الفصل الرابع

مايكل بالين وجراهام تيلور: القلق اليومي وكيفية التعامل معه

في الفصول الثلاثة الأولى من هذا الكتاب، قدَّمنا تعريفًا للقلق اليومي وعرضْنا النظريات الأساسية التي طُوِّرَت لفهمه. وفي الفصول من الخامس إلى الحادي عشر، سنلقي نظرة تفصيلية على اضطرابات القلق الرئيسية والطرق المستخدَمة لعلاجها. ولكن قبل أن نكُفَّ عن مناقشتنا للقلق اليومي، سنقدم قصتين واقعيتين، وأجريت المقابلات خصوصًا لهذا الكتاب. وهذه هي الأشياء التي لن تجدها في الكتب الدراسية!

لجعل هذه المناقشة تنبض بالحياة حقًّا، أردنا أن نسمع من شخصيات بارزة اضطُرت إلى التعامل مع القلق كل يوم تقريبًا في حياتهم العملية. اخترنا شخصين مهمين للغاية لنا منذ الطفولة. لطالما كنا معجبَين بأعمال مايكل بالين، بداية من مسلسلي «مونتي بايثون» و«ريبينج يارنز» حتى يومنا هذا. كنا مفتونين بمعرفة كيف تعامل مع التوتر الذي تخيَّلنا أنه لا مفر منه في حالة الممثلين ومقدمي العروض. أما جراهام تيلور فقد كان يدير فريق كرة القدم الذي نشجِّعه، «واتفورد إف سي»، بنجاح غير مسبوق وبشخصية كاريزمية ليست بقليلة. ظننا أن اختياره سيكون مثاليًّا لشرح كيف يتعامل المرء مع القلق بين مجموعة من الناس.

وبدماثة خلق جديرَين بهما، خصَّص كلٌّ من مايكل وجراهام جزءًا من وقتهما الثمين لتسجيل المقابلات معنا. قد يبدو من المجازفة مقابلةُ أشخاص لطالما اعتبرناهم مثلًا أعلى: فقد تتبدد أوهام الإعجاب والشغف. ولكن لقاءاتنا مع مايكل بالين وجراهام تيلور كانت ممتعة ومفيدة بقدرِ ما كنا نتمنى.

(١) القلق للمشتغلين بفنون الأداء

مايكل بالين ممثل وكاتب ومخرج ومقدِّم برامج تليفزيونية. وُلد في عام ١٩٤٣، واشتهر في جميع أنحاء العالم عضوًا في مجموعة «مونتي بايثون» في أواخر الستينيات. إلى جانب عمله مع بايثون، ظهر بالين في العديد من الأفلام الروائية الطويلة والمسلسلات التليفزيونية الكوميدية، التي كتب وأخرج العديد منها. وقد قدَّم أيضًا العديد من الأفلام الوثائقية عن السفر نالت إعجابًا كبيرًا، وفي السنوات الأخيرة نشر مذكراته في كتابين من أكثر الكتب مبيعًا.

كما سنرى من المقابلة التالية، بالين ليس نزَّاعًا للقلق المفرط في حياته المهنية. وعلى الرغم من ذلك، فهو لا يخلو منه تمامًا. كما أخبرنا، فجزئيًّا، يبدو أن القلق مرتبط بمنطقة الأداء؛ فهو نادرًا ما التقى بممثل لم يعانِ القلقَ مطلقًا. ومع ذلك، يمكن أن يشعر بالقلق أيضًا من فكرة كيف يراه الآخرون، لا سيما عندما لا يتفق مع الطريقة التي يعتقد أنهم ينظرون إليه بها («ككنز وطني») أو يشعر أنها قد تكون انتقادية (نتيجة حدوث خطأ، مثلًا، أثناء حديثه إلى الجمهور من خلال النظر مباشرة للكاميرا).

