الفصل الحادي عشر

العلاج

أفاد حوالي ثلث السكان البالغين بأنهم يعانون القلق، علمًا بأن شخصًا تقريبًا من كل خمسة يعانون مشكلاتٍ شديدةً بما يكفي للوفاء بمعايير الاضطراب السريري. ويمكن أن يكون القلق مروعًا، كما أشارت هولي جولايتلي في الفصل الأول. القلق، إذن، يمكن أن يكون مشكلة كبيرة. فكيف نتوصَّل إلى حلول؟

في الواقع، إن مجرد تحديد أي علاجات يمكن أن تكون فعَّالة هو عمل مجهد شديد التعقيد. «المعيار الذهبي» غير المشكوك فيه للبحث السريري هو ما يُعرف بالتجارب المُعشاة المضبوطة. يتضمن ذلك تعيينَ المشاركين بشكل عشوائي في مجموعة من، على الأقل، مجموعتين. تتلقى المجموعة الأولى علاجًا محددًا، بينما لا تتلقى المجموعة الثانية أي علاج حقيقي «المجموعة الضابطة» (تأخذ دواءً وهميًّا، على سبيل المثال) أو تتلقى علاجًا بديلًا. (في بعض الأحيان تُقَيِّم التجارب علاجين أو أكثر مقابل ضابطٍ ما.) يعني تعيين المشاركين بشكل عشوائي أن تكوين كل مجموعة يجب أن يكون متشابهًا مع المجموعة الثانية، ومن خلال متابعة نتائجهما، يمكنك معرفةُ ما إذا كان العلاج قد ساعد، على نحوٍ يفوق التعافي الطبيعي.

ولكن حتى التجارب المعشاة المضبوطة ليست مباشِرة كما قد تبدو. هذا هو السبب في تشجُّع الباحثِين الطبيِّين على اتباع إرشادات «المعايير الموحَّدة لإعداد تقارير التجارب». صدر أحدث بيانات «المعايير الموحَّدة لإعداد تقارير التجارب» في عام ٢٠١٠، بعد سبع سنوات من الاستشارات، ويحظى بدعم المجلات الطبية الرائدة (التي يأمُل معظم العلماء في نشر نتائجهم فيها).

من بين العوامل العديدة المشار إليها في «المعايير الموحَّدة لإعداد تقارير التجارب» وينصح الباحثون بأخذها في الاعتبار عند تصميم التجربة وإعداد تقرير عنها: طبيعة المرضى المختارين (على سبيل المثال، مدى حدة المرض؛ ومدى استمراره؛ وما إذا كان لديهم مشكلات أخرى)؛ والتقنيات المستخدَمة لتعيين المشاركين بشكل عشوائي في مجموعات العلاج (توجد عدة بدائل)؛ وطبيعة العلاج المضبوط؛ وتكوين وجودة العلاج قيد الاختبار؛ وأنواع النتائج التي تُقاس؛ وما إذا كان مقيمو البحث والمرضى لا يعرفون عن تخصيص العلاج؛ وما يجب فِعله حيال الأشخاص المتسربين من التجربة؛ ومدة المتابعة بعد انتهاء العلاج؛ والتحليل الإحصائي المناسب. وغير ذلك.

لسوء الحظ، لا تلتزم جميع التجارب السريرية بإرشادات «المعايير الموحَّدة لإعداد تقارير التجارب»؛ وهي لم تكن موجودة على الإطلاق حتى عام ١٩٩٦. وحتى أفضل التجارب يمكن أن تخبرنا فقط عن فترات أو جرعات معينة من العلاج لمجموعةٍ معينة خلال فترة زمنية معينة. هذا يعني أنه توجد شكوك وثغرات في المعلومات. ومن ثَم، غالبًا ما يناقش الأطباء السؤال التالي: ما الذي يَصلُح لمَن؟

(١) ما الذي يصلُح؟

إن إثبات فعالية علاجات محددة عملٌ صعب للغاية كما تبيَّن لنا مما سبق. ومع ذلك، في حالة علاج اضطرابات القلق، لدينا بالفعل إجماع.

