الفصل الخامس

المشاعر

مشاهد في التخيل

(١) داخل العقل

إذا شاهدت فيلم «البارجة بوتيمكين» لمخرجه سيرجي أيزنشتاين حول تمرد بحارة البارجة بوتيمكين عام ١٩٠٥ أو تأملت بعضًا من تسلسل لقطاته (والتي سأصف إحداها بعد قليل) فسوف تتكون لديك لمحة شائقة عن الطريقة التي تنبني بها المشاعر التي يثيرها القَصص الخيالي داخل العقل. قدم أيزنشتاين فيلمه عام ١٩٢٥ ليكون فيلمًا وطنيًّا سياسيًّا يخاطب به جمهورًا سوفييتيًّا، ولكنه صنعه كذلك ليستكشف الأثر الذي تحدثه تجاورات لقطات الأفلام بعضها مع البعض.

fig13
شكل ٥-١: لقطة مقربة من فيلم «البارجة بوتيمكين» لمخرجه سيرجي أيزنشتاين يظهر فيها طبيب السفينة ممسكًا نظارته الطبية، وقد طوى العدستين ليستخدمهما معًا عدسة مكبرة لجانب من اللحم تظهر عليها يرقات كبيرة للعين المجرَّدة. (المصدر: آر آي إيه نوفوستي/توبفوتو.)

يبدأ الفيلم ببحارة البارجة ينهضون من شبكات نومهم. وبعد ذلك ترى جانبًا من ذبيحة معلَّقًا، من الواضح أنه من أجل إطعام البحارة، ويظهر جليًّا للجميع أن اللحم متعفن، ويبدأ البحارة في التذمر، فيُستدعى طبيب السفينة.

يرجع فيلم «بوتيمكين» لعصر السينما الصامتة؛ ولهذا يظهر ما تقوله الشخصيات مكتوبًا على الشاشة. يقول أحد البحارة بعد مرور خمس دقائق من أحداث الفيلم (في تعليق يظهر على الشاشة): «يستطيع اللحم الزحف على سطح السفينة وحده.» يلي ذلك خمس لقطات متسلسلة تستغرق مجتمعة إحدى عشرة ثانية، وفيما يلي موجز لهذه اللقطات (مع الزمن التقريبي لكل لقطة بين قوسين):
  • (١)

    لقطة جماعية: جانب من اللحم على يسار الشاشة بينما يحتل منتصف الشاشة ويمينها صف من أوجه البحارة المتجهمة نوعًا ما، وهي تشيح بأنظارها عن اللحم (ثانية واحدة).

  • (٢)

    لقطة جماعية: يظهر الطبيب على يسار الشاشة وهو يفحص اللحم ويخلع نظارته الطبية بينما يتابع بحار في الجانب الأيمن ما يفعل (أربع ثوانٍ).

  • (٣)

    لقطة مقرَّبَة: تطوي يدا الطبيب نظَّارته الطبية؛ ليصنع من عدستيها عدسة مكبرة واحدة (ثانيتان).

  • (٤)

    لقطة مقرَّبَة جدًّا: تظهر عين الطبيب من خلال العدستين اللتين طواهما لصنع عدسة واحدة مكبرة (ثانيتان).

  • (٥)

    لقطة مقرَّبَة: يد الطبيب تمسك بنظارته المطوية (العدسة المكبرة) فوق اللحم الذي تظهر عليه دون مساعدة العدسة المكبرة عشرات اليرقات الكبيرة وهي تزحف (ثانيتان؛ الصورة الثابتة الواردة في بداية هذا الفصل مأخوذة من هذه اللقطة).

على الرغم من أن هذه هي الأفلام، فالحركات الرئيسية لا تحدث على الشاشة وإنما في المساحات بين اللقطات؛ داخل عقل الجمهور.

إن موضع النقاش الأساسي هنا لا يتعلق بتسلسل الأحداث، وإنما بتدفق مشاعر المشاهدين. وبأخذ هذا في الاعتبار، لننظر بإيجاز في ثلاث لحظات من تطور لغة الفيلم.

استُخدمت في أوائل الأفلام كاميرا ثابتة سجَّلت تحركات الممثلين، وكأن الكاميرا مثبَّتة أمام مسرحية تُعرَض على خشبة مسرح. وجاء أول تطور ممَيَّز في صناعة الأفلام عندما بدأ تركيب المشهد من مجموعة مختلفة من اللقطات، وهو الأسلوب الذي استُخدِم في فيلم «سرقة القطار الكبرى» عام ١٩٠٣، ويعتبر علامة فارقة. يستغرق الفيلم ١٢ دقيقة، ويتكون من لقطات مسجَّلَة في أوقات مختلفة ومُركَّبَة معًا. وقد صنعه إدوين بورتر الذي يُنسَب إليه في العموم الفضل في اختراع تحرير الأفلام. يشتمل هذا التحرير (المونتاج) اليوم على انتقاء أيٍّ من اللقطات سيضمها الفيلم من بين مجموعة من اللقطات؛ يزيد عددها أضعافًا على عدد اللقطات التي تظهر في الفيلم النهائي. ويشمل التحرير كذلك تنظيم هذه اللقطات بالترتيب. وهكذا يصبح الفيلم بالوظيفتين اللتين حددهما رومان جيكوبس وهما الاختيار والتركيب. اللقطة الثانية من فيلم «سرقة القطار الكُبرى» (والتي جاوزت مدتها الدقيقة بقليل) هي لقطة خارجية لقطار أثناء توقفه عند برج مياه، والتزود ببعض الماء منه، ثم أثناء تحرك القطار مرة أخرى، تصعد عصابة من اللصوص على متنه. اللقطة التالية لعربة الأمتعة بالقطار من الداخل، وفيها يطلق اللصوص النار على الحارس ويقتلونه. يتلقى المشاهدون هاتين اللقطتين في تسلسل حكائي، ولا يخطر ببالهم أنهما مأخوذتان في أوقات مختلفة، كما لا يخطر ببالهم أن المنظر الداخلي لعربة الأمتعة ليس جزءًا من قطار، ولكن موقع تصوير أفلام. ما حدث من الناحية العاطفية هو تصوير حادث صادم، وإطلاق النار، وتعاطف الجمهور العميق تجاوبًا معه.

أما اللحظة الثانية من تطور لغة الفيلم فقد وقعت في مرحلة ما خلال العقد الثالث من القرن العشرين، حينما فعل ليف كوليشوف ما يلي: حصل كوليشوف على لقطة (مُسجَّلَة قبل بضع سنوات) لوجه نجم أفلام شهير وهو خالٍ من أي تعبير. ثم حرَّر سلسلة من اللقطات تظهر فيها لقطة لطبق حساء تليها لقطة وجه الممثل، ثم لقطة لطفلة تلعب بدب دمية، تليها لقطة وجه الممثل نفسها، ثم لقطة لامرأة متوفاة ترقد في نعش، تليها لقطة وجه الممثل نفسها. وقد قيل إن الجمهور قد تأثر بالتمثيل الرائع للنجم الشهير، سواء في تعبيره عن جوعه ورغبته في تناول الحساء، أو سعادته لرؤية الطفلة وهي تلعب بالدمية، أو حزنه العميق عندما نظر إلى المرأة المتوفاة. وقد عُرِفت هذه التجربة باسم تأثير كوليشوف.١ من الناحية العاطفية، يصبح الجمهور مستغرقًا فيما يظنون أن الممَثِّل يشعر به.
وثالثًا يأتي أيزنشتاين الذي تتلمذ على كوليشوف لفترة قصيرة.٢ يعد ذلك التسلسل المكوَّن من خمس لقطات من فيلم «البارجة بوتيمكين» (أعلاه) نموذجًا مثاليًّا لعمل أيزنشتاين. هذا التسلسل ليس من النوع الذي يمكن أن يشاهده الإنسان في الحياة العادية؛ لأن كل لقطة مأخوذة من موقع مختلف، وليس في إمكان أي أحد التحرك بين تلك المواقع المختلفة في لحظة واحدة؛ ولهذا فإن هذا التسلسل ليس طبيعيًّا، إنه مدرك من المخرج والمحرر بعناية، بينما يتولى المشاهد تكوين المعاني. وقد أطلق أيزنشتاين على هذا التأثير اسم «المونتاج» ويُقصد به وضع كل صورة فوق الأخرى، بحيث تبنى المعاني التي لم تكن حاضرة في أيٍّ من اللقطات الفردية من هذه التجاورات.٣ ويمثل هذا التأثير تقدمًا على رؤية مشاعر الممثل في تأثير كوليشوف. ما يحدث من الناحية العاطفية، أننا نحن الجمهور نشعر بالاشمئزاز داخل أنفسنا.
للأفلام لغتها، فهي ليست مجرد نسخة مما كان يمكن أن تراه إذا كنت حاضرًا في المشهد، وهو ما أثبتته شيرمين إلديرار وزملاؤها بأسلوب مذهل، عندما درسوا مجموعة من الأشخاص يعيشون في إحدى المناطق النائية في تركيا، ولم يسبق لهم أن شاهدوا الأفلام أو التليفزيون قط.٤ كما قارن الباحثون فهم هؤلاء الأشخاص بفَهْم آخرين يشاهدون الأفلام والتليفزيون منذ خمس سنوات، وفَهْم آخرين يشاهدونهما منذ عشر سنوات أو يزيد. وعُرِضت على المشاركين في الدراسة مَقاطع ضمَّت عناصر من لغة الأفلام؛ مثل: القطع القافز (لقطتان متجاورتان للشيء نفسه من موقعي تصوير مختلفين)، ولقطة الدوران الأفقي (وفيها تتحرك الكاميرا بحيث يتحرك المشهد إلى أحد الجانبين عبر الشاشة)، واللقطة التأسيسية (وفيها يكون هدف اللقطة هو تأسيس السياق، كتصوير المنظر الخارجي لإحدى البنايات متبوعًا بلقطة للممثلين داخل البناية)، والحذف الإيجازي (وهو إسقاط شيء من تسلسل الأحداث أو الحبكة)، والمونتاج المتوازي (وهي لقطات لأشياء تتعلق بموضوع واحد، ولكن تحدث في أماكن مختلفة للتعبير عن وجود علاقة بينها).
تمكَّن كل المشاركين في الدراسة من فَهْم معاني الحذف الإيجازي والمونتاج المتوازي، إلَّا أن المشاهدين الذين لم يسبق لهم مشاهدة أفلام على الإطلاق، وهؤلاء الذين يشاهدونها منذ خمس سنوات فقط لم يستوعبوا معاني القطع القافز ولقطات الدوران الأفقي واللقطات التأسيسية، بينما فهم الأشخاص الذين يشاهدون الأفلام والتليفزيون منذ عشر سنوات أو أكثر المعاني المرادة من جميع تلك الأساليب؛ ولهذا يمكن القول إن الأفلام لغة، استغرقت وقتًا لتتطوَّر،٥ وتستغرق وقتًا لتعلُّمها.

