٧

وضع تانيا ذراعَيه حول تريسا بحنان ورفق، ولم تكن قادرةً على الوقوف فأمسَك بها وساعَدها على الجلوس، كانت تُواصِل بكاءها، وحين توقفَت تحسَّسَت وجهَه بيدَيها، وظلت تنظر إليه عن قرب وقالت: لقد مات، مات ظهر اليوم، أوه … يا له من شيء فظيع! لقد بقينا معه الليل بطوله، لكنه فقَد عقلَه في الصباح، وراح يَهْذي عن هذا وذاك … لماذا قال بأنني قتلتُه حين جلست فوق حجْرِك بالأمس؟ لقد قال.

بكت مرةً أخرى لكنها تماسكَت بسرعة، ونظرَت إلى تانيا بعيونٍ متوسِّلة وهي تضيف: هل تعتقد بأنني قتلتُه حقًّا؟

قال تانيا وهو ممسِكٌ بها كما كان يُمسِك بالرمال المتسلِّلة بين يدَيه منذ لحظاتٍ مضت: لا … أنت لم تقتُليه؛ فلا أحد يقتل أحدًا، ولكن الناس تموت لأنهم يريدون الموت، أو لأنهم مُرغَمون عليه.

لم تشعُر تريسا بالاطمئنان، وقالت: لو بقيتُ فوق حجْرِه لما مات.

أجاب تانيا ببساطة والتراب ما يزال يتسلل من بين أصابعِ يده اليسرى: ربما! جلسا بعضَ الوقت ثم نهضَت تريسا فجأة وكأنها قد برأَت تمامًا، حدَّقَت في تانيا وقالت: يجب أن ندفنه الليلة؛ فنحن في موسم الحرارة، والذبابُ كثير؛ فربما تتعفَّن جثَّته إذا انتظرنا حتى الصباح، أرجوك أن تأتي لمساعدتنا أنا وماريا وموجيا.

كان الجو حارًّا، فأصبحت المهمة شاقة بالنسبة للرجلَين اللذَين عملا بهدوء وبدون طقوس أو حتى عرَّاف، بينما كانت تريسا وماريا تجلسان تحت ظل الشجرة لاهثتَين ومليئتَين بالعَرق … غَرِق العجوز في الحفرة ببطء حتى نهايتها دون أن تتوقَّف تريسا وماريا عن البكاء، وكانت تريسا تُردِّد وكأن شخصًا ما يضربها فوق معدتها: أوه … أوه.

انتهى الرجلان من عملهما دون أن يتبادلا الحديث، ثم مسَحا يدَيهما من التراب، لكنهما لم يتذكَّرا وضعَ علامةٍ فوق القبر كي يتسنَّى للناس إحناءُ رءوسهم حين يَمضون بجواره، كنوعٍ من الذكرى الوقور للميت … لكن النساء لا تنسى أبدًا مثل هذه الأشياء، نهضَت ماريا ودحرجَت حجرًا كبيرًا حتى وصلَت به إلى قمة القبر، بينما كانت تريسا قد أسرعَت إلى المنزل لإحضار القناع البرونزي للرجل الميت الذي كان مُعلقًا فوق الحائط لتدفنَه معه، كما يضعون رمح الجندي الشهيد في القبر … قطعَت كلٌّ من ماريا وتريسا فرعًا من الشجرة وغرَزَتاه في الأرض إلى جوار الحجَر الكبير، ووضعَتا القناع البرونزي فوقه، ثم تبعَتا الرجلَين إلى المنزل.

ضحك الناس الذين مرُّوا بالقرب من قبر العجوز، واعتقدوا أنها إحدى دعابات «موتيتا»، مهرِّج القرية، أو أي شخصٍ آخر.

انتشرَت حكاية التربة التي يعلوها القناع، فضحك كل الناس في القرية، وكذلك أم تانيا التي كانت حزينةً طوال اليوم. وبعد أسابيعَ قليلةٍ أشاعوا بأن العجوز المجهول لم يمُت، وإنما حَرقَ بطانيتَه القديمة، وتركَ قناعَه هناك، ثم انتقل إلى قريةٍ أخرى في الشمال.

بعد سنواتٍ كانوا يشيدون كنيسةً كاثوليكيةً صغيرةً عند مكان القبر، وتلاشى القناعُ البرونزي وسط فروعِ الشجرةِ الكبيرة، وكان الأب الكاثوليكي الودود بذقَنه الذهبي يقول: يُوجَد الكثيرُ الذي يُمكِن اكتشافُه في أفريقيا؛ فهذه الشجرة تنشأ من أعماقِ حضاراتٍ أفريقيةٍ عديدة، وتُعَد رمزًا وشاهدًا على الحقيقة، نحن نبني الكنيسة هنا للتوسُّل والرجاء.

