الفصل السادس

نظريات عظمى

باحثون ومحتالون

كما سبق ورأينا، ظَلَّ وَصْف باوسانياس باقيًا حتى نقرأه من خلال جهود أجيال متعاقبة من الكُتَّاب والنُّسَّاخ الذين عملوا في سلسلة متصلة على امتداد ألفَيْ عام. ومنذ عصر النهضة، استمر الباحثون في عملية تنقيح النصوص الكلاسيكية ونشْرها. ومن غير المرجح في ظِل ما يوجد اليوم مِن كُتب حديثة ومكتبات أن يَضيع مجددًا أيٌّ من النصوص اليونانية والرومانية التي نملكها اليوم. لكنْ حتى مع ذلك تتواصل الجهود الدولية العاملة من أجل إتاحة أكثر نصوص الأدب الكلاسيكي «مصداقية»؛ ونعني بهذا النصوصَ القريبةَ بأقصى درجات القُرْب مما كُتب بالفعل منذ ألفَيْ عام.

يسافر باحثو التراث الكلاسيكي في كل أنحاء أوروبا من أجل تتبع المخطوطات ومقارنتها. وهم يدققون الطبعات القديمة وينتجون طبعات جديدة خاصة بهم. وقد يجعلهم هذا ينخرطون في عملية حساسة تتعلق بتحديد الأخطاء التي ارتكبها النُّسَّاخ المُهمِلون، التي أُعيدَ إنتاجُها في طبعات لاحقة، وكذلك اقتراح الكيفية التي يمكن بها تصويب هذه الأخطاء كي يَصير لدينا نسخة أدقُّ من النص. وفي بعض الأحيان، حتى عن طريق تغيير حرفٍ واحد أو حرفين، سيقدم المحرر الحديث للقارئ الذي يتدبر العمل فكرة مختلفة للغاية بشأن بعض الجوانب الأساسية أو التفاصيل الحاسمة، للعالم الكلاسيكي.

على سبيل المثال، تُعَدُّ معرفة مدى الدقة التي تَفَهَّم بها الرومان جغرافيا إقليم بريطانيا من الموضوعات المهمة، ليست فقط من أجل تقييمنا لعلوم وأساليب رسم الخرائط القديمة، وإنما أيضًا لها أهميتُها في مناقشات الإمبريالية الرومانية. بعبارة أخرى، ما المقدار الذي نتصور أن الرومان قد «عرفوه» حقًّا بشأن المناطق التي غزَوْها؟ تعتمد إجابة هذا السؤال جزئيًّا على ما إذا كنتَ تعتقد أن المؤرخ الروماني تاسيتوس قد شبَّه شكل الجزيرة ﺑ «الماسة»، scutla باللاتينية (كما ورد في المخطوطات والطبعات القديمة)، أم شبَّهها ﺑ «لوح الكتف»، أو scapula باللاتينية (كما رأى أحد محرري النص في عام ١٩٦٧ أن هذه ستكون كلمة أفضل).
يُمكنك أن ترى السبب وراء تمتُّع عملية إنتاج طبعات من أعمال المؤلفين الإغريق والرومان عادة باعتبار كبير في أوساط الباحثين المحترفين. وللأمر مخاطره أيضًا؛ إذ إن غالبية محاولات إنتاج نصوص «أفضل» مقدَّر لها أن تحظى فقط باستحسانٍ وقتي، وسريعًا ما يتم نسيانها. لكنْ رغم ذلك، لا مناص عن الإقدام على المخاطرة و«محاولة» الوصول، على أقل تقدير، إلى رؤية دقيقة بقدْر الإمكان لما كتبه الكُتَّاب القدماء. وفي الواقع، لا مفر في حالة الأعمال التي تكون نصوصها عرضة لجدل شديد (سواء بسبب صعوبة اللغة نفسها على وجه الخصوص أو عدم الوثوق في المخطوطة نفسها) من أن يجد كلُّ باحثٍ دَرَسَ النصَّ نفسَه وقد تورَّط في نقاشات بشأن ما كُتب بدقة في الأصل. هذا هو الحال فيما يخص بعضًا مِن أشهر الأعمال الأدبية التي ظلت باقية من العالم القديم، على غرار تراجيديات الكاتب المسرحي الأثيني إسخيلوس، الذي مِنَ الحتمي أن تجتذب نصوصُه مجموعةً من التنقيحات المقترحة واعترافات بالحيرة والإحباط (انظر الشكل ٦-١).