غير أن لغة الأفلام عندما يتعلمها صُنَّاع الأفلام ومشاهدوها تتيح صنع تسلسلات من اللقطات، تكون العلاقات بين الصور فيها هي تحديدًا ما تتطلبه عملية سَبك سوزيت الفيلم (أو بنية خطابه)؛ فتوضَع الكاميرا في المكان المناسب بالضبط وتكون في اللحظة المناسبة بالضبط لتسجيل كل حدث مهم في الحبكة، ولتوحي بتدفق معين من المشاعر. وهكذا، ومع بدء فيلم «البارجة بوتيمكين» نرى لمحة من حياة البحارة على السفينة، ونبدأ في الشعور بشيء من التعاطف معهم. وبعد ذلك، وفي التسلسل التالي من اللقطات الذي يتواصل لمدة إحدى عشرة ثانية وينتهي بلقطة اليرقات على اللحم، تتصاعد الشفقة بداخلنا، ونشعر نحن المشاهدين بالاشمئزاز من أجل أنفسنا ومن أجل محنة البحارة.

(٢) نظرة اشمئزاز

من المقبول بوجه عام أن أحلام القصص الخيالية تتعلق بالمشاعر. بل قد يمكن القول إن أغلبها يتعلق بالمشاعر؛ فلماذا تحتل المشاعر هذه الأهمية المحورية؟

عادةً ما نتبيَّن مشاعر الآخرين من تعبيرات وجوههم وأصواتهم، وكذلك من إشاراتهم وأفعالهم. وتعبير الاشمئزاز الذي يرتسم على الوجه مميز؛ بل ويقال إنه معروف في جميع أنحاء المعمورة،٦ ويرتسم بانقباض العضلات الرافعة للشفة العلوية على جانبي الأنف؛ فيتجعد جلده وترتفع الشفة العليا. وبإمكانك النظر إلى المرآة وتخيل شيء مقزز لترى بنفسك كيف يرتسم تعبير الاشمئزاز على وجهك. قد تظن أنه من أجل التعبير عن الاشمئزاز على الشاشة لا يوجد أسهل من جعل الممثل يرسم هذا التعبير على وجهه. لكن فكرة القصص الخيالي، وفكرة الأفلام، وبالطبع فكرة كيفية تبيُّن المشاعر جميعها أكثر تشويقًا بكثير من هذا.
على الرغم من أن الشخصيات في القَصص الخيالي النثري وعلى المسرح وفي الأفلام تُقدَّم على أنها تمتلك مشاعر، إلا أن مشاعرها تلك ليست هي الأهم.٧ لو افترضنا أن صانع الفيلم أظهر ممثلًا وقد رسم تعبير الاشمئزاز على وجهه، فسنعتقد أن الشخصية تشعر بالاشمئزاز. كم هو أفضل للمشاهد أن يشعر بالشعور بنفسه! كان هذا جزئيًّا هو الغرض من تجربة كوليشوف مع وجه الممثل الحيادي ووعاء الحساء والطفلة التي تلعب والمرأة المتوفاة، بل وكان هو الهدف من المونتاج الذي أجراه أيزنشتاين في المشهد الذي ذكرناه من فيلم «البارجة بوتيمكين». إننا نحن الجمهور من نحس بالمشاعر في أي فيلم ناجح من أفلام القصص الخيالي.
fig14
شكل ٥-٢: صورة استُخدمت في تجربة أجرتها بولا نيدنثال وزملاؤها (٢٠٠٩، ص١١٢٨، الشكل ٣) لتوضح للمشاركين كيفية الإمساك بقلم في الفم بطريقة تمنعهم من رسم أي تعابير على وجوههم تعكس الحالات الشعورية المعبرة عن الكلمات التي يقرءونها. وحينما أمسكوا القلم بهذه الطريقة قلَّت دقتهم في الحكم على الكلمات الدالة على التعابير الشعورية التي طلب منهم قراءتها. (من دراسة نيدنثال بي إم، وفينكلمان بي، ومونديلون إل، وفيرمويلن إن (٢٠٠٩). تجسيد مفاهيم الشعور. «جورنال أوف برسوناليتي آند سوشال سيكولوجي» ٩٦، ١١٢٠–١١٣٦، الشكل ٣، ص١١٢٨.)
وترجع الأبحاث التي استهدفت شعور الاشمئزاز لما قبل ظهور الأفلام. لحظه تشارلز داروين، وكتب عنه في كتابه «التعبير عن المشاعر». ووصف كيف أنه أثناء رحلته على متن السفينة «بيجل» لمس أحد السكان المحليين لجزيرة تييرا ديل فويجو بإصبعه بعض اللحم المحفوظ الذي كان داروين على وشك تناوله. وحينما وجد الرجل أن اللحم كان طريًّا عبَّر عن اشمئزازه. سجَّل داروين أنه بالرغم من أن يدَيِ الرجل بدتا نظيفتين، فقد أفقده هذا شهيته لغدائه تمامًا. كذلك أظهرت دراسة حديثة — استُخدِم فيها التصوير العصبي — أن المنطقة الدماغية المستخدمة في التعرف على تعابير الوجه عن الاشمئزاز هي نفسها المنطقة المستخدمة في الشعور بالاشمئزاز.٨ ولذا، حينما نتعرف على اشمئزاز الآخرين، نفعل ذلك من خلال خلق خبرة الاشمئزاز أو محاكاتها شعورًا داخِلَنا. لم يكن ما أفقد داروين شهيتَه لغدائه هو لمس أحد الأشخاص اللحم المحفوظ. كان شعوره هو نفسه بالاشمئزاز الذي عكَس الشعور ذاته لدى الرجل الذي لمس اللحم.
من جانب آخر، وُجد أن الاشمئزاز من منظر شيء ما من المتوقَّع أن يرفض الإنسان تناوله — كلحم غزته اليرقات أو شيء لمسه شخص آخر — هو نفسه رد الفعل الذي يحدث عند الاشمئزاز معنويًّا، وهو رفض الأفعال غير المقبولة أو الظالمة الصادرة عن الآخرين.٩ وقد كان أيزنشتاين سعيدًا بطرح مثل هذا الرابط بين الطعام المقزِّز والظلم. وهكذا صارت الأفلام من خلال عنصر التجاور بين اللقطات وسيطًا ممتازًا للإيحاء بالعلاقات بين الأشياء والأشخاص والأفكار الشعورية.

حينما نشاهد فيلمًا، أو نتفاعل حقًّا مع أي قصة خيالية، نعيش تدفُّقًا من الشعور المتعلِّق بالأحداث؛ فنحن مَن نجمع تلك الأحداث معًا ونبني منها شيئًا له معنًى لدينا، ثم نحس بالمشاعر الناتجة عن ذلك.

(٣) المشاركة الوجدانية والتماهي

يميل المرء عندما يرى شخصًا آخرَ يبتسم أن يردَّ عليه الابتسام، وعندما يرى شخصًا آخرَ عابسًا أن يعبس هو الآخر. تُسمى هذه الظاهرة بالانعكاس، وهي أحد أشكال المحاكاة، وتتصل بفكرة الخلايا العصبية المرآوية التي ناقشتها في الفصل الأول. وقد انتهت التجارب إلى أن الانعكاس يحدث مع العديد من المشاعر. على سبيل المثال، عندما نظر أشخاص بالغون إلى تعابير وجهية للسعادة أو الغضب ارتسمت على وجوههم بعفوية تامة تعابير عكست تلك التعابير التي رأوها.١٠ وُجد كذلك أنه عند قراءة الناس كلمات تُعبِّر عن معانٍ شعورية معينة مثل «يبتسم» و«يبكي» و«يعبس» فإنهم يُنشِّطُون في وجوههم العضلات المسئولة عن عمل التعابير المقابلة.١١ وتفيد هذه التجارب أن التعرُّف على المشاعر لدى الآخرين، وكذلك حينما نقرأ عنها في قصة أو نرى شيئًا ذا دلالة شعورية في فيلم، ينطوي عادة على حدوث عملية الانعكاس. ويشتمل الانعكاس على المشاركة الوجدانية. نستطيع أن نتعرف على المشاعر بإحياء خبراتنا الخاصة المشابهة، وتعابيرنا الدَّالَّة على المشاعر المماثلة.

المشاركة الوجدانية — مشاركة شخص آخر في المشاعر — عامل حيوي في التفاعل الاجتماعي. وعلى الرغم من أن عُمْر المصطلح مائة عام فقط، فإن آدم سميث ضمَّن سماته (منذ ٢٥٠ عامًا) في كلمة أخرى أكثر رحابةً في مدلولاتها هي «التعاطف» الذي رأى أنه العنصر اللاحم الذي يضمن تماسك المجتمع.

أما في العصر الحديث، وعلى أساس من الأبحاث الحديثة حول تصوير الدماغ، وُصِفَت المشاركة الوجدانية بأنها تشتمل على: (أ) وجود شعور لدى الإنسان (ب) مشابه على نحو ما لشعور شخص آخر (ﺟ) ويُستثار هذا الشعور لدى الإنسان من خلال ملاحظة مشاعر الشخص الآخر أو تخيلها، ويشمل (د) إدراك أن هذا الآخر هو مصدر مشاعر المرء نفسه.١٢
تشير نتائج الدراسات التي أجريت على انعكاس المشاعر، في إطار المشاركة الوجدانية، إلى أن ملاحظة التعابير الشعورية لدى الآخرين لا تحدث من منظور أن تلك التعابير حالات يراها المرء بكل بساطة في العالم من حوله، مثلما يرى شجرة أو عمود إنارة، ولكن باعتبارها سُبُلًا تعاطفية للتآلف مع الآخرين. فالمشاركة الوجدانية لم تتطور بين البشر مؤخَّرًا، بل هي إحدى أقدم سمات الثدييات الاجتماعية.١٣ إنها جوهرية للحياة الاجتماعية.

وقد وصف ألفين جولدمان سبيلين لحدوث المشاركة الوجدانية. أولاهما ببساطة هي التعرف على تعبير شعوري، وهي السبيل التي يصفها بأنها تتضمن مستوى منخفضًا من قراءة العقل؛ أي أن ينسب المرء شعورًا معينًا للشخص الذي أظهر تعبيرًا. ويعتمد التعرف كما يقول على القدرة على الإحساس بالشعور المقابل (محاكاته) داخل المرء نفسه (كما يحدث في الانعكاس).

وقد عبَّر لودفيج فيتجنشتاين عن هذا المنظور بقوله:
نرى مشاعر … لا نرى التواءات وجهية، فنستدل منها أن ذلك الشخص يشعر بالسعادة أو الحزن أو الملل. نصِف الوجه مباشرةً بأنه حزين أو مشرق أو ضَجِر، حتى عند عجزنا عن التعبير عن الملامح بأي وصف آخر.١٤

وبأسلوب آخر فإن قراءة العقل تعرض علينا مباشرةً خبرات من نوع يرتبط بتفاعلاتنا مع الآخرين، وليس بمكونات حركات عضلات الوجه.

