بالفعل في الطريق المؤدي إلى التوحيد.

وقد كان في مقدور المصريين وقتئذٍ أن يتقدموا نحو الوصول إلى المعرفة التامة «بالوحدانية» بما تصوَّروه من النظام الإداري الخلقي العظيم. وقد وصل فعلًا إلى ذلك رجال الفلسفة واللاهوت الذين أتوا بعد ذلك العصر، لكن على الرغم من ذلك قد بقي هذا النظام الخُلقي فكرة قومية لم يمتد سلطانها حتى ينتظم العالم كله، فبقي إله الشمس يحكم مصر وحدها، فنراه في أنشودة متون٢٩ الأهرام العظيمة يقف حارسًا على الحدود المصرية فيقيم هناك الأبواب التي تمنع الأجانب دخول مملكته، ومن قبل كانت قد بدأت عملية إدماج ملوك مصر الآخرين بإله الشمس فصار يحل في كل شيء، واستحالت الآلهة جميعها من حيث أشكالها ووظائفها إلى وحدة واحدة، ولكنها مقصورة على مصر، ولم تنفذ بعد من أقطارها حتى تصير إلهًا عالميًّا واحدًا، ولكن اتساع مجال الفتوحات الأجنبية العظيمة على يد «تحتمس الثالث» في «آسيا» جعل السيادة المصرية تظلل رقعة من العالم واسعة تمتد من أول الجزر الإغريقية فسواحل آسيا الصغرى، ومرتفعات أعالي نهر الفرات شمالًا حتى الشلال الرابع لنهر النيل جنوبًا.

ولما كان اللاهوت الشمسي سريع الاندماج بأحوال العالم فقد انسابت حاسيته زاحفة نحو الأفق الواسع الذي أصبح تابعًا لمصر، فامتد إجلال الإله وتقديسه حتى ظلل هذه الميادين الجديدة التي دانت لمصر بالسلطان. فأثرت الإمبراطورية المصرية الواسعة على الفكرة الدينية القديمة، وقد صاحب ذلك تيقظ عقلي هزَّ التقاليد المصرية القديمة من أساسها. وكان «تحتمس الثالث» الفاتح يُعد أول شخصية تتسم بسمة البطولة العالمية، فتأثر بذلك لاهوت الدولة، وأُرغمت مصر على الخروج من عزلتها القديمة إلى الاشتراك في العلاقات العالمية التي كان لإله الشمس صلة وثيقة بها.

على أن العلاقات التجارية التي كانت قائمة من قديم الزمان لم تكف لأن تجعل العالم الخارجي الواسع يخضع خضوعًا محسًّا للتفكير المصري، فإن نشاط التجارة كان محصورًا من قبل في تخوم وادي النيل قبل أن يألف المصريُّ العالمَ الخارجي، ولم يكن في مقدور المعاملات التجارية وحدها مع عالم أوسع من مصر أن يزحزح تقاليد البلاد عما كانت عليه، فكم من تاجر في «بابل» النائية وفي «طيبة» المصرية قد رأى حجرًا يسقط من حالق إلى الأرض، ولكنه لم يدرك تلك القوة الطبعية قوة الجاذبية، تلك القوة التي اهتدى إلى سرها ذلكم الصبي الراقد تحت شجرة التفاح بعد تلك العهود بأمد طويل (نيوتن)، وكم من تاجر قد رأى الشمس تبزغ خلف معابد بابل وبين مسلات «طيبة»، ولكنه لم يصل إلى كنهها الحقيقي، وإذا كان «تحتمس» قد قال عن إله الشمس «إنه يرى جميع العالم في كل ساعة»، فإنه يقصد بذلك تلك السلطة الإمبراطورية التي تناولت أولًا خيال رجال الإمبراطورية المفكرين، وكشفت لهم المجال العالمي لممتلكات إله الشمس في صورة مجسمة، فالتوحيد إذن لم يكن إلا السلطان الإمبراطوري في التدين، ففي عهد «أمنحتب الثالث» الذي كان من أعظم أباطرة مصر نرى توأمين من رجال العمارة هما «سوتي» و«حور» كانا يعملان في طيبة لحسابه، وقد ترك لنا أنشودة للشمس فوق لوحة موجودة الآن بالمتحف البريطاني توضح لنا مدى ميل ذلك العصر، كما توضح لنا المجال الآخذ في الاتساع الذي كان رجال الإمبراطورية يحلمون به مدركين أن مملكة إله الشمس لا حدَّ لها في امتدادها واتساع رقعتها.

وهذه الأنشودة الشمسية تحتوي على أسطر خطيرة المعنى وهي:٣٠
إنك صانع مصوِّر لأعضائك بنفسك
ومصوِّر دون أن تصوِّر
منقطع القرين في صفاته مخترق الأبدية
مرشد «الملايين» إلى السبل
وعندما تقلع في عرض السماء يشاهدك كل البشر
على الرغم من أن سيرك خفي عن أنظارهم
إنك تجتاز سياحة مقدارها فراسخ
بل مئات الآلاف وملايين المرات
وكل يوم تحتك (تحت سلطانك)
وحينما يأتي وقت غروبك
تصغى إليك أيضًا ساعات الليل
ولا يكون اجتيازها نهاية كدك
كل الناس تنظر بوساطتك
وأنت خالق الكل ومانحهم قوتهم
وأنت أم نافعة للآلهة والبشر
وأنت صانع مجرب …
وراعٍ شجاع يسوق ماشيته
وأنت ملجؤها ومانحها قوتها …
وهو الذي يرى ما خلق …
والسيد الأحد الذي يأخذ جميع من في الأراضي أسرى كل يوم
بصفته واحدًا يشاهد من يمشون فيها
ومضيء في السماء كائن كالشمس
وهو يخلق الفصول والشهور
والحرارة عندما يريد
والبرد عندما يشاء
فكل البلاد في فرح
عند بزوغه كل يوم لأجل أن تسبح له.

ولم تصل إلينا وثيقة تضم تعبيرات صريحة عن التفكير المصري أقدم من هذه؛ إذ جاء فيها: «السيد الأحد الذي يأخذ جميع من في الأرض أسرى كل يوم بصفته واحدًا يشاهد السائرين عليها.» ومن الأمور الهامة أن ندرك أن ذلك الاتجاه كانت له علاقة مباشرة بالحركة الاجتماعية في العصر الإقطاعي المصري؛ إذ إن النعوت التي كان يُنعت بها إله الشمس مثل قوله: «الراعي الشجاع الذي يسوق ماشيته، وهو ملجؤها ومانح قوتها.» تشبه تلك التي وُجدت قديمًا في عهد النصائح التي وُجهت إلى «مريكارع»، فقد سُمي الناس في هذه: «قطعان الإله»، وكذلك تشبه أفكار «أبور» حيث يقول: «إنه راع لجميع الناس.» ويلفت نظرنا كذلك نعت آخر هو «أم نافعة للإله والبشر»؛ لأنه يحمل في ثناياه فكرة تشعر بالاهتمام ببني البشر. على أن النواحي الإنسانية في سلطان إله الشمس التي اشترك في إيجادها بصفة خاصة المفكرون في العهد الإقطاعي لم تختفِ بين العوامل السياسية القوية التي ظهرت في ذلك الميدان العالمي الجديد.

ولقد تقدم لنا بيان ما قام من النزاع الشديد بشأن العرش حوالي سنة ١٣٧٥ق.م، عندما خلف «أمنحتب الرابع» والده «أمنحتب الثالث»، وميل الملك الشاب إلى إله الشمس القديم وإعراضه عن مذهب «آمون» الذي أطلق عليه أتباعه «آمون رع» قاصدين بذلك أنه اتحد مع إله الشمس «رع»، وبينا كذلك أن «أمنحتب الرابع» ناصر في باكورة حكمه فكرة جديدة للمذهب الشمسي ربما كان غرضه منها التوفيق بين المذهبين.

وقد حدث في الوقت الذي كان فيه موقف البلاد المصرية السياسي في «آسيا» في غاية الحرج أن كان الملك منهمكًا بكل حماسة في تعضيد التسلط العالمي لإله الشمس الذي أدركنا كنهه في أيام والده، فأعطى هذا الملك إله الشمس اسمًا جديدًا خلص به المذهب الجديد من التقليد المحفوف بخطر الشرك في «اللاهوت الشمسي القديم»، فصار إله الشمس يُسمَّى وقتئذٍ «آتون»، وهو اسم قديم يُطلق على الشمس المجسمة.

ومن المحتمل أن هذه التسمية كانت لا تدل إلا على قرص الشمس فحسب. وهذا الاسم الجديد ذُكر مرتين في أنشودة رجال عمارة «أمنحتب الثالث» التي اقتبسنا منها جزءًا فيما تقدم. وكأن هذا الاسم قد لاقى بعض الإقبال في عهد ذلك الملك الذي سُمي به أحد قواربه الملكية «آتون يسطع»، كما أسلفنا.

ولم يقتصر الحال على إعطاء إله الشمس اسمًا جديدًا بل منحه ذلك الملك الشاب رمزًا جديدًا. فقد ذكرنا فيما مر سابقًا أن أقدم رمز لإله الشمس كان هو الشكل الهرمي — كما كان يُرمز له كذلك بالصقر؛ لأن صورة ذلك الطائر كانت تدل عليه. وعلى أية حال، فإن هذين الرمزين كانا مفهومين بين سكان وادي النيل فحسب، ولكن «أمنحتب» الرابع كان في مخيلته وقتئذٍ مسرح أفسح وأوسع من القطر المصري؛ إذ إن الرمز الجديد قد مثل لنا الشمس بقرص تخرج منه أشعة متفرقة تنتشر فوق الأرض كما كان كل شعاع من أشعته ينتهي طرفه بهيئة يد بشرية.

وقد كان ذلك الرمز يدل على السيطرة القوية الخارجة من منبعها السماوي، وهي تضع أيديها تلك فوق العالم وعلى شئون البشر الأرضية، مع أن أشعة إله الشمس منذ عصر «متون الأهرام» قد شبهت بذراعين له. وظن الناس إذ ذاك أنها نائبة عنه في الأرض.

«إن ذراعي أشعة الشمس قد رُفعت مع الملك (وناس) صاعدة به إلى السموات.» وقد كان ذلك الرمز سهل الفهم لكل البشر الذين يسيطر عليهم الفرعون كما كان معناه واضحًا كل الوضوح، حتى إنه كان في استطاعة سكان نهر الفرات، أو رجال بلاد النوبة على النيل السوداني أن يدركوا معناه على الفور. على أن ذلك الرمز لم تقتصر دلالته على السيطرة العالمية فحسب، بل صار خليقًا بأن يكون رمزًا عالميًّا إلى أقصى حد. وكذلك قد بُذلت بعض الجهود لتعريف تلك القوة الشمسية التي رُمز لها بتلك الصورة، فقد كان اسم إله الشمس الكامل: «حور أختي (حور الأفق) فرحًا في الأفق٣١ باسمه الحرارة التي في «آتون».» وكان ذلك الاسم يُوضع في طغراءين ملكيتين مثل اسم الفرعون المزدوج (يعني اسمه ولقبه). وهذا الوضع مأخوذ من مشابهة سلطان «آتون» لسلطان الفرعون. وذلك برهان آخر يدل على التأثير الذي أوجدته الإمبراطورية المصرية بصفتها الحكومية في مذهب اللاهوت الشمسي. ولكن الاسم الموضوع في الطغراءين حدَّد لنا بوجه عام مقدار القوة الجثمانية الحقيقية للشمس في العالم المحس، ولم يكن في الوقت نفسه يمثل شخصية سياسية ما.٣٢

والكلمة المصرية القديمة التي ترجمتها في اسم ذلك الملك «حرارة» قد يكون معناها أحيانًا «نورًا» أيضًا.

ومن الواضح أن ما كان الملك يعبده هو القوَّة الدالة على وجود الشمس فوق الأرض. وكل الأدلة الكثيرة التي نجدها في أناشيد «آتون» منسجمة مع تلك النتيجة كما هي منسجمة في الأناشيد الآتية بعد هذا، وهي التي نرى فيها «آتون» نشطًا باسطًا أشعته على كل مكان فوق وجه الأرض.

ومع أنه كان من الواضح أن ذلك المذهب الجديد قد استقى وحيه من مدينة «هليوبوليس» حتى إن الملك الذي كان يحمل لقب الكاهن العظيم للإله «آتون» سمى نفسه «الرائي العظيم»، وهو نفس كاهن «هليوبوليس» العظيم، فإنه على الرغم من كل ذلك كان قد أزال معظم سقط المتاع القديم من الشعائر التي كانت تتألف منها ظواهر اللاهوت التقليدية، ولذلك ترانا نبحث عبثًا في ذلك اللاهوت الجديد عن السفن الشمسية، كما ترانا نبحث عبثًا عن باقي الإضافات التي أُدخلت فيما بعد على المذهب الشمسي في مثل السياحة في كهوف الأموات السفلية وغير ذلك؛ إذ قد مُحيت منه جملة.

فإذا كان الغرض الذي رمت إليه حركة مذهب «آتون» هو التوفيق بينها وبين كهنة «آمون»؛ فإنها قد فشلت وقام بينها ألد الخصام الذي اشتد وبلغ الذروة عندما صمم الملك أن يتخذ من «آتون» إلهًا واحدًا للإمبراطورية المصرية، ويقضي على عبادة «آمون». وقد نتج عن ذلك المجهود الذي بُذل لمحو كل الآثار الدالة على وجود «آمون» أن اتخذت جميع الإجراءات الممكنة المؤدية إلى ذلك الغرض؛ إذ نجد أن الملك قد غيَّر اسمه من «أمنحتب» يعني «آمون راضٍ» إلى «إخناتون» يعني «آتون راضٍ»، وذلك الاسم الجديد الذي اتخذه الملك لنفسه هو ترجمة للاسم القديم للملك بفكرة مماثلة لما كانت عليه، غير أنه حُوِّل إلى مذهب «آتون» هذا من جهة، وكان اسم «آمون» من الجهة الأخرى يُمحى أينما وُجد فوق آثار «طيبة» العظيمة، ولم يحترم الملك تنفيذًا لفكرته هذه أيَّ نقش وإن كان المنقوش اسم والده الملك «أمنحتب الثالث». لم يكن الأمر قاصرًا على محو اسم «آمون» فحسب بل تعداه إلى كلمة الآلهة جمعًا، فإنه كان يأمر بمحوها أيضًا أينما وُجدت كأنه رأى أن الجمع مظنة لتعدد الآلهة فمحاه، كذلك عُومِلَتْ أسماء سائر أفراد الآلهة الآخرين معاملة «آمون» بالمحو.

وقد هجر الملك «إخناتون» طيبة على الرغم مما كان لها من السيادة والأبهة عندما وجد ارتباكها بالتقاليد اللاهوتية القديمة التي كانت أكثر مما يلزم، وأقام لنفسه حاضرة جديدة في منتصف الطريق بين «طيبة» والبحر تقريبًا في بقعة تُعرف في وقتنا هذا باسم «تل العمارنة» وسماها «إختاتون» (أفق آتون) كما شرحنا ذلك، كما أسس في بلاد النوبة مدينة «لآتون» مشابهة لها. ومن المحتمل جدًّا أنه أقام مدينة أخرى لذلك الإله في «آسيا»، وبذلك صار لكلٍّ من ثلاثة الأجزاء العظيمة التي تتألف منها الدولة وهي «مصر» والنوبة و«سوريا» مقرٌّ لمذهب «آتون». وقد شِيدت كذلك معابد أخرى لآتون في أماكن مختلفة من مصر غير المعابد المبنية في تلك الحواضر، ولم يتم ذلك طبعًا دون تأليف حزب قوي من رجال البلاط الملكي يمكن للملك به أن يناهض أولئك الكهنة المنبوذين، وبخاصة كهنة «آمون». وقد أثرت تلك الفتنة التي نتجت عن ذلك الانقلاب بلا شك تأثيرًا خطيرًا في قوة البيت المالك؛ إذ كان حزب ذلك البلاط الذي نما إذ ذاك في ظل «إخناتون» يعمل معه جاهدًا على نشر ذلك المذهب الديني الجديد الذي يصح أن يُعد أهم دور وأبهجه في تاريخ ذلك الشرق القديم، يدلنا على ذلك ما بقي من نقوش فوق جدران تلك المقابر التي نحتها الملك في الصخر لأشراف رجاله قبالة الجبال المنخفضة التي تقع في الهضبة الشرقية القائمة خلف تلك المدينة الجديدة.

والواقع أننا مدينون لمقابر أتباع ذلك الملك بمعلوماتنا هذه التي تتضمن تلك التعاليم الهامة التي كانت تُنشر في تلك الفترة، وهي تحتوي على سلسلة أناشيد في مدح إله الشمس، كما تحتوي على مديح إله الشمس والملك بالتبادل. تلك التعاليم تمدُّنا على الأقل بلمحة من عالم الفكر الذي نشاهد فيه ذلك الملك الشاب وأتباعه رافعين أعينهم نحو السماء محاولين بذلك إدراك مجال الذات الإلهية في بهائها الأبدي الذي لا حد له ولا نهاية، وهي الإلهية التي لم ينحصر سلطانها بعد في وادي النيل، بل امتد بين جميع البشر في العالم كله.

ولا يمكننا الآن أن نأتي بشيء عند هذه السانحة أفصح من تلك الأناشيد التي تقص علينا بنفسها شيئًا عن تلك التعاليم، وأطول أنشودة٣٣ بينها وأهمها هي الآتية بعد.
(راجع Davies, “El Amarna”, Vol. VI, Pl. XXVII, XLI; & Sandman Text From The Time of Akhenaton p. 93ff.)

«بهاء آتون» وقوته العالمية

أنت تبزغ بجمالك في أفق السماء
أنت يا «آتون» الحي الذي كنت في أزلية الحياة
فحينما كنت تشرق في الأفق الشرقي
كنت تملأ كل البلاد بجمالك
أنت جميل ومتلألئ ومشرق فوق كل أرض
أشعتك تحيط بالأرضين حتى نهاية جميع مخلوقاتك
أنت «رع»، وأنت تخترق حتى نهايتها القصوى (يعني الأرضين)
وأنت توثقهم (يعني البشر) لابنك المحبوب (يعني الفرعون)
وعلى الرغم من أنك قصي جدًّا فإن أشعتك فوق الأرض
وعلى الرغم من أنك نجاة البشر فإن خطواتك خفية (عنهم).

الليل والإنسان: موازنة (الأنشودة)

حينما٣٤ تغيب في أفق السماء الغربي، فإن الأرض تظلم كالموت، فينامون في حجراتهم ورءوسهم ملفوفة. ومعاطسهم مسدودة، ولا يرى إنسان الآخر في حين أن أمتعتهم تُسرق وهي تحت رءوسهم وهم لا يشعرون بذلك.

المزامير

تجعل ظلمة فيكون فيه يد كل حيوان الوعر (المزمور ١٠٤: ٢٠).

ونظمها بعض النصارى فقال:

تجعل ظلمة فذا
ك الليل أسدلا
والحيوان عند ذا
يدب في الفلا

نظم المزامير (١٠٤: ٢٠).

الليل والحيوان: موازنة (الأنشودة)

وكل أسد يخرج من عربته (ليفترس)، وكل الثعابين تنساب لتلدغ والظلام يخيم، والعالم يكون في صمت في حين أن الذي خلقهم باقٍ في أفقه.

المزامير

الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها (المزمور ١٠٤: ٢١).

وقد نظمها بعض النصارى فقال:

تزمجر الأشبال كي
تخطف ما تراه
كذا لكي تلتمس الـ
ـطعام من الله

(مزمور ١٠٤: ٢١).

النهار والإنسان: موازنة (الأنشودة)

والأرض زاهية حينما تشرق في الأفق عندما تضيء بالنهار مثل «آتون»، فإنك تقصي الظلمة إلى بعيد. حينما ترسل أشعتك تصير الأراضي في عيد. والناس يستيقظون ويقفون على أقدامهم عند إيقاظك لهم، وبعد غسلهم لأجسامهم يلبسون ثيابهم ثم يرفعون أذرعتهم تعبدًا لطلعتك، ثم بعد ذلك يقومون إلى أعمالهم في كل العالم.

المزامير

تشرق الشمس فتجتمع، وفي مآويها تربض، الإنسان يخرج لعمله وإلى شغله إلى المساء. (المزمور ١٠٤: ٢٢-٢٣).

ونظمها بعض النصارى فقال:

إذ تشرق الشمس ترا
ها اجتمعت للحين
ثم انزوت رابضة
في وسط العرين
فيخرج الإنسان للـ
ـدخول في الأعمال
ويبقى إلى المساء في
دوائر الأشغال

(نظم المزامير ١٠٤: ٢١–٢٣).

النهار والحيوان والنبات

وجميع الماشية ترتع في مراعيها، والأشجار والنبات تينع، والطيور في مستنقعاتها ترفرف، وأجنحتها منتشرة إليك تعبدًا، وجميع الغزلان ترقص على أقدامها، وجميع المخلوقات التي تطير أو تحط تحيا عندما تشرق عليها.

النهار والمياه: موازنة (الأنشودة)

والسفن تقلع في النهر صاعدة أو منحدرة فيه على السواء. كل فج مفتوح لشروقك، والسمك يسبح في النهر أمامك، وأشعتك تنفذ إلى أعماق البحر الأخضر العظيم.

المزامير

هذا البحر الكبير الواسع الأطراف، هناك دبابات بلا عدد صغار حيوان مع كبار، هناك تجري السفن لوياثان، هذا خلقته ليلعب فيه.

(المزمور ١٠٤: ٢٥-٢٦).

ونظمها بعض النصارى فقال:

فالأرض ممتلئة
من خيرك الغزير
وبحرها المتسع الـ
أطراف والكبير
ليس لدباباته
عدٌّ ولا انحصار
فالحيوانات به الـ
ـكبار والصغار
هناك تجري سفن
تأتي وتذهب
لوياثان فيه قد
خلقت يلعب

خلق الإنسان

أنت خالق الجرثومة في المرأة، والذي يذرأ من البذرة أناسًا، وجاعل الولد يعيش في بطن أمه مهدئًا إياه حتى لا يبكي، مرضعًا إياه حتى في الرحم، وأنت معطي النفس حتى تحفظ حياة كل إنسان خلقته حينما ينزل من الرحم (أمه) في يوم ولادته، وأنت تفتح فمه تمامًا وتمنحه ضروريات الحياة.

خلق الحيوان

وحينما يصير الفرخ في لحاء البيضة تعطيه النفس ليحفظه حيًّا في وسطها. وقد قدَّرت له ميقاتًا في البيضة ليخرج منها، وهو يخرج من البيضة في ميقاته (الذي قدَّرته له) فيمشي على رجليه حينما يخرج منها.

الخلق العالمي (الأنشودة)

ما أكثر تعدد أعمالك وهي على الناس خافية، يا أيها الإله الأحد الذي لا يوجد بجانبه شأن لأحد، لقد خلقت الأرض على حسب رغبتك، وحينما كنت وحيدًا (لا شيء غيرك) خلقت الناس وجميع الماشية والغزلان وجميع ما على الأرض مما يمشي على رجليه وما في عليين مما يطير بأجنحته، وفي الأقطار العالية «سوريا» و«كوش» وأرض مصر، وإنك تضع كل إنسان في موضعه وتمدهم بحاجاتهم وكل إنسان لديه قوته. وأيامه معدودات، والألسنة في الكلام مختلفة، كذلك تختلف أشكالهم وجلودهم، وإنك تخلق الأجانب مختلفين.

المزامير

ما أعظم أعمالك يا رب، كلها بحكمة صنعت، الأرض ملأى بغناك.

ونظمها بعض النصارى فقال:

يا رب ما أعظم أعـ
ـمالك يا منان
جميعها صنعت بالحـ
ـكمة والإتقان
فالأرض ممتلئة
من خيرك الغزير
وبحرها المتسع الـ
أطراف والكبير

(نظم المزامير ١٠٤: ٢٤-٢٥).

ري الأراضي في مصر وفي خارجها

أنت تخلق النيل في العالم السفلي
وأنت تأتي به كما تشاء
ليحفظ أهل مصر أحياء (كلمة أهل استعملت هنا فقط لأهل مصر)
لأنك خلقتهم لنفسك
وأنت سيدهم جميعًا
وأنت الذي تنهك٣٥ نفسك من أجلهم
وأنت شمس النهار عظيم الافتخار
وجميع الأقطار العالمية القاصية
تخلق حياتها أيضًا
لقد وضعت نيلًا في السماء
حينما ينزل لهم يصنع أمواجًا فوق الجبال
مثل البحر الأخضر العظيم
فيروي حقولهم في مدنهم
ما أكرم مقاصدك يا رب الأبدية
ويوجد نيل في السماء للأجانب
لأجل غزلان كل الهضاب التي تتجول على أقدامها
أما النيل فإنه يأتي من العالم السفلي لمصر.

فصول السنة

أشعتك تغذي كل بستان (كلمة تغذية هنا تعني تغذية الأم لطفلها)
وعندما تبزغ فإنها تحيا
فهي تنمو بك
أنت تخلق الفصول
لأجل أن ينمو كل ما صنعت
فالشتاء يأتي إليهم بالنسيم العليل
والحرارة لأجل أن تستطعمهم (أي يكون لها طعم لذيذ في فمك).

السيطرة العالمية

أنت خلقت السموات العُلى لتشرق فيها
ولتشاهد كل ما صنعت حينما كنت لا تزال وحيدًا (لا شيء غيرك)
مضيئًا في صورتك مثل «آتون» الحي
وبازغًا وساطعًا وذاهبًا بعيدًا وآيبًا (في الغدوِّ والآصال)
وأنت تخلق آلاف الآلاف من الصور منفردًا بنفسك
والمدن والقرى والحقول والطرق العامة والأنهار
وجميع العيون تراك تجاهها
لأنك «آتون» (شمس) النهار فوق الأرض
وحينما تغيب
وجميع الناس الذين سويت وجوههم
لأجل ألا ترى نفسك بعيدًا وحيدًا
يغشاهم النعاس حتى لا يرى واحد منهم ما قد خلقته
ومع ذلك فإنك لا تزال في قلبي.

وحي الملك

«ليس هناك واحد آخر يعرفك إلا ابنك «إخناتون».»
«لقد جعلته عليمًا بمقاصدك وبقوتك.»

الوقاية العالمية

العالم يعيش بصنيع يدك
فيحيا حينما تشرق
ويموت حينما تغيب
لأن حياتك طول مدى نفسك
والناس يعيشون بوساطتك
وأعين الناس لا ترى إلا جمالك حتى تغيب
وكل نصب يُطرح جانبًا
وحينما تغيب في الغرب وحينما تشرق ثانية
فإنك تجعل كل كف يندى لأجل الملك
والخير في إثر كل قدم
منذ أن خلقت العالم
وأوجدتهم لابنك
الذي وُلد من لحمك
ملك الوجه القبلي والوجه البحري
العائش في الصدق رب الأرضين
«نفر» – «خبرو» – «رع» – «وع ن رع» (إخناتون)
ابن «رع» العائش في الصدق رب التيجان
«إخناتون» ذو الحياة الطويلة
«ولأجل» كبرى الزوجات الملكية محبوبته
سيدة الأرضين «نفر» – «نفرو» – «آتون» – «نفرتيتي»
عاشت وازدهرت أبد الآبدين.

ويحتمل ألا تمثل هذه الأنشودة الملكية إلا قطعة منتخبة أو سلسلة منتخبة من شعائر «آتون» كما كان يُحتفل بها من يوم لآخر في معبد «آتون» بتل العمارنة.

ومما يُؤسف له أن هذه الأنشودة لم تُدون إلا في مقبرة واحدة فقط من تلك الجبانة، وقد فُقد منها نحو ثلثها من جراء تعدي المخربين من الأهالي الحاليين؛ ولذلك لم يصلنا من الجزء المفقود إلا نسخة نُقلت بغير اعتناء وعلى عجل منذ خمسين سنة (أي سنة ١٨٨٣م).

وأما المقابر الأخرى فقد كُتبت نقوشها الدينية بالنقل عن الفقرات التي كانت شائعة الاستعمال وقتئذٍ وعن الجمل التي كان علمها مفروضًا، وهي التي عرفنا منها مذهب «آتون» كما فهمه الكتاب والرسامون الذين قاموا بزخرفة تلك المقابر.

ويجب علينا ألا ننسى أن المنتخبات التي بقيت لنا في جبانة «تل العمارنة» من مذهب «آتون» وهي مصدرنا الرئيسي؛ قد وصلت بشكل آلي إلى فئة قليلة من الكَتَبَة المهملين غير المدققين ذوي العقول الخاوية الفاترة. وهؤلاء كانوا لا يُعدون إلا أذنابًا لحركة عقلية دينية عظيمة.

وغير هذه الأنشودة الملكية نجد أن أولئك الرسامين كانوا قانعين في كل مكان بالقطع والنتف التي نُقلت في بعض الأحوال من تلك الأنشودة الملكية نفسها أو بقطع أخرى مرقعة وُضعت بهيئة أنشودة قصيرة حيث ينقشونها كلها أو بعضًا منها على هذا القبر أو ذاك وهم في ذلك ليسوا إلا مسخَّرين فيما يعملون. ولما كانت المواد التي في متناولنا عن ذلك المذهب ضئيلة إلى هذا الحد مع أهمية الحركة التي أماطت لنا عنها اللثام، فإن تلك المعلومات الجديدة القليلة — التي تمدنا بها تلك الأنشودة القصيرة — صارت لها قيمة عظيمة.

وقد عُزيت تلك الأنشودة في أربع حالات إلى الملك نفسه — أي إن الملك يُشاهد وهو ينشدها أمام «آتون».

وهاك نصها كما جاءت:٣٦
أنت تشرق بجمالك يا «آتون» الحي يا رب الأبدية
إنك ساطع وقوي وجميل
وحبك عظيم وكبير
أشعتك تمد بالبصر كل واحد من مخلوقاتك
ولونك الملتهب يجلب إلى قلوب البشر الحياة
عندما تملأ بحبك الأرضين
إيه أيها الإله الذي سوَّى نفسه بنفسه
وخالق كل أرض
وبارئ كل من عليها
والناس، وكل قطعان الماشية والغزلان
وكل الأشجار التي تنمو فوق التربة
فإنها تحيا عندما تشرق عليهم
وأنت الأب والأم لكل من خلقته
وعندما تشرق فإن عيونهم ترى
بوساطتك
وتضيء أشعتك كل العالم
وينشرح بسبب رؤيتك كل قلب
عندما تشرق بصفتك سيدهم.

•••

وعندما تغيب في أفق السماء الغربي
ينامون كأنهم أموات
وتدور رءوسهم
وتقف معاطسهم
حتى يعود شروقك في الصباح
في أفق السماء الشرقي
وعندئذٍ يرفعون أذرعتهم إليك تعبدًا
وتجعل قلوب البشر تحيا بجمالك
لأن الناس تحيا عندما ترسل أشعتك
ويكون جميع الكون في عيد
فالغناء والموسيقى وتهليل الفرح
تكون في قاعة بيت «بنبن»٣٧
وفي معبدك في «إختاتون» ومكان الصدق (ماعت)
حيث تكون فيه مسرورًا
ويُقدم لك فيه الطعام والمئونة
ويؤدي لك ابنك الطاهر احتفالاتك السارَّة
يا «آتون» الحي في مواكبه البهجة
كل ما خلقته يطرب أمامك
ويفرح ابنك الجليل وقلبه في حبور
آه يا «آتون» الحي المولود كل يوم في السماء
إنه يلد ابنه الجليل وع-ن-«رع إخناتون»
مثل نفسه دائمًا
ابن الشمس اللابس جماله «نفر خبرو-رع-وع-ن-رع (إخناتون)»
وحتى أنا ابنك الذي تسر به
والذي يحمل اسمك
قوَّتك وبطشك يسكنان في قلبي
وحتى أنت يا آتون العائش الأبدي
لقد خلقت السماء العليا لتشرق فيها
لأجل أن تشاهد كل ما صنعته
عندما كنت لا تزال وحيدًا (لا شيء غيرك)
وعشرات آلاف الأنفس موجودة فيك لتحفظها حية
لأن مشاهدة٣٨ أشعتك هو نفس الحياة في المعاطس
وجميع الأزهار تحيا وكل ما تنبت الأرض يحيا
ويصير ناميًا لأنك تشرق
فهي نشوى أمامك
وجميع الماشية تطفر على أقدامها
والطيور تطير في المستنقع من الفرح
وأجنحتها التي كانت مطوية تنتشر
مرفوعة لآتون الحي تعبدًا
أنت يا خالق٣٩

ففي هذه الأناشيد تُوجد قوة عالمية ملهمة لم توجد من قبل، لا في الفكر المصري القديم، ولا في فكر أية مملكة أخرى، فهي تشمل في مداها العالم كله، كما يدعي الملك أن الاعتراف بسيادة إله الشمس العالمية كان كذلك شاملًا، وأن جميع البشر يعترفون بسلطانه، وكذلك قال الملك عنهم في لوحة الحدود العظيمة:

إن آتون خلقهم (لنفسه هو)
فجميع الأراضي وأهل بحر إيجة يحملون
ضرائبهم وجزيتهم فوق ظهورهم إلى الذي
أوجد حياتهم والذي بأشعته يحيا البشر
وينشق الهواء.

ومن الواضح أن «إخناتون» كان يبرز بذلك دينًا عالميًّا يحاول أن يحل محل القومية المصرية التي سبقته وسارت عليها البلاد خلال عشرين قرنًا مضت. وبجانب تلك القوة العالمية نجد كذلك أن «إخناتون» كان يتأثر تأثر عميقًا بأزلية إلهه. وكان الملك نفسه يتقبل — بسكينة واطمئنان — فناء نفسه. فنراه في باكورة حكمه في «تل العمارنة» يعلن التعليمات الدقيقة الخاصة بدفنه فيما بعد الموت، ويسجلها باستمرار فوق اللوحات التي أقامها على الحدود المصرية، ولكنه مع ذلك كان يعتمد على علاقته الوثيقة «بآتون» حتى يضمن له شيئًا من خلود إله الشمس، ومن أجل ذلك كان يحتوي لقبه الرسمي دائمًا بعد ذكر اسمه على النعت الآتي: «الذي مدة حياته طويلة.»

ولكن في بداية كل شيء برأ «آتون» نفسه من الوحدة الأزلية — أي إنه الخالق لكينونة نفسه — إذ نجد في إحدى لوحات «تل العمارنة» العظيمة أن الملك يسميه هكذا:

سوري المكون من «مليون» زراع
ومذكري بالأبدية
وحجتي لأشياء الأبدية
وهو الذي سوَّى نفسه بنفسه بيده هو
والذي لا يعرفه صانع.
ونجد أن الأناشيد تميل بانسجام مع هذه الفكرة إلى أن تردِّد تلك الحقيقة القائلة: «إن خلق العالم الذي يلي ذلك قد حدث حينما كان لا يزال وحيدًا.» (لا شيء غيره)، وتكاد الكلمات «حينما كنت لا تزال وحيدًا لا شيء غيرك» تكون نداءً يُردَّد في تلك الأناشيد. وهو الخالق العالمي الذي ذرأ كل أجناس البشر، وميَّز بعضهم عن بعض٤٠ في اللغة واللون والجلد، ولا تزال قوته المنشئة مستمرَّة تأمر بالخروج من العدم إلى الحياة حتى البيضة الجامدة.

ولم يظهر عجب الملك بشكل بارز في أي مكان آخر أكثر مما نجده مذكورًا بسذاجة في تعبيره عن قوة إله الشمس المانحة الحياة في تلك المعجزة التي تتمثل في أنه داخل لحاء البيضة التي يسميها الملك «حجر البيضة»؛ أي في هذا الحجر الذي لا حياة فيه؛ تجيب أصوات الحياة نداء أمر «آتون»، فيخرج مخلوق حي بعد أن أنعشه النفس الذي يمنحه إياه (ذلك الإله). وتلك القوة المانحة الحياة هي مصدر الحياة الدائمة الزاد، والوساطة المباشرة لها هي أشعة الشمس التي تجلب النور والحرارة إلى الناس.

وذلك الاعتراف المدهش بنشاط الشمس بصفتها منبع الحياة فوق الأرض يُردَّد باستمرار دائم.

فالأناشيد تميل إلى الإمعان في ذكر أنها قوة عتيدة على الدوام، وهاك بعض الأمثلة:

أنت في السماء ولكن أشعتك فوق الأرض
أشعتك تنفذ إلى أعماق البحر الأخضر العظيم
أشعتك فوق ابنك المحبوب
ذلك الذي يجعل بأشعته الأعين سليمة
إن مشاهدة أشعتك هي نفس الحياة في المعاطر
والطفل (يعني الملك) الذي ولد من أشعتك
وقد سوَّيته (يعني الملك) من أشعة نفسك
أشعتك تحمل ألف الألف من الأفراح الملكية
وحينما ترسل أشعتك فإن الأرضين «تكونان في فرح»
«أشعتك تشمل الأرضين وحتى كل ما صنعته».

وسواء أكان في السماء أم في الأرض فإن كل الأعين تشاهده دائمًا وهو يملأ «كل الكون» بأشعته ويجعل كل البشر يعيشون.

واعتماد مصر في حياتها على «النيل» جعل من المستحيل تجاهل ذلك المنبع الحيوي في عقيدة الملك «إخناتون»؛ إذ الواقع أنه لا شيء يكشف لنا بوضوح عقيدة «إخناتون» وقوة عقله أكثر من أنه محا طائفة الأساطير التي كانت محترمة، والتقاليد التي جعلت «النيل» الإله «أوزير» عدة أزمان، ثم نسب الفيضان في الحال إلى قوى طبعية يسيطر عليها ذلك الإله. وهو الذي خلق — بمثل ذلك الاهتمام — للبلاد الأخرى نيلًا آخر في السماء.

وقد تُجوهل كليةً الإله «أوزير»؛ فلم يُذكر قط في كل الوثائق الإخناتونية، ولا في أي قبر آخر من قبور «تل العمارنة».

ثم ينتقل عند هذه النقطة تفكير «إخناتون» إلى ما وراء الاعتراف المادي المحض عن نشاط الشمس فوق الأرض؛ إذ يدرك اهتمام «آتون» الأبوي بجميع المخلوقات.

وذلك التفكير هو الذي رفع من شأن الحركة التي قام بها «إخناتون» إلى حدٍّ بعيد فوق ما كانت قد وصلت إليه ديانة قدماء المصريين أو ديانات الشرق بأجمعه قبل ذلك الوقت؛ حيث كان إله الشمس في نظر «إبور» «راعيًا شفيقًا» كما تقدَّم ذكره فيما سبق، كما كان الناس في نظر «مريكارع» كذلك كما سبق أيضًا «(قطعانه) التي من أجلها صنع الهواء والماء والطعام.»

ولكنا نجد أن «إخناتون» يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يقول لإله الشمس: «أنت أب وأم لكل ما صنعت.»

وذلك التعليم هو الذي ينبئ عن كثير من التطور المقبل في «دين القوم» حتى إلى عصرنا الحالي، فكان جميع العالم الحي في نظر تلك الروح الحساسة التي كانت تدب في نفس ذلك الخيالي المصري يملؤه شعور قوي بوجود «آتون» وبالاعتراف بشفقته الأبوية، فمستنقعات السوس تينع أزهارها بإشعاع «آتون» الأخاذ الذي تنشر الطيور أجنحتها فيه «تعبدًا لآتون الحي»، وفيه تطفر الماشية فرحة في ضوء الشمس، ويثب السمك في النهر مرحبًا بالنور العالمي الذي ينفذ أشعته حتى في وسط البحر الأخضر العظيم.

كل تلك الأشياء تكشف لنا عن مدى إدراك ذلك الوجود العالمي لإله الطبيعة، وعن اقتناع باطني معترف بذلك الوجود عند كل المخلوقات.

ويوجد هنا تقدير لوحي الإله في العالم الحي كما سنجده فيما بعد ذلك العهد بنحو ٧٠٠ أو ٨٠٠ سنة مذكورًا في المزامير العبرية، وكذلك فيما جاء على لسان شعراء الطبيعة بيننا منذ عصر «ورد زورت».٤١

وظاهر أن أعمق المصادر قوة في تلك الثورة العظيمة — على الرغم من أصلها السياسي — يوجد في ذلك الالتجاء إلى عالم الطبيعة:

«تأمل سوسن الحقول». «فإخناتون» كان رجلًا مأخوذًا بالإله قد انقاد عقله بحساسية وإدراك مدهشين إلى البراهين المحسة الدالة على الإله الذي حوله.

وقد كان مأخوذًا بجمال النور الأبدي العالمي؛ ولذلك ترى أشعته تغمره في كل أثر صُوِّر عليه من آثاره التي بقيت لنا.

وقد كانت تلك الحال قاصرة عليه وعلى الملكة وأولاده؛ لأنه كان يدعي لنفسه علاقة لا يشاركه فيها أحد مع إلهه فهو الذي يدعو بقوله:

ليت عيني تنشرحان بمشاهدته يوميًّا
حينما يشرق في بيت «آتون» هذا ويملؤه
نفسه بأشعته هذه — ذلك الجميل في حبه
ويرسلها عليَّ في حياة راضية أبد الآبدين.
ويمرح الملك وحتى يسكر في ذلك النور الذي وحده أكثر من مرة مع الحب كما ذكرناه هنا، أو كذلك يوحده مع الجمال بمثابة أنه البرهان الظاهر الدال على وجود الإله، وذلك بنشوة قل أن يكون لها نظير، وفرح يبلغ حد الوله مثل الفرح الذي تشعر به روح كروح «رسكن»٤٢ عندما شاهد النور بتدبر، فقد وصفه «رسكن» كما رآه في إحدى حالاته:
النور المتنفس الحي المبتهج
الذي يشعر ويتسلم ويعمل
وينتخب شيئًا وينبذ آخر
ويبحث ويجد ويفقد ثانية
نافذًا من صخرة إلى صخرة
من ورقة إلى ورقة
ومن موجة إلى موجة
متوهجًا أو بارقًا أو متلألئًا
على حسب ما يصيب أو يكون ممتصًّا وغامرًا
لكل شيء وملتفًّا حوله في كمال سكونه العميق
وعندئذٍ نراه يُفقد ثانية في دهشة وشك وظلمة
أو يُمحى ويختفي وتراه واقعًا في حبائل الضباب الجارف
أو يذوب في الهواء مكتئبًا ولكنه مع ذلك لا يزال متأججًا
أو منحرفًا أو لامعًا أو ثابتًا
فهو النور الحي الذي يتنفس في أعمق سكونه
وأشده خلابة
وهو النور الذي ينام ولكنه لا يموت أبدًا.

فنجد في هذا الوصف الافتتان الحديث ببهجة النور وهو الإنجيل الحقيقي لجمال النور. وأقدم تلميذ له عبر عنه هو ذلك الخيالي الوحيد «إخناتون» الذي عاش خلال القرن الرابع عشر ق.م، وقد كان من الجائز كذلك في نظر «إخناتون» أن النور ينام حينما كان.

