البحث عن المعنى

من مظاهر الاهتمام الحار بالثقافة العربية — قديمها وجديدها — في العالم الأنجلو-سكسوني اليوم صدورُ سلسلة جديدة عن دار «رتلدج» للنشر (لندن/نيويورك) عنوانها «الفكر والثقافة العربيان». وقد صدر من هذه السلسلة حتى الآن سبعة كتب: الفارابي، ابن سينا، ابن خلدون، ابن رشد، موسى بن ميمون، الموروث اللغوي العربي، التراث الكلامي في الإسلام (في المطبعة الآن كتابٌ ثامن عن ابن عربي). وأخيرًا الكتاب الذي أعرض له هنا: «نجيب محفوظ: البحث عن المعنى»،١ من تأليف الدكتور رشيد العناني، المُحاضر في الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر البريطانية.٢

وقد قدَّم الناشر للكتاب بكلمة يقول فيها إن محفوظًا أهمُّ قاصٍّ عربي في هذا القرن. وإذ وُلد في ١٩١١ كانت حياته الأدبية الطويلة الغزيرة الإنتاج مرآة لتطور الرواية، من حيث هي جنس أدبي، في اللغة العربية. إنَّ كتبه سِجل غني للتوترات المأسوية التي تحفُّ ببحث أمته عن الحرية والتحديث. وقد تُوِّجت هذه الحياة بحصوله على جائزة نوبل للأدب في ١٩٨٨.

وفي هذه الدراسة الشاملة لإنجاز محفوظ يقدِّم رشيد العناني عرضًا منهجيًّا لحياة كاتبه وبيئته، والمؤثرات المحلية والأجنبية في أدبه، وعناصر فكره وتقنيته وتطور صنعته الكتابية. وعلى حين يخصِّص قسمًا مستقلًّا لكل كتاب من كتبه — تقريبًا — فإنه يؤكد عناصر الاستمرار في عمله من حيث الخيوط الفكرية والتقنيات الفنية على السواء. ويوجِّه سهامه، بوجه خاص، إلى التقسيم التقليدي لإنتاج محفوظ إلى أربع مراحل؛ تاريخية، وواقعية، وحداثية، وأصيلة أو تراثية. فعنده أن كل هذه المراحل تتداخل، ويأخذ بعضها برقاب بعض في نتاجه المتنوع الذي لا يخشى التجريب.

والكتاب، بمعنًى من المعاني، هو قصةُ رفض محفوظ لقوالب القصة الغربية — بعد تلمذة باكرة لها — من أجل التعبير عن رؤيته الخاصة للإنسان والمجتمع، وذلك — في مرحلته الأخيرة بخاصة — من خلال أشكال تستوحي فنون القص العربية (كتاب ألف ليلة وليلة، السِّيَر والملاحم الشعبية، الحكاية والنادرة … إلخ).

صدَّر رشيد العناني كتابه بقول محفوظ عن بطله كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»: «لفَّه شعور بأنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر وقانون الوراثة ونظام الطبقات … وتراءى له شخصه التعيس وهو يقف وحده أمام هذه القوى مجتمعةً، وجرحه ينزف فلا يظفر بآسٍ.» وفي هذا لفتٌ إلى الموقع المركزي الذي تحتله أزمةُ كمال الروحية والفكرية من إنتاج محفوظ.

وفي الفصل الأول «الكاتب وعالمه» يتحدث المؤلف عن طفولة محفوظ وأسرته وبيئته المحلية وتعليمه والمؤثرات الفكرية فيه ومعتقداته السياسية وتعاطفاته ووظيفته الحكومية وصورته الشخصية. والفصل وافٍ بالغرض، وإن كان يغطي أرضًا قطعها — باقتدار — محمد جبريل في كتابه المسمَّى «نجيب محفوظ: صداقة جيلَين» الذي لا يذكره المؤلف. وهو يستخدم مقتطفات من أعمال محفوظ لإلقاء الضوء على المهاد السياسي والاجتماعي الذي شبَّ في ظله، فيتحدث مثلًا عن ثورة ١٩١٩، ويورد من رواية «المرايا».