العلاج الأساسي هو العلاج النفسي؛ أو على الأحرى العلاج السلوكي المعرفي (CBT) وتنويعاته. (لقد سلطنا الضوءَ على الأسس النظرية للعلاج السلوكي المعرفي في الفصول الخاصة باضطرابات معينة.) يحدث القلق عندما نعتقد أننا في موقفٍ يشكل تهديدًا. والهدف الأساسي من العلاج السلوكي المعرفي هو اختبار دقة تلك الاعتقادات. ويتحقَّق ذلك من خلال تعريض الأفراد بحرص للمواقف والمشاعر التي يخشونها بطريقةٍ تسمح لهم بالتعلم من التجربة. عندما تُجرى الاختبارات بطريقة مضبوطة ومتدرجة ومصمَّمة بشكل فردي، يكتشف الشخص أنه في الواقع أكثرُ أمانًا مما كان يعتقد، ويقل قلقه.
لكن القلق يُعالج أيضًا بالأدوية. فيما يخص العلاج الطويل الأمد، يُفضل استخدام مضادات اكتئاب «مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية» SSRI (مثل باروكستين). ولكن على المدى القصير، يمكن وصف أدوية محددة مزيلة للقلق (مضادات القلق) لمساعدة المريض على التعامل مع أزمةٍ ما. أكثر مضادات القلق شيوعًا هي البنزوديازيبينات: تميل هذه الأدوية إلى العمل بسرعة كبيرة وفعالية، ولكن يمكن أن تؤديَ إلى التحمل أو نقص استجابة جسمك للدواء (حيث يعتاد جسمك على تأثيرات الدواء، ومن ثَم يلزم زيادة الجرعات)، كما يمكن أن تؤديَ إلى الإدمان؛ ومن هنا تأتي التوصية بأن تُستخدَم فقط على المدى القصير.

تكون المكاسب الناتجة عن العلاج السلوكي المعرفي أكبرَ في بعض الأحيان، وعادةً ما تستمر فترةً أطول من تلك التي ينتجها العلاج الدوائي. عِلاوةً على ذلك، يمكن أن تنتجَ عن الأدوية أحيانًا آثارٌ جانبية، وقد يكون التخلي عنها أمرًا صعبًا. ولهذا السبب يوصي «المعهد الوطني للتميز السريري» في المملكة المتحدة بالعلاج السلوكي المعرفي باعتباره أولَ خط علاج لكل أنواع اضطرابات القلق، بالإضافة إلى استخدام مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية كخيار ثانٍ. (سنتناول بدائل العلاج المختلفة بمزيد من التفصيل أدناه.)

من المثير للاهتمام، أنه لا يبدو أن الجمع بين العلاج النفسي والأدوية يجلب أيَّ فوائد إضافية. في الواقع، في بعض الحالات (اضطراب الهلع، على سبيل المثال)، قد يتعارض الدواء بالفعل مع العلاج. هذا لأنه، من أجل معرفة أنه يمكنك التعامل مع قلقك في المواقف التي تتعرض لها على نحوٍ منضبط، من الضروري أن تشعر حقًّا بخوفك، وهو شيء تهدف بالطبع الأدوية المضادة للقلق إلى منعه.

أحد التطورات المثيرة للاهتمام، مع ذلك، هو استخدام العقاقير لتعزيز آثار العلاج النفسي. ما زال الأمر في بداياته، ولكن توصَّل الباحثون إلى نتائجَ واعدة باستخدام «المعَزِّزات المعرفية» مثل دي-سيكلوسيرين (الأدوية التي تُسرِّع التعلم). يبدو أن دي-سيكلوسيرين يُسرِّع من التقدم المحرَز عندما يختبر الأفراد دقةَ أفكارهم المخيفة.

