الفصل الرابع

دليل إرشادي بين أيدينا

السفر إلى الماضي

تقع السياحة في قلب دراسة التراث الكلاسيكي. وليس هذا مقصورًا وحسب على السياحة التي نقوم نحن بها في عصرنا الحديث إلى اليونان، سواء أكانت في العالم الخيالي لكُتيبات وملصقات السفر أم في العالم الواقعي لعطلات منطقة البحر المتوسط. بل إن الأمر يتجاوز كونَه عملية إعادة اكتشاف لليونان الكلاسيكية قام بها كوكريل ورفاقه من الرُّحَّال العظام؛ فقد كان الإغريق والرومان سُيَّاحًا هم أيضًا، وجابوا هم أيضًا المواقع السياحية، حاملين أدلة إرشادية في أيديهم، محاربين قُطَّاع الطرق، ومُعرَّضين للسلب على أيدي السكان المحليين، وساعِين إلى اكتشاف ما قيل لهم إنه أمرٌ يستحق الرؤية، كانوا متشوِّقين إلى الدخول في «أجواء» ذلك التراث القديم.

لا يزال أحد الأدلة الإرشادية العتيقة باقيًا إلى اليوم؛ وهو بعنوان «الدليل الإرشادي إلى اليونان» كتبه باوسانياس في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي. وعلى امتداد عشرة مجلدات يُرشِد باوسانياس المسافرَ المثابرَ إلى ما رأى باوسانياس أنها أهمُّ مواقع اليونان، وذلك في رحلة تبدأ من أثينا في المجلد الأول، ثم تمتدُّ عبر جنوبي اليونان، ثم تعُود مجددًا إلى دلفي في الشمال، وذلك في المجلد العاشر. وفي المجلد الثامن يصف باوسانياس منطقة أركاديا في شبه جزيرة بيلوبونيز. وإحدى نقاط التوقف في أركاديا كانت معبد أبوللو في باساي.

وكما لك أن تتوقع من أي كتيب إرشادي معاصر، بدأ باوسانياس — متخذًا من بلدة فيجاليا القريبة نقطة بدء له — بتحديد المسافة إلى باساي، وبعد ذلك وصَف باختصارٍ المعبد وتاريخه:

عليه [جبل كوتيليوس] يوجد مكان يُسمَّى باساي، وفيه معبد أبوللو المُغيث، مبنِيٌّ من الحجر، حتى سقفُه وكل ما به. ومن بين كل المعابد الموجودة في شبه جزيرة بيلوبونيز، تاليًا على المعبد الموجود في تيجيا، ربما يُعَدُّ هذا المعبدُ الأولَ من حيث جمال أحجاره وتناسق أبعاده.

ثم يعمد باوسانياس إلى تفسير اللقب الخاص الذي يحمله الإله أبوللو في باساي: أبوللو إبيكوريوس؛ بمعنى أبوللو «المُغيث» أو «المُعين». يبدو أن هذا اللقب مُنح إقرارًا بمعاونة أبوللو لشعب فيجاليا «في وقت الطاعون، مثلما مُنح في أثينا لقب «الحامي من الشر» [«ألكسيكاكوس»]؛ وذلك لتخليصه أثينا من شرور الطاعون.»

الطاعون الذي يشير إليه باوسانياس هو ذلك الطاعون الشهير الذي ضرب الأثينيين في بداية حربهم المريرة ضد أسبرطة، تلك الحرب التي تُسمَّى «الحرب البيلوبونيزية»، في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد. وقد وُصفت أعراض ذلك الطاعون المريعة، من حُمَّى وقيء وتقرحات، تفصيلًا على لسان ثوسيديديس، الذي أُصيب هو نفسه بالمرض ثم بَرِئ منه. وقد قدَّم ثوسيديديس المرض بوصفه رمزًا سياسيًّا للكارثة التي حلَّتْ بأثينا الديمقراطية في مؤلَّفه الشامل «تاريخ الحرب البيلوبونيزية» إذ يقول: «المَلمح الأشد ترويعًا للمرض بأسره ليس فقط فقدان الهمة؛ ففي اللحظة التي يدرك فيها الشخص أنه أصيب به ترى عقله وقد تملَّكه القنوط على الفور، ويستسلم للموت دون مقاومة، ولكنْ أيضًا في الطريقة التي يلتقط بها المرء عدوى المرض من شخص كان يعتني به؛ ومِن ثَمَّ كان الناس يموتون كالأغنام.» وَصَف الشاعر والفيلسوف الروماني لوكريتيوس الطاعونَ نفسَه، ورأى فيه صورة قوية لكارثة كونية حلت بالمجتمع البشري.

