٢٠ نوفمبر

وها نحن هنا مرة أخرى، في ثالث أيام المواجهة، أو بالأحرى اليوم الرابع، رغم أننا تقابلنا ثلاثة أيام. بالأمس كنت متعبة، ولم أستطع أن أكتب أو أقرأ كلمة واحدة. كنت قلقة لا أعرف ماذا أفعل بنفسي، أمضيت اليوم كله أتجوَّل في المنزل والحديقة. كان الجو معتدلًا، وفي الأوقات الدافئة من النهار كنت أجلس على الدكة جوار شجيرة الفرسيتية. الحشائش وأحواض الزهور حولي في حالة سيئة. عندما نظرت إليها تذكرت مشاجرتنا حول كنس الأوراق الجافة المتساقطة، متى كان ذلك؟ العام الماضي؟ منذ عامين؟ كنت أعاني من التهاب الشعب الهوائية، ولم أستطع أن أكنسها … وكانت الأرض مليئة بالأوراق التي تدوِّم في الريح، على نحوٍ دائري.

وأنا أنظر من النافذة إلى السماء المكفهرة، استولى عليَّ شعور شديد بالحزن. جئتُ إلى غرفتكِ، وكنتِ مستلقية على فراشك واضعة سماعات على أذنيك. رجوتك أن تقومي لتجمعي الأوراق، وكان عليَّ أن أكرر رجائي عدة مرات، كل مرة بصوتٍ أعلى من المرة السابقة. قبل أن تسمعيني هززتِ كتفيك، وسألتِ: «لماذا؟ في عالم الطبيعة لا أحد يكنس أوراق الشجر. تظل على الأرض حتى تتحلل، وهذا هو المفترض أن يحدث». في ذلك الوقت، كان عالم الطبيعة هو حليفك الأكبر، وكانت قوانينه الثابتة تزودك بعذرٍ ومبرر لكل شيء. وبدل أن أشرح لك أن الحديقة كانت جزءًا من عالم الطبيعة تم استئناسه، كلبًا من كلاب الطبيعة يكبر بمرور السنوات مثل سيده، ويحتاج عناية كالكلاب الحقيقية تمامًا، انسحبتُ إلى غرفة الجلوس دون كلمة أخرى.

بعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ، وأنتِ مارة بالقرب مني، في طريقك إلى المطبخ، في عملية إغارة على الثلاجة، لاحظتِ أنني كنت أبكي، ولكنك اخترتِ أن تتجاهلي ذلك تمامًا. ولم تخرجي من غرفتك إلا عند وقت العشاء، سألتِ: «ماذا هناك للعشاء؟»، ولاحظتِ أنني كنت ما أزال في المكان نفسه … وأبكي … ذهبتِ إلى المطبخ، ورحتِ تشغلين نفسك بالقرب من الموقد، ثم صِحتِ من هناك: «ماذا تفضِّلين: بودنج شوكولاتة أم أومليت؟» لاحظتِ أنني كنت في حالة سيئة فعلًا، وحاولتِ أن تكوني لطيفة بعمل شيء يسرني.

بمجرد أن فتحت الشباك في الصباح التالي، رأيتك في الساحة، في المطر … مرتدية المعطف الأصفر، وتجمعين أوراق الشجر. وعندما دخلت في التاسعة تقريبًا، لم أقل شيئًا؛ لأنني أعرف أنك لا تكرهين شيئًا في حياتك سوى ذلك الجانب من طبيعتك، الذي يوحي بشيء طيب أو لطيف.

وعندما نظرتُ بحزن هذا الصباح إلى أحواض الزهور، كنت أفكر أنه قد حان الوقت فعلًا لوجود شخص يمكن أن يعالج حالة الإهمال تلك التي وصلت إليها الحديقة منذ مرضي. كنت أفكر في ذلك منذ خروجي من المستشفى، ولكنني لم أقرر بعد. بمرور السنوات، أصبحت غيورة جدًّا في كل ما يتعلق بالحديقة. لا شيء في الدنيا يمكن أن يجعلني أسمح لأي شخص آخر أن يروي «الأضاليا» أو ينزع ورقة ميتة من فرع، وهذا شيء غريب؛ لأنني كنت أعتبر العمل في الحديقة مضجرًا عندما كنت صغيرة، وكنت أعتقد أن امتلاك حديقة مهمة شاقة أكثر منها ميزة.