(عرفت في ذلك الصباح أن جارنا الشاب أنور الحلواني قد قُتل برصاصة في مظاهرة بيدِ جندي إنجليزي. عرفت لأول مرة فِعل «القتل» في تجربة حية لا في حكاية من الحكايات الشعبية، وسمعت لأول مرة عن «الرصاصة» في أول اتصال سمعي بإحدى منجزات الحضارة، وثَمة لفظة جديدة أيضًا «مظاهرة» استدعت الكثير من الشرح والتفسير، وربما لأول مرة سمعت عن ممثل جنس بشري جديد في حياتي الصغيرة هو «الإنجليزي».)

ويتحدث العناني عن قراءات محفوظ لروايات المغامرة عند رايدر هاجارد، وروايات السير ولتر سكوت التاريخية، ورومانسيات المنفلوطي، وثورة طه حسين الفكرية، ودعوة سلامة موسى إلى العلم والاشتراكية والصناعة وتحرير المرأة، ومزج العقاد للأدب بالفلسفة، وسني دراسته الجامعية.

ويورد العناني من مقابلة أُجريت مع محفوظ قولَه إن أهمَّ الكُتاب الذي شدوا انتباهه هم: تولستوي، دستويفسكي، تشكوف، موباسان، بروست، كافكا، شكسبير، أونيل، إبسن، سترندبرج، بكت، ملفل، دوس باسوس. ولم يحب همنجواي إلا في رواية واحدة «العجوز والبحر»، بينما نفر من فوكنر لصعوبته. ويُثني على رواية جوزيف كونراد «قلب الظلمات»، بينما يصف «الرواية الجديدة» (روب جرييه، ميشيل بوتور … إلخ) بأنها هراء.

وفي الفصل الثاني «النظر إلى الوراء إلى الحاضر: الروايات التاريخية»، يتضمن العنوان — كما هو واضح من المفارقة الظاهرة فيه — أن روايات محفوظ التاريخية إنما هي إسقاط على الحاضر: عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة. ويتحدث عن الشكل في هذه الروايات، ثم يردفها ﺑ «أمام العرش» و«العائش في الحقيقة» وإن كانتا تنتميان إلى فترة أحدث.

و«أمام العرش» — التي تحمل عنوانًا فرعيًّا هو «حوار مع رجال مصر من مينا حتى أنور السادات» — عرض لتاريخ مصر السياسي، يرجع إلى الوراء ٥٠٠٠ سنة، بدءًا بمينا من الأسرة الأولى موحِّد الوجهَين البحري والقبلي، وانتهاءً باغتيال السادات. و«العرش» هنا هو عرش أوزيريس، رب العالم الآخر الذي يمثل أمامه حكام مصر بحسناتهم وسيئاتهم كي يقضي في أمرهم. يقول مصطفى النحاس، مثلًا، لجمال عبد الناصر: «أغفلت الحرية وحقوق الإنسان، ولا أنكر أنك كنت أمانًا للفقراء، ولكنك كنت وبالًا على أهل الرأي والمثقفين، وهم طليعة أبناء الأمة، انهلَّت عليهم اعتقالًا وسجنًا وشنقًا وقتلًا حتى أذللت كرامتهم وأهنت إنسانيتهم ومحقت إيجابيتهم … ليتك تواضعت في طموحك، ليتك عكفت على إصلاح وطنك وفتح نوافذ التقدم له في شتى مجالات الحضارة، إن تنمية القرية المصرية أهم من تبنِّي ثورات العالم، إن تشجيع البحث العلمي أهمُّ من حملة اليمن، ومكافحة الأمية أهمُّ من مكافحة الإمبريالية العالمية، وا أسفاه! لقد ضيعت على الوطن فرصة لم تُتَح له من قبل!»

