الفصل الثاني

أنظمة التزاوج، أو انتقاء الشريك، ومدة التزاوج

على الرغم مع أن بعض الحيوانات تطلق حيوانات منوية وتنتج بويضات لتلتقيَ معًا عشوائيًّا، يتمتع الذكور والإناث، في معظم الأنواع، برابطة مميزة أثناء موسم التزاوج. ويُطلق على هذه الروابط أنظمة التزاوج. في معظم الأحوال، توصف أنظمة التزاوج بكونها إمَّا «أحادية التزاوج»، وفيها يقترن ذكر واحد بأنثى واحدة على نحوٍ حصري بصورة أو أخرى أثناء موسم التزاوج، أو «تعددية التزاوج»، وفيها يقترن أكثر من فردٍ من أحد الجنسين بفردٍ واحد من الجنس الآخر. تنقسِم تعددية التزاوج بدورها إلى «تعدد لشركاء التزاوج»، وفيه ترتبط الأنثى بأكثر من ذكر واحد، وعكسها، «تعدد لشريكات التزاوج»، وفيه يقترن ذكر واحد بعدة إناث. وتشير نظرية الانتخاب الجنسي إلى أن الذكور سوف تستفيد أكثر من التزاوج التعددي؛ لأن تكاثرها محدود بعدد الإناث اللاتي يخضعن للتلقيح، لا بالذرية التي يمكن للذكور إنجابها. ومن ثم، ينبغي أن نتوقع أن يكون تعدد شريكات التزاوج أكثر شيوعًا من تعدُّد شركاء التزاوج، وأن تكون أحادية التزاوج نادرة جدًّا بالفعل، في ضوء اختلاف الطريقة التي يؤثر بها الانتخاب الجنسي على الذكور والإناث.

يبدو كلُّ هذا دقيقًا ومنهجيًّا للغاية، وكان هو الرأي السائد على مدار عدة عقود، وحتى نهاية القرن العشرين تقريبًا. ولكن ثمة تصدعات في أساس تفكيرنا عن أنظمة التزاوج بدأت في الظهور قبل بضعة عقود مضت، وبتنا نُدرك الآن أن الموقف أكثر تعقيدًا مما كنَّا نظن. ولكي نفهم السبب، من المفيد أن نُلقيَ نظرة على دراسة بدأت بطرح سؤال متعلق تمامًا بمكافحة الآفات، ولا عَلاقة له على الإطلاق بالانتخاب الجنسي من قريب أو بعيد.

طائر الشحرور وموسم التزاوج

ما أفضل طريقة لمنع الطيور من التهام حبوب المزارعين؟ تشتهر طيور الشحرور الأحمر الجناحين بكَوْنها بشيرًا بمجيء فصل الربيع في أجزاء كثيرة من أمريكا الشمالية. ويكتسب هذا النوع اسمه من البقع الحمراء الموجودة على جناحَي الذكر الأسود اللامع، وفي المناطق المستنقعية المنتشرة في جميع أنحاء الولايات المتحدة وكندا، تُحصِّن الذكور مناطق نفوذها، وتنتظر الإناث حتى تأتي وتبني عُشًّا في مكانٍ أو آخر داخل نفس المنطقة الخاصة بالذكر. وتستطيع حتى ثماني إناث من هذه الطيور أن تبنيَ عشًّا في المنطقة الخاصة بنفس الذكر، وهو ما يجعل مصطلح تعدُّد شريكات التزاوج ينطبق عليه، وعلى مدار سنوات عديدة، درس العلماء خصائص الذكور التي تجتذب أغلب الإناث، بافتراض أن وجود الكثير من الإناث في منطقةٍ ما كان يعني تحقيق نسبة أعلى من النجاح التناسلي للذكر صاحب المنطقة.