fig5
شكل ٤-١: مايكل بالين

هنا، يختبر بالين ما يسميه علماء النفس «التركيز على الذات»، وهو ما يمكن أن يلعب دورًا كبيرًا في القلق. عندما نوجِّه انتباهنا إلى الداخل، يمكن أن تتضاعف أي مخاوف قد تكون لدينا بشأن أدائنا. قد تتراءى لنا صورٌ مزعجة تتعلق بكيفية رؤيتنا في أعين الآخرين. ونظرًا لأننا منشغلون بمعرفة كيف نبدو للآخرين، وبمشاعر القلق المخيفة، وبأفكارنا السلبية، فإننا لا نلاحظ كيف تسير الأمور حقًّا. فلو أننا نظرنا خارج أنفسنا، لَكُنَّا سنكتشف بالتأكيد أن قلقنا غير مبرَّر. ويمكن أن تنشأ حلقة مفرغة، يتسبب فيها تركيزنا على ذواتنا بالفعل في المشكلات التي نخشاها (عدم القدرة على الكلام أمام الكاميرا، على سبيل المثال)، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة قلقنا. والحقيقة أن من التقنيات التي يستخدمها علماء النفس لاستثارة التركيز على الذات لدى الناس توجيه الكاميرا نحوهم. يبدأ كل شخص في هذه الحالة تقريبًا في التساؤل عن كيفية رؤية الآخرين له. وأفضل طريقة لمقاومة التركيز على الذات، كما اكتشف بالين، هي التركيز على المهمة التي بين يديك.

إن استراتيجيات بالين للتعامل مع القلق ذكية من الناحية النفسية. فبدلًا من القلق بشأن قلقه، فهو يعرف أن ما يمر به أمرٌ طبيعي، بل ضروري (يطلِق المعالجون على هذا «التطبيع»). ويعزِّز تقديره لذاته، على سبيل المثال، من خلال تذكير نفسه بأنه يستطيع فعلًا فِعل كلِّ ما يَقلق بشأنه. ومن ثَم، فالأفكار والصور الإيجابية التي تُثار في ذهنه (ذكريات الأداء الناجح، على سبيل المثال) نتيجة لذلك تتغلب على أي تفكير سلبي وتثبِّطه. يمارس بالين رياضتي المشي والجري (التمرينات البدنية وسيلةٌ مُثبتة للحد من القلق). وقد اكتشف أن الكحول يخفِّف من القلق فقط على المدى القصير، ولكنه غير مفيد على المدى الطويل، وهذا صحيح تمامًا.

علاوة على ذلك، يتسم بالين بالإيجابية وحب المعرفة وقوة الإرادة: «أعتقد أن كل شيء نفعله له أهميته. وأرى أن هذا يسبِّب القلق، ولكنه يساعدك بالطريقة نفسها على التعامل معه؛ لأنه يجعلك تدرك أنك قلِق لأنك تفعل شيئًا مهمًّا بشكلٍ أو بآخر.» يساعد هذا النهج بالين على الاضطلاع بالمهام التي كان ليميل إلى تجنُّبها لولاه — «مثل عبور الجسور زحفًا على يديك وركبتيك» — ومن ثَم يمنع قلقه من الاستحواذ عليه (لمزيد من المعلومات عن المشكلات الناجمة عن تجنُّب ما نخافه، انظر الفصل الثاني). كما أنه يمكِّنه من الهروب من التركيز على الذات، والتركيز بدلًا من ذلك على ما يعرف أنه مهم حقًّا، ألا وهي المهمة الحالية المطلوب إنجازها.

يقول بالين:

لم يبدُ أن التوتر بشأن الأداء كان أمرًا يقلقني عندما كنتُ في مقتبَل العمر. كانت المرة الأولى التي أديت فيها حقًّا أمام جمهور لمدة طويلة في السنة التي تفصل بين دراستي الجامعية وبين عملي، وكنت في شيفيلد — لم يكن الناس ينتقلون إلى أماكنَ بعيدة في هذه السنة؛ وأنا لم أبتعد سوى أربعة أميال فقط — وانضممت إلى إحدى فرق الهواة المسرحية في شيفيلد، وتمكَّنت من التعامل مع ذلك. كانت مسرحيات طويلة جدًّا، وكانت هناك الكثير من الكلمات التي لا بد من حفظها. لا أتذكر أنني كنت متوترًا بشكل مُبالغ فيه. لا أتذكر أني توترت بشدة عندما قدَّمنا مسرحية «أدنبرة» الساخرة في عام ١٩٦٤، التي قرَّرت فيها احتراف التمثيل. فكَّرت في نفسي قائلًا: «أنا أستمتع بهذا حقًّا؛ إنه شيء يمكنني القيام به». حتى عندما كنا نقدِّم «بايثون»، لم يبدُ أن القلق بشأن أدائي يشكل أيَّ أهمية على الإطلاق. حدث ذلك بعد فترة وجيزة من نجاح بايثون. فقد أصبحت واعيًا بذاتي أكثرَ فيما يخص هذه العملية.

