الفصل السابع

الإصلاح والتحديات: مستقبل الأمم المتحدة

في عام ١٩٥٦، تحدث نورمان كازينز — الصحفي البارز وداعية السلام — بهذه الكلمات: «إذا أردنا للأمم المتحدة البقاء، فعلى من يمثلونها أن يدعموها، وعلى من يناصرونها أن يخضعوا لها، وعلى من يؤمنون بها أن يقاتلوا من أجلها.»1 لا يزال صدى هذه الكلمات يتردد إلى اليوم؛ فالأمم المتحدة ليست بالمؤسسة المثالية؛ إذ تشوب هيكلها العيوب، وتتسم عملياتها بالبطء، وكثيرًا ما تفتقر لوسائل التنفيذ حتى وإن كانت مصدرًا ممتازًا للأفكار. تؤدي برامجها المختلفة أعمالًا متكررة قد يكون من الأفضل أن تقوم بها وكالة مركزية واحدة. باختصار، تحتاج الأمم المتحدة للإصلاح والدعم إذا ما أردنا أن يكون لها مستقبل ذا مغزى.

هذه القضايا — إصلاح النظام والحصول على دعم دولي واسع — ليست بالجديدة أو المنفصلة بعضها عن بعض؛ فمنذ أوائل التسعينيات يدور الحديث حول الحاجة لإصلاح مجلس الأمن حتى يكون أكثر ديمقراطية وتمثيلًا للدول. أيضًا ليس من قبيل المصادفة أن يشهد العقد الأخير من القرن العشرين سلسلة ضخمة من المبادرات — أو «الخطط» — التي واجهت وظائف جوهرية في نظام الأمم المتحدة: السلام والديمقراطية (وحقوق الإنسان) والتنمية. وفي القرن الحادي والعشرين لم يمر يوم تقريبًا دون الشكوى والجدال بشأن طريقة تقديم المساعدات الإنمائية، وعدم تعزيز حقوق الإنسان على نحو فعَّال، وعمليات السلام التي لا تؤدي إلى نتائج دائمة، وقليل من الدول، أبرزها الولايات المتحدة، تعامل الأمم المتحدة كوسيلة لدعم سياساتها؛ وسيلة يمكن استغلالها‎، أو إساءة استغلالها، أو تجاهلها حسبما يتراءى لأصحاب السلطة في واشنطن.

ومع هذا، يندر أن نجد من يقترحون على نحو جدي الاستغناء عن الأمم المتحدة تمامًا؛ فمن المستحيل الاستغناء عنها، حتى وإن كانت تحتاج لإصلاح، لكن كيف يمكن لهذا الخليط المستحيل الذي يمثل المصالح المتباينة تباينًا واسعًا لكل سكان الكوكب تقريبًا أن يتحسَّن؟ ما الذي يمكن فعله لتحسين فعالية الأمم المتحدة في حماية الأمن الدولي ومساعدة المجتمعات التي مزقتها الحروب على الوقوف مجددًا على قدميها؟ كيف يمكن تغيير سياسات الأمم المتحدة الخاصة بالتنمية حتى تحسن فرص النجاح في الصراع الطويل ضد الفقر وكل آثاره الجانبية البغيضة؟ كيف يمكن للأمم المتحدة أن تحمي الأمن البشري وحقوق الإنسان بصورة أكثر حزمًا؟

(١) الحاجة للإصلاح: مجلس الأمن

كيف يمكن جعل مجلس الأمن أداة أكثر فعالية لحل المنازعات الدولية؟ كيف يمكن جعله أكثر تمثيلًا للمجتمع الدولي؟ يبدو أن مسألة إصلاح مجلس الأمن تتمحور حول قضيتين متشابكتين: حق النقض، والعضوية‎.

المقترحات عديدة؛ ففي أوائل التسعينيات تحدث عدد من الدول حول فكرة التخلي عن حق النقض، ومضاعفة عدد الدول الأعضاء بمجلس الأمن. وبهذه الطريقة — من منظور دول كألمانيا واليابان والهند والبرازيل (وجميعها مرشحة بقوة للعضوية) — سيكون مجلس الأمن أكثر إظهارًا لميزان القوة العالمي المتغير.

