٢١ نوفمبر

قرأت مرة في مكان ما، أن «مانزوني» عندما كان يكتب روايته «الخطيبة»، كان يستيقظ كل صباح، متلهفًا للقاء شخصياته. أنا لا أستطيع أن أقول مثل ذلك عن نفسي، رغم طول الوقت الذي مرَّ، إلا أن ذلك لا يجعلني مسرورة عندما أتكلم عن أسرتي، فقد ظلت أمي في ذاكرتي بلا حراك، ظلت عدائية، مثل أحد جنود الانكشارية. هذا الصباح، في محاولة لوضع مياه صافية بيني وبينها، وبين نفسي وذكرياتي، رحت أتمشى حول الحديقة. كان المطر يهطل طوال الليل. السماء الآن صافية في الغرب، لكن غيومًا أرجوانية كانت ما تزال تتجمَّع وراء المنزل. دخلت قبل أن يهطل المطر ثانية. بعد فترة قصيرة هبَّت رياح رعدية، وأصبح الجو مظلمًا في الداخل؛ فاضطررت لإضاءة الأنوار. فصلت كهرباء التليفزيون والثلاجة تجنبًا لخرابهما بسبب البرق، ثم تناولت البطارية الصغيرة، ووضعتها في جيبي، وذهبت إلى المطبخ استعدادًا لجلستنا اليومية.

وبمجرد أن جلستُ شعرت بأنني لم أكن في حالة مزاجية جيدة، ربما كان في الجو تشوش كهربائي كثير … ولكن أفكاري كانت تصطرع، مثل الشرر؛ لذا قمت أنا و«باك» الجَسور يتبعني، وكنا نتجوَّل في المنزل بلا هدف. دخلت غرفة النوم التي كنت أنام فيها مع جدتك، ثم الغرفة التي أستخدمها هذه الأيام (وكانت غرفة نوم أمك ذات يوم)، ثم غرفة الطعام التي لا نستخدمها منذ فترة طويلة، ثم غرفتك. وأنا أتنقل بين الغرف، تذكرت الانطباع الذي تركه عليَّ المنزل عندما دخلته للمرة الأولى.

لم أكن أنا التي اخترته، وإنما زوجي «أوجستو»، وكان قد اختاره على عجل. كنا في حاجة لمكان نعيش فيه، ولم يكن تأجيل ذلك ممكنًا. منزل واسع بحديقة، ويفي بمتطلباتنا.

منذ لحظة دخولنا من باب الحديقة شعرت أنه خالٍ من الذوق، أو ربما في أسوأ حالات الذوق، الألوان والخطوط كلها متنافرة. من ناحية، كان أشبه بشاليه سويسري، ومن ناحية أخرى، يشبه منزلًا ألمانيًّا بجوار ترعة بشبَّاكه الدائري الكبير في الوسط وواجهة سطحه المدرجة. النظر إليه من بعيد، وهو يبدو بمداخنه السبع ذات الأشكال المختلفة، يجعلك تعتقدين أنه في ريف «الرايمز». منزل بُني في العشرينيات، ولكن لا شيء فيه من العشرينيات. مرَّت سنوات قبل أن أعتاد أنه منزلي، وأن جدرانه كانت محيط حياتي العائلية.

وأنا في غرفتك، حدثت ومضة برق فوق رأسي مباشرة، وانطفأت الأنوار كلها. بدل أن أضيء البطارية تمددت على الفراش. من الخارج كان يأتي صوت المطر المنهمر والرياح الشديدة، أما في الداخل فكان مزيج أصوات مختلفة؛ صرير، ارتطام مكتوم، صوت خشب يتمدد أو يتقلص، وأنا مستلقية مغمضة العينين، تخيلت المنزل سفينة شراعية كبيرة، سابحة وسط المساحة الخضراء. استمرت العاصفة حتى وقت الغداء تقريبًا، عندما لاحظت من شباك غرفتك أن فرعين كبيرين قد سقطا من شجرة اللوز.

الآن عدت إلى المطبخ، عدت إلى أرض المعركة. أكلت لقمة سريعة، وغسلت الصحون القليلة التي استخدمتها. «باك» نائم تحت قدمي مرهقًا بعد استثارة الصباح. كلما كبر، يصبح خوفه من الرعد والبرق أشد، ولا يعود إلى هدوئه إلا بصعوبة.

