الملحق «أ»: البحث عن حلول

إن اختيار فعلٍ مُعيَّن بالاستباق ودراسة نتائج تسلسلات الأفعال الممكنة المختلفة يُعدُّ إحدى الإمكانيات الأساسية المتوفرة في النظم الذكية. إنه شيء يفعله هاتفك المحمول كلما سألته عن اتجاهاتٍ مُعينة. يعرض الشكل ١ مثالًا نموذجيًّا على ذلك؛ إذ يُوضِّح كيفية الانتقال من الموقع الحالي، الرصيف البحري رقم ١٩، إلى المكان المُستهدف وهو برج كويت. تحتاج الخوارزمية لمعرفة الأفعال المتاحة لها؛ عادةً، بالنِّسبة إلى تحديد المواقع باستخدام الخرائط، كل فعلٍ يجتاز قطاعًا من الطريق يربط بين تقاطُعَين مُتجاورَين. في المثال هنا، من الرصيف البحري رقم ١٩، هناك فعل واحد فقط؛ ألا وهو: الاتجاه يمينًا ثُم السير بطول طريق إمباركدرو حتى التقاطُع التالي. ثم هناك اختيار؛ وهو: الاستمرار أو الانعطاف الحاد نحو اليسار إلى شارع باتري. تستكشف الخوارزمية منهجيًّا كل الاحتمالات حتى تجد في النهاية طريقًا. إننا عادة ما نُضيف القليل من التوجيه المنطقي مثل تفضيل استكشاف الشوارع التي تتَّجه باتجاه المكان المستهدف وليس بعيدًا عنها. وبهذا التوجيه والقليل من الحيل الأخرى، يمكن للخوارزمية إيجاد حلولٍ مُثلى بسرعة جدًّا؛ عادة في ميلِّي ثوانٍ قليلة، حتى بالنِّسبة إلى رحلة عبر البلاد.
fig14
شكل ١: خريطة لجزء من سان فرانسيسكو تُوضِّح مكان الانطلاق والمُتمثل في الرصيف البحري رقم ١٩، والمكان المستهدف وهو برج كويت.
إن البحث عن مساراتٍ عبر الخرائط يُعدُّ مثالًا طبيعيًّا ومألوفًا، لكنه قد يكون مُضلِّلًا بعض الشيء لأن عدد الأماكن المميزة صغير للغاية. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، هناك فقط حوالي ١٠ ملايين تقاطُع. ربما يبدو هذا عددًا كبيرًا، لكنه صغير مقارنةً بعدد الأوضاع الأساسية في أحجية ١٥. إن أحجية ١٥ لعبة ذات إطار مساحته ٤ × ٤ يحتوي على ١٥ قطعة مُرقَّمة ومساحة واحدة فارغة. إن الهدف هو تحريك القطع لتحقيق هدفٍ مُعيَّن مثل ترتيب كل القطع على نحوٍ مُتسلسل رقميًّا. إن تلك الأحجية لها نحو ١٠ تريليونات وضع (أي أكثر مليون مرة من عدد تقاطعات الولايات المتحدة!)، وللأحجية ٢٤ نحو ٨ تريليونات تريليون وضع. هذا مثال على ما يُطلق عليه علماء الرياضيات «التعقيد التوافقي»؛ أي الانفجار السريع لعدد التوافقيات مع زيادة عدد «الأجزاء المتحركة» لأي مشكلة. وبالعودة إلى مثال الولايات المتحدة، نجد أنه إن أرادت شركة نقل بالشاحنات تحسين تحرُّكات شاحناتها المائة عبر الولايات المتحدة، فإن عدد الأوضاع المُمكنة التي عليها وضعها في الاعتبار سيكون ١٠ ملايين أُس ١٠٠ (أي ١٠٧٠٠).

