الفصل الثاني

نظريات القلق

كما رأينا في الفصل الأول، نادرًا ما استخدم الأطباء والعلماء مصطلح «القلق» حتى القرن العشرين. ومع ذلك، مع تزايد الاهتمام بالقلق فقد تطوَّرت مجموعة ثرية ومتنوعة بصورة متزايدة من العمل النظري المكرَّس لفهمه. في هذا الفصل، نلقي نظرة على القلق من أربعة منظورات رئيسة، وهي ترتقي من الأفكار التي تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر إلى أحدث التطورات:

  • منظور التحليل النفسي

  • المنظور السلوكي

  • المنظور المعرفي

  • منظور البيولوجيا العصبية

(١) نظريات التحليل النفسي المرتبطة بالقلق

كلما تعمقنا أكثرَ في دراسة العمليات العقلية، أدركنا وفْرتها وتعقيدها. وثمة عددٌ من الصيغ البسيطة التي بدت في بداية الأمر أنها تلبي احتياجاتنا، تبيَّن لاحقًا أنها غير مناسبة. وهنا، حيث نتعامل مع القلق، ترى كل شيء في حالة من التغيير والتقلب.

«القلق والحياة الغريزية» لسيجموند فرويد

من الشخصيات التاريخية المؤثِّرة في دراسة القلق مؤسسُ التحليل النفسي، سيجموند فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩). دُرِّب فرويد طبيبًا في جامعة فيينا، وتخصَّص في علم الأعصاب (دراسة وعلاج اضطرابات الجهاز العصبي). بحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، توصَّل فرويد إلى الاعتقاد بأن الأعراض التي ظهرت على العديد من مرضاه لم تكن نتاجًا لمرض في الجهاز العصبي المادي، بل نتاجًا لفشلهم في التعامل مع الدوافع النفسية غير المرئية واللاواعية والجنسية في المقام الأول. أصبحت هذه الفكرة حجرَ الزاوية في التحليل النفسي، الذي ظل الشكل السائد لعلاج المشكلات النفسية في أوروبا والولايات المتحدة حتى سبعينيات القرن الماضي على الأقل.

تمثَّل اهتمامُ فرويد بالقلق في نشرِ ورقته البحثية، «حول أسس فصل متلازمة معينة من الوهن العصبي تحت اسم «عصاب القلق»» في عام ١٨٩٥. كما يشير العنوان، كان الغرض الرئيسي من هذه الورقة البحثية هو التمييز بين ما أسماه فرويد «عصاب القلق» (Angstneurose) والأشكال الأخرى من المرض العصبي (أو الوهن العصبي).
ما أعراض «عصاب القلق»؟ فيما يلي الأعراض طبقًا لفرويد:
  • حدة الطبع

  • شعور متجذِّر ومزعج بالتشاؤم؛ الاعتقاد بأن كارثة على وشْك الحدوث. أطلق فرويد على هذه السمة اسم «التوقع القلِق».

  • نوبات الهلع، وغالبًا ما تنطوي على أعراض جسدية مثل صعوبة التنفس، وآلام في الصدر، والتعرق، والدُّوار، والرعشة.

  • الاستيقاظ خوفًا في الليل.

  • الدُّوار، حيث يختبر الشخص «أحاسيسَ بأن الأرض تهتز، وبأن ساقيه واهنتان، وبأنه يستحيل عليه أن يقف».

  • الرُّهاب.

  • الشعور بالغثيان أو الجوع الشديد أو الإسهال.

  • وخز في الجلد (كوخزات دبابيس وإبر) أو تنميل.

يقول فرويد إن السبب في عصاب القلق — على عكس الأمراض العصبية الأخرى — هو العجز عن إشباع مشاعر الاستثارة الجنسية المتراكمة على النحو الملائم. على سبيل المثال، استشهد فرويد بحالات «العزوف عن ممارسة الجنس عمدًا» في الرجال والنساء؛ وحالات الرجال الذين يمرون ﺑ «حالة استثارة غير مكتملة»، على سبيل المثال إذا كانوا مخطوبين ولكنهم لم يتزوجوا بعد؛ والنساء اللاتي يعاني أزواجهن من القذف المبكر أو من ضعف ملحوظ في القدرة الجنسية … [أو] يمارس أزواجهن الجماع مع القذف خارج المهبل أو يمارسون الجماع دون قذف».

بل من المفارقات، بالنظر إلى أن التحليل النفسي يدور حول أسبقية العقل، أن فرويد كان يعتقد في عام ١٨٩٥ أن القلق ناجم عن عوامل «جسدية». كان للاستثارة الجنسية بالتأكيد تأثيرٌ عميق على النفس أدى إلى الرغبة في الإشباع الجنسي، ولكن جوهرها كان فسيولوجيًّا. يقول فرويد إن الاستثارة عند الرجال عبارة عن «ضغط على جدران الأوعية المنوية». واعتقد فرويد أن عملية مماثلة تحدث في حالة النساء، ولكنه لم يكن يعرف ماهيتها.

ومع ذلك، فآراء فرويد حول القلق تطوَّرت بشكل كبير على مر العقود. يتلخص رأيه الأخير في «القلق والحياة الغريزية»، وهي محاضرة ألقاها في عام ١٩٣٢. كان فرويد لا يزال يعتقد أن عصاب القلق متجذر في الطاقة الجنسية، ولكنه كان ينظر في ذلك الوقت إلى هذه الطاقة على أنها نفسية في الأساس وليست جسدية.

