ملاحظات ومشاهدات

وهي جمل مستخلصة من دفتر الطريق الذي دون فيه ﻫ. زاده تأملاته وآراءه.

أنقرة المقدسة في ١٣ مايو الساعة ١١ مساءً

أقبل اليوم من جبهة القتال القائد رأفت باشا واصلًا إلى أنقرة الساعة الخامسة بعد الظهر، فجاء إلى بيت بكر سامي بك زائرًا وهنالك تعرَّف بي.

وإذ كان وزير الخارجية متغيِّبًا عن بيته فقد حللت محله في استقبال هذا الضيف الجليل.

ورأفت باشا متوسط القامة ذو مشية يتمشى في خطواتها الشمم.

وهذا القائد الشاب جميل الشمائل والهندام في ثوبه العسكري الرسمي البهي حتى لقد أدهشني مرآه.

ولشاربيه الصغيرين الناهضين منظر بديع يجعل لسمته الحربية الصريحة جاذبية خاصة.

وأما عيناه القاتمتان الدالتان على الذكاء فتتلألآن تحت قلنسوته السوداء.

وما هو إلا امرؤ حر الإرادة مستقل في العمل شجاع. يخيل إلى رائيه وهو ينظر إليه ويستمع مقاله أن لا يوجد شيء يفسد عليه خططه ومشروعاته ولا يمنعه أيًّا كان من تنفيذ الأمر الذي يكون قد صحت عزيمته من قبل على إتيانه. وهو ضابط فني ذو قيمة عظمى، وقد اشترك في سائر الحملات الكبرى في الحرب العالمية، وكان موفَّقًا ظافرًا في معركة غزة الأولى.

وفضلًا عن ذلك فإن رأفت باشا من أوائل الأبطال الذين أيَّدوا الحركة الوطنية، وقد بذل مجهودًا خاصًّا في نشرها وتقويتها.

وإن عمله الحربي الذي قاوم به الإنجليز في مرزيفون، وكذلك الطريقة الباهرة التي أخمد بها الثورات التي تتابعت على إثر إبرام الهدنة، ولم يكن تحت إمرته إذ ذاك سوى خمسة عشر فارسًا، لَيُعْتَبَرَانِ من الأعاجيب، ولا سيما إذا علم أنه عاد من حركاته القامعة على رأس ستمائة فارس كَمِيٍّ مدججين جميعًا بالأسلحة الكاملة من عقاصهم إلى أخامصهم، فكان نجاحه هذا المدهش في هذه الآونة هو النواة التي تجسَّمت حولها القوة النظامية الوطنية.

وله الشرف والفخار في مقاسمة عصمت باشا مجد الانتصار الذي تكللت به معركة إين أوني.

وفضلًا عن مقدرته العظيمة في الفن العسكري، فهو خطيب بليغ يحرك العواطف ويهز القلوب وأديب رشيق القلم رقيق الشعور.

وهذا الرجل الذي يلتهم الكتب التهامًا يعتبر في هذه الآونة من أنبغ العقول الشرقية وأوسعها علمًا واطِّلاعًا.

وإخلاصه العظيم ووده الصادق الأكيد هما أهم الشمائل التي تلوح على محياه الذي ترتسم عليه مخائل الشهامة والعزم والإقدام، وهي الصفات الجوهرية للقائد المغوار الذي لا يقهر ولا يعرف سوى الهجوم على العدو وكسر حدته وتقويض معالم دفاعه وإفناء قوته.

ولقد أفهمني بأنه لا يحب التقهقر ولا التراجع الذي تقتضيه في بعض الأحوال الخطط العسكرية.

وعلى إثر ذلك تبادلت جوانحنا عواطف الميل والود التي قربت بين قلبينا ثم وصلتهما برابطة الحب الصادق!

واستقل سيارته البديعة حوالي الساعة السادسة مساءً وعلم القيادة العليا يخفق في مقدمها.

وكان يقود هذه السيارة سواق عسكري ويصحب هذا القائد العظيم فيها ضباطه الخاصُّون به المكلفون بتنفيذ أوامره وتعليماته العسكرية.

١٤ مايو في القطار الذاهب إلى إسكي شهر

كان اليوم موعد السفر، فأنا أفارق أنقرة المقدسة والأسف مستولٍ على فؤادي. وفي الحقيقة إنني ما كنت لأفارقها لو كان لي نصيب من الاختيار، إلا أن مقتضيات قاهرة تبعدني عن هذه المدينة التي أحببتها وقاسيت فيها آلامًا شديدة هي القسط الذي أصبته من مجموع الغُصَص والتباريح الوطنية!

وستظل الحفاوة التي قوبلت بها في هذه الديار ماثلة أبد الدهر في ضميري لا تقوى على محو ذكراها من ذاكرتي وقلبي تصاريف الزمان.

فمتى أءوب إليها؟ وكيف أرى مرة أخرى هذه العاصمة المشرقة الضحوك المتلألئة المحصَّنة القوية؟

لقد غادرت بها أصدقاء أوفياء عديدين ذوي نفوس شريفة وقلوب صادقة وإقدام وتغلب على هوى النفس باهرين. ولقد عسر عليَّ أن أفارقهم وهم في مثل حالتهم هذه الحرجة المؤلمة على الرغم من اعتقادي الجازم بأن الخاتمة ستكون بإذن الله على أحسن ما نرجوه من فضله وكرمه، لأن مسألتنا التي ندافع عنها عادلة.

فسلامًا عليكم جميعًا أيها الأصدقاء، بل أيها الرفاق الذين كانت صحبتي معهم — وا أسفاه — أيامًا معدودات، إلا أنها انتهت بإحكام صلات الود بيننا.

وإني لأدون أسماءكم في دفتر سفري خفية …

إني أدون هنا الآن أسماء أولئك الذين بلغت صلات الود بينهم وبيني إلى درجة عظيمة من الإحكام، وها هي ذي:
  • القائد يوسف عزت باشا: رئيس جيش القوقاز سابقًا ونائب الآن في المجلس الوطني الكبير. وهو عالم قدير ومؤرخ محقق، وضابط بارع، ووطني غيور، ومؤمن شديد التشبث بأحكام الدين، وهو من أمثلة شرف الأمة وشهامتها.
  • أمير باشا: نائب سيواس، ولست أنسى ما حييت تلطفه المتناهي معي أثناء الأيام التي قضيناها في مسكن واحد.
  • موفق بك: أحد نواب الأستانة سابقًا وابن رئيس مجلس الأعيان، وحفيد الشاعر الوطني الكبير المترامية شهرته في الآفاق كمال بك، وهو مالي قدير.
  • رءوف أحمد بك: أحد نواب الأستانة سابقًا، وهو كاتب بليغ، وامرُؤٌ ذو ولاء صادق وشديد.
  • خسرو بك: نائب ومن كبار الضباط له صفحات غرَّاء في سجل الحرب العالمية وفي تاريخ الحركة الوطنية.
  • أمير الألاي أديب بك: إن هذا الصديق الحميم لروما ولأنقرة كانت مودته العزيزة عليَّ ذات قيمة لا يمكن تقديرها لديَّ.
  • علي خان: وهو صاحبي العزيز، سليل أسرة من أمجد وأشهر أسرات القوقاز، وأحد ضباط الفرسان الروسيين سابقًا، وهو مسلم غيور على الدين ومن أكْفَاء الرجال.
  • ضيا بك: المدير العام لقسم كتبة الأسرار في وزارة الخارجية، وهو عالم مقتدر يجيد معرفة لغات أجنبية متعددة.
  • شوكت بك: هذا الشركسي العيوف الوجيه هو ابن بكر سامي بك المعروف جد المعرفة، وسيكون له بالتأكيد مستقبل باهر.

على أنَّ يَرَاعي لن يقف عن حد معين لو شئت القيام بالواجب واسترسلت في سرد جميع الأسماء الأُخَر التي تتمثل أمام ذاكرتي، في حين أني مضطر إلى التمهل عند هذا المدى؛ لأن مركبات عديدة أخذت تتقاطر. ما أشد تدفُّقَها وما أعظم تزاحمَها، فما هي إلا مركبات المشيعين الذين طفقوا يهرعون لتوديعي!

آه من غصة السفر ومن مرارة الفراق! ما أشدهما على النفس وأنكاهما بالقلوب!

