الرسالة السادسة

 أنقرة في أول مايو

إن أنقرة ناهضة على مستشرف من التلاع. وبما أن مباني هذه المدينة منبسطة عرضًا، فهي مشرفة على واد نضير مخضل الجنبات، ينساب فيه غدير متلألئ الماء. وتتراءى بيوتها الصغيرة المشيدة على الطراز العثماني وقد بدت عليها مظاهر القدم من توالي الفصول ذات الشدة المختلفة ما بين أمطار وثلوج متتابعة، إلى رياح عاصفات، فحرارة قيظ متلهبة، وهي مع ذلك متلاصقة عجيبة الوضع في شوارعها وحواريها الضيقة المندمج بعضها في بعض.

وتنهض هنا وهناك طلول السير القديمة، ما بين أقواس متداعية، وعمد متهاوية، وهي دمن متخلفة من عصر آخر سحبت عليها صروف الليالي ذبولها.

وتمتاز أنقرة بوضوح طابع الزمن المتقادم عليها.

والشارع الأكبر الذي يخترق المدينة بأجمعها ويشطرها إلى قسمين هو أهم السبل، لأنه مؤد إلى دار الندوة العثمانية، وإلى الوزارات وأهم العمارات المقيمة بها إدارات الحكومة ومصالحها، وهو محفوف على جانبيه بالمخازن والحوانيت الحافلة بسائر الأصناف، والتي تعرض فيها جميع متاجر البلاد، وفي هذا الشارع أيضًا يوجد السوق الشهير الغريب في بابه الذي يرى المرء فيه كل خصائص الصناعة الأناضولية وفنونها المتنوعة، وكذلك الأفراء الثمينة، والجلود القيمة، والطنافس ذوات الألوان الزاهية المتناسقة الآتية من قيصرية ومن بوردور.

وإزاء عمارة دار الندوة توجد حديقة البلدية، التي على الرغم مما أصابها من الإهمال الناجم عن شواغل الحرب، فإنها لا تزال حافظة بهاءها القديم الباعث في النفوس الراحة والانشراح.

وهذه الحديقة موضع تلاقي المواعدين من الأصدقاء وراغبي التحادث؛ لأن ناديًا يشمل قهوة ومطعمًا ينهض في وسط المثلث المزهر، وقد أحاطت به مستظلات خشبية (أكشاك) صغيرة. وبما أن الأشربة الكحولية محظورة بتاتًا من البقاع الأناضولية بأسرها، فلا يتناول القوم في هذه الأماكن البهية سوى المرطبات العذبة والشاي البديع سواء في الصيف أم في الشتاء.

وحظر المواد المسكرة بالغ منتهى الشدة، ولذا وضعت عليها الرقابة الصارمة.

وكذا توجد خانات عظيمة الترحيب والحفاوة بزوارها، ومطاعم فخمة لمن يشاء الإنفاق عن سعة، وتوجد خارج المدينة مستشفيات باهرة النظام تتولى مهمة التمريض فيها سيدات تابعة للجمعية.

ولقد كانت المدينة فيما سلف ذات سعة كافية لقبول كل الناسلين إليها، إلا أنها بعد أن اشتعل فيها ذلك الحريق الهائل الذي التهم لهيبه حيًّا كاملًا من أنقرة، وعلى الأخص بعد أن أصبحت مقر الحكومة حلت بها أزمة السكن، وهي أزمة عسيرة الحل. إن الازدحام الموجود بها الآن لم يسمع بمثله، بل قلما يجد السائحون الوجهاء أماكن يأوون إليها إلا بمشقة عظيمة.

فالقادمون الراحلون من ذوي الوجاهة عديدون ما بين ضباط وتجار وريفيين، وكل فرد منهم منهمك في أعماله الخاصة من غير أن يتعرض للشئون السياسية التي عهد النظر فيها إلى المجلس الأعلى والجمعية الوطنية.

وبسبب ازدحام أنقرة بسكانها المتوطنين فيها وبالقادمين الجدد عليها كل يوم أصبحت مطالب الحياة فيها أغلى مما تقوم به من الثمن في أية مدينة أخرى من مدن آسيا الصغرى. على أنها مع غلاء الأسعار فيها لا ينقصها شيء ما. بل لقد أضيئت بالنور الكهربائي وأنشئت فيها مطبعتان كبيرتان تطبعان الجريدتين الرسميتين وهما الحاكمية الملية، واليوم الجديد (يني جون).