أما «العائش في الحقيقة» فهو إخناتون صاحب الثورة الروحية العظيمة، والرجل الذي اختلفت فيه الآراء بين مادح وقادح؛ فالكاهن الأكبر مثلًا يقول إنه «كان ضعيفًا لحدِّ الحقد على الأقوياء جميعًا من رجال وكهنة وآلهة. وقد اخترع إلهًا على مثاله في الضعف والأنوثة، تصوِّره أبًا وأمًّا في وقت واحد، وتصور له وظيفة وحيدة هي الحب … وغرق في مستنقَع الحماقة معرضًا عن واجباته الملكية، حتى ضاعت الإمبراطورية وخربت مصر.» وإن كانت هذه الآراء تصطبغ — كما هو طبيعي — بمصالح المتكلم وموقعه من الصراع بين ديانة آمون القديم والمعبود الجديد آتون.

والفصل الثالث «أوجاع الميلاد الجديد: صراع الماضي والحاضر» يتناول خمس روايات، هي: خان الخليلي، القاهرة الجديدة، زقاق المدق، السراب، بداية ونهاية. والخيط المهيمِن على هذه الأعمال هو صراع القديم والجديد أو نظامَين من القيم؛ أحدهما يتمرغ في طمأنينة الموروث، والآخر ينجذب إلى التحديث الغربي بكل ما يحفُّ به من أخطار.

فرواية «خان الخليلي» تغطي عامًا من حياة أسرة قاهرية خلال الحرب العالمية الثانية من سبتمبر ١٩٤١ إلى أغسطس ١٩٤٢، وذلك أثناء غارات الألمان الجوية على مدينة القاهرة.

و«القاهرة الجديدة» محورها الاختيارات المعنوية على المستويَين الشخصي والاجتماعي. و«زقاق المدق» (١٩٤٧) ترتدُّ بنا إلى الأحياء الشعبية التي التقيناها في رواية «خان الخليلي». إن مصر ما زالت في قبضة الحرب العالمية الثانية، وإن تكن قد قطعت في طريق التقدم بضع خطوات. والأحداث — فيما يبدو — تدور في أواخر ١٩٤٤ أو أوائل ١٩٤٥. والحرب على أية حال تنتهي قبل انتهاء أحداث الرواية..

أما «السراب» (١٩٤٨) فتنقلنا من أحياء القاهرة القديمة إلى ضاحية المنيل جنوب غربي العاصمة، ومن فقراء زقاق المدق ننتقل إلى الطبقة المتوسطة والطبقات الموسرة، حيث أسرة غنية من أصل تركي. وبخلاف الحال في «خان الخليلي» و«زقاق المدق» لا نجد للحرب دورًا هنا، وإنما نحن في نقطة غير محدَّدة من عقد الثلاثينيات. وأهم من ذلك أن بؤرة الاهتمام تنتقل من المجتمع إلى الذات الفردية؛ فالواقع هنا نفساني أكثر منه ناتوراليًّا أو طبيعيًّا.

و«بداية ونهاية» (١٩٤٩) مسرحها القاهرة في منتصف الثلاثينيات وأحياء شبرا الفقيرة. وتنمُّ الرواية على عمق في الرؤية وسيطرة على التقنية لا عهد لمحفوظ بهما من قبل، مع رؤية مأسوية تؤكد دور القدر — ميتافيزيقيًّا واجتماعيًّا — في تقرير مصائر الأفراد.

فإذا كان الفصل الرابع «الزمن والإنسان: أربع حكايات مصرية» حدَّثنا رشيد العناني عن الثلاثية، وروايات: الباقي من الزمن ساعة، يوم قُتل الزعيم، قشتمر. عند العناني أن بطل الثلاثية هو الزمن؛ تلك القوة المجهولة التي تحمل البشر على تيارها، والتي أجهدت عقولًا من طبقة زينون الإيلي وكانط وبرجسون وهيدجر (هذه الملحوظة الأخيرة من عندي). أما «الباقي من الزمن ساعة» فتسجل التاريخ السياسي لمصر في القرن العشرين منذ ثورة ١٩١٩ ضد الاحتلال البريطاني حتى اتفاقيات كامب دافيد وتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في ١٩٧٩، ثم تتوقف الرواية قبل اغتيال السادات في ١٩٨١. وهذا الحادث الأخير هو محور رواية «يوم قُتل الزعيم»، وهي عملٌ متوسط الطول يقع في أقل من تسعين صفحة.