وهنا طفت على السطح مشكلتان بديهيتان، وهما اللتان ظلتا تعيقان أي إصلاح جدي لعقد ونصف العقد بعد ذلك؛ المشكلة الأولى: هي أن أي محاولة لنزع حق النقض ستقابل بالنقض، فلا يوجد شرط بميثاق الأمم المتحدة يسمح بنزع حق النقض دون الموافقة الجماعية للدول الخمس دائمة العضوية. وما الذي سيدعو الصين أو فرنسا أو بريطانيا العظمى أو روسيا أو الولايات المتحدة للتخلي عن هذه الورقة الرابحة؟ علاوة على ذلك، وضع حق النقض لكي يمكِّن الدول الخمس داخل المنظمة — خاصة الولايات المتحدة — من حجب أي قرار قد تجده متعارضًا مع مصالحها القومية.

المشكلة الثانية: هي أن إضافة أي أعضاء جدد آخرين — لهم حق النقض أو لا — واجهت العديد من الاعتراضات من الدول التي إما تشعر أنها ينبغي أن تدخل في منافسة جدية للحصول على مثل هذه المكانة المميزة و/أو يشوب علاقتها بإحدى الدول المرشحة التوتر؛ فالعديد من الدول الأوروبية مثلًا تعارض عضوية ألمانيا، ولا ترى الأرجنتين ميزة في أن ترتقي البرازيل لمكانة أعلى، وتنظر باكستان لطلب الهند بالانضمام للمجلس بعداء واضح.

يعني هذا — بالأساس — أن مجلس الأمن مقدر له أن يظل غير ديمقراطي وعلى حاله دون تغيير تقريبًا، فعلى الرغم من إمكانية تعديل تركيبته، فإنه لن يخضع لإصلاح جذري، ومن الممكن إضافة عدد قليل من الأعضاء الجدد، لكن هل إيجاد مقاعد دائمة لدول بعينها (كتلك المذكورة للتو) أمر ممكن؟ لن تقبل الدول الخمس دائمة العضوية التخلي عن سلطاتها طوعًا.

ومع هذا لا ينبغي أن نيأس؛ إن إصلاح سلطة حق النقض لدول مجلس الأمن دائمة العضوية — أو إضافة أعضاء جدد لمجلس الأمن — يخضع لنقاش وافر، ويعد أمرًا ممكنًا على الأرجح. لكن إلى أي مدى يعد هذا أمرًا ضروريًّا؟ فهو لن يقدم وحده حلًّا سحريًّا. دائمًا ما تكون قرارات مجلس الأمن حلولًا وسطًا، ولم يستخدم حق النقض إلا على نحو محدود عبر الستة عقود الماضية، وهو ما يرجع في جزء منه إلى التفاوض حتى لا يصدر النقض، أو أن التهديد بحق النقض وحده قد يؤدي إلى سحب مشروع القرار.

في النهاية، ليس إصلاح الكيفية التي يعمل بها مجلس الأمن هو الطريقة الوحيدة لتحسين الفعالية الكلية للأمم المتحدة. في الواقع، هذا لا يحل سوى جزء بسيط من القضايا التي تُبتلى بها المنظمة في وقتنا الحالي، وبالكاد يمس القضايا «الحقيقية» المعاصرة؛ فتحديات الأمن الدولي التي تواجه الأمم المتحدة اليوم مختلفة اختلافًا كبيرًا عن تلك التي واجهتها في العقود السابقة. وكما ظهر في تقرير الفريق الرفيع المستوى عن التحديات الأمنية العالمية للأمين العام، فإن عالم القرن الحادي والعشرين يواجه العديد من المخاوف، مثل الإرهاب النووي وانهيار الدول والانتشار السريع للأمراض المعدية. وفي ضوء هذا، لا يعد النقاش حول حجم مجلس الأمن والتفاصيل المتعلقة بحق النقض بالقضايا الأكثر إلحاحًا في مجال الأمن الدولي.