في أحد الكتب، التي اشتريتها عندما كنت تذهبين إلى الحضانة، قرأت أن اختيار الأسرة التي يولد فيها الشخص، محكوم بدورة الحياة. يكون لنا ذلك الأب أو تلك الأم تحديدًا، لأنهما، وليس سواهما، هما اللذان سيمكِّناننا أن نفهم شيئًا أكثر، أن نتقدم خطوة واحدة … صغيرة جدًّا. ولكنني في ذلك الوقت كنت أتساءل: إذا كان الأمر هكذا، كيف إذن تبقى عدة أجيال في حالة ثبات، ولا يحدث أي تقدم؟ ولماذا يحدث التراجع بدل التقدم؟

في الملحق العلمي للجريدة، قرأت مؤخرًا أن التطور قد لا يحدث دائمًا بالطريقة التي نتصورها. وطبقًا لأحدث النظريات، فإن التطور لا يحدث تدريجيًّا. استطالة ساق، أو تغيُّر شكل منقار ليتمكَّن من مصدر غذاء مختلف ويلتقطه، لا يحدث بالملِّيمتر، ولا جيلًا بعد جيل؛ قد يحدث فجأة تمامًا. الطفل المولود يمكن أن يأتي مختلفًا تمام الاختلاف عن أمه. ذلك ما تؤكده بقايا هياكل عظام الفك والحوافر والجماجم ذات الأسنان المختلفة. في أجناس بعينها لم توجد أبدًا أشكال وسطى؛ الجد لديه مجموعة سمات، لدى حفيده غيرها، مما يدل على وجود طفرة كبيرة في مدى جيل واحد … حدثت في غفلة من الزمن. ماذا لو كان ذلك هو الحال أيضًا في التفكير الإنساني؟

التغيرات تتراكم غير ملحوظة … قليلًا … قليلًا … ثم تنفجر فجأة. فجأة يكسر الدائرة شخص ما يريد أن يكون مختلفًا. القدر، الوراثة، التنشئة … أين تبدأ الواحدة، وتنتهي الأخرى؟ إذا توقفت، وفكرت في ذلك كله للحظة واحدة، يغمرك السر الكبير المخبأ فيها.

قبل أن أتزوج، بوقت قصير، طلبت أخت زوجي (تلك المتصلة بالأرواح) من أحد المنجمين أن يرسم لي برج طالعي. وجاءت ممسكة بالورقة وهي تقول: «ها أنت، وهذا مستقبلك.» كان على الورقة تخطيط هندسي، تتقاطع وتتشابك فيه الخطوط، من كوكب لآخر، مخلفة زوايا مختلفة. أتذكر أنني عندما رأيته، لم أجد فيه أي تناسق أو استمرارية. مجرد قفزات متتالية، وانحرافات حادة تبدو غير متوازنة. وعلى ظهر الورقة كتب المنجم: «طريقك صعب، سوف تحتاجين لأن تتسلحي بكل الفضائل، إن كان لا بد أن تمضي فيه حتى النهاية.»

أزعجني ذلك كثيرًا. حتى تلك اللحظة كانت حياتي رتيبة ومملة. نعم، كانت هناك مشكلات، ولكنها كانت تبدو لي بسيطة، لا أمواج عاتية … وإنما المويجات المعتادة للمراهقة.

حتى بعد أن كبرت، وأصبحت زوجة وأمًّا وأرملة وجدة، كنت دائمًا متعلقة بتلك الحالة العادية الظاهرية.

الحدث الوحيد الخارج على المألوف — إذا كان يمكن أن نقول ذلك — كان موت أمك المأساوي، وعلى كل حال، فإننا إذا تفحصنا الأمر جيدًا، فسنجد أن خريطة الأبراج تلك لم تكذب. تحت السطح المستوي الصلب والروتين الرتيب لحياتي، حياة الطبقة الوسطى، كانت هناك حركة متواصلة، جلبَتْها تقلبات وصعود وهبوط وتمزقات، ولحظات ظلام مفاجئ وصدوع وفجوات.

كنتُ مغمورة في اليأس طوال حياتي، أشعر بشعور الجندي الذي يحسب الوقت، ولكنه لا يبرح مكانه. الزمن تغير، الناس تغيروا، كل ما حولي تغير، ولكنني لم أتحرك من مكاني أبدًا، أو هكذا كان يبدو لي.