ربما لاحظتم استخدام مصطلح «عصابي» في هذا السياق. وهذا لأن فرويد بحلول ذلك الوقت كان يميز بين القلق كاستجابة مبرَّرة لخطرٍ حقيقي، وما يسمَّى بالقلق العصابي، وهو قلق مفرِط وغير عقلاني. ينشأ القلق الواقعي من تهديدات في البيئة الخارجية؛ بينما ينشأ القلق العصابي من الداخل، على الرغم من أننا غير مدركين لسببه الحقيقي. القلق الواقعي يساعدنا؛ أما القلق العصابي فيمكن أن يجعل حياتنا بائسة.

أحد العناصر الأساسية في نظرية القلق لدى فرويد هو ما أسماه باﻟ «هو» (ويطلق عليه باللاتينية id)، وهو مخزون نفسي بدائي ووحشي للرغبات الغريزية. وتقع مهمة إدارة هذه الرغبات والسيطرة عليها، والمدفونة عميقًا في لا وعينا، على عاتق الجزء الثاني من النفس الفرويدية، ألا وهو «الأنا» (ويطلق عليه باللاتينية ego). عندما تفشل الأنا في هذه المهمة التي لا تُحسد عليها، ينتج عن ذلك قلق عصابي، وبذلك تُقْمَع الرغبة. يشير فرويد أيضًا إلى أن نوبات القلق التي نُصاب بها تستدعي لأذهاننا مواجهتنا الأولى مع الخطر: صدمة الولادة. وكل خوف قلق نمرُّ به هو تكرار لهذا الحدث الجوهري.

تتضح نظرية القلق المتطورة لفرويد من خلال واحدة من أشهر دراسات الحالات التي قام بها، ألا وهي دراسة «هانز الصغير». كان هانز صبيًّا في الخامسة من عمره نشأ لديه خوفٌ من الخيول. قال فرويد، الذي عمل بشكل أساسي انطلاقًا من المعلومات التي قالها والد هانز، إن رُهاب الخيول لدى هانز كان في الواقع خوفًا من رغبته الجنسية اللاواعية تجاه والدته ومن انتقام والده الذي توقَّعه بصورة لا واعية. الخوف «المرفوض» — مرفوض لأنه ناتج عن افتتان الطفل الأوديبي بوالدته — يتحول إلى رُهاب أكثرَ قبولًا. وهكذا أُلغي التمييز الدقيق بين المخاوف الواقعية والعصابية: يوضح فرويد أن أصل كل قلق عصابي، هو الخوف من خطرٍ خارجي (الخوف من العِقاب على يد الأب في هذه الحالة، ربما عن طريق الإخصاء).

كان فرويد، بلا شكٍّ، أحدَ أكثر المفكرين تأثيرًا في القرن العشرين، ومع ذلك يعتبر العلماء أفكاره في الوقت الحاضر غير مناسبة بشكل أو بآخر. كما كتب عالم النفس ستانلي راتشمان: «أعماله بأكملها، بما في ذلك نظرية القلق، غنيةٌ بالتنظير، ولكنها تفتقر إلى الدقة المنهجية والحقائق».

(٢) النظريات السلوكية حول القلق

القلق استجابة مكتسَبة.

أورفال هوبارت ماورر

أُجْريَت واحدة من أشهر التجارب في تاريخ علم النفس في لندن في عام ١٩٢٠. وقد أُجْريَت بقيادة جون بروداس واطسون (١٨٧٨–١٩٥٨) الذي كان أشهر نجوم علم النفس الأنجلو أمريكي آنذاك. كان واطسون رائد «السلوكية»، وهو المنهج الذي سيطر على علم النفس الأكاديمي خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين.

رفضت السلوكية بقوة علم النفس الأكاديمي الذي أسَّسه كلٌّ من فيلهلم فونت (١٨٣٢–١٩٢٠) وويليام جيمس (١٨٤٢–١٩١٠)، كما رفضت التحليل النفسي، وسرعان ما أصبحت السلوكية المنهج السائد في أوروبا لفهم ومعالجة العقل واضطراباته.

اتخذت السلوكية، كما يوحي الاسم، سلوكَ البشر والحيوانات (لم ترَ فرقًا جوهريًّا بين الاثنين) موضوعًا لها. في الواقع، رأى واطسون أن السلوك هو الموضوع الوحيد المناسب دراسته لعلم النفس العلمي الحقيقي. وقال إن الأفكار والانفعالات والأحلام كلها غير مهمة. كيف يمكن دراسة هذه الظواهر علميًّا؟ كتب واطسون في مقاله «علم النفس كما يراه السلوكي»، في عام ١٩١٣ أن:

علم النفس … فرعٌ تجريبي موضوعي بحت من فروع العلوم الطبيعية … هدفه النظري هو التنبؤ بالسلوك والتحكم فيه.

رأى واطسون وأتباعه أن لكل سلوك تفسيرًا بسيطًا، ألا وهو أننا «نتعلمه». وهذا يعيدنا إلى تجربة عام ١٩٢٠ الشهيرة. إلى جانب واطسون، كان البطل الآخر لهذه التجربة في عام ١٩٢٠ رضيعًا خلَّده واطسون (ومساعِدته وزوجته المستقبلية روزالي راينر) تحت اسم «ألبرت بي».

كان ألبرت بي يبلغ من العمر تسعة أشهر، وكان ابن مرضعة في «عيادة هارييت لين للأطفال العاجزين» في لندن. بدأ واطسون وراينر باختبار ردود فعلِ ألبرت على مجموعة من الأشياء، بما في ذلك فأرٌ أبيض، وأرنب، وكلب، وقطن طبي، وصحف محترقة. بدا ألبرت — الذي كان، وفقًا لعالمي النفس، طفلًا سعيدًا ومعافًا وهادئًا — فرحًا بكل هذه الأشياء.