ورواية «قشتمر» عن تغيرات المجتمع المصري وأثرها في حيوات الأفراد عبر رقعة زمنية طويلة. وبدلًا من أن تتناول أجيالًا من أسرة واحدة، تحدِّث عن مجموعة من الأصدقاء يمثِّلون — فيما بينهم — قطاعًا من مجتمع المدينة. ويغلب على الرواية طابع النوسطالجيا أو الحنين إلى الماضي كما يبدو من فاتحتها:

«العباسية في شبابها المنطوي، واحة في قلب صحراء مترامية؛ في شرقيها تقوم السرايات كالقلاع، وفي غربيها تتجاور البيوت الصغيرة مزهوَّةً بجدتها وحدائقها الخلفية. تكتنفها من أكثر من ناحية حقولُ الخضر والنخيل والحناء وغابات التين الشوكي. يشملها هدوءٌ عذب وسكينةٌ سابغة لولا أزيز الترام الأبيض بين الحين والحين في مسيرته الدائبة ما بين مصر الجديدة والعتبة الخضراء. ويهبُّ عليها هواء الصحراء الجاف، فيستعير من الحقول أطيابها مثيرًا في الصدور حبها المكنون. ولكن عند الأصيل يطوف بشوارعها عازف الرباب المتسوِّل بجلباب على اللحم، حافيًا جاحظ العينين، يشدو بصوت أجشَّ لا يخلو من تأثير نافذ:

آمنت لك يا دهر
ورجعت خنتني.»

والفصل الخامس «الحلم المجهض: على الأرض كما في السماء» يتناول روايات: اللص والكلاب، السمان والخريف، الطريق، الشحاذ، ثرثرة فوق النيل، ميرامار، الحب تحت المطر، الكرنك، قلب الليل، عصر الحب، أفراح القبة. وفي أولى هذه الروايات «اللص والكلاب»، يُلحُّ محفوظ على عنصر العبثية في تصريف شئون الكون:

«تعب بلا فائدة؛ ذلك أنك قتلت شعبان حسين. من أنت يا شعبان؟ أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني. هل لك أطفال؟ هل تصوَّرت يومًا أن يقتلك إنسان لا تعرفه ولا يعرفك؟ هل تصوَّرت أن تُقتَل بلا سبب؟ أن تُقتَل لأن نبوية سليمان تزوجت من عليش سدرة؟ وأن تُقتل خطأً ولا يُقتل عليش أو نبوية أو رءوف صوابًا؟ وأنا القاتل لا أفهم شيئًا، ولا الشيخ علي الجنيدي نفسه يستطيع أن يفهم. أردت أن أحل جانبًا من اللغز فكشفت عن لغز أغمض.»

أما في باقي الروايات فيتناول محفوظ خيوط العلاقة بين الفرد والسلطة، والبحث عن الحرية والكرامة والأمن، والسعي الميتافيزيقي، والبحث عن معنى الحياة. وتدور هذه الخيوط في سياق وجودي-تاريخي كما في تأملات أنيس زكي (ثرثرة فوق النيل):

«هل اجتمع هؤلاء الأصدقاء — كما يجتمعون الليلة — بثياب مختلفة في العصر الروماني؟ وهل شهدوا حريق روما؟ ولماذا انفصل القمر عن الأرض جاذبًا وراءه الجبال؟ ومَن مِن رجال الثورة الفرنسية الذي قُتل في الحمام بيد امرأة جميلة؟ وما عدد الذين ماتوا من معاصريه بسبب الإمساك المزمن؟»

وكذلك المقتطف من تأملات الحكيم المصري القديم إيبو-ور وهو ينشد فرعون:

«إن ندماءك كذبوا عليك.
هذه سنوات حرب وبلاء.
ما هذا الذي حدث في مصر؟
إن النيل لا يزال يأتي بفيضانه.
إن من كان لا يمتلك أضحى الآن من الأثرياء.
يا ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت!
لديك الحكمة والبصيرة والعدالة،
ولكنك تترك الفساد ينهش البلاد.
انظر كيف تُمتهن أوامرك،
وهل لك أن تأمر حتى يأتيك من يحدثك بالحقيقة؟»
وتنتهي الرواية بقول أنيس زكي المسطول دائمًا، ولكن كلامه لا يخلو من حكمة:

«أصل المتاعب مهارة قرد تعلَّم كيف يسير على قدمين فحرَّر يديه، وهبط من جنة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة، وقالوا له عد إلى الأشجار وإلا أطبقت عليك الوحوش، فقبض على غصن شجرة بيد وعلى حجر بيد، وتقدَّم في حذر وهو يمدُّ بصره إلى طريق لا نهاية له.»

وفي رواية «الكرنك» يتأمل الراوي المتقدم في السن قائلًا:

«عجبت لحال وطني، إنه رغم انحرافه يتضخم ويتعظم ويتعملق، يملك القوة والنفوذ، يصنع الأشياء من الإبرة حتى الصاروخ، يبشِّر باتجاه إنساني عظيم، ولكن ما بالُ الإنسان فيه قد تضاءل وتهافت حتى صار في تفاهة بعوضة؟! ما باله يمضي بلا حقوق ولا كرامة ولا حماية؟!»

ويتساءل قبل ذلك بصفحات قليلة:

«ألا يستحق إنشاء دولتنا العلمية الاشتراكية الصناعية التي تملك أكبر قوة في الشرق الأوسط؟ ألا تستحق أن نتحمل في سبيلها تلك الآلام؟»

وهي تساؤلات لا تجد إجابة، أو الأدق أنها تحتمل أكثر من جواب؛ فالفن — كما هو معروف — طرح أسئلة أكثر منه تقديم إجابات.

ومع الفصل السادس «شذرات الزمن: روايات الأخبار»٣ ينقلنا رشيد العناني إلى روايات: المرايا، حكايات حارتنا، حديث الصباح والمساء، صباح الورد، أولاد حارتنا، ملحمة الحرافيش، ليالي ألف ليلة، رحلة ابن فطومة.
ويرصد الناقد عددًا من الظواهر الفكرية والفنية في هذه الأعمال؛ فهناك مثلًا النثر الموجز المحكم الذي يعكس شلل الإرادة الإنسانية إزاء لغز القدر، كما في وصف الراوي لموت جعفر خليل:

«غادر مسكنه في الثامنة مساءً، فزلَّت قدمه فوق قشرة موز، ففقد توازنه وسقط، فارتطم رأسه بحافة الطوار، وسرعان ما فاضت روحه في ثوانٍ معدودات أمام باب العمارة» (المرايا).

وهناك جو التكية والدروشة وأناشيد الصوفية:

«درويش ولكنه ليس كالدراويش الذين رأيت من قبل، طاعن في الكبَر، مديد في الطول، وجهه بُحيرة من نور مُشع، عباءته خضراء، وعمامته الطويلة بيضاء، وفخامته فوق كل تصور وخيال. ومن شدة حملقتي فيه أثمل بنوره فيملأ منظره الكون، وخاطر طيب يقول لي إنه صاحب المكان وولي الأمر» (حكايات حارتنا).

وهناك ابتعاث الماضي الذي كاد يطويه النسيان:

«رحنا نتذكر ونتذكر ونقلب صفحات الماضي البعيد والقريب. جُلْنا معًا في جنبات عالم حافل بالأموات. ألَا ما أكثر الراحلين! كأن الوجوه لم تشرق بالسناء والسنا في ظلمات الوجود، وكأن الثغور لم ترقص بالضحك» (صباح الورد).