(٢) ما العلاجات التي يتلقَّاها الناس؟

كما رأينا، تدعو القواعد الإرشادية الرسمية في المملكة المتحدة إلى استخدام العلاج السلوكي المعرفي لعلاج اضطرابات القلق. ولكن كم عدد الأشخاص الذين يعانون اضطراباتِ القلق والذين يتلقون بالفعل العلاجَ السلوكي المعرفي، أو في الواقع أي شكل آخر من أشكال العلاج؟

ليس عددًا كافيًا، يبدو هذا هو الاستنتاج الحتمي عندما تنظر إلى البيانات المستخلَصة من استطلاع أُجري لصالح «هيئة الخدمات الصحية الوطنية» في عام ٢٠٠٧. فيما يلي النِّسب المئوية للأشخاص الذين لا يتلقون أي علاج على الإطلاق:
  • اضطراب القلق العام: ٦٦٪

  • الرُّهاب: ٤٣٪

  • اضطراب الوسواس القهري: ٦٩٪

  • اضطراب الهلع: ٧٥٪

  • اضطراب القلق والاكتئاب المختلط: ٨٥٪

فيما يلي نِسب الأشخاص الذين يعانون اضطراباتِ القلق ويتلقون علاجًا دوائيًّا فقط:
  • اضطراب القلق العام: ١٨٪

  • الرُّهاب: ٢٣٪

  • اضطراب الوسواس القهري: ١٢٪

  • اضطراب الهلع: ٨٪

  • اضطراب القلق والاكتئاب المختلط: ١١٪

والآن، نِسب الأشخاص الذين يعانون اضطراباتِ القلق ويتلقون نوعًا من الاستشارة أو العلاج، إما مع الأدوية أو بمفردها، مع تمييز النسبة الخاصة بالعلاج السلوكي المعرفي بالخط العريض:
  • اضطراب القلق العام: ١٥٪؛ ٣٪

  • الرُّهاب: ٣٤٪؛ ١١٪

  • اضطراب الوسواس القهري: ١٨٪؛ ٤٪

  • اضطرابات الهلع: ١٧٪؛ ٤٪

  • اضطراب القلق والاكتئاب المختلط: ٥٪؛ ١٪

أحد أسباب ندرة استخدام العلاج السلوكي المعرفي هو نقص المعالجين المدَرَّبين. هذا هو الوضع الذي حاولت حكومة المملكة المتحدة تصحيحه من خلال برنامج «تحسين الوصول إلى العلاجات النفسية»، الذي أُطلِق في عام ٢٠٠٧ بهدف تدريب ٣٦٠٠ معالج جديد.

(٣) العلاج الدوائي

تُستخدم ثلاثة أنواع رئيسية من العقاقير لعلاج القلق: مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية، والبنزوديازيبينات، وحاصرات بيتا.

(٣-١) مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية

قد تُفاجأ عندما تكتشف أن القلق يُعالج باستخدام مثبطاتِ إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية. فمثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية تُعَد من مضادات الاكتئاب. وكانت تُسوَّق بالتأكيد على أنها مضادات للاكتئاب عندما ظهرت على الساحة في أواخر الثمانينيات. لكن قدرتها على إخماد مشاعر القلق جعلتها الخيار الصيدلاني الأول لهذه الاضطرابات. في الواقع، جادل بعض الخبراء بأنها أكثرُ فعالية في علاج القلق من فعاليتها في علاج الاكتئاب.

من بين مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية التي تُوصَف عادةً لمشكلات القلق الباروكستين، والفنلافاكسين، والسرترالين. على عكس خيارات العقاقير الأخرى، غالبًا ما يستغرق الأمر بضعة أسابيع لتظهر الفوائد. بمجرد أن يبدأ مفعول مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية بالظهور، فإنها يمكن أن تقلل من إحساسنا بالتهديد وبدلًا من ذلك تحفز الشعور بالرضا المتسم بالهدوء. الآلية التي تفعل بها ذلك غير معروفة. وتزيد مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية من كمية السيروتونين في الدماغ، ولكن لا يزال ما يعنيه هذا فيما يخص القلق غير مفهوم. كما كتب الطبيب النفسي ديفيد هيلي: «نعرف الكثير عن موضع دخول العقاقير في الدماغ، ولكن القليل جدًّا عن كيفية عملها.»