عندما عادت تريسا وماريا إلى الكوخ كان الرجلان ينظران إلى أسفل وما زال العرق يتساقط من جسدَيهما المتعبَين، فأحضرَت ماريا طاسةً من البيرة لكلَيهما؛ لأن الحلق يكون جافًّا بعد الموت، شرب موجيا طاستَه بسرعة وعاد ينظر إلى أسفل، بينما هزَّ تانيا رأسه بالرفض، فقدَّمَت طاستَه إلى موجيا، وشربَت هي طاستَين.

سارع تانيا بالذهاب إلى بيته دون أن يقول شيئًا، فهبَّت تريسا واقفة، وراحت تتبعُ خطواتِه كالكلبِ الجائعِ الذي يتبعُ قطعةً من اللحم.

اقتربَت منه وقالت: خذني معك أرجوك؛ فلم أعُد قادرة على البقاء مع ماريا أكثر من ذلك، لا أستطيع العيش في منزل الموت هذا، وليس لي مكانٌ آخر أذهب إليه … خذني معك أرجوك، وأريدك أن تتزوَّجني حتى ولو بدون مهر أو أي شيء، لكنني سأغسلُ قدمَك كلَّ صباح ومساء، كما أنني أعرف طهي الطعام، وأستطيع طهي الموز جيدًا؛ لأن أمي علَّمَتني قبل أن تموت … سأجعلُ فِراشكَ دافئًا، وسأعتني بتدليك ظهرك عندما تتعب … لقد رأيتُ اليوم أختَك الصغيرة، وربما لك غيرُها من الإخوة والأخوات، سوف أعتني بهم أيضًا وبنظافتهم، وسوف أرتقُ ملابسهم؛ فأنا أعرف مثل هذه الأشياء جيدًا، كما أنني سأقدِّم لهم الأعشاب اللازمة للمعدة، كما علَّمني أبي قبل أن يموت، وسوف أربِّي أطفالك وسوف وسوف إذا سمحتَ لي بذلك … أوه، كم أحبُّ أن أحمل أطفالك فوق يدي وظهري … أرجوك خذني معك يا تانيا … أرجوك.

تبادلا الكلمات بسرعة، ولم يستمع تانيا إليها جيدًا، فاعتقدَت تريسا أنه رافضٌ لما تقول، فركعَت تحته وتعلَّقَت بقدمَيه، ثم نظرَت إليه بعينَيها الجميلتَين ذواتَي اللون البني كعيون الماعز، وكرَّرَت بوضوح: أرجوك أن تأخذني معك.

لم تكن عينا تانيا تُوحيان بالمرارة أو الرفض وهو ينظر إليها دون أن يسمع سوى كلماتها الأخيرة، ساعدَها على النهوض، ولف ذراعه حول خصرها الجميل، ثم تحركا نحو البيت بعيدًا عن غروب الشمس. شعَر تانيا بشيءٍ ما في جسده ينمو ويتحرك ببطء، وكان ذراعه حول خصر تريسا يُشعِره بنفس الأحاسيسِ التي يشعُر بها عند قبر أمه تحت الشجرة المقدَّسة.

كان يمشي بسرعةٍ كبيرة، وكان على تريسا أن تسارع بخطواتها كي تلحَق به.

قالت وقد اقتربَت منه: لقد مارستُ الجنسَ مع رجالٍ ثلاثة في منزل ماريا، وصدِّقني يا تانيا أنني كنت مضطرةً لذلك؛ كان أحدهم موظفًا حكوميًّا من أولئك الذين يركبون السيارات الكبيرة، وكانت ماريا تحتاج للنقود، وكنتُ أريد لها أن تحيا. أما الثاني فقد أجبَرني على ذلك وكم كان فظيعًا حتى قرَّرتُ أن أقتل نفسي لو حملتُ طفلًا منه، لكن ذلك لم يحدث. وكان الأخير هو الرجل الذي مات حين هدَّد بقتل نفسه إذا لم أسمح له بذلك، ولم أهتم كثيرًا؛ فلقد سمعتُ أنهم في بعض الأماكن يتبرَّعون بالدم لإنقاذ الناس المُوشِكين على الموت، فهل تعتقد أنني كنتُ مخطئةً يا تانيا؟

كانت خطواتُ تانيا ما تزال مسرعة، ولم يكن مدركًا تمامًا لوجود تريسا وهو يضحك بصوتٍ عالٍ … شدَّت ذراعه بقوة حتى توقَّف عن السير، وشعَر بقليل من الذنب؛ لأنه كان يضحك بهذه الطريقة في مثل هذه الظروف.

تساءلت تريسا برقة وقلق: لماذا تضحك؟

واصل تانيا ضحكاته ولكن بصوتٍ خفيضٍ هذه المرة، فكرَّرَت تريسا سؤالها.