ثم يعود الكاتب إلى التكية وما يحيط بها من أشجار وعصافير وعشب أخضر ودراويش منشدين في ملحمة «الحرافيش»:

«البوابة تناديه، تهمس في قلبه أنِ اطرق، استأذن، ادخل، فز بالنعيم والهدوء والطرب، تحول إلى ثمرة توت، امتلئ بالرحيق العذب، انفث الحرير، وسوف تقطفك أيدٍ طاهرة في فرح وحبور.»

بيد أنه — عاشور الناجي — حين ينادي الدراويش لا يتلقى جوابًا:

«إنهم يتوارون، لا يرون، حتى العصافير ترمقه بحذر. يجهلون لغته ويجهل لغتهم. الجدول كف عن الجريان. الأعشاب توقفت عن الرقص. لا شيء في حاجة إلى خِدماته.»

والفصل السابع «قضايا الشكل: دراسة حالة «حضرة المحترم»» دراسة متأنية لهذه الرواية من حيث الحبكة، ووجهة النظر، والخيوط والتقديم، ورسم الشخصيات، واللغة المستخدَمة.

ويقول رشيد العناني إن حبكة الرواية بسيطة؛ فهي تدور حول شخصية واحدة نرى كل شيء من خلال عينيها، وعلى محورها تدور الأحداث. وكل الشخصيات الأخرى مهمة بقدر ما تدخل حياة عثمان بيومي، على سبيل التوازي أو التضاد أو التقاطع. إن محفوظًا لا يحدِّثنا عما يدور في عقل بطله، وإنما يقدِّم الأفكار الفعلية للشخصية:

«راح يلوم نفسه؛ كيف فاته أن يرى بكل عناية حجرة صاحب السعادة المدير العام؟ كيف فاته أن يملأ عينيه من وجهه وشخصه؟ كيف لم يحاول أن يقف على سر السحر الذي يخضع به الجميع فيجعلهم طوع إشارة منه؟ هذه هي القوة المعبودة، وهي الجمال أيضًا، هي سر من أسرار الكون. على الأرض تُطرح أسرارٌ إلهية لا حصر لها لمن له عين وبصيرة. إن الزمن قصير بين الاستقبال والتوديع، ولكنه لا نهائي أيضًا. الويل للذي ينسى هذه الحقيقة!»

ويُراوِح محفوظ بين الخطاب السردي وتداعي الأفكار الطليق متنقِّلًا بذلك بين الواقع والخيال، الجليل والمبتذَل، الشعر والنثر، الدال والمفرغ من الدلالة، كما في هذا الوصف للقاء عارض بين عثمان وسيدة؛ حبيبة شبابه التي هجرها من أجل طموحه الوظيفي:

«صادفها صباح الجمعة في الخيمية بصحبة أمها. تلاقت عيناهما لحظةً ثم حولتهما عنه في غير مبالاة. لم تلتفت وراءها. تجلَّى له معنًى من معاني الموت، كما خرج أبوه من الجنة بإرادته، وكما يخوض العذاب بشموخ وكبرياء.»

ويُبرز رشيد العناني استخدام محفوظ للغةٍ ذات إيحاءات دينية، وذلك لإلقاء ضوء ساخر على مطامح بطله الدنيوية. ويستخدم عناقيد من الصور بعينها في هذا المجال (النار، النور … إلخ) لها جذورها في التراث الصوفي:
«إني أشتعل يا ربي.
النار ترعى روحه من جذورها حتى هامتها المحلِّقة في الأحلام. وقد تراءت له الدنيا من خلال نظرة ملهمة واحدة كمجموعة من نور باهر، فاحتواها بقلبه وشد عليها بجنون. كان دائمًا يحلم ويرغب ويريد، ولكنه في هذه المرة اشتعل، وعلى ضوء النار المقدسة لمح معنى الحياة.»

والفصل الثامن والأخير «صور الله والموت والمجتمع: القصص القصير والمسرحيات» يتناول بدايات القصة القصيرة عند محفوظ (مجموعة «همس الجنون»)، والبداية الثانية حين عاد إليها بعد انقطاع طويل (مجموعة «دنيا الله»)، وفراره إلى العبث والمُحال، ومسرحياته، وحوارياته، وارتداده عن الاتجاه العبثي. ويصل بنا الناقد إلى مجموعة محفوظ الأخيرة «الفجر الكاذب»، حيث يُفرِد بالذكر أقصوصةَ «نصف يوم» التي تستعرض، في أربع صفحات لا غير، حياةً كاملة منذ كان الراوي طفلًا يقضي يومه الأول في المدرسة، إلى أن غدا عجوزًا عاجزًا عن عبور شارع مزدحم.