بعد بضعة أسابيع، عرض واطسون وراينر الفأر الأبيض على ألبرت للمرة الثانية. في هذه المرة، بمجرد أن لمس ألبرت الفأر، ضرب عالما النفس بمطرقة على منضدة فولاذية، مما أحدث ضوضاء عالية مفاجئة ومخيفة. خلال الأسابيع القليلة المقبلة، اكتشفا أن ألبرت صار يخاف من الفأر الأبيض، حتى عندما لا يضربان بالمطرقة على المنضدة الفولاذية. وليس ذلك فحسب، بل كان الطفل يخاف أيضًا من الأشياء التي تشبه الفأر الأبيض بصورةٍ ما، مثل الأرنب أو حتى شعر واطسون.

استخدم واطسون وراينر مصطلح «الارتباط الشرطي» لوصف عملية تعلُّم الخوف من شيء أو موقف محايد لا يشكل تهديدًا بسبب اقترانه بحدث آخرَ مخيف أكثر بصورة واضحة. تأثَّر واطسون وراينر بشدة في هذه التجربة بعمل العالم الروسي إيفان بافلوف (١٨٤٩–١٩٣٦). أثبت بافلوف إثباته الشهير أنه بمجرد ارتباط محفِّز معين (بندول الإيقاع على سبيل المثال) بالطعام، ستتعلم الكلاب الاستجابة لهذا المحفِّز بنفس الطريقة التي تستجيب بها للطعام — بإفراز اللعاب — حتى في حالة عدم وجود طعام.

استخدم واطسون وراينر مثال ألبرت بي كدليل على نظريتهما القائلة بأن جميع المخاوف ناتجة عن الارتباط الشرطي، وإننا عادةً ما نتعلمها في طفولتنا:

توفِّر الحياة المنزلية المبكرة للطفل وضعًا مَعْمَليًّا لإنشاء استجابات انفعالية مشروطة.

وقالا إن الارتباط الشرطي هو الذي يفسِّر كيف تتطور المخاوف غير المنطقية والرُّهاب:

من المحتمل أن العديد من حالات الرُّهاب في علم النفس المرضي هي استجابات انفعالية مشروطة …

بالطبع، لا يمثل طفل واحد عينةً علمية قوية؛ ومن ناحية أخرى، أجرى واطسون معظم تجاربه على الفئران.

طوَّر عالم النفس الأمريكي أورفال هوبارت ماورر (١٩٠٧–١٩٨٢) الأفكار السلوكية المتعلقة بالقلق فيما بعد. قال ماورر فيما أطلق عليه نظرية القلق ذات المرحلتين، إن القلق — وعلى وجه التحديد الرغبة في تجنُّبه — هو محرك جوهري للسلوك البشري:

القلق (الخوف) هو الشكل الشرطي للاستجابة للألم، والذي له وظيفة مفيدة للغاية في تحفيز وتعزيز السلوك الذي يميل إلى تجنُّب أو منع تكرار المحفزات المنتجة للألم. [هكذا يؤكد ماورر]

إن تركيز ماورر على القوة التحفيزية للتجربة يتنبأ بنظرية الارتباط الشرطي الاستثابي لعالم النفس بجامعة هارفارد بورهوس سكينر (١٩٠٤–١٩٩٠). ركَّز سكينر على تأثير سلوكنا على العالم من حولنا. إذا كان التأثير إيجابيًّا، نتعلم تكرار السلوك؛ بينما يعلِّمنا التأثير السلبي أن نجرِّب شيئًا مختلفًا في المرة القادمة. لذلك، على سبيل المثال، نظرًا لأننا نعرف مقدار الألم الذي يمكن أن يُلحِقه بنا كلب بيتبول غاضب، والرعب الذي سنشعر به أثناء اندفاعه نحونا، نحرص على ألا نقوم بأي حركات مفاجئة أو تهديدية عندما نمر بجانب أي كلب من هذا النوع.

مثل هذا السلوك منطقي إلى حدٍّ كبير عندما يتعلق الأمر بمخاطرَ حقيقية. لكن نظرية ماورر تساعد أيضًا في تفسير كيف يمكن للقلق غير العقلاني أن يستحوذَ على الشخص. فالشخص الذي يتجنب ركوب الطائرات بسبب القلق الذي تثيره فيه، يحرم نفسه من فرصة اكتشاف أن مخاوفه مُبالغ فيها؛ إذ إن فرص الموت أو الإصابة في حادث تحطُّم طائرة ضئيلةٌ للغاية، ومن ثَم سيتبدد في النهاية الخوف الذي يبدو غامرًا في بدايته. ويؤدي تجنب مثل هذه المواقف إلى أن يُحكِم القلق قبضته علينا أكثر.

عانت المناهج السلوكية المعنية بالقلق لتقديم إجابات مُرضية للعديد من الأسئلة المهمة. على سبيل المثال، لماذا من بين العديد من الأشخاص الذين يمرون بتجربة مخيفة — حادث سيارة، على سبيل المثال — يتطور لدى البعض منهم فقط رُهاب السيارات، مما يعني أنهم يخشون التنقل بالسيارة ثانية؟ لماذا يصاب الكثير من الناس برُهابٍ من مواقفَ لم يسبق لهم أن مروا بها؟ وإذا كان، وفقًا لنظرية الارتباط الشرطي الكلاسيكية، بإمكاننا أن نتعلم الخوف من أي محفز محايد، فلماذا تكون بعض المخاوف أكثرَ شيوعًا من غيرها؟ لماذا يخاف الكثير من الناس من المرتفعات والحيوانات، ويخاف القليل من الأشجار أو الشوكولاتة؟