قال تانيا: هل كان بمقدوره فعلُ ذلك؟

– من؟

– الرجل العجوز، الرجل الميت.

– لا … ليس بالضبط؛ فأنت تعرفُ طريقتهم، كان يسب ويلعن طوال الوقت، وتحدَّث عن أنه كان رجلًا طيبًا، لكنني تمنَّيتُ حقيقةً لو أنه استطاع فعل ذلك جيدًا من أجله بدلًا من الكذب وإغراق وجهي بدموعه، شعرتُ بالأسف من أجله، ثم شعَرتُ كأنني مريضة فنهضتُ واغتسَلْت.

قال تانيا: يا له من عجوزٍ مسكين! ليتني لا أصبح عجوزًا مثله.

أجابت تريسا: سأكون معك حين تصبح عجوزًا.

ضحك كلاهما فقالت تريسا: دعنا نستريح قليلًا.

جلسا في صمتٍ يتطلَّعان إلى غروب الشمس، ثم وضعَت تريسا يدها فوق فخذ تانيا، وبعد قليلٍ من الوقت سألَته دون أن تحرك عينَيها وهي تنظر إلى الشمس الغاربة: هل أنت غاضبٌ لأنني مارستُ الجنس مع أولئك الرجال؟ كان لا بُد أن أخبرك؛ فلقد علَّمَتني أمي أن أقول الحقيقة دائمًا، حاولَت أمي جاهدةً أن تجعل مني فتاةً طيبةً وشريفةً على أمل أن أقابل رجلًا جميلًا ذات يوم وأتزوَّجه، وأعتقد أنها لم تتوقَّع ما وصلتُ إليه، وذات يومٍ هجرتُ بيت ماريا الذي كان جميلًا جدًّا في أيامها، ولم يكن يُوجَد مثله، فكان الناس في كاشا وانجا يتزايدون ويمارسون الحب والكراهية، وفي هذا الجو أحبَّت الأمهات أطفالهن وقدَّسن أزواجهن، كان الرجال يتصارعون بقوة ويتقاتلون، لكنهم كانوا أيضًا يُحبُّون بعضهم بعضًا بطريقةٍ ما، ثم يموتون كما مات العجوز دون أن يبكي عليهم أحد وهم يُدفَنون في الطريق كالكلاب … أما اليوم فالنقود هي كل شيء، وكذلك الوضع الاجتماعي، لماذا ينبغي أن يصبح الأطفال موظَّفي حكومة؟ سوف نصبح قريبًا بلد موظَّف الحكومة والنقود والدعاية؛ فهم يقدِّمون في الإذاعة أنصافَ الحقائقِ فقط.

كان تانيا ينظر إليها ويدلكُ رقبتَها وكأنه يخفِّف آلام اعترافها ومخاوفها، ثم فكَّر قائلًا: يا لها من طفلةٍ مسكينة!

يجب أن يحميها من ذلك الصراع والتفتُّت … لم يستطع بعد اعترافها أن يسمعها بوضوح، أو ربما لم يكن راغبًا في سماع المزيد، فراح يُداعبُها ويتحسَّسُها كي تنسى … وضع رأسَها فوق صدره، وقال لها: انظري إلى الشمس الغاربة.

ثم أضاف: هل تودِّين معرفة عدد النساء اللاتي مارستُ معهن الحب؟

أجابت: لا.

– ولماذا أخبرتِني أنتِ إذن؟

– لأنني امرأة، وحين تذهب المرأة إلى فِراش رجل؛ فإما أن يكون ذلك بالقوة لسببٍ أو آخر، وفي هذه الحالة فإنها تُمضي وقتًا عصيبًا لنسيان تلك الإهانة، أو أنها تُمارِس الحب مع رجل تحبه، وحينئذٍ يظل ذلك الرجل بداخلها دائمًا، أما معكم أيها الرجال فالأمر يختلف؛ حيث الذهاب إلى الفِراش مع امرأة يُعَدُّ بالنسبة لكم كالمُخاط.

قال تانيا وهو يداعب يدَها فوق أنفه: إنك تعرفين أكثر مما يحتمل عمرك.

قالت: لأنني عانيتُ أكثر مما يحتملُ عمري.

لستُ مهتمًّا بالذين مارستِ معهم الجنس … إنه لشيءٌ فظيعٌ أن يقطع الطفل إصبعَه ردًّا على مضايقة أمه له، أوه … ربما لأن المرء لا يجد شيئًا آخر يفعله، أو ربما لأنه قد فقد احترامَ الجنسِ البشري.

– هل كنتَ قاسيًا مع النساء اللاتي بادلتَهن الفِراش؟

– نعم … أعتقد ذلك … أعتقد أنني كنتُ قاسيًا في معظم الحالات.