أعتقد أنك تكون نفسك لفترة طويلة، أو مَن تعتقد أنك تكون. وبعد ذلك تصبح الشخص الذي يراه الآخرون فيك، أو على الأحرى صورتهم عنك. ومن ثَم، أحيانًا أُستَضاف في برنامج لأنني من النجوم، فأفكر في نفسي: «أنا لست نجمًا، أنا فقط أنا».

من حين لآخر يمكنني التعامل مع ذلك بسعادة تامة. أنت فقط تلعب هذا الدور. لكن في أحيان أخرى كان الأمر يزعجني وأفكر «أنا لست قادرًا على أن أكون على طبيعتي». أعتقد أن هذا هو المفتاح للكثير من قلقي. والعمل الذي أقوم به هو محاولة تذكُّر مَن أنا وما يمكنني القيام به، بدلًا من أن أصبح مجرد صورة خيالية لما يريد الناس أن أكونه. يقول الناس: «أنت نجم عظيم، أنت كَنز وطني، لقد قمت بكل هذه الأشياء الرائعة». وهذا يحرجني فحسب. فهذه ليست الطريقة التي أشعر بها تجاه نفسي.

من ناحية أخرى، أعتقد أن ثمة مستوًى من القلق مهم حقًّا وجوده. نادرًا ما عرفت أي شخص يصعد على خشبة المسرح دون الشعور بالقلق. لا أشعر بالقلق من نوعية: «أنا أكذوبة حقًّا وسيُفضَح أمري يومًا ما». في الحقيقة، أشعر بالعكس تمامًا، أشعر أنني أستطيع فِعل أشياء جيدة بحق، وما يمنعني أحيانًا من القيام بما أريده بالطريقة التي أريدها هو أنني أشعر بالقليل من القلق. ومع ذلك، فأنا أدرك أنني بحاجة إلى القليل من القلق لأنه من غير المعتاد تمامًا أن تقف أمام الناس، وتكون محطَّ انتباه الجميع بصورة أو بأخرى.

الشيء الرئيسي هو أنني أتذكر التجارب الأخرى وأعلم أنني في النهاية أقدِّم عرضًا. أقول لنفسي إنها مثل مسرحية أدنبرة. إنني أواصل فِعل ما أفعله في الأساس، عليَّ حفظ بعض الكلمات، ولديَّ بعض الزملاء الممثلين، ولديَّ دوري الذي عليَّ أن أقوم به. لذا تنسى حقًّا. قد تخمِّن عددَ الأشخاص الذين سيشاهدون عملك، ولكنك عندما تقدمه حقًّا تعلم أنه يشبه تقديم عرض مسرحي بالجامعة أو ما شابه. وقد قدَّمت هذه الأشياء بشكل رائع من قبلُ وأعلم أنني يمكنني القيام بها.

لذا يمكنني الآن التعامل مع أي موقف بالتفكير في موقف آخر كان الأمر فيه أسوأ، ومع ذلك تمكَّنت من اجتيازه. إنني محظوظ لأنني أظن أنني أرى العالم بصورة إيجابية بشكل عام. لم أمرَّ بلحظات كثيرة عايشت فيها مشاعر القلق الصارخة وقلت في نفسي «إنني لا أستطيع فِعل ذلك. إنني أرغب في تغيير وظيفتي». استمتعت دائمًا بعملي، أيًّا ما كان!

على المرء مواجهة هذه المواقف. فإذا تجنبتها فلن يكون الأمر جيدًا لأنه دائمًا ما ستقبع في ذاكرتك هذه الفكرة التي تقول: «لم أستطِع فِعل ذلك؛ لم أكن قادرًا على فِعل ذلك قط». لذا، حتى لو كنتُ قد جربت الأمر وفشلت، فعلى الأقل قد فعلت ولم يكن الأمر سيئًا للغاية، في الواقع لم يضحك أحد وقد ظهر هذا المشهد في الفيلم وهو واحد من أفضل المشاهد.

في سلسلة عروض بايثون، اعتدنا دائمًا أن نذهب ونحتسي الشراب قبل أن نقوم بالتسجيلات لكي نشعر بالقليل من الاسترخاء. أتذكَّر أننا اعتدنا الذهاب إلى مشرب «بي بي سي» وشرب الجِعة، كنا نحتسي كوبين منها وكان الأمر على ما يرام. بطريقةٍ ما كانت البيرة تتعامل مع الأدرينالين. عندما كنا نصور أفلامًا مثل «لايف أوف براين»، وهذا لأننا كنا نصور المشاهد جزئيًّا في تونس، ولم يكن هناك الكثير من المشروبات الكحولية، ولكن بعد ذلك أصبح من المقبول لدينا ألا نحتسي الكحول إذا كنا سنؤدي مشهدًا، ولم يحتسِ أحدٌ الشراب فعلًا. منذ ذلك الحين كنت أتجنَّب دائمًا تناولَ المشروبات الكحولية قبل أن أؤديَ. لا أستخدم الكحول أبدًا للتغلب على القلق الآن؛ لأنني لا أعتقد أنه يفيد في النهاية.