ويستطيع كل امرئ أن يرى في الحي المحترق خطة استحداثه مبينة على الثرى، تتوضح فيها الشوارع المتلاقية والمتقاطعة على نسق محكم ونظام بديع، فالبيوت المتجانسة محوطة بمربعات متشابهة، دالة بذلك على أن تشييدها ومواقعها ستكون على طراز حديث مراعى فيه كل ابتداع في فن المعمار، ومتوفرة فيه كل شروط الصحة والرونق البديع.

ويكاد يكون مجموع السكان من العنصر الإسلامي فقط إذ لا يوجد في أنقرة سوى عدد قليل من الإسرائيليين، ومن الأرامنة ومن الأروام.

والسكينة والأمن العام مستتبان تمام الاستتباب في هذه المدينة، وما ذلك إلا بفضل الطاعة المتناهية التي يتشبث بها الأهالي من تلقاء أنفسهم، ويقضي الإنسان سواد الليل مستمعًا وقع أقدام فصائل الحراس التي تتجول في سائر أحياء المدينة.

ولا يستطيع أي أجنبي — ولو كان متنكرًا — أن يدخل أنقرة أو يخرج منها بدون أن تكون الشرطة على تمام العلم بأمره.

وفضلًا عن كثرة الأعمال الموصولة التي لا تنكف سائر طبقات الأهالي عن إنجازها، فمن الميسور أن يرى المرء بعض المواطنين جلوسًا في بعض الأندية العامة (القهاوي) كعهدهم من قبل يتذوقون الدخان من شيشهم المرقشة بواطيها بمختلف الألوان الزاهية، وهم مرسلون بنظراتهم الهادئة العميقة فيما ينفسح أمامها من الفضاء، ومسترسلون في تصوراتهم وأوهامهم العذبة اللذيذة.١

وتوجد عدة مدارس جليلة الشأن في أنقرة، إلا أن المدرسة الحربية لم تنشأ فيها إلا منذ نشوب الحرب الأخيرة، أي عندما فر تلاميذ المدرسة الحربية وتلاميذ المدرسة البحرية جموعًا متلاحقة من القسطنطينية على إثر إبرام الهدنة، ووصلوا بعد جهد جهيد، إما مشاة على الأقدام، وإما ركوبًا في المركبات؛ كل حسبما تيسر له إلى أنقرة حيث استقبلوا فيها بسواعد ممدودة وصدور مرحبة، فعندئذ أنشئت مدرسة أنقرة الحربية، وأخذ يتولى التدريس فيها ضباط من ذوي الكفاءة العليا والمعلومات الواسعة، مثقفين هذه الخلاصة الزاهرة من أبطال الوطن الصناديد.

وإن ارتحال هذه الشبيبة الناضرة المتلهبة إلى الملجأ الذي ترفرف فيه النفس الوطنية لذو مغزى سامٍ أجلَّ من أن يمر به المرء ملتزمًا جانب الصمت والجمود.

•••

ويلتقي النظر على الآكام المتاخمة للمدينة بمجموعات من المضارب الصغيرة البيضاء الناهضة بنظام بديع تُؤْوِي داخلها الجنود المحتشدين البواسل.

ووسائل الاحتياجات الصحية مراعاة بدقة عظيمة في كل مكان.

وتمتد على جانبي الوادي، يمنة ويسرة، بيوت خاوية، ومساكن صغيرة شائقة غائصة في لجة من الخضار النضير المكتسية به الحدائق الغناء الفسيحة الملتفة بها، وقد شملها الهدوء وطاب المقام بها فيذهب إليها المصطافون لاستنشاق زفرات النسائم العليلة والاضطجاع ساعة الهجير تحت أفياء أشجارها الفرعاء الوريقة الظليلة المزهرة المثمرة …

وقد وضع تخطيط جديد لعدة مدن على امتداد السهل ورسمت بالفعل شوارعها الكبرى على نسق محكم، وأحياؤها الواسعة على أحدث طراز، والقائمون بهذه الأعمال الهندسية الجليلة هم مهندسو قسم الهندسة العسكري وضباطه، وكذلك يرجع الفضل في مد الخط الحديدي الممتد ما بين أنقرة وسيواس إلى علمهم الواسع المكين، وإلى مجهودات الجنود الذين واصلوا العمل في إنشائه مدة الحرب الكبرى، إلا أن هذا الخط لم ينته العمل فيه حتى الآن.