بعد يوم أو يومين من الهدوء، عاد النظام الذي تحقق إلى الفوضى مرة أخرى، ولا شيء يتعب أعصابي أكثر من الفوضى. لم أكن أشعر باستقرار داخلي؛ لذا فإن حالة مماثلة في العالم الخارجي لم تكن محتمَلة، وكان عليَّ أن أتذكر ذلك عندما طلبت منك أن تجمعي أوراق الشجر؛ هناك أشياء لا يمكن أن نفهمها قبل أن نصل إلى عمر معين.

من تلك الأشياء علاقة المرء بمنزله، وبكل شيء حوله. عندما تصلين إلى السبعين، تدركين فجأة أن المنزل والحديقة لم يعودا منزلًا وحديقة لأنك تعيشين فيهما حياة مريحة، ولا لأنهما جميلان. هما منزلك وحديقتك، جزء منك، كما المحارة جزء من الكائن الموجود داخلها. لقد تكوَّنت المحارة من إفرازاتك، تاريخك منقوش في ثناياها. محارة المنزل تضمك، هي فوقك ومن حولك، الموت نفسه قد لا يحررها من وجودك، ولا من الأفراح أو الأحزان التي مررت بها في داخلها. مساء الإثنين لم تكن لديَّ رغبة في القراءة، لذا جلست لمشاهدة التليفزيون، رغم أنني — في الحقيقة — كنت أستمع أكثر مما أشاهد لأنني غفوت لأكثر من نصف الساعة تقريبًا. سمعت نتفًا من الحديث، كما يحدث عندما يغلبك النعاس في القطار، ويصلك نثار الكلام الذي يقوله المسافرون … ولكنه لا يكفي لفهم شيء له معنى. كان هناك مناظرة بين صحفيين عن آخر مذاهب القرن العشرين. وكانت هناك لقاءات مع «أبطال» مختلفين، بينهم الحقيقي والزائف، وفي مجرى الحديث تكررت كلمة «كارما» عدة مرات، على الفور استحضرت إلى ذهني وجه مدرس الفلسفة في مدرستي. كان شابًّا غير تقليدي في أفكاره بالنسبة لزمنه. وعندما كان يكلمنا عن «شوبنهاور» تحدث قليلًا عن الفلسفات الشرقية، ومن خلال ذلك عَرَّفنا على مفهوم «الكارما». في ذلك الوقت لم أهتم كثيرًا؛ الكلمة وتعريفها دخلا من أذن وخرجا من الأخرى. ولعدة سنوات ظلَّت في أعماق عقلي فكرة أنها كانت تنويعًا على قانون العين بالعين والسن بالسن، أو كما تفعل بالآخرين سيُفعَل بك.

«الكارما»، وكل ما يتعلق بها برزت إلى سطح عقلي يوم اتصلت بي مدرسة الحضانة بالتليفون تشكو من سلوكك الغريب.

لقد جعلتِ المدرسة كلها في حالة اضطراب. فجأة، وأثناء درس عن فن القص، رحتِ تتكلمين عن حياتك السابقة! في البداية كان المدرسون يعتبرون ذلك ليس أكثر من اضطراب عقلي طفولي؛ حاولوا أن يقللوا من شأن حكايتك، وأن يوقعوك في تناقضات. لكنك رفضتِ أن يوقعوا بك … لدرجة أنك لفظتِ بعض الكلمات بلغة أجنبية غير مفهومة. وعندما حدث الشيء نفسه للمرة الثالثة، أرسلت ناظرة المدرسة تطلب أن أذهب لمقابلتها، ولمصلحتك، ومن أجل حماية مستقبلك، نصحتني بأن أعرضك على طبيب نفساني.

قالت: «بعد كل الذي مرَّت به، لا بد أن تتصرف على هذا النحو، أن تهرب إلى عالم من صنع الخيال.»

أنا بالطبع لم آخذك إلى طبيب نفساني، فقد كنتِ — كما يبدو لي — طفلة سعيدة، وكنت أميل إلى الاعتقاد أن لشطحات خيالك جذورها، ليس في مصاعب تعانين منها، وإنما في شيء مختلف تمامًا. بعد ذلك الحادث، لم أحاول أن أجبرك أبدًا على الكلام عن ذلك، ومن جانبك لم تشعري بالحاجة لذلك. ربما تكونين قد نسيتِ اليوم الذي تكلمت فيه عن ذلك مع مدرسيك المرعوبين.