(١) التخلِّي عن مُحاولة الوصول إلى قراراتٍ عقلانية

fig15
شكل ٢: لوح لعبة جو، أثناء المباراة الخامسة في نهائي كأس إل جي لعام ٢٠٠٢ بين ليو سيدول (اللاعب الأسود) وتشو مايونج-هون (اللاعب الأبيض). يتبادل اللاعبان وضع قطعةٍ واحدة في أيِّ مكان فارغ على اللوح. هنا، كان الدور على اللاعب الأسود للحركة وهناك ٣٤٣ حركة مُحتملة. يُحاول كل طرف إحاطة أكبر قدر مُمكن من المساحة. على سبيل المثال، اللاعب الأبيض لديه فرص جيدة لاكتساب مساحة في الحافة اليسرى وفي الجانب الأيسر من الحافة السُّفلية، في حين أن اللاعب الأسود قد يكتسب مساحةً في الركن الأيمن العُلوي والركن الأيمن السُّفلي. هناك مفهوم أساسي في هذه اللعبة وهو مفهوم «المجموعة»؛ أي مجموعة من القطع التي لها نفس اللون والمُرتبطة ببعضها من خلال تجاور رأسي أو أفقي. تبقى أيُّ مجموعة حيةً ما دامت هناك مساحة واحدة فارعة على الأقل بجوارها، أما إذا جرت إحاطتها بالكامل، مع عدم وجود أي مساحاتٍ فارغة، فستموت وتُزال من اللوح.
للعديد من الألعاب تلك الخاصية الخاصة بالتعقيد التوافُقي، بما في ذلك الشطرنج والدامة والطاولة ولعبة جو. ولأنَّ قواعد لعبة جو بسيطة ومُتميِّزة (انظر الشكل ٢)، سأستخدمُها كمثالٍ مُمتد. إن هدف اللعبة واضح بالقدر الكافي: تحقيق الفوز بالإحاطة بمساحة أكبر من خصمك. وتمامًا كما هو الحال فيما يتعلَّق بتحديد المواقع باستخدام خريطة، فإنَّ الطريقة الواضحة لتحديد ماذا تفعل هو تخيُّل الأوضاع المُستقبلية التي ستنتج من تسلسلات الأفعال المُختلفة واختيار أفضلها. ستسأل: «إن فعلت هذا، ماذا قد يفعل خصمي؟ وماذا سأفعل حينها؟» تتَّضح تلك الفكرة في الشكل ٣ في لعبة جو ذات الإعداد ٣ × ٣. حتى في هذا الإعداد من اللعبة، يُمكنني عرض جزء صغير فقط من شجرة الأوضاع المستقبلية المُمكنة، لكنَّني آمل أن تكون الفكرة واضحةً بالقدر الكافي. في واقع الأمر، هذه الطريقة في صنع القرارات تبدو بسيطة ومنطقية.
fig16
شكل ٣: جزء من شجرة اللعب الخاصة بلعبة جو ذات إعداد ٣ × ٣. بدءًا من الوضع الأوَّلي الخالي الذي يُطلق عليه «جذر» الشجرة، يُمكن للَّاعب الأسود اختيار واحدة من ثلاث حركات أساسية مُمكنة. (الحركات الأخرى مُتوافقة مع هذه الحركات.) وبعدها سيكون على اللاعب الأبيض الدور في التحرُّك. إن اختار اللاعب الأسود اللعب في المنتصف، فسيكون لدى اللاعب الأبيض حركتان أساسيتان — الركن أو الجانب — ثم سيكون على اللاعب الأسود اللعب ثانيةً. وبتخيُّل الأوضاع المُحتملة هذه، يمكن للَّاعب الأسود اختيار الحركة التي سيلعبها في الوضع الأوَّلي. إن لم يكن اللاعب الأسود قادرًا على تتبُّع كل خط لعب مُمكن حتى نهاية اللعبة، فيُمكن استخدام دالة تقييم لتقدير مدى جودة الأوضاع في أوراق الشجرة. هنا، تعين دالة التقييم +٥ و+٣ لاثنتين من الأوراق.
تتمثَّل المُشكلة في أن لعبة جو بها أكثر من ١٠١٧٠ وضع مُحتمل في اللوح الكامل ذي الإعداد ١٩ × ١٩. وفي حين أن إيجاد أقصر مسارٍ مضمون على خريطةٍ سهل نسبيًّا، فإن إيجاد طريقة مضمونة للفوز في لعبة جو مُتعذِّر تمامًا. وحتى لو استكشفت الخوارزميةُ اللعبة للمليار عام القادمة، فيُمكنها استكشاف قدْرٍ بسيط فقط من شجرة الاحتمالات بأكملها. يؤدي بنا هذا إلى سؤالَين. الأول هو: أي جزء من الشجرة يجب أن يستكشفه البرنامج؟ والثاني هو: أي حركةٍ يجب على البرنامج أن يقوم بها، في ضوء جزء الشجرة الذي استكشفه؟
للإجابة عن السؤال الثاني، الفكرة الأساسية التي تستخدمها تقريبًا كل البرامج الاستباقية هي تعيين «قيمة تقديرية» ﻟ «أوراق» الشجرة — تلك الأوضاع الأبعد في المُستقبل — ثم العمل من أجل تحديد مدى فاعلية الاختيارات عند الجذر.1 على سبيل المثال، بالنظر إلى الوضعَين في الجزء السُّفلي من الشكل ٣، قد يُخمِّن المرء قيمةً قدرها +٥ (من وجهة نظر اللاعب الأسود) للوضع الذي على اليسار و+٣ للوضع الذي على اليمين؛ لأن قطعة لعب اللاعب الأبيض في الركن مُعرَّضة للخطر أكثر من تلك التي على الجانب. إن كانت هاتان القيمتان صحيحتَين، فيُمكن أن يتوقع اللاعب الأسود أن اللاعب الأبيض سيلعب على الجانب، مما يؤدي إلى الوضع الأيمن؛ ومن ثم، يبدو من المعقول تعيين قيمة +٣ للحركة الأولية للاعب الأسود في المُنتصف. ومع بعض التغييرات البسيطة، تعدُّ هذه هي الخطة التي استخدمها برنامج لعب الدامة الذي صمَّمه آرثر صمويل لهزيمة مُصمِّمه في عام ١٩٥٥،2 و«ديب بلو» لهزيمة بطل العالم حينها في لعبة الشطرنج، جاري كسبروف، في عام ١٩٩٧، و«ألفا جو» لهزيمة بطل العالم السابق في لعبة جو لي سيدول في عام ٢٠١٦. بالنسبة إلى جهاز «ديب بلو»، كتب البشر جزء البرنامج الذي قيَّم الأوضاع التي عند أوراق الشجرة، على نحوٍ كبير بناءً على معرفتهم بلعبة الشطرنج. بالنسبة إلى برنامج صمويل وبرنامج «ألفا جو»، فقد تعلَّما ذلك من آلاف أو ملايين المباريات التجريبية.