هذه الرتابة، هذه الوتيرية للمسيرة الساكنة، لم يمزقها سوى موت أمك. احترامي لنفسي، الذي لم يكن كبيرًا أبدًا، انهار في لحظة. فكرت … لو أنني كنت قد استطعت — حتى تلك اللحظة — أن أخطو خطوة أو خطوتين للأمام، لما وقعت للخلف فجأة، ووصلت إلى أعمق نقطة في طريقي. خلال تلك الأيام المرعبة كنت أخاف ألا أقدر أبدًا على المحاولة مرة أخرى، وأن الحد الأدنى من الإدراك الذي استطعت أن أحصل عليه حتى ذلك الحين قد تقوَّض بضربة واحدة، ولحسن الحظ لم أتخبط في تلك الحال الكئيبة طويلًا؛ الحياة استمرت بكل متطلباتها.

أصبحتِ أنت حياتي. عندما جئتِ صغيرة، لا حول لك ولا قوة، ولا أحد لك في العالم غيري، ملأتِ هذا المنزل الصغير الصامت بانفجارات الضحك المفاجئة … وبدموعك المفاجئة.

أتذكر منظر رأسك الكبير، وأنت طفلة صغيرة، تتأرجح بين الأريكة والطاولة، وأقول: لم ينته كل شيء. الحظ، بكرمه الذي لا يتوقعه أحد، أعطاني قطعة أخرى من الكعكة. الحظ، تلك الكلمة التي قال لي زوج «سينيورا موربورجو» — ذات مرة — أن لا وجود لها في اللغة العبرية. الكلمة الوحيدة التي تدل عليه، أو تشير إلى خاصيته العارضة، وهي «المصادفة» … كلمة عربية، غريبة! أليس كذلك؟ ولكنه أمر مطمئن.

حيث يوجد الله لا مكان للحظ … ولا حتى للكلمة البسيطة التي تعبِّر عنه. كل شيء مقدَّر، منظَّم من أعلى، كل شيء يحدث لك له سبب. كنت دائمًا أحسد الذين يعتنقون هذه النظرة للعالم، دون تردد عند الاختيار. بالنسبة لي، وبالرغم من كل محاولاتي، لم أتمكن — أبدًا — من امتلاك تلك النظرة لأكثر من يوم أو يومين في كل مرة. عندما كان يواجهني شيء مرعب، أو ظلم، كنت أتراجع، وبدل أن أبرره مع شعور بالرضا، كنت أشعر بحاجة ملحة لأن أعلن العصيان … وكان داخلي يغلي. الآن، على أية حال، أوشك أن أفعل شيئًا يعتمد على المصادفة بالفعل … أن أرسل إليك قبلة. كم تكرهين القبلات! إنها ترتد من على محارتك مثل كرة التنس، لكن لا يهم! سوف أرسلها إليكِ، سواء كنتِ تحبينها أم لا، ولن يمكنك أن تفعلي شيئًا إزاءها؛ لأنها في هذه اللحظة طائرة إليك فوق البحر خفيفة وشفافة.

أنا متعبة وحزينة. أعدت قراءة كل ما كتبت حتى الآن، وأنا قلقة. هل ستفهمين شيئًا منه؟ أفكار كثيرة تزحم عقلي، تتصادم وتتدافع، مثل زبائن الشراء في نهاية موسم الأوكازيون.

لا أستطيع أن أرتب أفكاري، أو أن أتبع خطًّا منطقيًّا من البداية إلى النهاية. وأتصور — أحيانًا — أن ذلك بسبب عدم ذهابي إلى الجامعة. قرأت كتبًا كثيرة، وكنت شغوفة بأشياء كثيرة … أحيانًا بالصحون، وأحيانًا بالمطبخ، وأحيانًا بالعواطف.

