١ ديسمبر

أشعر هذه الأيام بأني منحرفة المزاج، لا يوجد سبب معين لذلك، ولكن … هكذا حال الجسد. له تشققاته، توازناته الداخلية … ويمكن لأي شيء تافه أن يخرجه عن انتظامه. صباح الأمس، عندما أحضرت لي سنيورا «رازمان» احتياجاتي من السوق، ورأت كيف كنت مكتئبة، قالت: ربما كان لذلك علاقة بالقمر: ليلة الأمس كان القمر بدرًا، وإذا كان القمر يمكن أن يؤثر على حركة المد والجزر، ويجعل نبات الفجل ينمو أسرع في الحقول، فلماذا لا يكون له أثر على مزاجنا أيضًا؟ وهل نحن سوى ماء وغاز ومعادن؟ على أية حال، قبل أن تنصرف تركت لي مجموعة من المجلات القديمة التافهة، قضيت يومًا كاملًا أقلب صفحاتها. وفي كل مرة كنت أجدني مشدودة إليها. عندما أمسك بواحدة منها أقول في البداية إنني سوف أتصفحها لمدة نصف ساعة مثلًا ثم أذهب لإنجاز شيء … ثم أجدني أندمج معها، ولا أتركها قبل أن أقرأها كلمة كلمة. الحياة الحزينة لأميرة موناكو تجعلني حزينة، علاقات الحب الشائعة لشقيقتها تجعلني غاضبة، كل حكاية عاطفية، تُروى بتفاصيلها، تجعل قلبي يدق بسرعة! ثم تلك الرسائل، لا أملك أن أمنع نفسي من الدهشة أمام ما يكتبه الناس. لست ضيقة الأفق، ولا أعتقد أنني مختلفة، ولكنني لا أنكر أن الصراحة المطلقة تحيرني بعض الشيء.

الجو اليوم أكثر برودة؛ لم أقم بجولتي المعتادة في الحديقة خشية الرياح الباردة. كما أن البرد الذي أشعر به في داخلي يجعل عظامي تطقطق مثل غصن جاف في الصقيع. أتساءل … ولست أدري إن كنتِ ما زلتِ تقرئين خطبتي الطويلة هذه، أو ربما، لأنك الآن تعرفينني على نحو أفضل، تشعرين بالنفور، ولا تستطيعين إكمال قراءتها.

الشعور بإلحاح الأمر المستحوذ عليَّ، لن يسمح بإخفاء شيء من الحقيقة؛ لذا لا أستطيع أن أتوقف الآن، أو أن أنتقل إلى شيء آخر.

ورغم أنني احتفظت بهذا السر لمدة سنوات، إلا أنني لا أستطيع أن أفعل ذلك طويلًا. عندما كنتِ في حيرة؛ لأنه ليست لك هوية، أخبرتك كيف يمكن أن تبدئي، وشعرت أنا أيضًا بحيرة مماثلة، وربما أكبر. أعرف أن إحساسك بالهوية — أو ربما عدم وجودها — كان مرتبطًا بحقيقة أنك كنتِ تجهلين من هو أبوك! كان من الطبيعي أن أخبرك أين ذهبت أمك على هذا النحو المأساوي، ولكن عندما قمتِ باستجوابي عن أبيك لم أستطع أن أعطيك إجابة. كيف كان يمكن؟ ليس لديَّ أية فكرة عمن كان!

ذات صيف، ذهبت «إيلاريا» إلى تركيا بمفردها لقضاء إجازة طويلة، وعندما عادت كانت حاملًا. كانت فوق الثلاثين، وفي ذلك العمر يمكن أن تقع النساء، اللواتي ليس لديهن أطفال، تحت هواجس غريبة؛ يردن طفلًا بأي ثمن، كيف؟ ومع من؟ ليس مهمًّا.

بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم النساء — في ذلك الوقت — كنَّ من أنصار الحركة النسوية، وكانت أمك، ومجموعة من صديقاتها، قد كوَّنَّ جمعية لذلك. كثير من أفكارهن كان يبدو صحيحًا، كانت هناك أفكار شاركتهن فيها، لكن تشعبَتْ بينها مفاهيم غير طبيعية وغير صحية وشائهة.

أحد هذه المفاهيم، أن المرأة هي الحكم الوحيد في كل ما يحدث لجسدها، وحدها هي التي تقرر إن كان لا بد أن تنجب طفلًا أم لا، أما الرجل فليس سوى احتياج بيولوجي، ويجب أن يُعامَل على هذا الأساس. لم تكن أمك وحدها في ذلك، اثنتان أو ثلاث من صديقاتها أنجبن أطفالًا في ظروف مشابهة.