يبدو أن مستويات القلق لديَّ ترتفع كلما وُضِعت تحت المنظار بشكل واضح. عندما نسافر لتسجيل الأفلام الوثائقية وألتقي بأشخاص أثناء الرحلة، يعتقد الناس أن هذا أمرٌ صعب للغاية. ولكن هذا لا يضايقني، إنه أمر عادي. ولكن ما يزعجني حقًّا هو عندما يخبرونني فجأةً أنه يتحتم عليَّ الحديث إلى الكاميرا مباشرة. إذا قمت بشيء خاطئ، فهم يقولون: «حاوِل مرة أخرى، أعتقد أنك تسرعت في ذلك قليلًا». وهنا يبدأ القلق في الازدياد.

كان هناك موقف لا يُنسى حيث كان عليَّ التحدث إلى الكاميرا مباشرةً، أعتقد أنه كان لسلسلة «الصحراء» الوثائقية، وذهبنا إلى قمةِ تل مرتفع في جبل طارق وكان بإمكانك إذا نظرت عبر المضيق أن ترى أفريقيا. كانت بداية السلسلة، وكنت قد حضَّرت مقالًا عن الروابط بين أفريقيا وإسبانيا. ثم قال المخرج: «حسنًا، ليس هذا ما نريده تمامًا، هل يمكنك فقط أن …» وهنا قلت في نفسي على الفور: «يا إلهي …». حسنًا، لم أقُم بالأمر بطريقة مناسبة. وفور أن فكرت في هذا، قالوا: «هل يمكننا إعادته مرةً أخرى لأن حمامة طارت أمام الكاميرا، ولن نتمكن من قطع هذا المشهد». وهنا انهرت نوعًا ما وصرت غاضبًا من نفسي بشدة فحسب.

ولكنني لا أعتقد أنني قد مررت بالعديد من المواقف التي قلت فيها لنفسي إنني لن أستطيع فِعل شيءٍ ما. كنت أفعله فحسب وأنا متخوِّف بعض الشيء، تمامًا كعبور جسر على يديك وركبتيك. ولكنك عبرته على الأقل، وعادةً ما تجد أن هناك شخصًا آخر حولك مرعوب بنفس القدْر، وهو أمر مهم للغاية في مسألة القلق برُمَّتها؛ لأنك إذا رأيت شخصًا آخر يعاني القلق، فهذا لا يجعلك تشعر أنك لست وحدك فحسب، ولكن في بعض الحالات يمكن أن يجعلك تشعر بتحسن طفيف؛ فأنت لست قلقًا بنفس قدْرهم، ومن ثَم يمكنك مساعدتهم.

ومع كل ذلك، فالقلق لا يزول أبدًا. وليس ثمة سهل مُضاء بالشمس تذهب إليه فلا يخالجك فيه القلق أبدًا بشأن أي شيء؛ كلُّ ما هنالك أن القلق يتخذ أشكالًا وصورًا مختلفة. إذا كنت سأقوم بالتمثيل، أو إذا كنت سأعمل يومًا كاملًا في عمل وثائقي أو شيء من هذا القبيل، فأنا لا أنام جيدًا في الليلة السابقة. لقد تقبَّلت ذلك الآن. كان هناك وقت كنت أشعر فيه أنني إذا لم أنَم فلن أكون قادرًا على القيام بهذا العمل، وأن الأمر سيكون مروعًا عندما أقف أمام الكاميرا. وهذا أمرٌ فظيع لأنه مدمِّر للذات تمامًا.

الآن ما زلت لا أنام جيدًا ولكني أتقبَّل أن ما أفعله هو جزء من العملية. أفكِّر في الأمر مليًّا؛ إنني أحضِّر نفسي لليوم المقبل. لذا، فعلى الرغم من أنك قد تكون متعبًا، كما هو مفهوم، فإنك في الواقع تكون مستعدًّا بصورة أفضل بكثير. ولكن وجهة نظري هي أنك لا تتمكن أبدًا من تحرير نفسك من القلق تمامًا؛ فهناك دائمًا شيء آخر يقلقك.