الفريق الرفيع المستوى المعني بالتهديدات والتحديات والتغيير

في سبتمبر من عام ٢٠٠٣، ذكر الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان أن «أحداث العام السابق كشفت عن انقسامات عميقة بين أعضاء الأمم المتحدة بشأن مسائل جوهرية متعلقة بالسياسات والمبادئ»؛ ولهذا أنشأ الأمين العام فريقًا للحرص على أن تظل الأمم المتحدة قادرة على الوفاء بأغراضها الأساسية كما وردت في أولى مواد الميثاق: «تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعَّالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها.»

قدم الفريق — المكون من مسئولين حكوميين سابقين رفيعي المستوى من مختلف دول العالم — تقريره في عام ٢٠٠٤. وحدد ست مجموعات من التهديدات العالمية:

(١) الحرب‎ بين الدول.

(٢) العنف داخل الدول، بما فيه من حروب أهلية وانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان والإبادة الجماعية.

(٣) الفقر والأمراض المعدية والتدهور البيئي.

(٤) الأسلحة النووية والإشعاعية والكيميائية والبيولوجية.

(٥) الإرهاب.

(٦) الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية.

أبرز التقرير حقيقة أن الأمم المتحدة كانت في موضع يمكِّنها من التعامل مع كل هذه التهديدات، لكنها تحتاج إلى:

بث الحياة في الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي.
استعادة مصداقية لجنة حقوق الإنسان.
تقوية دور الأمين العام فيما يخص قضايا السلم والأمن.
زيادة مصداقية وفعالية مجلس الأمن؛ إذ أكد الفريق على الحاجة إلى «أن تعكس تركيبته واقع اليوم على نحو أفضل».
إنشاء لجنة لبناء السلام.

نُفِّذَ بعض هذه المقترحات، وأبرزها إنشاء لجنة بناء السلام في عام ٢٠٠٦.

(٢) الحاجة للإصلاح: عمليات السلام

حظي إصلاح عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة بدفعة قوية في التسعينيات، وقد تكرر عدد من الأسئلة المثارة: كيف نحقق أقصى استفادة من عدد محدود من القوات في المواقف الصعبة؟ كيف نمنع إساءة استخدام السلطة — في صورة استغلال جنسي واتِّجار بالبشر — بواسطة قوات حفظ السلام نفسها؟ كيف نتأكد من أن عمليات السلام لا تتداخل مع العملية الديمقراطية بالدولة، ومن ثم تخلق مشكلات جديدة؟ كيف نفعل كل هذا وفي الوقت ذاته نحول دون تكرار الأحداث المأساوية في البوسنة ورواندا والصومال التي وقعت في التسعينيات؟

تناول تقرير الإبراهيمي عن قوات حفظ السلام في عام ٢٠٠٠ هذه الأسئلة وغيرها. أشار التقرير — كالمتوقع — إلى النقص الواضح في الموارد الذي أعاق العديد من عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة، وأكد على الحاجة لوجود ولاية واضحة وواقعية، وأبرز التخطيط الاستراتيجي العام غير الكافي للعمليات، لكنه أيضًا — وهو الأمر الأكثر أهمية على الأرجح — أثار الحاجة إلى تطوير «قدرة انتشار سريعة» لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وقد كان هذا التقرير تمهيدًا لإنشاء لجنة بناء السلام التابعة للأمم المتحدة في عام ٢٠٠٦.

بالرغم من إنشاء هذه اللجنة، فالتقدم والإصلاح يظلان على خطى تقرير الإبراهيمي محدودين بعد عقد تقريبًا على تسليمه. وبطبيعة الحال هناك المزيد من قوات حفظ السلام في أماكن أكثر في العالم، والممولة بقدر أكبر بقليل من المال. بيد أن عمليات السلام التابعة للأمم المتحدة نادرًا ما تستفيد من شبكة دعم متكاملة. والأمر المساوي في الأهمية هو أن هذه العمليات تفتقد للموارد وتعتمد — في أغلب الوقت — على قدرة الأمين العام على جمع المال من أجل عملية محددة.