عندما يسير عالِم النبات في الحقل ليقطف الزهور، فهو ينتقي عيِّناته بعمدٍ وتروٍّ، يعرف ما يهمه وما لا يهمه. يختار ويترك، ويقيم علاقة سببية. ولكن الذاهب العابر إلى الحقل لقضاء عطلة، يختار الزهور بأسلوب مختلف؛ واحدة لأنها صفراء، وأخرى لأنها زرقاء، وثالثة لعطرها، ورابعة لأنها — بالمصادفة — كانت قد نمت هنا في الطريق الذي يسير فيه. أعتقد أن علاقتي بالمعرفة كانت هكذا، وكانت أمك دائمًا تلومني لذلك. عندما نتناقش كنت أستسلم بسرعة. كانت تقول: أنت لا تعرفين شيئًا بالمرة عن كيفية بناء حوار … مثل كل أبناء الطبقة المتوسطة، لا تعرفين كيف تدافعين عن أفكارك، ومثلما كنتِ أنت أسيرة قلق عنيف مجهول، كانت أمك أسيرة أيديولوجيا عنيفة مجهولة. كانت تؤنِّبني عندما أتكلم عن قضايا صغيرة بدل القضايا الكبيرة. وتقول إنني رجعية، مريضة بأوهام برجوازية. كانت وجهة نظرها أنني غبية؛ ولذا أدمنت الوفرة والترف، وبالطبع نزاعة للشر. كانت جريرتي هي الحياة في منزل مستقل بحديقة، بدل الحياة في مبنى من عدة شقق في ضاحية كئيبة. ذنبي مركَّب، لأنني ورثت دخلًا صغيرًا يوفر لي الأمرين. وفي محاولة لتلافي الأخطاء، التي ارتكبها والداي كنت أستمع إلى ما تقول، أو على الأقل، أبذل جهدًا لكي أفعل ذلك. لم يحدث أبدًا أن سخرت منها، أو جعلتها تدرك أن أفكارها الشمولية كانت غريبة عن أسلوبي في التفكير، رغم أنها لا بد أن تكون قد شعرت بارتيابي، بالدرجة نفسها، في مزاعمها وأفكارها المبتذلة. «إيلاريا» درست في جامعة «بادوا»، كان من الممكن، وبسهولة، أن تذهب إلى «تريستا»، ولكنها لم تكن لتقبل الاستمرار في العيش معي. في كل مرة أفكر في زيارتها؛ يكون الصمت العدائي هو الرد. سارت دراستها ببطء، لم أعرف مع من كانت تعيش، وهي لم تخبرني عن ذلك أبدًا. وحيث إنني كنت أعرف نقاط ضعفها؛ كنت قلقة عليها، وخاصة بعد ثورة الطلبة في باريس، واحتلال الجامعات. عندما كنت أستمع إلى تقارير إذاعية وتليفزيونية عن ذلك، كنت أدرك أن المسافة بيننا كانت تتسع وتتسع. كانت دائمًا متحمسة لشيء ما، وكان ذلك الشيء يتغير باستمرار. حاولتُ أن أفهمها كأي أم، ولكن الأمر كان في غاية الصعوبة. كان كل شيء تشنجيًّا، متقطعًا، سريع الزوال … أفكار جديدة كثيرة جدًّا … ومطلقات كثيرة جدًّا، وبدل أن تستخدم كلماتها، كانت تردد شعارًا بعد الآخر. كنت قلقة على حالتها العقلية. الإحساس بأنك جزء من جماعة تشترك في المسلمات نفسها، في الدوجمات نفسها، كان يقوِّي من غطرستها وعنادها الطبيعيين بدرجة مقلقة.

في أثناء عامها السادس بالجامعة، كنت شديدة القلق. بعد صمت طويل غير عادي ركبتُ القطار وذهبت لرؤيتها. لم أكن قد فعلت شيئًا كذلك طوال أيام وجودها في «بادوا». لحظة أن فتحت الباب بدت مروعة، وبدل أن ترحب بي هاجمتني: «من طلب منك المجيء إلى هنا؟»، ودون أن تعطيني فرصة للرد، واصلت هجومها: «كان لا بد أن تخبريني بقدومك، كنت خارجة، لديَّ امتحان مهم هذا الصباح.» وحيث إنها كانت ما تزال في ملابس النوم، بدت تلك كذبة واضحة، ولكنني تظاهرت بعدم الملاحظة، وقلت: «لا يهم، معنى ذلك أنني يمكنني أن أنتظر حتى ترجعي، ثم نحتفل باجتيازك الامتحان معًا.» كل ما فعلَتْه هو أنها خرجت مسرعة، ومندفعة، لدرجة أنها تركت كتبها على الطاولة.

وحيدة في تلك الشقة، فعلتُ ما يمكن أن تفعله أي أم؛ رحت أقلب في الأدراج بحثًا عن أي دليل عن أي شيء، يعينني على فهم الوجهة التي اتخذتها حياتها. لم أقصد أبدًا أن أتجسس عليها، أو أن أكون رقيبة أو فضولية. لم يكن ذلك أبدًا جزءًا من شخصيتي. كنت قلقة، والوسيلة الوحيدة لطمأنة عقلي هي البحث عن نقطة التقاء. باستثناء المنشورات، وكراسات الدعاية الثورية، لم أجد شيئًا، لا رسالة واحدة، لا مذكرات. على جدار غرفة نومها كان هناك ملصق كُتب عليه: «الأسرة كيان وهمي ومثير، مثل غرفة الغاز» … وكان ذلك مفتاحًا.