حينما نرى ابتسامة على وجه شخص آخر نكون بصحبته نميل للشعور بالسعادة ونرد بالابتسام، ونكون على استعداد للتعاون معه. وعندما نرى دموعًا نميل للشعور بالحزن ونندفع لتقديم يد العون. وعندما نرى عبوسًا غالبًا ما يتولد لدينًا شعور بالغضب، ونستعد لاحتمال الصدام مع الآخر. وعندما نسمع أحدًا يصرخ مذعورًا، عادةً ما نشعر بالخوف. ففي كل حالة من هذه الحالات نتشارك مع الشخص الآخر وجدانيًّا شعورًا يؤثر علينا ويقيم علاقة بيننا وبينه.١٥ تصوَّر الأمر هكذا. في أي عرضٍ مسرحيٍّ يحفظ الممثل النص الذي هو مجموعة من الكلمات. ومهمة الممثل هي أن يستخدم هذه الكلمات، وَيُصَوِّر مشاعر الشخصية التي تدعم علاقات معينة مع الشخصيات الأخرى. ولكن في الحياة العادية يحدث العكس تقريبًا؛ إذ تمدنا المشاعر بنصوص قِوامها الارتباط وليس الكلمات — في التعاون السعيد، أو في الانفصال الحزين، أو في النزاع الغاضب، أو في الخوف المشترك وما إلى ذلك — ونضيف نحن الكلمات الملائمة في تفاعلاتنا مع بعضنا البعض. ومثال ذلك الكلمات التي تقولها تيتانيا في مسرحية «حلم ليلة صيف» لبوتوم النسَّاج (الذي تحوَّل إلى حمارٍ) بعد أن قُطِّر رحيق الحب في عينيها (ناقشتها في الفصل الأول).

ويقول جولدمان إنه حينما لا يرى المرء أو يسمع تعبير شخص عن مشاعره مباشرةً، فإنه يلجأ إلى سبيل آخر للمشاركة الوجدانية، يُطلق عليه جولدمان قراءة العقل الراقية: المشاركة الوجدانية التخيلية. وهي عملية تتكون من جزأين. في الجزء الأول منهما نستدل من خلال المحاكاة داخل أنفسنا على الشعور الذي يحس به الشخص الآخر ونعزو له هذا الشعور. أما الجزء الثاني الذي يحدث في الوقت نفسه فيتلخصُّ في أننا بسبب المحاكاة؛ نحس بشعور مشابه في أنفسنا، بطريقة تتيح التوافق الاجتماعي. ويمكن أن تتأسس قراءة العقل التخيلية هذه على مجموعة متنوعة من المعلومات حول الآخر. ويمكن أن تحدث في لحظة التفاعل نفسها، أو على المدى الأطول مع تكوين النماذج العقلية عن الأشخاص الذين نعرفهم.

تتشابه كثيرًا نوعية المعلومات التي نبني على أساسها النماذج العقلية للآخرين حينما تنبع مما نلاحظه أو نتخيله بأنفسنا عن شخص ما، وحينما تكون معلومات منقولة لنا عن طريق الأصدقاء أثناء الحديث عن أناس نعرفهم، وعندما يقدمها لنا كُتَّاب القصص الخيالية عن إحدى الشخصيات.١٦ وفي القصص الخيالي، تُشكِّل النماذج العقلية التي نقيمها للشخصيات توجهاتنا إزاءها. وبإمكان الكاتب الماهر مساعدتنا على إقامة نماذج عقلية للشخصيات أفضل من النماذج التي نقيمها نحن أحيانًا للأشخاص الذين نعرفهم في حياتنا اليومية.

(٤) خبرة الشعور في القصص الخيالية

عندنا نقرأ قصة خيالية أو نشاهد عملًا دراميًّا، فإننا نرغب أن يحرك هذا العمل مشاعرنا. وعندما نقرأ عملًا لا ينتمي إلى القصص الخيالية — عن علم الوراثة أو التاريخ مثلًا — فإننا نرغب في اكتساب معلومات جديدة. على الأقل، هذه هي الفكرة المبدئية.١٧ ولعلَّها ليست فكرة تامَّة؛ لأننا غالبًا ما ننسجم ونتأثر عند قراءة الأعمال الواقعية. لهذا، سأحاول إعادة صياغة هذه الفكرة الأوَّلِيَّة بأسلوب أفضل. تحمل المشاعر أهمية حاسمة في القصص الخيالية، وكذلك في أنواع من الكتابات مثل كتابة السِّيَر؛ نحن نتفاعل مع المسائل لأنها تهمنا من الناحية الشعورية إذ تتعلق بالناس وبالنيات وبالعواقب. ولكن المشاعر التي نعيشها ليست في المقام الأول مشاعر الشخصيات، بل هي مشاعرنا نحن في السياقات التي نتخيلها. أما في الأعمال الواقعية، فإن المسائل التي ننشغل بها قد تتضمن أشخاصًا ونيات وعواقب، ولكنها يمكن أن تكون أكثر تنوعًا، ولا حاجة لأن تكون مشاعرنا في مركزها.
كيف نفهم الشعور؟ يوجد اتفاق كبير في علم النفس على أن فهم الشعور هو عملية يحدث من خلالها ارتباط بين حدث أو شخص ما (في العالم الخارجي) واهتمام أو غرض ما (داخلي)؛١٨ والشعور هو تلك العملية التي تُضفي على الأحداث معانيها في الحياة، وغالبًا ما تُدخِل الأحداث في دائرة الوعي.
هل نستطيع معرفة كيف تُستحضَر المشاعر في القصص الخيالية معرفة أدق؟ أجْرَينا أنا وجيرالد كابتشيك وبيتر فوردرار تجربة، طلبنا فيها من المشاركين أن يقرءوا مقتطفات من مجموعة «أهالي دبلن» القصصية لجيمس جويس، وصنَّفنا مشاعر القراء إلى مشاعر جديدة (شعروا بها أثناء القراءة) وذكريات شعورية (مرتبطة بأي ذكريات أثيرت داخلهم أثناء القراءة). أحسَّ المشاركون بكلا النوعين من المشاعر. وبالمقارنة، عندما طلب من الناس أن يقرءوا قصصًا قصيرة، ثم يكتبوا حروفًا «ذ» و«ش» و«ف» (ترمز للذكريات والمشاعر والأفكار كما هو موضَّح في الفصل الثالث) سجَّل معظمهم مجموعات المشاعر «ش»، المشاعر الجديدة، علاوةً على بعض الذكريات ذات التفاصيل الشعورية.١٩ كيف تحدث الأنواع المختلفة من المشاعر؟ سأطرح في الأقسام التالية أربع طرق أساسية تحدث من خلالها المشاعر.

(٤-١) مشاعر التماهي

التفهم التشاركي الوجداني لمشاعر الآخرين مهم في الحياة الاجتماعية اليومية، وهو ينتقل مع تعديل طفيف إلى عالم القَصص الخيالي حيث يحمل اسم التماهي.٢٠

ها هو التعديل: في عملية قراءة العقل التشاركية الوجدانية اليومية، نرى ما يشعر به الآخر أو نتخيله، وفي الوقت نفسه يمكن أن نشعر نحن أنفسنا بشعور مشابه، وفي القصص الخيالي، تكون الخطوة الأولى هي أن نُنَحي أهدافنا وخططنا الخاصة جانبًا، وأن نستبدل بها أهداف الشخصية وخططها وأفعالها (كما يُبيِّنها المؤلف) داخل معالِج التخطيط لدينا. أما في الخطوة الثانية فنبدأ في الإحساس بمشاعر جديدة في ظل الأهداف والخطط التي تبنيناها، وفي إطار الظروف التي تفرضها أفعال الشخصية وآثار تلك الأفعال.

مُعالِج التخطيط هذا هو العملية التي ننظم من خلالها حياتنا ونفعل أفعالنا. ربما أقول لنفسي: «سأنتهي من كتابة هذه الفقرة ثم أعد فنجانًا من القهوة.» ما يحدث عند قراءة قصة خيالية هو أننا ننسحب من عالمنا الحالي، ونُوقِف عمل أهدافنا وخططنا وتصرفاتنا الخاصة؛ ليصبح المعالِج جاهزًا لاستقبال أهداف بطل القصة وخططه وأفعاله، ويخبر المؤلف القارئ بالخطط والأفعال التي عليه إدخالها. وهنا يحدث التماهي المبني على المشاركة الوجدانية عند إدخال أهداف الشخصية وخططها وأفعالها في معالِج تخطيطنا، فنشعر في أنفسنا بالمشاعر المرتبطة بالأفعال التي نؤديها داخل عقولنا وكأننا في مكان الشخصية.٢١

وقد أجرى توم تراباسو وجينيفر تشونج تجربة تُبيِّن كيفية حدوث هذا النوع من التماهي؛ إذ طلبا من ٢٠ شخصًا مشاهدة فيلمين هما «فيرتيجو» لألفريد هيتشكوك و«بليد رانر» لريدلي سكوت، وقَسَّماهم عشوائيًّا إلى مجموعتين. خلال التجربة أوقِف كل فيلم ١٢ مرة أثناء عرضه، وفي كل مرة يُوقَف فيها الفيلم يُسأل المشاهدون في المجموعة التي تشاهده إلى أي مدًى تسير الأحداث لمصلحة بطل الفيلم أو خصمه. وكان الهدف من ذلك تحديد مدى إدراك المشاهدين لنجاح خطط البطل وخطط خصمه وفشلها. (وقد اتَّفَقَت تقويمات المشاهدين مع تحليلات القائمين على التجربة لأفعال الشخصيات وآثارها أثناء مشاهدة الفيلمين.) أما في المجموعة الثانية فقد طُلِب من المشاهدين في كل مرة أوقِف فيها الفيلم الذي يشاهدونه تحديد المشاعر التي شعروا بها ودرجة حدَّتِها. ووُجد أنه عند سير الأحداث في صالح البطل أو ضد خصمه (حسب تقويم المشاهدين في المجموعة الأولى) كان المشاهدون في المجموعة الثانية يشعرون بمشاعر إيجابية كالبهجة أو الارتياح، في حين أنه عند سير الأحداث عكس مصلحة البطل أو في صالح خصمه (حسب تقويم المشاهدين في المجموعة الأولى) كان المشاهدون في المجموعة الثانية يشعرون بمشاعرٍ سلبية كالحزن أو الغضب أو القلق.