علاوة على ذلك — كما أوضحت لنا حالة دارفور مجددًا — ليس بوسع الأمم المتحدة أن تفرض ببساطة قوة لحفظ السلام في ظل ممانعة الحكومة المضيفة. بدلًا من ذلك، ولتعويض ما ينقصها من قوة سياسية وقوة عاملة، أُجبرت الأمم المتحدة على «العهد» ببعض عمليات حفظ السلام إلى منظمات إقليمية، مثل الاتحاد الأفريقي (الذي قدم السواد الأعظم من قوات حفظ السلام المتمركزة في السودان في عام ٢٠٠٧). بيد أن النتائج — كما نستقيها من دارفور كحالة للدراسة — ليست مُرضِيَة: فبين عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٧ قُتل قرابة ٤٠٠ ألف شخص فيما فَرَّ ما لا يقل عن مليوني لاجئ من دارفور، وتفشت الأقاويل عن عمليات إبادة جماعية ومقارنات بما حدث في رواندا في عامي ١٩٩٣ و١٩٩٤.

من الصعب الجزم بما إذا كان في الإمكان تجنب مأساة كمأساة دارفور لو أن الأمم المتحدة اتبعت سياسة أقوى وأكثر إقدامًا؛ ففي نهاية المطاف، دون دعم الدول الأعضاء، وتحديدًا الأعضاء الخمسة الدائمين بمجلس الأمن، لن يكون لأي قدرة عسكرية معنى. وحالة دارفور كنموذج للعهد بقوة حفظ السلام إلى المنظمات الإقليمية لا تعني أن هذه الممارسات يستحيل أن تكون ناجحة؛ إذ يبدو أن دور منظمة حلف شمال الأطلسي في البوسنة يقدم النموذج المعاكس تمامًا.

في النهاية، عند التفكر في الدروس المستفادة من عمليات حفظ السلام السابقة وكيف يمكن للعمليات المستقبلية أن تكون أكثر فعالية، يعود المرء إلى نقطة محورية وردت بتقرير الإبراهيمي: الحاجة لقدرة انتشار سريعة، وهل من سبيل آخر يمكن الأمم المتحدة من الاستجابة لأي أزمة مفاجئة سوى امتلاك القدرة على إرسال قوات لحفظ السلام إلى أرجاء العالم المختلفة في فترة قصيرة؟ فدون هذه القدرة سيُنظر لها دومًا كقوة من الدرجة الثانية يجري استدعاؤها لحفظ النظام في المواقف الصعبة أو تنظيم الفوضى المتخلفة عن عمليات القتال «الجدية».
fig16
شكل ٧-١: جان ماري جيهينو، وكيل الأمين العام لعمليات حفظ السلام، وخوان جابرييل فالديز، الممثل الخاص للأمين العام ورئيس بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في هاييتي، يرافقان دورية برازيلية في بيل-أير، أحد الأحياء الفقيرة الواقعة على جانب التلال في بورت أُو برينس التي خربتها العصابات المسلحة في عام ٢٠٠٥.2

يعود بنا هذا إلى المادة ٤٥ من الميثاق الأصلي للأمم المتحدة التي وضعت تصورًا عن قوة جوية دائمة للأمم المتحدة — توفرها الدول الخمس العظمى وتقع في شتى أرجاء العالم — رهن استخدام مجلس الأمن، وتعمل تحت إمرة لجنة الأركان العسكرية (التي تتكون من ممثلين للدول الخمس الكبرى). ربما تكون الأمم المتحدة بحاجة إلى قوة مشابهة — على صورة قوة حفظ سلام دائمة تابعة للأمم المتحدة تكون سهلة الانتشار — كي تصير عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أداة فعالة بحق في تحقيق الأمن الدولي.

اعتمادًا على منظور المرء، قد تبدو مثل هذه الخطة إما مثالية حالمة وإما خطيرة، لكنها قد تكون ضرورية أيضًا.

(٣) الحاجة إلى الإصلاح: التنمية

شكلت أهداف الألفية الإنمائية الثمانية الموضوعة عام ٢٠٠٠ أول خطة عمل عالمية عامة للتنمية البشرية. جاءت خطة العمل هذه متأخرة عن موعدها، وحظيت — إجمالًا — بترحيب متحمس. ليس في هذا مفاجأة؛ فمن ذا الذي سيرفض الدعوة لمحاربة الفقر في العالم؟!