في حالات أخرى لا يوجد شك تقريبًا في أن النصوص اليونانية واللاتينية التي نقرؤها تنقل لنا نفس ما كانت تعنيه حين جفَّ عنها مِدادُ كاتِبِها؛ ففي حالة شِعر فرجيل وهوراس، مثلًا — وهي أعمال كلاسيكية حُفظتْ بحرْص وكانت موضع تبجيل منذ وقت كتابتها وحتى وقتنا الحاضر — لا توجد دعاوَى كثيرة لتحسين النصوص. لكنْ من الحتمي أن ينخرط محررو الأعمال الكلاسيكية في «شرح» لغة الأعمال التي يَدْرُسونها ومحتواها. وهذا الشرح يأخذ دومًا شكلًا يُطلَق عليه اسم «التعليق»؛ وهي ملحوظات مفصَّلة على النص تُحاول توقُّع الأسئلة التي من المرجَّح أن تدور في خَلَد القارئ وتجيب عنها.

fig15
شكل ٦-١: يُعَدُّ التعليق النقدي أداة لا غنى عنها في عملية تحرير النصوص الكلاسيكية. يُبين هذا المثال قراءاتٍ متنوعة في مخطوطات باقية، ومحاوَلةَ المحررين لإعادة كتابة إحدى صفحات مسرحية تراجيدية لإسخيلوس. كل الشروح مكتوبة باللاتينية.

قد تستهدف التعليقات أنواعًا مختلفة من القراء، لهم مستويات متباينة للغاية من الخبرات. الكثير من التعليقات تقدم موادَّ للناس كي «يتعلموا» اللغتين اليونانية واللاتينية، وتحرص على مساعدة مَن تعلموا الأساسيات بالفعل في التأقلم مع صعوبات اللغة، علاوة على شرح الخلفية الثقافية الكلاسيكية المطلوبة لفهم ما كتبه الكاتب القديم.

ليس هذا موقفًا جديدًا؛ فطالما كتب الباحثون الكلاسيكيون من أجْل جمهورٍ على معرفة إجمالًا باليونانية أو اللاتينية. ودائمًا كان القراء العديمو المعرفة باليونانية واللاتينية يحتاجون — ويريدون ويطلبون — المساعدةَ من أجل معرفة ما يقوله الكُتَّاب الكلاسيكيون، وما يَعْنونه، وما يعنيه قولُهم هذا لنا. ولهذا على مرِّ قرون لعبتْ ترجمة أعمال الكُتَّاب الكلاسيكيين (التي أنتجها عادةً الباحثون أنفُسُهم الذين حرَّرُوا النصوص وكتبوا التعليقات) دورًا كبيرًا في تعريف القارئ الحديث بالعالم القديم، وبالتراث الكلاسيكي.

ومع ذلك شعر بعض القراء المعاصرون باستغلاق الثقافة الكلاسيكية أمامهم؛ وذلك تحديدًا بسبب افتقارهم للمعرفة باللغتين اللتَين كانتا يتم التحدث والكتابة بهما في العالم الكلاسيكي القديم. لكنْ قَنِعَ آخرون باستخدام الترجمات، وأن يُباشروا دورهم بوصفهم «دارسين للتراث الكلاسيكي» بلغاتهم هم. ذكرْنا بالفعل في الفصل الثاني أن كيتس، وهو أحد أكثر الشعراء الإنجليز كلاسيكيةً (بكل ما تحمله الكلمة من معنًى)، لم يكن يعرفُ اللغة اليونانية. أيضًا شكسبير، وهو مثال آخر شهير، كان لا يفقه من اليونانية شيئًا تقريبًا («قليل من اللاتينية، وأقل من هذا من اليونانية»). لم يكن هذا يعني أنه تَجَاهَل الكُتَّاب الكلاسيكيين؛ فقد كان على معرفة كبيرة بأعمال المؤرخ اليوناني بلوتارخ، الذي كتب في القرن الثاني الميلادي سلسلة مِن «السِّيَر» لعظماء الإغريق والرومان. بل في الواقع، كانت «سيرة حياة يوليوس قيصر»، التي كتبها بلوتارخ، مصدرًا مهمًّا لمسرحية شكسبير المعَنْونة «يوليوس قيصر»، وهي المسرحية التي صُكَّ فيها القول الشهير: «الأمرُ [كلُّه] صعبٌ عليَّ صعوبةَ اليونانية.» بَيْدَ أنه قرأ أعمال بلوتارخ بالإنجليزية وحسب، وذلك في الترجمة التي قام بها نورث.

