الفصل الثالث

أهي الطبيعة أم التنشئة؟

«يبدو أحيانًا أنَّ القتل يسري في العائلات، على غرار الموهبة»، كان هذا ما أشار إليه بشيء من السخرية، الكاتب الفيكتوري جورج هنري لويس. ولو أنَّ هذه العبارة قد جاءت في معرض مناقشته للقلق، لسمح لويس لنفسه بدرجةٍ أكبر من اليقين. ذلك أنه يبدو بالفعل أنَّ القلق يسري في العائلات. إذا كان أحد الأشخاص عرضةً للقلق الحاد، على سبيل المثال، فالأرجح أنَّ لديه والدًا — وربما جَدًّا أيضًا — يعاني المشكلةَ نفسها.

ما السبب في هذا؟ أنرِث قلقنا عن طريق الجينات، أم نتعلَّمه من الأشخاص الأقرب إلينا؟ هل مستويات القلق متأصلة فينا من الناحية البيولوجية، أم هي نتاج خبرات الحياة (أي بيئتنا)؟ طرح العلماء كلا هذين التفسيرين على مرِّ السنين. وفي هذا الفصل، سنطلع على الأدلة المؤيدة لكلٍّ منهما، ونحاول الإجابة عن هذا السؤال الأبدي: أهي الطبيعة أم التنشئة؟

(١) المنظور الجيني

صار الجميع الآن يعرفون مصطلح «الجين»، ويدرك أغلبنا أنَّ الجينات تؤدي دورًا في عملية نقل السمات من الوالدين إلى الأبناء. غير أنَّ معارفنا مشوشة على الأرجح فيما يتعلق بتفاصيل هذه العملية. فما هي الجينات بالتحديد؟

تحتوي كل خلية في أجسامنا على٢٣ زوجًا من الكروموسومات، وهي بنًى تتكون من الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين (دي إن إيه)، وغيره من المواد الكيميائية الحيوية. تورِّث الأم أحدَ الكروموسومات في كل زوج، ويورِّث الأب الكروموسوم الآخر. ويحتوي كلٌّ من الكروموسومات الموجودة في كل خلية، على آلاف الجينات، التي هي في الأصل جزيئات ممتدة من الحمض النووي تضم القواعد البيولوجية التي تحدِّد تطورنا. وباستثناء التوائم المتطابقة، فإنَّ التركيب الجيني لكل فرد مختلف عن الآخر.

كيف يمكننا أن نحدِّد ما إذا كانت الجينات مسئولة عن القلق (أو عن أي شيء آخر في الواقع)؟ تتمثل إحدى البدايات المنطقية في دراسة تاريخ العائلة. بالرغم من ذلك، فصحيح أنَّ هذه الاستراتيجية قد توضح التشابه بين أفراد العائلة، لكنها لا تساعدنا في تحديدِ ما إذا كان هذا التشابه (أو «التكدس الوراثي العائلي») ناتجًا عن الجينات أم عن البيئة. فعادةً ما تشترك العائلات في جزء كبير من كليهما على حد سواء.

بالرغم من هذا، فثمة أنواع محدَّدة من العائلات توفِّر للعلماء وسائلَ مهمة لحل عقدة الجينات مقابل البيئة. تلك العائلات هي التي يوجد بها توائم. ينمو التوءم غير المتطابق من بويضتين منفصلتين (ولهذا يُطلق عليه أيضًا توءمًا «ثنائي اللاقحة») خُصِّبتا بحيوانين منويَّين مختلفين. ومثل جميع الأشقاء، يتشارك التوءم غير المتطابق في ٥٠٪ من الجينات. وعلى العكس من ذلك، ينتج التوءم المتطابق، (أو «الأحادي اللاقحة») من تخصيب حيوان منوي واحد لبويضة واحدة تنقسم بعد ذلك إلى اثنتين. ونتيجةً لهذا، يتشارك التوءم المتطابق التركيب الجيني نفسه تمامًا. فعلى سبيل المثال، إذا كانت احتمالية أن يوجد أحد اضطرابات القلق لدى توءم متطابق أكبر من احتمالية وجوده لدى توءم غير متطابق، فيمكننا أن نكون شبه متأكدين من أنَّ هذا الاختلاف يرجع إلى الجينات.