– أتمنَّى ألا تكون قاسيًا معي.

– وأنا أيضًا أتمنَّى ذلك؛ فإنني لستُ مهتمًّا بما حدث معكِ، لكن ما سوف يحدُث هو ما يهمُّني.

– لماذا؟

– لأنك ستصبحين زوجتي، زوجتي الوحيدة؛ إذ إنني أشعر تجاهك ما كنتُ أعتقد في استحالة الشعور به مرةً أخرى، وها أنا ذا أحسُّ بالدم يجري في عروقي مرةً أخرى.

أوه تانيا، حبيبي تانيا، زوجي تانيا، سوف أقوم على خدمتك طَوالَ عمري، وتشهد الشمس الغاربة على ما أقول، سوف أحبُّك وأربِّي أطفالك.

جعلَته يجلس على الأرض، ومرَّت بيدَيها فوق شعره، وقبَّلَت رقبتَه وصدرَه وهي تبكي من الفرح ومن الحياة التي اكتشفَتها من جديد.

لفَّ ذراعه حولها، وقال ببطء: نعم، نعم يا حبيبتي.

ثم نهض فجأةً وفكَّر في كيفية ألا تتعرَّض هذه الفتاةُ المسكينةُ لموتٍ آخر، لا بُد أن ينقذها من الموت، وعليه الآن أن يصحبها لتقيم مع جيمس حتى يتحسَّن والده أو يموت.

كان تانيا فرحًا لهذه العلاقة التي جعلَته يشعُر بأنه وُلد من جديد.

قالت تريسا: ولِمَ لا نذهبُ معًا الآن؟ سأبقى في كوخ جدَّتك كأنني أختك حتى ينتهي كل شيء.

لم يجد سببًا يقوله سوى أنه يريد أن يجهِّز المنزل، وينظِّف لها الكوخ، وربما ينظم حفلةً يدعو فيها الاصدقاء والعائلة.

قالت تريسا: لا … لا بُد أن هناك سببًا آخر لا تُريد أن تُخبرني به؛ فربما تشعُر بالخجل مني؛ لذلك أريد وقتًا كافيًا لقول بعض الأكاذيب عني أولًا.

ابتعدَت عنه بغضب غير مصدِّقة لما قالت، لكن غضبها جعله يقف: حسنًا، أستطيع أن أخبركِ بكل شيء. إن والدي يموت ببطء، وربما مات فعلًا، إن مَن يفعل أشياءَ سيئةً في حياته يموت ببطء، كما يقولون، إن أبي لم يَعِش حياته جيدًا، وأنا أريدُ لكِ أن تأتي بعد انتهاء كل شيء.

– أوه يا حبيبي، إنها المرة الأولى منذ وفاة أمي التي يرغب فيها شخصٌ ما في حمايتي، لكنني أرفض هذه الحماية؛ إذ ينبغي أن أذهب معك الآن وأقف بجانبك وأشاركك الحزن؛ لأنه أيضًا بمثابة أبي … أرجوك اسمح لي بذلك؛ لأنني حين قلتُ بأنني سوف أغسل قدمَيك كل يوم لم أكن أعني غسلَهما بالماء فقط.

ارتمَت بين أحضانه مرةً أخرى، لكن تانيا ابتعد عنها، ثم نهض وقال آمرًا وبدون إحساس بالمرارة: لا … سوف تقيمين عند جيمس حتى تنتهي الجنازة ومراسم العزاء، ثم أرسل في طلبك لنتزوَّج.

انتهى من كلامه، وبدأ يتجه غربًا نحو البيت.

سارت تريسا خلفه وهي تُدندِن بأغنيةٍ قديمة عن رجل كان سعيدًا، وحتى لا يُفسِد أحدٌ سعادته كان يصعد إلى الشجرة ويجلس فوق أحد فروعها طوال اليوم إلى أن تتبدَّد سعادته، فينزل مرةً أخرى ليجمع ما يكفيه من السعادة، فيعاود الصعود إلى الشجرة. ظلَّت تريسا تُغَني برقةٍ عن العناية بشجرتها الصغيرة الجميلة، ورشِّها بالماء كل يوم حتى تكبر، وعندئذٍ يمكن أن تُسمِّيها شجرة السعادة، وتستطيع أن تتسلَّقها كلما كانت سعيدة.

ضحك تانيا وفكَّر: إنها ستصبح امرأةً عجوزًا قبل أن تكبر.

قالت له: ماذا يحدُث للرجل لو أن شخصًا ما قطع الشجرة؟

ضحك كلاهما ثم أجاب تانيا: لا أعرف، لكنه ربما يجلس ويصرُخ حتى تتبدَّد سعادته.

شدَّ كلاهما الآخر من خصره، وواصَلَا الضحك.