لديَّ شعور أن الناس في السنوات الأخيرة أصبحوا يتكلمون كثيرًا عن مثل تلك الأشياء، بينما كان الكلام في الماضي لا يدور إلا بين قلة مختارة. الموضوع اليوم على كل لسان، ومنذ وقتٍ قريبٍ قرأت مقالًا عن جماعات في أمريكا مهتمة بموضوع تناسخ الأرواح، حيث يلتقي الناس ليتكلموا عن حياتهم الماضية. قد تقول ربة بيت، مثلًا: «في القرن التاسع عشر كنت بائعة هوًى في «نيو أورليانز»؛ ولذلك فأنا لا أستطيع أن أكون مخلصة لزوجي.» بينما قد يقول عامل عنصري في محطة بترول، وهو يحاول أن يبرر كراهيته للسود: «إن أفرادًا من قبيلة «البانتو» الزنجية قد التهموه أثناء رحلة صيد في القرن السادس عشر.» يا لها من حماقة! ويا له من أمر مؤسف! لأن الناس فقدوا الصلة بجذورهم الثقافية، يحاولون أن يصنعوا لأنفسهم حياة ماضية لتعويض كآبة الحاضر، وعدم الشعور بالأمان، أما إذا كان لدورة الحياة معنًى، فلا بد أن يكون شيئًا مختلفًا عن ذلك.

عندما وقع حادث المدرسة، أحضرت بعض الكتب لكي أفهمك على نحو أفضل عن طريق معرفة أفضل … وفي إحدى المقالات قرأت أن الأطفال الذين يتمتعون بذاكرة صافية عن الحياة الماضية، هم أولئك الذين أن واجهوا نهاية عنيفة قبل الأوان. بعض المخاوف المتسلطة التي لم أجد لها تفسيرًا في خبرات طفولتك — مثل الغاز المتسرب من الأنابيب، وخوفك من حدوث انفجار وشيك بين لحظة وأخرى — كانت تجعلني أتساءل بشأن ذلك التفسير الذي قرأت عنه.

كنتِ عند التعب أو النوم أو القلق يتملكك رعبٌ غير مفهوم، لم يكن رعبًا من «بعبع» أو ساحرة أو الرجل الذئب، وإنما كان رعبًا مفاجئًا؛ كنتِ تتوقعين أن العالم المادي كله سوف ينفجر. في المرات القليلة الأولى عندما حدث ذلك، وظهرتِ خائفة في غرفتي في صمت الليل، استيقظتُ وهدأتك وأخذتك إلى فراشك، وأنت راقدة ممسكة بيدي طلبتِ أن أحكي لك حكاية ذات نهاية سعيدة، كنت أخاف أن أحكي شيئًا يزعجك، كنتِ تقدمين أنت بعض التفاصيل الصغيرة، وأنا أتبع تعليماتك بحذافيرها. أكرر القصة مرتين أو ثلاثًا، وعندما أنهض للذهاب، معتقدة أنك قد هدأتِ، يأتيني صوتك الرقيق النعسان: «أهكذا تمضي القصة؟ وهل تنتهي هكذا دائمًا؟»، وكنت أعود إليك، ثم أقول بعد أن أطبع قبلة على جبهتك: «لا توجد نهاية أخرى يا حبيبتي … أعدك بذلك.»

وفي ليالٍ أخرى، رغم أنني لم أكن أريدك أن تنامي معي في الغرفة نفسها — الأطفال يجب ألا يناموا مع الكبار — لم يكن قلبي يطاوعني أن أتركك تنامين في سريرك. وبمجرد أن أشعر بك واقفة جوار طاولة السرير الصغيرة، لا أستدير، ولكنني كنت أؤكد لك: «كل شيء تحت السيطرة، لا شيء سينفجر، يمكنك أن تعودي لغرفتك يا حبيبتي.» ثم أتظاهر بأنني قد رحت في النوم. ولفترة قصيرة يمكن أن أعرف، من صوت تنفُّسك الهادئ، أنك واقفة هناك بلا حركة، ولكن جانب السرير يحدث صريرًا ضعيفًا عندما تصعدين بهدوء قدر الاستطاعة، وتنكمشين جواري، قبل أن تستسلمي لنوم عميق مرهق مثل فأر صغير عاد إلى جحره الدافئ بعد خوف شديد.