«يذهب خالق الأرض ليستريح في أفقه»، غير أنه كان في نظره كما كان في نظر «راسكن» «أنه ينام ولكن لا يموت أبدًا.»

وقد نجح الأستاذ «زيته» في ترجمة فقرة مهمشة في الأنشودة الكبرى تدل على أنه على الرغم من أن الظلمة قد خيمت، والناس نامت؛ فإن «إخناتون» يمكنه أن يشعر به حيث يقول: ومع ذلك فإنك لا تزال في قلبي.

فتلك الناحية من حركة «إخناتون» تدل إذن على أنها إنجيل الجمال والرأفة للنظام الطبيعي، كما هو اعتراف برسالة وحي الطبيعة إلى روح الإنسان؛ مما جعلها تُعَدُّ من أقدم النهضات التي نسميها «الرجوع إلى الطبيعة التي ظهرت في أقوال أمثال الفنانين «ملت» و«بيرنز» الشاعر الإيقوسي ومدرسته، و«وردزورث» وأخلافه؛ فالرسامون في ذلك الوقت كانوا يصوِّرون حياة مستنقعات البرية بروح جديد يختلف عن روح السرور الهادئ الذي صوَّر به رسامو «مصاطب الأهرام» قصور هؤلاء الهادئة التي تتمثل فيها نزهات الأشراف في حقول البردي تحلي جدران مزارات قبورهم بالجبانة «المنفية» بسقارة.»

وأما الصور التي رُسمت فوق الجص وهي التي تزين رقعة قاعة قصر «إخناتون» ذات الأعمدة «بتل العمارنة» فمملوءة بمناظر سارة للحياة جديدة، تشعرنا عند رؤيتها بشيء من العاطفة القوية التي أثارت يد المفتن حينما رأى بعيني ذهنه الثور الوحشي يقفز في أدغال البردي ضاربًا برأسه نحو الطيور الهلوعة المشقشقة فوق يراع المستنقع كأنها تؤنب ذلك الطفيلي الفظ الذي ينزل الضرر بأوكارها.

ولكن مما يؤسفنا أن تلك النقوش الفاخرة التي رُسمت فيها الحياة والحركة يتألقان، والتي طالما تمتعت بهما أعين الناظرين في عصرنا الحالي «بتل العمارنة» قد خربت إلى الأبد بأيدي أولئك المخربين الأحداث من أهالي تلك القرى المجاورة لبلدة «تل العمارنة».

وهذا الروح الجديد في عصر «إخناتون» الذي استمدَّ إلهامه من جمال الطبيعة وفيضها كان كذلك ذا حساسية من جهة حياة الإنسانية والعلاقات البشرية، فلم يزعجه مزعج من التقاليد؛ إذ مُثل بدون تكلف، ولا تُعمل علاقات «إخناتون» بأسرته باللون الطبيعي البهيج، وقد ظهر ذلك حتى فوق الآثار العامة؛ فقد عُثر على تمثال صغير غير تام الصنع في مصنع أحد المثالين الملكيين بتل العمارنة، لم يقتصر فيه صانعه على تمثيل الملك جالسًا فحسب مع ابنته الصغيرة فوق حجره، وهو يضمها٤٣ كما يضم الأب الملكي أميرة صغيرة، بل مُثل الفرعون وهو يقبل ابنته الصغيرة كما يفعل ذلك أي والد عادي بابنته، وليس من الصعب على الإنسان أن يتصور الحنق والهلع اللذين تبعثهما مثل تلك الصورة الملكية في شعور طائفة المحافظين على التقاليد في عصر «إخناتون»، وهم أولئك الأشراف رجال التقاليد في البلاط الملكي الذين يرون وجوب تصوير الفرعون كما كان يصوَّر منذ ألفي سنة في هيئة حضرة سامية جالسة في جلال جامد؛ أي صورة جامدة كأنها مقدسة، لا تشوبها أية خصلة أو إشارة من المشاعر البشرية أو جهات الضعف الإنسانية، وقد بقي لنا للآن ذلك الكرسي الجميل الذي جيء به من قصر «تل العمارنة» في مقبرة «توت عنخ آمون»، وهو مزين بمنظر يظهر فيه الملك الشاب جالسًا بحالة تدل على البساطة وعدم التكلف؛ إذ نشاهد إحدى ذراعيه وهو يلقيها باستهتار فوق ظهر كرسيه، في حين أن الملكة الشابة الجميلة ممثلة واقفة أمامه وفي يدها إناء صغير من العطور تصب منه برشاقة أنيقة بضع نقط من الطيب فوق ملابس زوجها الملك. ونجد هنا لأول مرة في تاريخ الفن منظرًا موضوعه علاقة الإنسان بالإنسان.
علاقة الإنسان بالإنسان: نجد هنا أن الفن المترجم يتخذ الحياة الإنسانية موضعًا لبحثه، وهذان مثلان فقط من بين الأمثلة العدة التي يمكننا ذكرها للاستدلال بها على شخصية «إخناتون» القوية، واستعداده الذي لا يأبه لإطراح قيود التقاليد بجرأة وبغير أدنى تردد حينما حاول تأسيس عالم من الأشياء على حقيقته الفطرية السليمة. ولذلك نرى من المهم أن نلاحظ هنا أن «إخناتون» كان رسولًا لكل من عالمي الطبيعة والحياة الإنسانية، فكان مثله في ذلك كمثل «عيسى» حيث استقى دروسه من سوسن الحقل، وطيور الهواء، وسُحُب السماء من جهة، ومن المجتمع الإنساني الذي يحيط به من جهة أخرى، كما يُفهم ذلك من مثل قصة الابن المبذر٤٤ والطبيب السامري٤٥ أو المرأة٤٦ التي أضاعت قطعة نقودها، وعلى ذلك النمط قد استقى ذلك الرسول المصري المجدد القديم تعاليمه من التدبر في مشاهد عالَمَي الطبيعة والحياة الإنسانية معًا.

ومع أن الفن المعبر عن تلك الحركة الثورية التي كان زمامها في يد «إخناتون» قد وجد رضًى جديدًا في الحياة الإنسانية، فإنه كان هناك شيء كثير لم يكن في مقدور «إخناتون» أن يتجاهله من التجاريب المصرية الشائعة بالوراثة في المجتمع البشري، فقد قبل تمامًا «إخناتون» بالوراثة المذهب الشمسي الذي ينطوي على نظام خُلقي عظيم، وإذا كنا قد خصصنا في كتابنا هذا للأخلاق عند قدماء المصريين جزءًا لا بأس به من عقيدة «التوحيد» الثورية التي قام بها «إخناتون»، فإن ذلك يرجع إلى أن تلك الحركة التوحيدية ليست إلا ذروة للاعتراف القديم بالنظام الخلقي الذي نُودي به على لسان المفكرين المصريين القدماء الذين عاشوا في عهد الأهرام، وهم الذين أسسوا مملكة عظيمة من القيم الخلقية العالمية التي كانت تمثلها تلك الكلمة الشاملة الجامعة «ماعت» (العدالة) التي أوجدها إذ ذاك إله الشمس في «هليوبوليس»، وقد انتشر ذلك التوحيد بوساطة أسس ثلاثة؛ أوَّلها وهو كما رأينا كان سياسيًّا، حتى إن اسم إله الشمس الجديد كان يوضع في طغراء باعتباره شعارًا ملكيًّا مزدوجًا. والثاني في ملاحظة أن سلطان إله الشمس وسيطرته العالمية بصفة قوة مجسمة حاضرة في كل مكان تظهر فيه حرارة الشمس ونورها فقط. والثالث كان في الانتشار المنطقي لمذهب «هليوبوليس» الخاص بالنظام الخُلقي الذي كان أقدم من عهد «إخناتون» بنحو ألفي سنة. وواجبنا الآن أن نفحص آخر هذه الأسس الأصلية التي قام بها التوحيد عند «إخناتون»، على أننا عند هذه النقطة نشعر بقلة المصادر المدوَّنة وضآلتها. على أن المصادر النادرة التي بقيت لنا عن ذلك العصر تكشف عن مدى التقدُّم في تفكير ذلك الملك الشاب خلال نصف الجيل الذي حكمه، ولا يمكن الباحث أن يفكر أن حركة نامية ذات تقدم مثل الحركة التي قام بها «إخناتون» لم تكن أنتجت أبحاثًا مدونة فيها تعاليمه.

وفضلًا عن ذلك فإنه لا يزال لدينا برهان محس للدلالة على وجود مثل تلك الأبحاث؛ ففي مقابر «تل العمارنة» التي كان يرغب أشراف رجال البلاط الإخناتوني في أن يرسموا فوق جدرانها ما كانت عليه علاقاتهم مع مليكهم؛ نجد أنهم كانوا يشيرون باستمرار دائم إلى ذلك المذهب الجديد، ولم يكن لديهم للتعبير عن ذلك إلا كلمة واحدة وهي كلمة «التعليم». وهذا التعليم لم يكن يُنسب إلا للملك فقط، وليس في مقدورنا أن نشك في أن ذلك التعليم لم يكن إلا الاسم العام للبيان الرسمي لمذهب «إخناتون» الذي كُتب طبعًا في مقالٍ من نوع ما على بردي.

على أنه بعد سقوط «إخناتون» لم يترك أعداؤه حجرًا واحدًا لم يقلبوه لإزالة كل أثر باقٍ يدل على مدة حكمه الممقوت عندهم. وقد أتلفوا بطبيعة الحال مخطوطات الملك هذه المدونة على البردي، وأما معلوماتنا عن تلك الحركة من ناحية العقائد الدينية فكانت مستقاة بأجمعها من نتف وقطع منتخبة وقعت لنا عرضًا، وبخاصة تلك الأناشيد التي زين بها أشراف رجاله جدران مقابرهم، وحينما نقرأ أنشودة «آتون» العظيمة لأول مرة يظهر لنا جليًّا أنها تعبر عن وحي ديني لا يشتمل إلا على إشارات قليلة عن الأخلاق والسلوك الإنساني، وهو الذي كان قد احتل مكانة بارزة — كما نعلم — في تفكير الديانة الشمسية الهليوبوليتية وهي التي تضرب إليها حركة «إخناتون» الدينية بوشائجها القوية.

ويرجع السبب في قلة ذكر شيء عن الأخلاق والسلوك إلى أن تلك القوة الرئيسية التي حركت روح «إخناتون» كانت العاطفة. والواقع أن ثورة «إخناتون» كانت في روحها أولًا عاطفية بدرجة قوية. وهذه الحقيقة ظاهرة تمامًا في الأناشيد كما نجدها كذلك بارزة في الفن، فعندما يرسم لنا أحد مفتني «تل العمارنة» صورة «إخناتون» وهو يتعبد، أو يصور لنا صورة أحد من رعاياه رافعًا الذراعين تضرعًا إلى إله الشمس، فإن الصفة العاطفية التي تمثل تينك الذراعين المرفوعتين تبلغ في شدة جاذبيتها ذراعي «الونرادوز»٤٧ المستعطفين حينما تبسطهما لاستقبال محبوبها «أرمندو»، غير أن الذي كان يعبده «إخناتون» إذ ذاك جمال إله الشمس وفيضها، وتلك العاطفة التي نقلتها إلينا أناشيد «تل العمارنة» لا تحتوي على لاهوت أو خلقيات اجتماعية، وعلى الرغم من ذلك فإنه من الواضح تمامًا أن «إخناتون» قد قبل قبولًا شاملًا اعتناق الخلقيات الهليوبوليتية التي كانت إذ ذاك ذائعة ذيوعًا ساميًا. وقد نتج عن ذلك في الواقع أن صار النظام الخلقي للتعاليم الشمسية القديمة بارزًا أكثر مما كان عليه في أي وقت كان قبل حكم «إخناتون». على أن علاقة حركة «إخناتون» هذه الوثيقة باللاهوت الهليوبوليتي ظاهرة في كل نواحيها، فقد كان توحيد السلالة الملكية بسلالة إله الشمس على يد كهنة «هليوبوليس» في «متون الأهرام»، فجعل لذلك كل فرعون ابنًا لإله الشمس كما ذكرنا من قبل، فنقل إلى الإله «رع» الصفات البشرية لملك كريم تشبع بروحه فراعنة ذلك العهد الإقطاعي. وفي ذلك الحين كان قد صار الفرعون «الراعي الطيب» أو «راعي الماشية الطيب».

فهذه الصورة التي تعبر عن عطف ملكي أبوي حامٍ لرعاياه قد نُقلت إلى «رع»؛ وبذلك اكتسب «رع» لنفسه بشكل مدهش صفات إنسانية، وعطفًا أبويًّا، وما كان ذلك إلا نتيجة لذلك التطور الذي حدث في تصور الملكية في العهد الإقطاعي، وبذلك كانت تلك القوى الاجتماعية التي أوجدت هذا المثل الأعلى للملكية هي المؤثرات النهائية التي زادت بمعونة الملكية، وهذبت التصور السياسي لسلطان «رع»، وهو ذلك التصور الذي كان قبل ذلك لا يخرج عن كونه فكرة آلية مهملة، فالمعونة الإنسانية التي كان يتطلبها وقتئذٍ الملك «إخناتون» كانت على ذلك قريبة من التي كان ينشدها «أوزير» نفسه، وكانت التعاليم الإخناتونية منجذبة بكليتها نحو ذلك الميل الذي ينعطف إليه المذهب الشمسي؛ إذ في عهد والد «إخناتون» عثرنا على أنشودة للشمس سُمي فيها إله الشمس: «الراعي الشجاع الذي يرعى قطعانه»، وهذه إشارة تربط بوضوح مذهب آتون بالحركة الاجتماعية الخلقية التي ظهرت في العهد الإقطاعي.

وحينما نعيد إلى ذاكرتنا الآن كما سبق بيانه الأصل «الهليوبوليتي» «لماعت» (الحق، الصدق، العدالة) التي صارت تمثل إلهة وهي بنت إله الشمس، نلاحظ أنه جاء في «كتاب الموتى»٤٨ أن جماعة الآلهة يجلسون في قاعة «ماعت»، حيث لا يوجد بأجسامهم إثم ولا بهتان، وهم يعيشون على الصدق («ماعت») حيث يؤكد الميت لأولئك الآلهة نقاءه بقوله:

إني أعيش على الصدق وأتزود من صدق (أو عدالة) قلبي.

ونجد وقتئذٍ أن هذا المذهب الشمسي الذي يشد أزره أولئك الآلهة في «هليوبوليس» قد اعتنقه «إخناتون» تمامًا، حتى كان على الدوام يذيل اسمه الملكي في كل آثار الدولة العظيمة بهذه الكلمات: «العائش على الصدق «ماعت».» وهذا النعت الهام الذي أُلحق باسم «إخناتون» قد صيَّره الممثل الرسمي والمعاضد للنظام الخلقي القومي العظيم، وهو نفس ذلك النظام الذي تصوَّره كهنة المذهب الشمسي قديمًا في «هليوبوليس» في عهد يرجع تاريخه إلى عصر الأهرام. وقد ألبسه المفكرون الاجتماعيون ورسل العهد الإقطاعي المصري أهمية خلقية أكثر مما كانت له في أي زمن من قبل، ولكن حينما نعيد إلى ذاكرتنا عدم كفاية «إخناتون» للتسلط على سائر العالم، فإنه يظهر لنا أنه ما كان يرمي من وراء إضافته تلك الكلمات إلى اسمه الملكي إلا إظهار رغبته في امتداد سلطان النظام القومي الخلقي القديم حتى يصير مسيطرًا على سائر العالم الدولي العظيم، الذي كان هو سيده إذ ذاك. وبذلك امتدت سيطرت مملكة إله الشمس للقيم الخلقية قديمًا إلى حدودها العالمية المنطقية، وقد فُسر بذلك «التوحيد» الذي كان منطويًا في أسرار تعاليم كهنة «هليوبوليس» تفسيرًا لا إبهام ولا خفاء فيه، على يد «إخناتون».

وقد سمى «إخناتون» عاصمة ملكه الجديدة في «تل العمارنة» مقر الصدق (ماعت) في الأنشودة القصيرة متمشيًا مع تلك الحقيقة. وقد كان أتباعه على علم تام بالاعتقاد الشديد في «ماعت»؛ ولذلك كان رجال البلاط الملكي يعظمون «الصدق» كثيرًا؛ إذ يقول أحد أعلام معاضدي الملك وهو «آي» الذي تولى الملك بعد «توت عنخ آمون»:

إنه (يعني الملك) أحل الصدق في جسمه
والذي يمقته هو الكذب.
وإني أعلم أن «وع-ن-رع» (يعني إخناتون) يمرح فيه «الصدق»، ثم يؤكد نفس هذا الرجل أن إله الشمس:

واحد قلبه مستريح للصدق، والذي يلعنه هو الكذب.

كما يذكر لنا موظف آخر فوق جدران قبره في «تل العمارنة»:

سأتكلم لجلالته «لأني» أعلم أنه يسكن فيه …
وإني لا أفعل ما يكرهه جلالته؛ لأن الذي يمقته
هو حلول الكذب في جسمي …
لقد قرَّرت لجلالته الصدق؛ لأني أعرف أنه يسكن فيه
إنك «رع» والد الصدق …
وإني لم آخذ رشوة الكذب
كما أني لم أُقص الصدق لأجل الرجل العسيف.

ويجب أن نذكر هنا مرة ثانية — بمثابة دليل هام على إخلاص «إخناتون» للصدق — أنه لم يقصر فضيلة الصدق على السلوك الشخصي فحسب، بل أدخله كذلك في ميدان الفن حيث صارت له فيه نتائج ذات آثار باقية في التاريخ.

وعلى ذلك كان لا يزال «رع» المنشئ المعضد للصدق أو الحق «ماعت» في ذلك الانقلاب الذي قام به «إخناتون»، يعني النظام الخلقي والإداري، كما كان ذلك النظام قائمًا منذ أكثر من ألفي سنة مضت. وإذا لم نسمع عن حساب الآخرة في مقابر «تل العمارنة» فمن الواضح أن ذلك يرجع سببه إلى نبذ الآلهة، وأنصاف الآلهة وعلى رأسهم «أوزير»، وهم الذين كانت تشملهم المحاكمة في حساب الآخرة، كما نجد ذلك مذكورًا في «كتاب الموتى» حيث سبق بيانه فيما تقدم. فأولئك الآلهة قد نُفوا وقتئذٍ، والظاهر أن منظر المحاكمة التمثيلي قد اختفى باختفائهم. ومع ذلك فإنه كان من الواضح أن المستلزمات الخلقية في المذهب الشمسي — وهو المذهب الذي نشأت منه فكرة المحاكمة في الآخرة، وانتشرت — لم تَنْتَهِ المطالبة بها في التعاليم الإخناتونية ولم تفتر. وكذلك فإن الحملة التي قام بها الكهنة على عالم الأخلاق بالعوامل السحرية الآلية لضمان براءة الميت فيما بعد الموت قد أقصاها «إخناتون» بداهة عن تعاليمه التوحيدية فصارت «الجعل» القلبية (الجعارين) التي كانت مألوفة من قبل لا يُنقش فوقها التعاويذ السحرية لإخماد وحي الضمير عند المتهم، بل صارت وقتها يُنقش فوقها صلاة بسيطة موجهة إلى «آتون» طلبًا لحياة طويلة سعيدة وعطف وطعام.

وما ذكرناه عن «الجعل» (الجعارين) ينطبق تمامًا على تماثيل المجاوبين التي هي تماثيل صغيرة كانت تقوم بالأعمال بدلًا من الميت إذا طُلب منه ذلك فيما بعد الموت في الحياة الأخروية.

وإذا فكرنا مليًّا فيما ذُكر نجد أن أمثال تلك التغييرات الأساسية تبسط أمامنا عظم المد الجارف من الفكر الموروث عن الأقدمين مع العادات والتقاليد، ذلك المد الذي تحوَّل عن مجراه على يد ذلك الملك الشاب الذي كان يقود ذلك الانقلاب.

على أننا نبدأ في تقدير قوة شخصية «إخناتون» العظيمة فحسب، عندما ندرك هذه الناحية من حركته التوحيدية إدراكًا واضحًا، فقد كانت الوثائق الدينية قبل عهده تُنسب عادة إلى الملوك القدامى والحكماء الأوَّلين. وكانت قوة العقيدة لا ترتكز بوجه خاص إلا على ادعاء أقدميتها الساحقة، على قدسية العادة العريقة في القدم. وقد كان تاريخ العالم حتى عهد «إخناتون» لا يرتكز إلا على مجرد سطوة التقليد الذي كان سلطانه لا يعارض. وليس لدينا استثناء بارز في هذا المضمار إلا ذلك الطبيب النطاسي، والمهندس العظيم «أمحوتب» الذي أدخل على فن العمارة البناء بالأحجار جملة، وأقام أوَّل مبنًى من الحجر، وهو ذلك القبر الهرمي الشكل الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثلاثين قبل الميلاد.

وغير هذه الشخصية من المصريين الأقدمين لم يكن الناس يعدون بعدها إلا نقطًا من الماء بجانب ذلك التيار الجارف العظيم.

فإذا استثنينا «أمحوتب» هذا، كان «إخناتون» أوَّل شخصية بارزة ظهرت في التاريخ المصري القديم. فإنه قد أحرز مكانة سامية بنفاذ بصيرته، وحسن تدبيره وتفكيره العقلي، ثم نهض بنفسه علانية، وقام في وجه كل التقاليد ونبذها ظهريًّا، ولم يلجأ في توطيد مذهبه الجديد إلى أية وسيلة من وسائل الأساطير أو الروايات العتيقة مما كان معترفًا به لسلطان أولئك الآلهة اعترافًا واسعًا، بل لجأ استعمال البراهين العتيدة الظاهرة الدالة بنفسها على سلطان إلهه، وهي أدلة بُسطت أمام الجميع.

وأما من جهة التقليد فإنه اجتهد في القضاء عليه أينما وُجد في أي مظهر مادي للآلهة الأخرى في السجلات التي يمكن الوصول إليها، على أن سياسته التي قوامها التخريب إلى هذا الحد كان لا بد لها من أن تصادف معارضة قوية فتاكة. وسنتكلم عنها في حينها.

(٤-٤) الفن في عهد إخناتون والعهد السابق له

لم يكن الانقلاب الذي أحدثه «إخناتون» قاصرًا على إحياء عقيدة التوحيد باسم «آتون»، بل قد تخطت حركته إلى انقلاب عظيم في الفن المصري — لأنه كان جزءًا من منهاجه — وخروج المفتنين على تقاليد القوم الموروثة منذ أزمان سحيقة في القدم، غير أننا نكون مغالين بعض الشيء إذا قلنا إن مذهب «آتون» هو العامل الوحيد الذي أوجد هذا الانقلاب في الفن المصري وطرائقه؛ لأننا إذا رجعنا البصر كرة إلى عهد الملكة العظيمة «حتشبسوت» وخلفها «تحتمس الثالث» وجدنا هناك روحًا جديدًا قد أخذ يتغلغل في نفس المفتن المصري، فالقوة الهائلة والوقار، والخشونة، وقوة التأثير التي كانت تمتاز بها أحسن القطع الفنية في عهد الدولة الوسطى بما تنطوي عليه من قوة غاشمة؛ قد أخذت تتسم بسمة النعومة، وتتحوَّل تدريجًا روحًا جديدًا ينم عن رشاقة وجاذبية، ويظهر هذا الروح حتى في نحت التماثيل؛ ففي الآثار الضخمة العظيمة كالتماثيل الهائلة التي كانت في الواقع تُصنع لا لتمثل صورة حقيقية بل لتمثل عناصر فنية عظيمة، نجد فيها على الرغم من ذلك قوة تعبير، كما يُلمس ذلك في تمثال «تحتمس الثالث» الموجود الآن في المتحف المصري؛ إذ تنم تقاطيعه عن القوة الغاشمة، ولا شك في أن مثل هذه القطعة الفنية يسيطر على كل شيء حوله كما كان «تحتمس الثالث» نفسه يسيطر على العالم الذي كان يعيش فيه.

ومع ذلك نجد في نقش الأسرة التي عاش فيها «تحتمس» أن التغيير قد أخذ يدب دبيبه؛ فنرى بجانب تمثال «تحتمس» في نفس القاعة المعروض فيها بالمتحف البريطاني رأسًا «لأمنحتب الثالث» متقن الصنع، يشف عن عظمة وجلال، ومع ذلك أخذ عامل النعومة والليونة يدب في تقاسيمه، هذا إلى أن المفتن قد حاول أن ينفث فيه روح شخصية مميزة، ولكنا نلاحظ التغيير الذي يرمي إلى محاكاة الطبيعة في قطع الحفر الصغيرة من التماثيل، فما أعظم الفرق بين التمثال الفاخر «لسنوسرت الثالث» المصنوع من الجرانيت الأزرق الذي عُثر عليه في الدير البحري والموجود الآن بالمتحف البريطاني، وبين تمثال «تحتمس الثالث» المصنوع من الشيست الدقيق المحفوظ «بالمتحف المصري»؛ فكلا التمثالين ينم في ملامحه عن شخصية وثابة، ولكن مفتن الدولة الوسطى كان خشنًا إلى درجة ما في تمثيل ملامح «سنوسرت الأول» التي تدل على خلق مهيمن. فكل نقطة يمكن أن تظهر عبوسه وتقطيب شخصيته الصعبة المراس المرة قد مُثلت في تقاطيع وجهه تمثيلًا بارزًا، والواقع أننا نقرأ في تقاطيع وجه «سنوسرت» الجامدة الشعور بالقوة، بل نلمس كذلك متاعبها الأليمة المرة، على أن «تحتمس الثالث» لا يقل قوة عنه بما أوتي من أنف محدب، ولكن هذا الجندي العظيم يُرى مبتسمًا طلقًا مما خفف من احديداب أنفه، وأسبغ على ملامح وجهه جاذبية ناطقة، ولا يفوت القارئ أن المادة التي صُنع منها التمثال الأول، وهو الأقدم هي مادة الجرانيت، أما الثاني فقد نُحت من الشيست، وهما ينمان بوضوح عن التغير في الطراز الذي انتهجه كل من المفتنين، كما يدلان على عصريهما، ومن ذلك يتضح أن فن التصوير قد بدأ منذ باكورة الأسرة الثامنة عشرة يفقد شيئًا من خشونته، وفي آن واحد أخذ يكتسب مرونة ورقة كانتا بعيدتين عنه من قبل، ومع ذلك فإنه لم يفقد بصورة ظاهرة شيئًا من الصدق في التعبير أو القوة في التأثير، فالفن المصري لا يحتوي إلا على قطع قليلة أكثر صدقًا في التعبير عن الحقيقة، أو أعظم تأثيرًا في النفس كتمثال الجرانيت «لأمنحتب بن حابو»، ذلك الرجل الحكيم الذي عاش في عهد «أمنحتب الثالث»، وهذا التمثال موجود الآن في «متحف القاهرة»، فلم يكن «أمنحتب» هذا جميل المحيا، ولم يحاول مصوِّره أن يحسن شيئًا من تقاسيم هذا الرجل العظيم التي ظهر فيها القبح والكفاية معًا، ولكنك لن تجد بسهولة صورة تمثل الحياة بعينها لرجل ذكي الفؤاد أريب عركته الدنيا مثل «أمنحتب»، هذا على الرغم مما هو عليه من قبح بيِّن.

فالمثَّال المصري إذا كان قبل حلول عهد «إخناتون» ينحت تماثيله جاعلًا نصب عينه الرقة والليونة في إخراج قطعه الفنية، وهو في الوقت نفسه لم يجعلها تكاد تفقد شيئًا في قوة تأثيرها أو ترجمتها للطبيعة، ويرجع هذا التغير في تقاسيم محيا التماثيل في هذا العهد إلى أن شكل الوجه قد بدأ يتغير وبخاصة في عِلية القوم؛ وذلك بإدخال عنصر دم جديد غريب عن البلاد، ويرجع السبب في ذلك إلى التزوج بأجنبيات في عصر الفتوحات العظيم.

وهذا الاتجاه في التصوير يُلاحظ في الرسوم البارزة على الجدران، وأحسن مثال لدينا من أعمال الإمبراطورية من الطراز القديم هي الرسوم التي على معبد «حتشبسوت» بالدير البحري، ومع ذلك فإنا نجد فيها ما يشعر بسيطرة الروح الجديد، ولكن عندما نصل إلى عهد «أمنحتب الثالث» نجد في الرسوم البارزة في أمثال مقبرة «خع إمحات» و«وسرحات» في طيبة وحتى في بعض الرسوم البارزة في معبد الأقصر؛ ظرفًا ونفاسة ورقة يعجز عن إظهارها مثَّالو العهد القديم، غير أن الإنسان في ذلك لا يمكنه أن يفضل مثَّال العصر الحديث عن مثَّال العصر الذى سبقه؛ لأننا نجد في القديم قطعًا تمتاز عن مثيلاتها في الحديث، ولكنا نجد أن المثَّال الحديث قد أخذ يتعرَّف أكثر على مادته الجديدة؛ وبذلك أصبح في مقدرته أن يتصرف فيها كيف شاء، وبخاصة عندما تخلص من القيود القديمة وشعر بحرية في إبراز عمله، وقد كان من نتائج تلك الحرية في العمل أن أصبح المثال على استعداد أن يأخذ على عاتقه تنظيم صور أكثر تعقيدًا عند وضع تصميم منظر صور بارزة.

على أن الاتجاه نحو الزيادة في الحرية، والحصول على جرأة واندفاع في تمثيل المناظر مضافًا إلى ذلك ميل أكثر إلى محاكاة الطبيعة يُلاحظ بصراحة في الصور الملونة في عهد الأسرة الثامنة عشرة، ولذلك يُعد من الخطل في الرأي أن يقول الإنسان عن مناظر رقعة قصر «إخناتون» الملون وهو الذي عُثر عليه في مدينة «إختاتون» إنها كانت أوَّل محاولات من جانب المصوِّر المصري لمحاكاة الطبيعة في حياة الهواء الطلق وما فيه من حركة، ولا أدل على ذلك مما نشاهده مصوَّرًا في سقف قصر «أمنحتب الثالث»؛ من طيور تحلق، وفراش يرفرف، وبط يسبح في رقعتها؛ مما يدل على أن المثَّال في عهد والد «إخناتون» كان في مقدوره أن يحاكي الطبيعة، ولكنه لم يكن عنده المران في تأليف الصور المركبة وتنسيقها مثل خلفه، على أن هذا الميل إلى محاكاة الطبيعة يمكن أن يرجع إلى زمن أقدم من ذلك، فالطيور التي تطير من المستنقعات في مقبرة «أمنمحات» الكاتب في عهد «تحتمس الثالث» ليست إلا خلفًا للتي وُجدت في قصر «أمنحتب الثالث»، وفي قصر «إخناتون» هذا إلى المناظر التي نشاهدها في قبري «نخت»٤٩ و«منا»،٥٠ والمناظر الموجودة الآن بالمتحف البريطاني المأخوذة من قبر «سبك حتب»،٥١ كل هذه تبرهن على النمو السريع لروح الحرية في تمثيل الصور الطبعية. فمن بين المناظر الموجودة في المتحف البريطاني صورة نجد فيها امرأتين تلتفتان بوجهيهما٥٢ تمامًا إلى الناظر إليهما، وهذه الحركة التي لا نراها إلا نادرًا في التصوير المصري. هذا إلى أنه يصعب أن توجد صورة تفوق في براعتها صورة القطه التخطيطية الفائقة الحد في التعبير التي نشاهدها في إحدى مناظر قبر «نخن» بطيبة، فإنها تكاد لفرط هزالها وجوعها تلتهم سمكة.

وهذه الصورة التي يُحتمل أن يرجع عهدها إلى عصر «تحتمس الرابع» تبين لنا أن المفتن المصري كان سريع الخطا في سيره للوصول إلى تصوير طبعي أعظم شانًا وأكثر دقة قبل أربعين سنة من عهد «إخناتون».

ومن ذلك نرى أنه لا يوجد ما يبرر الاعتقاد بأنه لا علاقة بين فن عهد العمارنة، والفن القديم التقليدي؛ إذ الواقع أن عملية التغير لم تأتِ فجأة، بل سارت تدريجًا، وكانت قد أخذت في سيرها بوضوح منذ قرن قبل اعتلاء «إخناتون» العرش على أقل تقدير كما أوضحنا، كما أن مذهب «آتون» لم يكن وليد ليلة، بل كان يضرب بأعراقه إلى أقدم عهود العقائد المصرية، كذلك كان الفن الذي سار مع «آتون» جنبًا لجنب يضرب بأعراقه في الماضي، ولم تكن ظاهرة طبعية، بل شجرة نمت وترعرعت، وعلى أية حال فإن النمو يمكن إدخاله في تدرُّج العقل الإنساني كما يمكن إدخاله في الطبيعة، فالعقيدة الآتونية، وبخاصة رجال الفن فيها كانوا يعبرون باستمرار عن وجهة نظر الفرعون، وهي التي دفعت العنصر العامل في فن العصر إلى الأمام، فنجد أن من بين الألقاب التي كان يتمسك بها «إخناتون» نفسه لقب «عنخ إن ماعت» (يعني العائش في الصدق)، وقد أخذ المعنى الصريح لهذه العبارة وجعلها مبدأه في الحياة. فقد كان المقصود منها لديه أن يتقبل حقائق الحياة اليومية ببساطة، ومن غير كلفة، فكان يعتقد أن ما مضى كان حقًّا، وأن صلاحه كان ظاهرًا من نفس وجوده، ولا شك في أن تأثير مثل هذا القانون على الفن كان عظيمًا، ولذلك فإن التقدم الذي كان سائرًا بالفعل في الفن المصري قد شجعه هذا المبدأ، وأسرع في خطاه إلى حد بعيد، فيصف لنا «بك» نفسه وهو كبير رجال الهندسة الملكَ ومثَّاله الأول على لوحة في «أسوان» بأنه هو المساعد الذي علمه جلالته ليكون رئيس المثَّالين لآثار الملك الضخمة العظيمة، على أنه لا يتحتم أن يُفهم من هذه العبارة أن «إخناتون» كان متطفلًا على الفن وأنه كان يسلي نفسه، أو أنه كان يضايق رجال الفن برسم أشياء يفرض عليهم تنفيذها كما كان يفعل «تحتمس الثالث»، ولكن الواقع أنه كان يبين لمثَّاليه أن «الحياة في الصدق» كانت جزءًا من تعاليمه الدينية، وأن من واجبهم أن يأخذوها مرشدًا لهم، ثم يتركهم يعملون بمقتضاها.

وقد كانت نتائج هذا التوجيه إخراج قطع فنية من الطراز الفائق الحد في طبيعته، فقد وجد كل من المثال «بك»٥٣ وصاحبه «أوتو»٥٤ وهما مثَّالا الملكة «تي»، وكذلك غيرهما من مثَّالي عصر «العمارنة»؛ أنهم أصبحوا لأول مرة في تاريخ الفن المصري طليقي الأيدي تمامًا، يرسمون الشيء كما يرونه، فلم يتقيدوا بالتقاليد القديمة التي كانت حجر عثرة أمام تقدم الفن المصري في الماضي؛ ولذلك اختفى الوضع الكهنوتي المرسوم للمثَّالين إلى حد بعيد، ومن ثم مُثل الملك والملكة والأميرات ورجال البلاط لا كما يجب أن يكونوا في الاحتفالات العظيمة مزملين في ملابس العظمة التقليدية، بل مُثلوا كما يعيشون بطبيعتهم؛ مما جعلنا نراهم في مواقف ليس فيها من جلال الملك شيء؛ فيُشاهد ذلك مثلًا في منظر «إخناتون» وهو يلتهم٥٥ الأكل على مائدة الطعام، أو وهو يطوِّق بساعده أخاه «سمنخكارع» ويداعبه — وإن كان في هذه الصورة شك — أو ظهور الأسرة الملكية في الشرفة وهم عرايا الأجسام، على أن أكبر مظهر للتحويل في التصوير هو ما نشاهده في تمثيل الأجسام البشرية، فيرى الإنسان في تصويرها على حسب ما يتراءى له تقدمًا أو انحطاطًا.٥٦

أما في المجالات الأخرى غير الصور الإنسانية فإن التحول أو التغير على الرغم من أنه معلم ظاهر تمامًا فإنه لم يبلغ أقصى مداه كما يظن البعض أحيانًا، فالحياة في الحقل مثلًا لم تكن في حياة الفن المصري خاضعة يومًا لقيود التقاليد التي غلت يده في تصوير الجسم الإنساني؛ إذ الواقع أن الرسَّامين والمثَّالين المصريين كانوا منذ أقدم العهود ينقلون ما في الطبيعة عندما يصورون المستنقعات والنهر والصحراء بما فيها من حياة وحشية، ونباتات. ولقد خطا فنانو عصر «إخناتون» بهذه الرسوم خطوة أخرى إلى الأمام يمكن أن يُقال عنها إنها ناتجة عن تعاليم «إخناتون»، وقد وصف الأستاذ «برستد» هذا الفن بأنه فن بسيط جميل ينم عن الحقيقة، ويرى ببصيرة ثاقبة ما لم يَرَه أي فن آخر من قبل، غير أن في هذا بعض المبالغة؛ لأن المفتنين القدامى في مصر لم يكونوا محجوبي النظر عن حقائق الطبيعة وأسرارها، أكثر من المفتنين «بك» و«أوتو»، ولو لم يخلف عهد «إخناتون» لنا من نماذج أعماله الفنية إلا صور الحياة البرية بما فيها من نبات وحيوان، فإنه يصبح من الصعب علينا جدًّا أن ندرك منها حدوث أي فاصل أو تحول في تقاليد القوم الفنية، بل على النقيض كنا نرى في هذا الازدهار الفني الجديد تقدمًا مشروعًا لخطط مألوفة ليس فيها تحول عن الطرق القديمة التي انتهجها المفتنون القدامى.

وعلى أية حال فإن الأمر يختلف اختلافًا تامًّا في تصوير الجسم الإنساني في عصر العمارنة، وهذا في الحقيقة أهم الأشياء التي خلفها لنا عصر «إخناتون» من الوجهة الفنية. وفي هذه الحالة يمكن الإنسان أن يتحدث عن فن عصر «تل العمارنة» وهو يشعر أنه يناقش وحدة مميزة لها حياتها وشخصيتها الخاصة بها، فالرجل والمرأة يصورهما المفتن على طبيعتهما أي كما يراهما أمامه بالعين المجردة، وهو يخرج صورته بمعناها الحقيقي حرة من كل قيد، متوخيًا في ذلك إبراز التفاصيل بصدق مما كان غريبًا عن الفن القديم الذي كان معتادًا في البلاد. فمنذ عهد «إخناتون» لا يرى الإنسان الصور الآدمية مرسومة في وضع خاص في مجموعة قليلة في تنوعها وتتناول موضوعًا واحدًا وهو ما سمحت به العادة؛ إذ كان يصور الإنسان بساقه اليسرى إلى الأمام وذراعه مدلاة بجانبه وراحتاه مقبوضتان … إلخ. أما في صور «تل العمارنة» فنرى أناسًا جالسين وواقفين ومتحركين ومضطجعين بكل وضع طبعي يمكن للإنسان تصوُّره، وأحيانًا يُصور في أوضاع لا يمكن قبولها أو تصورها، كما أنها غير طبعية في الوقت نفسه.