هذه المجموعة الثانية من المشاهدين تمثلنا نحن القراء وأفراد الجمهور. فنحن نشعر بالابتهاج أو الارتياح حين يُحسِن بطلنا المحبوب البلاء، أو نشعر بالحزن أو الغضب أو القلق عندما يُفْلِح غريمه.٢٢

غير أن ما توصل إليه تراباسو وتشونج هو مجرَّد أساسيات. فنتائج تجربتهما دليل على الصلة الوثيقة بين القصص الخيالية والألعاب؛ لأنها تنطبق على مشاهدة الألعاب الرياضية كذلك، فعندما نتعامل مع قصة خيالية أو مباراة رياضية بهذه الطريقة، فإننا نشعر ببعض التشويق والمتعة، وبعض السعادة عند نجاح بطل القصة أو فوز فريقنا، وببعض الحزن والقلق عند نجاح الخصم أو الفريق المنافس. أما الفن الأدبي فلا يسبق هذا الأثر في المعتاد. على العكس من ذلك، فإن الأدب يُفصِّله. في فيلم «فيرتيجو» على سبيل المثال — وهو أحد فيلمَي تجربة تراباسو وتشونج — يلعب دورَ البطل — سكوتي — الممثل جيمس ستيوارت أحد صنائع منظومة صناعة النجوم في هوليوود. والسبب في اختياره لتأدية هذا الدور هو شعبيته، ولأنه يواجه بعض المصاعب في بداية الفيلم، ويسهل التماهي معه. كان سكوتي محقِّقًا، وأحيل إلى التقاعد المبكر؛ لأنه كان مشارِكًا في حادثٍ أليم، سقط جراءه أحد زملائه من مكان مرتفع لاقيًا حتفه، ويعاني سكوتي الآن من خوفٍ مرَضي من المرتفعات. بعد ذلك يطلب منه أحد زملاء دراسته الجامعية أن يُراقب زوجته مادلين التي صارت تتصرف بأسلوب غريب، وهو يعتقد أن روح إحدى قريباتها المتوفيات قد مسَّتها. وهكذا قد يبدو أن الفيلم هدفه مجرد التسلية داخل قالب من الغموض.

لكن «فيرتيجو» ليس مجرد فيلم للتسلية، ولكنه عمل فنيٌّ في رأيي. مع تصاعد الأحداث نكتشف بعض السمات المريبة في شخصية سكوتي على غير المعتاد في أبطال أفلام التسلية. يصير مهووسًا بمادلين، ثم يبدأ في التصرف بأسلوب قسري، بل ويصبح منفِّرًا. وهكذا، كلما تماهينا مع سكوتي وتبنَّينا أهدافه وخططه وأفعاله نجد أنفسنا نتصرف في خيالنا بأساليب تتنافى مع ما اعتدنا عليه. فهل يمكن أن نصبح نحن أنفسنا مهووسين بشركاء حياة أصدقائنا، وأن نتصرف بقسوة؟ بما أننا ما زلنا نتماهى مع شخصية سكوتي فالإجابة هي نعم، في خيالنا.

من الوارد أن نجد أنفسنا في كل فيلم من أفلام الحركة تقريبًا، وفي العديد من القصص الخيالية نمر بمشاعر تماهٍ نصبح معها انتقاميين على سبيل المثال نيابةً عن البطل الذي أوذِيَ في الفيلم، ولهذا، نعم، نحن قادرون على مثل هذه المشاعر المدمرة. أحد الفروقات بين فيلم التسلية والعمل الفني — من وجهة نظري — هو أننا نشعر مع أي فيلم حركة بسيط بالغضب، وتنتهي القصة بإشباع رغبتنا في الانتقام، ونحن هنا نكون قد طبَّقنا مخططًا ذهنيًّا لعادةٍ لا تختلف كثيرًا عن عادة ارتداء ملابسنا كل صباح. أما في الفن، فعلى العكس من ذلك، يتغير فهمنا لذاتنا، مثل أن نكتشف في أنفسنا احتمالات كامنة معينة قد لا نعترف بها لأنفسنا في المعتاد، وقد نظن أنها موجودة فقط لدى الآخرين، فنكتشف أننا نحن أيضًا باعتبارنا أفرادًا من العائلة البشرية قادرون، ولو على مستوى عقولنا فقط، على مشاعر غير محمودة للغاية.

وإليكم موجزًا لكيفية حدوث ذلك، كما أراه. يُستغرَق القارئ من خلال عملية شعورية أوليَّة للغاية في خطط البطل ودروبه. وهذا تحديدًا هو ما يُحرك الحبكة في الغالب، ولعلَّه ما يدفعنا لتقليب الصفحات، أو يبقينا في مقاعدنا في دور السينما أو المسارح، وقد يكون هذا ممتعًا. أما في الفن فنحس بالشعور، ويتسرب إلينا معه إمكانية شيء آخر أيضًا. يمكن أن يتغيَّر أسلوب رؤيتنا للعالم، بل يمكن أن نتغير نحن أنفسنا. فالفن ليس مجرد جولة على مشاغل وانحيازات قائمة بالفعل من خلال مخطط ذهني يُطبَّق كالمعتاد، بل إنه يتيح لنا تجربة مجموعة من المشاعر في إطار سياقاتٍ لا نصادفها عادةً، والتفكير في أنفسنا بطرق غريبة علينا.

(٤-٢) مشاعر التعاطف

ثمَّة طريقة ثانية لبعث المشاعر الجديدة في نفس القارئ، وهي أن يُقدِّم الكاتب ما يُطلَق عليه النمط التقويمي، وهو نمط للأحداث قادر على إثارة المشاعر.٢٣ إذ تُثار المشاعر وفقًا لهذه الفكرة التي ترجع لزمن كتاب «الخطابة» لأرسطو نتيجة عمليات تقويم لأحداث من نوعٍ يُحتمل أن يهم الناس. تُثار مشاعر معينة نتيجة أنماط معينة من الأحداث؛ فتنشأ السعادة من النجاح أو لقاء الأصدقاء بعد الغياب، وينتج الحزن من الخسارة، والغضب بسبب الإحباط والأذى المتعمد من الآخرين، وينشأ الخوف والقلق من استشعار الخطر.

وهكذا، بالإضافة إلى التماهي، يستطيع المرء أن يحس بشعورٍ يرتبط بنمط تقويمي معين عن طريق التعاطف. ويُفهم التعاطف في الاستخدام الحديث بمعزل عن المشاركة الوجدانية (تشاطر الشعور مع شخص آخر)، ويُقصد به عادةً أن يشعر المرء بشخصٍ آخر في ورطته. والفكرة هنا تتَلخَّص في أننا نفهم الأحداث (الورطات) التي تسببت في المشاعر من أسلوب تصوير الكاتب لطريقة حدوثها للشخصية، فنتعرف على نوع الورطة ونحس بمشاعر تعاطفية مع الشخصية.

وكما بيَّنْت في الفصل الرابع، من السهل التعاطف مع الأشخاص الذين لا نعرفهم عندما يواجهون مآزق. في قصة كيت شوبان «حلم ساعة»، لا نعرف السيدة مالارد بادئ ذي بدء، ولكننا نعلم من العبارات الأولى في القصة أنها تعاني من مشكلة صحية في القلب، وأنها تُبلَّغ بأخبار وفاة زوجها، ولهذا يكون من السهل التعاطف معها.

أفضل وصف أعرفه للمشاعر التعاطفية التي يوَلِّدها القصص الخيالي، هو قول إد تان عن الأفلام أنها تبدو كآلات صُنعت خصيصى لتحفزنا على الإحساس بالمشاعر: مشاعر رقيقة في قصص الحب، ومشاعر خوف في أفلام الإثارة، وغضب في أفلام الحركة، وهكذا. ويرى تان أن هذه المشاعر مشاعر مشاهدة، والسبب في شعورنا بها أن صُنَّاع الأفلام يكسوننا أولًا بعباءة الإخفاء، ثم يأخذوننا على نحو يشبه السحر لمشاهدة مشهد ذي مضامين شعورية، وبعده مشهد آخر، وبعده آخر، فنصير كالمسافرين عبر الزمن أثناء سفرهم لزمان آخر، فنستطيع مشاهدة ما يجري، ولكن لا يكون بمقدورنا التأثير فيه بأي طريقة كانت، ونُقَيِّم مجموعة الأحداث التي تؤدي مثلًا للوقوع في الحب أو النزاع أو إلى أذى يتطلب الانتقام، ونستمتع بمتابعة ما سوف يحدث.

تتكون هذه العملية وفقًا لهذا المفهوم من جزأين: أحدهما هو إقامة المؤلفين أو صُنَّاع الأفلام أحداثًا (ورطات) من شأنها إثارة مشاعر الشخصيات، والثاني عندما نُقوِّم نحن القُرَّاء وأفراد الجمهور هذه الأحداث، ونتعرف على المشاعر التي من شأنها إثارتها. ولأننا نشهد كل ذلك، تكون مشاعرنا مشاعر مشاهدة. وقد شرح لي نيكو فريدا (وهو صاحب نظرية المشاعر التي يبني عليها تان عمله) الفكرة كما يلي. أتذكر ونحن جالسون في مطعم في بيتسبيرج على ارتفاع شاهق، نتطلَّع إلى حركة المرور بالأسفل، حين قال لي: «تخيَّل وجود حادث سيارة.» «أنت مأخوذ بالحادث، وقلق في الوقت نفسه على ركاب السيارة. لكنك لا تشعر وكأنك في السيارة، ولا تشعر بما كان يمكن أن تشعر به لو كان أطفالك هم الموجودون داخلها.»

في ظنِّي، أن مثل هذا الوصف لا بد وأن يشمل فكرة أن أنواعًا معينة من الأحداث — الحوادث، والوقوع في الحب، والشجارات وغيرها من الاعتداءات، والخيانة، والمظالم، والانحطاط، ومعاناة الخسارة — جميعها لها أثر أخَّاذ علينا. وهذا أحد أسباب اكتظاظ الأفلام وشاشات التلفزة بمثل هذه الأحداث، ومع كل حدثٍ منها نرغب في معرفة المزيد. وهذه الأحداث ليست مادة للأعمال الأدبية الشهيرة فقط، وإنما هي مادة للقصص الإخبارية كذلك. ولعلَّ مثل هذه الأحداث هي الحجر الذي يحرك المياه المجتمعية الراكدة، وسر جذبها لنا هو رغبتنا في معرفة ما سيحدث بعد ذلك.٢٤

في نظرية المشاعر التعاطفية، ينبع استمتاعنا بقصة خيالية من دخولنا عالمًا سرديًّا نشعر فيه بأناس يعانون من أحداث معينة، ولكننا في نفس الوقت نكون محصنين من الآثار السيئة لتلك الأحداث على أنفسنا أو على من نحب. ومع متابعتنا لسير القصة، نُشبِع رغبتنا في معرفة الخاتمة السردية. وهكذا عند قراءة قصة «حلم ساعة» يجذب انتباهنا أولًا وفاة زوج السيدة مالارد؛ إذ ندرك أن خبر الوفاة سوف يُحزِن السيدة مالارد، وهو ما يحدث بالفعل. ثم نتابع القراءة لأننا بسبب طبيعتنا الاجتماعية نهتم بما يحدث للناس عامةً، ومع ما يُحدثه الموت خاصةً من خرق لنسيج الحياة اليومية، نشعر بالرغبة في معرفة كيف يؤثر هذا الحدث المثير للمشاعر على الأشخاص المعنيين به. وهكذا يتولد لدينا بفضل المشاعر التعاطفية اهتمام بالشخصية ومصيرها.