بعد مدة قليلة

لبثت أستقبل المودعين إلى الساعة الثانية بعد الظهر. ولقد كان الأسى مستوليًا على قلوبنا جميعًا.

وانطلقت الساعة الثالثة صحبة أديب بك إلى القائد رأفت باشا لزيارته. وهو يقطن مع ضباطه في قطار قد تَخِذَ من مركبته الكبرى مكتبًا له.

وقد أتيح لي التأكد مرة أخرى من كفاءة هذا القائد الكبير في الشئون العسكرية وطهارة قلبه وشرف وجدانه أثناء الساعتين اللتين قضيناهما في الأحاديث الممتعة المفيدة.

•••

فليبقه الله وليبق أمثاله من العاملين لإنهاض الإسلام وإسعاده.

وقد لازمني مع أمير الألاي أديب بك إلى مركبتي في القطار ولقد عانقته وافترقنا، والقلب الذي شغله وده الصادق يتلظَّى على حرق والْتِياع.

وغصت المحطة بعالم لجب من المشيعين. وإذا بمندوب الزعيم الأكبر الذي أحمل ذكراه العبقة الجليلة إلى أوروبا قد تقدم إليَّ، فأعدت على سمع هذا المندوب وهو روشان أشرف بك أجمل وأخلص عواطف اعترافي بالجميل العظيم، ورجوت منه أن يبلغ سائر الوزراء وجميع كبار الموظفين والأعيان مرة أخرى صدق ولائي وشكري المتناهي.

فانطلق إلى الزعيم الأكبر ثم آب من عنده مزوَّدًا برسالة أفضى إليَّ بها سرًّا في أذني، وإنها لرسالة ذات شأن جليل.

فما زدت على أن قلت: «حسن، لقد وعيت ما أملي عليَّ.»

وعلى إثر هذا الجواب الموجز انحنى بكر سامي بك ليقبلني ثم قال لي: «إلى الملتقى القريب جدًّا.»

وآذن القطار بالمسير، وكانت الساعة إذ ذاك الخامسة بعد الظهر.

لقد انتأيت وشط المزار … فإلى الملتقى وليكلأْكِ الله بعين رعايته وحراسته يا أنقرة المقدسة!

في القطار

لقد كانت الحجرتان المصاقبتان لحجرتي مشغولتين بالركاب. ولمحت من بينهم جلال الدين عارف بك — رئيس المجلس النيابي الذي كان منعقدًا في الأستانة سابقًا، وأحد وزراء العدلية السالفين وهو الآن رئيس لجنة الشئون الخارجية ونائب — وإنه لمحام بارع قدير عرفته مصر والسلطنة العثمانية حق المعرفة ومن مشهوري الشراع.

ومن حسن طالعي في هذه السفرة أنه سيكون خير رفيق لي فيها حتى نبلغ أوروبا.

ويوجد في الحجرة الأخرى منير بك وكاتب سره وهو مكلف بمهمة خاصة لدى القائد غورو، وهذه المهمة تدور حول الاتفاق الفرنسوي العثماني.

وهذا الموظف الكبير هو المستشار القضائي لحكومة أنقرة، وبما أنه شديد التمكن من القانون الدولي فقد صادف تخيره خير كفء للاضطلاع بهذه المهمة العسيرة الدقيقة.

وهو مستقيم السير عاطر السيرة متناهٍ في البشاشة واللطافة وذو عقيدة دينية قوية.

ولقد حادثته مدة طويلة في مسائل هامة متعددة فإذا بمعلوماته الجمة عظيمة الفائدة!

•••

ولقد لاحظت كثرة انتشار الفرنسويين في البقاع الأناضولية وشدة الميل الذي تشعر به أنقرة لفرنسا. وتبينت أن الذين لا يجيدون الفرنسوية حق الإجادة يبذلون منتهى جهودهم لإتقانها.

والظاهر أن القوم يدركون في آسيا الصغرى أن فرنسا بمفردها هي الجديرة بأن تقدر — على الرغم من كل ما حدث — الصفات الحربية المتأصلة في الأمة العثمانية حق قدرها، وأن تعجب حقيقة بنزعة الاستقلال المتشبعة بها هذه الأمة الأبية، وأن تكبر من شأن دفاعها المجيد الحافل بصحائف البطولة الغراء، إذ من الميسور تذكر المجهودات التي بذلتها فرنسا لأجل تحقيق فكرة الحرية وما بذلته في سبيل تأييدها هذه العاطفة الشريفة وترويجها لدى الأقوام الذين يجاهدون لأجلها.

وإني لأتمنى من صميم قلبي لهذين الشعبين النبيلين أن لا يقتصرا على الاتفاق الذي سيبرم بينهما، بل يعملان لما هو أعظم من ذلك، أي لإبرام محالفة هجومية دفاعية.

ومن رأيي أن عقد مثل هذه المحالفة يعود بالفائدة العظيمة على هاتين الدولتين، اللتين تجمع بينهما مودة متأصلة من عهود بعيدة، ولا يحرجهما تبرم أولئك الذين لا يبتغون لهما تحقيق مثل هذا التحالف.

وإذا كانت الدولة العثمانية قد حاربت دول الاتفاق فإنما أقدمت على منازلتهن جهارًا وبصراحة لأسباب معقولة يعرفها الناس، وما عهد فيها من قبل أن هاجمت إحدى خصيماتها على غرة منها خيانة ولؤمًا، على مثال الطريقة التي يتبعونها ضدها في هذه الآونة.

ولكن العالم الإسلامي على علم تام بكل ما يحدث، ولا سيما بتلك اليد الخفية التي تظاهر وتمد الإغريقيين … ولا يحسبنَّ الظالمون أن اليوم الذي تأزف فيه ساعة الحكم العادل الرهيب لا تزال قَصِيَّة جدًّا.

إني لأتمنى — ونحن جميعًا نريد تحقق هذه الأمنية — أن ترتبط فرنسا مع الدولة العثمانية برابطة الود الصادق.

فالذي يجب المبادرة بتنفيذه الآن هو حل كل المسائل المعقدة بدون إضاعة الوقت سدى، والتفرغ بعد ذلك لمواجهة المستقبل في يوم جديد.

وينبغي أن نتعاون فيما بيننا إزاء ذلك الغد الذي ترى تباشيره منذ الآن حائرة مضطربة مبهمة، سواءٌ أفي الشرق أم في الغرب.

إن ثلاثمائة مليون مسلم متحدون بعروة وثقى، فماذا تريد فرنسا أن يكون شأن هذا العالم الهائل معها؟!

•••

أخذ القطار ينهب الطريق عدوًا، فاستسلمت إلى الاندفاع في تيار تأملاتي … فليعنَّا الله على تحقيق مشروعاتنا الكبرى!

إسكي شهر في ١٩ مايو

وصلنا إلى هنا الساعة السادسة صباحًا، فما أبهى هذه المدينة الكبيرة الزاهرة في وسط آسيا الصغرى!

وإنها لفريدة في نوعها بفضل ما امتازت به على سواها من شأنها التاريخي الجليل، وآثارها العتيقة القيمة!

وهي عدا ما تقدم وسط تجاري هام بالمثل ونقطة ملتقى الخطوط الحديدية التي تصل ما بين بغداد وأنقرة.

وكنت أريد أن أزورها متفقِّدًا بدقة وإنعام نظر، إلا أن الوقت الذي أمامنا لا يتسع لمثل هذا المَرَام، والأشياء التي يحسن بالزائر المدقق أن يراها عديدة.

وإسكي شهر معتبرة في الوقت الحاضر معقلًا منيعًا يستند عليه الدفاع الوطني.

والجنود تروح وتغدو في كل مكان منها، والضباط الذين يرون فيها — وهم كثيرون — تلوح عليهم دلائل الانهماك في الأعمال إلا أنهم هادئون مطمئنون.

فما ذا الذي يخبئه المستقبل؟

إن المصنع الكبير تدور رحى العمل فيه ليل نهار، والمدافع وعربات الذخائر تعد وتوثق وتسير على عجل إلى مواطن القتال.

وسوقها الشهيرة ملأى بسائر أنواع المتاجر الوطنية، وعلى الأخص أواني كوتاهية الخزفية الجذابة بألوانها الزاهية النضيرة، وما سطر عليها من الآيات القرآنية بأبدع الخطوط.