لكن توجد عقبتان رئيسيتان؛ الأولى: أن السجال الذي ساد القرن العشرين حول الدور الملائم لقوى السوق يبدو أنه حُسم على نحو قاطع لمصلحة المنادين بأهمية الأسواق الحرة. يرى الكثيرون — وعادة ما يقدمون أدلة مقنعة على رأيهم — أن المساعدات الإنمائية تضر في الواقع بالأطراف المتلقية لها، وذلك بأن تجعلها معتمدة على الأطراف المتبرعة. من العسير إثبات هل هذا الرأي سليم بالكامل. فبالرغم من عقود من التنمية، فلا تزال أعداد كبيرة من البشر تعيش في فقر مدقع، وهذه الحقيقة تستمر في تقويض حتى أقوى الحجج المؤيدة للمساعدات الإنمائية الدائمة بوصفها السبيل الأمثل لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية على مستوى العالم. لا عجب إذن أن تتزايد الشكوك حول هذا الأمر، سواءٌ أكان لها أساس من الصحة أم لا.

ثانيًا: الطريقة التي يجري بها منح المساعدات تثير حاجة لا غنى عنها للإصلاح. قد تكون صعوبة المشكلة هي السبب وراء الانقسام المتزايد في جهود مكافحتها؛ إذ لا يمثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي سوى جهتين فقط من المنظمات العديدة المنخرطة في إدارة المساعدات الإنمائية. وفي ظل وجود عدد كبير من الأقسام والوكالات العاملة على جميع أوجه التنمية، لم توظف الأمم المتحدة القوة الكاملة لمواردها على نحو فعال. بمعنى آخر: قلل التكرار والتداخل من الفعالية وزاد من التكاليف الإدارية داخل الأمم المتحدة والمنظمات الشقيقة.

ليست هذه مشكلة جديدة؛ ففي عام ١٩٩٧ أنشأ الأمين العام كوفي عنان بالفعل مجموعة الأمم المتحدة الإنمائية، وهي كيان ينسق أعمال وكالات الأمم المتحدة الرئيسية وصناديقها وأقسامها المعنية بقضايا التنمية. شجعت المجموعة على التناغم بين أنشطة الأمم المتحدة الإنمائية على المستويين القومي والعالمي. وفي العقد الماضي أسفرت الجهود المتزايدة — المبنية على التوصيات المأخوذة من إعلان الألفية — عن القمة العالمية التي عقدت عام ٢٠٠٥ بهدف تقييم تقدم الأهداف الإنمائية للألفية وغيرها من أهداف التنمية، وعن العديد من القرارات للجمعية العامة، وعن إعلان باريس لعام ٢٠٠٥ بشأن فعالية المعونات، وفي وقت أقرب، أسفرت عن تقرير الفريق الرفيع المستوى المعني بالاتساق على نطاق منظومة الأمم المتحدة الصادر في نوفمبر عام ٢٠٠٦ بعنوان «توحيد الأداء».

كان للتقرير الأخير تحديدًا القدرة على إحداث الفارق في العمل الكلي للأمم المتحدة وأعمالها الإنمائية. ضم أعضاء الفريق الخمسة عشر عددًا من الرؤساء ورؤساء الوزارات، إلى جانب جوردون براون الذي سيتولى رئاسة وزراء إنجلترا في عام ٢٠٠٧. وصف تقرير «توحيد الأداء» المساعدة الإنمائية التي تقدمها الأمم المتحدة بأنها «مجزَّأة وضعيفة». ومن ثم نادى التقرير بأن تكون الأمم المتحدة جيدة الإدارة وجيدة التمويل بحيث تكون مستعدة لمواجهة الاحتياجات المتغيرة للدول. أكد التقرير على تخطيط المساعدات الإنمائية وتنفيذها على المستوى القومي. ومن ثم فقد اقترح دمج أغلب أنشطة الأمم المتحدة المتعلقة بالدول تحت برنامج استراتيجي واحد، وإطار عمل واحد للميزانية، وقائد فريق قوي واحد لكل دولة ومكتب واحد. باختصار، نادى التقرير بالمركزية على مستوى الدولة.