السؤال الأول — أيُّ جزء من الشجرة يجب أن يستكشفه البرنامج؟ — مثال على أحد أهمِّ الأسئلة في مجال الذكاء الاصطناعي؛ ألا وهو: «ما عمليات الحوسبة التي يجب على أيِّ كيان ذكي القيام بها؟» بالنسبة إلى برامج لعب الألعاب، إنه يُعَدُّ سؤالًا مُهمًّا جدًّا؛ لأن لتلك البرامج نطاقًا زمنيًّا صغيرًا وثابتًا، واستهلاكه في القيام بعمليات حوسبة لا قيمة لها طريقة أكيدة للخسارة. وبالنسبة إلى البشر والكيانات الأخرى التي تعمل في العالم الواقعي، إنه مُهمٌّ أكثر لأن العالم الواقعي أعقد بكثيرٍ جدًّا؛ فما لم يُحدَّد قدر الحوسبة المطلوب بعناية، لن يستطيع أيُّ قدرٍ من الحوسبة القيام بأيِّ دورٍ في حلِّ مشكلة تحديد ما يجبُ فعلُه. إذا كنتَ تقود سيارتك وحيوانُ موظ يسير في مُنتصف الطريق، فلا فائدة من التفكير فيما إذا كان يجب استبدال اليوروهات بالجنيهات أو ما إذا كان على اللاعب الأسود أن يجعل حركته الأولى في مُنتصف لوح لعبة جو.

إن قدرة البشر على إدارة نشاطهم الحوسبي بحيث تُتَّخذ قرارات معقولة بسرعة معقولة على الأقل ملحوظة مثل قُدرتهم على الإدراك والتفكير على نحوٍ صحيح. ويبدو أنها شيء نكتسبه على نحوٍ طبيعي ودون جهد؛ فعندما علَّمني أبي لعب الشطرنج، علَّمني القواعد، لكنه لم يُعلمني الخوارزمية الجيِّدة الخاصة باختيار أجزاء شجرة اللعبة التي يجب استكشافها، وتلك التي يجب تجاهلها.