(٣-٢) البنزوديازيبينات

مثل العديد من الأدوية الأخرى، يَدين نجاح البنزوديازيبينات بقدرٍ كبير إلى الحظ. صنَّع عالمٌ يُدعى ليو ستيرنباخ عقارَ الكلورديازيبوكسيد في عام ١٩٥٥ أثناء عمله لدى شركة الأدوية العملاقة «هوفمان-لاروش»، لكنه لم يرَ أي سبب لمواصلة العمل عليه.

قبع الكلورديازيبوكسيد في ركنٍ من أركان معمل ستيرنباخ مدة عامين حتى ألقى زميله، إيرل ريدر، نظرةً أخرى عليه. اندهش ريدر من النتائج، وسرعان ما رأت الشركة إمكانات هذا العقار. قُدِّم الكلورديازيبوكسيد، الذي غُيِّر اسمه إلى «ليبريوم»، إلى السوق في عام ١٩٦٠، وتبِعه بعد سنوات قليلة الديازيبام (الفاليوم).

قدَّمت البنزوديازيبينات فيما يبدو علاجًا آمنًا وسريع المفعول لتأثيرات القلق، وكانت شائعة بشكل مذهل. ربما ليس من المستغرب أن يكون الجمهور متحمسًا للغاية: تنتج البنزوديازيبينات إحساسًا بالاسترخاء يشبه الشعور الناتجَ عن الكحول. وهي تفعل ذلك من خلال تعزيز تأثير مادة كيميائية عصبية تسمَّى حمض جاما أمينوبيوتيريك (جابا)، والتي تهدئنا عندما نشعر بالقلق.

ومع ذلك، اكتشف العلماء تدريجيًّا أن عقار البنزوديازيبين لم يكن رائعًا تمامًا كما كان يبدو. كانت الآثار الجانبية غيرَ السارة شائعة، وقد يؤدي إيقاف الدواء إلى ظهور أعراض انسحاب سيئة. في الواقع، تحوَّلت آراء العلماء والجماهير تحولًا تامًّا لدرجةِ إسقاط اسم العلامة التجارية «فاليوم».

لا تزال البنزوديازيبينات (المعروفة أيضًا باسم «المهدِّئات الصغرى») توصف على نطاقٍ واسع لبعض مشكلات القلق، على الرغم من أنه يوصى باستخدامها على المدى القصير: عادةً من أسبوعين إلى أربعة أسابيع. وتشمل الأصناف الشائعة الاستخدام كلورديازيبوكسيد (ليبريوم) وديازيبام (الفاليوم السابق) ولورازيبام (أتيفان) وبرومازيبام (ليكسوتان) وألبرازولام (زاناكس) وكلورازيبات (ترانكسين).

(٣-٣) حاصرات بيتا

في أولمبياد بكين ٢٠٠٨، أصبح الكوري الشمالي كيم جونج-سو أولَ لاعب رماية يُقصى من الألعاب الأوليمبية بعد أن ثبَت تعاطيه مادةً محظورة. كانت المادة المعنية هي عقار بروبانولول، وهو مِن حاصرات بيتا، وقد كلَّف كيم جونج-سو ميداليتَيه الفضية والبرونزية.

ما يمكن أن يغريَ لاعب رماية لأن يتعاطى عقارًا من حاصرات بيتا ليس لغزًا. فهذه العقاقير — التي كان البروبانولول أولَ ما طُوِّر منها، في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي — تمنع بسرعة العديدَ من الأعراض الفسيولوجية للقلق، مثل ارتفاع معدل ضربات القلب والتعرق والارتعاش.

توصف حاصرات بيتا أساسًا لعلاج مشكلات القلب والأوعية الدموية مثل ارتفاع ضغط الدم أو الذبحة الصدرية. لكن يُعتقد أن الموسيقيين الأوركستراليين وغيرهم من المؤدين يستخدمونها على نطاق واسع للسيطرة على تأثيرات الأعصاب. وبينما قد تساعد حاصرات بيتا في مواقفَ محددة وقصيرة المدى، لا يوصى بها للعلاج الطويل الأمد لاضطرابات القلق.