وجميع أهل أنقرة بل جميع الأناضوليين مزودون بعزائم ماضية لم يكن لهم عهد بمثلها من قبل، وبجلد عظيم على العمل وبميل شديد إلى الجهاد في سبيل الله والوطن، وبالثبات في مواطن القتال والصبر على المكاره، وبالجد للوصول إلى المقصد الأسمى، وهذه هي المزايا التي يتجملون بها جميعًا، والتي يرى المرء شواهدها في كل خطوة يخطوها …

وعلى الرغم من كل ما يقال وما يكتب في أوروبا فإنه لا يوجد أثر للأجانب في أنحاء آسيا الصغرى. ولم يتمش أي إيحاء غربي إلى هذه البقاع ليقوي الجبهة بوسائل عظيمة فائقة، بل لم تصل إلى الأناضول أية معونة مالية يراد بها سكب قليل من البلسم على الجراح الفاغرة المتوالي نزيف دمائها منذ أزمان طوال … وهنا يجب التكرار بأن لا أثر البتة، مطلقًا، لأي تشجيع ولو كان وديًّا؛ فلم ترسل إلى أراضي الأناضول من وراء البحار سوى تلك المدافع، والطيارات، والسيارات، وعربات النقل، وسائر الأدوات الحربية التي تقوي معسكر العدو، بل ولا ذرة من العطف ولا خيال من العناية والاهتمام؛ فالعثمانيون محرومون من كل إشفاق حقيقي عليهم. وليس أمامهم سوى الصراع الساحق الذي لا رحمة فيه ولا ليان ولا إنصاف … وفي غضون الفصول الزمهريرية والفصول الأخرى المستعرة التي تكاد تزهق فيها الأرواح من الحر اللافح لم تمتد أية يد رحيمة إلى أولئك الذين ترتعد فرائصهم من شدة البرد، ويتحلَّب عرقهم وتتفكك مفاصلهم من شدة الحر، وهم لا ينفكون لحظة عن قيامهم بالواجب بشجاعة نادرة المثال.

أجل لقد انصرفت الوجوه عن العثمانيين حتى لم يعد شخص محسن من أولئك الذين كانوا مولعين بمحبة الأمة العثمانية فيما مضى، يجرؤ على إنجاد أولئك الأبطال الذين لا يجد الفكر اسمًا جليلًا يطابق مجدهم العظيم ليطلقه عليهم. والذين سقطوا ببساطة ووداعة في ساحة الشرف من غير أن توجه إليهم جملة ثناء وإعجاب، ولو من قبيل تذكر العهد السالف، تلطف من آلام نفوسهم الحائمة فيما وراء القبور، وهكذا يذهبون بالآلاف من غير رحمة ولا عزاء … بل من غير تذمر ولا شكوى! فمن ذا الذي إذن يعرف تاريخهم المحزن المؤثر في النفوس؟

«هل الأمة في خطر؟ ألا إننا لمنطلقون للدفاع عنها. فلتحيَ الأمة!» هذا ما يتساءل به الجندي الأناضولي وما يجيب به من تلقاء نفسه على سؤاله! آه من ذلك التمالؤ القاسي المنبعث من جانب الصمت العميق!

•••

إن الجمعية الوطنية تلتئم أحيانًا أربع مرات في الأسبوع، وفي الفترات التي لا تلتئم فيها قد تعقد جلسات خاصة للنظر والبحث في المسائل الهامة التي تستدعي سرعة الفصل فيها.

إن آسيا الصغرى المقسومة إلى خمس وستين محافظة تتمتع بالرخاء والرغد أكثر مما كانت متمتعة به منهما فيما سلف. وذلك لأن طريقة قسمتها إلى ولايات واسعة النطاق كانت تجعل إدارة البقاع الداخلة في دائرة كل ولاية عسيرة جدًّا.

وكل محافظ تساعده الآن لجنة مؤلفة من رجال فنيين يشتغلون بهمة ونشاط، وينبغي أن يرفعوا تقاريرهم بنتائج أعمالهم إلى الحكومة المركزية في أنقرة.

وأقبل كبار الموظفين سابقًا في السلطنة العثمانية من حكام إلى مفتشين يعرضون أنفسهم على الحكومة، ليقوموا بواجب الخدمة الوطنية في دائرة اختصاصهم، فأسندت إليهم الحكومة مراكز عديدة كل بحسب استعداده ومقدرته.