نقول إنَّنا شبه متأكدين، لكننا لسنا على يقين تام لأنَّ التوائم المتطابقة قد تتشارك خبراتٍ أكثر من تلك التي تتشاركها التوائم غير المتطابقة (رغم أنَّ الافتراض القائل بتساوي العوامل البيئية في حالة نوعي التوائم يبدو صحيحًا أيضًا). وهنا يأتي دور دراسات التبني. تخيَّل على سبيل المثال أنَّ توءمًا متطابقًا قد انفصل عند الميلاد، وتبنت كلًّا منهما أسرةٌ مختلفة. (ليست تلك بالواقعة التي تحدث يوميًّا بالطبع، لكنها تحدث، وقد درسها اختصاصيو علم الجينات السلوكي.)

ينشأ كل فرد من التوءمين مع إخوة له بالتبني. وبالرغم من تشارك التوءم وإخوته البيئة الأسرية نفسها على مدى الطفولة، يتضح عند فحصهم وهم بالغون أنَّ مستويات القلق لديهم مختلفة للغاية. يتضح أيضًا وجود ارتباط بارز بين مستويات القلق لدى أحد فردي التوءم والفرد الآخر، مع أنهما لم يلتقيا قط، ويوجد هذا الارتباط البارز أيضًا بين التوءمين ووالديهما البيولوجيين. (أما مستويات القلق لدى التوءمين ووالديهما بالتبني، فلا يوجد ارتباط بينهما.) تقدِّم دراسات التبني من هذا النوع دليلًا مقنعًا على تأثير الجينات لكن إجراءها صعب للغاية، لا سيما وأنَّ وجود التوائم المتطابقة نادر نسبيًّا.

في حالة القلق، تشير الأبحاث إلى أنَّ الجينات تؤدي دورًا بلا شك. جميعنا يشعر بالقلق من وقت لآخر، بل إنَّنا لن نكون بشرًا إن لم نفعل. غير أنَّ وتيرة شعورنا بالقلق ودرجة شدته ومدى استمرار هذا الشعور لدينا، كل ذلك جزء من شخصيتنا. يطلق علماء النفس على هذه العوامل اسم النزعة ﻟ «عصاب» القلق، وجميعنا يعاني درجةً منه زادت أو نقصت. وتُقدَّر قابلية انتقال العصاب بالوراثة بنسبة ٤٠٪ تقريبًا. تُعَد قابلية انتقال اضطرابات القلق بالوراثة متوسطة؛ أي إنها تنتقل بنسبة تتراوح بين ٢٠٪ و٤٠٪. أوضحت الأبحاث أيضًا أن أنماط التفكير المألوفة لدى الأشخاص الذين يعانون مشكلاتِ القلق، مثل النزعة لتأويل الأحداث المبهمة على أنها ضارة، أو الحساسية الشديدة تجاه التغيرات الفيسيولوجية التي يحفِّزها القلق، تتسم هي أيضًا بدرجة متوسطة من قابلية الانتقال بالوراثة.

من المهم أن نوضح المقصود بمصطلح «قابلية الانتقال بالوراثة». فليس المقصود بهذا المصطلح أنَّ ٤٠٪ من مستوى العصاب لدى شخصٍ ما هو نتاج جيناته بالضرورة. إنما يشير ذلك إلى نحو ٤٠٪ من «الاختلاف» في مستويات العصاب «على مستوى السكان» تُعزى على الأرجح إلى أصول جينية. وبناءً على هذا، لا تخبرنا قابلية الانتقال بالوراثة أيَّ شيء عن الحالات الفردية، بل تنطبق فقط على العيِّنات الإحصائية الواسعة النطاق. وتعود بقيةُ الاختلافات بين الأفراد إلى العوامل البيئية.