ولكيلا أفسد اللعبة، كنت أحملك في الفجر — وأنتِ غارقة في الدفء والنوم — إلى غرفتك، ولا تتذكرين شيئًا تقريبًا عندما تستيقظين، وتعتقدين أنكِ قد قضيت الليلة كلها في فراشكِ.

وعندما تداهمكِ مشاعر الخوف هذه أثناء النهار، كنت أتحدث معك برفقٍ، وأقول: «ألا تلاحظين أن البيت قوي، والجدران سميكة؟ كيف يمكن أن ينفجر؟». ولكن كل محاولاتي لتهدئتك وطمأنتك كانت غير مجدية. كنتِ تحدقين في الفراغ، وأنتِ ترددين: «كل شيء قابل للانفجار»، ولم أتوقف أبدًا عن التساؤل عن ذلك الرعب الذي ينتابك. ماذا كان ذلك الانفجار؟ هل يمكن أن يكون ذكريات عن أمك؟ عن موتها المفاجئ المأساوي؟ هل له علاقة بتلك الحياة التي كنتِ تصفينها لمدرسيك في المدرسة كأمر واقع غريب؟ من يعرف؟ رغم كل ما يقولون، أعتقد أن هناك ظلامًا أكثر مما هناك من ضوء في العقل البشري.

الكتاب الذي اشتريته، في ذلك الوقت، كان يقول إن الأطفال الذين يتذكرون الحياة السابقة كثيرون جدًّا في الهند والشرق، تلك البلاد التي يعرف تراثها هذه الفكرة، وذلك يمكن أن أصدقه بسهولة. فكري فقط ماذا كان يمكن أن يحدث لو أنني ذهبت إلى أمي ذات يوم، وبدأتُ أتكلم بلغة غريبة فجأة، أو تصوري أنني قلت لها: «لا أحبك، لقد كنت أكثر سعادة مع أمي السابقة.»

من المؤكد أنها كانت سوف تسلمني إلى مصحة عقلية في اليوم نفسه. هل توجد طريقة نحرر بها أنفسنا من المصير الذي تقرره لنا طفولتنا، أو ما يصل إلينا بالوراثة؟ من يعرف؟ ربما مع تتابع الأجيال المصابة بفوبيا الأماكن المغلقة، يتمكَّن شخص ما، في وقت ما، من أن يلمح — من على البعد — درجة أعلى من الآخرين، ويحاول أن يتسلقها بإصرار، أن يُدخِل هواءً طازجًا للغرفة، أن يخرج من الدائرة المغلقة، هذا في رأيي هو السر الدقيق في دورة الحياة. دقيق، لكنه مرهق ومخيف بسبب التباسه وغموضه. أمي تزوجت عندما كانت في السادسة عشرة، وأنجبتني وهي في السابعة عشرة. لم أرها تبدي أية بادرة حب أثناء طفولتي … أو بالأحرى، على مدى حياتي كلها. لم تكن حياتها حياة حب، لم يجبرها أحد على ذلك، هي التي أقحمت نفسها، ورغم أنها كانت يهودية وغنية إلا أنها كانت تريد لقبًا … تشتهيه. كان أبي أكبر منها سنًّا، «بارونًا» عاشقًا للموسيقى، وكان مسحورًا بموهبتها في الغناء. بعد أن أنجبا الوريث المطلوب لتخليد اسم العائلة الكريم، قضيا بقية العمر … كلاهما يحقد على الآخر، ويحتقره.

ماتت أمي ممرورة غير راضية، لم يكن لديها أية درجة من الشك في أنها ليست مسئولة عن ذلك الخطأ. كانت الدنيا هي التي عاملتها بقسوة لعدم إعطائها حظًّا أفضل! أما أنا فكنت مختلفة عنها تمامًا، وعندما أصبحتُ في السابعة، ولم أعد طفلة، لا حول لها ولا قوة، كنت أكرهها، عانيتُ كثيرًا بسببها؛ كانت مستثارة دائمًا، ولأسباب كثيرة … ودون تمييز. «كمالها» الخاص المفترَض كان يجعلني أشعر بأنني سيئة … والنتيجة هي العزلة. في البداية حاولتُ أن أكون مثلها، ولكن محاولاتي كانت خرقاء، ودائمًا كانت تنتهي بكوارث، وكلما كنت أحاول أكثر، يزداد شعوري بالقلق. الفشل يؤدي إلى فقدان احترام النفس، وبين احترام النفس والغضب خطوة قصيرة. بمجرد أن أدركت أن حب أمي كان مرتبطًا بأشياء خارجية فقط، بما كانت تريدني أن أكونه، وليس بما هو فيَّ، بدأت أكرهها … وحيدة في غرفتي، وفي أعماق قلبي … ولكي أهرب من هذا الشعور لجأت إلى عالمي الخاص.