وهنالك من الأضرحة الجليلة والمساجد الفخمة الكبيرة ما يستجرُّ الأنظار ويحيِّر الأفكار … إلا أن الوقت ضيق ولا يتسع لمشاهدة هذه المناظر الفاتنة، فلا بد من الإسراع في الذهاب إلى المحطة.

وتحرك القطار في منتصف الساعة الثانية عشرة، واستمر يطوي بساط الفضاء حتى بلغ بنا علا يوند في الساعة الثالثة بعد الظهر.

فيما بعد، في القطار وهو منطلق إلى أفيون قره حصار

رأيت عصمت باشا في علا يوند. وكان ينتظرنا صحبة أمير الألاي رئيس أركان حرب المعسكر العام الأكبر عارف بك.

والقائد عصمت باشا أقرب ما يكون إلى قِصَر القامة، ومشيته هادئة جدًّا، ومع ذلك فله نظر حاد نافذ يناقض ما يتبادر عنه إلى الذهن عند التأمل في سائر ملامحه الأخرى. وهو مرتد بدثار بسيط من الخاكي.

وأمير الألاي عارف بك على شيء من بسطة الجسم وقامته في غاية الاعتدال. وقد استجرَّ نظري جمال منطقته الشركسية المحلاة بالنقوش البديعة، وأعجبت بروائها جد الإعجاب، وما هي إلا إحدى النفائس التي يجدر بها أن تعرض في أحد المتاحف.

واستغرق الحديث الذي دار بيننا وعصمت باشا حوالي الساعتين، ولم ينقطع الكلام حتى تحرك القطار.

وهذا الرجل الحربي الفني العظيم الذي ترامت شهرته في الآفاق حتى امتدت إلى أوروبا وقدَّرها الجميع حق قدرها؛ كان يخاطبنا بلهجة يمازجها الهدوء والاطمئنان، مفيضًا في تفاصيل الوقائع موضحًا كل كبيرة وصغيرة بتدقيق تام. ولقد أفعم قلوبنا بالأمل العظيم في نجاح خطته، معتمدًا في تنفيذها وتحقيق نتائجها المرجوة على معونة الله وتأييده. وعلى شجاعة جنوده المدرَّبين أحسن تدريب والآخذين بقسط وافر من الأُهْبة، وإنها لخطة هائلة يقوم بتطبيقها العملي رجل وحيد على جبهة في مثل هذا الاتساع الجسيم، وقد أعدها ورتب تفاصيلها بتُؤَدة وبطريقة متناهية في الإحكام!

ولقد أطرى شجاعة ضباطه ثم قال: «إن همي الأكبر هو القضاء الكامل على تلك الجيوش المأجورة. ونحن مستعدون للإقدام على كل ما يخطر بالبال، وكل ما ألتمسه من العالم الإسلامي أن يتذرَّع بالصبر الجميل حتى يرى ما يسرُّه ويزيل غُصَّته، إن الاستيلاء على المدن والمزارع ليس بالأمر الخطير، بل الواجب هو أن نستمر على إمطار عدونا السافل ضربات ساحقات على أم ناصيته بغير انقطاع، ولا بد له من أن يستشعر القوة الصاعقة الكامنة في هذه الهجمات المتوالية في بادئ الأمر، ثم يكون نصيبه من تلقي الضربة القاضية في نهاية الأمر.»

ولقد كان هذا الرجل الجليل وجيهًا في هيأته وفي منطقه وهو يتكلم بمثل هذه البساطة عن شئون جمة، وقد رسخ في العلم بمقاصد الأغارقة وخططهم وطرق قتالهم ومقادير قواهم، ولكنه لا يريد أن يتبجح ويستسلم إلى عوامل الغرور. ومن رأيه أن لا سبيل إلى حدوث مفاجآت خارجة عن دائرة الحسبان. وذلك لأن الفن الحربي الذي يشرحه لنا بإسهاب لا يجيز توقع أمثال هذه المفاجآت.

وهذه خلاصة رأيه في هذا الصدد: إن العدو بموالاته زحفَه من غير أن يحسب أقل حساب للعقبات التي قد تعرض له في الطريق، وهو جاهل جهلًا مطبقًا بطبيعة الأرض التي سينشب فيها القتال، ولا علم له البتة بالتأهب العظيم المستور في الخطوط الخلفية وفي معالم الدفاع، إلى غير ذلك، عرَّض نفسه لما حاق به.

والرجل العسكري الفني القدير هو الذي يجتذب دائمًا عدوه إلى حيث يريد استقدامه.

وعلى ذلك فالنتيجة النهائية الحاسمة، لا يمكن أن تكون — بإذن الله تعالى، بعد كل ما رأيته وما سمعته — سوى النصر المبين.

ثم قال عصمت باشا: «إن خطتنا واسعة النطاق، وأخشى أن يطول أَمَدُ تطبيقها، ولكن كل فرد من الناهضين فوق هذه الأرض المقدسة التي هي وطننا المحبوب منا جميعًا أشد الحب لا بد له من تحمُّل نصيبه من تَبِعَة هذا المشروع الجسيم.»

واليوم أدركت أن عصمت باشا هو القوة المحركة التي تدفع المطارق الغليظة الثقيلة إلى التهاوي بطريقة علمية على رءوس الأغارقة لسحقهم، وأن الرئيس الجليل وإلى جانبه ذلك القائد المغوار الصنديد رأفت باشا يعدان الخاتمة وهي: الضربة القاضية.

ولكن أفتكون هذه الضربة الأخيرة قبل أنقرة؟ أو في نفس هذه العاصمة؟ أو فيما يليها؟

هذا سر لا يعلم حقيقته إلا الله، والرؤساء العسكريون الملمون بدخيلة الأمر لا يبوحون بشيء من خفاياه.

وبعد ذلك قال عصمت باشا: «إنك سترى في أفيون قره حصار «الصاعقة»: وهو أمير الألاي خالد …»

ولبثنا نخوض أفانين شتى من الأحاديث والولاء الصادق يرفرف بأجنحته اللطيفة فوق نفوسنا.

وألسنا جميعًا رفاق سلاح؟

غير أن باعث الارتحال استوجب مفارقة هذه القريحة العسكرية المشتعلة غَيْرة وذكاءً. وأزفت ساعة تحرك القطار.

فلعصمت باشا المجد والشرف، وليشمل الله برعايته هؤلاء الرجال الأكفاء القادرين.

اليوم نفسه، أفيون قره حصار (فندق صفا)

لقد وصلنا الساعة الثامنة مساءً. وقد أقلَّتْنا المركبة التي كانت في انتظارنا إلى بناء على جانب من الاتساع، وذلك هو مسكن أمير الألاي خالد بك.

وهذا الضابط الباسل الجسور الذي أصيب عدة مرار بجراح من جراء جرأته المتناهية كان في هذا الوقت في شاغل من العناية بالجرح الذي أصيب به أخيرًا في ساعده الأيمن أثناء معركة إين أوني، وقد أخذوا يعالجونه بالتدليك الكهربائي.

ولن تبرح مخيلتي صورة محيَّاه الجميل الذي تتألق فيه أشعة الصبا والفتوة والعزم.

وتناولنا أكلة العشاء معًا، وبعد أن قضينا ليلة فياضة بالتفاصيل الوافية الهامة أوصلنا بسيارته إلى فندق صفا الذي كان قد أعد لنا منازل خاصة فيه.

فيا لها من ذكريات! إن هذا الشاب الذي يطوع الرجال ويدرب الأجناد يحبه عساكره إلى درجة العبادة، ولهم به ثقة لا حد لها.

عندما خلا الجو في غرفتي بفندق الصفا انتقل بي فكري إلى عالم التصورات والتأملات، فما أعظم ما رأيت من مخائل العظمة والشجاعة، وما أكثر ما سمعت عن أمثالها! وقضيت ليلي مفكرًا مجهدًا عقلي حتى كاد يدركه السرسام والخبال.

أخذت أشبه أمير الألاي خالد بخالد بن الوليد القائد المسلم الشهير الذي ذاع صيته في معارك الأعصر الأولى من تاريخنا المجيد، ذلك القائد العظيم الذي كان من أعظم العاملين على انتشار الإسلام وسموه وازدهاره، الملقب «سيف الله القاطع».

ويكتب أمير الألاي خالد بك أوامره الآن بيده اليسرى، ولقد تذكرني جراحه هذه مع استمراره على الكفاح بذلك المماثل له الذي لا يختلف عنه في شيء، إذ جرح في معركة وبعد الانتهاء منها والرغبة في العناية بجرحه سأل أحد أصدقائه الذي تولى ضمد هذا الجرح قائلًا: «أمعن النظر وخبرني إذا كان في جسماني مكان ليس فيه أثر لجرح.»