من الجلي أنَّ جيناتنا تؤدي دورًا في تحديد مستوى القلق الذي نشعر به. فما هي الجينات المسئولة عن ذلك؟ الإجابة القصيرة أنَّ العلماء لا يعرفون حتى الآن. ثمة العديد من الجينات المحتملة مع ذلك؛ فقد ارتبطت تنويعات من الجين GAD1 على سبيل المثال، بالاضطرابات الانفعالية العامة، ومنها مشكلات القلق. يُعد هذا الارتباط مثيرًا للاهتمام؛ لأنَّ الجين GAD1 يشترك في إنتاج حمض جاما أمينوبوتيريك (جابا) ونقله، وقد رأينا في الفصل الثاني أنَّ هذا الحمض يساعد في تهدئتنا حين نكون قلقين. وإذا كان ثمة خلل في الجين GAD1، فسينطبق ذلك أيضًا على حمض جاما أمينوبوتيريك، مما يؤدي إلى مستويات مرتفعة للغاية من القلق.
إنَّ أفضل الدراسات الجينية عن القلق تحاول الوصول إلى جين، على غرار GAD1، يمكن أن يؤدي إلى إفراط في الحساسية الفيسيولوجية تجاه الخطر المحتمل. ولكن، بالرغم من ذلك، لم يحدِّد العلماء حتى الآن أي جين واحد مسئول عن «القلق». فلكي تكون الدراسات الجينية مجدية لا بد أن تتضمن فحصَ عدد كبير من الأشخاص، ومجهوداتٍ بحثية ضخمة، وأموالًا طائلة أيضًا. لا عجب إذن أنَّ مثل هذه الدراسات قليلة للغاية وتتم على فترات متباعدة. علاوةً على ذلك، تشتهر نتائجُ مثل هذه الدراسات بصعوبة قابليتها للتكرار؛ فكثيرًا ما يحدد فريقٌ بحثي جينًا محتملًا مسئولًا عن القلق، لكن الدراسات التالية لا تجد أي رابط بينه وبين القلق.

يبدو من غير المرجَّح أيضًا أن تكون تجربة كالقلق، على تعقيدها وتنوعها، نتيجة جين واحد أو حتى جينات قليلة متفرقة. فنظرية «الجينات المتعددة» أرجح كثيرًا في هذه الحالة؛ أي إنه توجد العديد من الجينات المختلفة التي يشترك كلٌّ منها بدور صغير نسبيًّا في توليد القلق واستمراره. وما تشير إليه الأدلة حتى الآن هو أنَّ هذه الجينات مسئولة عن نزعة عامة لارتفاع مستويات القلق، أو حتى الاستثارة الانفعالية بشكل عام، لكنها لا تدل على أي اضطراب محدَّد من اضطرابات القلق.

لا شك أنَّ تحديد عدد من الجينات التي تشترك في تفاعل معقَّد مهمة صعبة. غير أنه حتى إذا نجح العلماء في النهاية في هذا المسعى، فربما لا تكون هذه الجينات وحدها هي ما يسبب القلق. فعلى مدى القرن الأخير تقريبًا، بدأ الباحثون يدركون وجودَ تفاعل معقَّد بين الجينات والبيئة. ولهذا، فبالرغم من أنَّ الشخص قد يكون عرضةً من الناحية الجينية للإصابة باضطراب القلق، فإنَّ هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنه سيعاني يقينًا هذا الاضطراب. وإنما سيحدث هذا إن أُثيرَت هذه القابلية الجينية للإصابة بفعل خبرات حياتية معينة. وبالمثل أيضًا، فربما يمر شخص آخر بتلك الأحداث الحياتية نفسها، لكنه لا يُصاب باضطرابات القلق لافتقاره إلى القابلية الجينية. فمثلما يوضح أفشالوم كاسبي وتيري موفيت:

يفترض نهج التفاعل بين الجينات والبيئة أنَّ المسبِّبات البيئية للأمراض تسبِّب الاضطراب، وأنَّ الجينات تؤثر في مدى قابلية التأثر بمسببات الأمراض.

لنلقِ الآن نظرة على «المسبِّبات البيئية للأمراض» التي تسهم في الإصابة بمشكلات القلق.