يقودنا باوسانياس إلى الاعتقاد بأن هذا الوباء قد ضرب تلك المنطقة من جنوب اليونان أيضًا، وأن معابدنا شُيدت في ذلك الوقت فيما يبدو بوصفها سبيلًا للتعبير عن العرفان للإله الذي أزال المرض. ويقترح باوسانياس أن هوية المعماري تؤكد هذه الرابطة؛ إذ إن معبد باساي صمِّم بواسطة إكتينوس، وهو المعماري الذي صمم البارثينون في أثينا أيضًا، ذلك المعبد الذي اكتمل بناؤه قُبَيْل انتشار الطاعون مباشرة.

تُعدُّ الروايةُ الموجزة لباوسانياس أساسَ السواد الأعظم من التاريخ المقتضب الموجود في الكتب الإرشادية عن هذه الفترة. وحتى حينَ لا تَذكُر هذه الكتب باوسانياس بالاسم، فإنها تُقدم لقارئها المعاصر الكثيرَ من المعلومات التي نَقَلها هو إلينا؛ كالطاعون الذي يكمن خلف تأسيس المعبد، والرابطة مع الحرب البيلوبونيزية البشعة ومع معماري البارثينون. وكذلك بطبيعة الحال كانت رواية باوسانياس (وتحديدًا ذكره لإكتينوس) هي ما حَفز كوكريل وأصدقاءه على الذهاب في رحلةٍ بحثًا عن معبدٍ أمَّلوا أن يكون بارثينون آخر. وقد كتب كوكريل نفسُه يقول: «الحقائق المثيرة للاهتمام التي سجلها باوسانياس … كانت سببًا كافيًا يثبت [له وللمسافرين السابقين] أهمية هذا البحث.»

كان تبيُّن الأسباب التي دعتْ باوسانياس لزيارة باساي عمليةً أكثر صعوبة بكثير؛ فهو لا يقول صراحة ما الذي دفعه للسير في هذا الطريق الجبلي الطويل المسدود، فقط كي يرى هذا المكان المقدس، الذي كان يصعب الوصول إليه في القرن الثاني الميلادي مثلما كان يصعب الوصول إليه حين ذهب كوكريل إليه. فأثناء رحلته إلى المدينة الرئيسية، أركاديا (التي تعني حرفيًّا «المدينة الكبيرة»)، كان قد شاهد بالفعل تمثالًا من البرونز لأبوللو كان قد أُزيل في وقت سابق من المعبد الموجود في باساي، ووُضع في مكان مفتوح كي يراه العامة. ربما شجعتْه رؤية هذا التمثال على الذهاب وتقصِّي أمر المعبد الذي جاء التمثال منه أصلًا. أو ربما كان يتتبع المباني التي صممها معماري البارثينون العظيم.