تلي هذه الفصولَ الثمانية الملاحقُ المألوفة في الأعمال الأكاديمية: هوامش، ثم قائمة بأعمال محفوظ وتواريخها، وببليوجرافيا. ويضع القارئ — الأجنبي بخاصة — الكتاب وقد ألمَّ بصورة شاملة لأعمال محفوظ منذ ترجمته لكتاب جيمز بيكي «مصر القديمة» إلى يومنا هذا. لقد أدَّى رشيد العناني عمله بكفاءة وضمير حي. إنه ينتمي إلى ذلك الموروث الجليل من الأساتذة المصريين الذين تخصَّصوا في الأدب الإنجليزي ثم انتقلوا منه إلى دراسات الأدب المقارن: محمود المنزلاوي، محمد مصطفى بدوي، فاروق عبد الوهاب (وأيضًا: صبري حافظ، وإن لم يكن متخصصًا في الأدب الإنجليزي).

ينمُّ الكتاب عن مقدرةٍ تنظيمية عالية، واستقلال في الرأي (انظر مثلًا نقضه لدعوى نجيب محفوظ أنه لم يتأثر بالمدرسة الناتورالية، ص١٩)، وحس نقدي لا يعرف المجاملة (انظر ملاحظاته القاسية عن «همس الجنون» و«عصر الحب» و«أفراح القبة»). هذا ناقدٌ يزنُ كلماته، ولا يعرف التزيد والحشو والإطناب الذي يعيب كتابات إبراهيم فتحي وعبد الرحمن أبو عوف وغيرهما من نقاد محفوظ.

هل لي، رغم ذلك، أن أصحِّح خطأً شائعًا؟ يقول رشيد العناني في ص٦٧ — متابعًا في ذلك الرأيَ السائد — إن حسنين ينتحر في ختام رواية «بداية ونهاية» بعد أن أرغم أخته نفيسة على الانتحار. ألا فليشهد القاصي والداني أن حسنين — كما قال لي الأستاذ نفسه ذات مرة، وهو أمامكم فاسألوه — قد انتحر انتحارًا معنويًّا وليس بدنيًّا. وقد قال لي نجيب يومها: إنه أجبن من أن ينتحر، فضلًا عن أنه ضابط يعرف السباحة؛ ومن ثَم فما كان، لو أراد الانتحار، ليرمي نفسه في النيل. وقد تبدو هذه نقطة صغيرة، ولكنها في الواقع تغير من مفهومنا للرواية بأكملها، فضلًا عما تتضمنه من إساءة فهم لحقيقة شخصية حسنين.

في الكتاب هفوةٌ صغيرة؛٤ في ص٢٣١ يقول رشيد العناني إن سلسلة «بنجوين» المعروفة تصدر في لندن. والصواب أنها تصدر في هارموندزورث، ميدل سكس، وليس في لندن، وإن كان لها مكتب هناك.
مجلة إبداع، مارس ١٩٩٤
١  مقالتي هذه هي — فيما أحسب — ثالث عرض مفصَّل لكتاب رشيد العناني؛ إذ سبقتها مقالة للناقد الراحل د. علي شلش في مجلة «الهلال»، وأخرى للروائي إبراهيم عبد المجيد في مجلة «العربي» الكويتية.
٢  بدأ رشيد العناني حياته الأدبية بنشر مقالات عن اتجاهات النقد الأدبي عند كولردج وإزرا باوند في مجلة «الجديد» في السبعينيات. وفي فترةٍ أحدث أخرج باللغة العربية:
  • • «عالَم نجيب محفوظ من خلال رواياته»، سلسلة كتاب الهلال، نوفمبر ١٩٨٨.