كان هذا معقولًا؛ فإحدى مشكلات الأمم المتحدة الإجمالية هي زيادة أعداد الوكالات التي يبدو — على الأقل من منظور المراقب المحايد — أنها تنخرط في أعمال متشابهة وتتنافس على الموارد الشحيحة دائمًا. ومع هذا تظل قدرة تقرير «توحيد الأداء» على إصلاح الطريقة التي تقدِّم بها الأمم المتحدة المساعدات الإنمائية غير مؤكدة. فبحلول نهاية عام ٢٠٠٧ وافقت ثماني دول فقط على تجربة أنشطة الأمم المتحدة الموحدة، وهي: ألبانيا، والرأس الأخضر، وموزمبيق، وباكستان، ورواندا، وتنزانيا، وأوروجواي، وفيتنام. ولم تأخذ سوى فيتنام — من هذه الدول — خطوات جدية على سبيل التنفيذ.

في ضوء الأهمية التي يعزوها أغلب محللي الأمم المتحدة للمساعدات الإنمائية كمحرك لمكافحة الفقر وآثاره الجانبية السياسية، يتناول تقرير «توحيد الأداء» الحاجة الجوهرية للإصلاح من داخل الأمم المتحدة. لخص الأمين العام كوفي عنان أهمية هذه المهمة على نحو ملائم عند تلقيه جائزة نوبل للسلام في عام ٢٠٠٣ بقوله:

تحت سطح الدول والأمم، والأفكار واللغات، يكمن مصير أفراد معوزين من البشر. وستكون تلبية احتياجاتهم هي مهمة الأمم المتحدة في القرن القادم.

من هذه الاحتياجات — ومن ثم من الأمور المحورية لمهمة الأمم المتحدة المستقبلية — نطاق آخر بحاجة إلى الإصلاح هو: التاريخ المتقلب لاحترام البشرية لحقوق الإنسان.

توحيد الأداء

في عام ٢٠٠٥، أنشأ الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الفريق الرفيع المستوى المعنيَّ بالاتساق على نطاق منظومة الأمم المتحدة. كان الهدف الجوهري لهذا الفريق هو «استكشاف الكيفية التي يمكن أن يعمل بها نظام الأمم المتحدة على نحو أكثر اتساقًا وفعالية عبر العالم في مناحي التنمية والمساعدة الإنسانية والبيئة».

قدم الفريق تقريره في نوفمبر ٢٠٠٦. وقد عبر عن الحاجة إلى الإصلاح على النحو الآتي: «إن العالم بحاجة لإطار عمل متسق قوي متعدد الأطراف تكون الأمم المتحدة في مركزه من أجل مجابهة تحديات التنمية والمساعدة الإنسانية والبيئة في عالم آخذ في العولمة. إن الأمم المتحدة بحاجة للتغلب على انقسامها الحالي وأن توحد أداءها … وينبغي أن تمكن الدول وتدعمها لقيادة عملياتها الإنمائية وتساعدها على التصدي للتحديات العالمية على غرار الفقر والتدهور البيئي والمرض والصراع.»

مثَّل مفهوم «التوحد» محور تقرير الفريق، وقد حدد التقرير مجموعة من خمس توصيات للمستقبل وهي:

(١) اتساق أنشطة الأمم المتحدة ودمجها، بالتوازي مع مبدأ ملكية الدولة، على جميع المستويات (مستوى الدولة، والمستوى الإقليمي، ومستوى المقرات).

(٢) إرساء آليات الحوكمة والإدارة والتمويل الملائمة لتمكين عملية الدمج ودعمها، وربط أداء منظمات الأمم المتحدة ونتائجها بالتمويل.

(٣) تعديل ممارسات عمل نظام الأمم المتحدة؛ لضمان التركيز على النتائج، والاستجابة للاحتياجات وتحقيق نظام الأمم المتحدة للنتائج، وذلك في ضوء الأهداف الإنمائية للألفية.

(٤) ضمان توفير فرص إضافية مهمة للدمج والتوحيد الفعال لأداء الأمم المتحدة عن طريق مراجعة متعمقة.

(٥) ينبغي أن يتم التنفيذ في عجالة، لكن دون تسرع أو سوء تخطيط على نحو قد يعرض التغير الفعال والدائم للخطر.