لكنْ بصورة إجمالية توافقتْ زيارته إلى باساي وتوصيفاته للمعبد على نحو وثيق مع الأولويات والاهتمامات التي أبداها عبر دليله الإرشادي. كان باوسانياس ابنًا من أبناء مدينة يونانية توجد حاليًّا في تركيا (لا يخبرنا تحديدًا أي مدينة هي). وقد كان يكتب باليونانية، من أجل جمهور متحدث باليونانية، عن جغرافيا اليونان وتاريخها والمعالم الموجودة بها. لكنه كان أيضًا يكتب بعد انقضاء أكثر من مائتي عام على الغزو الروماني للعالم الإغريقي. ومن ثم، يكون من الصحيح على حدٍّ سواء أن نعتبره مواطنًا من مواطني الدولة الرومانية، يصف لنا جولة في أرجاء أحد الأقاليم المستقرة تحت حكم الدولة الرومانية منذ وقت طويل، وذلك لجمهور متحدث باليونانية يتكون من مواطنين أو رعايا للدولة الرومانية. لقد تَرتَّب على الغزو الروماني لليونان أمور كثيرة، لا تنحصر فقط في تبعية اليونان لروما. فبحلول وقت باوسانياس كانت أبرز المعالم الجديرة بالمشاهدة بالبلاد تتضمن مبانيَ تذكارية شيدتها السلطة الحاكمة ودفعت تكاليف إقامتها ورعتها: المعابد المبنية بالأموال الرومانية تكريمًا للأباطرة الرومانيين، والنافورات والتماثيل والأسواق والحمامات التي موَّلها فاعلو الخير الرومانيون. ذَكَرَ باوسانياس عددًا قليلًا من هذه المعالم ذكرًا عابرًا، وأغلبها كان إنجازات حديثة، لكن تركيزه، كما في باساي، كان في موضع مختلف تمامًا.

ركز باوسانياس على المعالم الأثرية الخاصة ﺑ «اليونان القديمة» وعلى تاريخها وعلى ثقافتها، تلك اليونان التي كانت موجودة قبل الغزو الروماني بوقت طويل. إن جولته السياحية هي في واقع الأمر جولة تاريخية تمرُّ بالمدن القديمة والأماكن المقدسة التي تعود لزمن يسبق الحكم الروماني بكثير. والقصص التي يرويها باوسانياس عن الآثار التي يزورها تعود كلها تقريبًا إلى تلك الحقبة المبكرة من تاريخ اليونان، بعاداتها وخرافاتها واحتفالاتها وطقوسها التقليدية. إن وصْفه لباساي وصف تقليدي، يعود بالقارئ إلى زمن الطاعون الشهير الذي وقع منذ أكثر من ٦٠٠ عام على وقته، وذلك من دون أي ذكر لأيٍّ من الأحداث القريبة في تاريخ المعبد. إن باوسانياس يجعل اليونان «الرومانية» المعاصرة له يستحيل التفرقة بينها وبين يونان القرن الخامس قبل الميلاد، وهو يفعل هذا عن عمد.

إن «الدليل الإرشادي إلى اليونان» إذن يتجاوز كونَه محض كتيب سياحي يحمله المسافر؛ أيْ محض تقرير محايد عن كل ما يمكن رؤيته وكيفية الوصول إليه. فباوسانياس، شأنه في ذلك شأن أيِّ مؤلف لدليل إرشادي، قديم أو معاصر، يتخذ اختيارات بشأن ما يمكن تضمينه وما يمكن حذفه، وبشأن «الكيفية» التي يصف بها الآثار التي يختار وصفها. وهذه الاختيارات تؤدي لا محالة إلى وجود ما هو أكثر (وأقل) من محض «توصيف» بسيط لليونان. يقدم باوسانياس للقارئ رؤية خاصة لليونان والهوية اليونانية، ويقدم له طريقة خاصة للإحساس باليونان تحت الحكم الروماني. هذه الهوية تضرب بجذورها في الماضي السابق على مَقْدم الرومانيين، والرؤية التي يقدمها باوسانياس تتضمن إنكارًا، أو على الأقل إخفاءً، للغزو الروماني. بعبارة أخرى، يمنح دليلُه الإرشادي درسًا في الكيفية التي يمكن بها فهم اليونان. وهذا الدرس لم يعتمد على التواجد حرفيًّا هناك، أو على اتباع باوسانياس في جولة في أرجاء المدن والمقدسات اليونانية. إن قراءة ما كتبه باوسانياس يمكن أن تعلمنا الكثير عن اليونان، حتى لو لم يسبق لنا أن وطِئتْ أقدامنا تلك البلاد. وإلى اليوم تستطيع كتاباته أن تعلمنا الكثير.