نطاق واسع من التفكير

على مرِّ القرون تغيرَتِ النصوص الكلاسيكية والتعليقات عليها تغيرًا كبيرًا، شأنها شأن الجوانب الأخرى للتراث الكلاسيكي؛ ففي ظل الفهم المتباين للتراث الكلاسيكي، وفي ظل تحديد العالَم الحديث لعلاقاته بالعالم الكلاسيكي على نحو متباين، فإن التعليقات المكتوبة (مثلًا) في نهاية القرن العشرين عادة ما تكون مَعنيَّةً بتوجيه القراء نحو قضايا مختلفة للغاية عن تلك التي تخص التعليقات المكتوبة في القرن التاسع عشر. وأبرز ما في الأمر هو نطاق ما عُدَّ بوصفه من التراث الكلاسيكي، إلى جانب الكيفية التي جرى بها تعيين الحدود بين دراسة التراث الكلاسيكي وغيرها من فروع المعرفة وإعادة تعيينها. وعلى مرِّ القرون تضمنَتِ الأسئلةُ المثارة بشأن التراث الكلاسيكي والنصوص الكلاسيكية (ولا تزال تتضمن) أغلبَ القضايا الجوهرية في موضوعات نفكر فيها عادة بوصفها بعيدةً كل البُعد عن دراسة اليونان وروما القديمة، لكنها تنبع على نحو مباشر من دراسة العالم القديم وأدب العالم القديم.

على سبيل المثال، أثارتِ الفلسفةُ اليونانية، وخاصةً أعمالَ أفلاطون وأرسطو، نقاشاتٍ ليست فقط في مجال الفلسفة من منظورنا الحالي، وإنما في مجالات السياسة والاقتصاد والبيولوجيا وغيرها؛ فقد تطورتْ نظريات كارل ماركس من التدريب الذي تلقَّاه في فلسفةِ وتاريخِ اليونان وروما. وفي الواقع، كانت أطروحة رسالة الدكتوراه لماركس عبارة عن مقارنة بين منظمتي الفيلسوفَيْن والعالِمَيْن اليونانيَّيْن ديموقريطس وإبيقور، وكلاهما من المناصرين الأوائل للنظرية الذَّرِّية للمادة. كما أن علم الأنثروبولوجيا الحديث يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأفكار التي أنتجتْها سلسلة من الباحثين الكلاسيكيين من أواخر القرن التاسع عشر فصاعدًا، خاصة فيما يخص نظرياته العظمى بشأن الثقافة العالمية. وهذه العلاقة بين دراسة التراث الكلاسيكي والأنثروبولوجيا تعود بنا، على نحو غير متوقع، إلى باوسانياس ودليله الإرشادي إلى اليونان.