(٣-٤) العلاج السلوكي المعرفي

طُوِّر العلاج السلوكي المعرفي من قِبَل الطبيب النفسي الأمريكي آرون بيك (وُلِد عام ١٩٢١)، في البداية كعلاج للاكتئاب. وكما كتبت عالمة النفس جيليان بَتْلَر، فإن العلاج السلوكي المعرفي «يعتمد على إدراك أن الأفكار والمشاعر مرتبطة ارتباطًا وثيقًا. إذا كنت «تفكر» أن شيئًا ما سوف يحدث بشكل خاطئ، فسوف تشعر بالقلق؛ وإذا كنت «تفكر» أن كل شيء سيكون على ما يُرام، فسوف «تشعر» بمزيد من الثقة.» لذلك يساعد المعالجون الذين يستعينون بالعلاج السلوكي المعرفي مرضاهم في تحديد وتقييم الأفكار السلبية والسلوكيات غير المفيدة التي تنتج عنها عادةً.

العلاج السلوكي المعرفي ليس برنامجًا معياريًّا ضيقًا. بل تعتمد طريقة تطبيقه في حالة اضطراب القلق (أو في الواقع في حالة أي اضطراب آخر) على طبيعة الاضطراب والشخص المُعالَج. يعتمد العلاج على بناء نماذج مفصَّلة توضح كيفيةَ حدوث الاضطراب وبقاءه والتغلب عليه. وكلما اكتُشِف المزيد، حُدِّث النموذج وطُوِّر العلاج وفقًا لذلك.

(بالمناسبة، إحدى المشكلات التي تُعالَج عادةً باستخدام العلاج السلوكي المعرفي هي توهُّم المرض، وهو خوف الشخص من أن يكون مصابًا بمرض خطِر. وغالبًا ما يُشار إلى توهُّم المرض باسم «القلق بشأن الصحة». ومع ذلك، فإن أنظمة التصنيف النفسي لا تصنفه باعتباره أحدَ اضطرابات القلق، رغم أن العديد من الخبراء يعتقدون أنه سيكون من المنطقي فِعل ذلك.)

تكمُن في صميم العلاج السلوكي المعرفي للقلق فكرةُ أن الخوف نتاج «التأويل». نحن خائفون ليس لأن شيئًا فظيعًا يحدث، ولكن لأننا «نعتقد» أنه سيحدث في المستقبل. للتغلب على قلقك، يجب عليك التحقق من تأويلك من خلال تجربة الموقف الذي تخافه. ويجب عليك فِعل ذلك دون تبني أيٍّ من سلوكيات السلامة التي قد تستخدمها عادةً من أجل التأقلم. إذا تمكَّنت من فِعل ذلك، فسوف تكتشف أن مخاوفك في غير محلِّها.

على سبيل المثال، الشخصُ الذي يعاني الوسواسَ القهري ويخشى التلوث، يُشجَّع على الوجود في بيئات قذرة، وعلى مقاومة السلوك القهري وهو الاغتسال مرارًا وتكرارًا بعد ذلك كما يفعل عادةً. وقد يُطلب من الشخص المصاب باضطرابِ الهلع زيارةُ مكان يتجنَّبه عادةً والبقاء فيه حتى عندما يشعر بإحساس الهلع. وإذا تمكَّن الشخص من تجاوز حالة الهلع، بدلًا من محاربتها، فسيجد أن ما يخشاه — نوبةً قلبيةً، ربما، أو إغماء — لم يحدُث. وقد يُعرض على الشخص المصاب بالرُّهاب الاجتماعي مقاطع فيديو له في موقف اجتماعي، مرةً عند استخدام سلوكيات السلامة الخاصة به (تجنُّب التواصل بالأعين، على سبيل المثال، أو التمرين بعناية على كلِّ ما يقوله) ومرةً من دون سلوكيات السلامة هذه. يمكنه بعد ذلك أن يرى أن سلوكياته المتعلقة بالسلامة لا تساعد في الواقع. ومن المحتمل أيضًا أن يكتشفَ أنه يخالط الناس بشكلٍ أفضل بكثير مما كان يتخيل. نَصِف أدناه العلاجَ السلوكي المعرفي لمشكلتين بتعمُّق أكبر.

