١٠

تَعبَت النساء من كثرة البكاء، ولم تكن تريسا موجودةً بينهن، فاعتقد تانيا أنها ذهبَت لتُخفِّف عن نفسها.

شعَرَت الأم به عندما عبَر أمامها فسألَته: هل كل شيءٍ كما ينبغي؟

أجابها تانيا: كل شيءٍ كما ينبغي يا أم الناس.

ثم عاد إلى ميلا والآخرين بينما كانت تريسا في طريقها إلى منزل ماريا، بعد أن تذكَّرَت أنها لم تأخُذ نصيبَها من النقود التي حصلَت عليها من ذلك الرجل الذي أساء إليها، وكانت تفكِّر بأنهم يدفنون القادرين في صناديقَ خشبية، وأن ماريا سوف تعطيها النقود، وعندئذٍ تستطيع شراء بعض الأخشاب وتقدِّمها إلى جيمس بدون أن يعرف تانيا.

تردَّدَت تريسا بشأن عمل صندوق الميت من تلك النقود الملوَّثة، لكنها قالت لنفسها: إن هذا الموت أيضًا ملوَّثٌ ومريرٌ بما يكفي، وليس ثمَّة خطأٌ في امتزاج التلوُّث بالتلوُّث.

طرقَت الباب عدة مرات حتى تأكَّدَت من عدم وجود ماريا، فعادت وهي تشعُر بالاضطراب وخيبة الأمل، وفي طريق عودتها كانت سيارةٌ ما تعبُر الطريقَ القَذر فامتلأَت بالتراب، ثم عَرفَت أنه نفس الرجل الذي أساء إليها في بيت ماريا ودفع كثيرًا من النقود … شعَرَت بالرغبة في القيء لكن معدتها كانت فارغة.

– لم أدفع لكِ ما يكفي في المرة السابقة.

– هيه.

– أنتِ جميلةٌ جدًّا، ولكن يجب أن تعتني بنظافتك، وتبتعدي عن أولئك المتسوِّلين الحفاة.

– نعم، لكنه حظي ونصيبي.

– ربما أشتري لك فستانًا جميلًا وصابونًا معطرًا في المرة القادمة، كالنساء الأوروبيات، وعندئذٍ سوف أحتفظ بك لنفسي، ولن أتردَّد في إطلاق النار على مَن يُحاوِل أن يلمسك.

– هيه.

– سأعود الليلة، وها هي بعض النقود لتشتري الصابون وتغتسلي جيدًا.

– هه؟

ألقى بعشرين شلنًا بين أثدائها، ومضى في طريقه، فشعَرَت تريسا بالتعب، وكادت تسقُط من الإغماء، ثم جلست هي ملطَّخةً بالتراب تبكي وتضرب الأرض الساخنة مرةً تلو الأخرى، وبدت كالوحش وهي تلعَن ذلك المخلوقَ المغرورَ السافل، وتبصُق على سيارته وعلى كل شيء.

كانت الشمسُ تبدو مثل كرةٍ من النار يصعُب النظرُ إليها، ولم تكن في السماء نقطةُ سحابٍ واحدة … نهضَت تريسا ببطء كالثعبان المريض، فسقطَت النقودُ الزرقاءُ على الأرض، وشعَرَت أنها عجوز، وتمنَّت لو تنظُر إلى وجهها في المرآة، ثم سارت بضعَ خطوات، لكنها توقَّفَت، وعادت تلتقط النقود.

توجَّهَت ناحية الغرب، وتطلَّعَت إلى الأفق؛ حيث زرقة السماء اللازوَردية تعانق لونَ التلال الأزرقَ الضبابي، ثم ألقت برأسها وذراعَيها في اتجاه الشمس، وقالت: ماذا فعلتُ لكل هذا؟ هل قتلتُ ابنَك؟

كانت ورشة النجارة عند النهاية الشمالية للقرية؛ حيث التلال تحيط كاشا وانجا، وكانت قطع الخشب مختلفة الأشكال التي أحضروا بعضها من قرًى أخرى … كانت بعضُ الأخشاب مستخدمةً يُغطِّيها الطين، والبعضُ الآخرُ متآكلٌ يتخلَّله النمل الأبيض، اقتربَت تريسا وكان النجَّار جالسًا فوق مقعدٍ ذي مسندَين يتناوَل غذاءه من طاسةٍ خشبيةٍ كبيرةٍ مع مساعديه.

كان النجَّار في منتصف العمر يتدلَّى شعره فوق وجهه غير الحليق، وكانت له شفَتان كبيرتان كالخنزير، ويرتدي قميصًا بدون أزرار يُبيِّن عضلاتِ صدره القوية.

– السلام عليکم.

– السلام عليك أيتها الخطيبة، ويمكنني القول إن العروس التي تبحثُ عن صندوق الزفاف ليست سيئة الحظ.