البداية

الترجمة التي قدمناها في الفصل الرابع لوصف باوسانياس كانت ترجمة السِّير جيمس فريزر؛ الأب المؤسس لعلم الأنثروبولوجيا الحديث، وكذلك المترجِم والمحرِّر والمعلِّق على كتاب «دليل إرشادي إلى اليونان»، الذي ظهرتْ طبعتُه البارِزة المكوَّنة من ستة مجلدات إلى النور عام ١٨٩٨. كان فريزر قد قام بسلسلة من الزيارات إلى اليونان في أوائل العَقْد الأخير من القرن التاسع عشر بهدف البحث في كتابات باوسانياس، وقد أَدرَجَ في تعليقه عددًا من الفقرات الغنائية تعبر في أسلوب فيكتوري راقٍ عن الإعجاب بمَشاهد طبيعية معينة والحياة النباتية والدرب، غامرًا الطرق التي سلكها باوسانياس بأسلوبه العاطفي من الوصف التصويري. وقد كان يشكو قليلًا من قلة اهتمام باوسانياس بالمشاهد الطبيعية للعالم قائلًا: «إذا نَظَر [أيْ باوسانياس] إلى الجبال، لم يكُنْ هذا كي يَصِفَ القممَ الثلجية وهي تَلمع تحت ضوء الشمس قبالة زُرْقة السماء، أو يصف غابات الصنوبر الداكنة التي تحفُّ قممها، وإنما كي يُخبرنا أن زيوس أو أبوللو أو إله الشمس كان يُعبَد على قممها …» وفي سياق هذا المشروع زار فريزر باساي في عام ١٨٩٠. وقد تفحَّص الموقع في حرص، ورَسَم رسومات وأَخَذ قياساتٍ نَقَلها لاحقًا إلى تعليقه على ذلك القسم من نص باوسانياس.

لم يكن الإقدامُ على عملية تحرير كبيرة لكتابات باوسانياس الخيارَ البدهي لباحث مِن أواخر القرن التاسع عشر. ربما كان الدليلُ الإرشادي أداةً ضرورية للأثريين المبكرين، الذين كانوا ينقبون في المواقع القديمة باليونان. بَيْدَ أن هذا الدليل لم يحظَ بالإعجاب قَطُّ بفضل جودته الأدبية، ولا كان يُقرأ في المدارس أو الكليات بوصفه أحدَ النصوص الكلاسيكية الرئيسية. وهذا يرجع جزئيًّا إلى أنه عَمَلٌ إغريقي كُتب إبان عصر الإمبراطورية الرومانية؛ ومِن ثَمَّ دائمًا ما كان يطغى عليه كلٌّ مِن الأعمال الإغريقية التي كُتبت فيما يطلق عليه فترة الحضارة الأثينية «الكلاسيكية» (في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد) وكذلك الأعمال اللاتينية المكتوبة عن فترته هو «الكلاسيكية»، والممتدة من القرن الأول قبل الميلاد إلى أَوْج الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني الميلادي. فقط في أزمنةٍ أحدثَ بكثيرٍ جذبَتِ الكتاباتُ الإغريقية العديدة — بدءًا من زمن باوسانياس مرورًا بانهيار الإمبراطورية الرومانية وبزوغ الإمبراطورية البيزنطية المتحدثة باليونانية ومركزها القسطنطينية (إسطنبول) — انتباهَ الباحثين الكلاسيكيين، علاوة على المنغمسين في النصوص اللاتينية، الوثنية والمسيحية، من أواخر عهد الإمبراطورية الرومانية.

هناك عوامل أخرى أيضًا أسهمتْ في التجاهل النسبي لكتابات باوسانياس خارج دوائر الأثريين؛ فدليله الإرشادي مكتوب بأسلوب متواضع على صورة ملحوظات، بواسطة كاتب ليس له أيُّ عَمَل آخر معروف، ولا يُلقِي عملُه الضوءَ على نحو مباشر على النصوص الكلاسيكية الأكثر محورية. إضافة إلى ذلك، من الواضح أن المراكمة الحريصة للمعلومات التفصيلية من موقع لآخر في أنحاء اليونان لا تَأْسِر انتباه القارئ من خلال تحليل قوي أو مثير للإعجاب على نطاق عريض.

لكنْ كان لدى فريزر نفسِه أسبابٌ خاصة للاهتمام بعمل باوسانياس. فما جذبه إلى دليل باوسانياس الإرشادي كان تحديدًا التفصيل الدقيق الذي لم يصف به باوسانياس فقط المواقعَ الدينية، والطقوسَ العامة، وخرافاتِ العالم الإغريقي، وإنما أيضًا (بكلمات فريزر) «العاداتِ الغريبة والشعائرَ والخرافاتِ من جميع الأنواع.» وفي الوقت الذي بدأ فيه فريزر دراسته الجادة لكتابات باوسانياس، كان قد أكمل للتوِّ طبعتَه الأولى من المشروع الكبير الذي اشتُهر اسمُه بفضله؛ كتاب «الغصن الذهبي». كان هذا عملًا جَمَعَ «العادات الغريبة والخرافات» من كل أنحاء العالم وعلى مرِّ التاريخ؛ ويزعم أنه يُفسِّرها كلها، في واحدة من أُولى نظريات الأنثروبولوجيا وأكبرها قاطبة. لقد كان مشروعًا نما وترعرع على امتداد حياة فريزر، من الطبعة المتواضعة في مجلدَين لعام ١٨٩٠، إلى الطبعة الثالثة الكبيرة المكوَّنة من اثنَيْ عشر مجلدًا، والتي ظهرتْ للنور بين عامَيْ ١٩١٠ و١٩١٥.