أيضًا تمنحنا رواية باوسانياس عن معبد باساي درسًا مهمًّا بشأن مدى الزعزعة التي تتسم بها معرفتنا بالعالم القديم. إن باساي اليوم أحد أشهر المواقع الأثرية الكلاسيكية وأكثرها رسوخًا في الأذهان، ومعبد أبوللو الموجود فيها أحد أكثر المباني رسمًا وتصويرًا ودراسة في اليونان. لكن عبارات باوسانياس المقتضبة القليلة تُعَدُّ بمنزلة الإشارة الوحيدة للمعبد في كل الأدب الذي ظل باقيًا من العالم القديم. ولو كان دليل باوسانياس قد فُقد، لو لم يَخْتَرْ ناسخو القرون الوسطى (لسبب أو لآخر) أن ينسخوا هذا العمل تحديدًا ويحفظوه لنا، لما كنا لِنعلمَ شيئًا عن المعبد باستثناء ما قد تُوحي به الأحجار والمنحوتات نفسُها، ما إنْ يعثر عليها أحدهم مصادفة. بعبارة أخرى، لم نكن لنملك أي فكرة واضحة عن أن هذا المعبد بُني من أجل أبوللو (رغم أن وجود أبوللو وشقيقته الإلهة أرتميس بين الشخصيات المجسدة على الإفريز، كما سنناقش في الفصل السابع، قد يكون دليلًا). وبالتأكيد ما كنا لنعرف أي شيء عن اللقب «المُغيث»، أو علاقة المعبد بالطاعون، أو مشاركة المعماري الشهير إكتينوس في الأمر.

كيف وصلَتِ الأعمال إلينا؟

تحفل دراسة التراث الكلاسيكي بمثل هذه المواقف السعيدة التي كدنا فيها نفقد أحد الأعمال المهمة. وفي الواقع، بعضٌ مِن الكتب التي تحظى اليوم بانتشار واسع من بين صنوف الأدب القديم أفلتتْ بالكاد من أن يطويها النسيان. فشِعر كاتولوس على سبيل المثال، بما في ذلك سلسلة قصائد الحب الشهيرة الموجَّهة إلى امرأة يسميها «ليزبيا»، تَدين ببقائها إلى نسخة واحدة خُطَّت باليد في العصور الوسطى. وبالمثل، نجد أن قصيدة لوكريتيوس بعنوان «عن طبيعة الأشياء»، والتي تَسرد بالشعر اللاتيني نظرياتِ الفيلسوف الإغريقي إبيقور (بما في ذلك نسخة مبكرة من النظرية الذرية للمادة)، حُفظت هي الأخرى عن طريق نسخة وحيدة. وبطبيعة الحال هناك كُتُب أخرى لم تُكتَب لها النجاة على الإطلاق؛ فأغلب ما كتبه المؤرخ ليفيوس عن روما، مثلًا، ضاع تمامًا، وكذلك معظم المسرحيات التراجيدية لكُتَّاب أثينا العظام: إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس.

لكن هذه الصورة آخذة في التغير طوال الوقت. فمنذ عشرين عامًا خَلَتْ لم نكن نملك سوى سطر وحيد (مقتبس في كتابات كاتب قديم آخر) لواحد من أشهر الشعراء الرومان؛ كورنيليوس جالوس، الذي عاصر في شبابه كاتولوس وكان صديقًا لفرجيل، كما تولى لاحقًا حكم مصر إبان حكم الإمبراطور أغسطس. لكنْ في سبعينيات القرن العشرين، وأثناء عمليات تنقيب جرتْ في مكبِّ نفايات تابع لحصن روماني قديم في جنوب مصر، اكتُشفَت قصاصة مِن بردية صغيرة يمكننا أن نقرأ عليها ثمانية سطور من الشعر لا شك في أن جالوس هو مَن كتبها. ربما كان أحد جنود جالوس هو مَن تخلص منها، وربما يكون جالوس نفسه هو مَن فعل هذا (انظر الشكل ٤-١).
fig10
شكل ٤-١: من مكبِّ نفايات روماني: قصاصة مِن بردية تحمل شعرًا لكورنيليوس جالوس.