ضحك المساعدون، وكانت هذه هي الجملة الثانية التي يقولها النجار دائمًا لعملائه من النساء، لكن تريسا اختارت الصمت، وأفسح لها المساعدون مكانًا تشاركهم الطعام، فجلست تريسا على الأرض، وبدأَت تتناول الطعام بأصابعها القذرة وتصُبُّ الشوربة في الطاسة.

– إنني أفهم أحبابنا؛ فالمرء حين يكون منفعلًا، وبخاصة قبل الزواج، فإن معدتَه تتحرك كثيرًا. أضاف النجَّار وهو يضحك: إنه وسيم وغني ذلك الشابُّ الذي ستتزوَّجينه … أليس كذلك؟ لم تملك تريسا فرصتَها في الإجابة حين استطرد بسرعة: يجب أن يكون كذلك؛ فهؤلاء مثلًا أبنائي، وكما تعرفين فإن الأبناء يرثون الآباء في كل شيء، وأنا كما ترَينَ لستُ وسيمًا ولستُ ذكيًّا أيضًا، ولو أنه كانت تُوجَد مدارس في أيامي لأصبحتُ ضابطًا، ولو أنَّ أولادي يملكون قَدْرًا من الوسامة والمال لتزوَّجوا سيدةً لطيفةً مثلك، لكنهم لو تزوَّجوا امرأةً دميمةً مثل أمهم لأصبح أولادُهم أسوأ منهم، إن المرء كما تعرفين لا يستطيع أن يحتفظ بالخط مستقيمًا فترةً طويلة، وحتى عند قَطع الخشب فإنه ينحني بطريقةٍ أو أخرى، فما بالك وخط عائلتنا ينحني منذ مدةٍ طويلة؟

بدأ يضحك ولم تكن تريسا تسمع.

قال أصغر المساعدين والذي يبلغ الثانية عشرة من عمره: أعتقد يا أبي أن ما قلتَه لا يبعث على الضحك إلى هذا الحد.

أنت لا تستطيع أن تفهَم الأشياء المضحكة؛ لأن رأسك مصنوعٌ من الخشب.

ضحك المساعدون الآخرون، وقال النجار: أخبرينا عن الرجلِ الذي ستتزوَّجينه.

أجابت تريسا ببرود: إنني أريدُ الخشب لأصنع منه تابوتَ والده. تساقَط الطعامُ من بعض المساعدين وفتح آخرون أفواههم كالتماسيح بينما علَّق النجار رأسه، وقال: إنني آسف يا ابنتي؛ فأنا كما قالت لي زوجتي كثيرًا أملكُ فمًا كبيرًا جدًّا، لكنني دائمًا كنتُ أردُّ عليها بأن أردافها أيضًا كبيرة جدًّا … أنا لا أعرف ماذا أقول لكِ لكن الإنسان أحيانًا يُخاطِر بالكلام … إنني آسفٌ جدًّا.

تأثَّرَت تريسا وقالت: أنتَ لم تُخطئ.

كانت الطريقة التي تحدَّث بها عن زوجته توحي أنه فقدها، ولا بُد أنه يفتقدُ أردافَها الآن.

رفع يد تريسا، وقادها إلى الجانب الآخر حيث الأثاث المتكوِّم عند الركن، وراحت تريسا تختلس النظر إلى صناديقِ الملابسِ المتكوِّمة فوق بعضها، والتي يُغطِّيها الفحم.

كان أصغر المساعدين يتبعُهما فقال وهو يجفِّف فمه: إنني آسف … إن كلمة «مرفوض» كانت مكتوبةً هنا.

سألت تريسا النجَّار عما يعنيه الولد فقال النجار: رفَض شابٌّ ما أن يشتري لعروسه صندوق الملابس، فهجَرَته الفتاة، وتزوَّجَت من رجلٍ عجوزٍ اشترى لها الصندوق، ثم عاد الشاب وطلب من النجَّار أن يصنع له مجموعةً من صناديق الملابس كل واحدٍ منها أكبر من الآخر، وتم إرسالهم لهذه الفتاة كاعتذارٍ لكنها أعادتهم جميعًا.

قالت تريسا: أنا لا أملك نقودًا كافيةً للصندوق لكنني سأزرع بقولًا كافية في الموسم القادم، وعندئذٍ يُمكِنني أن أدفع لك.

أجاب النجار: لابد أنكِ تعتقدين أنني شخصٌ فظيع! لم تكن النساء في أيامنا تقلق بشأن دفن آباء أو أمهات أزواجهن، لكن العالم اليوم يسير على أذنيه … لا … اذهبي مع أولادي وسيُقدِّمون لك الصندوق؛ فأنا أبٌ كما أن أنثى الحيوانِ لا تُزعِج الأم التي تلعقُ أذنَ وليدها.

كانت تريسا تعبُر النهر، وتسير بصعوبة خلف الشباب الذين يحملون التابوت … تذكَّرَت النقود التي بين أثدائها، فتناولَتها وألقت بها في الجدول الطيني، ثم مشت بهدوء خلف الرجال الذين راحوا يهزُّون رءوسهم تعاطفًا معها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