اقترحت الأبحاث الحديثة تفسيراتٍ لبعض هذه الألغاز على الأقل. من الواضح، على سبيل المثال، أننا في الواقع لا نحتاج أن نختبر حدثًا بأنفسنا كي نخاف من تكراره. يمكننا أن نتعلم الخوف من سلوكيات الآخرين ومما يخبروننا به. لذلك إذا كان أحد الوالدين يعاني الرُّهاب، فهناك فرصة أعلى من المتوسط أن يصاب به طفله أيضًا. وقد تكون بعض المخاوف مرتبطة بالتطور. ومن ثَم، على الرغم من أننا ربما لم نواجه قطُّ ثعبانًا أو عنكبوتًا خطِرًا، فإن أسلافنا بالتأكيد كانت لديهم خبرة كبيرة في خطرهما المحتمل. يمكن فهم الخوف الشائع جدًّا من المرتفعات بالطريقة نفسها. هذه المخاوف الأثرية، التي ورِثناها من البشر في عصورِ ما قبل التاريخ، وصفها علماء النفس بأنها مخاوفُ «تأهبية».

لا تقدم السلوكية تفسيرًا كاملًا للقلق (لكان أمرًا رائعًا إذا فعلت!). ولكنها أسهمت إسهامات ضخمة. تكون العديد من المخاوف مكتسبة فعلًا، وإن لم يكن بطريقة الارتباط الشرطي الفجة نسبيًّا. وفي الواقع، تشكل القدرة على التعلم من التجربة وإعدادُ الخطط لتجنب الخطر المستقبلي جزءًا من تفسير نجاح البشرية. كما قال ماورر:

ربما يرجع السبب في العديد من الإنجازات الفريدة التي حقَّقها الإنسان إلى حقيقةِ أن نزعة التفكير المستقبلي والمثيرة لمشاعر القلق في العقل البشري أكثر تطورًا مما هي عليه في الحيوانات الأدنى.

كما أثَرت السلوكية أيضًا بعضَ الاستراتيجيات الأكثر نجاحًا لعلاج مشكلات القلق. فعلى سبيل المثال، طوَّر عالم النفس الجنوب أفريقي جوزيف وولب (١٩١٥–١٩٩٧)، تقنيةَ «إزالة الحساسية السلوكية» لمعالجة المخاوف والرُّهاب. وما زالت هذه التقنية — التي تتضمن تعريض الأفراد تدريجيًّا للموقف الذي يخشونه، مثل الارتفاعات أو الثعابين، حتى يعرفوا أنه لا يوجد في الواقع ما يدعو إلى الخوف — هي العلاج الأساسي لمرض الرُّهاب.

ويمكن رؤية إرث المدرسة السلوكية في أكثرِ أشكال العلاج النفسي انتشارًا في الوقت الحالي، ألا وهو العلاج السلوكي المعرفي، أو ما يشار إليه اختصارًا ﺑ «سي بي تي». تكمُن في جذور العلاج السلوكي المعرفي الفكرة القائلة بأن الأفكار والمشاعر والسلوكيات السلبية وغير المفيدة ليست فطرية، ولكنها مكتسبة. ولأنها ليست فطرية، فمن الممكن التخلص منها؛ وغالبًا ما يكون التخلص منها سريعًا بدرجةٍ مثيرة للدهشة إذا ما تمَّت الاستعانة بمعالج مختص.

(٣) النظريات المعرفية حول القلق

الفكرة الأساسية هي أن المرء يمر بالانفعالات نتيجةً للطريقة التي يفسِّر أو يقيِّم بها الأحداث. إن معنى الأحداث بالنسبة إلى الشخص هو ما يثير الانفعالات وليس الأحداث نفسها. ويعتمد تقييم الشخص الخاص للحدث على السياق الذي يقع فيه الحدث، وعلى مزاجه وقتَ حدوثه، وكذا تجاربه السابقة.

بول سالكوفسكيس

هيمنت السلوكية — بتركيزها المقصور على جوانب الحياة البشرية التي يمكن دراستها في المختبر — على علم النفس الأكاديمي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين. ولكن بدأت الأمور تتغير في عام ١٩٥٦ مع ظهور ما يسمَّى ﺑ «الثورة المعرفية». تهدف المعرفية إلى تحديد وفهم العمليات الأساسية الكامنة وراء طريقة تفكير البشر؛ أما السلوكية فقد رفضت دراسة الأفكار لأنها ليست من نوعية الأشياء التي يمكن ملاحظتها مباشرة.

لخصَّ أولريك نيسر (١٩٢٨–٢٠١٢) النهجَ الجديد في كتابه الرائد «علم النفس المعرفي» الذي نُشر في عام ١٩٦٧. وكان موضوعه كالآتي:

جميع العمليات التي يتم من خلالها نقلُ المُدخلات الحسية، واختزالها، وتوضيحها، وتخزينها، واستعادتها، واستخدامها … تشير مصطلحات مثل الإحساس، والإدراك، والتصور الذهني، والاحتفاظ، والاستدعاء، وحل المشكلات، والتفكير، من بين العديد من المصطلحات الأخرى، إلى مراحلَ أو جوانب افتراضية من الإدراك المعرفي.