(٤) الحاجة للإصلاح: حقوق الإنسان

لا ريب أنها من القضايا الصعبة، فشأن كل شيء على خطة عمل الأمم المتحدة، ظل الصراع من أجل دعم حقوق الإنسان صراعًا شاقًّا. ومع هذا، كما ينادي موقع الأمم المتحدة ذاته فإن:

أحد الإنجازات العظيمة للأمم المتحدة هو إنشاء جسد شامل من قوانين حقوق الإنسان التي تقدم لنا — لأول مرة في التاريخ — دستورًا عالميًّا لحقوق الإنسان يتمتع بحماية دولية، دستورًا يمكن أن تلتزم به الدول كافة وأن يطمح البشر جميعهم إليه.

هذا صحيح. فمن يمكنه التشكيك في فائدة وجود مجموعة من النصوص المتفق عليها على نحو عام، التي «تضع أساس القانون» الخاص بحقوق الإنسان. المشكلة هي كيفية تنفيذ هذا القانون.

يظل وعد حقوق الإنسان غير متحقق إلى الآن، وهو ما توضحه الأدلة اليومية — من تعذيب وإنكار للحقوق السياسية الأساسية والفقر المدقع للبشر — بجلاء. على مر العقود السابقة زاد عدد جماعات مراقبة حقوق الإنسان، لكن تظل تقاريرها مقبضة؛ إذ لم يتمخض الوعي المتزايد بحقوق الإنسان عن تقدم عملي واضح.

المشكلة في هذا النطاق ليست في نقص الهيئات الملائمة؛ ففي الواقع هناك من هذه الهيئات الكثير: وما مجلس حقوق الإنسان، ومفوضية حقوق الإنسان، ولجنة حقوق الإنسان، ولجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولجنة مناهضة التعذيب، إلا أمثلة قليلة على هذه الهيئات. ينبغي أيضًا أن نضيف أن المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان ليست مقصورة وحسب على هذه الهيئات المنشأة خصوصًا، فكل جزء من نظام الأمم المتحدة يواجه — بصورة أو بأخرى — الأسئلة والمشكلات المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان.

المشكلة متغلغلة في قلب الأمم المتحدة كمنظمة تأسست في لحظة تاريخية محددة حظيت فيها الدول القومية بالأولوية والسمو. والعديد من التسويات الواضحة في ميثاق الأمم المتحدة عكست هذا التوتر الكامن بين الأممية والامتيازات القومية، وربما يعد مجلس الأمن المثال الأبرز على ذلك. وفي عالم اليوم الذي تسيطر عليه العولمة لم يختفِ هذا التوتر تقريبًا، بل على العكس، تفاقم. تجسد هذا في مجال حقوق الإنسان على صورة مشكلة أساسية: فالأمم المتحدة ربما أوجدت جسدًا مفصلًا من التشريع الدولي لحقوق الإنسان، وفي الطريق أنتجت هيئات قادرة على المراقبة والإبلاغ على نحو رسمي بما إذا كانت هذه المعايير يُلتزم بها في الدولة (س) أو الإقليم (ص)، بيد أنها تركت تنفيذ هذه المعايير — إجراءات المتابعة في حالة المخالفة — للدول القومية في أغلب الأحيان.

بعبارة أخرى، الحاجة الواضحة للإصلاح فيما يتعلق بحقوق الإنسان من السهل ومن الصعب في الوقت ذاته تحقيقها، فما نحتاج إليه هو قدرة هيئة معترف بها — كالمحكمة الجنائية الدولية التي تأسست عام ٢٠٠٢ — على السمو فوق المصالح المحددة للدول القومية، وإلى الآن لم يتحقق هذا إلا في حالات نادرة حين يفقد أحد الزعماء — كما حدث في محاكمة الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور — سلطته المحلية ونصراءه الدوليين. لكن من الصعب تصور خضوع أحد مواطني الدول الكبرى — خاصة مواطني الدول الخمس العظمى — للمحاكمة في لاهاي.

خلاصة القول، في الوقت الحالي: من الأرجح أن يُحاكم منتهكو حقوق الإنسان على نحو انتقائي. قد تكون الأممية هي المعيار، لكن من غير المرجح أن تصير ممارسة فعلية، ومن غير المرجح أن يتمكن أي قدر من الإصلاح من تصحيح هذا الأمر.