ساد الظلام، لكنه كان من اليسير رؤيةُ الممَر الضيق المتعرِّج المؤدي للهدف، الذي لم يكن لديهما ما يكفي من الصبر للوصول إليه … كانت يمامةُ الليل تُغَني والجنادبُ تحوم حول المكان وهي تجلب الضجيج وسط العُشب الجاف، وكان ولدان من الرعاة يودِّعان بعضهما عَبْر الأودية وصوتُ بقرة كانت تخور.

كانت كاشا وانجا هادئةً وجميلةً في تلك الليلة، وراحت تريسا تُغَني مع الطيور والجنادب متقدمةً بالشكر للإله، فطرب تانيا من صوتها، وتمنَّى أن تُواصِل غناءها وحديثها دون الاهتمام بما تقوله؛ فقد كان مهتمًّا بصوتها فقط، الذي جعله يكتشفُ مملكة الإحساس بداخله، والذي ارتوى به قلبُه الجاف.

ظل يتتبَّع صوتها وكأن الآلهة كانوا يشيرون إليه قائلين: سافِر … سافِر إلى جحيم كاشا وانجا عَبْر الوديان!

ها أنا ذا أسألك أيها القارئ: هل يُعَد ذلك غريبًا وهل ثمَّة اختلاف بين حب الرجل لامرأة وحبه للإله؟ … إن كلَيهما نتيجة للضعف وعظمة الإنسان … أليس كذلك؟

قال تانيا: من المحتمل أن الطيور تُغَني بعضُها لبعض، أو من أجل أن تنامَ طيورُها الصغيرة، وربما لتمجيد مَن يُحبون وليس شكرًا للإله.

كان خائفًا أن تتوقف تريسا عن الكلام لكنها قالت: خبَّرَتني أمي ذات يومٍ أن كل شيء في الحياة، حقيقيًّا كان أم طيبًا، إنما هو شُكرٌ للإله، ولستُ أدري حتى الآن معنى كلامها.

كان الظلام قد اكتمل تمامًا حين وصلا إلى بيت جيمس، وكان تانيا سعيدًا للغاية، وفكَّر أن يجعل جيمس ينسى ما حدَث في الليلة الماضية … فتح البابَ بهدوء، وكانت تريسا تنتظر بالخارج في الظلام، فظهَر جيمس جالسًا برأسه فوق المائدة وضوءُ الفانوسِ المنخفضُ يرسم ظلالًا كغروب الشمس.

كان جيمس يبكي، فقال تانيا لنفسه: أوه … يا إلهي، وأنت أيضًا تبكي!

ثم اقتربَ من جيمس وتناوَل منديلَه الأبيض قائلًا: بول، جيمس، بول، صديقي.

لم يكن تانيا يعرفُ السبب في بكاء جيمس فراح يجفِّف دموعَه بالمنديل، ويتساءل: أي نوعٍ من الحزن ذلك الذي ينتابُه؟ هل ماتت أمُّه أم أنه فقد وظيفته؟ هل يشعُر بالضياع والوحدة بين ملفات الحكومة؟ أم أنه اكتشف أنه حلقةٌ مغلقة في سلسلةٍ غيرِ مرئيةٍ تربط كاشا وانجا بملفاته؟ هل لأنه يقوم بتنفيذ ما لا يُوافِق عليه؟ هل لأنه اكتشَف عجزه؟

هكذا تساءل تانيا وهو يضَع ذراعه فوق كتف جيمس، جلس إلى جواره ولم يقُل شيئًا.

خافت تريسا من الظلام، ففتحَت الباب ببطء، ووقفَت تنظر إلى الرجلَين اللذَين لم يشعُرا بها.

قال جيمس وهو يبكي كالأطفال: بارانيا، ماذا سأفعل؟

كان رأسه مستندًا إلى المائدة، وكان يبكي، فلم يستطع تانيا أن يسمعه بوضوح، فكرَّر جيمس: ماذا بوسعي أن أفعل بعد أن فقدتُ وظيفتي، قالوا إن الإنتاج لا يتزايد في قريتي، وإن الناس لا يزرعون ما يكفي من الذرة والقطن، وقالوا أيضًا إن سياستي …

بدأ في البكاء مرةً أخرى.

كان فضولُ تريسا قد غلبَها ولم تعُد قادرة على عدم التدخُّل، فتقدَّمَت ووضعَت يدَيها الجميلتَين القذرتَين فوق كتف جيمس الذي اعتقد أنه تانيا، وحين شعَر بنعومة اليدَين والصدرِ الحادِّ المُلامِس لظهره نظر إليها، فقال تانيا: إنها صديقَتي.