فليؤيد الله هذه الأمة التي ليس لها مثيل بين سائر أمم العالم من كل وجه.

ولا بد لكل امرئ من أن يرى ما أبصرته بعيني من تلك العزلة الهائلة التي أطبقت على هذه الأمة الصابرة المتجملة حلقتها المستحكمة — بفضل الإنسانية الأوروبية — ليدرك كنه الروح القوي السامي المتغلغل في نفوس هؤلاء الأناس الذين يحسبون من عصر غير عصرنا الحالي، والذين يتحملون أعباء الضحايا التي لا تحصى ولا يمكن أن يطلق عليها اسم ما وهم مثابرون على الجهاد ببسالة لا تقهر.

وما أنا بمحرك عاطفة الإشفاق والرأفة بين جوانح أية دولة؛ لأن كل محاولة من هذا القبيل بعد الذي رأيته عيانًا ليست سوى ضرب من العبث غير مجدٍ سوى إضاعة الوقت سُدًى. فقد أصبح من الواضح أن أوروبا راغبة في القضاء على الأمة العثمانية. وهل لو لم تكن هذه أمنيتها الأكيدة كانت تلبث ملتزمة جانب الصمت التام إزاء ما هو جارٍ في الأناضول، ولا سيما بعد أن حاربت أربع سنوات لأجل «سلامة الشعوب وحريتها؟»

وما أنا بمدافع هنا عن مسألة ما، وإنما أنا مثبت فقط أمورًا تحدث في أوائل القرن العشرين.

من يعش يَرَ: ليجرينَّ العدل الإلهي المقدس في مجراه.

فندقلي في ١٦ مايو

غادرنا أفيون قره حصار الساعة الثامنة صباحًا. وكنا نؤلف ركبًا مكونًا من خمس مركبات.

فجلال الدين عارف بك استقل معي مركبة لطيفة، وفخر الدين بك — محافظ أضاليا الجديد الذي ظل من رفاقنا في هذه السفرة — احتل المركبة الثانية، وتبوَّأ الثالثة القائمقام عزيز بك ومعه أحد أعيان أضاليا، والعربتان الأخريان تحملان أثقالنا.

وبعد ساعة من تحرك ركبنا التقينا بفصائل من المدفعية الجبلية منطلقة إلى أفيون قره حصار، ثم مررنا بعد مسافة قليلة بقوة كبيرة من المشاة منسابة في عدة مسالك؛ لأنها قادمة من جهات مختلفة، وقد أخذت تنتشر في السهل مؤلِّفة مربعات منتحية وجهة تلك المدينة نفسها. ثم أقبلت مدفعية الميدان وتبعها بعض المدافع الثقيلة تجره عجول، وأخيرًا وافت عربات الذخائر يحرسها الفرسان ولا يُرى لامتدادها آخر.

وما هذا المرأى العظيم إلا احتشاد الجنود المتفرِّقة على أجزاء صغيرة في أماكن متعددة لكي تصير على استعداد لمواجهة الهجوم المقبل. وإني لأثني أجلَّ الثناء على هذه الخطة؛ لأن الجبهة التي يكون امتدادها أكثر من خمسمائة كيلومتر ذاهبة من أزميت إلى ما يقارب بوردور مجتازة بإسكي شهر فكوتاهية، فأفيون قره حصار ينبغي أن تكون متينة متساندة الأجزاء.

وأكلنا أكلة الغذاء الساعة الثانية بعد الظهر في خان ألفينا فيه آلافًا من الرجال من سائر الأعمار مدعوِّين للخدمة العسكرية، وهم راحلون إلى أنقرة لتزويدهم بالملابس والأسلحة، وبعد ذلك يذهبون من هنالك إلى جبهة القتال.

وهؤلاء الرجال من الجنود السالفين من الطبقات القديمة التي حضرت وقائع الحرب العالمية الكبرى.

فقوبلوا بتحية الاحترام وإنهم لَأَهْلٌ لكلِّ تَجِلَّة، فقد قضوا أيامًا عديدة مشاة على الأقدام، وسيقضون سواها حتى يصلوا إلى أنقرة بجَلَد عظيم ومن غير أدنى تذمر.

وبعد مسافة أخرى اجتزنا بقافلة عظيمة من الغلمان الذين لا يزالون لِدَان الأعواد صغار الأعمار، فسألت: «إلى أين يذهب هؤلاء الأحداث؟»

فأجابوني: «إلى الحرب.»

قلت: «وهم على هذه الحداثة من العمر؟ وماذا عساهم يعملون هنالك؟»

فقيل لي: «سيجتهدون في إنجاز بعض الأعمال وفي مساعدة عساكرنا الحماة بقدر ما في وسعهم القيام به من الأعمال الجسام، وسيدربون على سوق المركبات وعربات النقل، وعلى كل حال فإن أعمالهم ستخفف أعباءً جمة عن عواتق العساكر المحاربين.»

فيا لها من أمة عجيبة مجيدة تؤدي على بكرة أبيها وبمحض اختيارها واجبها المقدس، لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، بل بين الكهل والطفل بالمثل!

وبعد أن والينا التسيار عشر ساعات متتابعات وصلنا إلى هنا.

والفندق الذي أوينا إليه لا يصح للسكنى مطلقًا. ولكن هذه العلة لم تكن السبب في امتناع أجفاننا عن الإغماض، إذ كان في مشقة هذا السفر الطويل ما يكفي لتغلب النوم على حواسنا، إلا أن الكَرَى لم يغشَ عيوننا؛ لأن قلوبنا باتت خافقة من شدة تأثُّرها بذكريات المناظر التي عرضت لأبصارنا طول هذا اليوم.

بوردور في ١٧ مايو

انتزحنا من فندقلي الساعة السابعة صباحًا. وفي أثناء الأربع عشرة ساعة التي قطعنا فيها الطريق لبثنا نجتاز سهولًا مزروعة زرعًا متناهيًا في الإتقان والنمو، ونحن لا نرى في طريقنا سوى جنود ذاهبين آلافًا عديدة للانضمام إلى زملائهم في خطوط النار.

وكان بين فئة من الاحتياطيين الذين أقبلوا سراعًا ملبين دعوة الأمة للاندماج في الصفوف تحت علم الوطن المقدس، عملاق من الجبابرة يسير في مقدمتهم مترنمًا بأناشيد حربية يرددها خلفه رفاقه بتوازن ليس فيه نشاز.

فما كاد يصل إلينا حتى وقف بغتة أمامنا ووجه إلينا السؤال الآتي بتلهف وتحمس غريبين، قال: «أفأنتم قادمون من الجبهة؟»

فأجبنا: «نعم.»

قال: «إذن خبرونا، أفحقًا ما يقال من أن العدو لاذ بأذيال الفرار؟»

فكان جوابنا: «إن شاء الله.»

فلم يتمهل ريثما ينعم النظر في الجواب، بل التفت فورًا إلى رفاقه وخاطبهم بما يلي:

هلم بنا على عجل أيها الرفاق ولنركض بل لنَطِرْ لكي نصل نحن أيضًا في الوقت المناسب، فنتمكَّن من مشاطرة إخواننا الغزاة أجر الجهاد وشرف الانتصار.

ولم يكد يتم لفظه الأخير حتى أسلم ساقيه للريح ناهبًا الأرض عدوًا مخترقًا الحقول غير مبالٍ بالتعب، فكان عمله هذا مدعاة لاقتفاء رفاقه آثاره.

وإن من يرى هذا السباق المدهش العجيب يتبادر إلى ذهنه في الحال أن ساحة الوغى على قِيد خطوتين منا …

لقد كنا جميعًا رجال حرب مدربين معتادين على أن نبصر كثيرًا من المناظر الغريبة، إلا أن المرأى الجليل الذي مرَّ قبالة أبصارنا في هذا الموقف تخطى كل وصف وإطراء.

وما أكثر أمثال هذه المناظر الناطقة بعظمة هذه الأمة، وهي مراءٍ لا تبدو للأبصار إلا في الشرق.

•••

وقبل بلوغنا بورود سرنا مدة ساعتين بجوار بحيرة ملحية الماء واسعة الأرجاء لها شهرة بما احتوته مياهها من الأملاح السامة.