(٣-٥) العلاج السلوكي المعرفي للرُّهاب

استُخدِم العلاج السلوكي المعرفي، وما زال، بنجاح كبير لمعالجةِ طائفةٍ واسعةٍ من الرُّهاب. أحد الأمثلة البارزة هو البرنامج الذي طوَّره لارش يوران أست، أستاذ علم النفس في جامعة ستوكهولم، لعلاج الأشخاص الذين يعانون رُهابَ العناكب. البرنامج موجز للغاية، ويتألف من تقييمٍ مدةَ ساعة واحدة تليها جلسةُ تَعرُّض مدتها ثلاث ساعات.

خلال تلك الساعات الثلاث، يوجِّه أست الشخصَ عبر سلسلة من المهام المتزايدة الصعوبة. كما هو معتاد في التعرض في العلاج السلوكي المعرفي، يضع أست نموذجًا للسلوك المطلوب للمريض. ويساعد السماح للشخص برؤيةِ ما ينطوي عليه الأمر قبل القيام بمهمةٍ ما على تشجيعه واسترخائه.

أولًا، يتعلم الشخص الإمساكَ بعنكبوت صغير في وعاء زجاجي؛ ثم لمس العنكبوت؛ وأخيرًا ترك العنكبوت يمشي على يده. قبل المهمة الثانية، يُسأل الشخص عما يتوقع أن يحدث له. يقول أست: «ما يقرُب من ١٠٠ في المائة من مرضانا يقولون إن العنكبوت سوف يزحف صاعدًا على أيديهم، وعلى الذراع وتحت الملابس.» ولكن سرعان ما يكتشف الفرد أن تفسيره خاطئ؛ ففي الواقع، يهرُب العنكبوت.

بمجرد أن يكمِل المريض المهامَّ الثلاث، يكررها بسلسلة من العناكب المتزايدة الحجم. بحلول نهاية الجلسة، سيكون لدى الشخص أكبرُ عنكبوتين يتجولان على يديه؛ وهو إنجاز رائع جدًّا بالنظر إلى ما كان يشعر به تجاه العناكب قبل ساعات قليلة فقط.

لقد طوَّر أست علاجًا مشابهًا للأشخاص الذين يعانون رُهابَ الإصابات والحُقن والدم. في هذه الحالة، تُعرَض سلسلةٌ من الصور الدموية بشكل متزايد للجروح والعمليات وما شابه. لكن هذا الرُّهاب لا يشبه أيَّ نوع آخر: فبدلًا من ارتفاع ضغط دم الفرد عند مواجهة الشيء أو الموقف المخيف، فإنه ينخفض. وهكذا، لمنع الشخص من الإغماء عند رؤية الدم، يعلِّمه أست اكتشاف العلامات المبكرة لانخفاض ضغط الدم والاستجابة بشد عضلاته بشكلٍ متكرر. هذا «التوتر المُطَبَّق» يزيد من ضغط دم الفرد، ومن ثَمَّ يمكنه من المضي قُدمًا في مهمة التعرض.

(٣-٦) العلاج السلوكي المعرفي لاضطرابِ ما بعد الصدمة

عادةً ما يكون للعلاج السلوكي المعرفي الحديث لاضطرابِ ما بعد الصدمة ثلاثة أهداف:
  • مساعدة الشخص على التوقف عن معاودة معايشة الصدمة عن طريق معالجة ذاكرته غير المكتملة والفوضوية للحدث.

  • تغيير وجهات النظر السلبية التي يتبناها الشخص حول الصدمة وما تعنيه له.

  • مساعدة الشخص على التوقف عن تجنبِ ما يذكره بالصدمة، أو عن تخدير مشاعره بالكحول أو المخدِّرات.