كيف يحدث هذا؟ وعلى أيِّ أساسٍ يُمكننا توجيه أفكارنا؟ تتمثَّل الإجابة في أن أي عملية حوسبة لها قيمة مُتعلِّقة بمدى تحسينها لنوعية قرارك. إن عملية اختيار عمليات الحوسبة تُسمَّى «ما وراء التفكير»، والتي تعني التفكير في التفكير. وكما أن الأفعال يمكن أن تُختار بعقلانية، على أساس القيمة المتوقعة، فيمكن أن يحدث نفس الشيء مع عمليات الحوسبة. ويُطلق على هذا «ما وراء التفكير العقلاني».3 إن الفكرة الأساسية هنا بسيطة جدًّا:

هل عمليات الحوسبة ستُقدِّم أعلى تحسين مُتوقَّع لنوعية القرار وستتوقَّف عندما تتجاوز التَّكلفة (فيما يتعلق بالوقت) التحسن المُتوقَّع؟

هذا هو كل شيء. لا حاجة إلى خوارزمية مُعقَّدة! هذا المبدأ البسيط يُنتج سلوكًا حوسبيًّا فعالًا في نطاقٍ واسع من المشكلات، بما في ذلك لُعبتا الشطرنج وجو. ويبدو من المُحتمل أن أدمغتنا تُنفِّذ شيئًا مماثلًا، والذي يفسر السبب وراء عدم حاجتنا إلى تعلُّم خوارزميات جديدة ومتعلقة باللعبة للتفكير مع كل لعبة جديدة نتعلم لعبها.

إن استكشاف شجرة من الاحتمالات التي تمتدُّ إلى الأمام في المستقبل من الوضع الحالي لا يُعَد الطريقة الوحيدة للوصول إلى قرارات في واقع الأمر. عادةً، يكون أكثر منطقية العمل على نحوٍ عكسي من الهدف. على سبيل المثال، إن وجود حيوان الموظ في الطريق يقترح هدف: «تجنب الاصطدام بحيوان الموظ»، والذي بدوره يقترح ثلاثة أفعال مُمكنة؛ الانحراف يسارًا، أو الانحراف يمينًا، أو الضغط بقوة على المكابح. إنه لا يقترح فعل مبادلة اليوروهات بالجنيهات أو وضع قطعة لعب سوداء في المنتصف. ومن ثمَّ، الأهداف لها تأثير تركيزي رائع على تفكير المرء. لا تستفيد أي برامج حالية خاصَّة بلُعب الألعاب من هذه الفكرة؛ في واقع الأمر، إنها عادة ما تتدبَّر كل الأفعال المُمكنة والمسموح بها. وهذا يُعَدُّ أحد الأسباب (العديدة) لعدم قلقي من سيطرة إصدار برنامج «ألفا جو» الذي يُسمَّى «ألفا زيرو» على العالم.

(٢) الاستباق على نحوٍ أكبر

دعنا نفترض أنك قررتَ القيام بحركةٍ معيَّنة على لوح لعبة جو. هذا أمر رائع! والآن، عليك أن تقوم بهذا بالفعل. في العالم الواقعي، يتضمَّن هذا مدَّ يدك داخل وعاء قطع اللعب التي لم تُستخدم بعدُ لالتقاط واحدةٍ منها، ثم تحريك يدك فوق المكان المراد ثم وضع القطعة ببراعة على الموضع إما بهدوء أو بقوة وفقًا لتقليد اللعبة.

إن كلًّا من هذه المراحل، بدوره، يتكوَّن من مجموعة مُعقَّدة من أوامر التحكم الحركي والمعرفي التي تتضمَّن العضلات والأعصاب الخاصة باليد والذراع والكتف والعينين. وبينما تمدُّ يدك لتصل إلى قطعة لعب، فأنت تتأكد من أنَّ بقية جسمك لن ينقلب بسبب التغيُّر في مركز الجاذبية الخاص بك. إن حقيقة أنك قد لا تكون مُدركًا على نحوٍ واعٍ لاختيارك لتلك الأفعال لا يعني أن دماغك لم تخترْها. على سبيل المثال: ربما تكون هناك العديد من قطع اللعب في الوعاء، لكن «يدك» — في واقع الأمر، دماغك الذي يُعالج المعلومات الحسية — لا يزال عليه اختيار إحداها كي يجري التقاطها.