وأجمل نموذج كُشف حتى الآن لهذه الحرية الجديدة في الرسوم البارزة الصورة الملونة الصغيرة الرائعة الموجودة الآن بمتحف «برلين»٥٧ وهي التي رُسم فيها «إخناتون» و«نفرتيتي» معًا كما هي العادة، فنشاهد فيها الملك واقفًا أو بعبارة أدق متراخيًا في وقفته في وضع رشيق لا تكلف فيه، ومتكئًا على عصًا تحت إبطه الأيمن، ويُرى طرفا حزامه الطويلان وأهداب شعره المستعار يداعبها الهواء، وتقف أمامه الملكة «نفرتيتي» في هيئة لا تُوصف إلا بالقحة وفي يدها اليسرى طاقة من أزهار البشنين المفتحة الأكمام، وفي يدها اليمنى طاقة أخرى من أزرار الأزهار مقدمة إياها لزوجها ليشم رائحتها، وترتدي ثوبًا من الكتان شفيفًا يداعبه النسيم، ولولا أن «إخناتون» كان يحلي جبينه بالصل الملكي، والملكة ترتدي الصل المزدوج الذي كان يميز الملكة في هذا العصر، ما كان أحد يظن قط أنه في حضرة فرعون مصر أعظم ملوك العالم وقتئذٍ، والذي يتقمصه الإله العالمي، فالصورة في مجموعها تُعَدُّ من حيث بساطتها وسحرها من أندر ما أخرجه الفن القديم عامة، ولكنها في الوقت نفسه تناقض الصور العادية للفرعون؛ إذ إنها قد فقدت كل مهابة الملك وجلاله.
وأعجب الثمرات التي أنتجها لنا فن «إخناتون» الرءوس التي تمثل الصور الآدمية، والتماثيل الصغيرة لهذا العصر، وقد كشفت البعثة الألمانية عددًا عظيمًا منها، والواقع أن المثَّال المصري كان قد أخذ في اعتلاء مكانته الحقيقية شيئًا فشيئًا حتى أصبح يحتل مكانة وضعته بين قادة الفن في العالم، وهي مكانة كان ينكرها عليه منذ سنوات قليلة مفتنو عصرنا بنوع من السخرية. ولقد جاء الكشف الألماني لهذه الرءوس المنحوتة نحتًا دقيقًا مكذبًا لتلك الادعاءات. وهذه الرءوس معظمها للأسرة المالكة، منها عدد عظيم «لإخناتون» نفسه، ومعظمها مصنوع من الحجر الجيري الأبيض، ثم تماثيل صغيرة للملكة «نفرتيتي» تصور الحقيقة بدرجة فائقة الحد، وكذلك رءوس صغيرة للأميرات لها سحر عجيب، وصور لبعض رجال البلاط، من بينها رأسان ربما كانا للكاهن «آي» الذي ولي الحكم فيما بعد ولزوجه «تي». على أن أعجب درتين في كل هذه المجموعة هما الرأسان اللذان يمثلان الملكة «نفرتيتي»، إحداهما من الحجر الجيري الملون، ولها شهرة واسعة، ويعترف الجميع بأنها من أروع الأمثلة في النحت في العالم، وإنها لجديرة حقًّا بتلك الشهرة التي نالتها، ولا بد أن «نفرتيتي» نفسها كانت تفوق نساء عصرها في جمالها ورشاقتها، وسواء أكان المثال «بك» أو غيره قد نحتها فإنه قد ارتفع إلى القمة في الفرصة التي سنحت له؛ إذ الواقع أن هذا التمثال النصفي للملكة «نفرتيتي» لا تضارعه قطعة أخرى في دقة تصويره، ورشاقة ملامحه التي تدل على التفكير؛ ولذلك يحق للمثال المصري أن يسابق بشهرته وهو مطمئن البال في هذا المضمار على هذه القطعة الفنية الخلابة، وأما القطعة الثانية فإنها أقل شهرة؛ ويرجع السبب في ذلك إلى المادة المصنوعة منها، وكذلك إلى الحالة التي وُجدت عليها، فالناظر إليها لأول وهلة لا تستهوي مشاعره. وهي للملكة «نفرتيتي» أيضًا، وقد صُنعت من الحجر الرملي الأسمر، ولكنها في الواقع لا تقل جمالًا عن سالفتها في عين المفتن الناقد، فالقطعتان معًا لا نظير لهما، ويدرك الإنسان عند تأملهما سر ما لهما من شهرة تاريخية للجمال واسعة النطاق.٥٨
fig17
شكل ٦: الملكة نفرتيتي.
ومن القطع التي تتميز بها مدرسة الفن في «تل العمارنة» وإن كان لم يُعثر عليها في «إختاتون» رأس الملكة «تي» المصنوع من الأبنوس والذهب، وهي في دقة صنعها آية من آيات الفن، وقد عُثر عليها في «الفيوم»، وهي الآن في متحف «برلين»، والواقع أنه لم يُعثر على قطعة مدهشة مثلها في الفن القديم أو الحديث يقرأ الإنسان في تقاسيمها أخلاق صاحبتها، وليست لفظة الجمال بالتعبير الصادق الذي يستعمله الإنسان عند وصفها، ولكن هو التأثير المدهش الذي تتركه بما توحيه من شخصية مسيطرة، وربما كان ما صوره المثال في تقاسيمها من معاناتها الألم هو سر جمالها، وهذا الرأس الفذ الصغير الحجم لا يزيد ارتفاعه عن بعض سنتيمترات، ولكنه قطعة فنية أعظم تعبيرًا، وأقوى تأثيرًا من معظم التماثيل الضخم انظر [فصل: الفرعون أمنحتب الثالث – امبراطورية أمنحتب الثالث وملاهيه].٥٩
وترتكز عبقرية الفن المصري وقوته في عصر «إخناتون» إذن على الموضوعات التي تتعلق بالإنسان. ولا نزاع في ذلك لأن هذه الشهرة تستند على حقائق يؤيدها الواقع تأييدًا واسع النطاق، ولكن مما يؤسف له أن صفات هذا الفن السامية بحق قد طُمست معالمها إلى حد ما، وأن ما أخرجته هذه المدرسة قد أُوذي بخاصية مستهجنة، وليس في استطاعتنا أن نحكم فيما إذا كانت هذه الهجنة ترجع إلى مبالغة «إخناتون» في تمسكه بفضيلة الصدق التي نجدها في تفكيره، وفي فنه، وفي تشبثه بأن ينتهج فنه هذه السبيل المعوجة، فنعلم أن الملك كان شاذ الخَلق كما يتضح ذلك من تماثيله وصوره الملونة، بل إن أهم من كل ذلك غطاء الوجه الذي كان عليه بعد وفاته؛ فقد كان شذوذه يتمثل بوضوح في ضخامة جمجمته بشكل خارج عن المعتاد، وكذلك نمو الجزء الأسفل من جسمه وفخذيه نموًّا غير مألوف، وقد دلت البحوث الطبية على أن الأسرة كان فيها هذا الشذوذ أو على الأقل في إخناتون نفسه. ولما كان «إخناتون» يحب الحقيقة والصدق إلى أقصى حد، فإنه صمم أن يُرسم بما فيه من شذوذ جسمي مطابق للحقيقة بدون ملق أو محاباة في تمثيل كل ما فيه من قبح وشذوذ، وكما يحدث عادة في مثل هذه الحالة مُثلت الأجزاء المراد إبرازها بشيء من المبالغة ازدادت بمر الأيام، ولذلك نجد أن هذه الطريقة المنكودة قد ظهر أثرها المبالغ فيه في كل صور أفراد الأسرة المالكة في هذا العهد، وليس من المعقول بتاتًا أن الملكة «نفرتيتي» والأميرات كن مصابات بهذا الشذوذ الجسمي كالفرعون، ولا أدل على ذلك من جذع تمثال الأميرة الصغير المصنوع من الحجر الجيري والموجود الآن بجامعة «لندن»٦٠ فإنه خالٍ من كل هذا الشذوذ، ولكن العادة القبيحة في التشبث بإظهار خاصيات الملك الجسمية قد أدى إلى خلق خاصيات من هذا الطراز لا وجود لها، ولذلك فإنا نجد الملكة والأميرات يمثلن في كثير من الأحوال بدون مبرر بشذوذ جسمي قبيح لا ينطبق على الواقع قط، وهن منه بريئات قطعًا.

ولقد انتقلت هذه البدعة القبيحة إلى رجال البلاط كما كان المنتظر، والناس على دين ملوكهم، حتى إن الأمر قد وصل إلى درجة من المجون؛ فمُثل الرجل قبيحًا بقدر المستطاع تقليدًا لصورة جلالته، وهذا أمر كان لا يمكن تلافيه. ولقد كانت نتيجة هذا العبث أن أصبح جزء عظيم من فن «تل العمارنة» بكل ما فيه من محاسن يقرب من الصور الممسوخة الهزلية.

ولقد كانت الكارثة في كل هذا مزدوجة، فإن هذا الفن الذي كان رفيعًا في ذاته حقًّا، بل لا نغالي إذا قلنا إنه أحسن زهرة تفتحت عن العبقرية المصرية قد مُسخت محاسنه بهذه المبالغات التي انتابته، على أنه لما غُلب مذهب «آتون» على أمره بدا في نفوس القوم اشمئزاز من ذلك الشذوذ الذي طمس محاسن فن «تل العمارنة» الرائعة، حتى قضى على عبقرية الفن المصري بدرجة عظيمة. ولقد انزعج المصريون من نتائج انزلاقهم في صدق التعبير في رسومهم ومحاكاة الطبيعة؛ ولذلك فإنهم أخذوا يتشبثون حتى آخر أيام تاريخهم القومي في حياتهم الفنية بأهداب طراز فنهم الثابت الذي كان متبعًا في غابر الزمن، وكأن خلاصهم الوحيد كان متوقفًا عليه. حقًّا إنه كان لا يزال في عهد الأسرة التاسعة عشرة أعمال فنية جميلة تحمل في طياتها بوضوح أثر فن العمارنة غير أنها كانت ضئيلة.

أما في العهد الساوي فقد قامت نهضة عجيبة ظهر فيها بعض الأعمال الفنية الرفيعة على غرار الأساليب القديمة يصحبها صدق التعبير؛ مما جعلها جديرة بأن تُضاهى بأعمال مفتني عصر «إخناتون»، غير أنه لم يعد يوجد قط ذلك التعبير الأول الجميل الذي ينطوي على فرط الفرح المستهتر الذي كنا نراه أيام «إخناتون»، حينما كان يلقن أتباعه بأن ينظروا إلى الحياة والأشياء بأعينهم هم فحسب، لا بوساطة التقاليد القديمة التي طُبع على بصرها غشاوة.

الصناعات الأخرى في عهد إخناتون

على الرغم من أن مدينة «إختاتون» قد أُقيمت في الأصل لتكون مدينة دينية وحصنًا حصينًا للمذهب الجديد وللبلاط الفرعوني، فإنه كان ولا بدَّ أن يستند أهلوها — وبخاصة الطبقات الدنيا منهم — على إنشاء صناعات خاصة بهم، وقد بينت لنا أنواع هذه الصناعات بدرجة عظيمة الأحوال التي أُسست فيها هذه المدينة. والواقع أن مدينة «إختاتون» كانت تشبه في حياتها النار التي أُوقدت في هشيم فارتفع لهيبها إلى عنان السماء ساعة ثم خبت وصارت ترابًا هامدًا؛ لذلك كان مقدرًا لهذه المدينة التي أُنشئت ما بين غمضة عين وانتباهتها أن تجد مكانًا في محيطها لإقامة مقابر عدة، ومقاصير وقصر ضخم للفرعون، ومساكن جميلة لكل الأشراف ورجال البلاط، وكذلك مقابر ومقاصير لهم. وقد كان المصري يعني بها أكثر مما يعني بمسكنه، فكل هذه المنشآت كانت تتطلب بطبيعة الحال مقدارًا ضخمًا من صناعة الزخرفة والزينة. أما نوع هذه الصناعة فقد كان القول الفصل فيه للذوق السائد في هذا العصر، وقد كان الذوق العام في زخرفة المباني مندفعًا نحو الرسوم البارزة وتزيينها بالألوان الزاهية، وهذا الذوق كان من خصائص الفن المصري في كل عصوره، ولكنه أخذ يتجه في عهد «إخناتون» إلى استعمال الخزف المطلي، والزجاج الملون في أعمال الزخرفة. ولقد كان أبسط وأسهل وأيسر على القائمين بالأمر أن يُنشئوا معامل للخزف المطلي والزجاج الملون في المدينة نفسها من أن يجلبوه من أماكن نائية كانت في معظم الأحيان معادية للمدينة؛ ولذلك كان من مميزات «إختاتون» ما أُقيم فيها من مصانع لعمل الخزف المطلي والزجاج الملون، وتدل بقايا ما وُجد من هذه الصناعات على أنها ازدهرت وتقدمت تقدمًا عظيمًا في «إختاتون»، وقد بلغت هذه الصناعة من التنوع والبهاء حدًّا لم تصل إليه من قبل ولا من بعد، وكان هذا العصر أعظم عصر بلغت فيه صناعة الخزف منتهى تقدمها، كما وصلت إلى أعظم غاية في تنوع استعمالها.

وقد كشفت أعمال الحفر عن موقع مصنعين عظيمين لصناعة الخزف المطلي، وكذلك عن عدة مصانع لعمل الزجاج على أن حجرات العمل في هذه المصانع قد اختفت نهائيًّا، غير أن بقايا هذه الصناعات لا تزال كائنة تظهر لنا في القطع المتخلفة طريقة العمل في إنتاج هذه الصناعة في حين أن مئات من قطع أواني الزجاج وأشياء أخرى تضع أمامنا شكل القطع التي تم صنعها.

ولما كانت الأذواق تختلف باختلاف العصور، فإن بعض القطع التي كانت تُصنع من الزجاج الملون قد يمجها ذوقنا، فقد صُنعت مثلًا تماثيل كاملة من الخزف المطلي، وهي لا تكاد تُعَدُّ قطعًا فنية كما نفهم الفن الآن، ففي أشياء أخرى كان الذوق الفني في عهد «إخناتون» ناقصًا على الأقل في نظرنا، ولكن لسنا في شك من القيمة الزخرفية للألوان الفنية التي كانت تُستعمل في صورة خزف مطلي لتزيين منازل الأشراف والقصور الملكية والمعابد. وقد وصل إلينا بعض قطع من أجمل نماذج صناعة الزجاج الموجود في العالم من هذا العصر؛ مثل الإبريق الأزرق الفيروزي المزين بخطوط بيضاء وزرقاء قاتمة، وكذلك الآنية ذات أربعة المقابض بلونها الأزرق اللازوردي، والمزينة بخطوط متموجة صفراء وبيضاء وزرقاء خفيفة وهما في مجموعة اللورد «كارنرفون»، هذا إلى قدح الشراب ذي اللون الفيروزي الأزرق الخالص، وهو الآن بمتحف متروبوليتان٦١ بمدينة «نيويورك».

أما من جهة البهاء والفخامة فإن الدقائق الزخرفية والتفاصيل التي توجد على جدران قصر «إخناتون» التي استُعمل فيها الزجاج الملون والذهب الوفير لتزيين تيجان أعمدتها التي على شكل جريد النخل؛ لدليل ناطق على مقدار ذوقهم، ويقول الأستاذ «فلندرز بتري» إن تاج العمود في هذا القصر كان صورة من عمل الميناء التي يحذقها الصائغ المصري، وهو عبارة عن رقعة مقسمة أقسامًا دقيقة وُضع في كل منها حجر ثمين في إطار من الذهب ليخرج من المجموع رسم رائع يظهر فيه كل لون براق مفصول عن المجاور له بخيط من الذهب، وقد استعمل المفتن تلك الصورة على نطاق أوسع في فن العمارة؛ ولذلك كانت تظهر تيجان الأعمدة وهي لامعة بهذا الذهب وبهذا الخزف المطلي الذي يشبه الجواهر. ولا شك في أن التأثير الذي يحدثه صف من هذه الأعمدة المزينة بتلك الزينة لَمِمَّا يأخذ بالأنظار لروعته وفخامته، وبخاصة عندما تسطع عليها أشعة شمس مصر اللامعة. ولعمري فإن مثل هذا المنظر في عين السفير الآسيوي كان يزيده اعتقادًا في أن الذهب كان بمصر يفوق التراب. على أن الفرعون لم يكن مبذرًا دائمًا في بذل الذهب في مثل هذه الأحوال، ولا أدل على ذلك من أنه استُعمل في قاعة المدخل في جنة «مرو آتون» تقليدًا رخيصًا لتزيين عمدها، فقد استُعمل بدل الخزف المطلي عجينة مطلية، وبدل الذهب طلاء أصفر يحاكيه.

أما المهارة في الصناعة في هذا العصر فيدل عليها نماذج الأثاث الجميلة التي عُثر عليها في مقبرة «آي» وفي مقبرة «توت عنخ آمون». فالصناعة المصرية في هذا العهد كانت لا عيب فيها من حيث الرسم والفكرة، وصوغها بديع، ولكنها كانت لا تروق في عين عصرنا هذا لما فيها من الفخامة والبذخ المتناهي؛ فخشب المقاعد وغيرها من أدوات الأثاث كثيرًا ما كان يُغطَّى كله بأوراق من الذهب مما يخفي بهجة القطعة من حيث الفن، كما كان يُغطى في معظم الأحيان بطبقة من الجص المرسوم رسمًا بارزًا، وكانت الصناديق تُزين بأحجار شبه كريمة، وخزف ملون بسخاء، وعلى الرغم من أن مثل تلك الزخرفة عندما تقع عليها عين الناقد الحديث تبدو أحيانًا غير متقنة لا تصلح لتأدية الغرض الذي من أجله صُنعت، فليس من شك أن بعض قطع الأثاث مثل عرش «توت عنخ آمون» المشهور، وبعض الصناديق من نفس المقبرة، ومن مقبرة «آي»٦٢ تُعَدُّ أمثلة منقطعة القرين في جمال رسومها، كما أنها نماذج بديعة للصناعة المصرية نفسها، على أن الانحراف عن الذوق السليم يحدث في كل عصور الفن، وعصر «تل العمارنة» لم يكن خاليًا من إبراز قطع تنبو عنها الأعين، وأي شيء أشد قبحًا من تلك الأَسِرَّة المذهبة التي عُثر عليها في مقبرة «توت عنخ آمون»، وكذلك بعض تلك الأواني المصنوعة من قطعة واحدة من المرمر ومزينة برسوم طبعية من النباتات٦٣ النيلية، وقد رُصعت بقطع مستديرة من حجر الأبسديان، فإن العين حين تقع عليها لا تلبث أن تتحول عنها؛ لما في صورتها من انعدام الذوق.

وعلى أية حال فإن ذوق عصر «تل العمارنة» على وجه عام قد احتفظ بخصوبة بالغة في الجمال، وصلاحية لا تضارعه فيهما عصور أخرى. فمن الصناعات التي تلفت إليها الأنظار لما فيها من رشاقة وجمال فن صناعة الأدوات الصغيرة التي كان يستعملها الإنسان، وبخاصة أدوات الزينة، كملاعق العطور والأواني، والمرايا وجعبها، والأمشاط، وغيرها من الأدوات الصغيرة التي كانت تُصنع من أخشاب أجنبية أو من العاج أو من الشبة أو المرمر، أو حجر استايتيت؛ فكلها كانت قطعًا فنية للاستعمال العادي، ومن المحتمل أن توجد أشياء قليلة تأخذ العين والعقل لبساطتها وقوتها معًا. حقيقة إن مصريي القرن الرابع عشر قبل الميلاد كانوا في مستوى أية أمة متحضرة في الثقافة العالمية؛ يشهد بذلك هذه الأشياء الصغيرة بما يتجلى فيها من براهين تدل على تمتع القوم وسرورهم بكل ما هو جميل، والحقيقة أن الأشياء الصغيرة الخاصة بحضارة القوم هي في أغلب الأحيان عنوان هذه الحضارة، والمطلع على تاريخ البلاد يعرف تأثير الأفكار الآسيوية التي بدأت تتسرب إلى مصر في بداية الفتوحات المصرية في باكورة هذه الأسرة، غير أنه على ما يظهر لم يكن للنماذج الفنية التي أُتي بها من سوريا، وكذلك أصحاب الصناعات الذين نزحوا إلى مصر في عهد «تحتمس الثالث» ومن بعده من الفراعنة تأثير مستمر. وعلى أية حال فإن تأثير «سوريا» الفني لم يكن ذا أهمية في فن «تل العمارنة» على الرغم من أننا وجدنا أن الفخار السوري كان يُوجد بمصر بدرجة لا بأس بها في ذلك الوقت، ولكن أهم من ذلك هو ما يجب معرفته عن مقدار تأثير النماذج المنوانية (كريت) في الصناعات المصرية؛ لما بين البلدين من علاقات تجارية، هذا فضلًا عن أن أساليب الفن المنواني كانت تنطوي على حيوية وجاذبية في أشكالها وتصميم صنعها كما تكلمنا على ذلك من قبل.

ولا نزاع في أن فخارًا من العصر المنواني الثالث قد جُلب إلى مصر في عهد العمارنة، وقد وُجد منه قطع في مدينة «إختاتون»،٦٤ والظاهر أنه جُلب إلى مصر من «كريت» و«رودس» وغيرها من جزائر بحر إيجة، أو من بلاد الإغريق نفسها.

وقد كانت الأواني المنوانية التي على شكل ركاب السرج ومصفاة الخمر منتشرة في مصر في ذلك العهد، وكان الصانع المصري يقلدها في الخزف المطلي والمرمر والمعدن. ومن الجائز أن المصري عندما عاد إلى حب الطبيعة وتقليدها وهو ما يتميز به فن عصر «العمارنة» ثم أخذ المفتن يطلق ليده العنان بما وُهب من حرية وسهولة في تصويره الأشياء؛ قد تأثر بعض الشيء بروح الفن المنواني، ذلك الفن الذي لم يُقيد بتقاليد قط، بل كان قانون نفسه، ونستطيع أن نقول إن هذا التأثير لم يكن إلا عنصرًا ضمن عناصر عدة كان بمثابة روح تنفخ في شخصية كانت في عالم الوجود فعلًا شاعرة بقوتها، وبميلها الشخصي، ولم تكن قط ظلًّا لذوق أجنبي يُفرض على عقول تقبلها بسهولة؛ لأنها خاوية بيضاء الصحيفة؛ إذ الواقع أن الحضارة المصرية كانت شيئًا ضخمًا جدًّا، وعريقة في قِدَمها جدًّا وأصيلة في شعبها أكثر مما يجب مما جعل تكييفها تكييفًا جديدًا بمؤثرات خارجية أمرًا مستحيلًا، فالمصري كان يعرف الشيء الحسن عندما كان يراه، ولم يكن لديه أي مانع من انتحاله لنفسه، ولكنه كان في ذات الوقت عنده قوة العبقرية الحقة التي تجعل ما ينتحله لنفسه — إذا اتفق أنه انتحل شيئًا — ملكه وقطعة منه.

وخلاصة القول أن الرقي الذي حدث في عهد «تل العمارنة» منبعه وصدق تعبيره عن الطبيعة من روح مصرية، ومع ذلك لا يمكننا أن ننكر احتمال وجود تأثير منواني إغريقي رائده الحرية وعدم التقييد بالتقاليد٦٥ الموروثة.

(٤-٥) تدهور سلطان مصر في سوريا: زحف البدو و«خيتا»

المصادر وترتيب تاريخ الحوادث

لقد كان النزاع بين الأمراء الخاضعين للسيادة المصرية في «سوريا» لا ينقطع حبله ولا ينضب معينه؛ إذ كان كل أمير يرغب في توسيع رقعة إمارته، ومد نفوذه على حساب جاره، وبخاصة الضعيف، وتلك سنة الطبيعة، وقد كان موقف الفرعون وقُوَّاده في مثل هذه المنازعات هو المحافظة على الدولة وبقاء كيانها، ولذلك كانوا يقفون بجانب الوالي المخلص، وينصرونه على الوالي المغتصب الثائر على العرش، كما أنهم كانوا في الوقت نفسه لا يألون جهدًا في صد غارات أقوام البدو الهمج، الذين يغيرون على البقاع المتحضرة ويسلبون متاعها.

ولقد بقي النشاط المصري على هذا المنوال من اليقظة والشدة حتى تولى الملك «أمنحتب الثالث»، وكان متساهلًا في أمر دولته؛ فَشَلَّ نشاط الجيش، وانحلت قواه. والواقع أن هذا الفرعون قد أراد أن يترك الأمور في مختلف بقاع دولته تجري كما شاء القدر، فكان لا يعير أذنًا صاغية لأي توسل أو رجاء يأتيه من مختلف بقاع إمبراطوريته، ولم يحركه أي إنذار ينبئه بدنوِّ الخطر المحدق بممتلكاته في «سوريا» فيعد حملة يقضي على الفتنة في مهدها، بل كان منغمسًا في ملاهيه بعاصمة ملكه «طيبة». ومما زاد الطين بلة أنه لم يهتم بإصدار أوامر مشددة إلى هذه الأصقاع إلا بعد لَأْيٍ وجَهْدٍ، يُضاف إلى ذلك أن المنافسة والشره وجمع المال كانت مستحكمة بين عماله، ولعبت دورها في تقويض بنيان الإمبراطورية التي بناها جده العظيم «تحتمس الثالث» في «سوريا»؛ وبذلك تخلخل الحكم في هذه الولايات، وانتشرت الفوضى في أرجائها.

ويرجع الفضل في كشف النقاب عن هذه الحالة إلى وثائق «تل العمارنة». وقبل أن نتكلم عن أهمية هذه الوثائق نضع أمام القارئ كيف عُثر عليها.

لقد كانت بقعة «تل العمارنة»٦٦ وهي «إختاتون» عاصمة «إخناتون» الجديدة معروفة منذ زمن بعيد للباحثين عن الكنوز القديمة، كما كانت معلومة لرجال الآثار الذين كانوا يبحثون وراء العلم والدرس أمثال «لبسيوس» و«ولكنسون» وغيرهما ممن وقفوا حياتهم على التعمق في درس تاريخ مصر وآثارها، غير أن الأنظار قد اتجهت إلى هذه البقعة بصفة خاصة منذ عام سنة ١٨٨٧م، حتى ذاع اسمها، وعلا ذكرها لدرجة تفوق المعتاد؛ وذلك على أثر عثور امرأة فلاحة من القرى المجاورة لهذا التل الأثري في أثناء بحثها عن السماد في خرائبها، على حجرة صغيرة كانت فيما مضى مستعملة مخزنًا، وكان هذا المكان هو الذي تُحفظ فيه سجلات الفرعون، وقد عرفنا ذلك من أختام على لبنات تدل على ذلك.

ولقد وجدت تلك المرأة المحظوظة عددًا عظيمًا من اللوحات المصنوعة من الآجر المحروق مكتوبة بالخط المسماري البابلي، فنقلت غنيمتها على ظهر حمارها، وباعتها لجار لها بمبلغ عظيم في نظرها وهو عشرة قروش، ولقد ظنَّت في بادئ الأمر أنها قد غبنت المشتري في هذه الصفقة؛ إذ وجد الأخير صعوبة في بيعها، ولا غرابة في ذلك فإن هذه اللوحات لم يكن في شكلها أو صنعها ما يغري جامعي الآثار.

عُرضت هذه اللوحات على تجار الآثار، فقاموا بدورهم بإرسالها إلى الدكتور «أوبرت» في «باريس»، ولم يمضِ طويل زمن حتى جاءهم الجواب بأنها من صنع يد حديثة، ثم أرسل بعضها إلى المسيو «جريبو» مدير مصلحة الآثار المصرية وقتئذٍ، فصمت عن إبداء رأيه كما كانت حالته. ولما شاع الخبر في نهاية الأمر بأن هذه اللوحات قليلة القيمة حُملت في غرائر إلى «أخميم» ومدينة الأقصر، حيث كان يُنادى على بيعها. ومما يؤسف له جد الأسف أن معظمها قد حُطم في أثناء نقلها، وما بقي منها مما لم تنله يد التحطيم لا يُعد إلا جزءًا ضئيلًا مما كانت تتألف منه هذه المجموعة في الأصل، على أنه لو أُتيح لها في هذه الفترة عالم يقدِّر قيمتها، واستولى عليها في الحال، لكان لها شأن آخر أعظم مما هي عليه الآن. ولقد بدأت قيمة هذه اللوحات تُعرف بعد أن تناولت يد التدمير معظم ما كان محفوظًا في هذا المخزن الثمين، فاشترى معظم ما بقي منها كل من متحفي «بريطانيا» و«برلين»، ثم استولى متحف «سنت بيترز برج»، ومتحف «باريس» على جزء صغير منها، هذا فضلًا عما تسرب للجمعيات الخاصة، أما المتحف المصري فلم ينل منها إلا نصيبًا ضئيلًا ٦٧ بالنسبة لما كان يجب أن تستولي عليه.
هذه هي القصة المحزنة لهذا الكنز العظيم الذي بدَّدته يد الجهل، والذي يُعد بحق أهم كشف حدث في المدة الأخيرة في مصر، بل في كل بلدان الشرق القديم، ولا غرو فإن هذه اللوحات التي وصلتنا من هذه الذخيرة التي لا يتجاوز عددها الثلاثمائة والستين، والتي قد أخطأت يد الجهل تدميرها قد أسفر حل رموزها عن أنها كانت المراسلات السياسية للشئون المصرية الخارجية خلال عهد الملك «أمنحتب الثالث» ثم «أمنحتب الرابع»٦٨ وتُعَدُّ مدة حكميها من أعظم عصور التاريخ المصري القديم. وقد أسفرت المعلومات التي تمخضت عنها تلك الرسائل عن قبس من نور أضاء لنا الطرق المظلمة، والمسالك المعماة، لا في تاريخ مصر في هذا الوقت وحسب بل في كل تاريخ العالم القديم المتحضر في تلك الفترة؛ فقد كشفت لنا حقائق عن «بابل» وبلاد آمور، ومملكة الآشوريين، وبلاد متني، و«قبرص» و«كليكيا»، وكذلك كُشف لنا عن بداية حركة اليهود ونزوحهم لأول مرة في الأرض الموعودة وإن كان هناك ما يدل على وجودهم قبل هذا العهد في عهد «أمنحتب الثاني» وما قبله كما ذكرنا من قبل. ولم تقتصر نفاسة هذه اللوحات على الناحية التاريخية فحسب، بل لقد رسمت أمامنا صورة عن الحياة الاجتماعية في مختلف البلاد التي تناولتها. هذا غير ما بينته لنا من حياة هذه الأمم العقلية، وما وصل إليه ملوكها وأمراؤها وحكامها من ميزان عقلي، حتى إن القارئ ليخيل إليه أحيانًا، وهو يقرأ حركاتهم وتقلباتهم الخلقية والسياسية أنه يعيش معهم أكثر مما لو كانوا أناسًا يعاشرهم ويخالطهم الآن.

وإنه لطريف حقًّا أن يقرن المؤرخ هذه الرسائل التي أحيت لنا عصرًا غامضًا في تاريخ العالم بعد أن كان عظامًا نخرة بالكشف الحديث الذي أُميط عنه اللثام عام ١٩٢٢، ذلك الكشف الذي هز أركان العالم، وجعل الكل يتحدث بضخامته وانقطاع نظيره، تلكم هي مقبرة «توت عنخ آمون» وما عُثر فيها من نفائس أثرية. على أن هذا المظهر من الاهتمام البالغ قد أنكره العالم على وثائق «تل العمارنة»، ولا غرابة في ذلك؛ فإن كشف «توت عنخ آمون» أسفر عن ذهب وأحجار كريمة، وتماثيل فنية فخمة، أما لوحات «تل العمارنة» فهي قطع من الآجر تَزْوَرُّ عنها العين، ويَمجُّها الذوق السليم، وقد كُتبت بأحرف ليس فيها ما يلفت النظر. ولكن شتان بين ما أسداه كل منهما للعلم والتاريخ؛ حقًّا قد أهدى «توت عنخ آمون» إلى العالم ذهبًا وتحفًا فنية جميلة وحسب، وأما الألواح فكشفت لنا حياة العالم في زمن قد انقطعت صلتنا به وكنا في جهالة عمياء بالنسبة لتاريخه، ومع كل هذا فقد بِيعت الألواح بأبخس الأثمان (عشرة قروش)، وتُقدَّر تحف «توت عنخ آمون» بالقناطير المقنطرة من الذهب. والظاهر أن هذه الألواح كان مقر جزء منها في «طيبة»، فلما انتقل «أمنحتب الرابع» إلى مقره الجديد في «إختاتون» في السنة السادسة من حكمه نقل المراسلات التي كانت تجري بين والده وبين الملوك والأمراء، ثم زاد عددها في أيام حكمه هو، ولكن مما يُؤسف له أن هذه الرسائل لم تكن تؤرَّخ بتواريخ محدودة تدل على وقت كتابتها، وقد كانت تتبادل كما ذكرنا بين مصر وبابل و«متني» و«آشور» ومملكة «خيتا»، وكان يُذكر في كل رسالة اسم المرسِل واسم المرسَل إليه، وباستقرائها وجدنا أن ما يقرب من نصفها قد كُتب في عهد «أمنحتب الثالث»، وأن نصفها قد أرسله الولاة الذين كانوا تحت حكم الفرعون في «سوريا» و«فلسطين».

ويلاحظ أن رسائل الولاة لم يُذكر فيها اسم المرسل إلا في أربعة خطابات أرسلها «أكيزي» Akizzi أمير «قطنا»، وكلها كُتبت في عهد «أمنحتب الثالث»، ونستخلص من رسائل «أكيزي» هذا أن الثورة التي قام بها «أيتاكاما» Aitakama ملك «قادش»، والزحف الذي قام به «أزيرو» حاكم أراضي «الأموريين»، وأول هجوم قامت به «خيتا» في عهد ملكهم «شوبيليوليوما» على شمالي «سوريا»، وهو ما جاء ذكره في وثائق «بوغاز كوي»؛ كل هذا قد حدث في عهد «أمنحتب الثالث»، بَيْدَ أننا نشاهد في الوقت نفسه أن ملك «خيتا» قد أرسل خطابًا وديًّا «لأمنحتب الرابع» يهنئه فيه بعرش الملك (الخطاب رقم ٤١)، وكذلك نجد بين الرسائل المؤرَّخة الأخرى خطابًا من ملك «نوخاشي (٥١)» وآخر من ملك «تونب» (رقم ٥٩)، وبعض خطابات «ريبأدي» أمير «ببلوص» (جبيل) وقد كان يطلب فيها النجدة على «أزيرو» (راجع الخطاب ١٠٢ … إلخ).

ولم ينقطع تيار إرسال هذه الرسائل في عهد «أمنحتب الرابع»، وهذه يمكن معرفتها على وجه التأكيد؛ إذ إنها تذكر حوادث وقعت في عهد والد المرسَل إليه (راجع الخطابات ١٠٨ سطر ٢٨ … إلخ، ١١٦ سطر ٢١ … إلخ، ١٣١ سطر ٣٢ … إلخ، ١٣٢ سطر ١٠ … إلخ).

أما في الخطابات التي كانت تَرِد من «فلسطين» فقد وجدنا فيها مستندًا لتحديد تاريخها؛ فنجد في خطاب «لابايا» (٢٥٤) مكتوبًا بالمداد بالخط الهيراطيقي ومؤرَّخًا بالسنة الثانية عشرة من حكم «أمنحتب الرابع»؛ ومن ثم نعلم أن الخطاب الذي ذُكر فيه موت «لابايا» قد وصل إلى مصر بعد هذا التاريخ. أما أحدث خطاب وُجد في وثائق «تل العمارنة» (١٧٠) فيذكر لنا هجوم «خيتا»، ويرجع تاريخه على حسب وثائق «بوغاز كوي» إلى ما قبل موت «أمنحتب الرابع» بزمن قصير جدًّا.

ولدينا عن المدة التي قبل ذلك خطابات عن العصيان الذي قام به «عبدي أشرتا» والد «أزيرو»، وقد خصص لها «ريبأدي» نصف الخطابات التي أرسلها إلى الفرعون (٦٨–٩٥)، وكذلك الخطابات التي كان قد أرسلها «عبدي أشرتا» نفسه (٦٠ … إلخ)؛ كل هذه قد أُرسلت في غضون حكم «أمنحتب الثالث».

ولدينا مصدر آخر هام لتحديد تواريخ هذا العهد، وهو سجلات «بوغاز كوي»٦٩ (خاتوس) عاصمة مملكة «خيتا»، وبخاصة ما نعرفه منها عن المقدمات التاريخية التي كانت تفتتح بها المعاهدات التي أبرمها ملك «خيتا» «شوبيليوليوما» مع الأمراء الذين انتصر عليهم، ولكنا تنقصنا التواريخ في هذه أيضًا، بيد أننا عندما نربط المعلومات التي نجدها في كلا المصدرين «الخيتي» و«المصري» فإنه يصبح من السهل علينا الوصول إلى تحديد الزمن أو التاريخ الذي وقعت فيه الحادثة على وجه التقريب.
ولدينا تاريخ محدَّد ذكره «مورسيل» الثاني ملك «خيتا»، وهو أنه في أثناء ما كان والده «شوبيليوليوما» يحاصر «كركميش» أرسل القائدان «لوباكي» و«تشوب سلمان» ليفتحا إقليم «عمق» (وهو الوادي الذي بين جبلي لبنان)، وكانت النتيجة أن ذُعر المصريون، وولوا هاربين، هذا إلى أن ملكهم «ببخوريا» قد مات (أي أمنحتب الرابع)، وأرسلت أرملته إلى ملك «خيتا» ترجوه أن يرسل ابنه ليكون زوجًا لها؛٧٠ لأنه ليس لها ولد يتولى عرش الملك، وقد قُتل هذا الأمير في مصر كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وعلى أثر ذلك قام ملك «خيتا» ينتقم لابنه بإعلان الحرب على مصر، وقد ذُكر الغزو الذي قام به «لوباكي» في «عمق» في الخطاب الذي أُرسل للفرعون (١٧٠) بين خطابات «تل العمارنة»، وعلى ذلك فقد صار من المستحيل أن نجد بعد موت «أمنحتب الرابع» الذي تلاه نقل العاصمة إلى «طيبة» خطاباتٍ قد وُضعت في سجلات «تل العمارنة».
وعلى ذلك فلا شك أن «ببخوريا» هو لقب العرش الذي كان يحمله «أمنحتب الرابع»، وهو بالمصرية «نفر خبر رع»، وأن الخطاب الذي أُرسل إلى ملك «خيتا» قد أُرسل في آخر سنة من سني حكمه، ولدينا مستند آخر لتحديد هذا الحادث، وهو ما جاء في قول الملك «مواتلا» بأن جدَّه «شوبيليوليوما» قد ظلَّ يحارب «الخاري» (متني) في «سوريا» ستة أعوام، وفي خلالها امتد سلطانه على «قادش» وبلاد «آمور»، وبأنه انتصر على المصريين ونصب ولديه ملكين على «حلب» و«كركميش»،٧١ وفي خلال هذه المدة مات «أمنحتب الرابع»، ويُرجَّح أنه مات في نهايتها. وأكبر مدَّة يُظن أن «أمنحتب» قد حكمها ثماني عشرة سنة، وهو التاريخ الذي وجدناه على إناء من الحجر،٧٢ ولا يُظن أنه قد حكم أكثر من هذه المدة. وعلى ذلك فالخطابات التي تُنسب إليه من «تل العمارنة» تنحصر في مدة لا تتجاوز ثماني عشرة سنة، وفضلًا عن ذلك نعلم من صور مقابر «تل العمارنة» أنه قد قُدَّم لهذا الفرعون الجزية والأسرى في السنة الثانية عشرة من حكمه من بلاد «سوريا» ومن بلاد «النوبة»،٧٣ وفي نفس هذه السنة أرسل العاصي «لابايا» خطابه الذي يفيض بالولاء٧٤ (٢٥٤). وكان قبل ذلك قد أُرسل جيش مصر إلى «سوريا» لتهدئة الثورة ويحتمل أنه أُرسل في السنة الحادية عشرة من حكم «أمنحتب الرابع»، وقد انتصر انتصارًا عظيمًا بعد جهد جهيد، ومن الجائز أن هذا الجيش لم يشتبك في حروب مع ملك «خيتا» نفسه بل كان يحارب العصاة الذين كان يحرضهم هذا العاهل.
وقد وضع لنا الأستاذ «فورر» تاريخًا مؤكدًا عن هذا العهد، وصل إليه عن كسوف للشمس حدث في السنة التاسعة من حكم ملك «خيتا»٧٥ «مورسيل» الثاني؛ وذلك على حسب ما جاء في سجل تاريخ حياته، وقد كان يحارب في بلاد «أزي»، وقد استمرت هذه الحروب مدة عشرة سنوات، وقد دلَّت البحوث الفلكية على أن هذا الكسوف حدث في مارس عام ١٣٣٥ق.م. وعلى ذلك يكون «مورسيل» قد بدأ حكمه سنة ١٣٤٤، وعلى أية حال فإن أقصى تاريخ بدأ فيه «شوبيلوليوما» حكمه هو عام ١٣٤٦ق.م؛ إذ قد حكم بينه وبين «مورسيل» الثاني، «أرنواندا» الثالث مدة قصيرة، يُضاف إلى ذلك ما ذكره «شوبيلوليوما» من أن «مورسيل» قد أقام عيدًا في السنة الخامسة عشرة من حكمه (١٣٣٠ق.م) في نهر «مالا» شكرًا للإله الذي منع الطاعون الذي كان قد تفشى في بلاده خلال الحملة التي قام بها والده على المصريين لقتلهم أحد أولاده، ويُذكر أن هذا الطاعون قد استمر يفتك بالبلاد عشرين حولًا كاملًا، ومع ذلك نستنبط أن هذه الحرب قد شبت نارها عام ١٣٥٠ق.م؛ أي قبل موت عاهل «خيتا» «شوبيليوليوما» بخمسة أعوام، ونحن من جهتنا نعلم أن «أمنحتب الرابع» قد تُوفي حوالي عام ١٣٥١ق.م.

غزو قبائل البدو السامية البلاد المتحضرة

الآراميون والإسرائيليون

لقد كانت قبائل البدو العنصر الذي نزح إلى كل أنحاء «سوريا» منذ بداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقد جاء ذكر هذه القبائل في خطابات «تل العمارنة»، والواقع أنهم غمروا هذه البلاد وهدَّدوا مدنها، واتخذهم الأمراء في خدمتهم ليزيدوا من قوتهم، ومد سلطانهم في حروب بعضهم مع بعض، ثم تركوا لهم البلاد المغلوبة على أمرها ليتخذوها مقرًّا لهم ومسرحًا لنهبهم، وقد كان يُطلق على هذه القبائل المغيرة اسم «خبيري»٧٦ وكذلك كانوا يُسمون «ساجاز» أو «جاز» وحسب. وهذه التسمية وُجدت في البابلية أيضًا، ووردت كثيرًا في المتون «الخيتية»، وعلى الأخص في أسماء مجموعة آلهة في وثيقة معاهدة في نهاية قائمة طويلة بأسماء آلهة خيتية، غير أنها ذُكرت قبل آلهة العالم السفلي، وقبل كل مجموعة الآلهة الذكور والإناث لبلاد «خيتا»، ومُيزت بأنها آلهة «لولاخي» وآلهة «خبيري»، ومما لا شك فيه أنها لا تدل على اسم جنس بل تميز اسم جماعة معينة من السكان.

أما عن «لولاخي» فلا نعرف شيئًا أكثر من هذا، ولكن «خبيري» هم قبائل رحل من البدو كما ذُكر في خطابات «تل العمارنة»، وقد استوطنوا آسيا الصغرى مع سكانها الأصليين، وكان من الصعب على «خبيري» وعلى الساميين أن يستوطنوا في سهول «سوريا» وما بين النهرين والصحاري السورية العربية. وقد جاء ذكر قبائل «سوتي» (البدو) مع «خبيري» في وثائق «تل العمارنة»، وقد كانوا يعملون جنودًا مرتزقة أو يجتمعون جماعات للسلب والنهب. وهؤلاء الساميون الذين أغاروا على البقاع المتمدينة في «سوريا» وأرض «نهرين»؛ قد ذُكروا لأوَّل مرة في الوثائق الآشورية في عهد الملك «أريكدنيلو»، وقد حاربهم بوصفهم قبائل «أخلامي» وقبائل «سوتي» (البدو).

وفي المتون التي جاءت بعد كانت قبائل «أخلامي» تُسمى كثيرًا الآراميين، يُضاف إلى ذلك أنه قد وصل إلينا متن مهشم جدًّا من خطابات «تل العمارنة» يتكلم عن هؤلاء القبائل بمناسبة الكلام عن «كاردونياش» (راجع خطاب ٢٠٠)، وكذلك نعرف أن الملك «سلما نصر الأوَّل» ملك «آشور» (١٢٨٠ق.م) كان متحالفًا مع مملكة «متني» و«خيتا» وقوم «الأخلاميين»، يُضاف إلى ذلك أن «خاتوسيل الثالث» (١٢٨١ق.م) ملك «خيتا» يقص في إحدى كتاباته إلى ملك «بابل» غارة «الأخلاميين»٧٧ على رجال سفارته في أثناء سيرهم في هذه الأصقاع، ثم بعد ذلك الوقت نشاهد أن كل شمالي بلاد «نهرين» و«حران» و«نصيبين» و«شمالي سوريا» إلى ما وراء دمشق ثم إلى منبع نهر «الأردن»؛ قد احتلها «الآراميون»، وأحلوا لغتهم محل اللغات القديمة التي كانت سائدة في هذه الجهات، وكذلك أخذ سلطانهم يمتد بدون انقطاع في بلاد «بابل». وقد تحدثت إلينا خطابات «تل العمارنة» عن بداية طغيان هؤلاء القوم من الساميين الرحل على البلاد المتحضرة عندما هجروا وطنهم المقفر، وتدل ظواهر الأحوال على أن الإسرائيليين كانوا مرتبطين ارتباطًا وثيق العرى مع الآراميين في تقاليدهم القومية، فنجد أن أجداد هؤلاء يرجع أصل تكوين أساطيرهم وعاداتهم الدينية إلى أقصى بقاع جنوبي فلسطين وشرقي نهر الأردن (نهر العاصي)، وهم في ذلك يتصلون في سلسلة النسب إلى الآراميين، وهم على العكس من الكنعانيين الذين لا تربطهم بهم أية رابطة. فالإسرائيليون٧٨ ليسوا فلاحين متوطنين مثل الكنعانين، بل هم قوم رعاة رحل، فقد نزح إبراهيم — عليه السلام — بعد ولادته إلى حوران، ومن ثم إلى «حبرون»، وقد جاء في كتاب التشبه صحاح ٢٦ سطر ٥ فصل القربان، أن جد هؤلاء القوم آرامي (ثم تصرخ وتقول أمام الرب إلهك آراميًّا تائهًا كان أبي). والواقع أننا نعرف أن الإسرائيليين قد تدفقوا على الأراضي الجبلية في فلسطين (افرايم) في القرن الرابع عشر؛ إذ تدل الآثار على أنهم في عهد «مرنبتاح» بن «رعمسيس الثاني» كانوا قد استوطنوا هذه البقاع فعلًا، ومن أجل ذلك لا يمكن أن نرجع غزوهم فلسطين إلى عهد «سيتي الأوَّل» أو عهد «رعمسيس الثاني»، بل لا بد أنهم قد قاموا بغزوهم هذا في عهد قبل «أمنحتب الثاني»، والظاهر أنهم قبل ذلك الوقت كانوا يسكنون الشمال الغربي لبلاد العرب، أي في أرض «مدين»، فكانوا يضربون خيامهم في منطقة سينا البركانية، ومن ثمَّ اعتنقوا عبادة التوحيد في بيت الإله «يهوه» إله النار، وقد كان عرشه على صورة صندوق وهو تابوت «يهوه»، وكانوا يحملونه معهم أينما ساروا ويسكن بينهم أينما حلوا.