وإليكم كيف وصفت جورج إليوت — من الجيل السابق لكيت شوبان — الأمر:

إن أعظم نفعٍ ندين به للفنان، سواء أكان رسامًا أم شاعرًا أم روائيًّا، هو بَسْط مشاعر التعاطف لدينا. تستلزم الالتماسات القائمة على التعميمات والإحصاءات تعاطفًا جاهزا سلفًا، وحسًّا أخلاقيًّا نشطًا بالفعل؛ لكن صورة للحياة الإنسانية كالتي يمكن أن يقدمها فنان عظيم تُفاجِئ حتى التافهين والأنانيين، وتجذب انتباههم بعيدًا عن ذواتهم، وهذا ما يجوز أن نسميه المادة الخام للحس الأخلاقي … الفن هو أقرب شيء للحياة؛ فهو أسلوب لتعظيم الخبرة ومدِّ صِلَتنا بإخوتنا من البشر خارج نطاق مصائرنا الشخصية. (ص١٩٢-١٩٣)

(٤-٣) المشاعر الأدبية

تُعَد مشاعر التماهي والتعاطف مشاعر جديدة، وتحدث نتيجة أحداث القصة. ولكن غالبًا أيضًا ما يثير القَصص الخيالي داخلنا مشاعر مبعثها ذكريات حيواتنا.

وأظن أن الهند هي منشأ النظرية المثلى حول الطريقة التي تؤثر بها المشاعر المتذكَّرة فينا فيما يتعلق بالقصص الخيالية. وفي حين يُعَد مصطلح «المحاكاة» هو المصطلح الأساسي في النظرية الأدبية الغربية، تحتل المشاعر أهمية جوهرية في النظرية الأدبية الهندية الموازية. وصاحب هذه النظرية هو أبينافاجوبتا الذي سبق أن طَرَحْت عرضه لفكرة «الدفاني» (الإيحاء) في الفصل الثالث.٢٥ وهو يُفرِّق في هذه النظرية بين «البافا» أو الشعور اليومي، و«الراسا» أو الشعور الأدبي. وتعبير «راسا» استعارة دالة على مذاق الطعام، ويُقصد بها هنا خبرة الشعور في عمل أدبي فني.

يقول المنظِّرون الهنود إن الممثل في أي مسرحية يؤدي مشاعر معينة باللفتات أو نبرة الصوت، وما إلى ذلك، وعندئذٍ يُستَحَث «الراسا» في نفوس الجمهور. والفكرة هنا هي نفسها التي ناقشناها فيما يتعلق بالتعاطف؛ إذ تُقَدِّم القصة أو المسرحية أنماطًا تقويميَّة تحدد أنواعًا معينة من المشاعر. وقد افترض المنظِّرون الهنود وجود تسعة مشاعر يومية وأدبية — «بافا» و«راسا» — أساسية هي كالآتي:

بافا راسا
المتعة الجنسية الغرامي أو المثير جنسيًّا
الضحك الكوميدي
الحزن المثير للشَّفقة أو التراجيدي
الغضب الثائر
الإصرار البطولي
الخوف المريع
الاشمئزاز أو خيبة الأمل البغيض أو البشع
الدهشة المبْهر
السكينة المسالِم

اعتبر هؤلاء المنظِّرون أن كل عمل من أعمال الفن الأدبي ينبغي أن يركز على «راسا» واحد، وأن تُبنى حبكته على سلسلة من أنماط التقويم المتمحورة حول هذا الشعور. أما في الغرب فإن الفكرة المماثلة لذلك هي الأنواع الأدبية: قصص الحب، والكوميديا، والتراجيديا، وهكذا. وحتى حينما تُبنى الحبكات على أساس «راسا» واحد، فإنها تمر عادةً بتسلسلات من الحالات الشعورية الأخرى، إلى جانب المراحل الانتقالية مثل التوجس والحيرة.

تكمن أهمية الأنواع الأدبية القائمة على المشاعر في نظرية «الراسا» في أن كل شعور أدبي ينشأ عنه مجموعة معينة من المضامين، والتلميحات المحتمَلة؛ أي «الدفاني». وهكذا، على سبيل المثال، في قصة حب (مبنية على الراسا الغرامي)، يمكن أن يسأل الواحد في مشهد يجمع بين شخصين كلٌّ منهما منجذبٌ إلى الآخر: «هل لديك كل ما تحتاجه؟» ويمكن أن يحتمل هذا السؤال دلالات قد يحتملها في قصة قائمة على الراسا البطولي.

يختلف «الراسا» عن الشعور اليومي في أن إدراكنا له قد يكون أعمق، أو كما عبَّر المنظِّرون الهنود، فإن فهمنا لمشاعرنا اليومية غالبًا ما يُحجَب عنا؛ لأن أعيننا مغطاة بطبقةٍ سميكة من الأنانية وحب الذات. ومن الأسباب الأخرى التي يسوقها المنظِّرون الهنود في أولوية «الراسا» على المشاعر اليومية أنه قادر على استحضار ذكريات من نطاق عريض من الحيوات السابقة إلى وعينا. وقد يفهم الغربيون العصريون هذا بمعنى أننا نحس في القصص الخيالية بمشاعر نتذكرها من خبراتنا الشخصية السابقة، ونتشاركها مع بقية البشر، انطلاقًا من وعينا بقرابتنا الارتقائية النشوئية وكذلك الثقافية. يمكن أيضًا استحضار مجموعة كبيرة من الذكريات إلى قصة خيالية بمشاهدة العديد من المسرحيات وقراءة العديد من الروايات.

وقد طرح ديفيد مِيول ودونالد كويكن نظرية غربية شبيهة بنظرية «الراسا»، تتناول إثارة الأعمال الأدبية للمشاعر، وفيها يقترحان أن المشاعر المستبصِرة — يسميانها مشاعر تغيير الذات — يمكن أن تحدث إذا اجتمع عنصران اثنان معًا: أولهما يوجد في عناصر النص نفسه، كخواص التغريب التي يحملها مثلًا، والآخر شخصي، كأن يكون شعورًا متذَكرًا. ويُشبِّه مِيول وكويكن هذه العملية بالاستعارة من حيث إنه في الاستعارة يمكن للشيء أن يصير شيئًا آخر. وبالمثل يقولان أيضًا إن القراءة يمكن أن ينتج عنها «استعارات للتعريف الشخصي تعدِّل من فهم الذات» (ص٢٢١). وهما يقصدان بهذا إمكانية أن يتغير شعور ما إلى شعورٍ آخر؛ ومن ثَمَّ نشعر به بطريقة جديدة. ويقدمان مثالًا لذلك من مسرحية سوفوكليس «أوديب ملكًا». كان الشعور الذي رأى سوفوكليس ضرورةً ملِحَّة لعلاجه هو الاختيال السافر في شخصية أوديب. ويمكن أن يستحضر المشاهدون بعض الذكريات المرتبطة به. ويمكن تغيير هذا الشعور في المسرحية (أو تحويله استعاريًّا) في عقول الجمهور عن طريق الشعورَين اللذين عرَّفهما أرسطو بأنهما أساس التراجيديا، وأوَّلهما الخوف على النفس، وبعده الشفقة على البطل. وما يمكن أن يحدث بعد ذلك، كما يقول مِيول وكويكن، هو أن:

الشعور المتذَكَّر … لا يبقى استنساخيًّا محضًا؛ فما يبدأ شعورًا متذَكَّرًا قد يتحول إلى شعورٍ جديد؛ فإما أن يتغير الشعور الأصلي، أو أن تتضح القيود التي كانت محيطة به بطريقة معينة تجعل شعورًا جديدًا يُولَد مكانها. وقد أثبتنا في العديد من الدراسات السابقة قوة المشاعر التغييرية، وتحديدًا بإظهار كيف تُحفِّز المشاعر الجمالية — مثل لحظات التغريب مقابل الإبراز — عملية بحث تحركه المشاعر عن تأويلات بديلة تُشكِّل — بدورها — الفهم اللاحق للشعور. (ص٢٢٩)

كتب مِيول عام ٢٠٠٨ فصلًا أشار فيه إلى أن «الراسا» له طابع أبدي؛ كما لو كان دومًا شعورًا إنسانيًّا. وإذا أمكن لي أن أعدل نظرية «الراسا» في ضوء اقتراحه، أقول إن الكُتاب والفنانين يقدمون لنا أنماط تقويم لمشاعر معينة، ونستحضر نحن — مدفوعين بالتغريب — أنفسنا وخبراتنا السابقة إلى هذه الأنماط، ونشجع أنفسنا فعليًّا على استشعار المشاعر الأدبية في خيالنا. وهكذا نعيش الشعور المستحضَر ضمن سياق جديد، فيزداد شعورنا به، ومن ثَمَّ يمكن أن نركز على النص أو الذكرى أو الطابع الأبدي للشعور بطريقة من شأنها أخذنا خارج أنفسنا. ولعلَّ التحرك بين مثل تلك الحالات هو ما يُمكِّننا من تغيير فهمنا للشعور في النص الذي نقرؤه وفي أنفسنا.

أكَّد منظِّرو «الراسا» أهمية إدخال الحس التربوي على الفن الأدبي، كما أكَّدوا خصائصه التربوية ذات الطابع الأخلاقي. إذ رأوا أن الفن ليس محاكاة للحياة بل أن الحياة المنظمة أخلاقيًّا هي ما يجب أن تحاكي الفن جيد البنية. وبوسعنا أن نضيف إلى فكرة «الراسا» ما اقترحه مِيول وكويكن من أننا نستخدم المشاعر الأدبية التي يثيرها النص داخلنا، في إطار مشاعر تغيير الذات، لاستكشاف احتمالات تعزيز الأساليب الجديدة لفهم تلك المشاعر داخلنا وتغييرها. بل ويمكن أن يحدث الاستمتاع حتى في أنواع أدبية كالتراجيديا من الفهم والبناء للإحساس بالآخرين والاستجابة لهم.

ويحمل كتاب كونستانتين ستانيسلافسكي المعَنْوَن «استعداد ممثل» أفكارًا مشابهة لذلك، يرويها ستانيسلافسكي إذ تخيل نفسه عندما كان في بداية تدريبه في مهنة التمثيل، يحْضُر دروسًا مع مخرج معروف هو — في الكتاب — ستانيسلافسكي نفسه بعد ٤٠ عامًا في دوره مديرًا لفرقة مسرح موسكو للفنون. يلحظ المدير أن أداء الممثلين في بداية التحضيرات لمسرحية جديدة يتميز بالحماس مع اكتشاف الممثلين، وهم مصدومون، الأوضاع التي توجد فيها شخصياتهم في المسرحية. ولكن مع تواصل التدريبات يصبح الأداء واهنًا، ويعكس بالكاد سلوك الشخصيات. وهنا يصوغ ستانيسلافسكي توصيته الشهيرة بأن يستحضر الممثلون من حيواتهم ذكريات لمشاعر شبيهة بمشاعر شخصيات المسرحية، وأن يستعينوا بتلك المشاعر بوصفها مادة خامًا لأدائهم.

وليست المسافة بين وصفة ستانيسلافسكي للممثلين في تدريباتهم٢٦ ببعيدة عن فكرة أن الجماهير والقراء يمرُّون هم أيضًا بمشاعر عبر الذكريات، في تجسيداتهم الشخصية للقصص؛ إذ تُقَدِّم أنماط التقويم الشعوري إشارات للذاكرة؛ بحيث يمكننا أن نستدعي المشاعر من الماضي إلى الحاضر، ونطبقها على السياقات الجديدة فنفهمها فهمًا أعمق، وربما نغيرها كذلك.