  • • «المعنى المراوغ» (١٩٩٣)، وهو مجموعة مقالات.

ومن مقالاته:
  • • «خواطر حول آراء لويس عوض في قضية اللغة في أدب نجيب محفوظ»، «الحياة»، ١٥ سبتمبر ١٩٨٩.

  • • «نجيب محفوظ والزمن الضائع في قشتمر»، مجلة «الهلال»، ديسمبر ١٩٨٩.

  • • «نجيب محفوظ يشخِّص الداء ويصف الدواء»، الأهرام الدولي، ٢ أبريل ١٩٩٠.

  • • «خواطر معجمية» (عن «المورد: قاموس عربي-إنجليزي» لروحي البعلبكي)، مجلة «الناقد» (لندن)، فبراير ١٩٩٠.

  • • «الناقد والعمل الأول» (عن رواية هالة البدري «السباحة في قمقم على قاع المحيط»، مجلة «الناقد» (لندن)، أبريل ١٩٩٠).

  • • «حول تعليم الدين في المدارس المصرية»، مجلة «الهلال»، مارس ١٩٩٤.

وله باللغة الإنجليزية:
  • • رسالة دكتوراه (غير منشورة): «حضرة المحترم لنجيب محفوظ: ترجمة وتقويم نقدي»، جامعة إكستر، ١٩٨٤.

  • • ترجمة لرواية محفوظ «حضرة المحترم» مع مقدمة (١٩٨٦).

  • • ترجمة لمسرحية ألفرد فرج «على جناح التبريزي وتابعه قفة»، تحت عنوان «القافلة» (١٩٨٩).

  • • ترجمة لأقصوصة محفوظ «على ضوء النجوم»، في «ذا جارديان»، ١٢ ديسمبر ١٩٩١.

ومن مقالاته بالإنجليزية:
  • • «الدين في روايات نجيب محفوظ»، «نشرة الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط»، السنة ١٥، العدد ١ / ٢، ١٩٨٨.

  • • «الروائي شاهد عيان سياسيًّا: نظرة لتقويم نجيب محفوظ لعصرَي عبد الناصر والسادات»، «مجلة الأدب العربي»، المجلد ٢١، ١٩٩٠، الناشر: أ. ج. بريل، لايدن، هولندا.

  • • «رحلة ابن فطومة» في كتاب «دروب ذهبية»، تحرير أ. ر. نتون، مطبعة كيرزون، لندن ١٩٩٣.

وثَمة مقابلة مع رشيد العناني أجراها محمد عبد السلام العمري في مجلة «العربي» الكويتية (ديسمبر ١٩٩٥).
٣  روايات الأخبار ترجمة لعبارة episodic novels، يقول الدكتور رشاد رشدي في كتابه العمدة «فن القصة القصيرة» (مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الثالثة، أكتوبر ١٩٧٠، ص١٩٣): «قصص الأخبار هي الترجمة التي أعتقد أنها تناسب episodic، وهي القصص التي وصفها أرسطو بأنها تعتمد على عامل المصادفة؛ وبذلك تتكون من عدة حكايات أو أخبار ليس بينها رابط آخر.»
٤  ما دُمنا بصدد تصويب الأخطاء فلأصوِّب خطأً في كتاب آخر، باللغة الإنجليزية، عن محفوظ «نجيب محفوظ: نوبل ١٩٨٦، منظورات مصرية، مجموعة مقالات نقدية»، تحرير د. محمد محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٩. تترجم الدكتورة هدى الصدة المقابلة التي أجراها فؤاد دوارة مع محفوظ، بمناسبة بلوغه الخمسين، في مجلة «الكاتب» (١٩٦١). وتتحدث المترجمة (ص١٦) عن «رواية» ستيوارت جلبرت المسماة «يوليسيز»، والصواب أنها دراسة نقدية لرواية جويس، وليست رواية. وترسم الدكتورة الصدة الاسم الأول للمؤلف على أنه Stewart، وهو خطأ صوابُه Stuart.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