الواحد منا يمكن أن يفهم ذلك إلى حد ما: القدرة على الإنجاب تخلع على المرء إحساسًا بالقدرة المطلقة؛ الموت، الظلام، عدم الثقة … كل ذلك يتراجع عندما تدخلين جزءًا منك إلى هذا العالم، وتلك المعجزة تجعل كل شيء آخر لا علاقة له بالمسألة.

ولكي يدعمن قناعاتهن، كانت أمك وصديقاتها يشرن إلى الحيوانات، يقلن إن «الأنثى لا تلتقي بالذكر إلا لحظة الجماع، بعد ذلك تتفرق بينهما السبل، ويبقى المولود مع الأم.» لا أستطيع أن أؤكد إن كان ذلك صحيحًا أم لا، ولكنني أعرف أننا بشر، وأن كلًّا منا يُولَد بوجه فريد، لا مثيل له، يحمله معه طيلة حياته. الظبي يولد بخطم وفكي ظبي، الأسد أسدًا، كل واحد مطابق لبقية أفراد نوعه. في الطبيعة الملامح لا تتغير، بينما الإنسان والإنسان فقط، له وجه! وجه، أتفهمين؟ الوجه يقول كل شيء. يحمل تاريخك فيه، أباك، أمك، أجدادك، أجداد أجدادك، وربما يحمل أيضًا عمًّا قديمًا لم يعُد يتذكره أحد. وخلف الوجه توجد الشخصية، الأشياء، الحسنة وغير الحسنة، التي ترثينها عن أسلافك. الوجه هو بيتنا الأول، يجعلنا قادرين على أن نجد مكاننا في الحياة، يعلن ها أنا ذا! هذا أنا! لذلك عندما كنت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، وبدأت تقضين الساعات في كل مرة، وأنت تنظرين إلى نفسك في المرآة، كنت أعرف إلى ماذا تنظرين! كنتِ، بالطبع، تنظرين إلى حب الشباب، وإلى أنف خرج فجأة عن حجمه … ولكن كانت هناك إلى جانب ذلك أشياء أخرى.

كنتِ تطرحين، أو تحسبين الملامح التي جاءت من جهة أمك في الأسرة، كنت تحاولين أن تتخيلي وجه ذلك الرجل الذي جاء بك إلى هذا الوجود. كان ذلك، بالتحديد، هو العامل الذي لم تفكر فيه أمك وصديقاتها جيدًا: أن الطفل عندما ينظر يومًا في المرآة، سيدرك أنه كان هناك شخص آخر، ويتمنى أن يعرف كل شيء عنه. بعض الناس يقضي حياته كلها في محاولة لتتبع ملامح الأب أو الأم.

كانت «إيلاريا» مقتنعة بأن الوراثة تلعب دورًا ضئيلًا في نمو الطفل، بينما التربية وكل ما يحيط به، وأسلوب التنشئة هي العوامل الأهم. أنا لا أوافق على هذه النظرة، وأرى أن لكليهما … الوراثة والبيئة أهمية متساوية؛ التنشئة مسئولة عن النصف، وما نحمله معنا — منذ الميلاد — مسئول عن النصف الآخر.

قبل ذهابك إلى المدرسة، لم تكن ثمة مشكلة. فأنتِ لم تسألي أبدًا عن أبيك، وأنا بدوري كنت حريصة على عدم إثارة الموضوع، ولكن … بمجرد أن دخلتِ المدرسة الابتدائية، ومن الكلام مع بقية البنات، وموضوعات التعبير الضارة التي يقترحها المدرسون، أصبحتِ مدركة أن هناك شيئًا مفقودًا في حياتك اليومية. كان معك في الصف أطفال من أسر محطمة بالتأكيد، ومن مستويات اجتماعية غير عادية، ولكن لم يكن، في حياة أحد منهم، مثل ذلك الغموض المتعلق بالأب.

كيف كان يمكنني، وأنتِ في السادسة أو السابعة، أن أشرح لك ما فعلته أمك؟ بالإضافة إلى أننا لو فكرنا في الأمر، لا أجدني أعرف سوى أنها حملت بك في تركيا … وهذا هو كل شيء؛ لذا، لكي أخترع قصة، لا تكون مستحيلة التصديق كلية، بدأت من الحقيقة الوحيدة المؤكدة: بلد المنشأ!