ويُعد استيطان بني إسرائيل في فلسطين وتوسع الآراميين في احتلالهم بلاد سوريا وبلاد النهرين نتيجة متتابعة لهؤلاء الناس، وقد حفظت لنا وثائق تل العمارنة لمحة عند بدايتها «نهرين»، ولا يبعد إذن أن الإسرائيليين كانوا فيما سبق في الوقت نفسه يتكلمون لهجة آرامية أيضًا، وأن اللغة العبرية قد انتقلت إلى الكنعانيين لأنهم كانوا يقيمون معهم.

ومنذ ذلك العهد كان الأجانب الذين على اتصال بالإسرائيليين يطلقون عليهم اسم «عبرين»؛ أي العبرانيين، ومن ثمَّ سُمِّيَت لغتهم العبرية، وهذه التسمية ليست اسمًا لقوم من الناس بل نعتًا لهم، ومعناه: قوم من العبر المقابل لنهر الأردن (وكلمة عبر في العربية معناه شاطئ النهر أو البحر). ومما يدل على أن العبرانيين كان لهم على ما يظهر في الأصل أهمية واسعة النطاق أن قبائل الألواح «يهوا» التي أنزلت على «موسى» قد أطلقوا كلمة «عابر» الجد الأول لجنسهم على كثير من القبائل العربية، وعلى الجد الأول «سام» (سفر التكوين الإصحاح العاشر سطر٢٣ … إلخ): (وسام أبو كل بني عابر). وبنو «سام» هم قوم لهم اسم يتسمى به أشراف البدو الذين لهم سلسلة نسب، كما أن «بني إسرائيل» لهم كذلك سلسلة نسب، وذلك خلافًا لسكان المدن الذين ضاعت أنسابهم على الرغم من أنهم من أصل عريق. ومما سبق نجد أن كلمة «عبري» لها علاقة وثيقة بكلمة «خبيري» من جهة النطق ومن جهة المعنى، لا يمكن التغاضي عنها هنا؛ ذلك أن هناك وجه شبه بين كلمة «عبري» وكلمة «خبيري» في النطق، يُضاف إلى ذلك أن الكلمة تدل على عنصر من الناس في آسيا الصغرى الخيتية. ولكنا لا يمكننا أن نتكلم هنا بنفس المعنى المعتاد الذي نطلقه على العبرانيين، فمن الجائز أن هذه التسمية التي كانت في الأصل تُطلق على قبائل البدو الجائلة في فلسطين قد حرَّف القوم اشتقاقها وجعلوها مشتقة من كلمة عبري؛ أي الذين من العبر المقابل لنهر الأردن.

وعلى أية حال فإنه ليس هناك مجال للشك في توحيد كلمة عبرانيين أو إسرائيليين بقوم «خبيري» الذين جاء ذكرهم في خطابات تل العمارنة.٧٩

الثورات في عهد أمنحتب الثالث

إن أوَّل تَعَدٍّ قامت به مملكتا «خيتا» و«متني» على الأملاك المصرية كانت باكورة الأخبار التي وصلت إلينا عن زحف خبيري (العبرانيين فيما بعد)، وقد جاءتنا عن طريق خطابات تل العمارنة التي أرسلها أمير «جبيل» «ببلوص» «ريبادي» (رب هداد) إلى الفرعون؛ إذ كانت رسائله التي لا ينقطع معينها مفعمة بالشكوى عما كانت تحدثه عصابات اللصوص من الأضرار الجسيمة؛ مما جعل بلده في مأزق حرج، حتى إن أميرها اضطرَّ في آخر الأمر أن يطلب المعونة من المؤن من دلتا النيل، وقد نوَّه في هذه الخطابات إلى أن الحال إذا استمرت على هذا المنوال فإن كل إمارته قد تصبح على وشك الإفلات من سيطرة الفرعون. وقد كتب للفرعون «أمنحتب الثالث» (الخطاب ٨٥ سطر ٦٩) يقول: «منذ ذلك اليوم الذي غادر فيه والدكم «صيدا» وأظهر فيه عطفه على بلاد «خبيري» لم يعد في استطاعتي أن أحصل على شيء.» وهذه العبارة تدل على ظاهرة وهي أن الاضطرابات في هذه الأصقاع كانت قد شملت كل مدة حكم «أمنحتب الثالث»، ولقد قام مرة «باخامناتا» Pachamnata قائد «سميرا» وحاكمها (ربيص) من قبل الفرعون بتخليص «ببلوص» (جبيل)، ولكن لم يمضِ زمن طويل حتى أصبحت «سميرا» نفسها مهددة،٨٠ وقد كان المهاجم هنا «عبدي أشرتا»٨١ أمير بلاد «الأموريين»، ولكنه أرسل خطابًا إلى «باخامناتا» «سيده» يبرر فيه هجومه بقوله إنه في أثناء غيابه هاجم قائد بلدة «شخلال» «سميرا»؛ ولذلك طار بجيشه من «عرقا» (إرقات irqaat) وخلص المدينة والقصر من يد الغاصب، ثم هو يرجوه الآن أن يرسل إليه نجدة من الجنود. وكذلك أوضح للفرعون في خطابه هذا أنه يحافظ على سلطان الفرعون في كل بلاد الأموريين و«أولآزا» Ullasa و«سمييرا» (راجع الخطابات ٦٢، ٦٠، ٦٤).
والواقع أن هذا الولاء لم يكن إلا رياء ومداهنة؛ إذ إنه قد صار بجيشه وهو لا يزال يعترف بسلطان الفرعون، واستولى على كل بلاد الساحل، ثم اتضح أنه كان على اتصال وثيق بعصابات المغيرين من «خبيري»، هذا إلى أنه كان يحرض سكان الولايات المصرية بالثورات على الحكم الفرعوني. ولقد كان لهذه التحريضات أثرها الفعال في كثير من الإمارات؛ فقد قُتل أمير «أمبي» وأمير «عرقا» Arqa بسبب هذه الدسائس والفتن، وكذلك أفلت «ريبادي» من أحبولة مؤامرة حِيكت لقتله، غير أنه جُرح جرحًا بليغًا، هذا إلى أن الأحوال قد تحرَّجت في إمارة «ريبادي»؛ إذ انتُزعت منه بلادها الواحدة تلو الأخرى، وانتهى الأمر بضياع (باترون) Batrun الواقعة شمالي «جبيل».٨٢ ولما رأى الفرعون أن الثورات لا ينقطع حبلها بل تتجدد كل يوم أرسل عامله «أمانابا» (أمنموبي) الذي كان مقيمًا في البلاط وقتئذٍ، وكان قبل ذلك نائبًا للملك على هذه الإمارات، وجهزه بجيش صغير، وتدل ظواهر الأمور على أنه وصل فعلًا بجيشه إلى «سمييرا»،٨٣ لكنه لم يعجز عن السيطرة على الموقف وحسب، بل كان مجيئه نكبة على «ببلوص» (جبيل) التي كانت أكبر معقل للسيادة المصرية في هذه الممتلكات (راجع الخطاب رقم ٧٩).
يُضاف إلى ذلك أن «زيمريدا» أمير «صيدا» قد انحاز إلى جانب «عبدي أشرتا»، على أنه لم يعق هذا الخائن أن يرسل للفرعون «أمنحتب الثالث» وإلى عماله خطابات ولاء ويطلب إلى الفرعون المعونة على «الخبيري» ويرجوه إرسال جيش، ومن جهة أخرى نعلم أن أمير «صور» قد قُتل ومعه أخت «ريبادي» وأولادها الذين احتموا في هذه المدينة، ومن ذلك يرى المرء كيف أن الضرورات قد أحرجت مراكز الأمراء في تلك الجهات إلى درجة جعلتهم يعقدون معاهدات مع أي الفريقين المتناهضين على السلطة إبقاءً على حفظ كيانهم، وبقيت «ببلوص» معلقة في يد القدر يحفها الخطر٨٤ الداهم مدة ثلاث سنوات، وبخاصة أن المؤنة لم تكن تصل إليها من الدلتا إلا ببطء وتراخٍ، وقد شكا «ريبأدي» من هذا الحال مرَّ الشكوى، حتى صرح بأنه سيضطر آخر الأمر إلى تسليم سكان بلاده وكذلك أولاده؛ حتى يمكنه أن يدفع ثمن ما يقتات به، ثم يقول: «إن حقلي قد أصبح كالمرأة التي لا زوج لها؛ لأنه يعوزه الزرع.» وفي نهاية الأمر هدَّد بأنه إذا لم يصله جواب أو يرسل جيش لنجدته في خلال شهرين فإنه سيضطر لعقد مهادنة مع «عبدي أشرتا»، أو أنه يقتل نفسه وأهله، وبذلك يتخلص من الحياة وأعبائها (راجع الخطابين ٨٢، ٨٣).
ولقد كان لهذا الخطاب أثره؛ إذ وصف لنا «ريبأدي» المخرج من المأزق فيما بعد بقوله: «عندما استولى «عبدي أشرتا» على «سمييرا» وكانت المدينة تحميها ثلة صغيرة من الجنود، وفي تلك الأثناء لم يكن معي جنود حامية؛ كتبت آنئذٍ للفرعون سيدي، فأمدني بجيش استولى على «سمييرا».»٨٥ وكان قائده «ينخام» موضع ثقة الفرعون في الأراضي السورية، والظاهر أن «عبدي أشرتا» انضم إلى القائد، وأصبح في سلم مع مصر مما اضطرَّه إلى إعادة «سمييرا» وقصر حكمه على بلاد «آمور».

وفي خلال تلك الاضطرابات أخذت الأمم المجاورة تتدخل في الممتلكات المصرية، وبخاصة مملكة «متني»، وبلاد «خيتا»، غير أن الخطابات التي تشير إلى ذلك كانت مختصرة ولم يُفهم كنهها؛ فقد كتب «ريبادي» بعد أن كان في ضائقة شديدة أن ملك «خيتا» قد تمَّ له النصر (راجع خطاب ٧٥ سطر ٣٦ … إلخ)، وكذلك كتب للفرعون أمير مجهول الاسم أن ملك «متني» قد خرج عليه بخيله ورَجْله، وكذلك نعرف عن طريق «ريبادي» أن ملك «متني» قد وصل في زحفه حتى «سمييرا»، وأنه كان مواصلًا زحفه نحو «جبيل» (ببلوص)، ولم يجبره على النكوص على عقبيه إلا قلة الماء، وفضلًا عن ذلك كان يريد نهب أراضي الآموريين (الخطاب ٥٨).

ولا ننسى أن نذكر هنا أن «دوشرتا» ملك «متني» بعد أن استولى على عرش بلاده، وأبعد قاتل أخيه جدَّد العلاقات الودية التي كانت بين والده وبين «أمنحتب الثالث»، وقد كتب له أن «خيتا» هاجمت بلاده ولكنه انتصر عليهم؛ ولذلك فهو يرسل إليه هدية من الغنائم التي استولى عليها، وتتألف من عربتين بجيادهما وغلام وفتاة،٨٦ ونلحظ أن ملك «خيتا» «شوبيليوليوما» قد ذكر في مقدمة المعاهدة التي أبرمها فيما بعد مع ابن «دوشرتا» النصر المؤقت الذي أحرزه هذا الأخير. ولقد كان من البدهي أن يستغل «دوشرتا» تدخله في الحرب التي أعلنتها «خيتا» على شمال «سوريا» بحجة أنه حليف مصر، ولكن غرضه الثاني هو توسيع نفوذه بزحفه في الجنوب، ولكن من جهة أخرى قام يعارضه «عبدي أشرتا» وتحالف مع «خيتا».٨٧
على أن تدخل الجيش المصري بإمرة «يانخام» لم يأتِ بنتيجة حاسمة في إعادة الأمن إلى نصابه؛ إذ نفهم إجمالًا من خطاب غامض المعنى أن «عبدي أشرتا» قد قتله نفر من الجند، اجتاحوا بلاد الآموريين، وأن حصن جزيرة «إروادا» (إرواد) (التي لا نعلم قط أنها كانت تحت النفوذ المصري) قد تدخلت في هذه المعركة واستولت بسفنها على الأماكن الساحلية،٨٨ وقد طلب «ريبادي» إلى ملك مصر أن يحجز سفن هذه المدينة (أرواد) في مصر، غير أن طلبه لم يلقَ أذنًا صاغية ورجعت السفن إلى مينائها دون أية معارضة من جانب المصريين، هذا فضلًا عن أن ممتلكات «عبدي أشرتا» قد آلت إلى ابنه «أزيرو» وإخوته، وكذلك كان في مقدورهم أن يعيدوا الاستيلاء على «أولوزا» و«أرداتا» و«أمبيا» و«شيجانا» وغيرها، ثم أخضعوا «عرقا» و«سمييرا» (خطاب ١٠٥). وقد كان أمير كل مدينة لا يخضع لرعوية «أزيرو» يُعذب عذابًا أليمًا،٨٩ وقد أصبح كل الإقليم الواقع بين «ببلوص» حتى «أوجاريت» (رأس الشمرة) موحدًا في عدائه «لأزيرو»، في حين أن «ينخام» الحاكم المصري كان لا يبدي حراكًا أمام ما يرى، وقد كانت كل توسلات «ريبادي» وإنذاراته بالخطر المحدق الذي كان يبديه الحاكم «ينخام» ليحفزه على إرسال طلب نجدة على جناح السرعة من مصر لحماية «جبيل» قد ذهبت أدراج الرياح (خطاب رقم ٩٨)، ولما أعيت «ريبادي» الحيل واستولى اليأس عليه انسحب من المدينة، وقد حاول «ينخام» في خلال تلك المدة أن يأتي بنجدة من «سمييرا» ولكن بدون جدوى، وقد كان يحاصر المدينة أولاد «عبدي أشرتا» برًّا وسفن «أرواد» بحرًا؛ حتى أصبحت حبيسة كأنها طائر في قفص.٩٠
يُضاف إلى ذلك أن «زيمريدي» أمير «صيدا» تحالف مع أولاد «عبدي أشرتا» و«إرواد» وحاصر معقل جزيرة «صور» وقطع المياه عن المدينة وبعض المؤن، كما قبض على رسول «أبيميلكي» ملكها؛ وبذلك قطع كل مواصلة بين «أزيرو» ومصر.٩١

وفي نهاية تلك الحروب التي مكثت مستعرة مدة عام وصل «أزيرو» على رأس إخوته إلى القوة والسلطان اللذين كان يتمتع بهما والده، غير أن الحوادث كانت تجري سراعًا؛ إذ كان «أزيرو» قد أوثق عروة التحالف مع «أيتاكاما» ملك مدينة «قادش» العظيم، الواقعة على نهر «الأرنت» (نهر العاصي) وراء بلاد الأموريين، ومنها سار بجيشه نحو «عمق» وهضبة البقاع الواقعة بين جبلي «لبنان» ثم أرض «أوبي» وسهل «دمشق» ليخضعها جميعًا، وفي إقليم «أوبي» نجد أن «أرزاويا» أمير «روخيزي» و«تواتي» أمير «لابانا» قد تحالفا معه، وكذلك حذا حذوهما «داشا» في «عمق». أما الأمراء الذين بقوا على ولائهم لمصر، فقد حُرقت بلادهم على مرأًى منهم، وقد استجاروا بملك مصر ليرسل إليهم النجدة، فلم يجدوا أذنًا صاغية. هذا فضلًا عن أن أمير «نميا وازا» المجاور لهذه الإمارات قد رأى بعينه بلاده تُخرب وأصبحت في خطر، وأغلقت بلدة «يانوعام» أبوابها في وجهه. وقد انضم ضد صفوف العدو كثير من الأمراء الآخرين مثل أمير «بوصرونا» (يحتمل أنها البصرة في حوران)، وكان يسعى لحماية إقليم «تاخاس» و«دمشق» وقلعة «كوميدي» عند مدخل «البقاع الجنوبي»، ولكن على ما يظهر سقطت «دمشق» في يد «أزيروا» أيضًا.

وقد سهل النصر لكل من «إيتاكاما» و«أزيرو» تحالفهما مع «خيتا»، وقد بدأ «شوبيليوليوما» ملك «خيتا» يوطد بهذا التحالف أولًا قوة بلاده التي كانت قد ضاعت هيبتها في آسيا الصغرى، ثم وجه عزمه وقوته بعد ذلك إلى «دوشرتا» ملك «متني» لينتزع منه ثمرة انتصاراتها في «سوريا» الشمالية، وبعد ذلك أخذ يصطدم مع الثائرين عليه. فبينما كان يخرب «سوريا» الشمالية، كان «أيتاكاما» يسير بجيشه لمقابلته، فقبض على «أكيزي» ملك «قطنا»، وقد حاول عبثًا أن يضمه إلى جانب ملك «خيتا»، وقد وصل ملوك «نوخاشي» و«ني» و«سنزار» و«تونانات» وبلدة «تونب» (بعلبك) إلى نفس الموقف اليائس، ثم طلب بإلحاح النجدة من فرعون مصر «هداد نيراري» أمير «نوخاشي» و«أكيزي» ملك «قطنا»،٩٢ وأخيرًا طلبت مدينة «تونب» أن ترسل إليها ولي عهدها ابن «أكيتشوب» بعد عشرين عامًا، ولكن بدون جدوى، وفضلًا عن ذلك فإن «أزيرو» كان يتقدم في زحفه كذلك نحو الشمال فاستولى على «ني» و«تونب» بسرعة، وبعد ذلك قدم ملك «نوخاشي»، و«إيتاكاما» ملك «قادش» و«أزيرو» فروض الطاعة لملك «خيتا» «شوبيليوليوما»، وقد كان يحق له الآن أن يفخر بمدِّه سلطانه حتى «لبنان»،٩٣ وعلى الرغم من كل هذا فإنه قد بقي على اتصال ودي مع مصر، وتبادل مع «أمنحتب الثالث» الرسائل والهدايا، وكان يرى أن هجومه على «سوريا» الشمالية أمر طبعي؛ لأنه كان يعدها بدون سيد، ولأنه كان صاحب الحق في الاستيلاء عليها؛ لأن جده قد انتصر على «حلب». وليس لدينا ما يُشعِر أن «دوشرتا» قد حاول مقاومة ملك «خيتا»؛ إذ الواقع أن مركزه وقتئذٍ كان حرجًا؛ لأن عرى الصداقة بين ملك مصر وملك «خيتا» كانت موطدة، ولما طلب إليه «أمنحتب الثالث» التزوُّج من ابنته «تدوخيبا» أرسلها إليه في الحال وزوَّدها بهدايا ثمينة، وقد كان ينتظر بطبيعة الحال أن يهديه الفرعون ذهبًا كثيرًا مما كانت مصر٩٤ غنية به.

تولي أمنحتب الرابع عرش الملك وانتشار الفوضى في سوريا

انتهى حكم «أمنحتب الثالث» بمفرده في السنة السادسة والثلاثين كما أسلفنا، والظاهر أنه كان عليلًا، ولذلك أرسل إليه «دوشرتا» الإلهة «عشتارت»٩٥ إلهة «نينوى» وربة الأرض لتشفيه من سقامه، وقد أعلنت بنفسها أنها تريد أن تذهب إلى مصر تلك الأرض التي تحبها. ولما أرسلها ملك «متني» قال: «ليت «عشتارت» ربة السماء تحمي أخي وتحميني وتمنحني وإياه حياة مداها مائة ألف سنة، وتهبني السرور العظيم.» على أن «عشتارت» لم يكن في مقدورها أن تحقق ما وعدت به، وعلى أثر تولي «أمنحتب الرابع» العرش كتب له «شوبيليوليوما» ملك «خيتا» وكذلك «دوشرتا» يطلبان استمرار أواصر الصداقة والمهادنة بينهم، وأن يرسل الهدايا التي وعد بها والده من قبل. وفي الحق كان يرى ملك «متني» أن كيان بلاده يتوقف على بقاء العلاقات الودية بينه وبين مصر. ولذلك أكد للفرعون من جديد اعتماد بلاده على مصر وحبه له؛ إذ قال: «إن «خانيجالبات» (متني) ومصر بلد واحد.» ثم ثَنَّى باستعطاف الملكة «تي» والدة «أمنحتب»، وكانت على علم أكيد بالعلاقات التي كانت بين البلدين، هذا فضلًا عما كان لها من نفوذ على ابنها، غير أن «أمنحتب الرابع» كان على شيء من الشدة٩٦ مع والدته، على الرغم مما يحفظه لها من احترام؛ إذ نشاهدها في رسم مقبرة «خيروف» في «طيبة» في أوَّل حكم ابنها، وهي واقفة خلفه تتعبد للإله «آثوم» والإلهة «حتحور». ولا شك في أن «إخناتون» حافظ على دوام الود بينه وبين ملك «متني»؛ إذ تزوج من «تدوخيبا» التي كانت زوجًا لوالده أمنحتب الثالث من قبل، ولكنه من جهة أخرى لم يرسل إليه الذهب الوفير الذي كان يأمل فيه؛ فبدلًا من تمثال الذهب المرصع باللازورد الذي وعد به والده من قبل، أرسل تمثالًا من الخشب المذهب٩٧ وحسب، وقد كان الرسول الذي بعثه ملك «متني» لهذا الغرض مكث زمنًا طويلًا في بلاد الفرعون في انتظار الهدية الموعودة.
على أن الروح الحربي الذي ملأ في أجداد «أمنحتب الرابع» كان قد انطفأ سراجه تمامًا في والده، واتجهت ميوله وأغراضه إلى أمور أخرى، فكان الولد هنا سر أبيه، فلم يعبأ بالشئون الحربية قط؛ ولذلك لم يقم وزنًا للحوادث والثورات التي كانت تنشب أظفارها في «آسيا»، بل ترك الأمور تجري في أعِنَّتِها كما فعل والده من قبل؛ مما أسفر عن الدمار والخراب في تلك الأصقاع النائية، ولقد كانت شكاوى أمراء «سوريا» وأنَّاتهم تصل إلى آذانه بلا انقطاع، وبخاصة الإنذارات الخطيرة التي كان يبعث بها «ريبأدي» مفسرًا٩٨ فيها الحالة المضطربة التي كانت تقض مضجعه وتهز كيان بلاده، والظاهر أن الرأي السائد وقتئذٍ عند رجال البلاط الفرعوني أن هذه المشاحات القائمة بين أمراء الولايات المصرية، ليست إلا أمورًا عادية، وأن كل واحد منهم يسعى في الواقع وراء أغراضه الشخصية، وأن مخاصمة بعضهم بعضًا لا ضرر فيها على سلطان مصر، بل على العكس يثبت أقدامها اتباعًا للمذهب القائل: «فرق تسد». على أن الأمراء المتهمين بالخيانة والغدر لمصر لم يعلنوا في صراحة شق عصا الطاعة على الفرعون، بل على العكس كانوا يكتبون له ولموظفيه معربين عن ولائهم راجين ألا يسمع ما يُقال من وِشايات بهم من جانب أعدائهم العصاة. فقد أكد «أيتاكاما» أمير «قادش» أن «نامياوزا»٩٩ أحد الأمراء قد بدأ القتال وأحرق بلاده، ولذلك كان رده على ذلك أن انتزع منه إقليمي «تاخاش» Tachas و«أوبي» Ubi، وردهما ثانية إلى حماية الفرعون. والواقع أن كلًّا من هذين الأميرين كان يستعين بعصابات البدو لخدمته، فكان الواحد منهما يهاجم خصمه ويغتصب منه أماكن يسلمها «للخبيري»، ثم يقوم الآخر بدوره ويقصيهم عنها ثانية.١٠٠
ولقد ظهرت هذه الحالة فيما بعد بين «زمريدا»١٠١ و«أزيرو»؛ إذ سار الأخير بجيشه نحو «سمييرا» لحمايتها، غير أن الأهلين لم يسمحوا له بدخولها،١٠٢ وطلبوا إلى ملك «خيتا» يد المساعدة على صدِّ الخطر الذي كان يتهدد بلده، على يد مملكة خيتا، وعلى ذلك برَّر استيلاءه على تونب.١٠٣

وفي الحق لم يكن يقصد أي أمير من هؤلاء أن يغير السلطة المصرية ليكون تحت نير دولة أخرى بأية حال من الأحوال، بل كان كل منهم يرغب في الاستفادة من الموقف السياسي ليمد سلطان إمارته على حساب خصمه المجاور له مستعملًا في الوصول إلى ذلك الجنود البدو الذين كانوا في خدمته، هذا على أن يبقى طريق المفاوضات بينه وبين كل من مصر ومملكة «خيتا» مفتوحًا.

على أن مصر لم تصبر على هذه الحال طويلًا؛ إذ تحركت فجأة، وتدخلت في قمع تلك الثورات، ووقف تلك الحالة المحزنة عند حد.

وتدل ظواهر الأمور على أن هذا النشاط قد حدث عند اعتلاء «أمنحتب الرابع» العرش.١٠٤ وكان القائد «ينخام» الذي في يده القيادة العليا في بلاد آسيا موجودًا وقتئذٍ في البلاط الفرعوني، وكان «ريبادي» يطلب على الدوام بإلحاح إلى الفرعون أن يرسله على رأس جيش لكسر شوكة الثوار. وتدل الوثائق على أن هذا القائد ظل في بادئ الأمر مقيمًا في مصر، ولكنه أرسل على ما يظهر إلى «سوريا» جيشًا بإمرة قائد يُسمَّى «باخور» (بوخورو)، وقد نشر على أثر ذلك أمرًا لكل الأمراء التابعين للحكم المصري بأن يعدوا لهذا الجيش العدة من الجنود والمؤن، والذخائر، فأظهر كل الأمراء صغيرهم وعظيمهم الطاعة،١٠٥ ولم يستثنِ من ذلك «أيتاكاما»١٠٦ أمير «قادش» و«أرزاويا» أمير «روخيري»، غير أن هذه الحركة من جانب المصريين لم تأتِ بنتيجة حاسمة، بل على العكس وجدنا أن «سمييرا» استسلمت «لأزيرو»، وكذلك قُتل القائد المصري «باوارو» على الرغم من تحذير «ريبادي» أمير «جبيل» له، وكان موته نكبة عليه؛ إذ أصبح في نفس الموقف الحرج الذي كان فيه أيام محاربة «عبدي أشرتا» له، يُضاف إلى ذلك أن «أبيميلكي» أمير «صور» لم يتحسس الموقف الذي كان فيه. حقًّا قد صُدت هجمة عن القلعة نفسها قام بها «زيمريدي» أمير «صيدا» بمعاضدة «أزيرو» و«أرواد»، ولكن «زيمردي» استولى على «أوزو» الواقعة في اليابسة؛ وبذلك منع المياه وورود الخشب عن قلعة الجزيرة، فجعل بذلك دفن القتلى مستحيلًا١٠٧ (في جبيل)، وعلى الرغم من موقف «ريبأدي» الحرج فإنه لم يُعِرْ أذنًا صاغية لإلحاح أسرته عليه في طلب مهادنة «أزيرو» ومحالفته؛ وذلك وثوقًا منه في وصول نجدة مصرية تحل بلدته من عقالها، بيد أن شعبه لما رأى أن لا أمل في النجدة المصرية المزعومة شقوا عليه عصا الطاعة، ولكنه أخمد الفتنة في مهدها بعد أن أراق دماء غزيرة. ولما اشتدت به الحال عما كانت عليه، ولم يجد له أي مخرج، ولَّى وجهه شطر «خامونير» ملك «بيروت»، وطلب النجدة منه، ولكنه لما عاد وجد أن أخاه قد أغلق باب «جبيل» في وجهه، وانضم إلى «أزيرو»، «وقد وقع ما لم يحدث منذ الأبدية إذ أُخرجت آلهتنا من بلدنا.»
وقد أرسل «أزيرو» الطاعن في السن بعد أن رأى أسرته في يد أعدائه الرسالة تلو الرسالة للفرعون يتوسل إليه أن يرسل النجدة، مظهرًا له أهمية «جبيل» ومكانتها بالنسبة لأملاك مصر في «آسيا»، ولما استحوذ عليه القنوط أرسل ابنه إلى البلاط الفرعوني رجاء أن يصل إلى حل، ولكنه مكث أربعة أشهر في العاصمة دون أن يرى وجه الفرعون،١٠٨ وفي خلال ذلك لم ينفك «ريبأدي» عن طلب المعونة والنجدة من «أبيميلكي» أمير صور، ولقد جاءته البشرى في نهاية الأمر هو و«أمونير» أمير «بيروت» بأن جيشًا مصريًّا في طريقه لنجدته، ومما يُؤسف له أننا لا نعلم شيئًا بعد ذلك عن أمر هذا الجيش.١٠٩ ولكنا نعلم من رسالة بعث بها الفرعون فيما بعد إلى «أزيرو» أن «ريبأدي» حين يئس من معونة الفرعون ولَّى وجهه شطر «صيدا»، وقد حاول هناك أن يصل إلى اتفاق مع عدوه حتى يسمح له بالعودة إلى «جبيل» وطنه، ولكن ملك «صيدا» على ما يظهر سلمه لعدوه فقتله.١١٠
ولا شك أن هذه الحوادث المحزنة قد امتد أجلها عدة سنوات، غير أننا لا نعرف على وجه التحقيق مقدار تدخل «متني» في هذه الاضطرابات، ولا إلى أي مدى كان تدخل «خيتا». ولكن مما جاء في أخبار «شوبيليوليوما» ملك «خيتا» نعلم أن «دوشرتا» ملك «متني» قد نقض ميثاق السلام بينهما بإرساله حملة إلى «سوريا» الشمالية، وكان أهل «خيتا» يدعون حق التسلط عليها، وقد كان من نتائج هذه الحرب أن طرد «ساروبايا» ملك «نوخاشي» من بلاده، فلم يرضَ عن هذا العمل على ما يظهر، وأرسل بعض الجنود لمحاربته،١١١ وخلافًا لذلك لم نسمع بأي تدخل من جانبه. وفي خلال السنين التالية لذلك نعرف أن طائفة كبيرة من الملوك العاديين كانوا يحكمون في تلك البقاع، وكانوا على صفاء وود مع السفراء المصريين أيضًا، فنرى من بينهم «إيتاكاما» ملك «قادش»، وكذلك «أزيرو» ملك الآموريين قد عادا إلى الاعتراف بسلطان مصر١١٢ أما عن تدخل «متني» في هذا الوقت، فلم نجد له ذكرًا في خطابات «تل العمارنة». وعلى أية حال فلا بد من الاعتراف هنا بأن رابطة الصداقة التي كانت بين مصر «ودوشرتا» ملك «متني» قد أثرت تأثيرًا فعالًا في سير الحوادث بالنسبة لمصر في تلك الفترة المليئة بالحوادث الجسام.

الحالة في فلسطين

لم تكن الحالة في فلسطين تدعو قط إلى الارتياح والطمأنينة، بل كان الاضطراب ضاربًا أطنابه في نواحيها، كما كانت الحالة في إقليم نهر «الأرنت» وفي بلاد «فينقيا» تدعو كذلك إلى القلق لانتشار الثورات فيها؛ ومن أجل ذلك كانت الشكاوى تنهال على الفرعون مفعمة بالأنين من عسف بعض الأمراء، وقيام الثورات في بعض الأماكن، هذا فضلًا عن زحف قبائل «خبيري» في الولايات، ونهبهم بلادهم، وسلب متاعهم، وقد كان الخطر منهم على الممتلكات المصرية عظيمًا، ولذلك كان طلبهم المعونة من الفرعون لوقاية المدن لا ينفك عن الإلحاح في إرسال حملة وإمداد المدن بحاميات تتقي بها شر المغيرين، يُضاف إلى ذلك أن الشئون الخارجية الخاصة بإرسال الجزية وبخاصة العبيد والقيان، وبحماية القوافل التي كانت تسافر إلى «خانيجالبات» (بلاد متني) وإلى بلاد «بابل»؛ كان لا بد لتأمين طرقها والمحافظة على سلامتها، وتأمين حياة الموظفين القائمين على حراستها من قوة حربية لصد غارات اللصوص وقطاع الطرق. ولا أدل على سوء الحال من هذه الناحية من الشكوى التي أرسلها «بورنابورياش» ملك «بابل» إلى «أمنحتب الرابع» يذكر فيها ما حاق بقافلتين من قوافل التجارة والسلب والنهب على أيدي أمراء المدن غير ما أنزله أمير «ساتاتنا» أمير «عكا» وأحد الأمراء المجاورين له في مكان يُدعى «خيناتون» في إقليم «الجليلي» وتجار بلاد «بابل» من النهب والسلب والتقتيل.١١٣
وليس ثمة شك في أن هؤلاء الأمراء أنفسهم كانوا يبعثون الرسائل المفعمة بالولاء والطاعة لسيدهم الفرعون. أما في شمالي «فلسطين» حيث كان «نامياوزا» يمثل مصالح الفرعون١١٤ كان مرجل البلاد يغلي، والثورات تكشر عن أنيابها في كل مكان، فقد حاول أمير «خاسور» وهي معقل جبلى أن يتحد مع قبائل «خبيري» ليمد رقعة إقليمه، ونذكر هنا من بين الأماكن المأهولة التي استولى عليها ثلاثة بلدان من إقليم «إياب»، وكان حاكمها يسيطر على بلدة «بلا» Pella الواقعة على مسافة بعيدة في الجنوب على الضفة الأخرى لنهر الأردن، ويظهر أنه استولى١١٥ على «إياب» ذاتها بنفس الطريقة، أما «لابايا» في الجهة الجنوبية فكان أشد وطأة وأعظم خطرًا؛ إذ أخذ يزحف بجيشه يعاضده «ميلكيل» و«تاجي» وهو والد زوجة الأخير فاستولى على ولايات «سهل يزرعيل» الواحدة تلو الأخرى مثل «شونم» Sunem و«بورقانا» Burquna و«جتريمون» Gitrimmon وغيرها. أما «شكيم» Sickim وإقليمها فقد أُعطي لقبائل «خبيرو»، وكذلك حاصر الأمير «بيريديا»، وفي الجنوب استولى على «غزة» الواقعة في سهل الشاطئ.١١٦
ولما تفاقم الأمر إلى هذا الحد همَّ الفرعون بالتدخل في الأمر بجد ليضع الأمور في نصابها. ويُرجح أن هذا التدخل من جانب الفرعون كان في السنة الحادية عشرة من حكم «أمنحتب الرابع»، وكان القائد المصري في هذه الأصقاع آنئذٍ هو «يانخام»، أما في «سوريا» فقد أرسل الفرعون «حاني»١١٧ بن «مري رع»، وكان يحمل لقب «ابن الملك» (نائب الملك) في أرض «كنعان»، وأمره بأن يأتي برءوس أعداء الفرعون. وعلى إثر وصوله لم يُبْدِ أي أمير مقاومة ما أو عنادًا بعد إعلان أوامر سيده التي كانت تشد من أزرها جيوشه،١١٨ بل لقد كان كل أمير يتسابق لإظهار سروره، وتقديم فروض الطاعة، ويعلن انضمامه للفرعون، ولم يستثنِ من ذلك ملك «خاسور» ولا الأمراء «لابايا» و«تاجي» و«ميلكيل»؛ فقد أتوا إليه طائعين، وقَبِل الفرعون خضوع «ميلكيل» و«تاجي»، أما «لابايا» فلم يغفر له خطيئته، ولم يقبل له شفاعة على الرغم من تضرعاته وتوسلاته للفرعون وأخذه المواثيق على نفسه أن يكون عبدًا خاضعًا لسيده، وأنه مستعد لتقديم زوجه أو طعن نفسه١١٩ بخنجر إن أمره الفرعون بذلك، غير أن كل هذه التضحيات لم تحرِّك نفس الفرعون، بل ظلَّ حانقًا عليه يتوق فؤاده أن يُساق إليه هذا الغادر إلى مصر، وقد وكل هذه المهمة إلى أمير «عكا»، غير أن الرشوة لعبت دورها فأخلى سبيله خلسة وولى الأدبار، ولكنه اغتِيل في أثناء هربه، وكذلك هرب «إياب» أمير «بلا»١٢٠ من قائد الملك. هذا واستولى «بيريديا» أمير «مجدو» على إقليم «سونم»، وكان مشتركًا في مطاردة «لابايا» بغيرة وحمية، وكذلك استولى على مدن أمراء آخرين، وهؤلاء كانوا يفخرون بأنهم كانوا يستعبدون فلاحي البلاد المجاورة في أعمال السخرة.١٢١
وقد عادت الحملة المصرية التي أحرزت هذه الانتصارات لمصر في يناير من السنة الثانية عشرة١٢٢ من حكم «أمنحتب الرابع»، وأحضر قائدها معه الأسرى من الساميين، وليس بينهم أسير واحد من «خيتا»، وكذلك جاء في ركابه سفراء من «سوريا» يحملون الجزية التي قدَّموها إلى الفرعون، وتدل الرسوم التي عُثر عليها في تل العمارنة على أن الغنائم لم تكن عظيمة بالنسبة لغنائم الملوك السابقين، هذا فضلًا عن أن هذه الحملة التأديبية لم يدم أثرها زمنًا طويلًا؛ إذ ما كادت تنتهي حتى أخذ البريد يمطر الفرعون وابلًا من الشكاوى أكثر من ذي قبل، فكان ولدا «لابايا» يتميزان غيظًا لقتل والدهما ويتحفزان للأخذ له بالثأر، ومن أجل ذلك أخذا يحرضان القبائل التي كانت تدين لوالدهما بالطاعة، وساعدهما في ذلك «ميليكل» و«تاجي» على الرغم مما كانا يبعثان به للفرعون من الرسائل معربين فيها عن ولائهما وخضوعهما١٢٣ له، وذلك في حين كانت قبائل «خبيري» يتوغلون في البلاد بقضهم وقضيضهم ناهبين الأماكن المأهولة، وفارضين الضرائب الفادحة على مدن الساحل أمثال «غزة» و«إيالون» و«صرعا» و«لاكش» وحتى «عسقلان»١٢٤ لم تفلت من أيديهم ففرضوا عليها الجزية، وكان الحاكم المصري في هذه البقاع عاجزًا عن تقديم مساعدة تُذكر، حتى إنه اضطر أن يسحب جنود بعض المعاقل لحماية «غزة»١٢٥ الواقعة عند الحدود المصرية.
وهكذا ترك المدن وولاتها يدافعون عن كيانهم؛ ففي «أورشليم» جاهد «عبدي خيبا» أن يصد هجوم قبائل «الخبيري» و«ميلكيل» وأولاد «لابايا» على الإقليم الساحلي التابع «لشواردانا» أمير «كلنا» «قعلا» غرب «أورشليم»، وكان يؤازره في ذلك «سوراتا» أمير «عكا» و«أنداروتا» أمير «أكشاب»، وقد سار المتحالفون١٢٦ في بادئ الأمر بروح الوئام، ولكن عندما ثارت بلدة «قعلا» على أميرها أسرع «عبدي خيبا» ومعه «شوارداتا» ليخلص المدينة من الوقوع في يد «ميلكيل»،١٢٧ غير أنه سرعان ما دبَّ بينهما دبيب الطمع والأثرة، وبدأ كل منهما يعمل لحسابه، فلما تمكن «شوارداتا» من الاستيلاء على المدينة أراد أن يستخلصها لنفسه على كره من «عبدي خيبا»؛ ولذلك أعلن الأخير أنه «لابايا» ثانٍ انضم في الحال إلى «ميلكيل»، ولكن النصر حالف «شوارداتا»؛ إذ أخذت المدن تخضع لسلطانه الواحدة تلو الأخرى، حتى بلغ ما استولى عليه ثلاثين مكانًا، وكان «ميلكيل» في الوقت نفسه يحرض قبائل «خبيري» عليه مما اضطرَّه إلى طلب النجدة من الفرعون، وانتهى الأمر أن ساءت حالة «عبدي خيبا»١٢٨ فأصبح محصورًا في «أورشليم»، ولذلك كتب إلى الفرعون يرجوه إذا لم يكن في استطاعته إرسال جيش لإنقاذه أن يرسل في طلبه هو وأسرته حتى يموت بجوار سيده الفرعون.١٢٩
وقد عملت يد القتل في الأمراء١٣٠ بدرجة عظيمة؛ حتى صارت مدن الولايات الفرعونية لا ولاة لها. يُضاف إلى هذا أن إقليم الجنوب الأقصى من فلسطين قد اكتظ بقبائل «خبيري»١٣١ وأصبحت كل مدن الداخل معادية للحكم المصري؛ أمثال «أودومو» (دوما) (راجع يوشع ١٥ سطر ٥٢)، و«أرارو»، و«خنيانابي» (يوشع ١١، ٢١ و١٥، ٥٠) «مجدالم» وغيرها؛ وبذلك أصبحت كل المدن التي على منحدرات جبال يهودا جنوبي «حبرون» معادية لمصر،١٣٢ ولذلك كان «عبدي خيبا» يكرر في رسائله للفرعون قوله: «إذا توانى الفرعون في إرسال نجدة فإن كل ممتلكاته ستقع فريسة في يد قبائل خبيري.»١٣٣
وقد كانت نتيجة هذا التهديد المتكرر أن أرسل الفرعون القائد «ينخام»١٣٤ الذي كان يثق به القوم إلى فلسطين. غير أنه عجز عن القيام بعمل حاسم في هذا الجوِّ المضطرب. هذا فضلًا عن أنه في السنين الختامية لحكم «إخناتون» كانت السيادة المصرية قد تفككت عراها وانحلت أواصرها في خارج البلاد وداخلها.