يرى الناس أشخاصًا مثلي ويقولون: «لديك أفضل وظيفة في العالم، أنت خالٍ من الهموم، ويا إلهي نود جميعًا أن نكون مثلك، وأن نكون قادرين على الوقوف أمام الكاميرا وإلقاء الخُطَب وكل ذلك». لا أفعل أيًّا من هذه الأشياء دون الشعور بالقلق في وقتٍ ما بشأن تقديم أفضل ما لدي ومسئوليتي تجاه الآخرين. عندما كنت صغيرًا كنت خجولًا للغاية. لم أكن أول مَن يرفع يده في الفصل للمشاركة، وكنت أجلس في الخلف وأراقب الآخرين. أحب أن أراقِب على أن أكون مُراقَبًا، وهذا ليس جيدًا لمقدم برامج تليفزيونية!

أعتقد أن كل شيء نفعله له أهميته. فاليوم العادي بالنسبة إليَّ له أهميته. يقول الناس: «أوه، إنه مجرد شيء تافه، وأنت تفعل الكثير من الأشياء.» ولكن عليَّ أن أفعله بشكل صحيح ومناسب، وإلا فما الهدف منه؟ وأرى أن هذا يسبِّب القلق، ولكنه يساعدك بالطريقة نفسها على التعامل معه؛ لأنه يجعلك تدرك أنك قلِق لأنك تفعل شيئًا مهمًّا بشكل أو بآخر.

(٢) القلق في إدارة فريق

يعتبر جراهام تايلور أحدَ أنجح المدربين في كرة القدم الإنجليزية الحديثة. وُلد عام ١٩٤٤، وتوقَّفت مسيرته لاعبًا بسبب الإصابة. أصبح أصغرَ مدرب مؤهل على الإطلاق في الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم وأدار فريق «لينكن سيتي»، و«واتفورد»، و«أستون فيلا» بنجاح باهر، مما أدَّى إلى تعيينه مديرًا فنيًّا لمنتخب إنجلترا في عام ١٩٩٠. يُعَد تايلور مبتكرًا. نَسب مؤرِّخ تكتيكات كرة القدم جوناثان ويلسون الفضل لتايلور في تقديم تكتيك الضغط إلى كرة القدم الإنجليزية. كما كان رائدًا في مفهوم «نادي العائلة»؛ حيث تواصل مع المجموعات التي كانت تشعر سابقًا بأنها غير مرحَّب بها في مباريات كرة القدم، وطوَّر روابط قوية بين النادي والمنظمات المجتمعية. استقال تايلور من منصبه مدرِّبًا لمنتخب إنجلترا في ١٩٩٣، وعاد إلى إدارة النوادي، وقاد واتفورد مرةً أخرى من قاع دوري الدرجات الأدنى إلى الدوري الإنجليزي الممتاز. وهو يشغل حاليًّا منصب رئيس مجلس إدارة نادي واتفورد.

fig6
شكل ٤-٢: جراهام تايلور

برع تايلور في تحفيز اللاعبين؛ إذ غالبًا ما يحوِّل لاعبي كرة القدم غير البارزين إلى نجوم. يقدِّم لاعب سابق في واتفورد تعليقًا نموذجيًّا على تايلور: «كنت مستعدًّا لفعل أي شيء من أجله مهما كان صعبًا عندما كنت في النادي، وأعتقد أن المشجعين شعروا بالشيء نفسه تمامًا.» (يمكننا بالتأكيد أن نؤكد حقيقةَ هذا التصريح الأخير.) استندت مهارات تايلور التحفيزية الأسطورية إلى حساسيته الشديدة لأفكارِ لاعبيه ومشاعرهم وسلوكهم. في هذه المقابلة التي أجراها معنا، يركِّز تايلور على عنصر واحد من عناصر هذه الفِطنة النفسية، ألا وهي الاستراتيجيات التي استخدمها لمقاومة القلق في الفريق.

لذلك، على سبيل المثال، نرى كيف كان تايلور بارعًا في إعطاء لاعبيه إحساسًا بالهدف والثقة، والتأكد من خلال الممارسة والروتين والتعليمات أنهم يفهمون المطلوب منهم، والسبب وراء المطلوب منهم، وربما كان هذا هو الشيء غير المعتاد. بفعله هذا، علَّم أعضاء الفريق التركيز على المهمة التي يقومون بها، وهذه هي الطريقة المثلى لمنع تفاقُم القلق. اهتم تايلور كثيرًا بالتعرُّف إلى اللاعبين وعائلاتهم، مما سمح له بتوقُّع المشكلات قبل ظهورها. وكما يشرح في المقابلة، طوَّر روتينًا مثاليًّا لتعزيز ثقة لاعبيه قبل النزول إلى أرض الملعب.