في السرير ليلًا، وعلى ضوء أباجورة صغيرة، أقرأ كتب المغامرات. أحببت أحلام اليقظة، وفي مرحلة ما، كنت أحلم بأنني قرصان في بحر الصين، ولكن نوع خاص من القراصنة، لأن ما أسرقه من أموال ليس من أجلي، وإنما من أجل الفقراء. القراصنة ورؤساء العصابات في النهاية يستسلمون لأحلام الإحسان. فكرت أن أصبح طبيبة، وأذهب إلى أفريقيا لرعاية الأطفال السود.

في الرابعة عشرة قرأت «شليمان»، واكتشفت أنني لا يمكن أبدًا … أبدًا أن أعالج الناس، حيث ميلي الأكبر كان نحو دراسة الآثار. ومن بين العدد غير المحدود من المهن والأنشطة التي تخيلت نفسي أمارسها، كانت الآثار هي الشيء الوحيد الذي يلائمني … ربما! لست واثقة.

ولكي أحقق ذلك الطموح، حاربت معركتي الوحيدة مع أبي. كانت المعركة حول ضرورة ذهابي أو عدم ضرورة ذهابي إلى المدرسة المتوسطة وتلقي تعليم كلاسيكي، كان هو ضد ذلك تمامًا، ولا يرى له ضرورة، وأنني إذا كنت فعلًا أريد أن أدرس، فإن دراسة اللغات قد تكون أكثر فائدة.

وفي النهاية انتصرت، وعندما أنهيت دراستي المتوسطة كنت واثقة من الانتصار، لكنني كنت مخطئة. بعد أن انتهيت من الدراسة الثانوية، قلت له إنني أريد الالتحاق بجامعة «روما»، وجاء ردُّه قاطعًا: «لن أتكلم في ذلك.» وكما كانت العادة في تلك الأيام انصعت دون كلمة واحدة. لا ينبغي أن يظن المرء أن الانتصار في معركة يشبه تمامًا الانتصار في حرب، ذلك خطأ طفولي. وعندما أفكر في ذلك الآن أشعر بأنني لو كنت قد صممت، لو قاومت بشدة، لكان والدي قد استسلم في النهاية؛ رفضه القاطع كان جزءًا من النظام التربوي في ذلك الزمن. الصغار يُعتبَرون غير مؤهلين لاتخاذ قرارات بأنفسهم. ولذلك عندما يضعون إرادتهم ضد إرادة الآباء، فلا بد أن توضع موضع الاختبار. وعندما استسلمت أمام أول عقبة، افترضوا أن إرادتي لم تكن تعبيرًا عن رغبة حقيقية صادقة، وإنما نزوة عابرة، الأطفال بالنسبة لأبي، ولأمي أيضًا، مسئولية اجتماعية أولًا وأخيرًا.

كان النمو العقلي والوجداني مهملًا، بينما كانت أقل الأمور أهمية خاضعة لقسوة بالغة. على المائدة كان لا بد أن أجلس مشدودة القامة، مرفقاي ملتصقان بجانبي، حتى وإن كانت أفكاري — كما كان يحدث — تدور حول أفضل طريقة للانتحار؛ المظهر هو كل شيء، أي شيء آخر لا يليق.

ولذا نشأت، ولديَّ إحساس بأنني نوع من القردة، لا بد أن يُدرَّب جيدًا. قردة، أكثر من كوني بشرًا قادرًا على الفرح وخيبة الأمل، وفي حاجة لأن يكون محبوبًا. هذا الحرمان، سرعان ما أيقظ شعورًا شديدًا بالعزلة، وراحت العزلة تتعمق وتتعمق بمرور الزمن. كانت نوعًا من الفراغ … الخواء … لا أستطيع أن أتصرف فيه إلا بحركات بطيئة خرقاء مثل الغواص.