سيطرة «خيتا» على سوريا

سقوط دولة «متني» وظهور الآشوريين: بعد أن تدخل الجيش المصري في قمع الثورات في فلسطين أرسل الفرعون القائد «خاني» إلى الأقاليم الشمالية لإعادة النظام والأمن فيها بعد أن اختل ميزانها. وفي الحق كان القائمون بالأمور في هذه البقاع أصحاب حزم وعزم،١٣٥ يقبضون على مقاليد الأمور بيد قوية أكثر من أولئك الذين كانوا في فلسطين؛ ولذلك لم تكن مهمة «خاني» شن حرب، بل كان عمله ينفذ بالطرق السلمية، ومن أجل هذا لم يكن في هذه الجهات إلا قوة صغيرة من الجند، وكان أكبر مشاغب هناك «أزيرو» أمير بلاد «آمور»، وإن لم تصلنا معلومات وثيقة عن سلوكه وتصرفاته في هذه الآونة بعينها، ولكنا نجد أن الفرعون أرسل إليه أمره بإعادة بناء «سمييرا»، وكان عليه كذلك أن يقدِّم نفسه في الحال للبلاط الفرعوني ليبرر موقفه المشين في الحوادث الأخيرة. ولما أحس «أزيرو» حضور رسول الفرعون ذهب في الحال إلى «تونب» وآوى إليها حذرًا من مقابلته. وقد مكث «خاني» مدة طويلة في انتظار «أزيرو»، ولما سئم الانتظار عاد إلى مصر. ولا نعرف إلى أي مدى تدخل في الأمور هناك. ومن المدهش أن «أزيرو» لم يرد أن يحفل برسول الفرعون كما حفل بمبعوث ملك «خيتا»، ولكنه مع ذلك قدَّم اعتذاره للفرعون عن عمله هذا بحجة أنه لم يكن يعلم بوصول «خاني» رسول الفرعون إلا متأخرًا، وأنه لم يستطع الوصول لمقابلته قبل مغادرته بلاده، ومع ذلك فقد احتفل به أخوه وأكرم وفادته وأغدق له العطايا والهدايا الثمينة، ثم أخذ على نفسه بأنه سيراعي ذلك في المستقبل.
أما عن إعادة بناء «سمييرا» المخربة فقد طلب إرجاء ذلك، إذ كان مضطرًّا؛ لأن ملك «نوخاشي» قد شن عليه حربًا عوانًا ولا بد له من الدفاع عن كيانه. وأما عن استيلائه على ببلوص (جبيل) فقد أوضح للفرعون في خطاب آخر أن ذلك لا يضر الفرعون في شيء، وليس فيه خسارة تلحق بالسيادة المصرية؛ إذ يقول: «إني خادمك مثل كل الأمراء الذين كانوا قبلي في المدينة (يقصد ريبادي)، وإني على استعداد أن أقدم للفرعون ما كان يقدمه هذا (أي ريبادي).» ولقد كانت الأحوال تضطر «أزيرو» ألا يعلن العصيان وقتئذٍ في وجه الفرعون؛ إذ كان في حاجة ماسة لمساعدة الجيش المصري إذا ما هاجمه ملك «خيتا» الذي كان يظهر له الغدر، وقدم «أزيرو» الأمر الذي أصدره ملك «نوخاشي» إلى وكيله «خاتب» ليفصل فيه. وفيه يأمره ملك «نوخاشي» أنه إذا لم ينضم إليه فإن بلاده ستُنتزع منه، ويغتصب منه معظم كنوزه المعدنية وتبقى في حيازته.١٣٦ وقد رجا «أزيرو» «خاني» أن يزوره مرة ثانية، وحينذاك سيكون على استعداد لتسليمه كل أعداء الملك.
أما الفرعون «إخناتون» فقد أجاب على خطاب «أزيرو» برسالة حُفظت لنا في وثائق «تل العمارنة»، وهي الرسالة الوحيدة التي يمكن للمؤرخ أن يرى بين سطورها بصيصًا ضئيلًا عن أخلاق هذا الفرعون، وقد بسط فيها سلوك «أزيرو» المشين ضد «ريبادي»، فقد تحالف مع «أيتاكاما» أمير «قادش» (كنزا) الذي كان يحقد عليه الفرعون ويبغضه. هذا إلى أن اعتذاراته التي بعث بها إليه محض كذب وافتراء، وكل ما قاله بعيد عن الحقيقة كل البعد، وكذلك حذره بأنه إذا أصر على عناده فإنه سيقضي عليه وعلى جنسه بحد السيف، أما إذا رجع عن غَيِّه فإنه سيكتب له الحياة، ثم قال إنك تعلم أن الملك لما أظهر حيال كل بلاد كنعان الحقد والبغضاء قسا في معاملتها قسوة شديدة، وعلى ذلك يجب عليك أن تحضر في الحال إلى البلاط أو ترسل ابنك، وحينئذٍ ستشاهد الملك الذي تعيش كل الأراضي بنظرة منه. هذا إلى أن الملك قد أرسل مع «خاني» قائمة بأسماء المنشقين الذين يجب عليه أن يأتي بهم مكبلين في السلاسل والأغلال، ولم يسع «أزيرو» إلا الخضوع لكل طلبات الفرعون، وفي خلال تلك الفترة كان موقف «أزيرو» قد تحرج أكثر مما كان عليه من قبل؛ لأن «شوبيلوليوما» كان قد توغل بجيشه في «نوخاشي»، ولكن على الرغم من ذلك فإنه حزم رأيه على الذهاب إلى مصر مع «خاتب»؛ ثقةً منه بالضمانات التي فاه بها الفرعون، وسيده ووالده «دودو» الذي كان سنده العظيم بين رجال البلاط،١٣٧ وقد انهال ملك «نوخاشي» باللوم على ابن «أزيرو» قائلًا إنه قد باع والده بالذهب في مصر، وإنه لن يعود قط، وإن البدو (سوتي) قد انقضوا على بلاده، وإنه قد أصبح آلة١٣٨ في يد مصر، غير أن هذه المخاوف لم يتحقق منها شيء؛ إذ استُقبل «أزيرو» في مصر استقبالًا حسنًا، وعاد إلى بلاد الآمورين معافًى صحيحًا وهو ممتلئ أملًا بقدرته على صدِّ زحف «خيتا» عن بلاده.
وقد كانت المصائب والويلات تحيق ببلاد «متني» وتزلزل كيان عرشها. والواقع أنه منذ زمن بعيد كان سقوط دولة «متني» على يد أمراء آشور يلوح في الجو حتى أصبح أمرًا منتظرًا، فمنذ عام ١٣٩٠ق.م؛ أي في نفس الوقت الذي اعتلى فيه «دوشرتا» العرش جدَّد «أشور ناديناشي» ملك «آشور» علاقته الودية بمصر، فأهداه «أمنحتب الثالث» ثلاثين «تالنت» من الذهب (التالنت يُقدر ﺑ ٢١٣–٢٥٣ جنيهًا)، وكذلك أعطى مثلها ملك «متني». وقد كتب خلفه الثاني وهو «أشورو بالليت»١٣٩ إلى «إخناتون» يطلب إليه بطبيعة الحال مقدارًا عظيمًا من الذهب، وقد خاطبه على قدم المساواة بلفظة «أخ»، ولكن ملك «كردونياش» (عاهل بابل) لم يَرُقْ في نظره أن يخاطبه أحد الأمراء التابعين له كأنه نِدَّه؛ ولذلك كتب «بورنابورياش» (١٣٩٠ق.م) إلى «أمنحتب الرابع» منوِّهًا له بالمسلك الودي الذي اتخذه والده «كوريجالزو» حياله عندما طلب الكنعانيون يد المساعد لمناهضة المصريين، ثم استمر قائلًا: «إن هذا الآشوري من رعيتي لم أرسله إليك فلماذا ذهب إليك وإلى أرضك من تلقاء نفسه؟ فإذا كنت تحرص على مودتي فلا تتعامل قط معه بل دعه يَعُدْ فارغ الأيدي.»١٤٠ ولم يكن ملك «بابل» في حالة تمكنه من مهاجمة الآشوريين في تلك الفترة، ولكن على أثر زواجه١٤١ هو أو زواج أخيه من إحدى بنات «آشورو بالليت» — وقد كان لهذا الزواج أثره فيما بعد في الفصل في مصير دولة «بابل» — قد سنحت له الفرصة عندئذٍ لمهاجمة بلاد «متني».
انتهز «شوبيليوليوما» مهاجمة١٤٢ «دوشرتا» لبلاد «نوخاشي»، وانقضَّ على الأراضي الجبلية الواقعة على ضفتي نهر الفرات في شمال «متني»، وليس لدينا معلومات صريحة عن نتائج هذه الحرب، ولكن هذه التقارير التي كان يضعها ملك «خيتا» عن حروبه وجدناها في مقدمة المعاهدات التي كان يبرمها بينه وبين بلاد «متني» و«نوخاشي» و«كزوتنا»، وكانت كلها مكتوبة بصورة واحدة، وكانت طريقة إنشائها مشوهة، وقد كتبها هو أو مستشاره باللغة الأكادية، والظاهر أنه كان لا يجيدها، وقد كان يكتب في كل مرة جزءًا من الحوادث، أما الجزء الآخر فكان لا يُذكر قط أو يذكر باختصار. ولكن على الرغم من ذلك أمكننا أن نصل إلى صورة عامة عن سير الحروب؛ بربط الحوادث المنفردة بعضها ببعض.

ولقد كان أول ما اهتم به «شوبيليوليوما» انهماكه في تثبيت سلطان «خيتا» في شرقي «آسيا» الصغرى، وفي الأراضي الجبلية الواقعة على نهر «الفرات» وفي «أسوا» وفي المقاطعات التي ضمها لملكه ثانية. وهذا يفسر لنا السبب الذي من أجله لم يكن لهجومه في «سوريا» الشمالية أثر باقٍ، فتوغل في «إسوا»، وطرد العناصر الأجنبية من بلاده، وضم إلى جانبه «سونا سورا» ملك «كزواتنا». وقد ذكر لنا هذا الملك الأخير أنه قد أصبح سعيدًا؛ إذ لم يعد بعد الآن خادم «متني»، بل صار ملكًا حرًّا طليقًا، ويُلاحظ أن المعاهدة تحتوي على مواد شديدة بالنسبة لأهل «متني»، وربطت بلاد «كزواتنا» وحاكمها بروابط وثيقة ثابتة مع مملكة «خيتا»، ونجد مظاهر هذه الروابط الدائمة بين البلدين في المعاهدات التي كانت تُبرم بين «خيتا» وأية أمة أخرى، فقد كان يذكر دائمًا في ذيل المعاهدة أسماء آلهة «خيتا» وآلهة «كزواتنا» جنبًا لجنب بوصفهم شهودًا.

أما في بلاد «متني» نفسها فقد أبرم «شوبيليوليوما» معاهدة مع المطالب بعرش هذه البلاد، ويُدعى «أرتاتاما» اعترف فيها بأنه ملك بلاد «متني» الشرعي، وقام في نفس الوقت «أشورو بالليت» ملك «آشور» بهجوم على «متني». هذا إلى أن «شوبيليوليوما» بعد أن هزم «إسوا» هزيمة منكرة في حملة ثانية أصبح ما تبقى أمامه في ميدان القتال لعبة سهلة، وقد انضم إليه أمير «ألسي» Alzi الذي كان يسيطر على أعالي نهر دجلة، وبذلك صار من السهل عليه الاستيلاء على «واسو-جاني» عاصمة مملكة «متني» ونهب كنوزها، ولم يكن في مقدور «دوشرتا» وقتئذٍ أن يدافع عن بلاده بأية حالٍ من الأحوال.
بعد ذلك وَلَّى ملك «خيتا» وجهه شطر نهر الفرات متجهًا نحو الجنوب فاستولى على «حلب» وكذلك «تاكوا» Takuwa ملك «ني» Ni، وقد حاول أخوه «أكيتشوب» Akitesub الذي كان يرأس جنود «المارياني» أن يقاوم ملك «خيتا» بمناصرة «أكيا» Akià أمير «أراختي (إرَّخ)»، وساق الثوار أسرى في الأغلال، وكذلك ساءت الحال في «قطنا»؛ فقد تحققت المخاوف التي كان يعلنها على الملأ أميرها منذ سنين مضت. بعد ذلك سار «شوبيليوليوما» بجيشه نحو «نوخاشي»، واستولى على أسرة ملكها «ساروبسا» Sarrupsa وأخذهم أسرى،١٤٣ وكان قد وعد فيما مضى أن يحمي هذا الملك، والظاهر أنه قد قتله تخلصًا منه، وولَّى مكانه «تيتا» ملكًا على «نوخاشي» وكانت هذه الحوادث تجري في الوقت الذي كان قد أرسل فيه «أزيرو» من «تونب» إلى الفرعون يطلب إليه العون، ثم ذهب بنفسه إلى البلاط كما ذكرنا آنفًا.

ولقد كان مَثَل المصريين في عدم القيام بأية مقاومة في هذه الحروب كمثل «دوشرتا» «ملك متني»؛ إذ إن الحاميات المصرية التي بقيت في يد المصريين في بعض الأماكن مثل «تونب» كانت ضعيفة خائرة القوى، ولذلك نُزعت منه من غير مقاومة تُذكر، ومن الغريب أن «شوبيليوليوما» ملك «خيتا» قد تجاهل في تقاريره الحربية ما استولى عليه من الأماكن التي كانت تدين لمصر بالطاعة والسلطان، ويرجع سبب ذلك إلى أنه كان يعد السلام ما زال قائمًا بين البلدين بصفة رسمية.

أما «أزيرو» فإنه أخذ يتخذ العدة لنفسه ويتهيأ للموقف الجديد الذي حتمته الأحوال، فعلى أثر عودته من مصر قدم لملك «خيتا» فروض الطاعة ووضع نفسه تحت سلطانه، وبقي على هذه الحالة حتى وافاه الأجل المحتوم. وفي خلال ذلك الوقت كان «شوبيليوليوما» قد سيطر على كل أراضي «الأموريين» وفرض عليهم جزية يؤدونها تُقدر بمبلغ ثلاثمائة شكل من خالص الذهب.١٤٤
غير أن «أيتاكاما» ملك «قادش» قد قام من جهة أخرى يسعى للمحافظة على استقلاله، ولكنه غُلب على أمره وأُسِرَت أسرته وجنوده من قبائل «الماريانا»، وكذلك استولى على إقليم إمارة «أبينا» وإقليم «آبي» أو «أوبا» (الذي جاء ذكره في خطابات «تل العمارنة»)، وعلى سهول «دمشق» التابعة له، وقد رأى ملك «خيتا» أنه من الحكمة وحصافة الرأي أن يعفو عن «أيتاكاما» ويعيده على عرش ملكه، ولكنه قام فيما بعد بثورة على «مورسيل» ملك «خيتا» وانتصر عليه الأخير في السنة التاسعة من حكمه.١٤٥

ومما سبق نعلم أن «شوبيليوليوما» قد استولى من جديد في مدة عام على كل أراضي نهر الفرات حتى «لبنان». هذا في ميدان الحرب. أما في ميدان السياسة وبُعْد النظر في المحافظة على هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، فإنه قيد كل هذه الإمارات الصغيرة في تلك الجهات بمعاهدة عقدها مع «نوخاشي»، وبلاد آمور، ثم مع «تونب» فكان من واجب حكامها أن يهبوا في وجه أية ثورة أو قيام أي عدو يناهض مملكة «خيتا» داخل البلاد، أما ملك «خيتا» فكان عليه أن يمد يده لمساعدة هؤلاء الأمراء إذا أُعلنت الحرب على واحد منهم. هذا إلى أنه ولَّى ابنه «تليبينوس» ملكًا على «حلب» وابنه «بياسيل» ملكًا على «كركميش»، غير أنه لم يتمكن من إخضاع «كركميش» إلا بعد كفاح دام مدة طويلة.

وفي خلال تلك المدة انقض «أرتاتاما» الذي اعترف به «شوبيليوليوما» ملكًا على بلاد «متني» على بلاد نهرين، ومعه ابنه «سوتارنا»، واستولى عليها، ونهب عاصمتها، بمساعدة ملكي «آشور» و«ألاشيا» (قبرص). وتدل الشواهد على أن «سوتارنا» هو الذي قبض على مقاليد الحكم في «متني»، فكان مما قام به هدم قصر «دوشرتا» في «وسوجاني» عاصمة الملك، ثم أعاد الباب المصنوع من الذهب إلى ملك «آشور»، وكان قد اغتصبه «سوساتار» ملك «متني» من بلاد «آشور» ثم اعترف باستقلال مملكة «آشور»، وكذلك أهدى إلى بلاد «ألاشيا» (قبرص) بعض الطرف من بلاده. وهكذا دفع «دوشرتا» ثمن بغيه وحنثه بالأيمان: «لقد ذهبت «متني» إلى الدمار التام»؛ فقد وقعت مذبحة عظيمة بين سكان بلادها وهُدمت بيوتهم، وشُتت بلدانهم، أما أشرافهم فقد سِيقوا إلى «آشور» و«ألاشيا» ليذوقوا أفظع ألوان العذاب. وأما «ماتيوزا» بن «دوشرتا» فقد حاول بادئ الأمر الهرب إلى «بابل»: وقد رغب ملك هذه البلاد في أن يحمي ذماره، وينقذ حياته، فبقي هناك آمنًا مطمئنًّا إلى أن فرَّ، ولكن ليطأه «شوبيليوليوما» بقدمه.

غير أننا نرى من جهة أخرى أن تصرف «سوتارنا» في بلاد «متني» لم يَرُقْ في عين عاهل «خيتا»، وبخاصة عندما رأى أنه نزل عن الأراضي الواقعة على الضفة الثانية لنهر الفرات لملك «آشور»، وكان جوابه على ذلك أنه رغب عن طيب خاطر في إعادة «ماتيووازا» إلى عرش بلاد «متني»، فزوَّجه أولًا من ابنته، ثم أمر ابنه (بياسيل Byassil) أن يعود من «كركميش» وزوَّده هو و«ماتيووازا» بجيش عظيم انقضَّا به على جحافل جيش «سوتارنا» غربي بلاد «نهرين» وانتصرا انتصارًا حاسمًا؛ فسقطت بلدة «حران»، ونكص «الآشوريون» على أعقابهم، واستسلمت «وسوجاتي» العاصمة. وعقد «شوبيليوليوما» مع «ماتيووازا» معاهدة أقسم فيها الأخير ورعاياه يمين الإخلاص أن يكونوا على أهبة الاستعداد للمساعدة. وقد سمح لملك «متني» «ماتيووازا» أن يتخذ لنفسه زوجات أُخَر، على أن تكون الأميرة الخيتية هي الملكة الشرعية على عرش البلاد. أما الحدود التي كانت تفصل بين البلدين فكان نهر الفرات الحد الفاصل لها، وعلى ذلك اعترفت بلاد «متني» بالتخلي عن «سوريا». أما الأراضي الواقعة على ضفة نهر الفرات حتى جنوبي مصب نهر «الخابور» إلى ما وراء «تيرقا» Tirqa فيستولي١٤٦ عليه «بياسيل» ملك «كركميش»،١٤٧ هذا إلى أن يكون «ماتيووازا» موطدًا أواصر الصداقة والود معه، وأن تكون «متني» منفصلة عن «سوريا» تمام الانفصال.

وفي خلال تلك المدة لا نعلم إلى أي مدى مدَّت مصر سلطانها ثانية في بلاد ساحل «فينقيا»، فقد ظلت «سمييرا» و«ببلوص» في قبضة «أزيرو»، ولقد عنفه الفرعون على زحفه، غير أنه لم يسعَ إلى رده على أعقابه، ولا نعلم كذلك إذا كان قد أخضع «صيدا» ثانية؛ إذ في ذلك شك عظيم. أما «صور» فإنه أراد المحافظة عليها، ومن المحتمل كذلك «بيروت» أيضًا. وخلافًا لذلك كانت الأراضي الواقعة بين سلسلتي جبال «لبنان» (عمق) تدين لسلطان «أزيرو»، وقد حاول بعد ذلك أن يضم إلى جانبه «قادش» في أثناء محاصرة «شوبيليوليوما» لبلدة «كركميش». ولما أحس ذلك «شوبيليوليوما» أرسل قائده «لوباكو» ومعه قائد آخر على جناح السرعة للقضاء على «أزيرو» فخربت بلاد «عمق» بعد حملتين. وبذلك انفصمت عرى الصداقة التي كان ملك «خيتا» يحافظ على دوامها بينه وبين مصر؛ فأصبح البلدان في حالة حرب علنية.

وتُعَدُّ الرسالة التي وصلت إلى مصر معلنة خبر الغزو الذي قام به جيش ملك «خيتا» بإمرة «لوباكو» في «عمق» على المصريين؛ آخر خطاب وصل إلى «تل العمارنة». وقد لخص لنا «توت عنخ آمون» خلَف «إخناتون» نتائج حكم أخيه في «آسيا» في المنشور الذي أصدره عندما تولَّى عرش مصر في الكلمات التالية:

وعندما أرسلت الجنود إلى بلاد فينقيا لأجل مد حدود البلاد المصرية لم يكن في استطاعتهم الوصول إلى النتيجة.

وعلى أية حالٍ، فإنه على أثر مهاجمة «خيتا» للأملاك المصرية تحرجت الأحوال في مصر مما قلب سياستها في الداخل والخارج رأسًا على عقب.

(٤-٦) آثار إخناتون الباقية

أقام «أمنحتب الرابع» آثارًا عدة في طول البلاد وعرضها غير مدينة «إختاتون» التي شيَّدها عاصمة لملكه، وهي المعروفة الآن «بتل العمارنة» على مقربة من بلدة «ملوي» الحالية، وقد فصلنا القول فيها فيما سبق.

منف

في مدينة «منف» القديمة عُثر له على بعض قِطَع من الحجر من معبد له بالقرب من مدخل الإله «بتاح» أعظم آلهة هذه المنطقة. وقد وُجدت هذه القطع مستعملة ثانية في رقعة هذا المعبد، وإحدى هذه القطع محفوظة الآن بمتحف «جامعة سدني» بأستراليا. (راجع Necholson. “On the Disk Worshipper of Memphis”. Transactions of the Royal Society of Literature 2. Sec. IX, (1870) Pl. I, p. 197).
وله قطعة أخرى عليها جزء من منظر مُثل فيه ملكان أحدهما أصغر من الآخر، ويُقال إنهما «إخناتون» و«سمنخكارع» (راجع J. E. A, XIV, p. 8. Fig 3)، وقطعة ثالثة عليها طغراءات الفرعون (Necholson, Ibid. Pl. I, No. 4. p. 8) وقد نشرت «مريت» قطعة أخرى عليها متن خاص «بإخناتون» (راجع Mariette, Mon Divers. Pl. 27 (e)).
وعُثر في «كوم القلعة» على قطع من الحجر، نقوشها من عصر «إخناتون»، كما وُجدت صورة رأس هذا الملك في نفس المكان وكانت كلها مستعملة ثانية في مبانٍ أقامها الفرعون «مرنبتاح» (راجع Mariette, Ibid Pl. 24 (e) 1–3; & The Eckley B. Coxe, Tr. Egyptian Expedition in Pennsylvania University Museum Journal, VIII (1917) p. p. 225–228 Fig. 88).
وقد وُجدت بعض قطع استُعملت ثانية في مبانٍ بالقاهرة بالقرب من جامع «الحاكم» ومن «بوابة النصر»، ويُحتمل أنها جُلبت من «منف» أو من «هليوبوليس» (راجع Petrie, “History”, II, p. 221, A. Z. XIX, p. 116).
وفي سقارة وُجدت لوحة لشخص يُدعى «حوي» لُقب عليها برئيس تجار معبد «آتون» (راجع Petrie, Ibid, p. 221)؛ حيث يقول إن وجود هذه اللوحة هنا قد اتُّخذت دليلًا على وجود معبد في «منف»، ولكن من الجائز أن هذا الموظف كان مقر وظيفته «هليوبوليس» (راجع Mariette, Mon. Div. p. 56. 2).

هليوبوليس

وُجدت في «تل الحصن» قطع نُقش عليها اسم «إخناتون»، وهي محفوظة الآن بمتحف «جلاسجو» بأسكتلندا (راجع Petrie, “Heliopolis”, Pl. VIII). ومن آثار هذا الفرعون التي وُجدت في «هليوبوليس» كذلك لوحة مُثل عليها هو وأسرته يتعبدون لقرص الشمس (آتون). فتشاهد أعضاء الأسرة المالكة راكعين أمام مائدة قربان أُرسلت عليها أشعة «آتون» التي ينتهي كل واحد منها بيد بشرية، وهذا الوضع (الركوع) ليس بالعادي؛ إذ في الغالب ترى الأسرة المالكة يتعبدون لقرص الشمس وهم واقفون أمام مائدة القربان. وهذه اللوحة قد اغتصبها لنفسه كاهن معبد «رع» الأكبر المسمى «بارع محب»، وقد عاصر الفرعون «حور محب»؛ فنجده قد استعمل ظهر اللوحة الخالي من النقوش ودوَّن عليه رسومه ونقوشه؛ فعلى الجزء الأعلى الفرعون «حور محب» يعبد كلًّا من الإله «آتوم» والإلهة «حتحور»، وعلى الجزء الأسفل نشاهد «بارع محب» ممثلًا مرتين، وكذلك نشاهد صورتين للإله آتوم. (راجع Lacau, “Steles du Nouvel Empire”, Pl. LXV).
وقد وُجدت كذلك في هذه الجهة قطعة من الجرانيت الأحمر عليها اسم «مريت آتون» بنت «إخناتون»، وكذلك أُشير عليها إلى مبانٍ للإله «رع» في «إيون» أي «هليوبوليس» (راجع A. Z. XIX p. 116; Rec. Trav. VI, p. 53).
ويقول «ويجول» إن «إخناتون» قد أقام معبدًا في «عين شمس» يُسمَّى «سرور رع في هليوبوليس»، وكذلك أقام لنفسه قصرًا هناك Weigall, “Life & Times of Akhenaton”, p. 166.

كوم مدينة غراب

تدل الآثار على أن «إخناتون» وأسرته قد أقاموا بعض المباني الأثرية في جهة «كوم غراب». والواقع أننا نجد فضلًا عن بعض الآثار للملك «أمنحتب الثالث» وزوجه «تي» آثارًا أخرى للفرعون «توت عنخ آمون» وزوجه «عنخس إن آمون». أما الفرعون «إخناتون» فقد وُجدت له قطع من الحجر عليها اسمه، وتدل على أنه قد أقام أثرًا في هذه البقعة، وكذلك شوَّه معبد جده «تحتمس الثالث»، وهو الذي محاه فيما بعد «رعمسيس الثاني» (راجع Porter & Moss, Bibliography IV, p. 122). ولدينا ورقة من «غراب»، وهي عبارة عن خطاب مرسل للفرعون «أمنحتب الرابع» يخبره فيه أن كل شيء في معبد «بتاح» في «منف» على ما يُرام، وقد أُرخ هذا الخطاب بالسنة الخامسة من حكمه (راجع Griffith “Kahun Papyri”, (Text) p. 91)، وهذا دليل على أنه لم يكن معتنقًا بعد ديانة «آتون» في السنة الخامسة من حكمه.

إهناسية المدينة

وُجدت قطعة من الجرانيت الأحمر عليها اسم «إخناتون» في خرائب إحدى البيوت التي تنتسب إلى العهد الروماني، ويقع هذا البيت في الجهة الغربية من المعبد الذي أُقيم في هذه الجهة (راجع Petrie, “Ehnasya” p. 20, 21. Pl. XVI. (Top)). والنقوش التي عليها ممحوة جدًّا، ويعتقد «بتري» أن هذه القطعة وكذلك القطع التي عُثر عليها في بلدة «غراب» كانت في الأصل في مدينة «إختاتون»، ثم نُقلت هناك عن قصد عندما قام أعداء مذهب إخناتون بهدم آثاره وتشتيتها في كل مكان.

الأشمونين

تدل الكشوف الحديثة على أن «إخناتون» أقام معبدًا للإله «آتون» في بلدة «الأشمونين». فقد عُثر على بعض قطع من الجرانيت نُقش عليها مناظر وكتابات لهذا الفرعون، وقد استُعملت فيما بعد في إقامة معبد الإله «تحوت»، ويرجع المعبد إلى عهد متأخر، فنشاهد على إحدى هذه القطع الملكة «نفرتيتي» والأميرة «مريت آتون» تتعبدان «لآتون» وتقدمان القرابين التي كانت تتألف من طاقة صغيرة من زهر اللوتس وُضعت على قاعدتين نحيلتين، ويُلاحظ هنا أن وجوه الأسرة المالكة قد هُشمت تمامًا، ولكن كل الطغراءات وقرص الشمس (آتون) والأشعة المرسلة منه قد بقيت سليمة. (راجع Roeder, “Vorlaufiger” Berecht uber die Deutsche Hermopolis Expedition 1931-1932. PP. 34–37 Abb. 16, 17. Pl. IV).
وكذلك وُجدت في هذه الجهة مائدة قربان من الجرانيت، وقد وجدها «بريس دفن» Prisse d’Avennes, “Lettre à M. Champollion Figiac”. Rev. Archeol (1847) p. 730.
وكذلك وُجدت بعض القطع المنقوشة من معبد للملك «إخناتون» في هذه الجهة المستعملة ثانية في بعض مقابر الدولة الحديثة وهي الآن «بالمتحف المصري» (راجع Weill, “Monuments Piots”, Vol. XXV p. 420).
ومن بين القطع الهامة التي عُثر عليها في «الأشمونين» مستعملة ثانية في مبانٍ متأخرة قطعة منقوش عليها اسم أميرة بقيت مجهولة حتى الآن وتُدعى «عنخس-ن-با آتون الصغيرة»، وأمها هي الأميرة «عنخس-ن-با آتون» بنت «إخناتون» وزوج «توت عنخ آمون» فيما بعد (راجع Hellmut Bunner, “Eine Neue Amarna Princessin in A. Z. LXXIV, p. 104ff)، وقد استنبطت كاتبة المقال عن هذه القطعة كما وضحنا فيما سبق أن هذه الأميرة قد تزوجت والدها ووضعت منه ابنة صغيرة سمتها باسمها وميزتها عنها بلفظة «الصغيرة».

وفي «تونة الجبل» لا تزال إحدى لوحات الحدود لمدينة «إختاتون» التي نحتها هذا الفرعون في وجه الصخر، وقد أُرخت بالسنة السادسة من حكمه كما ذكرنا من قبل.

الشيخ عبادة (أنتوي)

وُجدت في هذه الجهة قطع من محراب «لإخناتون» في الناحية الشمالية من معبد «رعمسيس الثاني»، وقد نُقش عليها خراطيش الفرعون وبعض نقوش مهمشة الآن (راجع Gayet, “Compte Rendu des Fouilles. Annales du Musee Guimet XXVI, 3me Partie p. 55).

تل العمارنة

عُثر في «تل العمارنة» على بعض قطع من المرمر في مقبرة «إخناتون» في أثناء الحفائر التي قامت بها الجمعية الإنجليزية في هذه الجهة بين عامي ١٩٣١-١٩٣٢، وهي الآن بالمتحف المصري، وبعد فحصها وُجد أنها كانت تؤلف جزءًا من صندوق من المرمر الجميل الذي كانت تُوضع فيه أواني الأحشاء، وإذا قرنا هذا الصندوق بصناديق الملوك الآخرين نجد أنه فريد في بابه من بعض الوجوه. ويدل الفحص على أنه لم يُستعمل فعلًا، كما أننا لا نعلم شيئًا قط عن مصير تابوت هذا الفرعون، كما أن مصير جثته لا يزال إلى الآن سرًّا غامضًا (راجع A. S. XL, p. 537ff).

ويُلاحظ في نقوش هذا الصندوق أن «إخناتون» كان متمتعًا ببعض الشعائر الدينية القديمة على الرغم من اعتناقه لمذهب «آتون» (؟) (؟).

أسيوط

أقام «إخناتون» معبدًا في مدينة «أسيوط»، وقد اغتصبه فيما بعد «رعمسيس الثاني». والمناظر الأصلية والنقوش التي كانت على جدرانه قد أصابها عطب كبير، غير أن ما تبقى من النقوش يدل على فن رفيع من طراز العمارنة الخاص. وقد وُجد على قطعة جزء من منظر هام يُشاهد فيه بعض الأشخاص في حضرة الفرعون يرتدون على رءوسهم مخاريط العطور؛ مما يدل على أنهم كانوا في وليمة. ونرى وجه امرأة ترفع يد الفرعون بخضوع وتجلة إلى شفتيها وتقبلها، وقد مُثلت هذه الحركة بمهارة وإتقان. والواقع أنها على قدر ما وصلت إليه معلوماتنا تُعَدُّ الأولى من نوعها حتى الآن في الفن المصري؛ إذ الحقيقة أننا لم نعثر على صورة تمثل تقبيل اليد عند المصريين إلى الآن في غير هذا المنظر (Gabra, “Un Temple d’Amenophis IV à Assiut” (Chronique d’Egypte, July 1931 p. 237, fig. 5.)).

وقد عُثر على هذا المعبد تحت مباني أحد بيوت الأهالي في شارع فاروق «بأسيوط»، وقد كان صاحب البيت الذي أرشد إلى هذا الكنز ينتظر وجود قناطير من الذهب النضار، ولكن الأثريين والمؤرخين عثروا فيه على كثير من الحقائق التاريخية والفنية.

المطمار (بالقرب من البداري)

عثر «برنتون» في أثناء الحفائر التي قام بها لحساب المتحف البريطاني عام ١٩٢٨–١٩٢٩ على بقايا قرية من عهد الأسرة التاسعة عشرة بالقرب من قرية «المطمار»، ومن بين الآثار التي وجدها معبد للإله «ست» أقامه «رعمسيس الثاني»، وقد وُجد من بين أحجار هذا المعبد المخرب بعض قطع من معبد للإله «آتون» أقامه «إخناتون»، وقد استخدم «رعمسيس» أحجاره في بناء معبد الإله «ست» السالف الذكر (راجع Chronique d’Egypte, July 1936 p. 224).

قفط

يُوجد في متحف «ليون» الآن قطع من لوحة صُنعت من الجرانيت الرمادي عليها بقايا طغراءات للفرعون «إخناتون»، وقد عُثر عليها في «قفط» (راجع Reinach Catalogue p. p. 41-42 (3a, 3b)).
وتدل ظواهر الأحوال على أن «إخناتون» قد استغل محاجر «وادي الحمامات»؛ إذ تُوجد بعض اللوحات المقطوعة في الصخر منقوش عليها اسمه ونخص بالذكر منها لوحة مقدمة إلى موظف يُدعى «أمنحتب» (راجع Golenischeff, “Hammamat”, I, 6). وكذلك نُقش على الصخر دونه شخص يُدعى «أمنمس» (Gouyat & Montet, “Hammamat”, p. 116, 251)، ولا بد أن هذه النقوش قد عُملت في بداية حكم هذا الفرعون، ويُشاهد أن «سيتي» الأول قد محا منظرًا ظهرت فيه عبادة الإله «آتون» ونقش مكانه منظرًا له وهو يتعبد للإله «آمون رع»، وقد ترك «سيتي» قرص الشمس الذي كان في المنظر الأصلي دون أن يمسه بسوء، وأضاف إليه فقط صلين متدليين منه (راجع Ibid. No. 94. Pl. XXIII).

قوص

وفي «قوص» وُجدت قطع من الحجر الرملي منقوش عليها طغراءات «إخناتون» وزوجه «نفرتيتي» (راجع Wilkinson, “Modern Egypt and Thebes” II, p. 132. & Porter & Moss, Bibliography, V, p. 135).

الكرنك

كان أوَّل عمل قام به «إخناتون» بعد توليه العرش بناء معبد للشمس في «الكرنك»، وهو المكان المختار لعبادة الإله «آمون». وقد أطلق على إله الشمس في هذا المعبد اسم «رع حور أختي» ومعناه (رع هو حور في الأفق)، وأضاف إليه اللقب التالي: «الذي يفرح في الأفق باسمه شعاع النور الذي في قرص الشمس.» وقد أراد بذلك أن يصف هذا الإله بأنه هو الشمس نفسها لا أحد مظاهرها، وقد عبر عن هذا الاسم بكلمة «أتون» فيما بعد. وقد عبر عن نفسه في اسمه الملكي بالكاهن الأكبر لهذا الإله الجديد، وكذلك فإن القصر الذي أقامه في «طيبة» قد أطلق عليه «الفرح في الأفق» ليكون منسجمًا مع لقب إلهه الجديد، وقد اتخذ الأهبة لإقامة هذا المعبد بسرعة مدهشة؛ ولا أدل على ذلك مما جاء في النقش الذي عُثر عليه في محاجر جبل السلسلة؛ إذ أمر بحشد كل عمال قطع الأحجار من «إلفنتين» في أقصى حدوده الجنوبية حتى «تل البلمون» في أقصى حدوده الشمالية، وإرسالهم إلى هناك لقطع مسلة من الحجر الرملي لإلهه. غير أن هذا المعبد الذي اهتم بإقامته في «الكرنك» قد أزاله أعداء «أتون» بعد سقوطه، ولكن بقيت منه قطع عدة قد استعملها «حور محب» في إقامة البوابتين التاسعة والعاشرة في «الكرنك» منها واحدة عليها صورة «إخناتون» في هيئة «بولهول» (راجع Prisse Mon. Egypt. X. 2) الذي كان يمثل إله الشمس، وقد وُجد على إحدى هذه القطع كذلك صورة «أمنحتب الثالث» مُثل عليها صورة شمس «حور أدفو»؛ مما يدل على أن هذا الفرعون قد أخذ في بناء معبد هنا، غير أن ابنه قد استعمل أحجاره في بناء معبده الجديد؛ وذلك لأن الصورة التي وُجدت على يسار صورة «أمنحتب الثالث» كانت لابنه «أمنحتب الرابع». ويُلحظ أن الأخير قد محا صورة والده واسمه، ووضع مكانهما اسمه واسم إلهه الجديد الذي صوَّره في صورة إنسان برأس صقر، وجعل أشعة الشمس فوق رأسه (راجع Schafer in “Der Amtl”. Berichten aus den preuss. Kunst-sammlungen. XLI (1920), 158ff).
وقد عُثر على قطع أخرى من أنقاض هذا المعبد (راجع Breasted A. R. II, & 932; & Schafer A. Z; 55, 28, 2, and Amtl Ber, XL, 1919, 225; Pillet, A. S. XXII p. 250 fig. 4 & ibid Pl. IV).
وفي عام ١٩٢٥ قام المهندس «شفرييه» بحفر مصرف كبير حول معبد «الكرنك» من ثلاثة جوانب لمنع تسرب المياه. وفي أثناء القيام بهذه العملية عُثر على تمثالين ضخمين للفرعون «إخناتون» محفوظين بالمتحف المصري (A. S. XXVI p. 121ff)، وقد أدت أعمال البحث في مكانهما إلى الكشف عن بقايا أحد عشر تمثالًا ضخمًا مثل التمثالين السابقين، وقد دلَّ الفحص على أنها كانت مُقامة بظهورها مستندة على عمد مستطيلة من الحجر الرملي على غرار العمد الخارجية العادية التي تُقام في المعابد، وكانت تكتنف ردهة واسعة لمبنى يحتمل أن «إخناتون» أقامه، وهذه التماثيل قد نُحتت نحتًا دقيقًا، غير أنها تمثل صورة إنسان قبيح المنظر شاذ الخلق لدرجة عظيمة. وعند الكشف عنها وُجدت مهشمة قطعًا وملقاة بوجوهها على الأديم، وكان كل واحد مُلقًى أمام العمود الذي كان يحليه. وهذه التماثيل تصور لنا «إخناتون» واقفًا وذراعاه على صدره وفي إحدى يديه صولجان وفي الأخرى زخمة، وذلك على غرار تمثال الإله «أوزير»، غير أن «إخناتون» هنا لم يُمثل مزملًا في ملابسه مثل «أوزير» في صورة مومية، بل مُثل في هيئة ملك حي لابسًا القميص الملكي القصير ومرتديًا على رأسه الكوفية (نمس) والصل وعليهما التاج المزدوج أو لباس رأس آخر غريب في بابه مؤلف من أربع ريشات وُضعت عمودية، وتظهر عندما تُشاهد من وضع جانبي مثل تاج الإلهة «ماعت»، ويظهر لنا أحد هذه التماثيل على وجه خاص غريب في شكله؛ إذ يُمثل هذا الفرعون وهو عاري الجسم تمامًا، وهنا نشاهد أن جسمه قد صُور في هيئة جسم امرأة. ويُلاحظ في وضع كل هذه التماثيل أن الكتفين ضيقتان، وأن الوسط نحيل، وأن الحوض واسع، والفخذين منحنيتان؛ مما يشعر بصورة أنثى لا صورة ذكر. أما الوجه فطويل وضيق وخداه بارزتان. وعيناه ضيقتان ذواتا جفنين ضيقتين، وفمه ذو شفتين غليظتين ينطبع عليهما الشهوة البهيمية، ويدل انحناؤهما على الرضا بهذا النقص الخلقي والخلقي. ويُلاحظ على الوجه تجعيدة عميقة تبتدئ عند انحناء المنخرين حتى زاويتي الفم؛ مما يزيد بدرجة عظيمة في دمامة الوجه عامة. ولا نزاع في أن هذه التماثيل تقدم لنا صورة صادقة لرجل شهوة خليع منحط التركيب والخلق. والواقع أن مظهر هذه التماثيل الشاذ وغيرها من تماثيل «إخناتون» وصوره كانت موضوع فحص طبي قام به الدكتور «غلينجي» (راجع “A Medical Study of Akhenaton”, A. S. XLVII. p. 29ff)، وقد فسر التحول الذي حدث في الصور الجميلة (انظر الصورة رقم ١٢. الصفحة ٢٥٤) التي كانت لهذا الفرعون في صغره على الرغم مما فيها من بعض مظاهر التخنث في صغر سنه حتى أصبحت فيما بعد صورًا غاية في القبح وسوء الخلق؛ بأن ذلك يرجع إلى تغيير حقيقي في صورة هذا الفرعون، وأن ذلك لا يُعزى كما يدعي البعض إلى نزعة جديدة في الزي الفني، واستدل على صحة قوله بأن صورة الملكة «نفرتيتي» لم يحدث فيها شيء من هذا الشذوذ قط. ويظن الدكتور «غلينجي» أن المرض الذي أصاب «إخناتون» كان سببه انحطاطًا في وظيفة الغدد الجنسية جاء تدريجًا؛ مما أدى في النهاية إلى تحول جسمي محس وميل إلى التخلق بالأخلاق النسوية جسميًّا، وعقليًّا؛ ومن ثم يمكن تفسير كثير من أعماله المعروفة لنا في أخلاقه وصفاته.

الأقصر

عثر الدكتور «كمبل» على قطع من الحجر في ساحة معبد «الأقصر» في عام ١٩٠٥، وعلى إحدى هذه القطع نُقشت صورة جميلة لإخناتون وخلفه أشعة «آتون» تعطي الحياة والسعادة. ويظن الدكتور «كمبل» أن هذه القطع كانت في الأصل من قبر «رعموسي» رقم ٥٥ «بطيبة الغربية» (راجع P. S. B. A. XXVIII (1906) p. 156).
fig18
شكل ٧: تمثال إخناتون.