يتضمن العلاج عادةً من عشر إلى اثنتي عشرة جلسة أسبوعية مدةُ كلٍّ منها تسعون دقيقة، تليها ثلاث جلسات «تعزيز» شهرية. وهذا يتطلب التزامًا كبيرًا جدًّا بالوقت (والانفعال) من جانب المريض. لكنَّ فريقًا من مطوري العلاج السلوكي المعرفي المشهورين — نيك جراي، وفريدا ماكمانوس، وآن هاكمان، وديفيد كلارك، وآنكِي إيلرز — قادوا دورةً مكثفةً من علاج اضطرابِ ما بعد الصدمة، مع تركيز الجلسات في أسبوع واحد. دعونا نلقي نظرة على مثال منها.

كان مارك، وهو مهني يبلغ من العمر ٣١ عامًا، يعاني كوابيسَ، وذكريات استرجاعية، وغضبًا، واكتئابًا بعد حادث دراجة نارية قبل تسعة أشهر. وشعر بالحزن والانزعاج حتى إنه كان يفكر في الانتحار كل يوم.

خلال الجزء الأول من الأسبوع، شُجِّع مارك على «إعادة معايشة» الحادث في مخيِّلته. كانت أكثر ذكرياته إثارة للحزن هي الانزلاق على الطريق بعد أن صدمته سيارة؛ والحافلة التي كانت تلوح في الأفق والتي اعتقد أنها ستدهسه؛ والاستلقاء على الطريق بعد الحادث. صاحَبَ هذه الذكريات بعض الأفكار السلبية للغاية. كان يعتقد، على سبيل المثال، أن حياته كانت «مليئة بالحماقات»، وأن صورته وهو راقد وحيدًا على الأرض تلخِّص عزلته العامة.

مع تقدُّم الجلسات، تلقَّى مارك مساعدةً على سد الفجوات في ذاكرته للصدمة وتحدي أفكاره السلبية. تذكَّر، على سبيل المثال، أن العديد من المارة كانوا متعاونين ومُراعين، وأنه ظل راقدًا وحده على الطريق وقتًا أقلَّ بكثير مما كان يعتقد سابقًا. من خلال المناقشات مع المعالج، أدرك مارك أن حياته كانت بعيدة كلَّ البعد عن الكآبة التي شعر بها في بعض الأحيان، وأنه لم يكن وحده.

أيضًا تلقى مارك تشجيعًا على معاودة زيارة موقع الحادث؛ وهو أمرٌ كان يتجنبه دائمًا. وبدأ في ركوب دراجته النارية مرة أخرى. وللمرة الأولى، كان قادرًا على مناقشة تجربته مع صديقته.

بعد أسبوع من العلاج، تحسَّنت أعراض مارك بشكل كبير. واستمرت المكاسب: بعد ١٨ شهرًا، كان مارك لا يزال بخير ويستمتع بالحياة.

(٣-٧) العلاج السلوكي المعرفي القائم على الواقع الافتراضي

يُعدُّ عامل التعرض في العلاج السلوكي المعرفي مجديًا، لكنه لا يخلو من العيوب. يُشتبه، على سبيل المثال، في أن بعض الأشخاص يترددون جدًّا في معايشة الموقف الذي يخشونه حتى إنهم لا يسعون للعلاج. وكيف يمكن للمرء أن يخلُق بسهولة مواقفَ تعرض لشخص يخاف من الطيران؟

أحد الحلول هو العلاج السلوكي المعرفي القائم على الواقع الافتراضي. يتضمن هذا ارتداءَ الفرد سماعة رأس مصممة خصوصًا تجعله ينغمس في تجربة تمثيلية مُنشأة حاسوبيًّا لما يخافه، هذه التجربة تكون كاملة بالأصوات، وأحيانًا حتى الروائح. استُخدِم الواقع الافتراضي لعلاج اضطراب الهلع، والرُّهاب الاجتماعي، والخوف من الطيران، والعناكب، والارتفاعات، ونجم عنه نجاح مماثل للنجاح الذي نجم عن العلاج التقليدي بالتعرض في «بيئة حيوية». يُختَبر الآن العلاج السلوكي المعرفي القائم على الواقع الافتراضي كعلاج محتمَل لقدامى محاربي الولايات المتحدة الأمريكية الذين يعانون اضطرابَ ما بعد الصدمة بعد الخدمة في العراق وأفغانستان.