وبينما كانت الجمعية العمومية ملتئمة في أحد الأيام إذا بأزيز محلقة يتعالى في الجو وهي حائمة فوق المدينة، ثم رُئِيَتْ وهي مشرفة من علٍ على دار الندوة، ثم أخذت تلقي أوراقًا موجه ما فيها من القول إلى الأمة، وإذا به يتضمن السلام على الأمة من صاحب هذه المحلقة الذي يقدم اليوم محلقته الثانية هدية للوطن المقدس المحبوب مع تمني الفوز له. وعلم فيما بعد أنها هدية من أحد تجار صامسون. ولقد قوبل الضابط والميكانيكي اللذان يديران المحطة بالهتاف والتهليل لهما.

وفي كل يوم تشاهد وسائل الإهداء والحمية المبتكرة فتؤثر في النفوس تأثيرًا لا حَدَّ له.

ولكن كل هذه الأدلة المحسوسة على الحمية والإخلاص وإن كثرت وتعددت ليست مع الأسف سوى رذاذ طفيف من الماء لا يطفئ غلة شعب كبير مضه أوار الظمأ …

آه ما أعظم ما يفكر الإنسان ويتأمل أثناء إقامته هنا في أنانية الناس التي تجعلهم يقتصرون على محبة الخير لأنفسهم!

عندما تأزف ساعات الليل القصيرة الهادئة وتغرق المدينة في لجة السبات الوقتي، إذ ذاك تتمثل أمام الذاكرة حقيقة يجب ترديدها بسكينة تامة وبمنتهى الخفوت وهي: لو أن كل مسلم ذي نفوذ ومقدرة يعمل من الخير والإحسان في هذه الأوقات المضطربة العصيبة بقدر ما يفعله أخوه المتواضع المستور اسمه لوجد بالتأكيد من الأدوية ووسائل العلاج أكثر مما يلزم لإسعاف أولئك الجرحى المساكين، ولوُجدت مآوٍ أكثر مما يقتضيه إيواء الأرامل والأيامى التي لا يحصى لها عدد، ولكانت غصص يتامى الحرب وآلامهم أقل بكثير جدًّا مما يعانونه الآن من اشتداد وطأة الضيق المستحكمة حلقاته على الوطن الرازح تحت كلاكل الأرزاء …

وهذه هي المرة الأولى في تاريخ العالم الإسلامي، التي شوهد فيها أحداث سائر البلاد يلقون على كبار سائر الأمم دروسًا قيمة في الغيرة الوطنية وفي الحمية الدينية.

ولكن: «ليعلم الجهال أن أولئك الذين يعلمون يحبون أن يتذكر بعضهم بعضًا في كل حين.»٢

وفي الواقع يظهر أن كل أولئك الذين تجرعوا مرارة الألم البالغ لن يتناسوا طول حياتهم المصائب والأبؤس التي تقضَّى عهدها؛ لأن كأس الغصة فاض دهاقها على الثرى.

•••

وفي ساعة الغروب حينما يكتسي الأفق ثوب الشفق يصعد سكان عاصمة البطولة والحمية سراعًا الربى المجاورة ويلبثون فوقها مدة وجيزة. وإنما يريدون بهذا المرتقى أن يصرفوا عن أفكارهم في سكينة المساء المسدل سجوفه تأثير الضجيج والحراك الدائمين في أنقرة المقدسة!

على أن هؤلاء القوم ليس لديهم من الفراغ ما يقضونه في التنزه هنالك تحت أشجار الحور الزاهية التي تحف جانبي الغدير الرائقة المتألقة مياهه الذي ينساب في جوف السهل الخضل حيث تنتشر الجماهير الجمة من السلاحف المشهورة، وهي تسير الهوينا متبطنة ضفة الغدير الرافلة في ثوبها الأخضر النضير.

إن الوقت ثمين وهو يمر مسرعًا، فمن الواجب العمل والاشتغال بدون انقطاع؛ لأن هذا المكان هو الذي يجب أن ينشئ فيه القائمون بمشروع مستقبل السلام الشرق الإسلامي بأجمعه.

هوامش

(١) ملاحظة عجيبة: إن عمال الأندية عندما يقدمون الشيش يصحبونها بأوان ملأى بالماء المغلي لتطهير أنابيبها، وهذا دليل على مبلغ عنايتهم بالصحة.
(٢) كلمة قالها الرئيس هاينولت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