يبدأ كتاب «الغصن الذهبي»، في مختلف طبعاته، بمشكلة «كلاسيكية». واللغز الذي يشرع فريزر في شرحه هو تلك القاعدة الغريبة التي كانت تحكم كاهن الإلهة ديانا في معبدها في نيمي، بين تلال جنوبي روما. فوفقًا للكُتَّاب الرومان فإن هذا الكاهن، المعروف بلقب «الملك»، فاز بمنصبه الكهنوتي عن طريق قطْع غصن من شجرة معينة في المعبد ثم قتْل مَن كان يسبقه في شَغْل منصب الكاهن. كل كاهن للإلهة ديانا كان يعيش وقتها في خوف على حياته؛ إذ كان الراغبون في منصبه يخططون لقَتْله. وبغضِّ النظر عن الوقت الذي بدأتْ فيه هذه العادة، فقد ظلتْ مستمرة في القرن الأول الميلادي، حين تخبرنا القصة الساخرة عن تجهيز الإمبراطور الروماني كاليجولا لمنافسٍ كي يذهب ويتحدَّى الكاهن الحالي، الذي كان يحمل لقب «الملكية» منذ وقت طويل.

كان الأمر الأساسي الذي قام به فريزر هو إدخالَ هذه العادة الغريبة في حقبة تقع في منتصف ملحمة «الإنياذة» لفرجيل. وقد عرَّف فريزر الغصن الذي يحوزه المتنافس على منصب الكاهن ﺑ «الغصن الذهبي» الذي مكَّن بطل فرجيل، إنياس، من الهبوط في أمان إلى عالم الموتى، قبل العودة مجددًا إلى مهمة تأسيس مدينة روما. وإذا كان القَدَر يُحابي إنياس، هكذا يُقال له، «فسيأتي الغصن طوعًا وينخلع بيسر». ودعمًا لهذا التعريف راكَمَ فريزر «الأدلة» من أي مصدر، وأي مكان، وأي زمان (من الأساطير الاسكندنافية القديمة إلى عادات سكان أستراليا الأصليين، ومن الميثولوجيا الإغريقية إلى صُنَّاع عرائس القش الإنجليزيين). وبينما واصَل فريزر، عبر طبعات كتابه المتتابعة، إضافة المزيد والمزيد من الملاحظات، أَدْرج مراجعَ بشأن التراث الديني والأثري للكوكب بأكمله، مملوءة بقراءة فريزر الواسعة للغاية وبإسهامات أُرسلتْ إليه من جحافل المتراسلين من مختلف أنحاء الكوكب، كلهم يسهمون بما رصدوه من مشاهدات تُعزز ما توصل إليه.

اشتَقَّ فريزر نظريات طموحة من كل هذه المعطيات: نظريات عن تقديم القرابين، عن موت الملوك ومولدهم من جديد (ومن هنا جاءت أهمية لقب «الملك» الذي حمله كاهن نيمي)، وعن التطور الفكري الكامل للبشرية، من الإيمان البدائي ﺑ «السحر»، مرورًا ﺑ «الدين»، وصولًا إلى نمو «العلم» الحديث. مع مرور الوقت، تَداعَى الإطار المركزي لحجته بالكامل، لكن منظومة «المعرفة» الهائلة التي جمَّعها لم تَنْهَرْ. وكما رأينا في حالة باوسانياس، لم يؤدِّ عدم الإيمان بمعلومات فريزر إلى إبطال مشروعه. في كتاب «الغصن الذهبي» قدم فريزر لقرائه مدخلًا إلى «معرفة» شاملة وما تحمله هذه المعرفة من قوة، بداية من العالم القديم نفسه. وذلك الكتاب العظيم (الذي، رغم «إنكار» ما توصل إليه من نتائج، لا يزال يبيع كل عام آلاف النسخ من طبعته ذات المجلد الواحد) يقدم نموذجًا لقدرة الفكر المتحضر الممنهَجة. كانت هذه حملة فريزر العظيمة الشاملة. وقد انبثقت مباشرة من عمله على طبعاته الكلاسيكية، التي ثبت أنه لم يُمْكنها مطلقًا الاستغناءُ عن باوسانياس، والتي، كما يزعم البعض، دامت على أحسن حال.