لتوضيح هذه العمليات، حدَّدها المتخصصون في علم النفس المعرفي باستخدام استعارة مستمَدة من مجال آخرَ كان في أوج ازدهاره في ذلك الوقت، ألا وهو الحوسبة. صُوِّرت المعلومات الحسية على أنها معلومات يتلقاها الدماغ، ثم يعالجها في خطوات عبر الإجابة عن سلسلة من الأسئلة بنعم أو لا، تمامًا مثل مخططات تدفُّق البيانات التي بُنيَت عليها العديد من برامج الكمبيوتر. صارت هذه النماذج أكثرَ تعقيدًا في الوقت الحالي، فبدلًا من مخطط تدفُّق البيانات الخطي الذي يتعامل فيه جزء محدَّد من الدماغ مع المدخلات واحدًا تلو الآخر، تحدُث عمليات عقلية متعددة جنبًا إلى جنب على نحوٍ متزامن عبر «شبكة عصبية» مركبة ومتعددة الطبقات.

تُعَد المدرسة المعرفية في الوقت الحاضر هي الاتجاه المهيمن في علم النفس المعاصر. إذن فما الذي تحمله هذه المدرسة في جَعبتها لتخبرنا به عن القلق؟

ربما تكون فكرتها الأساسية هي أن القلق، مثل الانفعالات الأخرى، ينشأ من تقييمنا لموقفٍ ما. في البداية، قد لا يكون هذا التقييم أو التفسير عمليةً واعية؛ ففي كثير من الأحيان، يكون «حَدْسًا». تعمل حواسُّنا كنظام إنذار مبكر، حيث تلتقط شيئًا يحتمل أن يكون مهمًّا ثم تنقله إلى الجزء الأكثر عقلانية من أدمغتنا لبحثه وللنظر فيه. وعندما نكتشف تهديدًا لا نكون واثقين من قدرتنا على التعامل معه، نشعر بالقلق. هذه الأفكار المذكورة أخيرًا والواعية حول التهديد تُعَد أفكارًا جوهرية، وهي ما تسعى العلاجات النفسية الحديثة لحالات القلق الحادة إلى تغييره.

لنتخيل، على سبيل المثال، أنك استيقظت في الساعات الأولى من الصباح على صوت ضوضاء في الطابَق السفلي. كيفيةُ تفسيرك لهذه الضوضاء هي التي ستحدِّد استجابتك الانفعالية. إذا قررت أنها قطتك تتجول وتعبث بالأشياء، فقد تشعر بضجر طفيف من الإزعاج ثم تتقلب في الفراش وتعود إلى النوم. ولكن إذا اعتقدت أنه قد يكون صوت لص وليس قطك الأليف، فمن المؤكد أن القلق سيتمكن منك، وستظل مستيقظًا متسائلًا عما إذا كان يجب عليك التحقق من الأمر. لا يحدد الحدث حالتنا الانفعالية، بل ما يحددها هو الطريقة التي نفسر بها هذا الحدث.

يمكن أن يكون التهديد المتصوَّر إما خارجيًّا، مثل صوت الضوضاء ليلًا، أو داخليًّا. على سبيل المثال، غالبًا ما تكون نوبات الهلع ناتجةً عن الاعتقاد الخاطئ بأن الأحاسيس الجسدية الغريبة، لكنها طبيعية — مثل الضيق في الصدر، أو الوخز في الذراع — هي أعراض مرض خطِر، مثل النوبة القلبية. في الواقع، يمكن أن ينتج عن هذا حلقة مفرغة يعتبر فيها الشخص المظاهر الجسدية للقلق (مثل ضيق النفس، وتسارع ضربات القلب، والغثيان) بمثابة تأكيد على أنه على شفا الانهيار أو الموت، مما يؤدي بدوره إلى مزيد من القلق. مرةً أخرى، الشيء الحاسم في هذه الحالة هو تقييم الفرد لهذه الإشارات الداخلية. وهو ما يعني أنه إذا غيَّرت تفكيرك، يمكنك تغيير انفعالك.

لكن لماذا يفسِّر شخصٌ ضيقَ النفس الذي يشعر به بعد صعود الدَّرج بأنه علامة على الموت الوشيك، بينما نادرًا ما يلاحظه شخص آخر؟ لماذا يفترض شخصٌ ما أن صوت الضجيج في الليل لا يدعو إلى القلق، بينما يجد آخرُ نفسه عاجزًا عن الحركة من فرط القلق؟ تكمُن الإجابة في تصوراتنا المسبقة وأفكارنا وعمليات التفكير التي اعتدناها، وهو ما أطلق عليه مؤسِّس العلاج السلوكي المعرفي آرون تي بيك «المعتقدات التخطيطية». تتشكل هذه المعتقدات التخطيطية على مدار تجاربنا الحياتية. وهي معتقدات راسخة وتلقائية حتى إننا عادةً ما نكون غير مدركين لوجودها.

لا يوجد شيء سلبي بطبيعته حول المخططات المعرفية، فهي تسمح لنا بالتكيف بسرعة مع المواقف التي نجد أنفسنا فيها. لكن اكتشف بيك أن الأشخاص الذين يعانون اضطرابات القلق عادةً ما يمتلكون معتقدات تخطيطية سلبية عن أنفسهم، والعالم من حولهم، والمستقبل (وهو ما يُعرف باﻟ «ثالوث المعرفي»). فمثلًا:
  • «من الحكمة دائمًا افتراض الأسوأ».

  • «يمكن أن تحدُث المتاعب في أي لحظة؛ لذا يجب أن أكون جاهزًا دائمًا».

  • «أنا شخص ضعيف».

  • «لا بد أن أكون مسيطرًا على زمام الأمور».

إذا صدَّقنا مثل هذه المعتقدات، فمن المحتمل أن نبالغ في تقدير التهديد الذي يواجهنا، وأن نستخف بقدرتنا على التعامل معه.

fig2
شكل ٢-١: يُعرف آرون تي بيك بأنه أبو العلاج السلوكي المعرفي، وهو أكثر أشكال العلاج فعالية لمشكلات القلق. بيك هو أحد الباحثين الرائدين في العالم في مجال الاضطرابات النفسية، وهو أستاذ فخري في الطب النفسي بجامعة بنسلفانيا ومؤسس معهد بيك للعلاج السلوكي المعرفي. وأشادت به الجمعية الأمريكية لعلم النفس باعتباره «واحدًا من بين الخمسة المعالجين النفسيين الأكثر تأثيرًا في العالم».

