٦

هكذا أمضى تانيا ليلته في الظلام … دخلَت أونيا وهي تقود أم تانيا بيدها، والتي هي جدَّته في الحقيقة، كانت تحمل طاستَين من حَسَاء الموز لأولادها المرضى، تحسَّسَت جبهةُ تانيا، وشعَرَت بالجرح الذي أصابه في الليلة الماضية، فقفز تانيا من الألم، ووقف بعيدًا عن فِراش العجوز خطوةً أو خطوتَين، دون أن يعرف ما حدث، بينما كانت المرأتان تجاهدان لوضع العجوز فوق الفِراش ومنعه من السقوط … وقف تانيا ينظر إليهما وهو يمسَح بأصابعه الدمَ الناتجَ من الجرح الذي لم يؤلمه بالأمس، نظر إلى الدم في يدَيه وكأنه يشاهد الدم لأول مرة … كان ثمَّة رسمٌ غامضٌ ينعكس فوق الدم.

كانت المرأتان مشغولتَين، وراحت الجدة تُطعِم الرجل المريض بالملعقة الخشبية ببطء بينما كانت الأخت تُرتِّب الفراش وهي تشرَح لجدَّتها المتنهِّدة ما حدث … التقط تانيا قطعةً مكسورةً من المرايا من تحت السرير ومسحَها، ثم نظر إليها متطلعًا إلى نفسه، لم يكن قد نظر في مرآةٍ منذ زمنٍ بعيد، فبدا الأمر وكأنه ينظر إلى صورته التي رسمَها شخصٌ آخرُ بعد سنوات، كان كبيرًا جدًّا في المرآة ويبدو عليه التعب، فتفحَّص رأسه بعصبية ولم يكن قد أصابه الشيبُ بعدُ.

كان العجوز راقدًا في الشمس وتحتَ رأسه وسادةٌ من ورق الموز قد صنعَتها أونيا، وغطَّتها ببطانيةٍ قديمة، وكان أحسن حالًا في ذلك الصباح رغم أنه لا يزال عاجزًا عن الكلام والأكل، ففرحَت أمه بعودة الحياة إليه، ورغم قلة كلامها إلا أنها راحت تتحدَّث إلى أونيا وهي تنظِّف الإناء تحت ظلال شجرة الموز قائلة: قلتُ لكِ يا ابنتي إن على الإنسان ألا يفقدَ قلبه أبدًا، ولا يفقد الأمل في الله أبدًا؛ فها هو يكاد يمشي مثلما كان طفلًا قويًّا، لقد كان طفلًا قويًّا.

داعبَت وجه ابنها بعنايةٍ شديدة، وانتزعَت الملابسَ التي تُغطِّيه حتى خصره برقة وحب، من أجل أن تُعرِّض جسده للشمس، ثم استطردَت: نعم يا ابنتي، لقد كان قويًّا حتى إنه شَد أثدائي ذات يومٍ وهو يرضع.

ضحكَت، فظهر فمها الخالي من الأسنان، وأضافت: كانت يا ابنتي أيامًا طيبة، رغم ما كان من ألمٍ كثير، لكن الألم يصبح لا شيء حين يكون الإنسان سعيدًا ومتحقِّقًا.

تحسَّسَت ثديها الفارغ، وهزَّت رأسَها قائلة: لا … لم يكن الألم ألمًا في تلك الأيام، ولقد كان والده قويًّا مثله ومفعمًا بالرغبة والعنف، وأحيانًا كان يرضع مني حين أسمح له؛ فالرجال كلهم أطفال، هل تعرفين؟

كانت أونيا ما تزال تُنظِّف الإناء وتختلسُ النظر إلى أخيها، فلم تستمع إليها جيدًا، لكنها أجابت ببساطة: نعم يا أمي، إنهم كذلك.