على أن مدخل مدينة الورود الباسمة كان بهجًا باهرًا، إذ علقنا نسير في وسط حقول مغطاة بأشجار الورد مترامية الأطراف إلى حد لا يمكن تصوره.

وتوجد هنا عدة مقاطر شهيرة مستمرة على تقطير الورد لاستخلاص مياهه وعطوره. واستغلال أرواح الورد منتشر في هذه الجهة جد الانتشار.

وكان رئيس البلدية في انتظارنا، وهو رجل شديد الذكاء واسع الحيلة حلَّال للمعضلات، فذهب بنا إلى بيت صغير، وعلى الرغم مما توفر فيه من أسباب الراحة الضرورية لم نستطع أن نغمض عيوننا.

أفكان ذلك من التعب؟ أو من انفعال النفس الناجم عن اهتياج العواطف؟ أو من انشغال الفكر؟ ربما كانت هذه كلها أسبابًا لاستعصاء النوم على عيوننا.

على أنه ماذا يهمنا من توالي ليالي السهاد ونحن نتصفح بأبصارنا صحفًا غراء من أعجب التواريخ!

وفي صبيحة الغد زرنا المقاطر ومعمل الطنافس والأبسطة، فابتعت منهما أشياء، وما أبهج الألوان وأنضرها، وما أبدع الرسوم وأبهرها!

على أن كل بيت، من جهة أخرى، حافل بالمواد الأولية التي ينسج منها النساء تلك الطنافس الصغيرة المربعة التي تعتبر من أبدع لوحات الرسوم.

ودُعينا عشية من قبل جمعية الهلال الأحمر لتناول أكلة «الإفطار».

وإن مكان هذه الجمعية هنا لمأوى بديع يلتئم فيه شمل الأطباء الناسلين من كل أنحاء البلاد العثمانية، إذ ينطلقون بعد بلوغهم هذا المكان إلى ميدان القتال.

وكان المحور الذي دارت حوله الأحاديث بوجه خاص تلك الخدم الوطنية الإنسانية الإسلامية الجليلة التي أدتها مصر للدولة العثمانية أثناء الحرب البلقانية، والكفاءة والمقدرة والنشاط والإقدام التي أبداها الحكماء المصريون الغيورون أثناء تلك الأيام العصيبة.

فانبرى أحد الحضور إلى مخاطبة الجميع قائلًا: «لقد أزفت الساعة التي أصبحنا فيها شديدي العوز إلى مساعدة العالم الإسلامي وتعضيده، إذ كيف يمكن بغير هذه المعونة المرجوَّة تلافي المطالب الضرورية التي يقتضيها موقف هذه البلاد التعسة المحروبة التي تجاهد بشجاعة عديمة المثال لأجل الإسلام الذي يعتبرها رمزه المقدس؟ فما أكثر جرحى الحرب وأراملها وأَيَامَاها ويتاماها!»

وإني أنا الذي خبرت حقائق هذه البلاد ورأيت مصائبها بالعين، أعرف مقدار استحكام حلقات الضيق عليها! ولكن كيف أحاول أن أشرح لعظماء الكرة الأرضية — الذين يكونون طائفة قائمة بنفسها — ما لا يريدون أن يسمعوه أو يفقهوه؟

ومن الواضح أنهم لا يريدون أن يشغلوا آذانهم بالشقاء الحائق بأناس لا علم لهم بهم! وما آسيا الصغرى إزاء أبصارهم سوى أرض غريبة عنهم نائية، لا تكاد تصل أصداء استغاثة سكانها المطارَدين وزفراتهم ونحيبهم إلى آذان هؤلاء العظماء، لتقطع عليهم صَفْوَهم وتنعُّمهم ولذَّاتهم الاجتماعية والرياضية!

ولكن … لنمض في سبيلنا.

سنرحل غداة الغد بالسيارة إلى أضاليا.

أضاليا في ١٩ مايو

يا لها من طريق فتانة تنبسط على جانبيها الحقول الزاهية البهية؛ فما هي إلا بقعة من جنات عدن تزدهي بخضرتها النضيرة وتروح عن النفوس نسماتها العليلة!

ولبثنا نجتاز على امتداد عشرين كيلومترًا أراضي واسعة النطاق كانت من جملة أملاك السلطان عبد الحميد، فزرنا هذه المزارع كما زرنا مزارع حافظ باشا.

ولقد يقال إن حدائق القبة في مصر ليست سوى نمط مصغر من هذه الرياض الكبرى المنسوقة على نظام شيق جذاب جعل البويتات الخلوية والضياع المشيدة على أحدث طراز، المنتشرة في ثنايا ذلك الروض المشجر المزدهر المثمر المعطار موضعَ إعجابنا وفتنة أبصارنا وألبابنا.

وقد بلغ من خصب هذه البقاع أن لا سبيل إلى إيجاد وجه شبه ومقارنة بينها وأية جهة أخرى فوق سطح الغبراء.

وفي الساعة الرابعة بعد الظهر أخذنا نجتاز جسرًا بالغًا أشد الخطر غير مسيَّج الجانبين، ويزيد امتداده على خمسمائة متر.

وبينما تحاول سياراتنا أن تتقدم إلى الأمام بمنتهى ما في وسعها من التدقيق والحذر، أي بغاية التمهل، إذا بألبابنا قد اجتذبها تغريد ليس له مثيل منبعث من الطيور المغردة المختلفة أشكالًا وألوانًا، المتخذة لها أوكارًا بين أفنان النباتات المائية المشعثة وأجمات الغاب (البوص) الأثيثة المنتشرة على ضفتي النهير. فما أشجى هذا الهزيج الرخيم الذي لا تزول آثار رنينه من البال، والذي أطرب آذاننا وسرَّى عنا ما نوجسه من الخوف في هذا الموقف الحرج العسير!

واستغرق منا تسنم الجبل المشهور بصعوبة مرتقاه وتحدُّب ذروته ساعة ونصف ساعة. وكيف يمكنني أن أزيل ما ارتسم في مخيلتي من هول التهاوي من هامة هذا الجبل إلى بطن السهل! ولم أعهد فيما غبر من سوالف أيامي على كثرة ما طفت وتجوَّلْتُ في مختلف البلدان مثل هذا المجاز المتناهي في الخطر وفي الهول.

بيد أننا لاقينا الجزاء الأوفى بما انبسط على إثر ذلك أمام أبصارنا من المنظر البديع الباهر … فيا لها من نظرة بدرت منا إلى ذلك الجمال الطبعي الجذاب المتلاعب بالألباب! لقد تراءت هنالك في جوف السهل مدينة أضاليا زاهية ناضرة تحت غلس المساء المستضيء بحمرة الشفق، وتراءت المآذن اللطيفة كأنها منفصلة من أماكنها وطافية فوق وجه البحر الساكن الأزرق الفيروزي، وعلى بعد يسير تنهض تلك الأكمة الزمردية كإطار مستدير حول ذلك المشهد العبقري النضير. فيا لها من بلاد بلغت غاية البهجة والبهاء!

وقبل وصولنا إلى أضاليا بمسافة وجيزة أقبل حاكم أضاليا العسكري وكبار الموظفين وسروات الرجال يهنئوننا بسلامة الوصول.

وكانت الساعة السادسة والنصف عندما مضى بنا قائد هذا الموقع إلى فندق متناهٍ في النظافة، وهنالك كلَّف رئيس الشرطة بأن يكون رهن إشارتنا.

ولقد كنت أعاني أشد التعب؛ لأني لم أكد أتذوق الكرى منذ مبارحتنا أنقرة، ولكني بادرت قبل إخلادي إلى الراحة والنوم بإرسال برقية أودعتها آيات الشكر والثناء إلى مصطفى كمال باشا، وأنبأته فيها ببلوغي أضاليا مدينة الحدائق المثمرة.

أضاليا في ٢٠ مايو

قضيت النهار أجمع في تفقد المدينة صحبة رفيقي الظريف المحبوب في رحلتي هذه جلال الدين عارف بك.