أثبتت العديد من التجارب أن الموسيقى يمكن أن يكون لها تأثير قوي على الحالة المزاجية، والنجاح الذي حقَّقه فريق واتفورد في عام ١٩٩٩ يضرب مثالًا رائعًا على ذلك من الحياة الواقعية. كانت الأغاني التي يشغلها تايلور في غرفة تبديل الملابس قبل المباريات تثير المشاعر الإيجابية لدى اللاعبين. كما أنها كانت تعزِّز أيضًا روح الفريق التي ساعدت بلا شك في تحقيق العديد من الانتصارات في مثل هذا الوقت الحاسم.

كما رأينا في الفصل الثاني، يمكن تعلُّم القلق من الآخرين؛ لذا حرَص تايلور، المليء بالثقة والتفاؤل، على ألَّا يتعلم لاعبوه القلقَ منه. ومع ذلك، كان يعلم أن التوتر في يوم المباراة طبيعي. لذلك لم يبالغ في رد فعله، وكان يحافظ على الروتين فحسب. وقد تعلَّم تايلور من خبرته لاعبًا أن الناس يستجيبون على نحو أكثرَ إيجابيةً للثناء مقارنةً بالنقد. لذا، عند عمله على تطوير نقاط الضَّعف الفنية لدى اللاعبين، كان دائمًا ما يؤكد على نقاط قوَّتهم.

عرفنا أيضًا كيف تعامل تايلور مع توتره في يوم المباراة، وهذا من خلال الاستعداد الدقيق، والتمرين البدني، وربما قبل كل شيء، من خلال التركيز على مشاعر لاعبيه، وليس على مشاعره الخاصة. واكتشفنا كيف شعر تايلور عندما انتقل، بعد سنوات من النجاح على مستوى الأندية، إلى عالم إدارة المنتخبات الدولية الشديد الاختلاف. على عكس القبضة الحديدية التي كان يدير بها ناديه، كان تايلور قادرًا على التحكم بشكلٍ أقلَّ بكثير في فريق إنجلترا، وهو الوضع الذي أضاف مزيدًا من القلق إلى منصب ضاغط بشدة أصلًا.

بدأ تايلور مقابلته بالتذكير بصعود واتفورد المتأخر إلى الدوري الممتاز في عام ١٩٩٩، وهي الجولة التي شهدت فوزهم بتسع مباريات من أصل إحدى عشرة مباراة نهائية.

كان لدينا أغنيتان: أغنية براين آدمز «إيفريثينج آي دو، آي دو إت فور يو» (كلُّ ما أفعله، أفعله لأجلك)، وأغنية إم بيبول، «سيرش فور ذا هيرو» (البحث عن البطل) — وكنا نستمع إلى هاتين الأغنيتين قبل المباريات. كان طبيبنا النفسي كيران بارعًا. لا شكَّ في ذلك؛ لقد لعِب دورًا في صعودنا. لقد أحضر أغنية آدامز إلى ملعب التدريب وقال: «ما سنفعله هو أننا سنجمع اللاعبين بعد التدريب، وسيضع كلُّ لاعب ذراعه حول الآخر في تشكيل دائري، وسنتركهم يستمعون إلى هذه الأغنية.» ومن ثَم وضع كلٌّ منا ذراعه على الآخر. وقلت لهم: «سؤالي هو، ما سبب وجودكم هنا؟ لماذا نفعل كل هذا؟» وأصبح الموقف عاطفيًّا للغاية؛ كلُّ ما أفعله، أفعله لأجلك. لعبت هاتان الأغنيتان دورًا عاطفيًّا كبيرًا في تحضير لاعبينا. لقد آمنوا بهما.

في نهائي كأس ١٩٨٤، كان هناك توتُّر بالتأكيد لأننا كنا صغارًا جدًّا. كان يمكنك أن ترى ذلك قبل المباراة من رد فِعل لاعبَين على وجه الخصوص. واحد منهما بالتأكيد من الطريقة التي كان يستعد بها، لقد جلس متربعًا على الأرض. لم أرَ هذا من قبل. كان لدينا روتين إحماء قبل المباراة في غرفة تبديل الملابس وكان قد خرج منه للتو. ولكن عندما أعود بالزمن، أجد أنني ارتكبت خطأً فادحًا لأنني أعلنت عن تشكيل الفريق بعد أن تغلبنا على «آرسنال». السبب في فِعلي ذلك هو أن هذين اللاعبين كانا سينضمان إلى رباعي خط الدفاع في نصف النهائي ضد «بلايموث» واعتقدت أنهما بحاجة إلى معرفة ذلك. ولكنهما كانا أصغر من تحمُّل معلومةٍ كهذه، وأعتقد أنني كان لا بد أن أبقيهما في حالة ترقُّب.