المدمود

تدل الآثار التي عُثر عليها في منطقة «المدمود» على أن «إخناتون» قد أقام فيها معبدًا على ما يظهر؛ إذ عُثر على قطعة حجر رُسم عليها صورة «لإخناتون» يتعبد للإله «آتون»، كما عُثر على قطع أخرى قد استُعملت في إقامة مبنًى روماني في «المدمود» أيضًا (راجع Porter & Moss Bibliography V, p. 144).
وكذلك عُثر على حجر جيري منقوش مستعمل في بناء منزل في قرية قبطية، والمنظر الذي على هذا الحجر يمثل ملكين يلبسان ملابس العيد الثلاثيني وفوقهما قرص الشمس مرسلًا أشعته التي تنتهي بأيدٍ إنسانية (راجع Rapport sur Les Fouilles de Madmoud (1932) p. 5, 6).

أرمنت

تدل النقوش الخاصة بعهد «إخناتون» على أن هذا الفرعون قد أقام معبدًا في «أرمنت» في الوقت الذي أقام فيه معبد «آتون» في «الكرنك»؛ أي قبل أن ينقل عاصمة ملكه إلى «إختاتون»؛ إذ عُثر على هرم صغير بالقرب من «الكرنك» تشير النقوش التي عليه إلى معبد يُسمَّى «أفق آتون في أرمنت» (راجع Rec. Trav. XXIII, p. 62)، وكذلك عُثر على قطعة حجر في معبد العجول عليها اسمه، هذا إلى قطع منقوشة أخرى مهمشة ذكرها «نافيل» تدل على وجود معبد للإله «آتون» في «أرمنت» (راجع Mond & Meyers, “The Temple of Arman” I, p. 3, 4).
وتُوجد قطع أخرى عليها اسم «إخناتون» كانت مستعملة مبانيَ في بيوت «أرمنت» الحديثة (راجع Ibid).

زرنيخ

بالقرب من «إسنا» عثر «لجران» على لوحتين مقطوعتين في الصخر ونُقشتا نقشًا جميلًا باسم «أمنحتب الرابع»، ويظهر في الجزء الأعلى من اللوحة الأولى يقدم الهدايا للإلهة «نخبت». أما المتن الذي فوق الملك والإلهة فتهشم تهشيمًا مريعًا ولا تميز منه إلا كلمة «نخبت» سيدة السماء، أما الجزء الأسفل من اللوحة فنشاهد فيه مقدم اللوحة راكعًا يتعبد، وكذلك يشمل نقشًا مهشمًا، غير أننا على الرغم من تهشمه نعلم منه أن موظفًا يُدعى «أبي» بن «حور مأخت» قد جاء إلى هذا المكان في سنة ما من عهد «أمنحتب الرابع» قبل أن يغير اسمه للقيام بالأعمال التي تخص «معبد الشمس» المسمى ««حور أختي» يفرح في الأفق باسمه النور الذي في «آتون».» وقد رسم تذكارًا لهذه الرحلة الفرعون وهو يقدم قُرَبًا للإلهة «نخبت» كما ظهر هو نفسه وهو يتعبد.

وغني عن البيان أن هذه اللوحة قد أُقيمت في عهد هذا الفرعون قبل أن تختمر تمامًا في نفسه فكرة التوحيد وإطلاق اسم «آتون» على معبوده الواحد. أما اللوحة الثانية فأكثر حفظًا من الأولى ولم يُهشم إلا الثلث من سطحها الأيسر. وتقع بالقرب من اللوحة الأولى. ونشاهد في المنظر الذي على اليمين فيها الإله «آمون» جالسًا على عرش وأمامه طاقة من الأزهار وخلفه ثلاث موائد قربان محملة بالقرب وفوق «آمون» تقرأ: «آمون رع» ملك الإلهة ورب السماء. وفوق طاقة الأزهار نقرأ متنًا يعدد القربان، وقد تبقى من المتن الذي نُقش على هذه اللوحة سبعة أسطر لا يخرج معناها عن معنى المتون الأخرى التي تُكتب على لوحات الموظفين الذين يقومون بمثل هذه البعوث، وقد كان يصحب «أمي» أو «آي» كما يقول «برستد» موظف يُدعى «نفررنبت». وعلى أية حال فإن هذه اللوحة لا بد أنها قد نُسيت عندما أمر «إخناتون» بمحو اسم «آمون» أينما وُجد، ومن جهة أخرى نعلم كما ذكرنا أن «أمنحتب» لا بد أنه كان في أوَّل عهد حكمه عندما أرسل «أبي» و«نفررنبت» إلى «زرنيخ»؛ إذ كان لا يزال يحافظ على عبادة الإلهة «نخبت» والإله «آمون»؛ كما يدل على ذلك نقوش هاتين اللوحتين (راجع A. S. III p. 259–62).

الكوم الأحمر (هيراكنيوبوليس)

وجد الأثري «كوبيل» في الحفائر التي قام بها في «الكوم» الأحمر مائدة قربان باسم «إخناتون» في داخل سور المعبد المقام في هذه الجهة، بين بقايا الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة (راجع Quibell and Green, “Hierakonpolis” p. p. 11–15).

حبل السلسلة

(على الشاطئ الشرقي) تُوجد في جبل «السلسلة» لوحة مقطوعة في الصخر من عهد «أمنحتب الرابع»، وتقع في شمالي المحاجر على مقربة من «الجبانة العتيقة»، وعلى الجزء الأعلى منها نشاهد قرص الشمس ناشرًا جناحيه على منظر يُرى فيه الملك يقدم قربانًا للإله «آمون»، كما شاهدنا مثل ذلك على لوحة «زرنيخ» وقد كُتب عليها اسمه الأصلي «أمنحتب الرابع»، غير أنه عندما غيَّر اسمه إلى «إخناتون» أمر بمحو اسمه «أمنحتب» وكذلك اسم «آمون». والمتن المنقوش على الوجه هو ما يأتي:

يعيش حور الثور القوي صاحب الريشتين الساميتين محبوب الإلهتين، عظيم الملك في «الكرنك»، حور الذهبي لابس التيجان في «هليوبوليس» الجنوبية، ملك الوجهين القبلي والبحري، الكاهن الأعظم في المعبد المسمى «حور أختي الفرح في الأفق باسمه الصور التي في آتون» «نفر خبرو رع وع ن رع» بن رع «أمنحتب» الحاكم المقدس لطيبة العظيم في خلوده، والعائش أبديًّا «آمون» رع رب السماء وحاكم الأبدية.

المرة الأولى لجلالته في إعطاء الأمر … لجمع كل العمال «إلفنتين» حتى «سما بحدت» (تل البلمون) وقواد الجيش لأجل أن يقوموا بعمل منجم كبير لقطع حجر رملي لأجل قطع بنين (قطعة هرمية الشكل) كبير خاص بالإله «حور أختي» باسمه الضوء الذي في آتون في الكرنك. تأمل! إن الموظفين والسمار ورؤساء حاملي المراوح كانوا هم المشرفين على العمل في المناجم لنقل الأحجار. (راجع A. S. Vol. III, p. 262).

صولب

وفي صولب عُثر على نقوش للفرعون «أمنحتب الرابع» على بوابة المعبد، وفي هذا المنظر نشاهد هذا الفرعون يتعبد لوالده «أمنحتب الثالث» الذي أسس هذا المعبد. ويُلاحظ أن وجوه الأشكال قد أُتلفت (راجع Pl. 110. L. D. III, K.VI, Baedeker, “Egypt” (1929) p. 447).

سسبي

يُعتقد أن معبد «سسبي» (عند الشلال الثالث) الذي أقامه «إخناتون» هو نفس معبد «جم آتون» في بلاد النوبة وهذا المعبد يقع في الركن الشمالي الغربي من قلعة «جم آتون»، وهو المعبد الوحيد الذي بقي للإله «آتون» في بلاد النوبة، وقد محا «سيتي الأول» كل النقوش الأصلية الخاصة «بإخناتون» ونقش مكانها أخرى باسمه وهو يتعبد للإله «آمون رع» (راجع Baedeker, bid. p. 447; L. D. III, Pl. 141 n.).

(٤-٧) الموظفون والحياة الاجتماعية في عهد إخناتون

انتقل مع «إخناتون» في مقره الجديد «إختاتون» نفر من رجال الدولة العظام، غير أنه رفع من شأن عدد عظيم من عامة الشعب. وقد كانوا يفتخرون في نقوشهم بأصلهم الوضيع. وأبرز الرجال الذين خدموا هذا الفرعون هم:

نخت-با آتون

كان «نخت-با آتون» الوزير الذي خلف «رعموسي» على كرسي رياسة الوزارة في عهد «إخناتون»، وكان يحمل الألقاب التالية: الأمير الوراثي، والحاكم، وحامل الخاتم، والوزير. وقبره في «تل العمارنة» (رقم ١٢)١٤٨ وتدل شواهد الأحوال على أنه لم يتم بناؤه نهائيًّا. وكل ما أنجز من عمله فيه هو مدخله وواجهته، أما في داخله فلا ترى إلا جزءًا صغيرًا من رقعته، والأجزاء العلوية من ثلاثة عمد قد فُصلت من الصخرة التي حُفر فيها هذا القبر. وعلى الرغم من أن نحته لم يتم فإن صاحبه قد دُفن فيه. وقد كتب بالمداد متنين أو ثلاثة على عارضتي الباب الخارجتين بدلًا من نحت النقوش اللازمة على جدرانه. ولا يبعد أن «نخت-با آتون» على الرغم من مكانته في الدولة وتوليه أعلى وظيفة فيها قد أراد أن يضرب المثل لغيره باتخاذ مقبرة ساذجة لنفسه كي يظهر للملأ مقدار تواضعه وخضوعه. ويظن الأثري «ديفز» أنه كان في بادئ أمره رجلًا مغمور الذِّكر، ثم تسنم مرتبة الشرف عند سقوط الموظف العظيم «معي»، فاتخذ من حياة الأخير درسًا لنفسه، وتجنب المظاهر الكاذبة كما فعل من قبله «أبي» و«رعموسي»، وإذا كان «نخت» هذا هو نفس حاكم المدينة والوزير «نخت» كان يملك قصرًا فاخرًا غاية في الأناقة في «إختاتون»، وبذلك يكون قد نقض القاعدة التي كانت متبعة عند قدماء المصريين، وهي أن المصري كان يقيم لقبره وزنًا، ويهتم بتنسيقه أكثر من اهتمامه ببيته الدنيوي.١٤٩

«معي» المشرف على الجنود

يدل ما قصه «معي» عن نفسه — إذا صدقنا ما جاء في نقوشه — على أنه كان رجلًا في بادئ الأمر مغمور الذِّكر، وضيع النسب، فقير الحال، بل كان يتكفف لينال ما يسد به رمقه من خبز، ولم يلبث أن بلغ من المراتب أعلاها، غير أنه قد انطبق عليه المثل القائل «ضع متكففًا على صهوة جواد فلن يلبث بعد ذلك أن يمتطي ظهر الشيطان.» والواقع أن «معي» قد أساء كثيرًا استعمال حظوته لدى الفرعون، فلا غرابة في أن كان سقوطه من عليائه مفاجئًا ومثيرًا للعجب والدهشة، وبخاصة إذا علمنا أن شهرته كانت قد بلغت عنان السماء، وأن ثروته وقوته كانتا مضرب الأمثال.

وقد كان أيامَ ابتسام الدهر له وعز سلطانه يحمل الألقاب التالية: الأمير الوراثي، والحاكم، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد، وكاتب الملك، والمشرف على جنود رب الأرضين، ومدير بيت «سحتب-آتون»، ومدير بيت «وع-ن-رع» (أي إخناتون) في «عين شمس»، والمشرف على ثيران معبد «رع» في «عين شمس»، والمشرف على كل أعمال الملك، وكاتب المجندين، وحامل المروحة على يمين الفرعون، وأذني «حور» الحقيقيتين، والمرافق للفرعون في «قارب الصقر». (راجع Davies Ibid, Pls. II, IV, PP. 4, 5). وتدل الحالة التي وُجد عليها قبر «معي» في «تل العمارنة» (رقم ١٤) على أنه لم يتم بناؤه نهائيًّا؛ إذ لا بد أن صاحبه قد غضب عليه الفرعون قبل أن يتم زخرفته. ومما هو جدير بالملاحظة هنا أن قبور عظماء عهد «إخناتون» كان يُخصص جزء كبير من مناظرها لأعمال الأسرة المالكة؛ فنشاهد هنا في قبر «معي» منظرًا فيه «إخناتون» والملكة «نفرتيتي» يتبعهما ثلاث من بناتهما، وهما يقدمان القربان للإله «آتون»، كما نشاهد «موت بنرت» أخت الملكة يتبعها قزماها «بارع» و«رع نحح» وهما ذكر وأنثى. وأسفل هذا المنظر كان يوجد في الأصل رسم «معي» وهو يتعبد، غير أنه مُحي تمامًا، وغُطي مكانه بطبقة من الجص (Davies. Ibid. Pl. III.)، ولكن الصلوات التي كان مفروضًا أن يتلوها قد بقيت. ولا غرابة في ذلك؛ لأنها كانت تمجيدًا للإله «آتون» والملك (Davies ibid Pls. II, XIX, p. 16). ونشاهد منظرًا آخر، كان المقصود منه إظهار «معي» وهو يتسلم الهبات الملكية من الفرعون، وهو مطل من شرفة قصره، غير أنه قد خُط بالمداد وحسب (راجع Ibid Pl. V)، ويُشاهد في الجزء الأمامي من المنظر القاربان الملكيان وقد رَسَوَا في الميناء.
وأهم يلفت النظر في هذه المقبرة ترجمة «معي» لنفسه وهي: التعبد للإله «حور أختي» (آتون الذي يمنح الحياة)، ولملك الجنوب والشمال العائش في الصدق، رب الأرضين، «نفر خبرو رع، وع-ن-رع» ابن الشمس العائش في الصدق، رب التيجان «إخناتون» العظيم في بقائه، وللوارثة العظيمة في القصر جميلة الوجه، الفرحة بالريشتين، محبوبة «آتون» الزوجة الملكية الأولى التي يحبها، سيدة الأراضي «نفرتيتي» العائشة مخلدة. حامل المروحة على يمين الفرعون … ومن عظمة ملك الجنوب … على الرغم من حلول الشيخوخة، ومن جسمه سليم على الرغم من مرور الزمن، والعظيم في حظوته، والسعيد في … ومن يسير في ركاب سيده، ومن كان رفيق قدميه طول الحياة، ومن حبه دائم، كاتب الملك، وكاتب المجندين، ومدير بيت «سحتب آب رع»، ومدير بيت «وع-ن-رع» في «عين شمس»، والمشرف على أعمال الملك كلها، والمشرف على جنود رب الأرضين، «معي» يقول:

استمعوا أنتم لما أقول، أنتم أيها الرجال كبارًا وصغارًا؛ لأني سأقص عليكم النعم التي أفاءها الحاكم عليَّ. ولا ريب في أنكم ستقولون عندئذٍ: حقًّا! ما أعظم الأشياء التي عُملت لهذا الرجل المغمور الذكر! وعلى ذلك ستطلبون حقًّا له (أي للملك) أبدية من أعياد «سد» مدة لا نهاية لها بوصفه رب الأرضين، وعندئذٍ سيعمل لكم حقًّا مثل ما عمل لي الإله الذي يتصرف في الحياة!

كنت رجلًا وضيع الأصل أبًا وأمًّا، ولكن الأمير وطد مكانتي؛ فقد جعلني أعظم … بفيضه، عندما كنت رجلًا لا أملك شيئًا، وقد جعل عدد عشيرتي ينمو من أجلي، وكثر عدد أخواتي، وجعل كل أهلي يعملون لي، ولما أصبحت سيد مدينة جعلني أصاحب الأمراء والسمار، على الرغم من أني كنت فيما مضى أشغل المكان الأخير، ومنحني المئونة والجراية يوميًّا، وإني أنا ذلك الشخص الذي كان يسأل قوته، وقد جعلني …

وعلى الرغم من كل ذلك المدح والإطراء الذي كاله للفرعون، فإن صوره قد مُحيت محوًا تامًّا من قبره. وقد غُطي هذا النقش بوجه خاص بطبقة من الجص. وقد يكون السبب الداعي إلى ذلك هو أن الفرعون ربما رأى أن بقاءه يكون هجاء أبديًّا لحظوة الفرعون له. ولا نعلم — في الواقع — السبب في سقوط «معي» والغضب عليه، غير أن التاريخ قد قلب ظهر المجن «لإخناتون» فكان الجزاء من جنس العمل، فقد محى اسمه من آثاره كلها، في حين أن الحفائر الحديثة قد أعادت لذلك العصامي «معي» ما كان يرغب فيه — وهو تخليد اسمه — وأن يعرف الناس أن الأصل ليس هو كل شيء ولكن العمل والجد والمثابرة تغطي على كل شيء وترفع صاحبها إلى قمة المجد.

«مري رع» الكاهن الأعظم

ولا نزاع في أن «مري رع» كان من أعظم رجال «إخناتون» شهرة؛ لأنه كان يحمل لقب الكاهن الأعظم للإله «آتون»، وألقابه هي: أعظم الرائين للإله «آتون» في معبد آتون «بإختاتون»، وحامل المروحة على يمين الملك، والأمير الوراثي، والحاكم، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد، وقريب الفرعون (راجع Davies, Ibid. Vol. I, p. 42)، والظاهر أن «مري رع» هو الكاهن الأكبر الوحيد المعروف لدينا للإله «آتون»، وقد يكون السبب راجعًا إلى أنه عند بداية حركة الانقلاب الديني كان الفرعون نفسه هو الذي يشغل هذه الوظيفة. على أن تركيب اللقب نفسه له أهمية؛ فقد كان — كما هو المنتظر — مكتوبًا على غرار لقب الكاهن الأكبر للإله «رع» في «عين شمس» وهو «أعظم الرائين» لا «الكاهن الأول»، كما كان يُطلق على رئيس كهنة «آمون» وغيره من الآلهة. أما عن التاريخ الذي عُين فيه «مري رع» كاهنًا أعظم للإله «آتون» فليس لدينا شيء معين إلا بعض شواهد يمكن أن نعرف منها على وجه التقريب تاريخ تنصيبه، وذلك هو عدد بنات «إخناتون» اللائي رُسمن معه، ومع زوجه «نفرتيتي»، وهن في هذه الحالة كن أربعًا، وكانت صغراهن لا تزال في المهد، ومن ذلك نعلم أن تزيين القبر كان على قدم وساق في السنتين التاسعة والعاشرة من حكم هذا الفرعون، بالنسبة لسن أصغرهن. وقد عُثر على اسم هذا الكاهن مكتوبًا على زجاجة خمر مؤرخة بالسنة السادسة عشرة من حكم الفرعون، مما يدل على أنه كان لا يزال يقوم بأعباء وظيفته في هذا التاريخ.
ويُحتمل أنه قد بقي يشغلها حتى وفاة «إخناتون»، ولا نعرف عنه شيئًا بعد ذلك الحادث على وجه التأكيد. وتدل حجرة دفنه التي لم يتم نحتها قط على أنه لم يُدفن في هذا القبر. ومن أهم ما يسترعي الأنظار في قبره منظر تنصيبه كاهنًا أوَّل للإله «آتون»، فنشاهد الملك والملكة تتبعهما الأميرة «مريت آتون» وهم متكئون على جدار الشرفة ومطلون منها، وقد طُلب «مري رع» ليمثل أمامهم، فنراه يصل وبصحبته أهل بيته، فيركع أمام الفرعون الذي يقلده تلك الوظيفة السامية ويغدق عليه ما يثقل كاهله من حلي الذهب بين هتاف المتفرجين (Davies, Ibid. Pls. VI, VIII.)، وقد ألقى الفرعون خطابًا لتنصيبه في هذه الوظيفة، وقد كان ذلك الخطاب قصيرًا مفيدًا وفي صلب الموضوع، وهو على عكس معظم الخطابات الرسمية فاستمع إليه (Ibid p. p. 21, 22.): «إن الملك الذي يعيش على الصدق رب الأرضين «نفر-خبرو، رع-وع-ن-رع» يقول للكاهن الأكبر لآتون «مري رع»: تأمل! إني قد نصبتك كاهنًا أعظم «لآتون» في معبد «آتون» في «إختاتون»، وقد عملت ذلك حبًّا فيك قائلًا: «يا خادمي، يا من يسمع لتعاليمي، إن قلبي راضٍ عن كل عمل تقوم به»، وإني أمنحك الوظيفة قائلًا: ستأكل مئونة الفرعون (له الحياة والسعادة والصحة) سيدك في معبد «آتون».»
وفي أسفل المنظر الرئيسي نشاهد عربة «مري رع» في انتظاره لتحمله إلى منزله. أما الهدايا التي منحها إياه الفرعون فقد تسلمها الخدم ليحملوها له. وقد جيء بطائفة من المغنيات والراقصات المأجورات للاحتفال بهذه المناسبة السعيدة أمام هذا الحفل العظيم، وقد حملت قائدتهن طاقة أزهار في يدها، وغنَّت أغنية مدح وثناء مطلعها: «إن الهبات التي يمنحها «وع-ن-رع» مزدوجة» (Ibid p. 23, Pls. VI, IX.) ولدينا منظر آخر يمثل زيارة ملكية لمعبد «آتون»، غير أننا لا نعرف مناسبتها على وجه التأكيد، ويُحتمل أن الفرعون كان قد ذهب في عربته إلى المعبد ليقدم الكاهن الأول لكهنة المعبد المجتمعين هناك. ومن جهة أخرى يجوز أن هذا يمثل «مري رع» في وظيفته «كاهن أكبر لآتون» وهو يتقبل الملك والملكة في المعبد للصلاة ويقوم بعمله الديني هناك أمامهما (راجع Ibid, Pls. X–XXII). وهذا الحادث قد مُثل من أوَّل خروج الموكب الملكي من القصر إلى حيث يُرى الفرعون يساعده «مري رع» وهو يضحي للإله «آتون». ومما هو جدير بالملاحظة هنا أننا لا نشاهد الفرعون وحده عند ذهابه إلى المعبد يسوق عربته بل كذلك نشاهد الملكة «نفرتيتي» والأميرات الكبيرات يسقن عرباتهن أيضًا.

وإذا نظرنا إلى المعبد من أعلى نشاهد فيه تفاصيل عديدة. والواقع أنه ليس كالمعابد القديمة التي أُقيمت في «طيبة» وغيرها في العهود السابقة؛ إذ نجد فيه قدس الأقداس يصل إليه الإنسان بدرج سلم، وقد أُقيم في ردهة غير مسقوفة في العراء، وهذا أمر طبعي بالنسبة للإله يمثل الشمس.

وقد كانت الموسيقا تلعب دورها في مثل هذه المناسبة؛ إذ نشاهد طائفة المغنيات والضاربات على الآلات الموسيقية قد حلت محلهن طائفة من الضاربين على العود من الذين كُف بصرهم. كما نشاهد الموظفين يسوقون ثيران الضحية المسمنة والمزخرفة بالأطواق حول أعناقها، وعلى رءوسها عصابات مزينة بالريش صُفت بين قرونها، وهناك حقيقة تستحق الملاحظة؛ وذلك أن الفرعون «إخناتون» على الرغم من أنه في عاصمة ملكه الجديدة كان محاطًا بأشخاص قد وضع فيهم ثقته، واختارهم بنفسه ورغبته لخدمته، فإننا نجده مع ذلك وهو سائر في طرق المدينة — في مثل هذه المناسبة التي نحن بصددها — كان يحيط به حرس عظيم — فهل يا ترى كان ذلك الحرس مجرد مظهر من مظاهر الأبهة، أو كان يخاف شر أعوان «آمون» الذين تغلب عليهم منذ زمن؟ والواقع أنه كان لا يخاف شر الاغتيال والمؤامرة، وقد برهن سلوك «مري رع» على أنه جدير بالثقة التي وضعها الفرعون فيه، عندما خصه بأكبر وظائف الدولة الدينية، والآن قد حلَّ الوقت الذي يُكافأ فيه هذا الكاهن المخلص أمام الشعب من مليكه العارف لجميله (Ibid, XXV–XXX). وقد كان من واجبات «مري رع» بوصفه كاهنًا أكبر الإشراف على مخازن الغلال التي كانت تصرف منها القربان، وقد ظهرت مواهبه في هذه الإدارة؛ ولهذا نجد أن معظم هذا المنظر يمثل حظائر الماشية وسفن الشحن التي كانت تحضر خراج «آمون» من أقاصي البلاد، وكذلك صور المخازن الشاسعة التابعة للمعبد (راجع Ibid Pl. XXV). وهنا نشاهد الملك وفي ركابه الملكة وبناتها يستقبلون «مري رع» في الردهة الخارجية للمخزن العظيم. وكانت هذه هي اللحظة التي توج فيها بأعظم المنح؛ إذ نشاهد المشرف على كنوز الأطواق الذهبية رافعًا يديه تحية وإذعانًا لأمر سيده ومطوقًا جيد «مري رع»، بهذه الإنعامات الملكية؛ إذ طوقه بستة عقود يشمل كل منها صفين من حبات الذهب، وكان لا يزال يغدق عليه هدايا أخرى، وقد قال الفرعون، وأريحية الكرم تهز عطفيه: «دع المشرف على خزانة حلقات الذهب يأخذ «مري رع»، ويضع ذهبًا حول رقبته حتى قمته، وكذلك على قدميه؛ وذلك لإطاعته تعاليم الفرعون الدينية (له الحياة والسعادة والصحة)، ولأنه يفعل كل ما قيل له خاصًّا بهذه الأماكن الفاخرة التي أقامها في بيت «بنبن» في معبد «آتون»؛ لأن «آتون» في «إختاتون» قد ملأها بكل الأشياء الطبية، وبالشعير والقمح الكثير، مائدة قربان «آتون» «لآتون»» (راجع Ibid, p. 36).
وقد كان جواب «مري رع» قصيرًا: الصحة «لوع-ن-رع» للابن الجميل «لآتون»! فليتفضل بأن يتمم مثل خلودك (؟) امنحها إياه أبد الآبدين (أي الحياة الأبدية) (راجع Ibid. p. 36).

ومن المحتمل أن «مري رع» قد تغلب عليه العطف الملكي حتى عجز أن يزيد كلمة عما قال، كما يحتمل أن التقاليد الرسمية كانت تمنع الموظف أن يرخي للسانه العنان ليقول ما في صدره!

«بانحسي» الكاهن الثاني

يُحتمل أن «بانحسي» هذا كان يشغل المرتبة الثانية بعد «مري رع» في معبد «آتون»؛ إذ كان يحمل الألقاب التالية (Ibid Vol. II, p. 29.): الخادم الرئيسي للإله «آتون» في معبد «آتون» في «إختاتون»، والكاهن الثاني لرب الأرضين «نفر خبرو رع-وع – ن-رع» في معبد «آتون»، والمشرف على مخازن غلال «آتون»، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، وقريب الفرعون، وخادم سيد الأرضين «نفر خبرو-رع – وع-ن-رع» في معبد «آتون»، ومدير ماشية «آتون».
وقد كان «بانحسي» مثله كمثل «مري رع» نشأ من أسرة وضيعة، ووصل إلى مكانته العالية بعطف الملك عليه، وتدل ظواهر الأحوال واسمه على أنه كان من أصل نوبي أو سوداني، وأنه كان بعيدًا من المشاحات الدينية التي كانت قائمة في هذا العهد، وقد جذبه الملك إلى جانبه؛ لأنه لم يكن له ماضٍ ديني يمنعه اعتناق المذهب الجديد، وقد تحدث إلينا «بانحسي» في نقش تركه لنا في مقبرته يجمع بين الدين وبين حياته الشخصية؛ إذ يقول (راجع Ibid. p. 29, 30): «صلاة للإله «حور أختي»: الذي يمنح الحياة إلى أبد الآبدين، عند إشراقه على الأفق الشرقي، واستعطافًا له عند غروبه في الأفق الغربي. الحمد لك! إنك تشرق في السماء، وتنير في الصباح في الأفق آتيًا في سلام يا سيد السلام، وكل بني الإنسان يحيون عند رؤيتك، وكل الأرض تجتمع عند طلوعك، وأيديهم تحيي بزوغك. ما قاله الخادم الأول للإله «آتون» في «إخناتون» «بانحسي» المرحوم: «الحمد لك يا إلهي يا من ذرأتني وفعلت الخير لي، ومن شجعني ومنحني طعامًا وأمدني بالمؤن من روحه، وإنك الحاكم الذي أوجدتي بين الخليقة وجعلني ضمن أصحاب الحظوة عنده، وجعل كل عين تعرفني، ولقد جعلني في المقدمة بعد أن كنت في المؤخرة، وصيَّرني قويًّا بعد أن كنت مغمور الذكر، وكل جيراني (فرحوا)؛ لأني أصبحت محظوظًا عند من فعل ذلك لي، وقد أتت؟ إلى مدينتي، وكنت أرتجي، وبذلك أصبحت عظيمًا بأمر من رب الصدق … إلخ».»
وقبر «بانحسي» في «تل العمارنة» كان في الأصل قبرًا جميلًا، غير أنه قد أصابه عطب كبير على يد شيعة «آمون» أوَّلًا، وعلى يد من سكنه من الأقباط فيما بعد الذين لم يكتنفوا بتغيير معالم القبر بل محو النقوش بوضع طبقة من الجص عليها. وعلى أية حال فإن مناظر هذا القبر لم يكن من بينها ما يسترعي النظر بوجه خاص؛ وذلك لأنه على الرغم من إتقان صنعها، فإن موضوعاتها كانت عادية، فنشاهد في إحدى المناظر «بانحسي» يظهر أمام الفرعون يتسلم مكافآت الذهب مقابل الخدمات التي قام بها لمليكه. وقد كان من بين أولئك الذين حضروا هذا الحقل اثنان من العبيد واثنان من الآسيويين ملتحيين، ويحتمل أنهم سفراء أو رهائن، (راجع Ibid Pl. X)، ومما يلفت النظر الحركة الرشيقة التي قامت بها الملكة «نفرتيتي» عند تلفتها لكبرى بناتها «مريت آتون» كأنها تريد أن تقودها إلى الأمام لتتمكن من رؤية ما يدور في الحفل في أسفل النافذة التي كانوا يطلون منها. وبعد الفراغ من الحفل يركب «بانحسي» عربته ويعود إلى بيته حيث يشاهد الشعب المتحمس يرحب به، ومن بينهم أصدقاؤه وأفراد أسرته (راجع: Ibid Pl. XI)، وكذلك نشاهد الأسرة المالكة قد صُورت في منظر في معبد «بانحسي» وهم يسوقون عرباتهم كما شاهدنا في مقبرة «مري رع»، ولكن لما كان هذا المنظر قد تُرك ناقصًا ولم يُكتب معه متون، فإنا لا نعرف الغرض من هذه الجولة الملكية، ويُشاهد في هذا المنظر أن الحرس الفرعوني كان يحتوي سوريين ولوبيين بالإضافة إلى الجنود المصريين. ومما يلفت النظر في هذا المنظر ما نشاهده في الصف الثاني، وهو أن موظفًا قد ضرب بكرامته عرض الحائط، فقد ثنى نفسه وهو يقبض بيديه بهيئة جنونية على قضيب العربة منتظرًا من لحظة لأخرى أن يصرع الأرض على إثر قفزة مباغتة (راجع Ibid Pl. XVII).

حويا

تدل شواهد الأحوال على أن «حويا» كان قبل كل شيء موظفًا لدى الملكة «تي»، وألقابه هي: المشرف على الحريم الملكي، والمشرف على الخزانة (بيتا الذهب والفضة)، ومدير بيت زوج الملك العظيمة «تي». وهذه هي ألقابه الحكومية، ولكنه فضلًا عن ذلك كان ينعت الممدوح من «وع-ن-رع» (Ibid Vol. III, p. 19. & Pl. III, XV.)، وقد حاول البعض توحيد اسم «حويا» مع «خعويا» الذي جاء ذكره في خطابات «تل العمارنة» وهو الذي ذكره «بورا بورياش» ملك «كاردونياش» (بابل) في خطاب للفرعون «إخناتون» بوصفه رسول «خايا»، غير أن هذا الزعم لم يُقبل على وجه عام (راجع Ibid p. 19).
ويُعدُّ قبر «حويا» من الوجهة الفنية، وكذلك من الوجهة التاريخية من أهم المقابر التي عُثر عليها في «تل العمارنة»، وتدل الظواهر كلها على أن صاحبه قد دُفن فيه، ويوجد فيه منظران كبيران يدلان على أن الملكة «تي» قد وفدت بصحبة ابنتها الصغرى «بكت آتون» إلى مدينة «إختاتون» لزيارة «إخناتون» و«نفرتيتي»، ولا نعلم إذا كانت هذه زيارة وقتية أو أنها قد اتخذت «إختاتون» مقرًّا لإقامتها، غير أنه مما يلفت النظر أن خادمها الأمين صاحب السلطان العظيم كان له قبر في هذه البلدة، ويُرجح أنه دُفن فيه. هذا بالإضافة إلى أنه كان يُوجد معبد في «إختاتون» يُعرف باسم «ظل رع الخاص بالأم الملكية» والملكة العظيمة «تي» الحية (Ibid p. 8). وفي أحد المنظرين الكبيرين اللذين أشرنا إليهما الآن نشاهد الأم الملكية وابنتها الصغيرة على مائدة الطعام مع «إخناتون» و«نفرتيتي» واثنين من بناتهما، وهما «مريت آتون»، أما اسم الأميرة الثانية فقد مُحي (Ibid Pls. IV, V). وقد كانت موائد القربان مزدحمة بأنواع الطعام، ويُلاحظ أن الأميرات الصغيرات كنَّ يتسلمن نصيبهن بوساطة والديهنَّ. ومما يلفت النظر هنا أن آداب المائدة التي كانت مرعية دائمًا في الرسوم المصرية القديمة قد أُلقيت ظهريًّا هنا؛ إذ كان الملك والملكة يأكلان بنهم، فنشاهد «إخناتون» ينهش عظمة يبلغ طولها ذراعًا، في حين نرى «نفرتيتي» قابضة بيدها على بطة بأكملها وتأكل منها، ولم تحاول قط أن تقطعها أقسامًا مناسبة كما تقتضيه آداب الطعام. أما الملكة «تي» فلا نعلم كيفية تناولها الطعام؛ لأن اللقمة التي كانت تتناولها قد فُقدت بسبب كسر في الرسم، غير أنه على ما يظهر كانت أكثر أناقة في تناول طعامها. ولكنا لا نعرف ماذا قد صنعت بالبطة التي كان يقدمها رئيس أتباعها «حويا» بوساطة أحد الخدم! وتدل الصورة على أن هذه الوجبة كانت تؤخذ في خلال النهار؛ إذ نرى قرص الشمس فوق رءوس الحفل الملكي، يفيض بنوره عليهم وعلى طعامهم.

ويُشاهد أسفل المنظر الرئيسي الخدم وهم يحضرون الطعام في حين أن طائفة من المغنين والمغنيات يضفون على الحفل بهجة ويزيدونه سرورًا وأنسًا بغنائهن.

وبجانب ذلك نشاهد منظرًا مكملًا صُوِّر فيه الملكة «تي» و«إخناتون» و«نفرتيتي» وهم يعاقرون بنت الحان، وقد كانت بناتهن حاضرات، ولكنهن كن يأكلن فاكهة فقط. ويُلاحظ أن «مكت آتون» قد استولى عليها الشره؛ إذ كانت تقبض في يدها على تينة كبيرة وتبحث في طبق الفاكهة عن أخرى. وهنا يُشاهد «حويا» وبيده عصاه (؟) يدير بها الخدم، وقد وقع هذا المنظر في خلال الليل؛ كما تدل على ذلك المصابيح المضاءة الموضوعة فوق قواعد خفيفة، كما يشاهد زجاجات قد صُفت؛ مما يدل على أن شهوتهم إلى الشراب لم تكن بأقل منها إلى الطعام. وقد زاد المجلس سرورًا وغبطة طائفة المغنين المصريين والمغنيات الأجنبيات. ومن أهم ما يلفت النظر في قبر هذا الموظف عن الملكة «تي» أننا نراها تزور معبدًا (أو جزءًا من معبد) أُطلق عليه اسم «ظل الملكة تي»،١٥٠ ورسم هذا المنظر في القبر قد قُسم ثلاثة أقسام؛ نشاهد الملك «إخناتون» في أعلاها وأكبرها وهو يقود والدته بيده نحو الباب العظيم الذي يُرى من داخله مائدة القربان العظيمة التي يُصعد إليها بدرج، وكان في صحبتهما الأميرة الصغيرة «بقت آتون» التي كان يرعاها مرضعتان. أما باقي الخدم رجالًا ونساء فكانوا في المؤخرة. وكان «حويا» منحنيًا أمام الملك مباشرة ومعه طائفة من الموظفين. وكذلك يُشاهد منظر عام للمعبد بما فيه التماثيل الملكية وموائد القربان. وفي أسفله قد انتظرت العربات الملكية لتحمل الملك وحاشيته إلى القصر الملكي.

أما الصف الثاني فقد خُصص لإظهار عظمة «حويا»، غير أنه لسوء الحظ قد مُحي معظمه، والظاهر أنه كان يمثل «حويا» وهو يقود ثماني طبقات من الموظفين الصغار الهتافين الذين تحت مراقبته قد كلفهم بالنداء بالثناء على الفرعون ووالدته. ومن النقوش المفسرة نعلم أن بعض هؤلاء الموظفين كانوا سائسين وحمَّالين «لحويا» المشرف على (الحريم) الملكي.

أما الصف الثالث وهو الأسفل في المنظر فيظهر أنه لا علاقة له بالحوادث السالفة، وهو عبارة عن شريط ضيق مهشم، ويظهر فيه مناظر الريف وشاطئا النهر، وقد لُوِّنت كلها بالألوان الطبعية الخالية من التقليد.

ولدينا منظر في هذه المقبرة منقطع القرين في كل الجبانة؛ لأنه على ما يظهر يمثل لنا حادثة ربما كانت «حاسمة» في تحديد جزء من تاريخ «إخناتون» ووالده «أمنحتب الثالث»، والمنظر يمثل تسلم الجزية الآتية من البلاد الأجنبية (Ibid Pls XIII, XIV, XV, XVII). وقد كُتب معه هذا المتن تفسيرًا له:

السنة الثانية عشرة، الشهر الثاني من فصل الشتاء، اليوم الثامن الحياة للوالد، الحاكم المزدوج، «رع آتون» الذي يمنح الحياة أبد الآبدين، إن ملك الجنوب والشمال «نفر خبرو رع» والملكة «نفرتيتي»، العائشين إلى الأبد مخلدين؛ قد ظهرا للعيان على المحفة العظمى المصنوعة من ذهب لأجل أن يتسلما جزية «سوريا» وبلاد السودان «كوش»، وكذلك جزية الغرب والشرق وكل المماليك مجتمعة في وقت واحد، وكذلك الجزر التي في قلب البحر تحضر جزية للملك عندما كان على عرش «إخناتون» العظيم؛ لأجل تسلم جزية كل قطر مانحًا أهلها نفس الحياة.

وبداية هذا المنظر يظهر فيها أن الموكب كانت طلعته من القصر.

وقد كان الملك والملكة جالسين في محفة فاخرة محمولة على أعناق رجال الحاشية، وقد كان «إخناتون» يجلس الجلسة التقليدية الجامدة. أما «نفرتيتي» فكانت تطوِّق وسطه بذراعها في حنان وحب، وهذا الوضع كان شائعًا منذ الدولة القديمة، وتُشاهد الأميرات يمشين خلف المحفة يتبعهن وصيفاتهن، ولم يكن حاضرًا منهن إلا اثنتان، وكان يسير في ركاب الموكب ثلة من الجنود الذين على ما يظهر قد جُنِّدوا من قبائل البدو؛ لأنهم كانوا مسلحين بالعِصِيِّ الخاصة المعقوفة التي تحملها تلك القبائل، كما كان كل واحد منهم يحلي شعره بريشتين، ويُرى «حويا» بين هذه الثلة من جنود الحرس، ولكنه كان يلبس ملابس عادية، ونشاهد كاهنًا يحرق البخور أمام المحفة الملكية، في حين نجد على رأس الموكب طائفة من الغلمان والرجال يرقصون بحركات عنيفة، وهؤلاء قد يكونون هتافين كما هي الحال في كل زمان أو متفرجين يعبرون عن شعورهم بالفرح لهذه المناسبة، وقد كانت تتبع الموكب الملكي عربات ملكية يحرسها سائسون. والظاهر أن الحفل كان مجرد استعراض أو تمثيل عودة الموكب الملكي.

أما الجزية التي أحضرتها الأمم الخاضعة، فكانت محمولة أمام الموكب يحرسها الشرطة، وجزية الشمال يحوي عربتين وأربع ركائز من النحاس وعددًا عظيمًا من الأواني المنمقة وأواني أخرى عليها أغطيتها في صورة رءوس حيوانات قد وُضعت على قواعد لأجل أن يفحصها الفرعون. أما جزية الجنوب فخاصة بمدنية هذه الأصقاع، وتحتوي على عبيد وُضعوا في الأغلال، وقد ساروا فرادى وأزواجًا وأولادهم ونساؤهم خلفهم. كما تحتوي على جلود فهود، وحلقات من الذهب، وحليات مزينة بالأزهار والنباتات أيضًا. هذا إلى حقائب ملأى بالتبر والعاج وسن الفيل والقردة الحية والغزلان وفهد.

وقد كان عدد العبيد من السوريين يفوق عددهم من السودانيين؛ إذ نجدهم قد مُثلوا في تسعة صفوف يختلف عدد كل صفٍّ من أربعة إلى ستة، وكلهم ينتظرون مقدم الفرعون، وقد كانت كل طائفة في حراسة ضابط مصري وحارس. ولما لم تكن هناك أعمال حربية فلا بد أنهم كانوا عبيدًا أو رهائن لضمان الجزية المفروضة على بلادهم، ومعظم هؤلاء المساجين كانوا عبيدًا مصفدين بالأغلال. وقد لاحظنا حتى الآن أن معظم المناظر التي وصفناها كانت خاصة بالأسرة المالكة واستعراضاتها، غير أن «حويا» لم ينسَ أن يُظهر نفسه في أهم لحظة من لحظات حياته الحكومية؛ فقد صوَّر لنا منظر تنصيبه في وظيفة «المشرف على الحريم الملكي»، والمشرف على الخزانة، ومدير بيت الأم الملكية «تي».