كان مِن الحتمي أن يضرب مشروع فريزر لفهم تاريخ الثقافة البشرية بجذوره في الدراسة الكلاسيكية وفي مجموعة «الخرافات» التي احتفت بها النصوص والأعمال الفنية الإغريقية؛ ففي أنحاء أوروبا كانت تلك النصوص والأعمال مِلْكية شائعة للمثقفين، وكانت أكثر ما يدعو للشرح والتفسير. واليوم، بعد أن نُبذَت طُرق فريزر بوقت طويل، يظل التحدي جزءًا أساسيًّا من دراسة التراث الكلاسيكي: كيف لنا أن نفكر في «الميثولوجيا الإغريقية»؟ لماذا كان لهذه الذخيرة من القصص مثل هذه القبضة القوية على هذا العدد الكبير من الكُتَّاب والفنانين؟

في الأساس هناك: الخرافة، والدين، والعقل، والإنسان

لا تزال الخرافات الإغريقية أحد أبرز السبل الشائعة التي يأسِر بها التراث الكلاسيكي انتباهنا، بحيث يجتذبنا إلى التعرف على المزيد عنه. وهذه القصص يُعاد حكْيُها على مدى الأدب القديم، ليس فقط في التراجيديات الإغريقية أو القصائد الملحمية لهوميروس (كالإلياذة ومغامرات البطل الوضيع أوديسيوس خلال رحلة العودة الطويلة إلى منزله وإلى زوجته الوفية بينيلوبي)، وإنما أيضًا في نُسَخ هذه الخرافات التي رواها الكُتَّاب الرومان. فالكاتب الروماني أوفيد مثلًا، الذي عاصر فرجيل وهوراس، نسج في عمله «التحولات» تجميعةً ضخمة من كل الخرافات المتعلقة بعملية «التحول». كانت هذه قصصًا عن «تغير الشكل» من بداية الكون إلى وقته الحاضر: قصص دافني التي تحولت إلى شجرة غار بينما كانت تتفادى ملاحقات أبوللو، ولمسة ميداس الذهبية، وتحول يوليوس قيصر إلى إله عند موته، والعديد غيرها. كما أورد أوفيد خرافات أخرى في عمله «كتاب الأيام»، وهي قصيدة طويلة عن التقويم الروماني واحتفالاته الدينية المختلفة، حررها فريزر بنفسه وترجمها إلى عمل بارز آخر في مجلدات عدة.

على مدار الأعوام المائة الأخيرة بُذل قدْر كبير من التنظير في سبيل تفسير هذه الخرافات. على سبيل المثال استكشف سيجموند فرويد جذور الميثولوجيا الإغريقية وعَمَل النفس البشرية في الوقت الذي كان يتدبر فيه قصصًا مثل زواج أوديب بأمه بعد أن قتل والده (ومن هنا جاءت «عقدة أوديب»)، أو افتتان نارسيسيوس بنفسه، والذي أُغرم بصورته المنعكسة على صفحة الماء (ومن هنا جاءت «النرجسية»)، وهو حدث لا يُنسى في قصيدة أوفيد. إن المعاني الموجودة في هذه القصص، رواياتِها وتأويلاتِها المتباينة، تتزايد، الزائف منها والملهَم. وظاهرةُ «كرة الثلج» هذه دفعتْ أولئك الذين يدرسون اليونان وروما الكلاسيكيَّتَين إلى إعادة التفكير، مرارًا وتكرارًا، ليس فقط بشأن ما كانت تعنيه الخرافات من قبلُ، ولكنْ أيضًا بشأن الكيفية التي اختلفتْ بها عن تأويلاتها اللاحقة (وتعمقت بواسطتها). على سبيل المثال، ما الفارق الذي يُحدثه أوديب فرويد بالنسبة لقراءتنا لمسرحية سوفوكليس «أوديب ملكًا»؟ هل بات حتميًّا علينا الآن أن نقرأ ما كتبه سوفوكليس في ضوء تأويل فرويد؟