أما فيما يخص توتري، فقد كنت أُحْضِر اللاعبين. كان لديَّ قول شائع مع اللاعبين، العائلة أولًا، وكرة القدم في المرتبة الثانية. باستثناء أيام المباريات. تهيمن كرة القدم علينا جميعًا يوم السبت. لذا ما سنفعله هو الاستعداد في الساعة العاشرة إلا الربع من صباح يوم السبت. ونتوجَّه إلى استاد «فيكاريدج رود»، وليس ملعب التدريب، وكنا نخرج في الساعة العاشرة صباحًا، وكنت أخصص نصف ساعة فقط للحديث التحفيزي. كنا نقوم ببعض العدْو السريع وكنت أتحدَّث معهم طوال الوقت حول الخَصم وبعض الوقت عما سنفعله. وبعد ذلك كانوا يذهبون للاستحمام ويستقلون سياراتهم إلى الفندق لتناول وجبةٍ ما قبل المباراة، أما أنا فكنت أُهرع إلى المنزل. أستلقي في حوض استحمامي مسترخيًا، وأنا أعلم أنني فعلت كلَّ ما بوسعي. لقد أتممت مهمتي، الأمر متروك لكم الآن أيها اللاعبون.

الجزء التالي هو ما بين الساعة الثالثة إلا الربع والثالثة. في هذا الوقت يجب أن أكون حريصًا للغاية على ألا أتحدَّث كثيرًا لأنني قلت كل شيء بالفعل. وعندما كانت تحين اللحظة الحاسمة، كنت أقف على المقعد بحيث أُصبح أطول منهم جميعًا. أثناء خروجهم، كنت أعرف الأشخاص الذين يريدون لمسةً أو كلمةَ تشجيع مني أثناء مرورهم. بصفتي المدير الفني، كنت أعلوهم؛ لا تقلق، أنا غير متوتر، كل شيء على ما يرام، هيا بنا نمضي قُدمًا …

آمُل أن أعطيَهم كلَّ الثقة التي أشعر بها في داخلي. لكنني تمكنت من تحقيق ذلك من خلال الجري، من خلال الأدرينالين الذي تحصل عليه من خلال التمارين البدنية. لقد أعددت نفسي عقليًّا وجسديًّا على حد سواء، دون علمهم.

قبل المباراة، ترى اللاعبين يذهبون إلى المرحاض كثيرًا. ولكن هذا لم يقلقني على الإطلاق. لقد رأيت ذلك على أنه مسألة طبيعة بشرية. وكان هناك لاعب أو اثنان يدخلان المرحاض لإحساسهما بالغثيان. هذا النوع من الأمور لم يقلقني قط.

أتذكَّر أنني كنت لاعبًا في فريق «جريمسبي تاون»، وكان المدير الفني يرعبنا وفي صباح المباراة لم أكن أرغب في النهوض من السرير. كنت أشعر بالخوف، وكنت أقول لنفسي إذا أصبحت مديرًا فنيًّا في يوم من الأيام، فلن أجعل اللاعبين يشعرون بمثل هذا الشعور مهما حدث.

كان التعرُّف إلى اللاعبين على المستوى الإنساني والتعرُّف على عائلاتهم أمرًا مهمًّا. أصبح واتفورد معروفًا بأنه نادي العائلة، ولكن الناس لم يكونوا دائمًا على درايةٍ كاملة بما يعنيه ذلك. فعندما كنت أتعاقد مع لاعبين، كنت أود، إذا أمكن، أن تكون زوجاتهم أو صديقاتهم موجودات — كان هذا قبل زمن الوكلاء — وأن يُحضروا عائلاتهم إن وُجدت. وفي هذه الحالة فإنك تتعاقد مع أفراد الأسرة بأكملها. في وقتٍ ما، كان لدينا، بطبيعة الحال، تواريخُ أعياد ميلاد جميع لاعبينا، ولكننا حاولنا أيضًا الحصولَ على تواريخ الاحتفال بالذكرى السنوية لزواج كلٍّ منهم، ومثلما يفعل كلُّ المدربين الجيدين، كنت أُرْسِل بعض الورود إليهم، على حساب النادي بالطبع! إنك تحاول التأكد من عدم تطوُّر المشكلات. يمكنك أن تجعل الناس أكثرَ استقرارًا من خلال التعرُّف إلى زوجاتهم ومحاولة إبقائهن في صفك؛ لأنك عندما تنجح في مقابلة الزوجات في النادي، فقد يخبرونك أحيانًا بأشياء عن أزواجهن تساعدك في الحصول على صورة أفضل.