جفَّف جيمس دموعَه، ورسم على وجهه ملامحَ الموظَّف الحكومي التي لم يعُد له الحق فيها، وقال: إنه لشيءٌ جميل أن تزوراني، فهل أقدِّم لكما بعض الويسكي؟ كدتُ أقتُل نفسي بالأمس حين أخبرني رئيسي، هل تشاهدان تلك العصا الحادة كالدبوس، لقد قمتُ بتثبيتها في الأرض، ثم أغلقتُ عيني وفكَّرتُ أن أجري وأسقط عليها … حاولتُ ذلك ثلاث مرات، لكنَّ شيئًا لم يحدث.

صفَّق بيدَيه في يأس مستطردًا: كنتُ خائفًا فلم أستطع … لقد تحوَّلتُ بالتعليم والوظيفة إلى امرأة، حتى إنني لم أستطع مساعدةَ عائلةِ الرجلِ التي تتضوَّر جوعًا؛ لأن رئيسي أمرني ألا أفعل، وقال: أفضلُ له أن يموتَ بدلًا من الخجل الذي ينتابُه وهو يرى أولاده يموتون من الجوع.

قال لي الرجل إنه سينتحر ولم أصدقه، لكنني في اليوم التالي وجدته معلقًا في الشجرة. أما أنا فلم أستطع أن أفعل ذلك يا بارانيا … لم أستطع! ثم تناولتُ كل نقودي وتوجَّهتُ إلى الدكان الهندي في جنوب كاشا وانجا، واشتريتُ زجاجة الويسكي؛ فلقد شعَرتُ برغبةٍ شديدةٍ لأن أصبح مخمورًا، وحين عُدتُ ظلِلتُ جالسًا في هذه الحجرة دون أن أقدر على لمس الزجاجة، ولستُ أدري السبب غير أنني لم أستطع أن أشربها، وقدَّمتُ بعضًا منها إلى أمي دون أن أخبرها أنهم فصلوني من العمل، لكنها رفضَت متعللةً بأنها لا تشرب شيئًا أوروبيًّا، وأنها لن تفعل، وإذن دعوني أقدِّم لكما هذا الويسكي؛ إذ ربما أستطيع معكما أن أشرب قليلًا منه … أرجوكما.

أشارا برأسَيْهما بالموافقة.

لم تكن تريسا قد شَربَت الويسكي من قبلُ ففزعَت، ثم أضافت إليه ماءً وتناولَته، فشعَرَت بمذاق عُصارة الموز الذي شربَتْه ذاتَ مرةٍ في موسم الجفاف والجوع.

جلس جيمس فوق مقعدٍ خشبيٍّ قديم وكأسُه بين يدَيه، وكان ينظر إلى تانيا وتريسا وكأنه يرجوهما مرةً أخرى أن يشربا.

قال تانيا: هيا اشرب يا عزيزي.

تناول جيمس كأسه في جرعةٍ واحدة، ثم بصق المرارة التي علقَت بفمه فوق الأرض الأسمنتية، وراح يصُب لنفسه كأسًا أخرى وهو يقول لتريسا بكرم: إليك بالمزيد. ثم قال لتانيا: ما اسمها يا بارانيا؟

قالت هي: تريسا.

ثم هزَّت رأسها مشيرةً إلى الزجاجة، وقالت: ستتناول المزيد يا بارانيا … أليس كذلك؟

قدَّم بارانيا كأسَه في صمت، وتناول جيمس كأسًا أخرى، ثم تلاها بأخرى، وكان كلٌّ من تانيا وتريسا ينظران إليه بارتياب … كانت تريسا ترمقُه بنظراتها من ركن عينَيها، وتقوم بترتيب الملفات والأوراق المبعثرة فوق المكتب، بينما يُقلِّبُ تانيا الويسكي في فمه قبل ابتلاعه وهو يراقب جيمس وكأنه طفلٌ يلعب بالموسَى.

لعب الويسكي برأس جيمس الذي قال: قد تعتقد يا بارانيا أن ذلك غباء، لكن الحياة خادعة وملعونة، نعم هي كذلك.

كان منفعلًا، فقام بتكسير الكأس بما فيها إلى قطعٍ صغيرةٍ فوق الأرض، واستطرد: لقد ذهبتُ للمدرسة، ودرَستُ بجدٍّ على أمل أن أساعد الناس في يومٍ ما، كان لا بُد من مساعدتهم حتى أكون أمينًا مع نفسي؛ ولذلك أصبحتُ مسيحيًّا لأنهم علَّمونا في المدرسة أنه من اليسير أن تكونَ أمينًا وشريفًا عندما تكونُ لك ديانة، اعتقدتُ وصدَّقتُ فيما علَّمونا إياه، وظلِلتُ أعمل ليلًا ونهارًا في الملفات والتقارير، وتحدَّثتُ مع أهل قريتنا عن كيفية عمل هذا وذاك، وكانت الأمور تسير على ما يُرام، حتى غيَّرَت الحكومة من سياستها، فاعترض الناس، لكنني تخيَّلتُ أن ذلك مجرد ضغطٍ مؤقت، لا … لم يكن مؤقتًا، فتوالت الأحداثُ تلو الأخرى حتى فصَلوني، وإنني لأتساءل الآن كيف وأين بدأ كل شيء.