وقد كان من الطبعي أن تحتل صورة «إخناتون» المكانة الأولى في هذا المشهد وبصحبته «نفرتيتي»، وكانا يطلان من النافذة لمنح العطايا الذهبية المعتادة في مثل هذه المناسبة. والظاهر أن الهدية لم تكن سخية؛ وذلك لأن «حويا» لم يكن موظف الملك نفسه، بل كان موظفًا في خدمة والدته يدير بيتها وأملاكها، وقد أراد الفرعون في هذه الحالة أن يوافق على هذا التعيين وحسب. وعلى أية حال فإن مكافأة «حويا» لم تكن بعيدة المنال؛ إذ نشاهده في مناسبة أخرى يتسلم هدية ملكية عظيمة من الفرعون نفسه؛ فقد خلع عليه لقب «الممدوح من سيد الأرضين» (Ibid Pl. XVII.)، فنشاهد جيده قد أُحيط بقلائد ضخمة من الذهب في حين أن معصميه قد حُليا بأساور من الذهب أيضًا.
وفي أسفل هذا المنظر نشاهد «حويا» يفحص المصانع المختلفة للفرعون، وذلك بوصفه المشرف على الخزانة، غير أن معظم المنظر قد هُشم، ولكن لحسن الحظ قد بقي منه تحفة تحدثنا عن براعة النحات المصري في ذلك العهد وحسن ذوقه؛ فقد أجاد في إخراجها حتى ليخيل للإنسان أنه كان يعمل عشقًا في الفن ورغبة فيه. ولا يبعد أن «أوتا» المثَّال الذي يُصور هنا كان هو المفتن المكلف تزيين القبر وزخرفته، فلم يألُ جهدًا في تخليد ذكراه بهذه الكيفية؛ فنشاهد «أوتا» رئيس المفتنين لزوج الملكة العظيمة «تي» جالسًا على كرسي يقوم بعمل الزخرفة النهائية لتمثال للأميرة «بكت آتون»، والواقع أن التمثال كان قد تمَّ نحته، وكان «أوتا» يلوِّنه ويعطيه الصيغة النهائية، ويُلاحظ أن أحد تلاميذه كان في أثناء ذلك ينظر بدقة إلى حركات يد معلمه وطريقة عمله، وكذلك يُلاحظ أنه كان بجانبه مفتنون آخرون مجدون في عملهم؛ فكان واحد منهم يعمل بقدومه ليكمل قائمة كرسي على هيئة أسد، في حين كان الآخر يعمل في إخراج رأس تمثال … إلخ. على أن المنظر الذي يُعد غاية في الأهمية من الوجهة التاريخية في مقبرة «حويا» هو ذلك الذي نشاهده على كلا عارضتي الباب المؤدي إلى الحجرات الداخلية، وهو يمثل صورة «حويا» والصلاة التي كان مفروضًا أن يقرأها. وعلى العارضة اليمنى نشاهد كلًّا من «إخناتون» و«نفرتيتي» يعلوهما قرص الشمس بأشعته، وعلى العارضة اليسرى «إخناتون» و«أمنحتب الثالث» والملكة «تي»، وقد ذُكر هنا «أمنحتب الثالث» بلقبه «نب ماعت رع»، غير أنه لم يُنعت بالمرحوم؛ مما يدل على أنه كان لا يزال على قيد الحياة (Ibid p. 15.)، وكذلك يُشاهد على عتب هذا الباب الملك «إخناتون» والملكة «نفرتيتي» على اليسار جالسين جنبًا لجنب، وعلى الجهة اليمنى نشاهد «أمنحتب الثالث» وزوجه «نفرتيتي» والأميرة «بكت آتون»، وهذا المنظر يوحي بأن «أمنحتب الثالث» كان لا يزال حيًّا في السنة الثانية عشرة من عهد حكم «إخناتون»، وقد تناولنا بحث هذا الموضوع في مكانه.
والغريب الذي يسترعي النظر في رسوم مقبرة «حويا» أنه لم يَحِدْ عن الشعائر التقليدية التي كانت متبعة في الدفن منذ أقدم العهود؛ لدرجة أنه رسم موميته على صورة «أوزير»، غير أنه عند الدعاء بطلب القربان من كل نوع وجه دعاءه للإله «آتون»، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى تمسكه بالقديم وعدم تأثره بمذهب «آتون» من كل وجه، وبخاصة إذا علمنا أن سيدته «تي» كانت من أتباع الديانة القديمة على وجه عام (راجع Ibid p. 16).

«أحمس» كاتب الفرعون الحقيقي

كان «أحمس» هذا من خدام الفرعون المقربين، وكان متصلًا به اتصالًا شخصيًّا، وألقابه الحكومية هي: كاتب الفرعون الحقيقي، ومحبوبه، وحامل المروحة على يمين الفرعون، والمشرف على قاعة المحكمة، ومدير بيت «إخناتون». وقد كان يحمل غير هذه الألقاب بعض ألقاب شرف وهي: «حامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الذي على رأس السمار، والحارس لخطوات رب الأرضين.» وعلى أية حالٍ نلاحظ أن معظم موظفي «إخناتون» كانوا لا يحملون إلا ألقابًا حقيقية. أما ألقاب الشرف الجوفاء فقد اختُصرت، وأصبح عددها قليلًا بالنسبة للعهود السابقة، وهذا ليس بغريب عندما نعلم أن نظام هذا الملك في الحكم كان على أسس جديدة؛ ولذلك كان كل الرجال الذين في خدمته يحملون ألقابًا حقيقية.

وقبر «أحمس» يُعد إحدى المقابر التي لم يتم نحتها ونقشها، ومما يُؤسف له أن الجزء الذي لم يتم نقشه هو الذي كان قد خُصص لنقوشه الشخصية وحياته الحكومية؛ ففي أحد المناظر التي تم نقشها نشاهد الملك والملكة ومعهما إحدى بناتهما في عربة ذاهبة إلى المعبد دون أي حفل أو موكب في صورة غاية في البساطة، ومما يُلحظ في هذه الصورة أن الملكة قد مالت على الملك كأنها تريد أن يقبلها في وسط الشوارع العامة١٥١ (Ibid. p. 28. Pls. XXXII, XXXII a).
وفي منظر آخر نرى أعضاء الأسرة المالكة قد ساروا يصحبهم حرس ظهر فيهم جنود من السوريين واللوبيين والسودان (Ibid. Pl. XXXI)، كما نشاهد الأسرة المالكة ثانية في حفل أسري (Ibid. Pls. XXXII–XXXIV)، فالملك والملكة جلس كل منهما على كرسي في قاعة الطعام، يقدم لهما الخدم المأكولات من موائد وُضعت بالقرب منهما، وكانا يلتهمان الطعام بشره؛ فقد أمسك الملك بطة فنهشها نهشًا، في حين أن «نفرتيتي» قد قبضت بيدها على ضلع لحم وتأكل منه برغبة وشهية! وقد جلست أميرتان بجانب والدتهما على مائدة خاصة بهما، في حين أن أميرة صغيرة ثالثة كانت تجلس على حجر والدتها، وكان الخادم يقدم «لنفرتيتي» قدحًا من الخمر (؟)، وخلف كرسي الملكة كانت تقف مربيات القصر وطائفة المغنيات، وفي الخلف نشاهد جزءًا من القصر بما في ذلك حجرة المأكولات وحجرة «الحريم»؛ حيث كانت النسوة يمتعن أنفسهن بالموسيقا والنوم على الفراش الوثير.
وهنا يشاهد الإنسان سريرًا كُدس بالفراش الوثير حتى كان من الضروري لمن يصعد إليه أن يتسلق درج سلم، هذا فضلًا عن أن من يقضي ليلته في هذه الحجرة لن يشكو جوعًا أو عطشًا؛ إذ قد وُضع بجانب رأس النائم مائدة مكدسة بالخبز الذي وُضع فوقه أوزة مشوية وخسة، وكذلك كان يوجد بجانبه إبريقان من الشراب (راجع Ibid Pl. XXXIII).
والأماكن التي يظهر فيها «أحمس» هذا هي واجهة القبر وعارضتا الباب؛ حيث نشاهده يتعبد للإله «آتون» (راجع Ibid. p. 31 & 32. Pls. XXVII–XXIX).

«آني» قريب الفرعون

كان «آني» من المقربين كذلك إلى الفرعون؛ كما يدل على ذلك ألقابه، وهي: قريب الفرعون١٥٢ الذي يحبه، وكاتب الفرعون الحقيقي، وكاتب مائدة قربان رب الأرضين، وكاتب مائدة قربان «آتون» لأجل «آتون» الذي في معبد «آتون» في «إختاتون»، ومدير بيت «أمنحتب الثاني». وقد أُهدي لذكرى هذا الرجل ما لا يقل عن ست لوحات صغيرة، ويُحتمل أن الذين أهدوها إليه هم أشخاص من الذين كانوا في خدمته إلا لوحة واحدة أهداها أخوه «بتاح معي».

على أن هذه الظاهرة لم نجدها حتى الآن في أية مقبرة من مقابر هذه الجبانة؛ ومن ذلك نفهم أن «آني» هذا كان رجلًا رقيق العواطف حلو الشمائل؛ مما جذب إليه قلوب من كانوا في خدمته وأصدقائه. والواقع أن ما جاء من العبارات على هذه اللوحات يشعر بعطف وحنان وحب صادق، ومما يلفت النظر كذلك أن تقاطيع وجه «آني» قد مُثلت تمثيلًا صادقًا على هذه اللوحات، ومنها نفهم أن «آني» كان مرتفع السن عند وفاته، وأنه اعتنق مذهب «آتون» في أواخر أيامه. وهذا يتفق مع اللقب الذي كان يحمله في عهد «أمنحتب الثاني» وهو مدير بيت «أمنحتب الثاني»؛ وذلك أنه إذا كان فعلًا يشغل هذه الوظيفة في عهد «أمنحتب»، فلا بد أنه كان موظفًا مدة لا تقل عن خمسين سنة وعاصَر أربعة ملوك.

وقد دُفن «آني» في قبره «بتل العمارنة» قبل أن يتم تزيينه، اللهم إلا بعض أجزاء قليلة منه تم تزيينها (راجع Ibid. p. 7)، فنجد على العتب منظرًا للفرعون والملكة وثلاث من بناتهن يقدمن القربان للإله «آتون» ونشاهد «آني» في منظرين يتقبل القربان (راجع Ibid. Pls. IX, X). وفي ثالث نشاهده كأنه يدخل قبره (Ibid. Pl. XX.)، وكل هذه المناظر قد صُورت بالألوان فقط، ويظهر فيها رسمه الجانبي رسمًا متقنًا يلفت النظر.

أما اللوحات التي أُهديت إلى «آني» فتستحق الذكر، وهاك وصفها:

  • الأولى: لوحة قدمها «باخا» مدير الأعمال، ويُشاهد عليها وهو يقدم طاقة من الأزهار إلى «آني»، ويقول: إلى روحك طاقة من «آتون» ليمنحك النسيم، وليضم أعضاءك معًا، وليتك ترى «رع» عندما يشرق وتعبده، وليته يسمع ما تقول (راجع Ibid. p. 10. & Pl. XXI).
  • واللوحة الثانية: أهداها كاتب يُدعى «نب وعوي» (Ibid. p. 10. Pl. XXI)، ويُرى في أعلى اللوحة واقفًا أمام «آني» قائلًا: تأمل الثور الذي قيل عنه «احضره». وفي أسفل يُشاهد «نب وعوي» يقود الثور إلى الأمام ويقول: لقد رأينا الأشياء الطيبة التي فعلها الحاكم الطيب، وكاتب موائد قربانه، لقد أمر له بدفن حسن في «إختاتون».
  • واللوحة الثالثة: أهداها خادم كاتب الفرعون «آني» الذي يُسمَّى «آني من»، ويُشاهد وهو يقدم إناء ضخمًا من الخمر إلى «آني» قائلًا دع الخمر تُصب لك (راجع Ibid. p. 10, Pl. XXII).
  • اللوحة الرابعة: يحتمل أنها كانت مهداة من سائق عربة «آني» المسمى «ثاي» وإن كانت النقوش لا تذكر ذلك، وقد مُثل عليها «آني» راكبًا في عربته وبجانبه «ثاي» يقود الجوادين (راجع Ibid).
  • اللوحة الخامسة: قد أهداها «بتاح معي» وهو أخو «آني»، ويُشاهد الأخوان معًا على اللوحة، ويُوجد بينهما وجه شبه كبير (راجع Ibid. p. II, Pl. XXIII).
  • اللوحة السادسة: وقد أهداها الخادم «آي»، ويُرى مقدمًا طاقة لسيده «آني» وهو يقول: لروحك (أو لحضرتك) طاقة من «آتون» الذي يحبوك ويحبك (راجع Ibid).

با آتون-محب

كان «با آتون-محب» يحمل الألقاب التالية: مدير أعمال «إخناتون»، ومدير بيت رب الأرضين، والمشرف على جنود رب الأرضين (راجع Davies Ibid, Vol. V, p. 15)، وقبر هذا الرجل لا يشتمل إلا على مدخل؛ إذ قد ترك العمل فيه بعد ذلك، وقد قيل إن «با آتون-إم-حب» كان الاسم المؤقت الذي انتحله «حور محب» في عهد «إخناتون» وهو الذي أصبح فيما بعد الفرعون المشهور الذي خلص مصر من الفوضى وأعاد لها بعض مجدها القديم.

إبي

إن تاريخ هذا الموظف يحيطه شيء من الغموض، وقد عُثر على عقد باب من الحجر الجيري في أحد بيوت مدينة «إخناتون» وعليه ألقاب موظف يُسمَّى «إبي» وهي: «كاتب الملك ومدير بيت «منف» ومدير … له الحياة والسعادة والصحة في «إخناتون» ومدير البيت» (راجع Roeder, “Aegypt. Insch. Mus. Berlin” Vol. II, p. 399).
وكذلك عُثر على قبر لم يتم بناؤه بعد، ولم يُدفن فيه أحد في جبانة «تل العمارنة» باسم فرد يُدعى «إبي»، وكان يُلقب: كاتب الملك ومدير البيت أيضًا (راجع Davies, “El Amarna”, Vol. IV, p. 101, Pl. XXXI).
وتدل شواهد الأحوال على أن هذين الأثرين هما لرجل واحد، ولا نزاع في أنهما «لإبي» ابن مدير البيت العظيم «أمنحتب» الشهير الذي تكلمنا عنه فيما سبق؛ وذلك لأن «إبي» يحمل على اللوحة التي أهداها لوالده في قبره «بمنف» الألقاب التالية: كاتب الملك، والمدير العظيم لبيت «منف» (راجع Schiaparelli, Cat. Mus. Florence No. 1617)، وحامل المروحة على يمين الفرعون، والمدير العظيم للبيت (راجع Lieblein Dic. Noms, II, p. 791, No. 2053).
ومع كل فالظاهر أن «إبي» لا بد قد أقام قبره في «منف» بالقرب من قبر والده «أمنحتب»، وقد وُجدت أواني أحشاء مصنوعة من المرمر كُتب عليها اسمه وألقابه (راجع Hayes, J. E. A. Vol. XXIV p. 24)، ومن المحتمل أن «إبي» كان من رجال «منف» الذين لم يكن لهم ميل خاص لعبادة «آمون» فاعتنق ديانة «آتون» وهاجر مع الفرعون إلى «إختاتون» حيث سكن بعض الوقت وقام بنحت قبر لنفسه هناك، ولكن عندما حدث انقلاب على عبادة «آتون» رجع إلى «منف» حيث دُفن هناك على ما يُظن في عهد «توت عنخ آمون» أو «آي» أو «حور محب». وفي القبر الذي نحته في «تل العمارنة» نجد أن أحسن المناظر المحفوظة التي تمثل أعضاء الأسرة المالكة، وهم يتعبدون «لآتون»، ويُحتمل أن هذا القبر كانت قد طغت عليه الرمال فأخفته عن الأعين في عهد الانقلاب؛ ولذلك بقي لنا هذا المنظر الطريف محفوظًا، وكان قد نُحت بأحسن طراز ممثل لهذا العصر، ونشاهد فيه (Davies, Ibid. Pls. XXXI, XLIV.) «إخناتون» و«نفرتيتي» وثلاثًا من الأميرات وهن «مريت آتون» و«مكت آتون» و«عنخس با آتون»، والجميع يقدمون قربًا للإله «آتون» الذي كان يرسل أشعته في صورة أيد بشرية على الفرعون وزوجه.
والواقع أن المنظر نفسه تقليدي، ولكن ما يلفت النظر هو القربان الذي يقدمه الملك وزوجه؛ فالذي يقدمه «إخناتون» هو قطعة مزخرفة نشاهد فيها طغراءي «آتون» يكتنفهما ويسندهما تمثالان صغيران يمثلان أميرتين. أما القربان الذي تقدمه «نفرتيتي» فهو من هذا الطراز نفسه، اللهم إلا أن الطغراءين يستندان على صورة واحدة صغيرة تمثل الملكة نفسها. والظاهر أن الفرعون لم يكن وحده هو الذي يقدس اسم «آتون» بل كانت كذلك أسرته، كما يوحي بذلك هذا المنظر. وقد ذُكر اسم «إبي» على جِعْران في متحف «تورين»، ولكنه يحمل لقب المشرف على أعمال بيت الذهب (التحنيط)، ومن المحتمل جدًّا أنه ليس هو نفس «إبي» المدير العظيم للبيت وكاتب الفرعون (راجع A. S. Vol. X, p. 108).

«بنثو» الطبيب الأول

كان «بنثو» يحمل الألقاب التالية: «كاتب الملك، والمدير الفرعوني، والخادم الأول للإله «آتون» في معبد «آتون» في «إختاتون»، والطبيب الأول والتشريفاتي، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد، ومقتفي قدمي رب الأرضين، والذي يقترب من شخص الفرعون وعظيم العظماء، والممدوح من الإله الطيب، والسمير رئيس السمار.» ومن هذه الألقاب نعلم أن هذا الموظف كان من الشخصيات البارزة في هذا العهد، ومن المقربين عند الفرعون، وبخاصة لأنه كان طبيبًا ماهرًا، ومما يؤسف له أن رسوم جدران مقبرة هذا العظيم وُجدت في حالة سيئة جدًّا؛ إذ قد تساقط معظمها، وكذلك لأن القبر كان قد اتُّخذ مسكنًا لبعض الأفراد الذين أرادوا أن يُدخلوا بعض التحسينات في داخله ليجعلوه صالحًا لسكناهم، والصور التي على الجدران كلها صور تقليدية من جهة الموضوع والفن؛ فنشاهد منظر ذهاب الفرعون لزيارة المعبد، وكذلك مكافأة المخلصين له في عملهم من الموظفين، ومنظر الأسرة المالكة على المائدة. ومن المدهش أن هذه المناظر التي كانت وقفًا في الأزمان السالفة على رجال من علية القوم مثل «بنثو»، غير أنها أصبحت تُرسم في بعض مقابر الموظفين في عهد «إخناتون».

نفر خبرو حر سخبر

كان «نفر خبرو حر سخبر» عمدة «إخناتون»، كما كان يحمل لقب رئيس الأشراف، وقبره من الوجهة الهندسية يُعد من أجمل المقابر في هذه الجبانة (راجع Davies, Ibid. p. 23)، غير أنه تُرك ولم يتم نحته ونقشه؛ إذ نجد أن بعض العمد لم تُفصل بعد من أصل الصخر، وكذلك الزخرفة لم تُرسم، وكل ما وجدناه تذكارًا لهذا العظيم هو بعض نقوش خُطت بالمداد على جانبي المدخل، ويدل عدم كتابة لقب الفرعون على الجانب الأيمن على أن العمل في هذا القبر قد أُوقف فجاءة.

ماع نختوف

لم يُعثر حتى الآن على قبر هذا الموظف، وكل ما نعلمه عنه مستقًى من نقش عتب بابه الذي كُشف عنه في مدينة «إختاتون» (راجع Roeder, “Aegypt. Insch. Mus. Berlin”. p. 127–129).

وتدل ألقابه على أنه كان رجلًا مشغولًا طوال مدة خدمته الحكومية؛ إذ كان يحمل لقب المشرف على البنائين الذين كانوا يعملون في «إختاتون»، والواقع أننا عندما نفكر في عدد المباني الجديدة التي كان عليه أن ينجزها للفرعون، ورجال حكومته في أقصر زمن ممكن؛ أدركنا أن أولئك الذين كلفوا هذا العمل لم يعد لديهم من الفراغ شيء. وألقابه هي: مدير البنَّائين، ومدير بنَّائي آثار جلالته، ومدير بنَّائي رب الأرضين، ومدير البنَّائين في «إختاتون» ورجل البلاط الذي يتبع تعاليم جلالته.

«محو» رئيس الشرطة

كان «محو» رئيس شرطة مدينة «إختاتون» (Davies, Ibid. Vol. IV, Pl. XXI.)، وقد تكلمنا عن الدور الذي قام به في المؤامرة التي دُبرت حول العرش، وهذا الحادث قد مُثل في قبره بتل «العمارنة» (Ibid. Pl. XXVI.)، وزخرفة هذا القبر لم تتم؛ ولذلك نجد معظم المناظر قد خُطت بالمداد فقط، والفن الذي نشاهده في هذه المقبرة يعطينا صورة عن فن «تل العمارنة» في نهاية مدته، بما فيه من سوء استعمال النِّسب في رسم أعضاء الجسم، وكذلك رسم الوجوه الإنسانية القبيحة. غير أنه في مقابل هذه النقائص نجد الرسام قد أُعطي هبة وحرية مطلقة في تمثيل الحركات السريعة، وحسًّا ماكرًّا ينطوي على التنكيت. هذا فضلًا عن أن مناظر قبر «محو» تشمل أشياء مبتكرة، مما لا نجده في مناظر القبور الأخرى في هذه الجبانة، وقد يعزى ذلك إلى طبيعة وظيفة صاحبه وما ينطوي عليه من مناظر جديدة، فنجد المثال حتى في المناظر التقليدية في هذا القبر قد أعطاها طابعًا خاصًّا؛ فمثلًا نجد هنا منظرًا آخر للفرعون، و«نفرتيتي» والأميرة «مريت آتون» راكبين معًا، في عربة، كما شاهدناهم في قبر «أحمس»، ولكن يلفت النظر هنا أن «نفرتيتي» تظهر بمظهر الحب فتغازل الفرعون مما يربكه وهو يسوق عربته، وقد زاد في ارتباكه أن الأميرة «مريت آتون» كانت مائلة على مقدمة العربة وتضرب الجوادين بعصا (راجع Ibid. Pl. XXII).

وفي المنظر الذي نشاهد فيه الملك والملكة مغادرين أبواب المعبد نجد ثلة من الشرطة في ركابهما، وكذلك الوزير «محو» والكل يهرولون أمام العربة. حقًّا إن ذلك ليس بالشيء المتعب للجنود النشطين الذين كانوا يسرعون بعزم وقوة الشباب، ولكن «محو» كان يظهر عليه عدم الارتياح لهذا التمرين العنيف، وكان منظر الوزير البائس يثير الضحك وهو يتعثر في جريه، وكأنا نسمع دقات قلبه وسخطه وهو يجهد نفسه في السير بخطًا واسعة مع رفاقه الذين كانوا يبدون نشاطًا وحيوية في جريهم.

غير أن من أهم الأشياء التي تلفت النظر في المقبرة ما نشاهده في المنظر الذي يتمثل لنا فيه نظام الشرطة في العاصمة الجديدة. وأول ما يُلحظ هو عدم وجود سلاح مع حرس الشرطة الذين يتبعون الفرعون؛ مما يدل على أنه كان محبوبًا، على الرغم من المؤامرة التي قامت عليه في مدينته، اللهم إلا إذا كانت قد وقعت بعد ذلك. وفي مكان آخر نشاهد أن محل الحراسة كان محصنًا وليس له إلا باب واحد، والدخول منه كان محروسًا بسياج من هيئة أعمدة يصل بعضها ببعض حبال حاجزة (راجع Ibid. Pl. XXIV). والظاهر أنه كانت توجد سلسلة بيوت حراسة صغيرة متباعدة حول المدينة، وكان يحتل كل واحد منها حارس. وفي منظر آخر نشاهد «محو» وهو يقوم بأعمال وظيفته بنشاط؛ ففي مكان نشاهده يتصل بالوزير الذي كان لا بد أن يقدم له تقاريره. وفي جهة أخرى نجده يفحص معدات جنوده ويشرف على إحضار مواد الطعام (جراية الشرطة)، كما يُشاهد مخزن أسلحة يحرسه ثلة من الجنود مسلحة تسليحًا تامًّا.
وقد كُوفئ «محو» على إخلاصه؛ إذ نشاهده خارج المعبد وهو يقدم شكره للإله على ما غمره به الفرعون من أطواق الذهب الكثيرة (راجع Ibid. Pl. XVIII).

«باك» مدير أعمال محاجر الجبل الأحمر

كان «باك» هذا ابن أحد رؤساء النحاتين الذين قاموا بنحت الآثار العظيمة للفرعون «أمنحتب الثالث»، ووالده هو «مين» الذي تكلمنا عنه في عهد «أمنحتب الثالث» (راجع …)

وقد اقتفى «باك» خطوات والده؛ فكان يشغل الوظائف التالية: مدير أعمال محاجر الجبل الأحمر، والذي علمه جلالته بنفسه، ورئيس النحاتين للآثار العظيمة للملك في معبد «آتون» في بلدة «إختاتون».

وصورة هذا الموظف ونقوشه نشاهدها في نقش على لوحة في الصخر بالقرب من «أسوان» مع والده، وقد ظهر فيها وهو يتعبد لتمثال «إخناتون» (؟) وقد محا اسمه واسم والده من هذه اللوحة بعد الانقلاب الذي حدث بموت «إخناتون»، غير أن اسم «آتون» بقي ولم يُصب بسوء (راجع De Morgan. Cat. Mon. p. 40. No. 17. 4)، على أن ما يلفت النظر هنا في لقبه الأول أن «إخناتون» كان هو المعلم الأول لهؤلاء المهندسين والنحاتين، وذلك لتنفيذ فكرته الخاصة بالفن في تلك الفترة.

«مري-إتي نيت» الكاهن المطهر الثاني

كان «مري-إتي-نيت» أحد موظفي الفرعون في الأقاليم، ومعلوماتنا عنه قد جاءت إلينا من قطعة حجر منزوعة من مقبرة خربت بالقرب من مصطبة الفرعون الواقعة جنوبي «سقارة»، وألقابه هي: الكاهن المطهر الثاني، ومدير بيت معبد «آتون»، ويمكننا أن نقول ببعض التأكيد إن «مري-إتي–نيت» هذا كان أحد موظفي معبد «آتون» في «منف» (راجع Roeder, “Aegypt”, Insch. Mus. Berlin. Vol. II p. 121).

«سارا بيخينا» المسمى «أبي» كاهن الإلهة «عشتارت» والإله «بعل»

هذا الموظف كان — كما يدل اسمه — أجنبيًّا، ولما كان اسمه تمجه الآذان فقد تسمى باسم مصري خفيف على السمع واللسان. وكان مثله كمثل سابقه «مري-إتي-نيت»؛ أحد الموظفين في معبد الشمس بمنف، وكان يحمل لقب كاهن الإلهة «عشتارت» والإله «بعل»، ومما هو معلوم أن هذه الإلهة كانت تُعبد في «منف»؛ حيث كانت أحيانًا يُشار إليها بابنة الإلهة «بتاح» أعظم آلهة هذه الجهة. وقبر هذا الموظف يظهر أنه كان في منطقة «سقارة» (راجع Petrie, “Memphis”, I, PP. 8, 19 & L. D. Text. Vol. I, p. 16).

«معي» المشرف على جياد الفرعون

ظهر «معي» هذا هو وطائفة عظيمة من كبار الموظفين في مقبرة الوزير «رع موسى»، والظاهر أنه كان ضمن موظفي الفرعون «إخناتون» يقوم بأعباء وظيفته: المشرف على جياد رب الأرضين، ورسول الفرعون في كل بلد والمقرب إليه (راجع Steindorff, “Kunst der Aegypter”, p. 236).

«رع نفر» المشرف على جياد كل الإصطبل

وكان «رع نفر» كذلك أحد الموظفين القائمين على صيانة جياد الفرعون؛ إذ كان يحمل لقب «المشرف على جياد كل الإصطبل».

ولم تصلنا أية معلومات عن هذا الموظف إلا ما جاء عنه في نقش وُجد في إحدى كوات منزل بمدينة «إختاتون» (راجع Peet & Woolley, “The City of Akhetaton”, I, Pl. IX. 6).

«بارت نفر» ساقي الفرعون

كان «بارت نفر» ساقي الفرعون، وغاسل يدي جلالة الفرعون (؟) (راجع Davies, “El Amarna”, VI, Pls. III, VII, p. 6). (أو نظيف اليدين على حسب رأي آخر في الترجمة)، ويُوجد في «الخوخة» «بطيبة الغربية» مقبرة تحمل رقم ١٨٨، وتُؤرخ بلا نزاع بعهد «إخناتون»، غير أن اسم صاحبها قد مُحي عن قصد في كل مكان وُجد فيه على جدران المقبرة، وصاحبه يحمل لقب ساقي الفرعون، ونظيف اليدين، ومدير البيت؛ على حسب ما جاء في ترجمة «جاردنر» و«ويجول» (Gardiner & Weigall, Cat. No. 188.)، والفن الذي يُشاهد في نقوش هذه المقبرة يرجع إلى بداية عهد «إخناتون»، ويميل الإنسان إلى الاعتقاد بأن هذا القبر قد عمل «بارت نفر» رسمه، ثم هجره ورحل مع سيده «إخناتون» إلى بلدة «إختاتون»، وهناك أقام مقبرة، وعلى الرغم من أنها صغيرة الحجم فإن الجزء الذي تمَّ منها زُخرف بكرم وإتقان. وتدل شواهد الأحوال على أنه قد جلب لنفسه غضب الفرعون لسبب ما؛ وذلك لأن القبر لم يتم زخرفته، وكذلك مُحي اسمه في كل مكان وُجد فيه على الجدران، ولا بد أن هذا الغضب له علاقة بما حدث في القبر الذي نُحت في «الخوخة» (رقم ١٨٨). والواقع أن قبر «بارت نفر» يحتوي مناظر غاية في الإتقان، وبخاصة التي تم نقشها. ومن المناظر النادرة منظر زيارة الأسرة المالكة زيارة غير رسمية لمقبرة هذا الموظف. وقد يجوز أن هذه حادثة حقيقية، أو باعتبار ما سيكون قد نسجها خيال «بارت نفر»، فيُرى الملك والملكة يسيران على مهل وبتؤدة وساعد الملك مطوي حول رقبة زوجه، ويداهما مشتبكتان معًا (راجع Davies, Ibid. Vol. VI, Pls. III, VII, VIII)، وفوقهما قرص الشمس مرسل أشعته تتدلى منه الأيدي البشرية التي تمسك بالفرعون من تحت إبطه كأنها تحميه من التعثر في حجارة الصحراء، وأمام الفرعون تابعون يسيرون حاملين المظلات لوقايته من حر الشمس. وهكذا نشاهد في منظر واحد «آتون» يحمي الملك من السقوط، ويحمي هو من حرارته، وبذلك يجتمع النقيضان.
ويأتي خلف الملكة ثلاث من الأميرات ومعهن مربيتهن، وإثر هذا المنظر يُشاهد الخدم يحملون الكراسي وأدوات الكتابة. ولم يُذكر اسم «بارت نفر» في هذا المنظر. وعلى أية حال فإن هذا الموظف قد كوفئ على إخلاصه؛ إذ نشاهد الفرعون وزوجه السمحة الوجه يقدمان له ذهب الجدارة، وقد كان حاضرًا في هذه المناسبة السعيدة الأميرات الثلاث و«موت بنرت» أخت «نفرتيتي» (راجع Ibid. Pl. IV)، وهذا المنظر قد بقي مخطوطًا بالمداد فقط فلم يُحفر، وما تبقى منه يظهر فيه «بارت نفر» وهو عائد إلى بيته في عربته وفي ركابه طائفة من أتباعه يحملون المنحة الملكية، وعند وصوله تخرج زوجه من بيتها مهرولة نحوه رافعة يديها، وكانت أول من حياه وهنأه، وقد كان ثناؤها على الهدية الملكية عظيمًا، ثم جاء خلفها طائفة من العذارى يرقصن ويضربن على الدفوف. والظاهر أن بعضهن قد أسرعن لمقابلته حتى إنهن قد خرجن عاريات الأجسام (راجع Ibid. Pl. V).
وفي منظر آخر يُرى الفرعون وقد مُثل جالسًا على عرشه تحت مظلة وأمامه موظفان لم يُذكر اسمهما، أحدهما حاملٌ إبريقًا ومنديلًا، ويظهر أنه يقدم شرابًا للفرعون، والثاني يُرى راكعًا، ولا بد أن الأول هو ساقي الفرعون «بارت نفر» نفسه وهو يؤدي وظيفته (Ibid. Pl. VI). والمنظر مهشم تهشيمًا كبيرًا، غير أنه يمكننا أن نرى جماعات من المغنيات وصفًّا عظيمًا من الأباريق والأطعمة قد وُضعت خلف القبر (؟)؛ مما يبرهن على أنه كان ساقي الفرعون حقيقة.

توتو

لقد دلَّ البحث العلمي على أن «توتو» هو نفس «دود» الذي ورد في خطابات «تل العمارنة»، وهو الذي لعب دورًا مشينًا على حسب ما توحي به هذه الخطابات التي تُبودلت بين الفرعون وأمراء آسيا؛ مما أدى إلى سقوط الإمبراطورية المصرية.

وألقابه كما جاء في قبره هي: التشريفاتي، وتشريفاتي سيد الأرضين، والخادم الأول للفرعون، «نفر خبرو رع-وع-ن-رع» في بيت … معبد «آتون» في «إختاتون»، والخادم الأول للفرعون «نفر خبرو رع-وع-ن-رع» في السفينة، والمشرف على كل أوامر رب الأرضين، ومدير كل أعمال جلالته، والمشرف على كل الفضة والذهب، ملك رب الأرضين، والمشرف على الخزانة في «آتون» في معبد «آتون» في «إختاتون» الفم الأعلى لكل الأرضين، والخادم الأعظم للفرعون، والتابع الأول (؟) وخادم «وع-ن-رع» ومدير كل أعمال جلالته.

ومما يُلحظ في قبر هذا الرجل العظيم أن المناظر التي تصف رقيه والمكافآت التي نالها قد برزت بشكل واضح؛ ولذلك نشاهد فيها كل الاحتفالات الضخمة التي أُقيمت بكل أبهة وفخار لهذه المناسبات. وقد كانت المكافآت الملكية تشمل الماشية السمينة كما كانت تحتوي على الحلي الذهبي الفاخر (راجع Ibid, Pls. XVII–XXII)، وقد تكلمنا فيما سبق عن الدور الذي لعبه في سياسة الدولة.

«رع موسى» المدير الملكي

كان «رع موسى» هذا يُلقب المدير الملكي، والمشرف على جنود رب الأرضين، ومدير بيت «أمنحتب الثالث». وعلى الرغم مما يوجد من توحيد في لقبه الأخير واسمه مع اسم «رع موسى» الذي خدم «أمنحتب الثالث» وأقام لنفسه قبرًا في جبانة «شيخ عبد القرنة» يحتوي على مناظر من عهد «إخناتون» وما قبله من الوجهة الفنية؛ فإنه ليس لدينا ما يدعو إلى الاعتقاد بتوحيدهما. والواقع أن قبر «رعموسي» هذا المقام في «تل العمارنة» كان قبرًا صغيرًا، والمناظر التي فيه يظهر فيها الملك «إخناتون» والملكة «نفرتيتي» والأميرة «مريت آتون» يتعبدون للإله «آتون»، ويُشاهد فيه صورة راكعة تمثل «رعموسي» وقد نُقش أمامه وفوقه الصلاة التي يدعو بها ربه (راجع Ibid. Pl. XXXV).

«سوتي» حامل العلم

كان «سوتي» يُلقب بحامل العلم لطائفة جنود الفرعون «نفر-خبرو-رع-وع-ن-رع» (إخناتون) وقبره في «تل العمارنة»، ولم يُنقش منه إلا عارضتا الباب، والنقش دعاء جنازي (Ibid. Pls. XXXVIII, XXXIX, PP. 25, 31).

«حاتياي» مدير مخازن معبد آتون

كان قد كُشف عن مقبرة في جبانة «شيخ عبد القرنة» في عام ١٨٩٦، وعُثر فيها على تابوت كبير، وعليه اسم «حاتياي»، ويحمل الألقاب الآتية: الكاتب، ومدير مخزن غلال معبد «آتون». وقد أرخ الأثري «دارسي» هذا القبر بعهد الفرعون «أمنحتب الثالث» أو بداية عهد حكم «إخناتون» (راجع A. S. II, p. 2). وبعد ذلك عُثر في مدينة «إختاتون» على عتب باب لشخص يُدعى «حاتياي» ويحمل لقب مدير الأعمال، ومحبوب رب الأرضين (راجع “The City of Akhetaton”, p. 109, Pl. XXIII, 4).

ولذلك يُحتمل أن يُوحد هذا الرجل بصاحب المقبرة المذكور سالفًا.

«سوتاوي» مدير خزانة رب الأرضين

كان «سوتاوي» يحمل لقب مدير خزانة رب الأرضين.

وقبر هذا الموظف في «إختاتون» صغير جدًّا لم يتم العمل في داخله ولا في خارجه. والظاهر أن هذا التعس لم يجد أملًا حتى في إتمام حجرة دفنه المتواضعة، وكل ما حاوله هو أن تُخلد ذكراه وذكرى الملك على جزء من الجدار في المدخل، فعلى أحد جانبي المدخل رسم أفراد الأسرة المالكة وهم يتعبدون «لآتون»، وأسفل ذلك رسم صورته، وبعض النقوش التي تحدثنا عن أن «سوتاوي» كان رجلًا من أسرة متواضعة، وقد رفعه الفرعون إلى درجة عالية من الغنى والثراء والنفوذ، على أن حجم قبره وحالته لا يدلان على شيء من ادعائه العريض (راجع Davies, “El Amarna”, Vol. V, p. 14, Pls. XIV, XV).

«مري رع الثاني» كاتب الفرعون

كان «مري رع» الثاني من كبار رجال بلاط «إخناتون»؛ إذ كان يحمل الألقاب التالية: كاتب الفرعون، والمشرف على (الحريم) الملكي، والمشرف على الخزانة، ومدير البيت، والمشرف على (الحريم) الملكي للزوجة الملكية العظيمة «نفر نفرو آتون» «نفرتيتي» العائشة أبد الآبدين (Ibid. Vol. II, Pl. XXIX).
والواقع أن مقبرة هذا العظيم كان مثلها كمثل المقابر الأخرى في هذه الجهة لم يتم نحتها ونقشها تمامًا، وعلى أية حال فإن الكثير من زخرفتها كان قد أُنجز ويظهر فيه مناظر الأسرة المالكة و«مري رع» وهو يتقبل الإنعامات الملكية من الملك والملكة شخصيًّا، ويعتقد الأثري «ديفز» أن كل مقابر «تل العمارنة» كانت قد نُحتت بأمر ملكي، وأن الملك نفسه هو الذي أمر برسم هذه المناظر الملكية في هذه المقابر، وهي التي يجب أن تكون في قبر الملك نفسه وحده. وأهم منظر على جدران هذه المقبرة هو مشهد استقبال الجزية الأجنبية (راجع Ibid. Pls. XXXVII–XLVII & p. 38ff)، وتاريخ هذا الحادث قد مُحي، والظاهر أنه كان مثل التاريخ الذي وُجد على مقبرة «حويا» القريبة منه؛ وعلى ذلك يمكن أن يكون السنة الثانية عشرة من حكم «إخناتون». وهاك النص: «السنة الثانية عشرة، الشهر الثاني، من فصل الشتاء، اليوم الثامن من حكم ملك الوجه القبلي والبحري، العائش على الصدق، رب الأرضين «نفر-خبرو-رع» بن الشمس، العائش على الصدق، رب التيجان «إخناتون» العظيم في بقائه، والزوجة الملكية محبوبته «نفرتيتي» العائشة أبد الآبدين. ظهر جلالته على عرش الوالد المقدس والملك، «آتون» الذي يعيش على الصدق، وكل رؤساء الأراضي قد أحضروا جزيتهم (أو هداياهم؟) … وملتمسين العطف من يده (؟) حتى يستطيعوا شم نفس الحياة.» والواقع أن النقوش التي في قبر «حويا» كما ذكرنا قد سجلت حادثة لجلب الجزية من «سوريا» و«كوش» والشرق والغرب، وجزر البحر، ومن المحتمل أن هذا الوصف كان مجرد تقليد. وهنا نشاهد الملك جالسًا على العرش ومعه أسرته، وعلى الجهة اليمنى تُرى جزية الجنوب (Ibid. Pl. XXXVII–XL.)، وعلى اليسار أمم الشمال. ويُلاحظ أن الملك وزوجه يجلسان على كرسيين متحدين جنبًا لجنب، ومما يلفت النظر أنه حتى في مثل هذا الحفل العام الذي يظهر فيه وفود الأجانب نرى الملك يجلس جلسة تدل على مغازلته لزوجه، فالملكة تطوق الفرعون بذراعها الأيمن، وذراعها الأيسر وُضع على ذراعه، وهنا نشاهد ست أميرات قد حضرن في هذا الحفل وهو عدد لم نجده في أي رسم آخر، والأميرتان الجديدتان في هذا المنظر هما «نفر نفرو رع» والأميرة «ستب-ن-رع».

وأمام الفرعون رُسم ستة صفوف تمثل إحضار العطايا بوساطة قبائل عبيد الجنوب، وفي الصف الأعلى نشاهد نماذج الهدايا، وهذه كانت تُقدم في صورة مجاميع مزخرفة على حسب ذوق الأهالي؛ فمثلًا نجد هنا كومة مزخرفة بالجلود وذيول الحيوان، والخواتم من الذهب مدلاة في هيئة سلاسل طويلة، في حين نرى كذلك صفًّا من ريش النعام يزين الجانب الأعلى، ويُشاهد هنا كذلك جزية أخرى مؤلفة من الدوم يحتمل أنها صُنعت من المعدن الثمين، وخلف ذلك يوجد أطباق عظيمة عليها ركائز من المعادن، وحقائب من التبر، وخواتم من الذهب، ودروع وسهام وأقواس، وأسفل ذلك نرى هدايا مماثلة للسالفة مقدمة من رؤساء بلاد «واوات» أو «يام» في بلاد النوبة، كما نشاهد من بينها بعض الحيوان مثل الفهود الأليفة والغزال (؟).

وفي الصف الثالث نشاهد أسرى ضمن الجزية، ومن بينهم نحو اثنتي عشرة جارية قد وُضعت الأغلال في أعناقهن وفي أيديهن، وكل واحدة منهن كان يتبعها ثلاثة أطفال أو أربعة، والكبار من الأطفال يسيرون بجانب الجواري، أما الصغار فقد حُملن على ظهورهن في سلات، وهذه على ما يظهر كانت عادة شائعة. أما الصف الذي يلي ذلك فيمثل منظرًا حربيًّا، ولكن من غير أسلحة، والظاهر أنه منظر ألعاب رياضية، ويشتمل على المصارعة ولعب العصا والملاكمة.

وفي هذه الأثناء نشاهد «مري رع» ومعه أربعة من الموظفين ينزلون الطوار ليقدموا أنفسهم للفرعون، ومعهم أتباعهم من حاملي المراوح وغيرهم ممن اشتركوا في هذه الحملة أو الرحلة، وفي الوسط نجد الصبية يحيونهم، وكذلك نرى جماعة صغيرة يشتركون في الاحتفال بمنح «مري رع» عقدين من الذهب.