بحلول وقت عملي في منتخب إنجلترا عام ١٩٩٠، كنت قد عمِلت مديرًا فنيًّا لمدة ثمانية عشر عامًا. أثناء خروجي إلى ملعب استاد ويمبلي، أعتقد أن الغرور الذي شعرت به في داخلي كان يتعلق بما حقَّقته، لم أكن خائفًا على الإطلاق. هذا هو المكان الذي يجب أن أكون فيه. هذا ما عمِلت بجدٍّ من أجله. سأخرج إلى الملعب وسنفوز.

كنت أميل إلى أن أكون أكثر توترًا في مباريات إنجلترا مما كنت عليه في مباريات الأندية لأنني لم أكن أملك السيطرة. كنت أشعر بالقلق في مَعِدتي، هذا الشعور في تجويف معدتك بأنك لست مسيطرًا حقًّا على ما يحدث، بينما كنت تشعر بالسيطرة على مستوى النادي، وكان لا بد أن تسيطر. يجب أن تجرِّب خوض بطولة الدوري قبل أن تعرف معنى الإدارة الدولية. يكون لديك عشر مباريات فقط في الموسم بينما في الدوري يكون لديك خمسون مباراة. إنهم ليسوا لاعبيك، إنهم لاعبو شخص آخر. إنهم ليسوا موظفيك، إنهم موظفو شخص آخر. في ذلك الوقت لم يكن لديَّ تواصل يومي مع أي منهم على الإطلاق. كانت الهواتف المحمولة قد بدأت في الظهور لتوها في تلك الفترة؛ وبعضهم لم يكن لديه هواتف محمولة، فكيف يمكنني البقاء على اتصال بهم؟

تُكِنُّ مجموعة صغيرة من المديرين الفنيين الكراهيةَ لك لأنك كنت خَصمًا لهم. لذا، فبعضهم لا يريدون لك النجاح. لقد نشأت في «سكانثورب» وكان فريق سكانثورب هو ما أدعمه، وكان فريقي الثاني هو إنجلترا. عندما تلعب إنجلترا يتوقف كل شيء آخر، وهذا هو ما أخذته معي في قيادتي لمنتخب إنجلترا، يا لها من سذاجة … لقد جاء كل مدرب مِنَّا، نحن مدرِّبي إنجلترا، من خلفيةٍ قائمة على نجاح باهر في التدريب على مستوى النوادي؛ لذا كنا نتوقع أن نستمر هكذا. وقد وجدت ذلك صعبًا للغاية. ما وجدته صعبًا هو عدم السيطرة الكاملة على الموقف. ولا يمكنك أن تكون كذلك وأنت مدرب لمنتخب إنجلترا.

لم أقتنع قط بإخبار اللاعب عن نقاط ضعفه. كنت أومن بالتدريب وممارسة نقاط قوَّتهم، وكان من المدهش رؤية مدى تحسُّن نقاط ضَعفهم هذه. إذا أخبرت اللاعب أن قدمه اليسرى سيئة، فما الذي ستجنيه؟ يمكنك القيام ببعض العمل لتحسين ذلك، يمكنك القول إننا سنقوم ببعض الأشياء الأساسية، إننا نريد أن نجعلك تستخدم كلا قدميك، وستكون لاعبًا أفضل، ولكن قدمك اليمنى ممتازة، قدمك اليمنى عظيمة، وإذا تمكَّنت من جعلِ قدمك اليسرى تصل إلى ٥٠ بالمائة من مهارة اليمنى، فستكون لاعبًا رائعًا. والآن فجأة يمكن أن تكون قدمك اليسرى أضعف بمقدار ٥٠ بالمائة من قدمك اليمنى لأن مديرك الفني أخبرك لتوه بمدى روعة قدمك اليمنى، ولكنَّ كلَّ ما يريد حقًّا أن تفعله هو أن تحسِّن مهارتها وصولًا إلى النصف، وستكون لاعبًا رائعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