(٥) ملاحظة أخيرة

مع كل إنجازات الأمم المتحدة ونقائصها، تظل جزءًا لا غنى عنه للمجتمع الدولي في بدايات القرن الحادي والعشرين، وإذا ما اختفت فجأة — بمعنى إذا سُمح لمكوناتها بالتفكك — فسيصير ملايين البشر في العالم أسوأ حالًا، وهذا وحده يعد سببًا كافيًا لدعم الأمم المتحدة وتأييدها. ومع هذا، عند قياس مقدار أهمية الأمم المتحدة وإمكانيات تحسينها، ينبغي وضع قليل من النقاط البارزة في الاعتبار:

أولًا: من غير الممكن أن تكون الأمم المتحدة «الضمان الحاسم للسلام»، على النحو الذي أمله وودرو ويلسون من عصبة الأمم، فما دام مفهوم الدولة القومية هو الصورة الأساسية لتنظيم الكيانات المختلفة التي نعرفها كدول، وما دام يوجد ما يسمى بالمصالح القومية، وما دامت الحكومات مسئولة عن سعادة مواطنيها (أو غيابها)، فستفتقد الأمم المتحدة سبل العمل على نحو مستقل. بمعنى آخر: ستظل الأمم المتحدة «أداة» في يد الدول، حتى ونحن في عالم تنبثق فيه تهديدات الأمن، لا من الدول نفسها، بل إما من داخل الدول أو من جماعات متعددة تتجاوز الحدود القومية.

ثانيًا: طورت الأمم المتحدة — على مر أكثر من ستين عامًا من الوجود — هياكل وهيئات بيروقراطية تعد بصورة ما أسوأ أعداء الأمم المتحدة نفسها. فالأمم المتحدة — شأن أي منظمة أخرى — هي مكان يبني الأفراد فيه حياتهم المهنية، ويتنافس بعضهم مع بعض، ويرسخون مناصب منيعة لأنفسهم، ويقاومون التغيير. كل هذا يجعل الأمم المتحدة هدفًا سهلًا للشجب والإدانة، لكن الأهم من ذلك أن الأمم المتحدة لا تميل إلى الإصلاح بل إلى بناء هياكل جديدة فوق الهياكل الموجودة بالفعل؛ ونتيجة لذلك عادة تتشتت الموارد الشحيحة نتيجة نقص الاتساق التشغيلي. لا يزال توحيد الأداء هدفًا بعيدًا للغاية عن منال الأمم المتحدة، وهو بمنزلة تحدٍّ، على الأمين العام الحالي، بان كي مون، وفريقه أن يواجهوه.

ثالثًا: لا تستطيع الأمم المتحدة الاستمرار في دورها الإيجابي دون قاعدة دعم كافية، وهذا يضع مسئولية التمويل الرئيسية للمنظمة على دول العالم الأكثر ثراءً، والمفارقة واضحة: إذ إن هذا يعني أن تدفع القلة الغنية لقاء العمليات والسياسات الموجهة بالأساس لمساعدة الآخرين، وأحد أعظم التحديات المستقبلية سيتمثل في تبرير الدول الأعضاء الأكثر ثراءً — وتحديدًا، لكن ليس على وجه الحصر، الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي — لمواطنيها سبب استخدام حصة، مهما كانت ضئيلة، من دخولها القومية في تمويل عمليات الأمم المتحدة المتعددة. ومن شأن مجابهة هذا التحدي بنجاح أن تحدد على الأقل مقدار فعالية الأمم المتحدة، إن لم يكن وجودها المستقبلي بالكامل.

وفي النهاية، لا نستطيع — ولا ينبغي علينا — أن نتوقع من الأمم المتحدة أن تقدم الحلول لكل أسقام العالم؛ فهي تقوم بعمل إنساني طيب وكثيرًا ما تقدم سبلًا لتخفيف التوتر وحل الأزمات، وكثيرًا أيضًا ما تمكن الأشخاص العالقين في الفقر من تحسين حياتهم. ليست الأمم المتحدة مثالية، لكنها تظل منظمة لا غنى عنها حتى لو كان سلوكها وفعاليتها — شأن سلوك وفعالية الدول المنفردة — في حاجة مستمرة إلى التحسين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