تقريبًا كل شيءٍ نفعله يُشبه هذا. ففي أثناء قيادة السيارة، قد نختار «الانتقال إلى الحارة اليُسرى من الطريق»، لكن هذا الفعل يتضمَّن النظر في المرآة وفوق كتفك وربما تعديل السرعة وتحريك عجلة القيادة مع مراقبة التقدُّم حتى يتم الأمر بنجاح. في الحوارات، يتضمَّن أيُّ ردٍّ روتيني مثل: «حسنًا، دعني أُراجع دفتر مواعيدي وأعود إليك» نُطق العديد من المقاطع الصوتية التي يتطلَّب كل منها مئات أوامر التحكُّم الحركي المتناسقة على نحوٍ دقيق لعضلات اللسان والشفتَين والفك والحلق والجهاز التنفُّسي. بالنسبة إلى لغتك الأم، هذه العملية آلية؛ إنها تُشبه كثيرًا فكرة تشغيل روتينٍ فرعيٍّ في برنامج كمبيوتر (ارجع إلى الفصل الثاني). إن حقيقة أن تسلسُلات الأفعال المعقَّدة يُمكن أن تُصبح روتينية وآلية؛ ومن ثمَّ تعمل بمنزلة أفعالٍ فردية في عمليات أكثر تعقيدًا، تُعدُّ جوهريةً تمامًا للإدراك البشري. إن نُطق كلماتٍ في لغة غير شائعة — ربما السؤال عن كيفية الوصول لمدينة شتبجيشن في بولندا — يُعدُّ تذكرةً مُفيدة بأنه كان هناك وقت في حياتك كانت قراءة الكلمات ونُطقها مُهمَّتَين صعبتَين تتطلَّبان جهدًا ذهنيًّا ومُمارسةً كبيرة.

ومن ثمَّ، فالمشكلة الحقيقية التي يُواجهها دماغك لا تتمثَّل في اختيار القيام بإحدى الحركات على لوح لعبة جو، وإنما إرسال أوامر تحكُّم حركي لعضلاتك. وإذا حوَّلنا انتباهنا من مستوى حركات لعبة جو إلى مستوى أوامر التحكُّم الحركي، فستبدو المشكلة مُختلفة للغاية. بوجهٍ عام، يُمكن أن يُرسِل دماغك أوامر كل مائة ميلِّي ثانية تقريبًا. ونحن لدَينا نحو ٦٠٠ عضلة، ومن ثم، هناك حد أقصى نظري يُقدَّر بنحو ٦٠٠٠ أمر في الثانية، وعشرين مليونًا في الساعة، و٢٠٠ مليارٍ في السنة، و٢٠ تريليونًا على مدار العمر. عليك استخدامها بحكمة!

والآن، افترض أننا حاولنا تطبيق خوارزمية شبيهة بتلك الخاصة بإصدار برنامج «ألفا جو» المُسمى «ألفا زيرو» لحلِّ مشكلة اتخاذ القرار في هذا المستوى. في لعبة جو، يقوم هذا الإصدار بالاستباق ربما لخمسين خطوة. لكن خمسين خطوةً من أوامر التحكُّم الحركي تأخذك إلى بضع ثوانٍ فقط في المستقبل! وهذا ليس كافيًا للعشرين مليون أمر تحكُّمٍ حركي في مباراة للعبة جو التي تستمرُّ لمدة ساعة، وبالتأكيد غير كافٍ للخُطوات التريليون (١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠) المتضمَّنة في إعداد رسالة دكتوراه. ومن ثمَّ، حتى على الرغم من أن هذا الإصدار يقوم بالاستباق على نحوٍ أكبر في لعبة جو مما هو متاح لأي إنسان، فلا يبدو أن تلك القدرة مفيدة في العالم الواقعي. إنها النوع الخاطئ من الاستباق.

أنا لا أقصد بالطبع أن إعداد رسالة دكتوراه يتطلَّب فعليًّا التخطيط الجيد لتريليون خطوة عضلية مقدمًا. إن الخطط المجردة إلى حدٍّ كبير فقط هي التي تتمُّ في البداية؛ ربما اختيار جامعة كاليفورنيا ببيركلي أو مكانٍ آخر واختيار مُشرف على الرسالة أو موضوع البحث والتقدُّم من أجل الحصول على منحة والحصول على فيزا خاصَّة بالطلبة والسفر إلى المدينة المرادة والقيام ببعض البحث وغير ذلك. وللقيام باختياراتك، إنك تقوم بالقدر الكافي فقط من التفكير بشأن الأشياء الصحيحة فقط حتى يُصبح القرار واضحًا. إن كانت إمكانية إحدى الخطوات المجردة مثل الحصول على الفيزا غير واضحة، فستقوم بالمزيد من التفكير وربما بالمزيد من جمع المعلومات، مما يعني جعل الخطة ماديةً أكثر في بعض الجوانب؛ ربما اختيار نوع الفيزا الملائمة وتجهيز المستندات الضرورية وتقديم الطلب. يعرض الشكل ٤ الخطة المجردة وتنقيح خطوة الحصول على الفيزا في خطةٍ فرعية ثلاثية الخطوات. وعندما يحين وقت البدء في تنفيذ الخطة، يجب تنقيح خطواتها المبدئية طوال المُستوى الأوَّلي حتى يُمكن لجسمك تنفيذها.
fig17
شكل ٤: خطة مجردة لطالب أجنبي اختار الحصول على رسالة الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا ببيركلي. جرى توسيعُ خُطوة الحصول على الفيزا، التي إمكانيتُها غير مؤكَّدة، في خطة مجرَّدة خاصَّة بها.