من الأفكار الأخرى المتوافقة مع فكرة «الراسا» فكرة طرحها مارسِل بروست، يقول فيها إننا نادرًا ما نندمج في خبراتنا اندماجًا كاملًا؛ إذ قد تمر هذه الخبرات سراعًا، أو قد لا نتدبرها ببساطة. ورأى بروست أنه من النادر الربط بين الخبرة ومعناها. ولكن عند حدوث ذلك — عن طريق ربط نمط الذِّكرى بمعناها مثلًا — فمن الوارد أن يخلق هذا الربط فهمًا بالغ الأثر. ويسوق بروست مثاله الشهير لهذا المعنى في فقرة في الجزء الأول من روايته «البحث عن الزمن المفقود» الذي يحمل عنوان «من جهة سوان»، وفيها يعود مارسِل — الراوي — الشاب إلى بيته ذات يوم وتقنعه والدته أن يجلس معها ويحتسي شاي الأعشاب مع كعك المادلين:

جَلَسْتُ يطبق على أنفاسي يومي المحبط، واحتمال أن يكون اليوم التالي بائسًا كسابقه، وتحرَّكَت يدي حركة آلية رافعة إلى شفتَيَّ ملعقة من الشاي كنت قد بللت فيها قطعة من كعك المادلين. وفي اللحظة التي لمس فيها الشراب ممزوجًا بالكعك باطن فمي ارتعدتُ متنبِّهًا لتغير غير عادي يطرأ عليَّ. داخلتني فجأة بهجة شهية لا علاقة لها بأيٍّ مما حولي، دون أن أملك أدنى فكرة عن سببها. جَعَلَت من فورها تقلُّبات الحياة بلا أهمية، ومصائبها آمنة، واقتضابها وهميًّا، بنفس الأسلوب الذي يغمرني فيه الحب بروحٍ غالية، بل لم تكن هذه الروح بداخلي، لقد تلبَّسَتني فصارت هي أنا. لم أعد أشعر بتواضع شأني أو أن مصيري إلى الفناء أو أن حياتي تسير تحت رحمة الظروف. فمن أين هبطت عليَّ هذه السعادة الغامرة؟ (ص٤٤)

يحاول مارسِل على مدار الصفحتين ونصف الصفحة التالية من الرواية اكتشاف سر سعادته البالغة؛ فيجرب مزيدًا من ملاعق الشاي، ولكن دون جدوى. كان واضحًا، كما قال، أن الحقيقة لم تكن في الشاي، ولكن داخله هو. ظل يجتهد طويلًا لإيجاد جواب ولكن بلا طائل، شاعرًا بشيء غامض يعْتَمل داخله ثم يتلاشى مرة أخرى. وفجأة، باغتَته ذكرى لنفسه وهو طفل يحتسي الشاي مع عمته ليوني. ولم تكن سعادته تتعلق بإحياء ذكرى طعم الشاي من جديد، وإنما كانت بسبب استرجاعه ذكريات من أيام طفولته التي تمثل حالة وزمنًا لم يفهمهما في وقتهما. أما الآن فقد بدأت طفولته ومعانيها تتكشف أمامه مثل تلك الوريقات اليابانية المطوية المجفَّفة التي توضع في وعاء من الماء بحيث إنها:

… فور أن تنغمر في الماء تتخذ أشكالًا ملونة يختلف بعضها عن بعض، فمنها ما يصير أزهارًا أو منازل أو أشخاصًا وتكون جميعًا واضحة ومميزة. ومثلها، بدأت الآن جميع الأزهار التي كانت في حديقتنا وأزهار متنزه سوان وأهل القرية الطيبون وبيوتهم الصغيرة والكنيسة وكومبراي كلها بأحيائها؛ تنبثق جميعًا بأشكالها وصلابتها من فنجان الشاي بيدي. (ص٤٧)

استدعى مذاق الشاي في فم مارسِل الشاب أثناء جلوسه مع والدته بعد يوم مملٍّ لحظةً من الماضي، ومعها بذرة معنًى صار الآن بمقدوره ربطه بطفولته، وأصبح كذلك أساس روايته. كان ذلك هو سر سعادته.

ترتبط هذه الفكرة كذلك بمناقشتي في الفصل الثالث لفكرة كيتس عن الشعر باعتباره «أشبه بذكرى» تتحدَّث عن إمكانية استشعار معنًى عميق عندما يقدم الكاتب كلماتٍ (لطبقة اللغة في العقل) يتخذها القارئ وكأنها كلماته الخاصة؛ لأنها تتَّفقُ تمامًا مع انطباع حسي لديه أو فهم معين (في طبقة البداهة والحدس في العقل).

إن الخطوة الأولى في استمتاعنا بالقصص الخيالية حسب نظرية «الراسا» للمشاعر الأدبية، تنبع أولًا من إدراكنا لأنماط من المشاعر التي سبق أن عشناها بأنفسنا (سواء في الواقع أو الأدب) في سياق جديد. بعد ذلك نُسقِط أنفسنا على ذلك السياق في خيالنا، ونعيش تلك المشاعر من جديد بأسلوب يتيح لنا فهمها فهمًا أعمق، بل وربما نغير شيئًا في أنفسنا أثناء ذلك.

(٤-٤) المشاعر المعاشة مجددًا

إذا كنت قرأت «حلم ساعة» لكيت شوبان، وكتبت على الهوامش الحروف «ذ» و«ش» و«ف» (كما اقترحت في الفصل الثالث) فمن الوارد أن تكون قد استرجعت ذكرى (ذ) عندما قرأت عن تطلُّع السيدة مالارد من نافذتها وهي تقول «حرة.» ولعلَّك استرجعت حينها ذكرى أسررت فيها لنفسك بكلماتٍ معينة، مصحوبة بشعور بالارتياح متعلِّق بموقف ما. ولعلك عندما قرأت القصة وجدت نفسك تعيش من جديد لمحة من شعور تلك الذكرى.

طرح جيرالد كابتشيك أفضل طريقة لشرح كيفية عمل هذا النوع من التذكُّر.٢٧ وتتلخَّص فكرته في أن أحد ملامح الأعمال الفنية تتمثَّل في قدرتها على استدعاء المشاعر عند مسافة معينة — تُسمَّى المسافة الجمالية — وهذه المسافة لا تكون شديدة القرب بحيث تطْغَى علينا، ولا شديدة البعد بحيث لا يكون لها أثر.

وقد بنى توماس شيف على هذه الفكرة، وافترض أننا في الحياة العادية لا نعيش مشاعرنا دائمًا؛ لأنها تحدث أحيانًا على مسافة جمالية غير مناسبة، فتكون أحيانًا بالِغة القرب مثل مشاعر الحزن لوفاةِ عزيزٍ أو غيرها من أنواع الفقدان أو مشاعر الخزي التي نعجز عن الاعتراف بها لأنفسنا أو لغيرنا، أو ربما مشاعر الإحباط أو الكره المتعلِّقة بأشياء ليس بيدنا حيلة في أمرها. وتوصف هذه المشاعر بأنها «دون المسافة الملائمة». ولذا، نتذكر بعض ملامح الأحداث التي أدَّت إليها، ولكن بطريقة لا تسمح باستيعاب المشاعر المرتبطة بها استيعابًا كاملًا في سيرة حياتنا أو في فهمنا لأنفسنا. وتعَد المشاعر الهائلة المصنَّفة «دون المسافة الملائمة» على طرف مقياس المشاعر المعاشة مجددًا من بين أعراض اضطراب إجهاد ما بعد الصدمة، حين تنقلب الحيوات كاملة رأسًا على عقب بسبب المشاركة في الحرب على سبيل المثال، أو شهود كارثة مدنية، أو التعرض لاعتداء إجرامي أو للاغتصاب. إذ يعاني المصابون بهذا الاضطراب من استرجاع لقطات من الماضي وكوابيس، ولكنهم يعجزون عن سرد الأحداث سردًا مترابطًا.

ومن الطرق الأخرى التي تحول دون استيعاب الخبرات الشعورية تمام الاستيعاب كبْتُها بالكامل. توصف حينها المشاعر بأنها «فوق المسافة الملائمة». وتظهر آثار هذا النوع من المشاعر على سبيل المثال عندما يتعرض الشخص لجرح موجع في علاقة سابقة، فيتعهد بألَّا يتعرض لمثل هذا الجرح مرة ثانية أبدًا. وعادةً ما يتمكن الشخص من تحقيق هدفه هذا بالانعزال التام عن كل أنواع العلاقات، ومن ثم عن أغلب المشاعر. والوارد أنك تعرف مثل هذه الشخصية في حياتك، وغالبًا ما تبدو منعزلة وغير متجاوبة وباردة.

يقول شيف إن وظيفة الدراما وغيرها من أنواع القَصص الخيالي هي أن تمكننا من أن نحيا من جديد، وأن نستوعب من ثم، مشاعر من ماضينا، يمكنها أن تظل رغم خروجها من دائرة الوعي ذات أثر هائل على حيواتنا، وخصوصًا على علاقاتنا. ويتيح لنا القصص الخيالي، بفضل خصائصه الأكثر انضباطًا من خصائص الحياة العادية، أن نعيش مثل تلك المشاعر من جديد، ولكن من مسافة جمالية مثلى على حدِّ قول شيف. وظيفة الكاتب في معالجة شيف هي عرض الأحداث المهمة شعوريًّا من مسافة جمالية تتيح لنا التعرف على تلك المشاعر وعَيْشها واستيعابها داخلنا.٢٨

طبقًا لنظرية المشاعر المعاشة مجددًا، فإن سر الاستمتاع بأي قصة خيالية هو ميزتها الاستشفائية، ويعتمد الاستشفاء على التقدم في إحساسنا بأنفسنا، وبقدرتنا على أن نعيش مشاعر كانت إشكالية من وجهة نظرنا. يقول شيف إن خبرتنا بالمشاعر أثناء قراءة قصة خيالية أو مشاهدتها، هي بمنزلة عيش تلك المشاعر من ماضينا مرة أخرى من مسافة جمالية أفضل. كما يقول شيف إننا حين نبكي مصير روميو وجولييت إنما نعيش مجددًا، في الواقع، حالةَ فقدٍ شخصيةً لم نتمكن من تقَبُّلِها حتى تلك اللحظة. ولعلَّ استشعارنا الحزن في المسرحية يسمح لنا بأخذ خطوة واحدة صغيرة في طريق استيعاب خسارتنا.