هذا الشعور بالعزلة، جاء — أيضًا — بسبب الأسئلة التي كنت أسألها لنفسي، ولم يكن لديَّ إجابات عنها.

في الرابعة أو الخامسة كنت أنظر حولي، وأتساءل: لماذا أنا هنا؟ ومن أين تأتي كل هذه الأشياء الموجودة حولي؟ ماذا وراء كل شيء؟ هل هذه الأشياء موجودة هنا قبل أن أوجد؟ وهل ستظل موجودة إلى الأبد؟

كنت أسأل تلك الأسئلة التي يطرحها الأطفال الحساسون عندما تواجههم تعقيدات الحياة. أعتقد أن الكبار كانوا يسألون الأسئلة ذاتها، وكانوا يستطيعون الإجابة عنها، ولكنني بعد أن جرَّبت أن أسأل أمي أو المربية، مرة أو مرتين، اكتشفت أنهما لا تعرفان الإجابة … ولا سألتا نفسيهما تلك الأسئلة أبدًا.

وهكذا كما ترين، تعمَّق شعوري بالعزلة، كان عليَّ أن أحل كل مشكلة بنفسي، وكلما كبرتُ كانت الأسئلة تتكاثر، وتكبر … وتصبح مخيفة أكثر … وكان مجرد التفكير فيها يصيبني بالرعب. أول مواجهة لي مع الموت جاءت وأنا في السادسة. كان لأبي كلب صيد اسمه «أرجوس»، كان لطيفًا وطيبًا وصديق لعبي. مساءات كاملة أطعمه الطين والحشائش وأتصور نفسي مصففة شعر له، وكان يتحرك في الحديقة دون تذمُّر، والدبابيس تلمع فوق أذنيه. وذات يوم، وكنت أحاول أن أجرب تصفيفة شعر جديدة له، لاحظت ورمًا في رقبته. كان منذ أسابيع قد توقف عن الجري والقفز كعادته، وعندما أجلس في ركن أتناول البسكويت، لم يعد يأتي ليجلس أمامي، ويتنهد على أمل.

عدت من المدرسة ذات يوم، ولم أجده في انتظاري عند الباب، اعتقدت في البداية أنه خرج إلى مكان ما بصحبة والدي، ولكنني عندما رأيت والدي يجلس هادئًا في مكتبه، و«أرجوس» ليس عند قدميه كعادته، كان ذلك نذير شؤم، وتملَّكني فزع شديد مفاجئ.

كنت أجري في أنحاء الحديقة أناديه بأعلى صوت، فتشت كلَّ ركن في البيت. في تلك الليلة، عندما ذهبت لأعطي والدي قبلة الليلة الإجبارية … استجمعت شجاعتي، وسألت: أين «أرجوس»؟ قال والدي، دون أن يرفع عينيه عن الجريدة: «أرجوس» ذهب! سألته: لماذا؟ قال: لأنه سئم مزاحك!

هل هي عدم لباقة، سطحية، سادية؟ ماذا وراء تلك الإجابة؟ لحظة أن سمعتها انهار داخلي شيء ما.

لم أستطع النوم ليلًا، وبالنهار كان أي شيء بسيط يجعلني أبكي. بعد شهر أو اثنين استدعوا طبيب أطفال، فقرر أن «الطفلة ضعيفة ومرهقة»، ووصف لي «زيت السمك». لماذا لم أنم؟ لماذا كنت أحمل كرة «أرجوس» أينما أذهب؟ لم يسأل أحد أبدًا.

كان ذلك الحادث بداية دخولي عالم الكبار، في سن السادسة؟

نعم في سن السادسة. لو أن «أرجوس» مات لأنني شريرة، فإن سلوكي، إذن، هو الذي يؤثر على ما يحيط بي من أشياء، كان فعلًا يؤثر على الأشياء بأن يجعلها تختفي … بتدميرها.

منذ تلك اللحظة، لم تعُد تصرفاتي محايدة، لم تكن غايات بحد ذاتها، كنت أخفضها إلى حدها الأدنى خوفًا من ارتكاب خطأ آخر. أصبحت فاترة الشعور، لا مبالية، مترددة! في الليل أمسك كرة «أرجوس» بشدة بين يدي، وأبكي، وأقول: «أرجوس … أرجوك عُد، حتى لو كنت قد ارتكبت خطأ فإنني أحبك أكثر من أي شيء آخر»، وعندما أحضر والدي كلبًا آخر … لم أنظر إليه … كان غريبًا، وصممت أن يظل هكذا.