قالت الجدة: يجب إطعامُ أولادنا جيدًا اليوم، لماذا تعتقدين أن أباك سيموت؟ لقد أخذ الله بيده وأقسَم أنه سينهضُ ويمشي قبل الانتهاء من طهي الطعام، ويجب أن تعرفي أن الناس الذين على وشك الموت يستيقظون وهم جائعون جدًّا … اذهبي يا ابنتي إلى بيت ميريشو، واطلبي من جاجاوا أن تُعيرَنا دجاجة، وقولي لها إننا سوف نردُّها لها غدًا بعد أن تذهبي وتبيعي الذرة، وعندئذٍ نستطيع شراء دجاجةٍ أخرى؛ لأنه يجبُ أن نطعم أولادنا جيدًا اليوم. وهكذا لن يستطيع أحدٌ القول بأن نساءهم قد تخلَّت عنهم. ارتجفَت أونيا من كلام جدَّتها عن جاجاوا وأجابت: أوه … لكن جاجاوا ماتت منذ عامَين كما تعرفين يا ماما.

- أوه، يا إلهي … نعم، ماذا حدث لي يا ابنتي؟ هل أصبحتُ عجوزًا إلى هذا الحد؟

- لا يا أمي؛ فنحن جميعًا ننسى أحيانًا.

ساد الصمت مثلما يحدُث دائمًا عندما يذكُر شخصٌ ما أحدَ الموتى، ثم استدارت الجدَّة، ووضعَت يدها فوق وجه ابنها، وكانت أونيا ما تزال تنظر إلى تانيا الجالس في مواجهة الغرب، واضعًا رأسَه بين فخذَيه، كان يلعبُ بالتراب تاركًا إياه يتساقط ببطءٍ بين أصابعه كما تتساقط سنواتُ العمر، ثم يلتقطه من جديد، ويجعله يتساقط من بين أصابعه مرةً أخرى وأخرى بطريقةٍ متأنيةٍ ومنتظمة، فعَرفَت أونيا أنه إما يتأمَّل أو أنه يشعُر بالضياع … لم يكن تانيا يتأمَّل أيَّ شيء، لكنه كان ضائعًا بلا حدود، حتى إنه لم يسمع جدَّتَه وهي تتحدث؛ فهناك أوقاتٌ ننظر فيها دون أن نرى، ونسترقُ السمعَ دون أن نسمع … ربَّتَت أونيا فوق كتف تانيا، وطلبَت من الأولاد أن يكُفُّوا عن الضجيج أو يلعبوا بعيدًا، ثم راحت تُعِد وجبةَ الغداء التي يجب أن تكون وجبةً جيدة، تناولَت الإناء من ركن الكوخ، وأرسلَت أخاها لشراءِ دجاجةٍ من بيت ميريشو، بعد أن ناولَته ثلاثة شلنات كانت قد وفَّرَتهم خلال عامَين، على أمل أن توفِّر المزيد لتشتري فستانًا جميلًا، كانت تعرف أنها فتاةٌ جميلة، وأنها ستجد زوجًا طيبًا في الوقت المناسب، كانت تأمُل في ذلك منذ عامَين على أمل أن يستقر تانيا ويعتني بالصغار، لكنه لم يستقر حتى الآن، كما أن والدها يُوشِك على الموت، فلا داعي إذن لارتداءِ فستانٍ جديد.

قالت العجوزُ وهي جالسةٌ في الظل مع الرجال: تمنَّيتُ لو يُوجَد لحمٌ اليوم.

قدَّمَت لها أونيا الطاسة بأكبر جزء من الدجاجة؛ فهي دائمًا تنال الجزء الأكبر ليس لأن معدتها كبيرة، أو لأن لها شهيةً كالصغار، وإنما لأنها الأكبر سنًّا. وعندما كان يعترض الصغار كانت أونيا تقول لهم إنها عجوز وستموتُ قبلكم، أما أنتم فإنكم تملِكون الفرصة لمزيد من الطعام، بالإضافة إلى أنه لولاها لما كنا نحن.

قالت أونيا وهي تقدِّم الملعقة إلى جدَّتها: يُوجَد لحم يا أمي … دجاج.

قالت العجوز وفمها مملوء: لكن جاجاوا ماتت كما قلتِ.

أجابت أونيا بأن ثمَّة جاجاوا أخرى، لكن المرأة العجوز لم تسمَعها؛ فقد كانت مشغولةً بطعامها الذي راحت تبتلُعه لعدم وجود أسنان.