لكنْ بالنسبة لفريزر وجِيلِهِ، كانت هناك قضايا أخرى على قائمة أهدافهم من وراء دراسة الميثولوجيا والثقافة الإغريقية، وخاصة قضية الدين. في سنوات ترعرُع فريزر في أواخر القرن التاسع عشر، كان التراث الكلاسيكي يُدرَس في إطار مؤسسات مسيحية بالأساس. كانت الجامعات صغيرة الحجم ومحجوزة إجمالًا للنبلاء وطلاب الدرجات الكهنوتية، وكان أغلب المدرِّسين من القساوسة. كان مجْد اليونان وعظمة روما كلها تقريبًا إنجازات وثنية. ورغم سيطرة الكنيسة على تعاليمها، استطاعتْ دراسة التراث الكلاسيكي أن تقدم سبيلًا لفهم العالم بمنأًى عن المسيحية. والأهم من ذلك أن سلطة التراث الكلاسيكي الوثني أمكن استخدامها في تصويب نطاق كامل من النُّهُوج الراديكالية المتعارضة مع المؤسسة المسيحية الرسمية.

خضعَتِ الخبرة الدينية للعالَم القديم لدراسة مكثفة، من خرافات الأرباب والربات إلى طقوس تقديم القرابين الحيوانية على الملأ والنطاق العريض للعادات والتقاليد المحلية الغريبة. إن العوالم اليوتوبية التي حَلم بها أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد ووصَفها تحديدًا في محاورتَيه «الجمهورية» و«القوانين»، شجعَتِ المفكرين الراديكاليين على تأسيس فلسفة تعليمية علمانية على نحوٍ صِرف وتقويتها. وقد وجدَتِ القِيَم الحياتية والخيارات التي حرَّمتْها المسيحية دعمًا وزخمًا سياسيًّا في ممارسات ومناقشات الإغريق والرومان. وهكذا، على سبيل المثال، استُخدمتْ مناقشة أفلاطون لطبيعة الحب والرغبة، «الندوة»، في تبرير أشكال معينة من المثلية الجنسية الذكورية؛ فأفلاطون لا يأخذ العلاقات الجنسية بين الرجال والصبيان كأمر مسلَّم به وحسب، وإنما (شأن معاصريه الأرستقراطيين الآخرين) صوَّرها على أنها أعلى وأنبل صور الرغبة الجنسية.

وقد وُجدتْ لكل الأمور المستغرَبة، من حق التصويت الشامل والديمقراطية، إلى النباتية ووحدة الوجود وحرية العلاقات الجنسية دون التقيد بالزواج واليوجينيا والإبادة الجماعية، سوابقُ ووجودٌ نافذ في التراث الكلاسيكي. ومن قَبِيل المفارقة الصارخة أن يُفكر علَّامةُ أواخرِ القرن التاسع عشر ودارسُ التراثِ الكلاسيكي، نيتشه، على نحو غريب في أن الكون موجود في حالة شَدٍّ بين التحكم «الأبوللوني» والتحرر «الديونيسي»، وذلك على أساس النصوص ذاتها التي درسها دارسو التراث الكلاسيكي بهدف وضوح عباراتها وجدِّيَّتِها الأخلاقية الراقية المفترضة.