عندما عادت في منتصف النهار، كانت تبدو مرهقة تمامًا، كما كانت عندما خرجت. «كيف كان الامتحان؟» سألتها بكل هدوء ممكن. أجابت: «مثل كل الامتحانات.» ثم أضافت: ألهذا السبب جئتِ؟ جئت تفتشين عليَّ. ولكي أتجنب الدخول في جدل، قلت، محاولةً استرضاءها، إنني كانت لديَّ رغبة واحدة، وهي أن نتكلم معًا … فقط نتكلم معًا.

ردَّت في ارتياب: «نتكلم؟»، ثم «عمَّ نتكلم؟ عن حبك للتصوف؟»

قلت بهدوء: «نتكلم عنك يا «إيلاريا»» وحاولت أن أجعل عيوننا تتلاقى. سارت حتى النافذة، كانت نظرتها مثبتة على صفصافة باكية قاربت على الجفاف. «ليس لديَّ ما أقوله» ثم تحوَّلت نظرتها من الصفصافة إلى ساعة يدها، قائلة: «لقد تأخرت ولديَّ اجتماع مهم. لا بد أن تنصرفي.» لم أرضخ لرغبتها. قمتُ من مقعدي، وبدل أن أتجه صوب الباب، ذهبت إليها، وأخذت يديها في يدي: «ماذا يحدث؟ ماذا يؤلمك؟» سمعت صوت تنفُّسها يتسارع، قلت: «قلبي يوجعني عندما أراك في هذه الحال، حتى إن كنت ترفضينني كأم، أنا لا أرفضك كابنة، أريد أن أساعدك، ولكنك إن لم تلتقيني في منتصف المسافة؛ فلن أستطيع أن أفعل شيئًا.»

وهنا بدأت ذقنها ترتعش، كما كان يحدث لها وهي طفلة، عندما تكون على وشك البكاء. سحبت يديها، واستدارت بحدة نحو ركن الغرفة، كان جسدها الضئيل المنكمش يختلج ببكاء متشنج.

مسدتُ شعرها، رأسها ساخن بقدر ما يداها باردتان، وفجأة استدارت، وألقت ذراعيها حولي، وخبَّأت وجهها على كتفي.

«ماما … أنا … أنا …»

في هذه اللحظة بالتحديد رنَّ التليفون، همستُ في أذنها: «دعيه يرن.» قالت، وهي تجفف عينيها: «لا أستطيع.»

عندما رفعت السماعة، عاد صوتها إلى صلابته وتحفُّظه، ومن الحوار القصير، أدركت أن أمرًا خطيرًا لا بد أن يكون قد حدث، وفعلًا … بعد أن تركت السماعة، قالت: «أنا متأسفة، لكنك لا بد أن تذهبي الآن.»

خرجنا معًا، وعلى عتبة الباب سمحت لنفسها بضمة سريعة … كانت تشعر بالذنب. همستْ، وهي تضمني: «لا أحد يمكنه مساعدتي.» ذهبتُ معها إلى حيث كانت قد تركت دراجتها مربوطة بسلسلة في عمود قريب. جلست فوق الدراجة، وضعت إصبعين تحت عقدي، وقالت: «عقد اللؤلؤ! هذا جواز سفرك … لا يمكنك أبدًا أن تتحركي بدونه منذ يوم ولادتك.»

رغم أن ذلك حدث منذ وقت بعيد جدًّا، إلا أن ذلك الجزء من حياة أمك هو الذي يعود دائمًا ليطاردني من وقت لآخر، ودائمًا أفكر فيه، وأتساءل: لماذا من بين كل علاقتنا المشتركة، يظل هذا الحدث يقظًا في ذاكرتي؟ اليوم، وأنا أفكر فيه للمرة المليون، طرأ على ذهني قول مأثور: «اللسان يتجه دائمًا نحو الضرس الموجوع.» ربما تتساءلين: وما علاقة ذلك؟ إن له علاقة كبيرة. سبب مطاردة هذا الحدث لي باستمرار هو أنها كانت المرة الوحيدة التي كان يمكنني فيها أن أغيِّر الأمور؛ لقد انفجرت أمك باكية، وألقت بذراعيها حولي.