(٤-٥) خاتمة حول استثارة المشاعر

طُرِحَت الوسائل الأربع لحثِّ المشاعر (المشاعر الجديدة بالتماهي والتعاطف، والذكريات الشعورية مثل المشاعر الأدبية والمشاعر المعاشة مجددًا) التي ناقشناها (أعلاه) من حيث الأصل بوصفها نظريات متنافِسَة حول كيفية نشأة المشاعر في القصص الخيالية. والواضح الآن أنها ليست نظريات متعارضة، ولكنها وسائل مختلفة يستطيع الكاتب اللجوء إليها لحث المشاعر. على سبيل المثال تخيرنا (أنا وكابتشيك وفوردرار) في الدراسة التي أجريناها على المشاعر الجديدة والذكريات الشعورية (المذكورة أعلاه) فقرات من قصص جيمس جويس القصيرة تتناول؛ إما موضوعات شعورية أو وصفًا مكثَّفًا، وطلبنا من المشاركين أن يشعروا وكأنهم مكان البطل (التماهي) أو بالتعاطف معه (التعاطف). ووجدنا أن المشاعر الجديدة والذكريات الشعورية تكرَّرت بنسبة متساوية تقريبًا؛ استجابةً للفقرات ذات المحتوى الشعوري، ولكن في الفقرات ذات المحتوى الوصفي المكثَّف دفعت مشاعر التماهي القراء لاستشعار قدر أكبر من المشاعر الجديدة، بينما دفعتهم مشاعر التعاطف لاستحضار مزيد من الذكريات الشعورية. ولذلك، فإن المشاعر الجديدة والذكريات الشعورية لا تحدث بسبب النظريات البديلة، ولكن بوصفها عمليات أثناء القراءة.٢٩
وإذا وضعنا النظريات التي عرضناها في الأقسام السابقة معًا، نرى أننا لا نكون في حالة واحدة فقط أثناء القراءة،٣٠ بل إن بعض الكُتَّاب يضعونا في حالات شعورية متعددة ومختلفة في آن واحد. يُنوِّع الكُتَّاب المسافات الجمالية للنص باستخدام التغريب وغيره من الأساليب. يركز القراء الآن على جانب ما، ثم على جانب آخر، على النحو الذي وصفه رولان بارت (تناولنا هذه النقطة في الفصل الثالث). وهكذا يمكننا أن نرى أننا نتنقل داخل العديد من الحالات الشعورية المحتملة وفيما بينها مع المشاعر الجديدة مثل التماهي أو التعاطف، ومع الذكريات الشعورية في «الراسا»، أو المشاعر المعاشة مجددًا بمسافات جمالية أفضل.٣١ ونحن في تنقلنا هذا نصنع تجاوراتنا الخاصة، ونعيش المشاعر بأساليب تمتاز عمَّا في الحياة العادية. بل إن المشاعر المعاشة في القصص الخيالية قد تتسبب أحيانًا في حدوث تغييرات في أسلوب فهمنا لتلك المشاعر، وتزيد من إحساسنا بأنفسنا.

(٥) في رِحاب المجاز

تنشأ المشاعر في الحياة اليومية العادية في المعتاد مع التجاورات، مثل تجاور توقُّع مع حدث؛ ولذلك يستخدم القَصص الخيالي هذه التجاورات. ويمكن أن تحدث هذه التجاورات في القصص الخيالية النثرية على مستوى الكلمات والفقرات والمشاهد.٣٢ ويمكن أن تحدث في الأفلام على مستوى أجزاء الصور (لأشياء أو أشخاص) واللقطات (كما بيَّنتُ في بداية هذا الفصل) والمشاهد.
على المستوى الأدنى للكلمات وأجزاء الصور، تستخدم جين أوستن تجاورًا في العبارة الأولى من روايتها «كبرياء وتحامل»: إذ تجاور عبارة «الرجل متى كان أعزب وبحوزته ثروة كبيرة» مع «فهو بدون شكٍّ في حاجة إلى زوجٍ» وهذا مدهش وتغريبي.٣٣ وفي التسلسل الذي ناقشته في بداية الفصل من فيلم «البارجة بوتيمكين»، تتكوَّن الصورة الختامية من تجاور بين يد الطبيب وهي تمسك نظارته المطوية لصنع عدسة مكبرة، والعشرات من اليرقات الكبيرة التي تُرى بالعين المجردة دون الاحتياج لتكبيرها. وفي كلٍّ من العمل النثري والفيلم صدمة شعورية.

أما على مستوى الفقرات ولقطات الأفلام، فإذا تأملنا مرَّة أخرى «السونيت ٢٧» لشكسبير (التي ناقشناها في الفصل الأول) واعتبرنا أن الأبيات الثمانية الأولى (الأوكتاف أو الثُّمانيَّة التي ينطلق فيها الشاعر في رحلة عقلية إلى محبوبته) والأبيات الستة الأخيرة (السِّستِت أو السُّداسيَّة التي يتخيَّل فيها الشاعر حال محبوبته في تلك اللحظة)؛ فقرتين منفصلتَين، فإن تجاورهما ينتج عنه ظاهرة مؤثرة في السونيت، يتداخل فيها الشك والغيرة مع الاشتياق، وهو تجاور يتسبب في قلق الشاعر وسُهادِهِ. أما في تسلسل اللقطات في فيلم «البارجة بوتيمكين» فتتجاور لقطة الطبيب؛ وهو يطوي نظارته ليصنع منها عدسة مكبرة مع منظر عينه من خلال العدستين المطويتين، مع لقطة اليرقات. العدسة المكبرة لا لزوم لها. هي محاولة للتعتيم والسؤال المحير شعوريًّا هنا هو: ماذا أيضًا مما هو بادٍ للعيان في المجتمع الروسي عام ١٩٠٥ يجري تعتيمه؟

أما على المستوى الأعلى فمن أكثر أمثلة التجاور الأدبي التي أعرفها إدهاشًا فقرة من مقال لجيمس بولدوين بعنوان «عند الصليب: رسالة من مكان ما في عقلي» المنشور عام ١٩٦٣.٣٤ وإليكم الفقرة التغريبية:

يستصعب الأمريكيون البيض، مثل البيض في كل مكان، التخلي عن فكرة أنهم يمتلكون قيمة متأصِّلة يحتاج إليها السود أو يريدونها. وينكشف هذا الافتراض … بمختلف الطرق الصادمة، بدءًا من تأكيد بوبي كينيدي أن شخصًا أسود يمكن أن يصبح رئيسًا خلال أربعين سنةً، وصولًا إلى النبرة المؤسفة لتلك التهنئة الدافئة التي يخاطب بها الكثير من الليبراليين نظراءهم السود. الأسود بالطبع هو الذي صار مساويًا. (ص١٠٢)

والتجاور هنا بين مخطط الأغلبية البيضاء ومخطط الأقلية السوداء.

وفي فيلم «البارجة بوتيمكين» يتجاور مشهد اليرقات مع المشهد التالي الذي تعود فيه البارجة إلى الميناء حيث يبدأ التمرد. وهذا يوضح أن المجاورة ليست فقط بين التفاصيل، بل إنها يمكن أن تُوظَّف في طرح أسئلة شعورية لها دلالتها.

المذهل في التجاور وفي الفجوات — بين الكلمات، أو بين لقطات الأفلام، أو بين المشاهد، أو بين المخططات — هو أن ما يملأ تلك الفجوات هو عقل القارئ أو المشاهد. في تلك الفواصل، يمكن للتخيل أن يتَمدَّد.٣٥ وفيها يمكن للمشاعر — سواء مشاعر التماهي أو التعاطف، أو مشاعر «الراسا» أو المشاعر المعاشة مجددًا — وللأفكار المرتبطة بها أن تنمو، وأن يعيشها المرء من منظورات جديدة أحيانًا.
ولا أظن أن أي شخص قد أجاد التعبير عن هذا الأثر أكثر من أنطون تشيخوف عندما كتب خطابًا لصديقه وراعيه أليكسي سوفورين، وأخبره فيه أنه اعتمد في كتابة قصصه القصيرة «على افتراض أن [قراءه] سوف يضيفون العناصر الذاتية المفقودة في كل قصة.»٣٦
بينما تُعَدُّ الاستعارة (شاملةً الرمزية والحلم والمحاكاة) أساس الفن الأدبي، بوِسْع المرء الافتراض أن ما أسماه جيكوبسون القُطب الآخر — ألَا وهو المجاز — قد يكون أساسيًّا بدرجة أعمق بالنسبة إلى كيفية عمل الدماغ، وكيفية شعورنا وتخيُّلنا. وبينما قد تبدو الاستعارة قائمة على عمليات عقلية كالترميز، والترتيب، والمقارنة، وهي العمليات التي ربما تعتمد بدورها على طبقة معالجة اللغة في العقل؛ فإن المجاز يبدو أنه يقوم على مبادئ الارتباط التي تمد معالِجنا العقلي الحدسي الأكثر أساسية بالطاقة.٣٧ وتشمل هذه الطاقة طاقة الإيحاء (أو الدفاني) التي تشكل بها كلمة أو مفهوم ما نطاق المعاني ذات الصلة، ويرتبط به الفهم الأدبي في كلٍّ من الاستعارة والمجاز ارتباطًا وثيقًا. ولهذا يبدو أن المعالِج الحدسي هو مولِّد خبراتنا الشخصية.

يستعين الكاتب أو صانع الأفلام أثناء عملية الإبداع، بقدر من التعمد، على مجموعة الأصداء والارتباطات الداخلية الخاصة به، ويستكشف طرقًا للتعبير عن تلك الأصداء والارتباطات في صورٍ ومشاهدَ حقيقية يمكن أن تتجاور بحيث تُحدِث صدًى لدى القراء أو الجماهير.

وقد قال جون كيتس في خطاب إلى جون تايلور بتاريخ ٢٧ فبراير ١٨١٨ إنه: «ينبغي أن يفاجئ الشعر المتلقي من خلال المبالغة المعتدلة، وليس من خلال الفرادة.» وقد عَنَى بذلك أن الشعر ينبغي أن يشتمل على قليل من المبالغة من أجل إثارة الانتباه، ولكنه لا ينبغي أن يكون غريبًا. حينما يحقق القارئ الصلة الإبداعية، فقد يوجد شعور بالدهشة، وكذلك شعور بالملاءمة قد يكون عميقًا، وأحيانًا راقيًا. كيف يحدث ذلك؟ أحد الاحتمالات أن الكلمات تنقل العديد من المعاني الحدسية (داخل الطبقة الحدسية-الترابطية)، وتتسبب من ثم في تجاور معانٍ حدسية لم يسبق أن تجاورت من قبلُ، وبطريقة تبدو صحيحة.٣٨ تصوغ الكلمات علاقة بين المعاني الحدسية، ويشكل بصيرة. وبهذه البصيرة يستطيع المرء كذلك التمسك بالكلمات التي تحقق هذا الارتباط.

(٦) الاستكشاف والإسقاط

من أقوى الأفكار السديدة التي أنتجتها النظرية الرومانسية في الفن، التي بدأت مع كُتَّاب مثل كولريدج، فكرة طرحها لأول مرَّة روبين كولينجوود في كتابه «مبادئ الفن» حين قال إن الفن «هو» استكشاف المشاعر.