تناوَل الزجاجةَ نفسَها وراح يشربُ منها، ثم أضاف: لقد صلَّيتُ كثيرًا، وعملتُ بجدية أكثر، وكنتُ أثق في الحكومة وحكمتها، فوقَفتُ إلى جانبها، لكنني في الحقيقة كنتُ أقدِّم التنازلات، حتى جاء اليوم الذي علَّق فيه ذلك الرجلُ نفسَه في الشجرة، ومن هنا بدأَت تجتاحُني الكوابيس، ولم أعُد قادرًا على النوم؛ فقد كان يرمقني بنظراتِه وأنا نائم، وأذكُر أنه قال لي في أحد الكوابيس إنني والحكومة لن ننساه أبدًا، ثم سألَني عن الفائز والرابح … هل هو أم أنا! … ركَعتُ وصلَّيتُ كي يسامحني ويغفر لي، لكن الكابوس كان قد انتهى، فأضأتُ المصباح وتساءلتُ عن الرابح الذي من المحتمل أنه ليس أنا، لكن الحكومة لا تعاني من الكوابيس، فقرَّرتُ أن أكونَ ما كان يجبُ أن أكونَه منذ البداية، رجلًا أولًا، ثم موظَّفَ حكومةٍ ثانيًا، فسارعتُ بالكتابة إلى رؤسائي، وأخبرتُهم أنهم مُخطِئون.

تناول جرعةً كبيرةً من الزجاجة التي فرغَت إلى نصفها، ثم ضحك قائلًا: أنا الآن رجلٌ ولستُ أيَّ شيءٍ آخر، ولأنني كذلك يجب أن أقتُل نفسي، لكن رجولتي ليست كافيةً لقتل نفسي، وهذا ما أعنيه بأن الحياةَ خادعةٌ وملعونة.

حاوَل أن يشرب مرةً أخرى، لكن تانيا أزاح الزجاجة عنه، فقال جيمس: دعها يا بارانيا.

قالت تريسا: إنني مجرَّد فتاةٍ صغيرة و…

قاطعَها جيمس وهو يضحك في لحظةِ خلاصٍ وقتية: ها ها … أنتِ فتاةٌ صغيرة؟! تجاهلَت تريسا مقاطعتَه، وقالت: إنني لستُ سوى فتاةٍ صغيرة، لكنني عانيتُ كثيرًا؛ ولهذا أعرف بعض الأشياء القليلة؛ فأنا أيضًا حاولتُ أن أقتُل نفسي ذاتَ مرةٍ حين أساء لي أحد الرجال، فجأةً قرَّرتُ ألا أفعل ليس خوفًا مني، ولكن لأنني تذكَّرتُ ما قالَته أمي بأن الحياة بكل مساوئها أفضلُ دائمًا من الموت، من الحماقة أن يُصابَ المرء باليأس ويقتُل نفسه إذا ما أبصَر جفاف الأعصاب، لقد كنتُ أرتعشُ حتى الأمس من حياتي ومن الفراغ الذي يملؤني، وحين نظرتُ إلى غروب الشمس شعرتُ بحياتي تغرُب معها، مثل دجاجةٍ تموت قبل أن تفقس. أما اليوم فإن المطر يتساقط في قلبي.

وضع تانيا ذراعَيه حولها قائلًا: ولن يتوقَّف المطر أبدًا.

لم تتجاهل المقاطعة هذه المرة، ووضعَت ذراعها حوله، واستطردَت بجدية دون أن تزيح نظراتها عن جيمس: لو أنني حمقاءُ لما كنتُ هنا اليوم، ولما سمعتُ الطيور وهي تسبِّح للإله، إن الرجل الذي يقتُل نفسه قد يكون رابحًا ولكن مَن يكون الخاسر في مثل حالتك؟ لا … إن ثمَّة انتصارًا ينشأ من الهزيمة.

كان الرجلان يحدِّقان فيها بصمت وهي تتكلم، وشعَر تانيا وهو يسمع صوتَها أنه يمشي معها مرةً ثانيةً في الممر المؤدي للغرب. أما جيمس فقد أيقظَه كلامُها، وأصابَتْه الدهشة من خبرتها وحكمتها الواضحة.

كانت تريسا بارعةً في ممارسة دور الأم والإله بالنسبة لكثيرٍ من الناس، منذ أن كانت طفلةً صغيرة، وكانت تقول كلامًا يُفيد الناس، ودائمًا ما كانت تحاول — دون يأس — أن تُشرِق الشمس في قلبها مرةً أخرى … كانت تُتابِع الضوء والدفء المتولِّد منه وتُعاني من رعشة التوقُّع.