إنَّ برنامج «ألفا جو» ببساطة لا يُمكنه القيام بهذا النوع من التفكير؛ إن الأفعال الوحيدة التي يضعها في اعتباره هي الأفعال الأوَّلية التي تحدُث في تسلسل من الحالة المبدئية. إنه ليس لديه مفهوم «الخطة المجردة». إن محاولة تطبيق طريقة تفكير برنامج «ألفا جو» في العالم الواقعي تُشبه محاولة كتابة رواية بالتساؤل عما إذا كان الحرف الأول يجب أن يكون «أ» أم «ب» أم «ﺟ»، وهكذا.

في عام ١٩٦٢، أكد هربرت سيمن على أهمية التنظيم التسلسُلي في بحثٍ شهيرٍ بعُنوان «بنية التعقيد».4 وطوَّر باحثُو الذكاء الاصطناعي منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي مجموعةً متنوعة من الطرُق التي تُنشئ وتُنقِّح خططًا منظمة تسلسليًّا.5 إن بعض النظم الناتجة قادرة على إنشاء خطط لها عشرات الملايين من الخطوات؛ على سبيل المثال، لتنظيم الأنشطة التصنيعية في مصنع كبير.
نحن الآن لدَينا فهم نظري جيد جدًّا لمعنى الأفعال المجرَّدة؛ أي لكيفية تعريف تأثيراتها على العالم.6 تأمل، على سبيل المثال، الفعل المجرد «الذهاب إلى بيركلي» في الشكل ٤. إنه يمكن تنفيذه بطرُق عديدة مختلفة، التي لكلِّ منها تأثيرات مختلفة على العالم: يمكن أن تذهب إلى هناك بحرًا أو تُسافر خلسة على متن سفينةٍ أو تطير إلى كندا وتعبر الحدود من هناك أو تستأجر طائرة خاصة أو غير ذلك. لكنك لست بحاجة إلى التفكير في أيٍّ من تلك الاختيارات في الوقت الحاضر. فما دمتَ مُتأكِّدًا أن هناك طريقةً للقيام بالأمر لا تستهلك الكثير من الوقت والمال أو لها مخاطر كبيرة بحيث تُهدد بقية الخطة، فيمكنك فقط وضع تلك الخطوة المجردة في الخطة والاطمئنان بأن الخطة ستنجح. بهذه الطريقة، يمكنك إنشاء خططٍ عالية المستوى تتحوَّل في النهاية إلى مليارات أو تريليونات الخطوات الأولية دون القلق بشأن ماهية تلك الخطوات حتى يحين وقت تنفيذها الفعلي.

في واقع الأمر، ليس أيٌّ من هذا مُمكنًا بدون التسلسل. فبدون الأفعال العالية المستوى مثل الحصول على فيزا وكتابة أطروحة، لا يُمكننا إنشاء خطة مجرَّدة للحصول على رسالة الدكتوراه؛ وبدون الأفعال الأعلى مُستوًى مثل الحصول على الدكتوراه وإنشاء شركة، لا يمكننا التخطيط للحصول على الدكتوراه ثم إنشاء شركة. في العالم الواقعي، سنفشل إن لم تكن لدينا مجموعة هائلة من الأفعال على عشرات المستويات من التجريد. (في لعبة جو، لا يوجد تسلسل واضح للأفعال، لذا مُعظمُنا يخسر.) لكن في الوقت الحاضر كل الطرق الموجودة للتخطيط التسلسلي تعتمد على تسلسلٍ أنتجه الإنسان للأفعال المجرَّدة والمادية؛ فنحن لم نفهم بعد كيف يُمكن تعلُّم تلك التسلسلات من خلال التجربة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