ملأَت أونيا الملعقة بالمرق وقِطعٍ صغيرةٍ من الدجاج، وراحت تُطعِم الأب في فمه، بينما أمسك أخوها الأصغر بالطاسة.

هزَّ العجوز رأسه حين أحسَّ بالشبع، فتناولَت أونيا طاسةَ تانيا، وتوسَّلَت إليه أن يأكل، وقالت الجدة المشغولة بطاستها: تناوَل طعامَكَ يا ابني، إنه طعامٌ جيد وقد تماثل أبوك للشفاء، تناوَل طعامك من يد أختك الرقيقة؛ فهي أفضلُ طاهيةٍ في كاشا وانجا، وتذكَّر أن المعدةَ المليئةَ لا يصيبُ صاحبَها الندم.

انحنَت برأسها وعادت لطاستها دون أن ترى رأسَ تانيا وهو يهتزُّ بالرفض، تحرَّكَت أونيا بما تبقَّى معها من الشلنات الثلاثة إلى الجانب الآخر من الشجرة، حاملةً الإناء فوق رأسها، وأمسكَت بجناح الدجاجة، لكنها سرعان ما أعادته إلى مكانه قبل أن يلمس شفتَيها، وراحت تبكي في هدوء … مضى تانيا نحوها وبدأ يأكل بطريقةٍ ميكانيكية، ويمضغ عظام الدجاجة والذرة والمرقة في وقتٍ واحدٍ وكأنها أعشابٌ دوائيةٌ ذاتُ مذاقٍ لاذع … جفَّفَت أونيا دموعها وبدأَت تأكل ببطء دون أن يفارقها الشعور بالأذى العميق، بعد أن قدمت كل ما عندها دون أن يشكُرها أحد؛ فهل باستطاعة المرء أن يفعل أكثر مما يستطيع؟

تحرَّكَت الشمس نحو الغرب فاكتسى الكوخ بظلال أشجار الموز، وقد تحرك الجميع للوراء بحثًا عن الشمس القليلة بين الظلال، فيما عدا تانيا الذي ظل في مكانه … همسَت أونيا لأمها عن حالة الرجل المريض الذي كان وجهُه مشرقًا في الصباح وأصبح الآن يرتجف ولا يقوى على الكلام، كان يُحرِّك شفتَيه بوهَن ولم يعُد قادرًا على طلب الماء … جلست الأم عاقدةً حاجبَيها وهي تشهَد خيبة آمالها مثل شخصٍ يسحَب ابتسامةً قدَّمَها بطريق الخطأ إلى عدوه.

جلس تانيا كما كان تاركًا الرملَ يتسلل من بين أصابعه، ولعق شفتَيه وكأن شيئًا لا يحدُث حواليه، شعَر بألمٍ في أردافه فانحنَى على كوعه بعض الوقت ثم عاد إلى وضعه … كان ينظر إلى بقية العائلة وكأنه ينظر إلى حبة من الذرة فوق الأرض.

اندفعَت الأختُ الصغرى إلى الداخل ولم تكن تدري بما يحدُث، لكنها كانت شغوفةً لتسليم الرسالة التي تحملها.

قالت: شخصٌ ما ينتظرك في الطريق يا أخي الأكبر، إنها امرأة، فتاةٌ شابة وأخبرَتْني أن الأمر عاجل، وكانت تبكي.

كرَّرَت ما قالَته مرتَين فعَرفَت أن تانيا لم يسمعها، ثم هزَّت رأسه وأخبرَتْه بالرسالة. هزَّ تانيا رأسه وقال: إيه … إيه.

كرَّرَت الطفلة ما قالَته مرةً أخرى بسرعة وغضب، وقالت وهي تعود إلى حيث كانت تلعب إن على تانيا أن يستخدم أذنَيه.

جَرجَر تانيا قدمَيه ببطء وتثاقُل، ومضى نحو المدخل، لكنه عاد وتناول زجاجة الماء، وقدَّمها لأبيه الذي لم يشرب، أعطى الزجاجة لأخيه، وتقدَّم نحو المدخل دون أن ينظر خلفه.

كانت تريسا تقف باكيةً خلف أحد الروابي.

كانت تبكي بشدة ولا تقول شيئًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