شعَرَت تريسا بالانتصار، ولم يحرِّك جيمس عينَيه عنها حين قال: إنكما في حالة حب.

– نعم، وسنتزوج قريبًا.

– أنت رجلٌ محظوظٌ يا بارانيا؛ فمن الصعب على رجلٍ أن يتزوج امرأةً طيبةً وحكيمة.

ابتسمَت، تريسا، وقال تانيا: نعم. كما قلت؛ إذ لا يجب على المرء أبدًا أن يغلق باب الأمل، وعليه ألا يتوقف عن التطلع إلى السعادة والحب؛ فقد يكون فقدُك لوظيفتكَ هو ما يجعلُكَ تملكُ الوقتَ للبحث عن نفسك، مثلما يُحدِّق الأسد في نفسه عندما تهرُب منه الفريسة.

تقدمت تريسا نحو تانيا، وقالت وهي تدلكُ كتفَه برقَّة: سوف نتزوج، ولن نصبح أغنياء، لكننا لن نجوع، سوف نصبح عائلةً تُرسِل أطفالها إلى المدرسة … سأكون فتاةً طيبةً من كاشا وانجا تتمتَّع بالصحة، لن أكون كالفتياتِ اللاتي يمسحن الأحذية البيضاء من التراب، وإنما سأعمل بالفأس من شروق الشمس إلى غروبها، وأربِّي أطفالك، وأسهَر على سعادتك.

تحسَّسَت خدَّه برقَّة وكانت تَعني ما تقول عن كيفية أن يكون الرجل سعيدًا، أبصرَت زجاجةَ زيتٍ صغيرةً تحت سرير جيمس في الحجرة الأخرى، فأفرغَتها في خزَّان المصباح.

قال جيمس بعد تأمُّلٍ طويل: أنتِ على حقٍّ يا تريسا؛ لأن ما أحتاجُه فعلًا هو امرأةٌ تعزِّيني وتكونُ سندًا لي.

كانت تريسا مشغولةً بالمصباح فلم تسمع ما قاله، ولم تكُن تريدُ أن تسمع بعد أن عرفَت تأثير كلماتها.

ا قال تانيا: أريد أن تبقى تريسا هنا يا جيمس، أريد أن تبقى معك حتى أدبِّر أموري في البيت.

– وهل تثق بي إلى هذه الدرجة؟

– لا، وإنما أثق بها هي.

وقالت تريسا: يجب أن تثق به أكثر؛ لأنك تعرفُه منذ زمنٍ بعيد.

– طبعًا أثق به، لكنني كنتُ أضحك فقط.

– طبعًا بارانيا، ويُوجَد سريرٌ خشبي أخشى ألا يكون مريحًا، ولكن ألا تعتقد أن الناس سيتكلمون؟

قالت تريسا: سأبقى في كوخ أمك يا تانيا، وأقوم بمساعدتها في الحصول على الماء، وفي الطهي والأعمال اليومية الأخرى.

– لا … لا … إن بقاءكِ معها سيجعلُها تتذكَّر عدمَ إنجابِها لطفلةٍ أخرى. لم تكن تريسا تقبلُ الهزيمة أبدًا، فقالت: أنت مخطئٌ يا بارانيا … هل يحقُّ لي أن أدعُوَكَ بارانيا أيضًا؟

– إن النساء لا يستخدمن ألقاب الرجال، لكنني لا أمانع.

– شكرًا، وأكرِّر بأنك مخطئ؛ لأنني سأجعلها تفكِّر في زوجةٍ لابنها.

قال جيمس: حسنًا، سوف أصحبكما إليها، وأشرح لها كل شيء؛ فهي امرأةٌ متفهمةٌ جدًّا.

قال تانيا: وإلى الغد سأتركُكما تُدبِّران أموركما؛ فينبغي أن أذهبَ للبيت لئلا يُساورَهم مزيدٌ من القلق، وأعتقد أنني لستُ في حاجة لتلك العصا الحادَّة كالدبُّوس وتلك الزجاجة … أليس كذلك؟

– قد أكون أحمق، لكنني لستُ معتوهًا أو مجنونًا، كما أن لي أصدقائي، وكل ما في الأمر أنني كنتُ أحسُّ بتعبٍ شديد … إنكَ لم تأتِ لرؤيتي … أنت غشَّاش.

قال تانيا وهو يهزُّ ذراعَيه، ويختفي في الظلام، ويصفِّر بفمه: حتى الغد تُصبِحون على خير.

كان قد نَسِي تمامًا أباه وكل ما حدَث له ذلك المساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