إن مدينة أضاليا مشيدة في نفس دائرة المعقل الذي لم يكد يتغير شيء من مظهره الحربي القديم. فمن جسر متحرك إلى خندق إلى أسوار في منتهى الكثافة لا تزال محتفظة في أماكن منها بلوحات أثرية من المرمر معلنة ذكرى المعارك التي حدثت هنا، وقد نقش في بعضها تواريخ تلك المعارك، ونقشت في البعض الآخر آيات قرآنية. ولا يحتاج المرء لإمعان النظر في خط هذه اللوحات المرمرية حتى يحزر من شكل الخط العصر الذي حدثت فيه الوقعة أو القرن الذي سيرت فيه الحملة.

ولقد كان المتفرج يرى منظرًا غريبًا من الحارات والأزقة الضيقة الداخل بعضها في بعض والبويتات المتلاصقة المتعاشقة.

أما المدينة الحديثة التي يمكن أن يطلق عليها بحق اسم مدينة العصور الوسطى، فمفصولة عن القديمة بشارع واسع. والسوق الكبرى توجد في القسم الحديث، وفيها يرى المرء نماذج من كل ما تنتجه البلاد الأناضولية.

وأما قصر الحكومة ومساكن رجال السلطنة الإيطالية فخارجة عن دائرة الحصن، وكذلك مركز التلغراف الأثيري، وهي منتشرة بأجمعها في العراء.

وقد أقيمت على امتداد الشاطئ مستظلات خشبية بديعة ومقاعد مستطيلة من الخشب أيضًا على نسق بديع.

ويوجد على ضفة الغدير المنتدى الخلوي الرحب (كافيه كازينو) المتناهي في الملاحة والاستعداد، وهو ملتقى الناس من مختلف الطبقات والأجناس. وقد التقيت فيه من قبيل المصادفة بوالد الكاتبة الأديبة الشهيرة خالدة أديب هانم التي قامت بنصيب وافر مهم من الحركة الوطنية منذ ابتدائها في أنقرة.

وتعتبر أضاليا مشتًى بديعًا نادر المثال، أما في الصيف فحرُّها لا يطاق.

وهي مدينة معتنى بها جد العناية، والنظافة متناهية فيها، ولها ميزة وحيدة لا توجد في مدينة سواها؛ وهي مرور عدة غدران ومجاريها منحدرة من الجبال المجاورة للمدينة، حتى إذا ما اخترقتها اندفعت مترامية في البحر — وهو منخفض عن المدينة جدًّا — محدثة هديرًا وجَلَبَة شديدين إلى درجة تجعل المرء لا يسمع من كل الأرجاء سوى أصوات المياه المتدفعة بغير انقطاع.

وقد دُعينا إلى تناول أكلة الإفطار هذا المساء لدى أحمد بك. وأحمد بك هذا كان ضابطًا في الجيش سابقًا وهو الآن من تجار أضاليا. وينتمي إلى أسرة من أعرق أسرات الأستانة مجدًا، ووطنيته مشتعلة حماسة وشمائله سامية كريمة. ولقد استطاع بما أوتي من الذوق السليم والذكاء المتوقد أن يجمع في بيته الصغير الظريف بطريقة فنية فائقة كل بدائع الثروة الوطنية ونفائسها!

وردهة طنفه الصغير آية الإبداع في فن الزخرف الشرقي. وإذ جلست فيها أرتقب مقدم الحاكمين الجديد والسالف، فقد خفَّ بي فكري في أفق الخيال محلِّقًا إلى الأستانة التي زين لي الوهم أنني أصبحت في قسمها الوطني، وهو إسلامبول.

وسأظل ذاكرًا حفاوة أحمد بك وأخيه بي، وسأحتفظ بذكرى ودِّهما الثابت وإخائهما الصادق.

وبعد الانتهاء من تناول الأطعمة الشهية الهنيئة العديدة المصنوعة بطريقة راقية بديعة، أقبل ولدا أحمد بك فسلَّما علينا بأدب ومعهما مؤدبتهما السويسرية، وهما ولد وبنت صغيران لطيفا المرأى خفيفا الروح. ويتكلمان باللغتين الفرنسوية والألمانية. وبعد الإفطار قضينا مدة طويلة في المحادثة. وحاكم أضاليا رجل مستنير مثقف الفكر، سياسي بارع ووطني غيور. فيا لها من ليلة غراء أفعمت قلبي بهجة وحبورًا!

إن من يسمع هؤلاء الرجال الأماثل، وهم يخوضون في شئون هامة ببساطة لا مثيل لها، لا يسعه إلا أن يضاعف إعجابه بهم وإكباره إياهم.

فليحفظهم الله جميعًا، إنهم لأبطال تضرب بعزائمهم الأمثال.

أضاليا في ٢١ مايو

أخذنا نتنزه على شاطئ البحر الهادئ اللطيف خارج المدينة تحت أظلال أشجار الدلب (البلاتنيه) العتيقة الظليلة، رفيقي في رحلتي هذه وأنا، ومررنا بين البساتين النضيرة والحدائق الغنَّاء الحافلة بسائر أنواع الأشجار المثمرة.

وإن من لم يَرَ أضاليا لا يمكنه أن يتصور مبلغ جمال هذه البقعة الحسناء الساحرة ذات المنظر الفردوسي.

وبعد تروض مديد بديع شيق وصلنا إلى باب حديقة شهيرة لرجل اسمه عثمان أفندي. فولجناها وسرنا في طرقاتها معجبين بأشجارها الباسقة الفرعاء المثقلة بمختلف الأثمار. وما رأينا أثرًا للحشائش والأعشاب البرية التي تزاحم الأشجار والزروع عادة في الرياض والحقول وتشاطرها غذاءها الذي تستمده من الثَّرَى، وكذلك لم نَرَ ورقة من أوراق الأشجار المتهاوية من فروعها. فالمماشي مكتنسة ونظيفة إلى أقصى ما يمكن تصوره.

وبينما نحن نسير في هذه السكينة الشاملة المعهودة فيما بعد الظهر، إذا بغلام صغير لمحنا. فأقبل إلينا مبتسمًا وهو مشتمل بالزي الأناضولي، وهو ذلك السربال الفضفاض (شروال) الذي يعلوه حزام أحمر عريض، إلا أنه لم يوجه إلينا كلمة واحدة، بل كل ما فعله أن قام بواجبه فتقدمنا مرشدًا إلى مستظل خشبي لطيف (قمرية) محفوف بالأشجار الوارفة. وبعد أن أجلسنا تسحَّب صامتًا، ولم يمض سوى قليل من الزمن حتى بصرنا بأبيه عثمان أفندي مقبلًا، فحيَّانا ورحَّب بنا.

وإذ علم بأننا سائحون وقد قدمنا حديثًا من أنقرة رفع يديه إلى السماء وقال مبتهلًا: «اللهم انصر الإسلام وأيده وأعزه.»

ثم شرع يسائلنا عن الحالة الحربية وموقف الجيش، وأخذ يصغي بتلهف وإنعام إلى كل ما نسرده عليه من الأنباء والتفاصيل.

ثم قال وقد بدت على وجهه دلائل الأسف والحسرة: «وا حر قلباه إني لشديد الأسف على بلوغي سن الكبر وعلى صيرورتي كبير أسرة عديدة الأفراد، كما أني متحسر لأن أطفالي لا يزالون أحداثًا غير قادرين على خوض غمرات القتال. بيد أني لم أتأخر ولن أتأخر عن خدمة بلادي بكل ما أوتيت من حول وقوة.»

وعندما أزمعنا على مفارقته أهدانا سلة كبيرة ملأى بالبرتقال الكبير البديع، وإذ أردنا أن نسأله لدى الباب عما يتقاضانا من ثمن هذه الفاكهة الثمينة، رمقنا بنظرة يتمشى فيها شبح العتب العذب اللطيف وقال: «إنكما لا تزالان في رباع الشرق الكريمة وتحت سمائه الصافية الرحيمة، فلتعلما هذا حق العلم أيها الصديقان العزيزان … بل أنا الذي أحمدكما على ما أوليتماني من الجميل بتشريفكما حديقتي، وبما ملأتما قلبي به اليوم سرورًا وارتياحًا من النفحة الذكية التي حملتماها إلينا من أنقرتنا المحبوبة المقدسة.»

أضاليا في ٢٢ مايو

لقد قمنا بجولة كبيرة في السهول المجاورة هذه المدينة، وهي سهول حافلة بصنوف المحاسن الطبعية.

وعلى مقربة من المدينة توجد مائتا ألف دونم١ قطعة واحدة تعادل في خصبها مجموع أشهر الأراضي المصرية وأخصبها.