(٢) المنظور البيئي

على الرغم من أهمية الجينات فيما يخص تجربة القلق، تقدِّم البيئة مساهمةً أكثرَ أهمية. كما رأينا، تشير الأبحاث إلى أن العوامل الجينية تحدِّد ما يصل إلى ٤٠٪ من احتمالية وراثة القلق، مما يعني أن البيئة تمثِّل ٦٠٪ أو أكثر. إذن ما هي عوامل الخطر البيئية للإصابة باضطرابات القلق؟

نحن لا نعرف سوى القليل نسبيًّا عن كيفية مساهمة الخبرات لدى الشخص البالغ في مشكلات القلق (على الرغم من أن هذا النوع من الأبحاث قد أُجريَ في حالتَي الاكتئاب والتوتر). كان التركيز بدلًا من ذلك على تجارب الطفولة، وعلى أربعٍ منها على وجه الخصوص:
  • الصدمات والأحداث المزعجة الأخرى؛

  • أسلوب تربية الأبوين؛

  • نمط التعلق؛

  • التعلُّم من الآخرين.

ولكن قبل أن نفحص هذه العوامل الأربعة بمزيد من التفصيل، يجب أن نشير إلى أنه ولا عامل منها قد تأكَّد أنه يسبب اضطرابات القلق. على سبيل المثال، يعاني العديد من الأشخاص طفولةً صادمة نفسيًّا دون أن يصابوا بمشكلات القلق، كما أن العديد ممن يعانون اضطراب القلق كانوا قد تمتعوا بتنشئة سعيدة نسبيًّا. كما رأينا فيما يتعلق بالجينات، فعملية السببية أكثرُ تعقيدًا من مجرد كذا يساوي كذا. في الواقع، عادةً ما يكون القلق نتيجةً لتفاعل مركَّب بين التركيب الجيني وخبرات الحياة.

(٣) الصدمات والأحداث المزعجة الأخرى

أظهر عدد كبير من الأبحاث أن الأطفال الذين يتعرضون لتجاربَ صادمة أو غير سارة، مثل التنمُّر أو المضايقة أو الخلافات بين الوالدين أو الاعتداء الجنسي أو الجسدي أو وفاة أحد الوالدين، معرَّضون بشكل أكبر للإصابة باضطرابات القلق.

على سبيل المثال، قام موراي شتاين وزملاؤه باستطلاع شمل ٢٥٠ شخصًا بالغًا من كندا، نصفهم شُخِّصوا باضطراب القلق والنصف الآخر (المجموعة المرجعية) اختيروا عشوائيًّا من سكان وينيبيج. ووجدوا أن ١٥٫٥٪ من الرجال و٣٣٫٣٪ من النساء الذين يعانون اضطرابَ القلق قد عانوا الاعتداءَ الجسدي عندما كانوا أطفالًا، مقارنةً ﺑ ٨٫١٪ من المجموعة المرجعية. وبالمثل، كان الاعتداء الجنسي في مرحلة الطفولة أكثرَ شيوعًا بين النساء المصابات باضطرابات القلق (٤٥٫١٪) من النساء في المجموعة المرجعية (١٥٫٤٪).

قد يبدو التساؤل عن سبب تسبب هذه الأنواع من التجارب في مشكلات القلق أمرًا غير ضروري. فليس من المستغرب أن يصبح الأطفال الذين تعرَّضوا للضرب أو الاعتداء الجنسي خائفين بشكل غير عادي. وعلى الرغم من ذلك، كما هو الحال مع جميع العوامل الجينية والبيئية التي تسهم في القلق، فلا يوجد شيء حتمي في هذه العملية. إذ يعاني العديد من الأطفال صدمةً مروعة دون أن يصابوا باضطرابات القلق.

بالنسبة إلى الحالات التي ينتج لديها اضطرابات القلق، حاول علماء النفس تحديدَ الأنماط الأساسية للفكر والسلوك. لقد قيل، على سبيل المثال، أن الأطفال المحرومين من الرعاية التي يحتاجون إليها يمكن أن يشكلوا آراءً كئيبة عن أنفسهم والآخرين. يمكن أن يبدو العالم بالنسبة لهم مكانًا خطِرًا، وقد يفتقرون إلى الثقة في قدرتهم على التأقلم. من منظور مختلف، أشار علماء البيولوجيا العصبية إلى أن الحيوانات المعرَّضة لضغط طويل الأمد تَحدث في أدمغتها تغيراتٌ دائمة، مما يجعلها عرضةً بشكل خاص للقلق. فهل من الممكن أن تؤدي هذه التجارب المبكرة في الحياة إلى تغيير مماثل في الأطفال؟