في هذا العالم، قد تَعِدُ زيارةٌ لمعبد أبوللو المغيث في جبال أركاديا كلَّ شخص بتقديم نكهة الإثارة التي يختارها، بينما يعمل باوسانياس (و«معاونه» المعاصر فريزر) عَمَلَ المرشد للعالم البدائي المختلف قبل مجيء المسيح. كان في مصلحة الكثيرين، بالطبع، أن تظل أجزاء كبيرة من هذه الثقافة الوثنية محفوظة بأمان من أجل «الحضارة». وربما تكون التكلفة هي إعادةَ التأويلِ أو التهذيبَ أو حتى، كملجأ أخير، حذْفَ تلك الجوانب من الأدب الكلاسيكي التي لا تتوافق مع الصور الفيكتورية للثقافة المتحضرة. وهكذا، فإن أفكار «الحب الأفلاطوني» و«العلاقات الأفلاطونية» مشتقَّةٌ من قراءات لأعمال أفلاطون لا يستطيع أحدٌ اليومَ أن يؤيدها؛ حيث الصفةُ «أفلاطونيٌّ» هي نتاجٌ لتاريخ من التأويل لفلسفة أفلاطون. إن الجرائم والمعاناة البشعة الموجودة في التراجيديا الإغريقية كان يُنظَر إليها على أنها حكايات أخلاقية رمزية، بينما نصوصُ الكاتب المسرحي الكوميدي أريستوفان، المُعدَّة للاستخدام في المدارس والجامعات، عادةً ما كان يُحذف منها الدعابات الجنسية الصريحة والفاحشة التي كانت علامة مميزة لكتاباته. بل كان من الممكن تحويل الشخصيات الوثنية إلى مسيحية قبل ظهور المسيحية. ولم يكن دانتي هو الوحيد الذي وَجد أن فرجيل يستحق مكانًا مكرمًا في مملكة المسيح، على أساس أنه كان يتمتع ﺑ «روح مسيحية طبيعية»، وإنما واصَل الكثيرُ من باحثي القرن التاسع عشر تأويلَ إحدى أوائل قصائده، والمكتوبة قبل مولد المسيح بأكثر من جيل كامل، على أنها «مسيحية»، من حيث إنها تتنبأ بمولد المسيح. وعلى أي حال، كان بمقدور أي باحث يتبنَّى نهْج فريزر أن يأمل دومًا أنْ يجد، بين ثنايا العالم الكلاسيكي، «آثارَ» و«بقايا» الوحشية الجامحة والغرابة.

تمخَّض عن شرح فريزر لدليل السفر الجافِّ غير المثير الذي وضعه باوسانياس سردٌ شنيع لحياة الحيوان البشري بالقرب من «أصله»، قبل أن تَكبَح «الثقافةُ» جِماحَ ذلك «الوحش» غير المتحضِّر. وإذا كان باوسانياس قد حنَّ إلى أيام مجد أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد فإن فريزر، من جانبه، سافر بالزمن إلى الوراء كي يجد الحالة الطبيعية للبشرية، والتي لم تختلف في نظره في أيام بلاد اليونان الأولى عن البلاد المتخلفة المستعمرة في القرن التاسع عشر التي يقطنها «الهَمَج». ربما انتهتِ القصة بانتصار العقل الأوروبي المسيحي الحديث، لكنْ في نظر الكثيرين فإن استخدام هذا العقل من أجل النظر للماضي فيما دون سطح الحضارة الكلاسيكية كان هو مصدر الجذب في حد ذاته. ومن شأن الجمع بين الحكايات المتقلبة على نحو مثير، والعنيفة على نحو مقزِّز للميثولوجيا الإغريقية، وبين الملاحظات الخاصة بالممارسات الشاذة أو الدينية الغامضة التي تتبدَّى لنا من بين ثنايا وصف اليونان الذي قدمه باوسانياس؛ أن يسمح للخيال بأن يشطح بقدْر ما. ولا يزال هذا يحدث إلى الآن.

لكنْ بغضِّ النظر عن الروح الكامنة خلف عملية التقصِّي، فإن بحث عبارة واحدة من نصٍّ كلاسيكي يتضمن التواصل مع مجموعة من عمليات البحث والتقصِّي السابقة. وفي موضعٍ ما من قصة دراسة التراث الكلاسيكي تلتقي أعظم نظريات الوجود الشامل مع أشد عمليات الإنفاق الحريص للطاقة على التحليل الدقيق لكلمات أُخطِئَ فهمُها في مخطوطات غير جديرة بالثقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