أيضًا من واقع عمليات التنقيب التي جرتْ في مصر على مدار الأعوام المائة الأخيرة، ظهرت إلى النور مسرحية كاملة للكاتب الهزلي ميناندير، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، علاوة على جزء طيب مما لا يقل عن أربع مسرحيات أخرى. كانت كل أعمال هذا الكاتب قد فُقدت في العصور الوسطى، ولا يوجد أي مخطوطات بخط اليد لمسرحياته. إلا أن ميناندير كان واحدًا من أكثر الكُتَّاب الإغريق انتشارًا، وبسبب الدروس الأخلاقية الواردة في مسرحياته كانت أعماله جزءًا أساسيًّا من دراسة كل طالب في العالم المتحدث باليونانية (والذي امتد من اليونان نفسها إلى مصر، وساحل تركيا وشواطئ البحر الأسود). إن بقايا هذه النصوص المدرسية تحديدًا هي التي أُنقذت، على نحو درامي، من الأوراق المهملة التي استُخدمتْ في لف أجساد المومياوات المصرية.

إن معرفتنا بالأدب الكلاسيكي معلقة على خيط رفيع للغاية (انظر الشكل ٤-٢). فجزء مما نعرفه اليوم (وما لا نعرفه) يمكن عَزْوُه إلى المصادفة المحضة؛ فقد كان من حسن الحظ، مثلًا، أنِ اختار الأثريون التنقيب في هذا المكبِّ تحديدًا في ذلك الحصن الروماني تحديدًا في مصر؛ ومِن ثَمَّ وجدوا المثال الوحيد على شِعر جالوس. وبالمِثْل، ربما تَسبب الحظ التَّعِس في جعْل أحد رهبان العصور الوسطى يسكب نبيذه على مخطوطة كان ينبغي نسخها؛ وبذا محا كل آثار النسخة الوحيدة المتبقية لأحد الأعمال الكلاسيكية. إن قابلية الكتابات القديمة للتعرض للحوادث، أو الإهمال، كان المحفز وراء الكثير من الأفكار السوداوية، وكذلك وراء كتابة مقدار كبير من الأعمال الأدبية. وهكذا نجد رواية جريفز «أنا، وكلاوديوس وكلاوديوس الإله» تُعيد بناء السيرة الذاتية المفقودة للإمبراطور الروماني كلاوديوس. وفي رواية «اسم الوردة» يتخيل أمبرتو إيكو رؤية أكثر سوداوية، يَحرق فيها أحد الرهبان مكتبة الدير إضافة إلى النسخة الوحيدة من أطروحة أرسطو «عن الكوميديا».
fig11
شكل ٤-٢: على خيط رفيع: المخطوطة الوحيدة التي نملكها من كتاب تاسيتوس «الحوليات»، ١١–١٦.

بَيْدَ أن نمط بقاء الأعمال الكلاسيكية ليس قائمًا على المصادفة وحسب؛ بل هو يعتمد اعتمادًا أساسيًّا أيضًا على التاريخ الكامل للتراث الكلاسيكي واهتماماته وأولوياته المتغيرة، بداية من العالم القديم ذاته، مرورًا بالعصور الوسطى، ووصولًا إلى الوقت الحاضر. بعبارة أخرى، ليست المصادفة المحضة وحدها وراء العثور على نسخ عدة من مسرحيات ميناندير في مصر؛ فهذا الأمر جاء تبعة مباشرة للمكانة المحورية التي مُنحها ميناندير في تعليم العالم اليوناني. أيضًا ليس من قبيل المصادفة أن نملك عددًا كبيرًا من نُسَخ مخطوطات العصور الوسطى ﻟ «قصائد الهجاء» التي كتبها الشاعر الروماني جوفينال؛ ففي كثير من هذه القصائد رَسم جوفينال صورة حية يرثي فيها لأخلاقيات المجتمع الروماني في وقته ويَحُطُّ مِن قدْرِه (وذلك في بدايات القرن الثاني الميلادي). وقد نُسخت هذه القصائد وأُعيد نسخُها على يَدِ رهبان العصور الوسطى؛ لأنها مثلت إدانات لاذعة للفساد، وكانت مادة مثالية للمواعظ في العصور الوسطى: «أيُّ الشوارع لا يملؤها المتزمتون القذرون؟ هاه! هل تكبح السلوكَ الفاسد بينَما أنت متخندق وسط عصبة من الفلاسفة المثليين؟ أطراف مشعرة، وربما يغطي الشعر الكثيف أعلى ذراعيك أو أسفلهما، وَعْد الروح الرواقية، لكنْ على تلك الاست الملساء يخيط جرَّاحٌ مُبْتَسِمٌ بواسيرَك المتورمة.» إن حقيقة أننا لا نزال نستطيع قراءة كتابات جوفينال مرتبطةٌ ارتباطًا مباشرًا باستخدامات التراث الكلاسيكي في كنيسة العصور الوسطى.