(٤) أسلوب تربية الأبوين

مشكلات القلق ليست مجرد إرثٍ يتركه لنا الآباء المسيئون أو المهملون. فبالمثل الآباء الذين يحاولون التحكمَ في سلوك أطفالهم بشكل صارم للغاية — بدافع الرغبة في حمايتهم على الأغلب — يمكنهم عن غير قصد إرسال إشارة إلى أطفالهم أن العالم مكان خطِر. كما أنهم يحرمون الطفل من فرصة اكتشاف أنه، بوجه عام، يمكنه التعامل مع المشكلات التي يواجهها. (وهو ما يذكرنا باستراتيجيات «التجنُّب» التي نوقشت في الفصل السابق.)

عندما يطلب علماء النفس من البالغين القلقين وغير القلقين أن يتذكروا طفولتهم، فمن المرجح أن يصف الأفراد القلقون والديهم بأنهم مفرِطون في الحماية أو مسيطرون. وذكرياتهم لا يمكن الاعتماد عليها دائمًا، بالتأكيد. ومع ذلك، هناك بعض الأبحاث القائمة على الملاحظة التي أجريت على الأطفال وتدعم هذه النتائج. طلبت إحدى الدراسات، على سبيل المثال، من الأطفال المشخَّصين سريريًّا باضطراب القلق وغير المشخَّصين باضطراب القلق حلَّ عدد من الألغاز الصعبة. وأُعْلِم الوالدان بالحلول ولكن نُصِحا بالتدخل فقط «إذا كان الطفل بحاجة حقيقية إلى المساعدة». سرعان ما اتضح أن آباء الأطفال القلقين كانوا أكثر ميلًا للتدخل من الآباء الآخرين. وبما أن هذا الميل للسيطرة على سلوك الأطفال قد ظهر في مثل هذا السياق الذي لا يشكل تهديدًا نسبيًّا، فإلى أي مدًى يُحتمل أن يزيد في المواقف التي يكون فيها الخطر المحتمل أكبر؟

ولكن على الرغم من أن هذه الدراسات وغيرها تشير إلى وجود علاقة بين أسلوب التربية القائم على السيطرة أو المبالغة في الحماية وبين قلق الأطفال، فإنها لا تُلقي الكثير من الضوء على مسألة العلاقة السببية. فبدلًا من إثارة القلق لدى الأطفال، قد يكون هذا النوع من التربية ما هو إلا رد فعل لقلق الأطفال المفرط. مثل هذا النوع من البحث الذي يمكن أن يجيب عن هذا السؤال — تقييم الآباء والأطفال على مدى عدد من السنوات وليس في وقت بعينه — نادر جدًّا. ولكن الأبحاث الموجودة تشير إلى وجود تفاعل بين طباع الطفل وأسلوب البالغين في التربية.

على سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات أنه من الممكن التنبؤ بمستوى الخوف لدى الطفل الصغير من خلال الرجوع إلى مدى تكرار احتضان والدته له وقت أن كان رضيعًا عندما لم يكن بحاجة إلى المساعدة. لكن هذا كان صحيحًا فقط بالنسبة إلى الأطفال الذين كانوا يعانون وهم رُضَّع توترًا شديدًا عندما يواجهون أشخاصًا أو مواقفَ جديدة. ومن ثَم، قد تكون الحماية المفرطة التي يفرضها الوالدان على الطفل ردَّ فعلٍ على التوتر الفطري للطفل، ولكنها تؤدي إلى تفاقم هذا التوتر، الأمر الذي بدوره يؤدي إلى سلوكٍ أكثر حذرًا وتحكمًا من جانب الشخص البالغ.

(٥) نمط التعلق

توفِّر الأبحاث التي أُجريت على نمط التعلق منظورًا بديلًا حول العلاقات بين الوالدين والطفل وتأثيرها على القلق.

لا يميل الرُّضَّع إلى القلق بشأن هوية الشخص الذي يقدِّم الرعاية والاهتمام الذي يحتاجون إليه. كما قد تكون لاحظت، عادةً ما يكون الرُّضَّع سعداء جدًّا عندما يتناوب على حملهم أشخاص بالغون وإن لم يروهم من قبل.