(٣-٨) العلاج السلوكي المعرفي القائم على المساعدة الذاتية

كما ستخبرك نظرةٌ في أرجاء أي متجر بيع للكتب ذي حجم معتبر، فإن المساعدة الذاتية مجالٌ من المجالات الضخمة. ولكن هل حقًّا تساعد «المساعدة الذاتية»، ولا سيما المصادر التي تتناول العلاج السلوكي المعرفي في الأساس؟

قبل أن نجيبَ عن هذا السؤال، تجدُر الإشارة إلى أن المساعدة الذاتية هذه الأيام تأتي في تنويعات عدة. فهناك الكتب التقليدية، التي تقدِّم ما يُعرف باسم «العلاج بالقراءة»؛ والأقراص المضغوطة؛ والشرائط الصوتية والمصادر المستندة إلى الإنترنت.

من المؤكد أنه لا خلافَ على الطلب: فقد أصبحت العديد من كتب المساعدة الذاتية من أكثر الكتب مبيعًا، ويذكر المعهد الوطني الأمريكي للصحة العقلية وجودَ سبعة ملايين زيارة على موقعه على الويب كل شهر. وبالنسبة إلى العديد من الأشخاص، فإن المساعدة الذاتية هي طريقة أكثر قبولًا لمعالجة مشكلاتهم النفسية من طلب المشورة من اختصاصي صحي. وغالبًا ما يوصي هؤلاء الاختصاصيون الصحيون بأن يلجأ مرضاهم إلى مواد المساعدة الذاتية كجزء من علاجهم.

وهو ما يعيدنا إلى هذا السؤال الرئيسي: هل تنجح المساعدة الذاتية القائمة على العلاج السلوكي المعرفي؟ تشير الأدلة إلى أنها يمكن أن تنجح، على الأقل إلى حدٍّ ما. لكنها غالبًا ما تكون أكثرَ فاعلية عندما يكون هناك أيضًا مساهمة من معالِج بشخصه.

(٣-٩) أسلوب الحياة

إذا كان يساورك هاجس بشأن مستويات القلق لديك، فقد تؤدي بعض التغييرات في نمط حياتك إلى تحسين مزاجك كثيرًا بمرور الوقت.

الدراسات المضبوطة جيدًا في هذا المجال ليست وفيرة، ولكن توجد أدلة تشير إلى أنه يمكن تقليل القلق من خلال:
  • التمارين الهوائية؛

  • النظام الغذائي الصحي؛

  • تدريب الاسترخاء (حيث تتعلم إرخاء عضلاتك تدريجيًّا)؛

  • التدليك؛

  • اليوجا؛

  • التأمل الواعي (توليفة من التفكير النفسي الغربي الحديث والمعتقدات والممارسات البوذية القديمة، لا سيما التأمل، الذي يؤكد تعلُّمَ العيش في اللحظة الحالية، وفهْم أن أفكارك ومشاعرك مؤقتة وعابرة وليست بالضرورة انعكاسًا للواقع).

قدَّمت دراسة، استمرت عامين على أكثر من عشرة آلاف شخص يعيشون في بعض أفقر المناطق في بريطانيا، بيانًا ساطعًا على الفرْق الذي يمكن أن يحدِثه أول اثنين في هذه القائمة. فقد أدت الزيادات الكبيرة في ممارسة التمارين البدنية أو في تناول الفاكهة والخضراوات إلى تحسينات ملحوظة في الصحة العقلية. وتحديدًا، أفاد الناس بأنهم يشعرون بمزيد من السلام والسعادة.

يمكن أن يسبب القلق صعوباتٍ كبيرة لكثير من الناس. ولكن، كما رأينا، يوجد الآن العديد من الطرق للتعامل مع القلق المسبِّب للمشكلات. وبعضها معروف منذ قرون؛ وبعضها اكتُشِف بالصدفة؛ وبعض من أكثر الطرق الواعدة مبني على البحث في أسباب القلق التي وصفناها في هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