جاء علم الآثار نتاجًا للقصة عينها؛ فلم يكن أحد الأهداف الأساسية للتنقيب في المواقع الكلاسيكية في مصر هو تحديدًا اكتشافَ المزيد من النصوص القديمة، غيرِ المعروفة بعد، رغم أن هذا الهدف يكمن بالتأكيد خلف العديد من عمليات استكشاف المواقع المصرية. فعلى مدار جزء كبير من القرن التاسع عشر حدد الأدب أهداف عمليات التنقيب عن الآثار، محددًا المواقع التي ينبغي البحث عنها والتنقيب فيها، والمواقع التي صارت مصادر جذب شهيرة. لقد جرى اكتشاف مدينتَي طروادة ومايسينيه، على سبيل المثال، في القرن التاسع عشر على يد هاينريش شليمان، وكان سبب هذا الاكتشاف تحديدًا أنه ذهب للبحث عن المدينتين المذكورتين في قصيدة «الإلياذة» الملحمية العظيمة لهوميروس عن «حرب طروادة»؛ وذلك إيمانًا منه بأنه يستطيع العثور على مدينة أجاممنون؛ مايسينيه، ومدينة برايام وهكتور وباريس وهيلين؛ مدينة طروادة. وكما رأينا، كان ما حفز على استكشاف باساي هو ربط باوسانياس المعبد بالمعماري الذي بَنَى البارثينون. ولو لم تكن أعمال باوسانياس ظلت باقية، لَما كان كوكريل وأصدقاؤه ليحاولوا القيام بمثل هذه الرحلة الخطيرة إلى ذلك الطَّلَل الجبلي النائي، وما كانت الحكومة البريطانية لتفكر في شراء الإفريز والاحتفاظ به في المُتحف البريطاني. فبطرق عدة، تعتمد القصة الكاملة التي حكيناها إلى الآن على باوسانياس وأعماله الباقية.

من المفاجئ إذن أننا بِتْنا نشك الآن في «المعلومات» التي قدَّمها لنا باوسانياس بشأن المعبد الموجود في باساي. على سبيل المثال خَلَصتْ دراسات حديثة أُجريتْ على معمار المعبد إلى أنه استنادًا إلى طراز المعبد وتاريخ بنائه، فمن المحتمل ألَّا يكون لإكتينوس أيُّ دخل بتصميمه. ويرى البعض أن الرابط الذي أقامه باوسانياس بين لقب أبوللو (المُعين) وطاعون أثينا العظيم قد لا يعدو كونه محض تخمين، ومن المرجَّح بشدة خطؤه. بادئ ذي بدء، يؤكد ثوسيديديس صراحة أن الطاعون لم يضرب هذه المنطقة من اليونان. ربما كان باوسانياس يحاول جاهدًا البحث عن تفسير لِلَّقب غير المعتاد للإله أبوللو. وقد أدَّى التفسير الذي وجده، أو مُنح له، بالتأكيد إلى منح باساي شهرة كبيرة من خلال الربط بين تأسيس المعبد وبين فترة ازدهار أثينا الكلاسيكية، ومؤرخها الرسمي.