ولكن كل ذلك يتغيَّر بين سن سبعة وتسعة أشهر. تدريجيًّا، يطوِّر الطفل ارتباطًا — وهو الذي يُعَرِّفه جيروم كاجان على أنه «علاقة عاطفية بين شخصين تتسم بالتعلق الشديد، وتظل باقية مع مرور الوقت، ويكون فيها الانفصال المطول عن الشريك مصحوبًا بالتوتر والحزن» — بشخص واحد بعينه. عامة، يكون هذا الشخص هو الأم لأنها عادةً ما تكون مقدِّمة الرعاية الرئيسية، ومع ذلك قد يكون أي شخص آخر يشغل هذا الدور. يبكي الطفل عندما تغادر الأم (وهذا ما يُعرف ﺑ «قلق الانفصال») ويتشبث بها في وجود أشخاص غير مألوفين في محيطه (وهو ما يُعرف باسم «القلق من الغرباء»).

جادل الطبيب النفسي للأطفال ذو التأثير الهائل جون بولبي (١٩٠٧–١٩٩٠) بأن هذه الرغبة في التعلق فطرية؛ فنحن مبرمَجون جينيًّا لتشكيل هذه الروابط لأنها تمثل أفضل فرصة لنا للبقاء على قيد الحياة. على مدى الأشهر اللاحقة، قد يطوِّر الرضيع تعلقًا بالعديد من الشخصيات الأخرى في حياته أو حياتها، ولكن العلاقة مع مقدِّم الرعاية الأساسي — سواء كان الأم أو الأب أو أي شخص آخر — تميل إلى أن تظل الأكثر أهمية. اعتقد بولبي أنه لا يوجد شيء أهم لضمان الصحة النفسية للشخص في المستقبل مثل هذه العلاقات المبكرة.

يمكننا فهمُ مسألة نمط تعلق الطفل فهمًا موثوقًا فيه باستخدام تقنية «الموقف الغريب» التي ابتكرتها ماري أينسوورث (١٩١٣–١٩٩٩) في ستينيات القرن الماضي.

تبدأ تقنية «الموقف الغريب» بترحيب الباحثة بالطفلة — عادةً ما يكون عمر الطفل أو الطفلة حوالي اثني عشر شهرًا — ووالدتها واستقبالهما في الغرفة التي ستتم فيها التجربة. تغادر الباحثة وتستكشف الطفلةُ الألعاب الممتعة الموزَّعة في جميع أنحاء الغرفة بحرية. بعد بضع دقائق، يدخل شخص غريب إلى الغرفة. يكون الغريب صامتًا في البداية، ولكن بعد دقيقة أو نحو ذلك يشرع في الدردشة مع الأم، ثم يحيي الطفلة. تغادر الأم، ثم تعود بعد ثلاث دقائق ويخرج الغريب. تترك الأم الطفلة بمفردها بضع دقائق قبل ظهور الغريب مرةً أخرى. ثم تعود الأم، ويغادر الغريب، وتنتهي التجربة.

الفيصل هو ردُّ فعل الطفلة على غياب الأم وعودتها. يسعَد الأطفال «المتعلقون بشكل آمن» باستكشاف الغرفة أثناء وجود والدتهم، ولكنهم يشعرون بتوتر متوسط عندما تغادر ويفرحون عند عودتها. أما الأطفال الذين يعانون نمطَ التعلق «القلق/المقاوم» فإنهم يلتصقون بشكل وثيق بأمهاتهم بغض النظر عن مدى جاذبية الألعاب المنتشرة في جميع أنحاء الغرفة، ويضطربون عندما تغادر. على الرغم من أن الطفل القلِق/المقاوم سيركض إلى أمه عند عودتها، فإنه سيدفع الأم بعيدًا عنه بعد ذلك، أو حتى يضربها. من ناحية أخرى، يميل الطفل «القلِق/المتجنب» إلى تجاهل والدته عندما تكون موجودة، ولا يقلق كثيرًا عندما تغادر. وعندما تعود الأم مرةً أخرى، ستحصل على نفس المعاملة السابقة غير المكترثة.

في دراسة بارزة، أجرى علماء النفس مقابلات مع ١٧٢ شخصًا في السابعة عشرة من العمر، خضعوا جميعًا لتقييم «الموقف الغريب» في عمر اثني عشر شهرًا. اكتشفوا أن الأطفال الذين أظهروا نمط تعلُّق قلِقًا/مقاومًا كانوا أكثرَ عرضة للإصابة بمشكلات القلق لاحقًا.