ويقدرون القوة المحركة الكامنة في شلالات أضاليا بخمسة عشر ألف حصان.

•••

لقد لاحظت أن النساء المسلمات هنا يأتزرن بالخمر الزاهية ذات الهندام البديع كأخواتهن في الأستانة، وأن النساء الروميات يتزيين بالزي القديم المؤلف من صدار صغير وحزام عريض وطربوش على الرأس يعتممن عليه بشاش، وتسترسل على الظهر جديلتان طويلتان.

•••

إن أهالي أضاليا يثنون على رجال السلطة الإيطالية الذين انتهجوا منذ احتلال أضاليا خطة المحاسنة والمصانعة. وعلى الرغم من وجود قوة احتلال عسكرية وسواها، فإن مظهر الحالة يدل على عدم حدوث أي تغيير، بل لقد سمعت إطراء المجاملة التي يظهرها الضباط الإيطاليون وحسن العشرة. ولا يستشعر أحد أقل تأثير من الضغط، ولذا يعيش العثمانيون في وئام تام مع الإيطاليين الذين أدركوا على الفور كيف يمكنهم أن يعاملوا هذا الشعب المشهور بالإباء والحماسة والقوة.

وإذا كان قد بدر حادث منذ مدة وجيزة مداره الاعتداء على باخرة تخفق فوقها الراية الإنجليزية، فما ذلك إلا أن رجال الشرطة العثمانيين البالغين من الدهاء مبلغًا عظيمًا، علموا أن هذه الباخرة تُقِلُّ عمال ثورة قونية فأرادوا أن يقبضوا على هؤلاء الأشخاص المجردين من الدين ومن الضمير ومن الشرف، فنجم عن عملهم هذا حادث مكدر بولغ فيه على الأثر.

ومحافظ أضاليا الجديد رجل لا غبار على استقامته، وقد سوي الخلاف وانتهى أثره تمامًا، ومن جهة أخرى فإن محافظ أضاليا معروف بميله الحقيقي لإيطاليا. وفي الحقيقة ليس ثمت باعث جوهري يحول دون التفاهم بين الحكومتين العثمانية والإيطالية. إن المصالح المشتركة الجمة تربط ما بين هاتين الدولتين، ويجب في الوقت الحالي أن يسود الود والولاء بين هذين البلدين اللذين لا توجد أسباب عدائية حقيقة تفصل بينهما ليتآذرا على توطيد أركان السلام في الشرق.

وقد وقف جلال الدين عارف بك نفسه على السعي الحسن بين الطرفين ليكون صلة الاتفاق والوئام بين حكومته والحكومة الإيطالية، على الرغم من أن سفره إلى أوروبا إنما هو لأجل عنايته بصحته ولالتماس الراحة وتبديل الهواء. وقد اشتهر بأنه لم يَدَعْ فرصة تمر بدون أن يستفيد منها خدمة يؤديها لوطنه قيامًا بواجب الوطنية الصادقة.

•••

وبعد أن انتهينا من طعام الإفطار هذا المساء انطلقنا إلى شاطئ البحر. ولقد بدا ذلك المنتدى (كافيه كازينو) البحري اللطيف متلألئًا تحت أشعة آلاف من الأنوار الكهربائية.

وكان عدد عظيم من الناس جلوسًا حول الموائد الصغيرة في حديقة هذا المنتدى الرحبة وبينهم أفواج متعددة من ذوي المراكز السامية في الهيأة الاجتماعية.

ولا تبرح من مخيلتي صورة ذلك المحيَّا النبيل المتجمِّل به الأمير الكردي الجذاب … الأمير م … الذي كان مرتديًا ثوبًا أسود يزهوه وهو يتكلم بحمية وغيرة وطنية.

أما صفاته فذو بَسطة في الجسم، رقيق البشرة، بديع الهندام، وهو يمثل الشباب الذكي النشط في عنصره الباهر المجيد. وبسمته الخفية والأشعة المتراسلة من مقلتيه تعبران عن أمور كثر.

ودار محور الكلام على المسألة الكردية، في جملة ما خضنا غماره من الأحاديث المختلفة فقال متحمسًا: «المسألة الكردية؟ وهل هي سوى وهم مستحيل التحقق؟! وكيف يمكن وجود مثل هذه المسألة؟ لقد لبثنا طوال الأزمان عثمانيين من أشد العناصر العثمانية إخلاصًا لهذا الوطن المقدس! وإننا لعليمون بالدساسين الموسوسين في صدور الناس الذين لا هم لهم سوى إيجاد التفرقة والشقاق بين أبناء الوطن الواحد، كما أننا نعرف بالمثل لماذا يقدمون على هذه الفعلة الشنعاء.

فصدقني واعتقد أن فعلتهم هذه لن تنيلهم مأربًا، وما يريدون إحداثه من الشر سيصيبهم وبالُه.

على أن الإسلام ليس سوى أسرة عظيمة لا جنسية فيها، بل أليس من مبادئ ديننا الحق ذلك القول المأثور إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فدونت أقواله هذه بمنتهى الدقة.

فيا أيهذا الأمير الكردي النبيل ألا يمكن أن يتجمل بمثل حميتك هذه وشجاعتك التي لا مثيل لها سائر زعماء المسلمين؟!

إني أشعر يا أمير م … بعاطفة الاحترام المشفوع بالإعجاب لشخصك الجليل ولكل من تجمل بمثل سجاياك الكريمة.

٢٦ مايو في البحر إلى رودس

زرنا المحافظ شاكرين مجاملته. ثم ودعنا تلك المدينة الكريمة الحفية بأضيافها. وكان كل أصدقائنا يلازموننا هذا المساء.

وعندما وصلنا إلى المرفأ لفت نظرنا منظر رئيس الحمالين، فقد كان عملاقًا هائلًا ذا وجه لطيف بشوش، وملبسه ثمينًا وذا رواء بديع، وقد وضع على رأسه القلبق، فأخذ المشيعون يتأملون هذه القامة الهائلة المدهشة. وهذا الرجل وطني، بل وطني عظيم يشتعل غيرة وحمية.

ومن أمثلة وطنيته السامية أنه لم يسمح بتاتًا بإفراغ ما في البواخر والسفن الإغريقية من البضائع أو شحنها من محصولات البلاد. ونهاية الأمر أننا فارقنا المرفأ في العشية.

ولقد صفا الجو وراق، وهدأ البحر وعذب ركوبه، حتى إن الباخرة الصغيرة التي تُقِلُّنا، وهي من بواخر شركة اللويد التريستية، أخذت تمخر العباب براحة وسرعة مرضيتين.

رودس في ٢٤ مايو

لقد وصلنا إلى هذه الجزيرة الجميلة التاريخية حوالي الساعة العاشرة صباحًا.

وكان الأفق صحوًا متلألئًا والجو بديعًا ساحرًا.

وقد كان يرتقب مقدمنا زورق أرسله صاحب فندق (بيلَّافيستا) لينقلنا إلى رصيف المرفأ حيث كانت تنتظرنا هنالك ثلاث مركبات حجزت لنا خاصة.

ولقد بذل حكام الجزيرة كل ما في وسعهم من حول وطول لتسهيل شئوننا ولتوفير راحتنا، مجتهدين في استرضائنا بكل وسيلة ممكنة، حتى لقد تيسر لنا بعد مدة وجيزة جدًّا من وصول باخرتنا إلى مياه الجزيرة، أن نصل إلى فندقنا بمنتهى الارتياح. وفندق بيلافيستا هذا كائن فوق إحدى الربى.

٢٩ مايو في البحر

غادرنا رودس اليوم على الرغم مما علمناه من قرب وصول بكر سامي بك.

على أننا كنا قد أضعنا من الوقت في زيارة الأماكن التي مررنا بها أثناء الطريق ما جعلنا نضن بإضاعة وقت آخر في الانتظار.

ولقد كان جميع الأهالي الذين خالطناهم في رودس لطافًا بشوشين حسني المعاملة.

وإني لأهدي ثنائي الجم إلى حكام رودس الإيطاليين، وإلى أخي قنصل فرنسا، وإلى سائر أولئك الذين كانوا من جملة العاملين على ترفيه عيشنا أثناء المدة القصيرة التي أقمناها في رودس.

وذكرى الدكتور مصطفى بك تشغل مكانًا خاصًّا في ذاكرتي لا تزول منه.