الاختلاف معهم

هذا تغيُّر آخر كبير بين دراسة التراث الكلاسيكي في القرن التاسع عشر ودراسته في وقتنا الحالي. كان كوكريل ومعاصروه يميلون إلى رؤية النصوص القديمة التي قرءوها بوصفها مصادر يستحيل تقريبًا الاعتراض عليها للمعلومات بشأن اليونان وروما. أما نحن، على وجه النقيض، فمستعدون للقبول بأننا في بعض الحالات نملك معرفةً أفضل من معرفة الكُتاب القدماء بشأن الآثار والأحداث والتاريخ التي وَصَفوها. إننا على استعداد لتحدِّي باوسانياس في وصفه لباساي، أو ثوسيديديس في آرائه عن مسببات الحرب البيلوبونيزية الكارثية، أو ليفيوس فيما أَورَدَه من تاريخ مبكر لمدينة روما. والأكثر من ذلك، أنه من المبادئ المهمة في دراسة التراث الكلاسيكي اليوم أن الأساليب الحديثة للتحليل يمكنها أن تكشف عن العالم القديم ما هو أكثر مما كان القدماء أنفسهم يعرفونه (تمامًا مثلما نتقبل أنه في يوم من الأيام سيكشف المؤرخون عن مجتمعنا أكثر مما نعرفه بالفعل). فمن مبررات الدراسة المتواصلة للتراث الكلاسيكي أننا نستطيع تحسين معرفتنا باليونان وروما اللتين ورثناهما.

ومِن قَبِيل المفارقة أن هذا يَمنح أهمية أكبر، لا أقل، لقراءتنا للنصوص القديمة. فما يجعل ثقافةَ الحضارتين الكلاسيكيتين (اليونان وروما) في نظرنا أكثرَ جاذبيةً وتحدِّيًا من أيِّ حضارة قديمة أخرى ليس فقط الجاذبيةَ المستمرة لدراما هاتين الحضارتين أو جمال أعمالهما الفنية، وإنما الأمر متعلق بالأساس بحقيقة أن الكُتَّاب الإغريق والرومان ناقشوا ثقافتهم وتجادلوا بشأنها وعرَّفوها، وأننا لا نزال نستطيع قراءة النصوص التي فعلوا فيها هذا. وهكذا، على سبيل المثال، فسَّر هيرودوت، المُكنَّى «أبا التاريخ»، للمُدُن اليونانية في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد أن انتصارَهم الجماعي على غزْو مَلِك الفرس ينبغي عزوُه إلى التنوع الذي أسهمتْ به كل مدينة من تلك المدن؛ إلى اختلافاتها (في السياسة والثقافة) بقدْر ما يُعزى إلى تشابُهِهَا، وأنها وَجَدَتْ قضيتَها المشتركة في رفْضِها أن تتخلَّى عن استقلالها لغازٍ غيرِ يوناني من الشرق. وفي القرن الثاني قبل الميلاد، شرع المؤرخ اليوناني بوليبيوس، الذي أُخذ أسيرَ حرب إلى روما، في تفسير الكيفية والأسباب التي وقفتْ خلف هيمنة روما على منطقة البحر المتوسط بأكملها. بَيْدَ أن التأملات الذاتية من هذا النوع تجري خفيةً بين سطور الكثير من الكتابات اليونانية والرومانية. فمثلًا، عندما يتحول الكُتَّاب الرومان إلى وصف ثقافات الأمم التي غزتْها روما، فإننا نجدهم منخرطين مرارًا وتكرارًا في عملية تعريف (ضمنية على الأقل) لطبيعة ثقافتهم هم. فحين حاول يوليوس قيصر أن يصف مدى اختلاف أهل بلاد الغال عن الرومان، كان توصيفه بمنزلة تأمُّل ضمني في شخصية روما نفسها.

حين نقرأ النصوص القديمة نحن ننخرط لا محالة في «نقاش» مع الكُتَّاب القدماء الذين كانوا هم أنفسُهم يتناقشون حول ثقافتهم. من الملائم بالطبع أن «نُعجب» ببعض الأدب القديم، ولا محالة أيضًا من أن نستخدم النصوص القديمة من أجل استعادة «معلومات» بشأن العالَم القديم. وبغضِّ النظر عمَّا قد نرى في هذه الكتابات من انعدام للمصداقية، فلا يمكننا أن نأمل في أن نعرف الكثير عن العالم القديم من دون هذه الكتابات. لكن دراسة التراث الكلاسيكي تتجاوز هذا بكثير؛ فهي انخراط في ثقافةٍ كانت بالفعل منخرطة في عملية من التدبُّر والنقاش والدراسة سواء لنفسها أو لمسألةِ ما يجب أن تكون عليه الثقافة. إن خبرتنا بباساي مُطمَّرة داخل تقليد من الملاحظة والتفكير بشأن ذلك الموقع، وهو تقليد يمتد زمنيًّا بما يتجاوز بكثير «اكتشاف» القرن التاسع عشر وصولًا إلى العالم القديم ذاته.