إذا لم تعالج مشكلات القلق، يمكن أن تستمر بصورة شديدة. ولكن لماذا تكون كذلك؟ يمكن للأشخاص المصابين بالقلق أن يقضوا وقتًا طويلًا في القلق بشأن الأحداث التي لم تحدث لهم من الأساس، والتي، في الواقع، من غير المرجح حدوثها. لماذا لا يدركون أن قلقهم في غير محله؟ لماذا لا يتعلمون من التجربة؟

لقد حظي هذا السؤال بقدرٍ كبير من الاهتمام من علماء النفس المعرفي السريري. أحد اكتشافاتهم الرئيسة هو أن الأشخاص الذين يعانون مشكلات القلق يتبنون مجموعةً من الاستراتيجيات — التي تُعرف باسم «سلوكيات السلامة» — مصمَّمة لمنع حدوث كلِّ ما يخشونه. لذلك، على سبيل المثال، فالشخص الذي يخاف من المواقف الاجتماعية سيسعى إلى تجنُّبها؛ وإذا كان هذا مستحيلًا، فسيلجأ إلى أساليبَ أخرى مثل التأكد من حضورها برفقة صديق، وارتداء ملابس غير ملفتة قدرَ الإمكان، والتواري عن الأنظار. قد تقلل سلوكيات السلامة هذه من القلق على المدى القصير، ولكنها تمنعنا من اكتشاف أن أفكارنا المخيفة غير مبررة، ومن ثَم تؤدي في النهاية إلى تعزيز قلقنا.

اعتمد الباحثون على عمل بيك لتحديد «التحيزات المعرفية» الأخرى التي تكمُن وراء اضطرابات القلق وتغذيها. مثل سلوكيات السلامة، فأنماط التفكير والسلوك التي تبدو مصمَّمة لدرء القلق تؤدي في النهاية إلى أن يُحكِم القلق قبضته. على سبيل المثال، الأشخاص الذين يعانون مشكلات القلق يكونون يقظين للغاية للتهديدات المحتملة. ولكن نظرًا لأن اهتمامهم يتركز بشدة على الخطر المحتمل، فإنهم يميلون إلى التغاضي عن الأحداث التي لا تتماشى مع هذه النظرة القاتمة إلى حدٍّ ما للعالم. وهذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى المبالغة في تقديرِ احتمالية حدوث الخطر (يسمي علماء النفس هذا ﺑ «توقُّع التهديد») وإلى إصدار الكثير من الإنذارات الكاذبة، وكلها لا تفيد بشيء سوى تخصيب الأرض التي ينمو عليها القلق.

هناك ميل لتفسير الأحداث الغامضة بشكل سلبي. هذه مشكلة مهمة للغاية نظرًا لأن العديد من المواقف التي نواجهها غامضة بطبيعتها، وهذا لأنه عادةً ما يكون من الصعب جدًّا معرفة كيف يفكر الآخرون وما يشعرون به حقًّا. قدَّمت إحدى التجارب مثالًا معبرًا «لانحياز الانتباه» هذا؛ إذ طُلِب من المشاركين تهجئة سلسلة من الألفاظ المتجانسة في اللغة الإنجليزية (الكلمات المتطابقة صوتيًّا ولكن لها معانٍ وتهجئة مختلفة)، على سبيل المثال: die (يموت) وdye (يصبغ)، slay (ذبح) وsleigh (مزلقة)، وpain (ألم) وpane (لوح زجاجي)، وweak (ضعيف) وweek (أسبوع)، وguilt (ذنب) وgilt (مُذهب). وكلما زاد قلق المشارك، زادت احتمالية اختياره للكلمات ذات التهجئة الأكثر تهديدًا.

وبالمثل، فالأشخاص الذين يعانون اضطرابات القلق يكونون فريسةً للصور الذهنية المقلقة أو حتى المرعبة للغاية، وليس فقط الأفكار. قد يكون لدى الفرد المصاب بالقلق الاجتماعي صورةٌ ذهنية مضلِّلة تمامًا عن نفسه عندما يكون في المواقف الاجتماعية. وبدلًا من التفكير في الأمور بعقلانية، يستخدم المصابون بالقلق التفكير الانفعالي الغريزي. أوضح عالم النفس المعرفي الرائد في مجال القلق ديفيد كلارك، ما يلي:

يبدو كما لو أن نموذجًا ذهنيًّا للذات الاجتماعية المرئية للمريض قد أُرْسي بعد تجربة اجتماعية صادمة مبكرة، ويُنَشَّط هذا النموذج في اللقاءات الاجتماعية اللاحقة.

وهذا أمرٌ مهم للغاية لأن الأبحاث تشير إلى أن الصور لها تأثير على الانفعالات أقوى بكثير من تأثير الأفكار. وكما هو الحال مع الانحيازات المعرفية الأخرى، فهذه القابلية للتأثر بالصور الذهنية تمكِّن القلق من الاستمرار والاستقواء.

(٤) النظريات البيولوجية العصبية حول القلق

عندما يتعلق الأمر باكتشاف الخطر والاستجابة له، فالدماغ [في الفقاريات] لم يتغير كثيرًا. إننا سحالٍ انفعالية بشكل أو بآخر.