أولًا، استبعد كولينجوود الأفكار التي لا تندرج تحت تعريف الفن. يقول إنه ليس مجرَّد صنعة؛ لأن الصنعة أسلوب، ولا شك أن الفنان ينبغي عليه العمل بإتقان، إلَّا أن الصنعة وحدها ليست بفنٍّ؛ لأنها تخلو من الاستكشاف الإبداعي الضروري للفن. حينما يصنع المرء مقعدًا أو طبقًا من اللازانيا، يعرف جيدًا شكل المنتَج النهائي قبل الشروع في العمل، بل وقد يكون لديه مجموعة من الرسومات أو تركيبة أو وصفة لإرشاده. ثانيًا، يقول كولينجوود إن الفن ليس إقناعًا؛ لأن الإقناع — كما هو الحال عند إعداد اللازانيا — يتطلب وجود نتيجة معينة مقصودة يكون المراد فيها ذا طبيعة اجتماعية وليست مادية؛ إذ لا يكون العمل الفني ثمرة غرض محدَّدٍ مسبقًا للتأثير على الجمهور بطريقة معينة. ثالثًا، يقول كولينجوود إن الفن ليس تسلية أو ترفيهًا، ويصف الترفيه بأنه «وسيلة لتفريغ المشاعر بحيث لا تعوِّق الحياة العملية» (ص٧٨). وللترفيه أغراض مشروعة مثَله مثَل الصنعة والإقناع، لكن غرض الفن كما يقول كولينجوود مختلف. إنه استكشاف من حيث الأساس، ونتائجه غير معروفة سلفًا، وهو استكشاف للمشاعر تحديدًا. ويضرب كولينجوود مثلًا برجلٍ:

يعي في البداية أنه يشعر بشيءٍ ما، ولكنه لا يعي تحديدًا ماهية هذا الشعور. كل ما يعيه هو ارتباك أو إثارة تعتمل بداخله، لكنه يجهل طبيعتها. وبينما هو على هذه الحال فكل ما يستطيع قوله عن شعوره هو «أشعر … لا أعرف بمَ أشعر.» ينتشل نفسه من هذه الحالة العاجزة المثقَّلة بعمل ما نُسمِّيه التعبير عن نفسه. وهذا نشاط له صلة بما نُطلِق عليه اللغة؛ إذ يُعبِّر عن نفسه بالحديث، وله صِلَة بالوعي أيضًا؛ إذ إن الشعور الذي يُعبَّر عنه هو شعور لم يعد صاحبه جاهلًا بطبيعته. (ص١٠٩-١١٠)

هذا هو الفنان، الذي يستكشف عن طريق التعبير عن شعوره بلغة ما — قد يكون قوامها الكلمات أو الرسم أو الموسيقى — المعنى المحتمَل لهذا الشعور الذي يعتمل بنفسه أو يحركها، ولكنه غير مفهوم بعدُ.

إذا كانت اللغة التي يُعبر بها الفنان عن نفسه هي لغة الكلمات، فإن ما يفعله القارئ يتمثل في استقبال هذه الكلمات من خلال معالج اللغة داخل عقله، ويصنع ممرات تصل هذه الكلمات بطبقة الترابط والحدس في عقله؛ ومن ثَمَّ يشارك في بعض هذه المشاعر، وفي استكشاف معانيها المعبَّر عنها بلغة ما.

تتعلق فكرة كولينجوود بالفنان. وهو يعير القارئ أو المشاهد اهتمامًا أقل، ولكن بوسعنا إتمام هذه الجزئية إذا أخذنا في الاعتبار الأفكار المتعلِّقة بالخيال واستثارة المشاعر التي ناقشتها منذ قليل. إذ يتلخص ما يفعله القارئ أو المشاهد في إسقاط المعاني على العمل الفني، ولكن ليس أية معاني، بل إنه يتخيَّر من مجموعة المعاني التي يوحي بها العمل.

وفيما يلي توضيح لكيفية حدوث هذه العملية، من خلال فيلم رسوم متحركة أعدَّه فريتس هايدر وماري-آن سيمل، وناقشا آثاره على المشاهدين في ورقة بحثية نُشرت عام ١٩٤٤. لم يضم الفيلم سوى مثلث، ومثلث آخر أصغر بعض الشيء، ودائرة صغيرة، وخمسة خطوط مستقيمة تُكوِّن معًا شكل صندوق له باب متأرجح؛ يتحرك المثلثان والدائرة في أرجاء الشاشة، مع دخول الصندوق والخروج منه. وعند سؤال المشاهد عمَّا يراه، بدأ في التحدث عن تحركات المثلثين والدائرة، ولكن لم يسعْه بعد ذلك إلَّا أن يرى هذه الإشارات الظاهرة على الشاشة، وكأنها أفعال تقوم بها شخصيات لها نيات معينة، كتحركاتٍ معبِّرَة عن مطاردة، وشخصيات تدخل المنزل أو الغرفة وتخرج منها.

وقد أعَدْنا أنا ونيكولا يول صنع هذا الفيلم في متابعة لتلك الدراسة. واستغرق الفيلم الذي أعددناه ٨٧ ثانية انقسمت إلى خمسة مشاهد. وكنا نوقِف عرض الفيلم عند نهاية كلٍّ من هذه المشاهد؛ لنسأل المشاركين في الدراسة عما حدث، وكذلك عما يتوقعون حدوثه فيما بعدُ (باستثناء في النهاية). الأرقام ٠ث و٥ث و١٠ث، وما إلى ذلك (الظاهرة في الرسم ٥-٣) توضِّح عدد الثواني التي مرَّت من الفيلم مع كل وضع، أما المربعات المحيطة ببعض تلك الأرقام، فتشير إلى نهاية كل مشهد حيث أوقِفَ الفيلم لإتاحة الفرصة للمشاهدين لإصدار أحكامهم.
fig15
شكل ٥-٣: رسوم للقطات ثابتة من فيلم أوتلي ويول (١٩٨٥) المعاد عن فيلم الرسوم المتحركة الذي أعدَّه هايدر وسيمل. لم تظهر الأسهم في الفيلم، ولكنها توضِّح اتجاه تحرك المثلثين والدائرة.

وقد أكدنا في تجربة أولى ما توصَّل إليه هايدر وسيمل؛ إذ استخدم المشاركون في البداية أفعالًا غير شخصية مثل «يتحرك» لوصف ما كان يحدث، وما يتوقعون حدوثه فيما بعدُ. بعد مرور ٥٠ ثانية من أحداث الفيلم أصبحت ثلاثة أرباع الأفعال التي استخدمها المشاركون أفعالًا تعبِّر عن مقاصد شخصية (مثل «يهرب»)، أو مقاصد تفاعلية بين الأشخاص (مثل «يطارد»)، أو حالات عقلية (مثل «يحب»). وكان أحد أهدافنا من الفيلم هو إضفاء الغموض عليه بثلاث طُرقٍ مختلفة، وفي تجربة ثانية أعطينا ثلاث مجموعات مختلفة من المشاهدين ثلاثة عناوين مختلفة للفيلم نفسه. ووصف المشاهدون الذين قيل لهم إن عنوان الفيلم هو «صاحب المنزل» قصة عملية سطو؛ إذ يقوم المثلث الصغير بإلهاء المثلث الكبير الذي خرج من منزله بينما دخلت الدائرة إلى المنزل لسرقة شيء ثمين. أما المشاهدون الذين قيل لهم إن عنوان الفيلم هو «الأم القلقة» فاعتبروا أن المثلث الكبير يُمَثِّل أُمًّا تحاول منع طفلها (الدائرة) من الخروج للعب مع المثلث الصغير. بينما رأى المشاهدون الذين قيل لهم إن عنوان الفيلم هو «العاشق الغيور» أن المثلث الكبير يمثل شخصًا يرى محبوبته (الدائرة) مارَّة مع حبيب جديد (المثلث الصغير) ويحاول إبقاء حبيبته في المنزل، ولكنها تهرب مع الحبيب الجديد.

وقد ضمَّ فيلم الرسوم المتحركة عمليتَي الانتقاء (من المثلثين والدائرة والخطوط المستقيمة)، والتوليف (الحركات الارتباطية للمثلثين الكبير والصغير والدائرة، وترتيب الخطوط المستقيمة لتبدو كما لو كانت سياجًا). أما الأفعال — من سرقة أو هروب أو فرار مع الحبيب — فكانت موحًى بها، ولكنها جُسِّدت بالفعل داخل عقول المشاهدين. وقد استخدم المشاهدون لحكي قصة ما رأوه في الفيلم كلمات تُعبر عن المشاعر؛ الغضب عند سرقة شيء ما، أو القلق على طفل، أو غيرة العاشق. ومع اللقطات الختامية للفيلم عند هروب المثلث الصغير والدائرة، ظهر المثلث الكبير وهو يضرب جدران المنزل ويحطمها في يأس.

الحاصل أن الأدب قادر فيما يتعلق بالمشاعر على الاعتماد على سياقات كاملة مكوَّنة بفعل التجاورات، تستدعي تحوُّلات استعارية يمكن أن يصير فيها شعور معين شعورًا آخر. لكن مشاعر الأبطال ليست هي وحدها المعنية، ولكن مشاعر القارئ أو المشاهد كذلك.٣٩
ولعلَّ السبب الرئيسي في الأهمية البالغة للمشاعر في القصص الخيالية، هو أنها المعيار المحدِّد للوعي. يتيح تخريج عناصر معينة في العقل في هيئة كتابٍ أو شيء آخر في العالم الخارجي — وهو ما يفعله الفن — نمو الإحساس والوعي٤٠ لدى كلٍّ من المؤلف والشخص المتفاعل مع العمل الفني. وقد عبَّرَت سوزان لانجر عن ذلك قائلة:

[كان] ظهور … «الإحساس» بمعناه الأشمل، أو الوعي … أزمةً في التاريخ الطبيعي، تساوي في ضخامتها ظهور الحياة نفسها جراء عمليات فيزيائية كيميائية. وربما لم تكن الأزمة «أزمة» بالمعنى المعتاد المتعلق بوقوع حدثٍ واحد مدمِّر بقدر أو آخر، ولكنها كانت عملية ممتدة شاسعة الأثر تستغرق دهورًا لتتطوَّر. غير أنها أثناء تطورها هذا نشأت معها «الحياة» بمعناها غير المادي؛ «الحياة» باعتبارها عالمًا للقيمة. فالقيمة لا تكون إلا حيث يكون الوعي، وحيثما ينعَدِمُ الإحساس، فلا يوجد ما يهم. (ص١٦٥)

لطالما اعتُبِرَ القَصص الخيالي صنيعة الكاتب. لكن الحقيقة أنه صنيعة مشتركة بين كلٍّ من الكاتب والقارئ (أو المشاهد)، هو صنيعة مشتركة لعالم تخَيُّلي، ولكنه واعٍ، تحتل المشاعر (أو الأحاسيس على حد قول لانجر) قلبه.٤١ إن المشاعر لدى البشر هي تلك العملية التي ترتبط فيها الأحداث بالأغراض، ومن ثَمَّ بالمعاني. وما يفعله الكاتب هو تقديم التلميحات أو الإيحاءات بحيث يتمكَّن القارئ أو المشاهد من إقامة المشاهد واستبقائها في تخيُّله، وأن يعيش بنفسه خبرة التأثيرات الشعورية ذات المغزى التي تعكسها تجاوراتها. يتناول الفصل التالي الأساليب التي يُقدِّم بها الكاتب هذه الإيحاءات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