اشتريت كتابًا عن الخرافات الشرقية، وكنت أقرأ لكِ حكاية كل ليلة. مستخدمة الخرافات كنماذج، اخترعت حكاية لك خصوصًا. هل ما زلت تتذكرينها؟ كانت أمك أميرة، وأبوك أميرًا على القمر الهلال. ومثل كل الأمراء والأميرات أحب كلاهما الآخر، وكان على استعداد للموت فداء له. لكن، كان هناك في البلاط كثيرون يغارون من ذلك الحب. كان أكثرهم غيرة وحقدًا … الوزير الأول، وكان رجلًا قويًّا وشريرًا، وهو الذي مارس سحره الخبيث على الأميرة والطفل، الذي كانت تحمله في رحمها. ولحسن حظ الأميرة، حذرتها خادمة أمينة، وهكذا تمكنت أمك من الهرب، ذات ليلة، في ثياب فلاحة، ووجدت ملجأ هنا في المدينة التي ولدت بها.

وكنت تسألين: «أنا ابنة أمير؟» وكانت عيناك تلمعان.

«نعم يا حبيبتي، ولكنه سر غامض … غامض، ولا يجب أن تبوحي به لأحد.»

ماذا كنت أحاول أن أفعل بتلك الكذبة الفاحشة؟ لا شيء سوى أن أمنحك سنوات قليلة خالية من الهم. كنت أعرف أنك يومًا ما لن تستمري في تصديق تلك الحكاية الخرافية، وكنت أعرف أيضًا أن هناك احتمالَ أن تكرهيني عندما يحدث ذلك. ولكن، كان من المستحيل ألا أحكي لك القصة. حتى لو كنت قد استجمعت كل ما تبقى لديَّ من شجاعة، ما كان بوسعي أن أقول لك: «ليس لديَّ فكرة عمن يكون أبوك … وربما ليس لدى أمك أيضًا.»

كانت سنوات تحرر جنسي … عندما كانوا يعتبرون النشاط الجنسي وظيفة تتم عندما يريد الشخص يومًا مع شريك، ويومًا آخر مع غيره. كان لأمك عشرات الأصدقاء، ولكنني لا أعرف من بينهم أحدًا استمرت علاقتها به أكثر من شهر.

«إيلاريا» التي كانت غير مستقرة، وقلقة بطبيعتها، كانت متأثرة، أكثر من معظمهن، بحياة الحب الخطرة تلك. ورغم أنني لم أمنعها من فعل أي شيء تريده، ولم أنتقدها، على أي نحو، مهما كان، إلا أنني كنت أرى تلك الإباحية شيئًا مقلقًا. لم تكن الفوضى الجنسية بالتحديد هي التي صدمتني، وإنما عملية إفقار الحواس … مع اختفاء المحرمات والإحساس بفرادة الذات، اختفت العواطف. كانت «إيلاريا» وأصدقاؤها أشبه بضيوف في حفل مصابين بنزلة برد، ويأكلون ما يوضع أمامهم بدافع من اللباقة، حتى ولو كان كل الطعام … الجزر، اللحم البارد، الحلوى … له نفس الطعم.

اختيار أمك كانت تمليه عليها — جزئيًّا — الإباحية الجديدة، وربما شيء آخر إلى جانب ذلك. ما مدى علمنا بنشاط العقل؟ كثير، ولكن ليس كل شيء. من يستطيع أن يقول إنها في لاوعيها العميق كان لديها شعور حدسي أن الرجل الذي كانت تراه يوميًّا لم يكن أباها؟ هل كان قلقها، وعدم استقرارها نابعين من ذلك؟ كان ذلك سؤالًا لم أسأله لنفسي أبدًا عندما كانت صغيرة، ولا أثناء مراهقتها، ولا في بداية عهدها بالأنوثة. الحكاية التي أحطتها بها كانت محكمة، ولكنها عندما رجعت من إجازتها حبلى في شهرها الثالث، بدا لي أن لا مفر من الأكاذيب والزيف، أو بالأحرى، يمكنك أن تهربي لبعض الوقت، ولكن الأكاذيب تظهر فجأة من حيث لا تتوقعين، ويصبح من الصعب السيطرة عليها، كما حدث عندما قلتها في أول مرة، وأنت تظنين أن لا ضرر منها، ولكنها تتحول إلى وحوش ضارية ومرعبة. بمجرد أن تقع عليها عيناك، تطرحك أرضًا وتلتهمك، وكل ما حولك، في جشع بالغ.

ذات يوم وأنت في العاشرة، رجعتِ من المدرسة، وصرختِ في وجهي … «كذابة»، ودخلت، وحبست نفسك في غرفتك؛ لقد اكتشفت أن «الحدوتة» كانت كذبة.

«الكذابة» … يمكن أن يكون ذلك عنوانًا لسيرتي الذاتية، لقد كذبت مرة واحدة منذ أن ولدت، ولكنها كذبة دمرت حياة ثلاثة أشخاص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