جوزيف لودو

ماذا يحدث في أدمغتنا عندما نشعر بالقلق؟ لم يكن بإمكان العلماء سوى التخمين، إلى أن تطوَّرت تقنية التصوير العصبي الحديثة نسبيًّا، وهي تقنية تسمح بتسجيل النشاط الكيميائي الحيوي في الدماغ وتصويره. ولكن أُحرِز تقدُّم ملحوظ في السنوات الأخيرة كما سنرى بعد قليل.

أولًا، كلمة تحذير. لقد قطع علم الأعصاب شوطًا طويلًا في فترة زمنية قصيرة. ولكن حتى لو فهمنا بالضبط كيف تعمل أدمغتنا — ونحن ما زلنا بعيدين جدًّا عن هذه الغاية المنشودة — فإن ذلك لن يجعلنا نمتلك تفسيرًا كاملًا لتجاربنا. على سبيل المثال، على الرغم من أنه يمكن للعلماء الآن أن يكونوا أكثر يقينًا من أي وقت مضى حول أي أجزاء من الدماغ معنية بالقلق، فمن المفهوم أنه لا يمكن اختزال أي انفعال إلى مجرد مجموعة من الأحداث والتركيبات الدماغية. هناك دائمًا مستويات أخرى من التفسير، وفي ذلك الجوانب السلوكية والمعرفية التي ناقشناها بالفعل في هذا الفصل.

وصف عالم بيولوجيا الأعصاب ستيفن روز الطريقةَ التي تعمل بها هذه المستويات بشكل جيد:

ترتبط لغة العقل والوعي بلغة الأدمغة والوصلات العصبية تمامًا كما ترتبط الإنجليزية بالإيطالية؛ إذ يمكن للمرء أن يترجم من لغة إلى أخرى، ومع ذلك، دائمًا ما تُفقد أشياء على صعيد الجوانب الثقافية. ولكن لا يتعين علينا اعتبار أن لغةً منهما تتفوق على الأخرى.

ينطبق الشيء نفسه على القلق؛ إذ يتعامل العلماء مع المسألة من منظورات مختلفة، ولكن لا يتفوق أيُّ منظور على الآخر وكلها مترابطة. تربِط أفضل النظريات بين المستويات المختلفة، وقد بدأ علم الأعصاب المعرفي في فعلِ ذلك كما سنرى الآن.

قبل ظهور تقنية التصوير العصبي بوقت طويل، كان العلماء يشكُّون في أن «الجهاز الحوفي» للدماغ يلعب دورًا رئيسًا في إنتاج الانفعالات. يشبه الجهاز الحوفي لدى البشر كثيرًا ذلك الذي وُجد في الثدييات الأولى منذ قرابة مائتي مليون سنة. والجهاز الحوفي جزء من الدماغ الأمامي، وهو جزء حديث نسبيًّا من الناحية التطورية، وهو منسَّق على شكل دائرة تقريبية تحيط بجذع الدماغ الأقدم بكثير (الكلمة الإنجليزية limbic، أي الحوفي، مشتقة من اللاتينية لكلمة «الحدود»). وتتمثل مهمة الجهاز الحوفي في إجراء تقييم سريع وما قبل واعٍ للموقف للمساعدة في تحديد الانفعال (ومن ثَم رد الفعل) المناسب.

يوجد أيضًا داخل الدماغ الأمامي مكوِّنان رئيسان آخران لجهازنا الانفعالي. يقع «الفصان الأماميَّان» من القشرة الدماغية خلف العينين مباشرة، ويتوليان العديد من المهام التي نميل إلى اعتبارها مهامَّ بشرية بامتياز، مثل التخطيط واتخاذ القرار واللغة والتفكير الواعي. إن الفصين الأماميين هما اللذان يفكران مليًّا بوعي وينظمان استجاباتنا الانفعالية.

fig3
شكل ٢-٢: جوزيف لودو (مواليد عام ١٩٤٩) هو عالم أعصاب أمريكي ومدير «مركز جامعة نيويورك للأبحاث العصبية». أبرز بحث لودو الرائد الدورَ المحوري الذي تلعبه اللوزة الدماغية في تجربة القلق والانفعالات الأخرى. يعمل لودو مغنيًا وعازفًا للجيتار مع فرقة «ذي أميجدالويدز»، وهي فرقة روك متخصصة في تقديم «أغانٍ عن الحب والحياة الوافرة بالرؤى والأفكار المستمَدة من الأبحاث حول العقل والدماغ والاضطرابات العقلية».

يساعد «الحُصين» الفصَّين الأماميين في هذا؛ إذ يساعد الحُصين على تكوين وتخزين الذكريات السياقية، وهي مرجعيات جوهرية، بينما يحدِّد الفصان الأماميان أفضلَ طريقة للاستجابة لموقف معين.

كان جوزيف لودو هو أول مَن حدَّد منطقة بعينها من الجهاز الحوفي على أنها «الكمبيوتر الانفعالي» للدماغ، وهي مهمة بشكل خاص فيما يتعلق بالخوف والقلق. هذه المنطقة هي «اللوزة الدماغية» (amygdala)، وهي عبارة عن قطعتين صغيرتين من الأنسجة تشبه، في رأي العلماء الأوائل، بذورَ اللوز (amygdala هي كلمة لاتينية تعني «بذور اللوز»). يبدو أن اللوزة الدماغية هي المسئولة عن ردود فعلِ الخوف في جميع الأنواع التي تمتلك واحدة، وفي ذلك الزواحف والطيور وكذا الثدييات. إنها تضم مخزونًا من ذكريات الخوف «اللاواعي»، مما يعني أننا يمكن أن نشعر بالقلق دون معرفة السبب. وهي متصلة بصورة جيدة جدًّا بأجزاءٍ أخرى من الدماغ. يقول لودو:

تشبه اللوزة الدماغية محور العجلة. وتتلقى مدخلات منخفضة المستوى من مناطقَ حسية محدَّدة من المهاد [منطقة أخرى من الدماغ الأمامي]، ومعلومات ذات مستوًى أعلى من مناطقَ حسية محدَّدة من القشرة [المخية]، وأيضًا معلومات ذات مستوًى أعلى (غير مرتبطة بالإحساس) حول الوضع العام من التكوين الحُصيني. من خلال هذه الروابط، تكون اللوزة الدماغية قادرةً على معالجة الأهمية الانفعالية للمحفزات الفردية وكذلك المواقف المعقَّدة. تشارك اللوزة الدماغية، في الأساس، في تقييم المعنى الانفعالي.

لا تنتهي روابط اللوزة الدماغية عند هذا الحد. يمكن للوزة الدماغية من خلال منطقةٍ ما تحت المهاد أن تؤثر على العمليات الأساسية التي تُكَوِّن الجهاز العصبي اللاإرادي (على سبيل المثال، التنفس، ضغط الدم، ودرجة حرارة الجسم). كما رأينا في الفصل الأول، يمكن أن تؤدي التغييرات التي تطرأ على الجهاز العصبي اللاإرادي عندما نشعر بالقلق إلى مجموعة واسعة من الآثار الجسدية، وفي ذلك ارتفاع معدل ضربات القلب، واتساع حدقة العين، وتغيُّر وتيرة التنفس.

fig4
شكل ٢-٣: المخ، صورة تبيِّن موقع اللوزة الدماغية.

اللوزة الدماغية قادرة على إجراء تقييم سريع جدًّا لموقف يحتمل أن يشكل تهديدًا، بسرعة بالغة تجعلنا، في الواقع، قد لا ندرك سبب شعورنا بالخوف المفاجئ. اقترح لودو أن اللوزة الدماغية تقدم «طريقًا سريعًا» لاستجابات الخوف، مما يوفر ردَّ فعل «سريعًا ومتهورًا» على الأحداث، يهدف إلى إنقاذ حياتنا أولًا، ثم طرح الأسئلة لاحقًا. على النقيض من ذلك، يتضمن «الطريق المعتاد» معالجةَ المعلومات الحسية عن طريق الفص الأمامي (الجزء من الدماغ المسئول عن التفكير في الأشياء) «قبل» أن تصل إلى اللوزة الدماغية. الطريق المعتاد أدقُّ، ولكنه أبطأ. وكما قد نتخيل، كلا الطريقين له مزايا وعيوب.

على الرغم من أهمية اللوزة الدماغية كما يتضح لنا، فإننا يجب ألَّا ننسى أن القلق — تمامًا مثل أي انفعال آخر — هو نتيجة لعملية معقَّدة للغاية تشمل مناطقَ متعددة من الدماغ. كما ذكرنا، فإن هذه المناطق تشمل الفصين الأماميين والحُصين، وكذا «فص الجزيرة» — وهو جزء من القشرة الدماغية يساعدنا على إدراك المشاعر الداخلية — والعديد من المواد الكيميائية العصبية. ومن بين أكثر هذه المواد الكيميائية العصبية أهمية ما يلي:
  • الهرمون المُفْرِز للكورتيكوتروبين (CRH)، الذي يُفْرَز عندما ترصد اللوزة الدماغية خطرًا، وهو ما يؤدي بدوره إلى إفراز هرمونات التوتر لضمان جاهزيتنا للتصرف في مواجهة الخطر؛
  • حمض جاما أمينوبوتيريك (GABA)، الذي يهدئنا عندما نشعر بالقلق.
بالنظر إلى أن القلق ناتج عن نظام بأكمله وليس عنصرًا واحدًا فقط، فماذا يحدث عندما يتعطل هذا النظام؟ تكهَّن لودو وآخرون بأن الأشخاص الذين يعانون اضطرابات القلق قد يكون لديهم:
  • فرط في نشاط اللوزة الدماغية و/أو:

  • قصور في نشاط الفصين الأماميين، و/أو:

  • نقص في قدرة الحُصين على تحديد العناصر الدالة على الخطر بدقة بِناءً على التجارب السابقة، مما يعني أن هؤلاء الأشخاص قد يقلقون دون داعٍ.

كما رأينا، فاللوزة الدماغية هي شكل من أشكال وحدة الاستجابة السريعة التي تطلق ردود فعل الخوف «فقط بدافع الاحتياط»، التي تقيِّمها بعد ذلك المناطق الأكثر تأنيًا في الدماغ. ولكن إذا لم يتمكن الفصان الأماميان، على سبيل المثال، من التعبير عن نفسيهما بسبب الضجيج الذي تتسبب فيه اللوزة الدماغية، فمن المحتمل أن نشعر بقلق غير ضروري بشأن أمورٍ تُعتبر في الأساس إنذارات كاذبة.

يوجد دليل على أن القلق المستمر (من خلال تأثيرات هرمونات التوتر) يمكن أن يغيِّر الطريقة التي يعمل بها الدماغ، على سبيل المثال، بإضعاف الذاكرة قصيرة المدى أو حتى تقليص حجم الحُصين. عادةً ما تكون هذه التأثيرات قابلة للعكس، ولكنها يمكن أن تصبح دائمة على المدى الطويل.

في الفصل التالي، سنلقي نظرة على منظورين إضافيين للقلق. ما حجم الدور الذي تلعبه تجارب الحياة في جعلنا عرضةً للقلق، وما مدى أهمية العوامل الوراثية؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