جزء من «النقاش» الوارد في كتابات باوسانياس يتعلق بطبيعة الثقافة الإغريقية في الإمبراطورية الرومانية، وكذلك أيضًا بالعلاقة بين اليونان وروما. ناقَشْنا بالفعل في الفصل الثاني كيف أدرك الكُتَّاب الرومان دينَهم الذي يدينون به لليونان، وكيف عَرَّفتِ الثقافةُ الرومانية نفسَها (وجرى تعريفُها كثيرًا في العالم الحديث) بوصفها ثقافةً طفيليةً اقتاتتْ على أصولها اليونانية. ومن المفترض أن يكون جليًّا الآن أن العلاقة أكثر تعقيدًا بقليل مما تبدو عليه من الوهلة الأولى. بعبارة أخرى، قد تكون الثقافة الرومانية تابعة للثقافة اليونانية، لكنْ في الوقت نفسه، السواد الأعظم من معرفتنا باليونان جرى توصيله عن طريق روما والتمثيلات الرومانية للثقافة اليونانية. فاليونان تأتينا دومًا عبر عيون رومانية.

تتَّخِذ الرؤى الرومانية لليونان أشكالًا عدة؛ ففي تاريخ المنحوتات اليونانية، على سبيل المثال، عدد كبير من أشهر الأعمال — تلك الأعمال التي ناقشها الكُتَّاب القدماء أنفسهم وامتدحوها — حُفظَت فقط من خلال نُسَخ طِبق الأصل أو معدَّلة صَنَعَها نحاتون رومانيون. لم يحتفِ كاتب قديم بالمنحوتات الموجودة على إفريز معبد باساي، أو تلك الموجودة على إفريز البارثينون نفسِه. لقد كانت التماثيل المنفردة، وليس الزخارف المنحوتة بالمعابد، التي عُدَّت أعمالًا يُحتفى بها: تمثالَ «رامي القرص» للنحات ميرون الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، أو تمثالَ «الأمازونية الجريحة» لمعاصره فيدياس، أو تمثالَ «أفروديت» العاري الذي صنعه النحات براكسيتيليز في القرن الرابع قبل الميلاد من أجل مدينة كنيدوس. والسبب الوحيد الذي جعلَنا على معرفةٍ بهذه الأعمال هو أن الرومان رأَوْها وأعادوا إنتاجها لنا.

يقدم باوسانياس نسخة من اليونان تُخفِي على نحوٍ منهجي، كما رأينا، آثارَ الهيمنة الرومانية. لكن ما يجب علينا ألَّا نغفل عنه هو حقيقة أن باوسانياس كان في الوقت عينِه أحدَ مواطني الإمبراطورية الرومانية. وحتى في محاولته طمْسَ أثرِ روما فإنه يُقدم لنا صورة «رومانية» لليونان، وكذلك، على نحو محتوم، صورةً للإمبراطورية الرومانية. فهذا المعبد المنعزل على جانب أحد الجبال في ركنٍ قَصِيٍّ من اليونان هو جزء من رؤيةٍ أكبر للكيفية التي بدا بها العالم في نظره، بوصفه أحدَ مواطني الإمبراطورية.

وفي رؤيتنا لباساي أيضًا، يمتزج احترامنا للتاريخ الفردي لهذا المعبد تحديدًا (المتفرد ومنعدم النظير) بإحساسٍ بموضعه في التاريخ الأشمل لليونان وروما، وموضعه في خبرتنا الأوسع بالثقافة القديمة؛ فكل جزء صغير من التراث الكلاسيكي يُكتَب دائمًا داخل قصة أكبر منه بكثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