تربية الأطفال كان يحكمها النفاق، أتذكر جيدًا يومًا بعينه، كنت أسير مع والدي، ورأيت طائرًا صغيرًا ميتًا، أخذته من الأرض دون تردد وأريته له. قال مسرعًا: «دعيه من يدك … ألا ترين أنه نائم؟»

الموت، كالحب، كان موضوعًا محرمًا. ألم يكن من الأفضل أن يقول لي إن «أرجوس» مات؟ كان يمكن لوالدي أن يضع ذراعيه حولي، ويقول: «كان مريضًا؛ ولذا قتلته لكي أضع نهاية لمعاناته … وهو أفضل حيث يوجد الآن.»

لا شك أنني كنت سأبكي أكثر، وأحزن عدة أشهر، وأذهب إلى حيث دفنوه، وأتكلم معه بالساعات … ومع ذلك كنت، شيئًا فشيئًا، سأنساه. كانت أشياء أخرى سوف تشغلني، ويتوارى حبي لأرجوس إلى خلفية الذهن كذكرى من ذكريات الطفولة السعيدة.

هكذا أصبح «أرجوس» موتًا صغيرًا … ما زلت أحمله في داخلي، ولذلك أقول إنني أصبحت كبيرة في سن السادسة؛ لأن القلق حلَّ محل الفرح، وعدم الاكتراث محل حب الاستطلاع.

هل كان أبي وأمي وحوشًا؟ بالقطع لا، كانا طبيعيين بالنسبة لزمنهما. في شيخوختها فقط بدأت أمي تحكي لي عن طفولتها. كانت صغيرة عندما ماتت أمها، كان أول الأطفال ولدًا مات بالتهاب رئوي في الثالثة، ووُلِدت هي بعده مباشرة، وكانت سيئة الحظ، ليس فقط لأنها «بنت»، وإنما أيضًا لكونها وُلدت في ذكرى موت «الولد». واحتفالًا بتلك المصادفة غير السعيدة ألبسوها لون الحداد قبل أن تُفطَم. كانت لأخيها صورة كبيرة بالزيت معلقة على مهدها، تذكِّرها — كلما فتحت عينيها — بأنها لم تكن سوى «بدل فاقد»! سوى نسخة باهتة من شيء أفضل. هل تتخيلين ذلك؟ كيف يمكن أن نلومها على برودها، على أخطائها، على إصرارها على الابتعاد عن الناس؟

حتى القردة التي يربُّونها في مختبرات التجارب، بمعزل عن الأمهات الحقيقيات، تنشأ حزينة فاقدة إرادة الحياة. ولو حفرنا عميقًا في الماضي لنعرف كيف كانت أمها، وأم أمها، مَن يدريك ماذا سنجد أيضًا؟

التعاسة تنتقل — دائمًا — عن طريق الخط الأنثوي؛ تهبط من الأم لابنتها مثل الخلل الوراثي. ورغم أنه يصبح أقل إلا أنه أكثر اتساعًا وعمقًا. كانت تلك الفترة مختلفة بالنسبة للرجال؛ حيث كانت لهم أعمالهم وحروبهم، وكان لطاقاتهم متنفس. نحن النساء لم يكن لنا شيء من ذلك، جيل بعد جيل كنَّا مقيدات بغرفة النوم والمطبخ والحمام، ووراء آلاف وآلاف الخطوات التي قطعناها، والحركات التي أنجزناها، مررنا بالأحزان نفسها، وبالإحباطات نفسها.

هل أصبحتُ داعية نسوية؟ لا! لا تقلقي، أنا أحاول فقط أن أرى ما وراء ذلك كله بوضوحٍ.

هل تتذكرين كيف كنا نقف على الصخرة، نشاهد الألعاب النارية فوق البحر، في عطلة البنك في شهر أغسطس؟

كنا — من وقت لآخر — نرى صاروخًا، لا يصل إلى السماء، ولكنه ينفجر، ويبعثر نجومه قبل موعده!

حسن! عندما أفكر في حياة أمي وجدتي، وفي حياة كثير من الناس الذين قد عرفت، تقفز إلى ذهني — دائمًا — تلك الصورة: ألعاب نارية تسقط على الأرض بدل أن تحلق في السماء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