في تلك اللحظة كان شرخ دقيق قد حدث في محارتها، ثغرة صغيرة كان بالإمكان النفاذ منها … لو أنني نفذت، لفعلت مثلما تفعل المسامير التي تتمدد داخل الحائط؛ تتفلطح وتصنع لنفسها مكانًا. كان يمكن أن أصبح نقطة ثابتة في حياتها، ولكي أفعل ذلك كان يلزمني أعصاب قوية … جلد وجسارة. عندما قالت إنني لا بد أن أذهب؛ كان لا بد أن أبقى، كان ينبغي أن أستأجر غرفة في فندق قريب، وآتي لأدق بابها كل يوم … بمثابرة وإصرار، حتى تصبح تلك الثغرة في محارتها ممرًّا أدخل منه إليها.

كانت هناك فرصة أحسست بها، ولكنني لم أفعل؛ الجبن والكسل والشعور الزائف بالتحفظ … ذلك هو ما جعلني أفعل ما طلبته مني.

كنت أكره تدخُّل أمي في حياتي، وكنت أحاول أن أكون أمًّا مختلفة، وأن أحترم استقلاليتها. إن قناع الحرية يخفي عادة غياب الاهتمام والرغبة في عدم التورط. هناك خط دقيق بين الاثنين، واجتياز الخط أو عدم اجتيازه … عمل لحظي، قرار قد يتخذه المرء، وقد لا يتخذه. وبعد أن يكون الوقت قد مرَّ يدرك المرء كم كانت تلك اللحظة مهمة. حينذاك فقط تشعرين بالندم، عندما تدركين أن التدخل، وليس الحرية، كان هو المطلوب. كنت هناك، وتعرفين ما يحدث، ومن تلك المعرفة كان لا بد أن ينبع الالتزام بالتصرف. الحب ليس صديقًا للكسالى؛ لكي يتحقق بكماله، فإنه يتطلب عملًا قويًّا ومحددًا أحيانًا، هل فهمت؟ لقد دفنت جبني وكسلي في ثياب الحرية النبيلة!

الوعي بالقدر لا يتحقق إلا مع العمر. في مثل عمرك، الناس لا يفكرون فيه عادة. نحن ننظر إلى أي شيء وكأنه نابع من إرادتنا. نشعر بشعور العمال الذين يضعون طبقة من الحجر فوق أخرى لكي يمهدوا لنا الطريق الذي نتحرك عليه. بعد ذلك بكثيرٍ، نكتشف أن الطريق هناك، وأن شخصًا آخر قد مهَّده لنا، وأن كل ما علينا هو أن نسير عليه … ونواصل السير.

نحن نصل عادة إلى هذا الاكتشاف في عمر الأربعين، عندها يبدأ إدراكنا أننا لسنا مسئولين عما يحدث.

إنها لحظة خطيرة، عندما يكون الوقوع في القدرية الخانقة عامًّا؛ لكي نرى تصاريف القدر على حقيقتها لا بد أن تمر سنوات أخرى. في الستين تقريبًا، عندما يكون الطريق خلفنا قد أصبح أطول مما هو أمامنا، ندرك شيئًا لم نكن قد أدركناه أبدًا من قبل، ندرك أن الطريق الذي قطعناه لم يكن مستقيمًا، كان مليئًا بالمنعطفات. عند كل خطوة كان هناك سهم يشير نحو اتجاه آخر … ممر ضيق يظهر في هذا الجانب، ممر آخر مختفٍ بين الأشجار … لقد اتجهنا ومشينا في بعض تلك الطرق الجانبية دون أن ندرك … وهناك طرق ودروب وممرات أخرى لم ندرك أنها كانت موجودة. تلك التي مررنا عليها ولم نلحظها، تؤدي إلى أماكن لا نعرفها، ولا يمكننا أن نعرف إن كانت أفضل أو أسوأ في النهاية، ولكن، رغم عدم معرفتنا، إلا أنها تعتمل في الذهن. كان يمكن أن نفعل شيئًا، ولكننا لم نفعل، سرنا إلى الخلف بدلًا من أن نمضي إلى الأمام. هل تتذكرين لعبة السلم والثعبان؟ هكذا الحياة! وأنت تمرِّين بمنعطفات كثيرة في طريقك، ستواجهين حيوات أخرى، وسواء عرفتِها أم لا، مارستِها حتى النهاية أو تجاهلتِها، فإن ذلك سوف يتوقف في النهاية على اختياراتك اللحظية التي تتخذينها.

حتى وإن كنت غير واعية بذلك، فإن حياتك كلها، وحياة من هم قريبون منك، يمكن أن تتوقف على اختيارك بين مواصلة السير على طريق مستقيمة، أو اتخاذ انعطافة جانبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