ولكن ما السبب؟ غالبًا ما يعكس السلوك القلق/المقاوم محاولات الطفل للتعامل مع أسلوب التربية غير المتسق وغير المتوقَّع، حيث يعتمد نوع الاستقبال الذي يتلقاه من الأب أو الأم بشكل كامل على حالتهما المزاجية الحالية. الأرجح أن هذا النوع من التربية يغرس إحساسًا بعدم الأمان لدى الطفل، مما يجعله يخشى ألا يأتيَ أحد لمساعدته إذا واجه مشكلة. نتيجة لذلك، يكون الطفل دائمًا في حالة تأهُّب للخطر. وربما أيضًا يكون هناك شعور بأن سلوك الوالدين هو انعكاس لانعدام قيمة الطفل، وبالتبعية ضمنًا، عدم قدرة الطفل على التعامل مع التحديات والمخاطر.

قد تكون لاحظت، بالصدفة، أن الأطفال القلقين/المتجنِّبين في هذا البحث لم يكونوا معرَّضين بشكل خاص لخطر الإصابة باضطرابات القلق اللاحقة. عادةً ما ينتج هذا النوع من التعلق عن تجاهل الآباء لأطفالهم بشكل متكرر. ربما يتعلم هؤلاء الأطفال التعامل مع القلق الذي يمكن أن يثيره هذا النوع من التربية من خلال تطوير استقلال وقائي. وعلى عكس الأطفال القلقين/المقاومين الذين يمكنهم أحيانًا الحصول على الدفء والدعم من والديهم، يدرك الأطفال القلقون/المتجنبون أنه ليس لديهم خيار سوى الاعتناء بأنفسهم.

(٦) التعلُّم من الآخرين

كما رأينا في الفصل الثاني، فإن كثيرًا من مخاوفنا مكتسَبة. ونحن نكتسبها ليس فقط من الأحداث التي تحدث لنا بشكل مباشر، بل من الناس من حولنا — إما من خلال ما يخبروننا به صراحةً أو من الطريقة التي يتصرفون بها. بالنسبة إلى معظم الناس، لا يوجد شخص أكثر تأثيرًا عليهم من الوالدين (على الرغم من أنه يمكنهم بالتأكيد التعلم من بالغين آخرين مهمين ومن أقرانهم).

بُرْهِنت قدرة الطفل الفطرية على التعلم من والديه في تجربةٍ قام بها عالما النفس فريديريكه جيرول ورونالد رابي. عرضا على ثلاثين طفلًا صغيرًا ثعبانًا مطاطيًّا أخضر، ثم عنكبوتًا مطاطيًّا أرجوانيًّا، ودرسا ردود أفعالهم. أثناء عرض الألعاب، طُلب من أمهات الأطفال الاستجابة بطريقة فرحة ومشجِّعة أو بالخوف أو الاشمئزاز.

في وقت لاحق، عُرِضَ الثعبان والعنكبوت على الأطفال الصغار عدة مرات، ولكن في هذه المرات كانت استجابات أمهاتهم محايدة تمامًا. لاحظ كلٌّ من جيرول ورابي أنه يمكن التنبؤ بكيفية تفاعل الطفل مع اللعبة عند رؤيتهم لها مرة أخرى، وهذا لأنهم يقلِّدون الاستجابة الأولية لأمهم. إذا تظاهرت الأم بالخوف، يشعر الطفل بالخوف.

من ناحية أخرى، إذا بدت الأم هادئةً وفرحة، يكون للطفل ردة الفعل نفسها. قد يكون هذا استنتاجًا مفيدًا للآباء القلقين ليأخذوه بعين الاعتبار. على الرغم من أن أطفالنا قد يقلدون سلوكنا السلبي، فإنهم أيضًا يمكنهم تعلُّم المزيد من الرسائل الإيجابية. يمكننا مساعدتهم في التغلب على مخاوفهم من خلال الحفاظ على سلوكٍ متفائل وهادئ تجاه مشكلات الحياة بشكل عام، والمواقف التي يجدونها مخيفة بشكل خاص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