وعلى يسار الطوار (راجع Ibid p. 40). نرى أهل الشمال (وهو الشرق بالنسبة لنا) ويؤلفون ستة الصفوف التي تقع خلف السوريين (رتنو) مباشرة، وكلهم ذوو شعر كثيف ولِحًى طويلة. وفي أعلى الصورة نشاهد جزءًا عظيمًا من الهدايا، وتحتوي على الأسلحة التي كان المصريون قد تعلموا قيمتها في حروبهم مع «سوريا»، منها القوس والنشاب والخناجر والحسام، والحراب والدروع، والزرود والعربة التي يجرها جوادان، وكذلك هدايا يحملها الآسيويون في أيديهم، ومن بين هذه الهدايا ثلاث عذارى قد دُفع بهن إلى الأمام ليستلفتن نظر الفرعون، ثم نشاهد رؤساء البعثة راكعين أمام الفرعون ومقدمين أوانيَ من المعدن وقبعات وسن فيل وسهامًا وأقواسًا، وثلاثة حيوانات — غزالًا ووعلًا وأسدًا. وفي الصف الثاني نجد تسعة أسرى أو عبيدًا مغلولي الأيدي.
وفي الصف التالي نشاهد بعثة من بلاد أخرى ربما كانوا الأموريين وهداياهم تشمل فتاتين وعربة وأواني مختلفة جميلة الصنع. والصفان الأسفلان يُحتمل أنهما يمثلان قبيلة أخرى من السوريين لا يمكن تحديدها. ثم نشاهد كذلك أهل «بنت» على ما يظهر يقدمون جزيتهم (Ibid. p. 41.)، ثم يأتي بعد ذلك «اللوبيون»، ثم أهل «خيتا» الذين كانوا يحملون هدايا لا بد أنها من صنع أهل «كريت».
وبعد موت «إخناتون» بقي «مري رع» حائزًا للعطف الملكي، فنشاهد الملك «سمنخكارع» يستقبله هو وزوجه «مريت آتون»، وأغدق عليه الهدايا المعتادة من الذهب، وثبته في وظيفته (راجع Ibid. p. 43).
١  وقد أرسل له الفرعون في مقابل ذلك ذهبًا وفضة وملابس وحجر الدم وكل أنواع الأحجار الكريمة المختلفة وكراسي من الأبنوس وكل شيء طريف (راجع Mercer, “The Tell El Amarna Tablets”, Vol. I, (No. 31a) p. 187).
٢  راجع: Mercer, “The Tell El Amarna Tablets”, Vol. II, (No. 301) 15ff.
٣  راجع: Ibid, (No. 288) 1. 20.
٤  والواقع أن «أمنحتب الثالث» قد أرسل على أقل تقدير خمس مرات في طلب غانيات ليكنَّ في قصره، ومجموع ما عرفناه حتى الآن لا يقل عن ٤٢٨ غانية. وهاتيك المئات من النسوة الأجنبيات اللائي أُرسلن إلى البلاط الفرعوني قد أثمرت ووضعن أولادًا، وناهيك ما كان لاختلاط الدم المصري بالدم الأجنبي من أثر، وبخاصة إذا علمنا أن هذا الاختلاط قد بدأ منذ بداية الأسرة الثامنة عشرة (راجع A. Z. LXXIII; p. 92). كما أشرنا إلى ذلك من قبل. راجع أيضًا: “Revue d’Assyrologie” Year 31, Vol. No. III, Dossin, “Une Nouvelle Lettre d’el Amarna”.
٥  كان «إخناتون» في بادئ أمره يُسمَّى «أمنحتب الرابع». وقد تسمى «إخناتون» في السنة السادسة من حكمه، غير أنه غيَّر ألقابه بوصفه إخناتون فيما بعد، وهاك ألقابه الأولى والثانية كما أوردها «جن» في مقال له عن هذه الألقاب. (J. E. A., Vol. XI, p. 168–176):
  • (أ)

    ليت الإله الطيب يعيش، وهو الذي يفرح بالصدق، وسيد كل ما يحيط به «آتون» رب السماء ورب الأرض «آتون» الحي، العظيم، الذي يضيء الأرضين، ليت الوالد (المقدس والإلهي) يعيش: رع يعيش، وهو «حور أختي» الذي يفرح على الأفق باسمه: الحرارة التي في «آتون» والمعطي الحياة أبد الآبدين، آتون العائش، العظيم في عيد ثلاثيني، والذي يسكن في معبد «آتون» في «إخناتون».

  • (ب)

    رع يعيش حاكم الأفق، الذي يفرح على الأفق باسمه رع الأب الذي عاد في صورة «آتون».

    والعبارة الأخيرة تشير إلى عودة إله الشمس «رع» إلى حكم العالم بعد أن رفع نفسه إلى السماء كما فصلنا ذلك في كتاب الأدب عند الكلام على قصة هلاك الإنسانية (راجع الأدب المصري القديم، ج١، ص٧١–٧٤).

٦  كان الملكة «تي» على علم تام بالأحوال السياسية كما يدل على ذلك خطابات تل العمارنة (راجع Mercer, “Tell El Amarna Tablets”, 26, 7–18; 24, 42ff; 29, 8, 9. 45ff)، وقد تراسلت مع «توشرتا» من أجل ابنها أمنحتب الرابع (Ibid, 26, 20ff)، وقد كان لها نفوذ في سياسة كل من زوجها وابنها (Ibid. 29, 66ff)، وقد أرسل لها ملك «متني» هدايا خاصة (Ibid, 27, 112)، كما أرسل إليها تحيات في مناسبات عدة (Ibid, 27, 4, 28, 7; 29, 3).
٧  جاء في الرسالة رقم ٢٣ أن الإلهة «عشتارت» رغبت في الذهاب إلى مصر والعودة ثانية في السنة السادسة والثلاثين من حكم أمنحتب الثالث (راجع Ibid, I, 23)، وقد نُصح للفرعون أن يستقبلها ويكرم وفادتها، وقد كان مقرها بلدة «نينوة».
٨  راجع: Brunner, “Ein Neue Amarna-Prinzessin”, A. Z. Vol. LXXIV, PP. 104–108.
٩  يعتقد الأستاذ «ولف» أن ما يدعيه أو يخمنه بعض المؤرخين عن العلاقة بين «إخناتون» وبين أخيه «سمنخ كارع» مجرد خيال. (راجع A. Z. Vol. LXV, p. 100)، ولا يبعد أن يكون هذا الرأي صحيحًا؛ لأن «إخناتون» كما يقول الدكتور غليونجي قد طغا على جسمه التحنث في آخر أيامه، حتى تحول، وقد تكلمنا عن ذلك فيما بعد.
١٠  راجع: A. S. Vol. XL, p. 138ff.
١١  يعتقد الأستاذ «جاردنر» أن المازوي كانوا في هذا العهد من المصريين لا من أهالي بلاد النوبة. كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
١٢  راجع: Davies, “El Amarna”, Vol. IV, Pl. XXVI.
١٣  راجع: Ed. Meyer, “Gesch. Des Altertums”, II, I, p. 400.
١٤  فقد عُثر على جِعْران من عهد الملك «تحتمس الرابع» عليه نقوش غاية في الأهمية من الوجهة التاريخية؛ وذلك أن علماء الآثار قد ظنوا بحق أن الانقلاب الديني والفني الذي قام به «إخناتون» يضرب بأعراقه إلى عهد «تحتمس الرابع»، وهذه النظرية ترتكز على عدة براهين معظمها لا يمكن الارتكان عليها بصفة قاطعة، وهي:
تدل شواهد الأمور على أن إحدى لوحات حدود مدينة «إختاتون» تشير إلى أن «تحتمس» الرابع قد قام بمحاربة كهنة «آمون»، غير أن الفقرة التي جاء فيها ذكر هذا الحادث مهشمة تمامًا.
عُثر في حفائر الجامعة المصرية على لوحة «لتحتمس الثالث (؟)» يتعبد لقرص الشمس، وتتدلى منه الأيدي التي يمتاز بها «آتون» معبود «إخناتون».
يدل فن عصر «تحتمس الرابع» على أنه قد اتخذ صورة جديدة تحوي تمثيل الحقيقة والطبيعة.
عُثر على قطعة حجر في «تل العمارنة» يظهر عليها الملك إخناتون يقرِّب إلى «آتون» القربان، وقد وصف هذا الإله بأنه ساكن في بيت الملك «تحتمس الرابع» في بيت آتون في «إختاتون».
عُثر على تماثيل مجاوبين للمك «تحتمس الرابع» تشبه تماثيل «إخناتون»؛ لأنها لم يُكتب عليها إلا اسم الملك، وليس عليها أي صيغة سحرية.
عُثر على أشياء مكتوب عليها اسم «تحتمس الرابع» في العمارنة (انظر تحتمس الرابع ص؟).
ولكن أهم برهان قد وجدناه على هذا الجِعْران؛ إذ هو برهان قاطع إذ لم نجد فيه أن آتون كان قد اعتُبِر إلهًا منفصلًا في عهده عن إله الشمس، بل كان يُعبد بوصفه إله المعارك الذي أعطى النصر للفرعون، وأمن تفوُّقه وتسلطه على كل العالم، وجعل كل الإنسانية رعايا لقرص الشمس، والظاهر أن هذا الجِعْران قد نُقش ليخلد ذكرى حملة في سوريا وفلسطين، ومن المحتمل أن تكون الحملة التي قام بها في حكمه أو زيارة قام بها أمراء آسيا يحملون إليه الجزية (راجع J. E. A., XXII, p. 23).
١٥  راجع: Weigall, “The Life and Times of Akhenaton”, p. 35ff; Porter and Moss., “Bibliography”, II, p. 89.
١٦  راجع: A. S., Vol; III, p. 263.
١٧  راجع: Weigall, Ibid. p. 56.
١٨  راجع: Gunn, “Notes on the Aton and His Names”, J. E. A, Vol. IX, p. 169.
١٩  راجع: Gauthier, “Dict. Geog”, Vol. II. p. 42.
٢٠  راجع: Hall, “The Ancient History of the Near East”, p. 300.
٢١  راجع: Peet and Woolly, “The City of Akhenaton, I, P. Iff.
٢٢  راجع ما قاله «ويجول» عن هذا التاريخ في كتاب Weigall, “Life and Times of Akhenaton”, p. 82; Schafer, “Die Anfange der Reformation Amenophis des IV”, in Sitzungsberichte der Preussischen Akademie der “Wissenschafien”, XXVI, (1919) p. 477Ff.
٢٣  خت = ١٠٠ ذراع (راجع Gardiner, “Egyptian Grammar”, p. 199).
٢٤  راجع: Sandman. Text From the Time of Akhenaton p. 106, and Davies, Ibid, p. 29.
٢٥  راجع: Baikie, “The Amarna Age”, p. 277; Weigall, Ibid, p. 195، غير أن الخطاب المشار إليه (رقم ١٠) لا يذكر لنا شيئًا عن هذا الزواج.
٢٦  راجع عن هذا الفصل Peet and Woolley, “The City of Akhetaton”, p. 1ff.
٢٧  راجع: J. E. A. Vol. XXI, p. 136، حيث نجد بحثًا عن أسماء مباني «إخناتون» في وسط المدينة، وكاتبه يعتقد أن الجزيرة تحتوي على كل مباني القصر والمعبد، أو بعبارة أخرى تُعَدُّ مرادفًا لوسط المدينة.
٢٨  راجع: Pendlebury, J. E. A., Vol. XVI, p. 87 & note 15.
٢٩  راجع: Sethe, “Die Altagyptischen Pyramidentexte”, lines. 1587–1595c; Breasted, “The Development of Religion and Thought”, PP. 13-14.
٣٠  راجع: Budge, “Guide to Sculpture”, p. 134. No. 475. P. XX.
٣١  راجع: A. S. Vol. III, p. 262.
٣٢  راجع: J. E. A., Vol. IX, p. 168ff.
٣٣  راجع: Selim Hassan, “Hymnes Religeux du Moyen Empire”, p. 192-193، حيث تجد بعض أفكار «إخناتون» كانت قد دُونت قبل عهده وأنه ليس أوَّل مبتدع لهذه الأفكار الدالة على التوحيد.
٣٤  سنورد هنا موازنة بين هذه الأنشودة والمزامير من الكتاب المقدس (التوراة).
٣٥  وفي القرآن الكريم: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ سورة ق٥٠، آية ٣٨.
٣٦  راجع: Davies, “El Amarna”, Vol. IV, Pl. XLIII, Tomb of Apy;
Ibid, Vol. I, Pl. XXXVII, Tomb of Meryra,
Ibid, Vol. IV, Pls. XVI, XXIII, XXIX, XL,
Ibid, Vol. VI, Pl. XV, Tutw,
Ibid, Vol. IV, Pls. XXXII, XXXIII, Ani. And, Sandman. Hid, PP. 10ff.
٣٧  كان اﻟ «بنبن» حجرًا هرمي الشكل مثل الهرم الصغير الذي يُتَوِّج المسلة. وقد كان هذا الحجر يُعتبر غاية في القداسة، وكان في الأصل يحتل مكانة ممتازة في المعبد أو في بيت معبد الشمس الذي في «هليوبوليس»، وهذه الفقرة تدل على أن «إخناتون» قد أدخل في معبد «تل العمارنة» «بنبن» مماثلًا للذي كان في «هليوبوليس».
٣٨  وفي رواية أخرى «أن النفس يدخل في المعاطس عندما تظهر نفسك لهم.»
٣٩  بقية هذا السطر قد فُقدت. ولم يستمر من خمسة المتون لهذه الأنشودة إلا متن واحد، وتجده كذلك قد قُطع عند هذه النقطة (راجع Sandman Ibid. p. 15).
٤٠  هذه العبارة قد وُجدت في الأناشيد الدينية منذ الأسرة السابعة عشرة (راجع Selim Hassan “Hymmes Religieux du Moyen Empire”, p. 192).
٤١  «ورد زورت» شاعر إنجليزي (١٧٧٠–١٨٥٠ ميلادية)، وهو مشهور بأشعاره في وصف الطبيعة.
٤٢  هو «جون رسكن» الكاتب الإنجليزي الشهير (١٨١٩–١٩٠٠)، ويمتاز بنقده وطول باعه في الكتابة عن الفن.
٤٣  هذه الصورة قد تُرجمت بمعنى آخر؛ إذ يرى البعض أنها تمثل إخناتون يقبل أخاه «سمنخكارع». (راجع شكل رقم ٢ وما كُتب عنها، وهو رأي الأستاذ «نيوبري» عن سمنخكارع).
٤٤  راجع إنجيل لوقة الإصحاح ١٥: ٣٢.
٤٥  راجع إنجيل لوقة (إصحاح ١٠: ٣٠–٣٥).
٤٦  راجع إنجيل لوقة (١٥: ٨-٩).
٤٧  «الونرادوز» ممثلة ذائعة الصيت في الروايات المحزنة، وهي فرنسية الأصل عاشت في أواخر القرن التاسع عشر. وقد كانت مشهورة بعمق عاطفتها، والإبداع الذي كانت تمثل به أدوارها العاطفية، أما «أرمندو» فهو بطل في إحدى الروايات التي جعلت «الونرادوز» ذات شهرة عالمية.
٤٨  فصل ١٢٥ من كتاب الموتى.
٤٩  راجع: Davies, “The Tomb of Nakht at Thebes”.
٥٠  راجع: Colin Campbell, “Two Theban Princes”.
٥١  راجع: Budge, “Wall Decorations of Egyptian Tombs, Illustrated from Examples in the British Museum”, p. 15. Fig. 9, p. 14, fig. 7.
٥٢  راجع: Budge, Ibid, Pl. IV.
٥٣  راجع: De Morgan, “Cat. Mon.”, I, p. 40, No. 174.
٥٤  راجع: Davies, “El Amarna”, Vol. III, Pl. XVIII.
٥٥  راجع: Davies, Ibid. Vol. III, Pl. IV.
٥٦  راجع: Davies, Ibid. Vol. VI, p. 22, Pl. XXIX.
٥٧  راجع: Schafer, “Von Aegyptischer Kunst besonders der Zeichenkunst. Ein Einfuhrung in die Betrachtung Agyptischer Kunstwerke”, p. 23.
٥٨  راجع: “Chronique d’Egypte”, No. 31 (Jan. 1941), p. 46; Davies, Ibid, Vol. VI, Pl. XXXVIII.
٥٩  راجع: Fechheimer, “Die Plastik der Agypter”, p. 88, 89.
٦٠  راجع: Fechheimer, “Die Plastik der Agypter”, p. 94. & Ghalioungui, “A Medical Study of Akhenton”, A. S., Vol. XLVII, PP. 29ff.
٦١  راجع: Steindorff, “Die Kunst der Agypter”, p. 276.
٦٢  راجع: Davies, “El Amarna”, Vol. VI, Pls. XXXIX, XL. Etc.
٦٣  راجع: Carter, “The Tomb of Tutankhamon”, Vol. II, Pl. XLVIII.
٦٤  راجع: Frankfort and Pendelbury, “The City of Akhenaton”, II, p. 110.
٦٥  راجع المقال الممتع الذي كتبه الأثري «بندلبري» عن علاقة مصر مع «كريت» وجزر بحر «إيجة» في عهد الأسرة الثامنة عشرة (J. E. A. Vol. XVI, p. 75ff).
٦٦  هذا المكان كان يُسمَّى في الأصل «التل»، وهو قرية صغيرة، غير أن علماء الآثار أطلقوا عليه «تل العمارنة» نسبة للقبيلة التي تسكن في هذه القرية بني عمران.
٦٧  ونجد الآن أن لوحات تل العمارنة موزعة على متاحف العالم كالآتي:
١٩٤ لوحة في متحف «برلين».
٨٢ لوحة في المتحف «البريطاني».
٥٠ لوحة في متحف «القاهرة».
٢٣ لوحة في متحف «إشموليان». اثنتان منها صحيحة فقط.
٧ لوحات في متحف «اللوفر».
لوحة واحدة في متحف «القسطنطينية» من «تل الحسي» في فلسطين.
٤ لوحات في حيازة «روستوفيتز».
… لوحة في متحف «ليننجراد».
لوحة واحدة عند «أوبرت».
لوحتان في متحف «متروبوليتان».
لوحة واحدة في متحف «بركسل».
٨ لوحات قطع ملك جمعية الحفر الإنجليزية.
وأوثق المصادر التي يُعتمد عليها الآن لدرس هذه اللوحات اثنان وهما:
(1) Knudtzon, “Die el Amarna Tafeln” (1907–1715).
(2) Mercer, “The Tell el Amarna Tablets”, (1939).
ويُلاحظ أن كتاب الأستاذ «مرسر» قد أُلف على ضوء كل التراجم الحديثة والإضافات التي عُملت بعد سنة ١٩١٥، وسنعتمد عليه في دراستنا هذه عند الإشارة إلى الخطابات.
٦٨  كتب الأستاذ «ألبريت» مقالًا عن الخطاب رقم ١٥٥ في هذه الرسائل، وهو الخطاب الذي أرسله «أبمييلكي» أمير «صيدا» إلى ملك مصر، وقد ظن الكاتب أن الملك المقصود هنا هو «سمنخكارع» وأن اسم «مايا-أتى» هو «مريت آتون» زوجه؛ غير أن هذا الرأي لا يزال يحتاج إلى إثبات وتمحيص (J. E. A., XXIII, p. 190; Mercer, “The Tell El Amarna Tablets”, No. 155).
٦٩  كان أوَّل من عثر على سجلات «بوغاز كوي» في بلدة «بوغاز كوي» ونشرها في عام ١٩٠٧ هو «هوجو فنكلر» Hugo Winckler، وهذه السجلات تبحث في تاريخ «خيتا» في ألف السنة الثانية قبل الميلاد. وبعد الحرب العالمية الأولى مباشرة أخذ العلماء في الاهتمام بهذه السجلات والبحث في محتوياتها، ونخص بالذكر منهم «هرزني» Hrozny، و«فيدنر» Wiedner، و«سومر» Sommer، وفي ١٩١١ جمع «مسرشمت» سجلًّا شاملًا لكل متون «خيتا»، ولكن منذ ذلك الوقت نُشرت وثائق كثيرة، وبخاصة «فيدنر» فإنه قام بعمل طبعة شاملة في عام ١٩٢٣ (راجع Mercer, “The Tell el Amarna Tablets”, II, p. 829; Meyer, “Gesch”, II, 1, P. 336. note 2.).
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن الكثير من متون سجلات «بوغازي كوي»، وكذلك من خطابات «تل العمارنة» لا يزال غامضًا، غير أن ما حُلَّ منها تمامًا قد كشف النقاب عن علاقة مصر ببلاد «خيتا» وغيرها من البلدان المتاخمة التي كانت لها صلة بالدولة الأخيرة أو بمصر في تلك الفترة.
٧٠  راجع: Meyer, “Gesch” II, 1. p. 337, note 2.
٧١  راجع: Forrer, “Forschung” II, 10.
٧٢  راجع: Gauthier, “L. R” II, p. 343.
٧٣  راجع: Davies, “El Amarna” II, p. 40ff, Pls. XXXVII–XL, Meryra II; Vol. III, p. 6ff. Pls. XIII–XV.
٧٤  وفيه يقول: «إلى الملك سيدي وشمسي. هكذا يقول «لابايا» خادمك، والتراب الذي تدوس عليه، وإني أركع عند قدمَي الملك سيدي وشمسي سبع مرات، ولقد سمعت الكلمات التي كتب بها إليَّ الملك. ومن أنا الذي ينبغي للملك أن يفقد أرضه من أجلي؟! تأمل! إني خادمك الملك الأمين، ولم أرتكب جريمة ولم أقترف ذنبًا، ولم أرفض دفع جزيتي، ولم أعصِ طلب نائبي، تأمل! لقد هُجيت وأُسيئت معاملتي، غير أن الملك سيدي لم يُعلنِّي بجريمتي، يُضاف إلى ذلك أن جريمتي هو أني دخلت «جازري» وقلت: لقد استولى الفرعون على كل متاعي جميعًا، ولكن أين كل ما يملكه «ميلكيلو»؟ إني أعرف عمل ميلكيلو ضدي. يضاف إلى ذلك: أن الفرعون قد كتب عن أمر «دوميا» (يجوز أنه ابن «لابايا» نفسه)، وإني لا أعلم إذا كان «دوميا» قد ذهب مع أهل «ساجاز» (العبرانيون)، غير أني قد وضعته أمانة في يد «أدايا»، يُضاف إلى ذلك أنه في حالة ما إذا كتب إليَّ الفرعون أن أرسل إليه زوجي فهل أرفض ذلك؟ وإذا كتب إليَّ الفرعون أن أطعن صدري بخنجر من البرنز وأموت فهل لا أنفذ أمر الملك؟» (راجع Mercer, “The Tell el Amarna Tablets”, II, No. 254).
٧٥  راجع: Forrer, Ibid. p. 2ff.
٧٦  جاء اسم هؤلاء القوم بلفظة «عبرو» في اللوحة التي كشف عنها الدكتور «أحمد بدوي» في «منف»، وهم «خبيرو» الذين ذُكروا في خطابات تل العمارنة (راجع الجزء الرابع، Meyer, “Gesch. Albright, “From the Stone Age to Christianity”, p. 182) إن البراهين تتراكم تباعًا؛ بما يشعر أن العبرانيين القدامى كان لهم صلة بالعبرو (خبيرو) الذين قاموا بدور هام في الوثائق المسمارية التي يرجع عهدها إلى القرنين التاسع عشر والثامن عشر، وكذلك في الوثائق النوزية، والخيتية، وخطابات تل العمارنة في القرنين الخامس عشر والرابع عشر. ففي «مسوبوتاميا» وسوريا ظهروا بأنهم جنود لا وطن لهم؛ إذ كانوا ناهبين وأسرى وعبيدًا من أجناس مختلفة، وقد ذُكروا كثيرًا في فلسطين في الرسائل الكنعانية من القرن الرابع عشر بوصفهم مغيرين وعصاة على السلطة المصرية، وقد كان ينضم إليهم أحيانًا الكنعانيون.
أما لفظة «خبيرو» فقد جاءت في الخطابات التي كان يرسلها «عبدي خيبا» للفرعون (راجع الخطاب ٢٨٦ سطر ١٩، ٥٦). أما عن توحيد لفظة خبيري بلفظة «ساجاز» فقد فحصه الأستاذ «بول» Bôhl (راجع “Kanaanâer und Hebraier”, p. 87)، وأثبت في النهاية أنهما كلمتان مترادفتان وحسب، وإن كانت كلمة «ساجاز» تدل على معنى أوسع (راجع Mercer, “The Tell el Amarna Tablets”, II, p. 844).
٧٧  راجع: Keilschrifttexte aus Boghaz Koi. I, 10. ZI. 37, Winckler, “Mitteilungen der Deutschen Orient gesellschaft”, 35, 22.
٧٨  وتدل البحوث على أنه من الجائز جدًّا أنه كانت تُوجد روابط بين العبرانيين و«خبيري»، وهذه الروابط لغوية وتاريخية. غير أننا مع ما لدينا من معلومات في هذا الصدد لا يمكننا أن نجزم في هذه الصلة بصفة قاطعة، ومن المحتمل أن أحسن مخرج من هذا المأزق أن نؤكد بوجود علاقة بين العبرانيين (خبيرو) والإسرائيليين، وفي الوقت نفسه نميز بينهما بأن كل الإسرائيليين كانوا من العبرانيين (خبيري) ولكن ليس كل العبرانيين إسرائيليين (راجع Selin, “Gesch. Des Israelitisch-Judischen Volkers”, I, p. 16–23.).
٧٩  راجع ما كُتب عن «خبيري» و«ساجاز» في خطابات تل العمارنة في كتاب: Mercer, “The Tell el Amarna Tablets”, II, p. 838ff.
٨٠  راجع خطاب ٦٨.
٨١  راجع كذلك الخطاب رقم ١٣١ سطر ٣٢ … إلخ؛ حيث نجد «ريبادي» يقص علينا أن أمنحتب الثالث أرسل «باخامناتا» بجيش صغير.
٨٢  وهذه الحقائق نستخلصها من الخطابات ٧١–٩٣.
٨٣  راجع الخطاب ٨٥، سطر ١٩ … إلخ؛ حيث يطلب «ريبادي» ٤٠٠ رجلًا و٣٠ زوجًا من الخيل كما كان قد أعطى «سوارتا» صاحب «عكه» لمساعدته. (اقرن الخطابات ٨٨، ٤٦؛ ٨، ٢٩؛ ٢٣٢).
٨٤  راجع الخطابات ٨٥، ٨ … إلخ، و٨٦، ٣٨.
٨٥  راجع الخطاب رقم ١٣٨ سطر ٢٨ … إلخ.
٨٦  الخطاب رقم ١٧ سطر ٣٨ … إلخ، وفي هذا الخطاب نقرأ أنه قد أرسل هدايا لأخته «جيلوخبيا» تشمل عقودًا وأقراطًا وآنية مملوءة بالزيت الطيب، وقد أرسل رسوله «جليا» وآخر معه، ورجا ملك مصر أن يسرع في عودتهما حتى يسمع بتهانيه له بهذا النصر، وأن أواصر المصادقة قائمة بينهما.
٨٧  ولذلك نجد ملك الآشيا (قبرص) في خطاب أرسله إليه (٣٥، ٤٩) بألا يعقد معاهدة مع ملك «خيتا» ولا ملك «سنجار»: أما من جهتي فإن أية هدايا قد أرسلها لي أخي فقد أرسلت لك ضعفها، وقد أتى إليَّ رسولك في ميعاده، ورسولي سيأتي إليك في ميعاده.
٨٨  راجع الخطاب ١٠١.
٨٩  راجع الخطابات ١٢٥، ٣٥؛ ١٣٠، ٣٢.
٩٠  ولذلك نجد أن «ريبادي» يمطر الفرعون وابلًا من الرسائل (راجع ١٠٤، ١٠٥، ١٠٧، ١٠٦، ١٠٣. وكذلك راجع الخطابات التي تُبودلت بين «يباخ أدي» أو «ينخام» ٩٨، ١٠٢).
٩١  ولا نزاع في أن خطابات أبيميلكي صاحب «صيدا» (١٤٦، ١٤٧، ١٥١) قد كُتبت في هذا العهد، ولا أدل على ذلك من أنه يقص هنا في الخطاب ١٥١ سطر ٥٩ … إلخ أن «أيتاكاما» صاحب «قادش» وأزيرو قد هاجما «تامياوزا».
٩٢  «قطنا» كانت مكان بلدة «مشرفة» الحالية غربي حمص.
٩٣  ومعلوماتنا عن هذه الحوادث مستقاة من خطابات «أكيزي» للفرعون أمنحتب الثالث (٥٢–٥٧) وخطاب أمير «تونب» رقم ٥٩، وخطاب «هداد نيراري» أمير نوخشي رقم ٥١، هذا فضلًا عن الخطابات الخاصة بمدن عمق (١٧٤–١٧٦).
٩٤  راجع الخطابات التي تُبودلت بين «دوشرتا» و«أمنحتب الثالث»، وبخاصة من ١٧–٢٤؛ حيث تجد تفصيلًا شاملًا عن العلاقات بين البلدين في هذه الفترة والهدايا التي تُبودلت بين ملكيهما، وكذلك نجد في الخطاب رقم ٢٥٥ شيئًا خاصًّا بالمبادلات التجارية.
٩٥  وهاك نص الخطاب (رقم ٢٣):

إلى نوموريا ملك مصر، أخي وصهري الذي أحبه والذي يحبني، هكذا يتحدث «دوشرتا» ملك «متني» الذي يحبك وصهرك: إن حالتي حسنة، وأرجو أن تكون حالتك حسنة! وكذلك حالة بيتك و«تدوخيبا» ابنتي وزوجك التي تحبها أرجو أن تكون ناعمة البال! وكذلك أرجو أن تكون حالة أزواجك وأبنائك وعظماء رجالك وعرباتك وخيلك وجنودك وبلادك، وكل ممتلكاتك؛ حسنة جدًّا، وإن عشتارت ربة «نينوة» وسيدة الأراضي تقول: إني سأذهب إلى مصر الأرض التي أحبها وسأعود منها. وفي الحق لقد أرسلتها الآن وقد سارت في طريقها، والواقع أنه في عهد والدي … ذهبت السيدة إلى تلك الأرض، وقد كانت مبجلة طول مكثها هناك؛ ولذلك أرجو يا أخي أن تبجلها عشر مرات أكثر من قبل، وأرجو أخي أن يبجلها ويعيدها في فرح، وإني أرجو أن تعود، وليت «عشتار» إلهة السماء تحمي أخي وتحميني، وليت سيدتنا تمنح كل منا مائة ألف سنة سرورًا عظيمًا، وبذلك سنفعل الخير. إن «عشتار» هي إلهتي. أليست إلهة أخي — السنة الخامسة والثلاثون، الشهر الرابع من الشتاء، كانوا في الجبال الجنوبية …

ومن هذا الخطاب نعلم كيف كان الملوك يتراسلون فيما بينهم، كما نعلم أن هذه الإلهة كانت تحمل نفس اللقب الذي كانت تحمله إلهة مصرية، وإن لم يكن هناك فارق حقيقي بين أولئك الآلهة القدامى إلا في الاسم والصورة، أما الألقاب فكانت واحدة، على أن من أهم ما يسترعي النظر في هذا الخطاب وغيره الخضوع الذي كان يظهره الملوك الآخرون عند مخاطبة فرعون مصر.
٩٦  راجع: J. E. A., Vol. IX, p. 134, Pl. XXII.
٩٧  راجع خطاب رقم ٢٧، وكذلك راجع الخطاب رقم ٤١، ١٤ … إلخ؛ حيث نقرأ أن رسول ملك متني قد عِيق في البلاط الفرعوني.
٩٨  راجع الخطابات: ١٠٦، ١٣ … إلخ، ١١٧، ٧ … إلخ، ١٢٤، ٣٥ … إلخ.
٩٩  «نامياوزا» أحد الأمراء، ويحتمل أنه يُنسب إلى أسرة ملوك «متني» (Mercer, “The Tell el Amarna Tablets”, II, p. 577).
١٠٠  راجع خطاب «أيتاكاما» رقم ١٨٩ وخطاب «نامياوزا» (رقم ١٩٧)، وهو الذي أرسله للفرعون يعرب فيه عن ولائه وإخلاصه؛ إذ يقول: «تأمل! إني أخرج بجندي وعرباتي وإخوتي وقوم «ساجاز» (العبرانيون) التابعين لي، وكذلك قوم «سوتي» (البدو) أمام الرماة إلى أي مكان يأمر سيدي (بالذهاب إليه).»
١٠١  راجع الخطاب رقم ١٤٤ … إلخ.
١٠٢  راجع الخطاب ١٥٧ سطر ١١.
١٠٣  وقد كتب للفرعون الخطابات ١٦٥، ١٦٦؛ ١٦١ من مقره في «تونب» دون أي مبرر، يُضاف إلى ذلك أن الفرعون لم يوجه له أي لوم في الخطاب الذي أرسله إليه (رقم ١٦٢).
١٠٤  راجع الخطاب ١١٧ سطر ٢٢، عن تاريخ هذا الحادث.
١٠٥  راجع الخطابين ١٩٣، ١٩٥، الأول من أمير يُدعى «دياتي» والثاني من «ناميوزا».
١٠٦  إذ يقول «أيتاكاما» في الخطاب رقم ١٨٩ للملك: أخدمك بهذه الحالة ومعي كل إخوتي، وعندما تكون حرب معلنة على الملك سيدي فإني أذهب إليها بعرباتي وكل إخوتي … إلخ. وفي الخطاب رقم ١٩١ يتحدث إلينا «أرزاويا» ملك «روخيزي» بنفس النغمة أيضًا.
١٠٧  وقد كتب «أبيميلكي» للفرعون خطابًا شرح له فيه هذا الموقف وطلب إليه المدد (راجع الخطاب رقم ١٤٩).
١٠٨  يصف لنا «ريبأدي» في عدة رسائل بعث بها إلى الفرعون (١٣٤–١٣٨) موقفه من عدوه «أزيرو» والحالة اليائسة التي وصل إليها بعد طرده من «جبيل».
١٠٩  الخطابات من ١٤١–١٣٤ التي تُبودلت بين «أمونير» أمير «بيروت» وبين الفرعون، وكذلك الخطابان ١٥٣ و١٥٤ وقد تُبودلا بين «أبيميلكي» أمير «صور» والفرعون في هذا الصدد.
١١٠  والخطاب الذي أرسله الفرعون إلى «أزيرو» (رقم ١٦٢) أظهر فيه تألمه وعدم رضاه عن خيانته وأثرته، ثم يعده فيه بالمساعدة إذا هو أصبح مواليًا مخلصًا للفرعون، أما إذا جنح إلى الخيانة والتمرد واستمر على ما هو عليه من التقلب والنفاق فإن الموت يكون مآله.
١١١  راجع: Meyer, “Gesch”. II, 1. p. 362, note 1.
١١٢  فمثلًا نجد أن «أزيرو» قد كتب إلى الفرعون خطابًا (رقم ١٦٠) يعد فيه بأنه سيقوم بتحقيق كل رغبات الفرعون، وأنه قد عِيق في بناء «سمييرا»، وسيقوم ببنائها في سنة واحدة، وقد رجا الفرعون ألا يصغي إلى ذم أعدائه فيه. راجع كذلك في هذا الموضوع الخطابين ١٦١ سطر ٣٦؛ ١٦٩.
١١٣  راجع الخطاب رقم ٧ سطر ٧٣ … إلخ؛ إذ يقول: «أما من جهة «سالمو» رسولي الذي أرسلته إليك فإن قافلته قد نُهبت مرتين، فنُهب قافلة «برياماز»، والقافلة الأخرى (نهبها) «باماخو» حاكم بلادك التابعة، فالمرجو من أخي أن يفصل في هذا الشجار أو عندما يأتي رسولي إلى حضرة أخي فليأمر بإحضار «سالمو» أمام أخي، واجعلهم يردُّون إليه فديته ويعملون على ردِّ ما خسره.»
١١٤  ففي الخطاب رقم ١٢٩ سطر ٨٢ والخطاب ٢٥٠ سطر ٢٤ … إلخ، نجد أن الأوَّل من «ريبأدي» للملك والثاني من «أدر أورساج» للملك أيضًا. ومما جاء في الخطابين نفهم أنه هو الذي كان يقوم على مصالح الفرعون في هذه الأصقاع.
١١٥  إذ في الخطاب رقم ١٤٨ سطر ٤١ … إلخ، نقرأ أن ملك «خازورا» قد ترك بلده واتحد مع قوم «ساجاز»، وليعرف الملك أنهم معادون للمشاة، وأن بلاد الفرعون قد أصبحت في قبضة قوم «ساجاز» (العبرانيون) … إلخ.
١١٦  ففي الخطاب رقم ٢٣٧ نجد أن كتابه للفرعون «بيادي» Bajadi يشكو أن مدن الفرعون قد اغتُصبت ومغتصبها هو «لابايا»، وفي الخطاب رقم ٢٤٤ يكتب «بيريديا» أمير «مجدو» إلى الفرعون طالبًا النجدة ليخلص «مجدو» من عدوان «لابايا». وفي الخطاب ٢٤٩ نشاهد أن «أدو-أورساج» يكتب للفرعون يشكو من «ميلكيل» «وتاجي» وتحريضهما السكان على العصيان، أما الخطاب ٢٥٠ فقد كتبه كذلك «أدو-أورساج» للفرعون، وفيه يقول: «إن ابني «لابايا» قد عزما على تخريب أرض الفرعون، وأن «ميلكيل» مشترك معهما ويطلب المعونة من الفرعون ويظهر ولاءه له.» (راجع كذلك ٢٨٩، سطر ٢٢ و٢٥٣، ٢٥٤).
١١٧  راجع الخطاب رقم ٣٠١؛ حيث يقول «شوباندو» في خطابه للفرعون: «إن الملك سيدي الشمس في السماء قد أرسل «خاني» إليَّ، وتأمل! لقد أصغيت إلى كلمة الملك سيدي بانتباه، وتأمل! لقد قدمت ٥٠٠ ثور و٢٠ جارية.» … إلخ.
١١٨  وقد ظهر من بين أسماء القُوَّاد الذين أُرسلوا في هذه الفترة «مايا» (راجع الخطابات ٢١٦–٢١٨؛ ٢٩٢، سطر ٣٣؛ ٣٠٠ سطر ٢٦).
١١٩  راجع الخطابات رقم ٢٤٥، ٢٥٠، سطر ٢٧؛ ٢٨٠ سطر ٣٠، وكذلك ٢٥٢–٢٥٤.
١٢٠  راجع الخطاب رقم ٢٥٦.
١٢١  راجع: “Revue d’Assyriologie”, XIX, p. 97.
١٢٢  راجع: Meyer, “Gesch” II, 1. p. 339.
١٢٣  راجع الخطابات ٢٥٥ … إلخ؛ ٢٥٠ سطر ٣٢؛ ٢٨٧ سطر ٢٩؛ ٢٨٩ سطر ٥ … إلخ و٢٥.
١٢٤  راجع الخطابات ٢٨٧ سطر ١٤ … إلخ؛ ٢٧٣، سطر ٢٠، (أما عن حالة «غزة» المحزنة) راجع كذلك ٢٩٢ سطر ٤٢ … إلخ. (أقرن كذلك ٢٩٤، سطر ١٦ … إلخ)؛ ٢٩٧، سطر ١٦؛ ٢٩٨ سطر ٢٠ … إلخ، ٢٩٩ سطر ١٤.
١٢٥  راجع الخطابات رقم ٢٨٧ سطر٤٥ … إلخ، ٢٨٩ سطر ٣٠ … إلخ. اقرن كذلك ٢٨٦ سطر ٢٥.
١٢٦  راجع: “Revue d’Assyriologie”, XIX, p. 98.
١٢٧  راجع ٢٨٠، ٢٨٩ سطر ٢٥ … إلخ؛ ٢٩٩ سطر ١٠.
١٢٨  راجع الخطابات ٢٧١ سطر ٩، و٢٨١–٢٨٣.
١٢٩  راجع الخطاب ٢٨٨ سطر ٥٧ … إلخ.
١٣٠  راجع الخطابات ٢٨٨ سطر ٤٠ … إلخ (= ٣٣٥).
١٣١  راجع الخطابات: ٣٠٥ سطر ٢٠، ٣٠٧، ٣١٣، ٣١٨. وقد ذكر مع الخبيري كذلك قبايل البدو (سوتي) (٢٩٧ سطر ١٦ و٣١٨ سطر ١٣).
١٣٢  راجع ٢٥٦ سطر ٢٢ … إلخ، ولم يكن محميًّا إلا قلعتي «غزة» و«يافا» (راجع ٢٩٦ سطر ٣٢، اقرن كذلك ٢٩٤ سطر ٢٠).
١٣٣  راجع ٢٧٢، ٢٧٣، ٢٧٤، ٢٨٦، سطر ٤٩ … إلخ، ٢٨٧ سطر ٢٠ … إلخ.
١٣٤  راجع الخطاب ٢٧٠، سطر ١١؛ حيث نجد «ينخام» يطلب من «ميلكيلي» ٢٠٠٠ شكلًا من الفضة، وكذلك طلب إليه أن يعطيه زوجه وأولاده أو يقتله.
١٣٥  كان القائد هناك يُدعى «خاي» وكان «أوزيرو» يخاطبه بلفظة أخي (راجع ١٦٦، ١٦٧).
١٣٦  راجع الخطابات ١٥٧، ١٦٠، ١٦١، ١٦٢ سطر ٧ … إلخ.
١٣٧  راجع الخطابات التي أرسلها «أزيرو» إلى «دودو» (١٦٤، ١٦٥) وكذلك التي أرسلها «أزيرو» إلى «خاي» (١٦٦، ١٦٧)، وإلى الملك (١٦٨).
١٣٨  راجع الخطاب ١٦٩.
١٣٩  راجع الخطابين ١٥ و١٦.
١٤٠  راجع الخطاب رقم ٩.
١٤١  راجع: Meyer, “Gesch”. II, 1, p. 154, note 3.
١٤٢  راجع: Ibid, p. 370. Note 4.
١٤٣  راجع: Meyer, “Gesch”, II, 1, p. 375. Note 1.
١٤٤  وقد جاء ذكر ذلك في المعاهدة التي عُقدت بين «خاتوسول» الثالث وبين «بسينا» Bentesina أمير الأموريين. أما المعاهدة التي عُقدت بين «شوبيليوليوما» و«أزيرو» فقد ضاعت بدايتها (راجع Meyer, Ibid. p. 375, note 2).
١٤٥  راجع: Forrer, “Boghaz Koi-Texte in Umschrift”, p. 43.
١٤٦  راجع: Forrer, “Forechung”, II, p. 41ff.
١٤٧  راجع: Forrer, “Boghaz Koi-Texte in Umschrift”, No. 41, col. 2, § 10.
١٤٨  راجع: Davies, “The Rock Tombs of El Amarna”, Vol. V. PP. 12, 13.
١٤٩  راجع: Peet and Woolley. “The City of Akhetaton”. p. 41. Pl. VII, 4, 6.
١٥٠  راجع: Ibid Pls. VIII–XIII.
١٥١  راجع: Ibid. p. 33.
١٥٢  راجع: Davies, “El Amarna”, Vol. V. p. 7.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