فما أجلَّ المكرمات التي قام بها لنا هذا الصديق الوفي خلال هذه الإقامة القصيرة التي لا تكاد تُذكر. إني سأظل حافظًا جميله وإخلاصه.

٣٠ مايو في عرض البحر

ليلة مضطربة عبوس، وبحر هائج وثَّاب.

٣١ مايو، سكالانوفا

لقد بلغنا هذا المرفأ المليح وسنقضي فيه بضعة أيام.

ولا يزال البحر يرغي ويزبد في الساعة المعينة من بعد ظهر كل يوم ويظل على اهتياجه وصخبه حتى منتصف الليل، وإذ ذاك تسكن ثائرته ويهدأ جأشه. وإنه لمكان شديد الخطر، وترى العين على مقربة منا مدمرة إيطالية مرتطمة.

وتتراءى المدينة قبالة البحر وقد دمر نصفها من أعمال الحرب، وعندما تنبعث الأنوار فيها مساءً على مهل ينعكس شبحها البديع بشكل فتان في البحر.

وكان القائمقام فروخ بك يكثر من زيارتنا حتى أمضَّنَا. ويا له من رجل قوي العزم مقدام!

ولا يسعني هنا إلا أن أجهر بثنائي على رقة شمائل رئيس السواحل وضباطه.

٦ يونيو في البحر

نحن نشق العباب. وعندما صرنا أمام قناة كورنتا أعلنونا بأنه مسدود منذ النوء الأخير، وأن لا بد من انتظار خمسة عشر يومًا للتمكن من عبوره. فلم يبق علينا حينئذ إلا أن نرتدَّ إلى الخلف وأن نطوف حول الجزر …

على أن البحر كان لا يزال صاخبًا وثَّابًا، والسفينة لا تزال راقصة مترجحة فوق أمواجه.

وإني كلما أمعنت في الابتعاد عن الشرق الغارق في لجج الدماء أجد ذكرى أولئك الذين غادرتهم فيه تزداد ملازمة لذاكرتي وتزيدني تفكيرًا بهم واهتمامًا بأمرهم.

٧ يونيو في وسيع الدأماء

أخذت أسير جيئة وذهابًا فوق ظهر الباخرة. وكان الجو باردًا جدًّا والليل شديد الحلكة. والريح تعصف بشدة والباخرة تترامى في أحضان الأمواج.

سيكون غدًا عيد الفطر الذي يحتفل به المسلمون كل عام، وهو شهير مكرَّم لدى سائر مسلمي الأرض. وإن هو إلا يوم راحة وغفران وإحسان واجتماع عام وتزاور بين الجميع.

ولكن في هذا الوقت الذي تناهت فيه أحزان المسلمين سيكون الغد يوم حزن وحداد عامَّيْن! ولم يدون التاريخ مثل هذا الحادث المؤلم العصيب!

أخذ عصف الرياح يشتد، واختفت آثار النجوم من صحيفة السماء … حينئذ ترامت بي الوحدة والوحشة إلى التفكير في الأبطال الذين فارقتهم! إنهم قوم لا يعرفون ولا يذوقون للراحة طعمًا … فهم الآن يجاهدون، وسيوالون هذا الجهاد بدون انقطاع إلى أن يستشهدوا في ساحة الشرف والمجد! وهيهات ثم هيهات أن ينتزع منهم أحد هذا الفخار! فأية أمة في العالم لها مثل هذا التاريخ الحربي الباهر المجيد؟!

وما أجمل الاستشهاد عن طِيب خاطر في سبيل الدفاع عن أرض الوطن المقدسة شبرًا فشبرًا كما يفعل هؤلاء الغزاة الأباة الصابرون!

ألا إنَّ ثقتي عظيمة بالمستقبل! ولذا فأنا معتقد أنهم لن يفنوا على بكرة أبيهم، بل سيظلون على قيد الحياة إلى أن يروا أيامًا جميلة سعيدة هنيئة تكون أجر ما صبروا وما ذاقوا من شظف وحرمان وانقطاع عن العالم وانحصار داخل نطاق ضيق من النار والفولاذ.

ولنرين بإذن الله وحوله النصر المبين مرفرفًا بجناحيه الظليلين فوق رءوس أولئكم الشجعان الصناديد على الرغم من الضنك والحرج المتناهيين في الوقت الحاضر، وعلى الرغم من ذكرى الغصص والأهوال التي توالت من قبل!

فيا أيها الزعماء النبلاء الذين يقودون الجيوش العثمانية الكاسرة الظافرة في ساحات الوغى، اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، ولا تجعلوا لليأس مسربًا إلى قلوبكم الكبيرة التي عجزت عن إذلالها والتغلب على شَمَمِها وعزمها أعظمُ قوى العالم، وثابروا على الدفاع الباسل عن الوطن العثماني الخالد! إنكم ستصيرون الغالبين الفائزين! ولن يقدِّر الله لنا الفناء؛ لأنكم يا حماتنا الشجعان إنما تدافعون عن الحرية والعدل.

أما من سبيل إلى وصول، تمني الفوز لكم وآمالي وتوسلاتي الحارة إليكم في العشية التي يتجلى صبحها بيوم عيد الفطر!

فسلام عليكم جميعًا، أي هؤلاء الذين عرفتكم عن كثب، ويا أولئك الذين سمعت من أنبائهم ما أفادني علمًا بهم من بعيد.

فيا زملاء السلاح ويا أيها الرفاق والأصدقاء والأحباء من الزعيم الأكبر إلى عصمت باشا إلى رأفت باشا إلى يوسف عزت باشا، فسواهم من جميع الذين ترد أسماؤهم المحبوبة على لساني وشفتيَّ، ككاظم قره بكر باشا، وصلاح الدين، وشكري، وأكرم، وفخر الدين، وعز الدين، وكمال بك، اعلموا أنكم ما دمتم على قيد الحياة تسلكون طريق الشرف والإباء، فإن الإسلام سيظلُّ متمتعًا بحق الوجود في هذا الكون، وسيتهيأ له الدفاع عن نفسه ورد عاديات الغرب وأهواله التي لا تحصى!

إن سائر القلوب تبجِّلكم وتكرمكم وتبتهل إلى الله من جميع أرجاء العالم الإسلامي أن يؤيدكم ويحرسكم ويكلل أعمالكم الجليلة بالنصر الحاسم المبين.

لقد رأيتكم في أيام بؤس وألم، فهل يقدر لي الله أن ألتقي بكم وأتملى بمشاهدتكم في أيام نعيم ورخاء وسرور وطرب وهناء؟ إني لآمل أن يتم هذا الرجاء قريبًا بإذن الله.

ولتكونوا على ثقة من أن الشرق هو الذي سيجود العالم بصيب الراحة والطمأنينة والسلام، الشرق القديم الأزلي المجيد مهد الأنبياء والحكماء والمدنيات ومحراب العقائد والأديان ومنبت الآمال الحديثة الذي يجاهد في سبيل تحرير الأمم المضطهدة المستعبدة الراسفة في قيود الأسر والهوان.

على أن لمحة من الضوء قد انبثقت ولا تلبث أن تتحول إلى أشعة باهرة تنتشر في قبة السماء فتحدث تطورًا عظيمًا في الوجود.

ولن تقوى على مناهضة هذا الضوء أية شدة في العالم، وإنما الإحسان والرفق هما اللذان ييسِّران الامتزاج به والاستفادة منه. وأول ما سينير بأشعته المحسنة المرشدة اللطيفة الدولة العثمانية التي كانت أولى الدول التي أجلَّت في ميثاقها الوطني المبجل القيم استقلال سائر الشعوب.

فعليكم أيها الحماة المجاهدون بالصبر والمثابرة على جهادكم الشريف مدة أخرى لتروا بعد أمد وجيز هذه الأصقاع الآسيوية المشرقة المتلألئة رافلة في حلل البهجة والسعادة والسمو والمجد الذي ليس وراءه مطمح لطامع.

فليحفظكم الله ويؤيدكم بروح من عنده إلى أن تروا بأعينكم هذا اليوم الأغر المجيد.

٨ يونيو في ترانته

لقد وصلنا أخيرًا إلى القارة الأوروبية.

وإني لأَكِلُ من الآن ما لا يزال واجبًا عليَّ القيام به إلى تيسير الله وعطفه ورحمته وإحسانه، والله على كل شيء قدير.

هوامش

(١) الدونم فدان تركي مقداره ربع فدان مصري. م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