وبالإضافة إلى فائدتها بالنسبة إلى دارسي سلوك الحيوان، فإن أعداد طيور الشحرور الأحمر الجناحين كثيرة بما يكفي في بعض المناطق لاعتبارها من الآفات؛ لأنها تقتات على الحبوب الموجودة في الحقول، وبكميات هائلة أحيانًا. في أوائل سبعينيات القرن العشرين، اقترح علماء الحياة البرية التحكم في أعداد هذه الطيور دون اللجوء إلى طرق مَقيتة مثل تسميمِها أو إطلاق النار عليها، وذلك باستخدام تقنية غير معتادة إلى حدٍّ ما، ألا وهي: قطع القناة المنوية لدى ذكور الشحور. وكان المفترض أن تتصرَّف الذكور المعقمة على نحوٍ طبيعي، ويُوضَع البيض، لكن دون أن يفقس.

وبالفعل، أجرى فريق من علماء الأحياء عملية التعقيم لمجموعة خاضعة للدراسة من طيور الشحرور الأحمر الجناحَين في كولورادو. لكن ما أدهشهم وأفزعهم في الوقت نفسه أن غالبية حضنات البيض الذي وضعته الإناث في مناطق الذكور المُعقَّمة كانت مخصبة. ونزعت الدراسة المنشورة حول هذه المحاولة الفاشلة إلى افتراض أن احتمالية «تعدُّد شركاء التزاوج للأنثى» هو السبب وراء ذلك، وخلَصت إلى أن عملية قطع القنوات المنوية لم تَكُن وسيلة فعَّالة حقًّا للسيطرة على أعداد هذه الطيور. غير أنهم لم يُدركوا آنذاك أن نتائجهم تكهَّنت بثورة في التفكير في أنظمة التزاوج.

fig4
شكل ٢-١: خريطة لأحد المستنقعات الكندية توضح كيف يختلف العدد الحقيقي للنسل الذي أنجبه ذكر الشحرور الأحمر الجناحين عن عدد النسل الموجود في منطقة الذكر. تصف الأسهم عمليات التلقيح الإضافي من ذكور مختلفة، ويشير منشأ السهم إلى الذكر الذي حصل على التلقيح الخارجي الإضافي.
وفي محاولة أخرى لا عَلاقة لها بالدراسة السابقة، بعد مرور سنوات عديدة، استعان فريق من العلماء الكنديين بتقنية البصمة الوراثية الجديدة آنذاك لإجراء اختبارات الأبوة على طيور الشحرور الأحمر الجناحين في أحد المستنقعات في مقاطعة أونتاريو الكندية. واكتشفوا شيئًا مذهلًا، رغم أن علماء أحياء الحياة البرية في الدراسة السابقة ربما لم يفاجَئوا كثيرًا بهذا الاكتشاف؛ إذ وجدوا أن الكثير من الأفراخ، إن لم يَكُن أغلبها، في منطقة أحد طيور الشحرور أنجبها ذكر آخر غير صاحب المنطقة (شكل ٢-١). وفي الوقت الحالي، يدعم هذه النتيجةَ العديدُ من الدراسات الأخرى التي توضح أن وسط الكثير من الأنواع المختلفة للطيور التي من المفترض أن تكون أحادية التزاوج، احتوت أعشاش كثيرة على أفراخ أنجبها أكثر من ذكرٍ واحد.

في هذا الفصل، نتعقب أولًا الطريقة التي فُسِّرَت بها أنظمة التزاوج من منظورٍ تاريخي، ثم نتناول كيف أعاد الفَهم المعاصر للعلاقات الوراثية والاجتماعية تشكيل طريقة تفكيرنا في هذا الصدد.

احتكار شركاء التزاوج

وضع عالِما الأحياء ستيفن إملين ولويس أورينج — اللذان رأيا أن أحد المتغيرات المهمة هو الدرجة التي يمكن بها احتكار أفراد جنسٍ واحد الوصول إلى شركاء التزاوج — أحد التصنيفات الأولى لأنظمة التزاوج. ويمكن أن يكون هذا الوصول مباشرًا — إذ يمكن جمع شركاء التزاوج على هيئة قطيع في مكانٍ واحد ثم حراستها — أو غيرَ مباشر، من خلال التحكم في الوصول إلى الموارد مثل الطعام أو مواقع التعشيش. حينئذٍ تتزاوج الأفراد التي تحتاج إلى تلك الموارد من أجل الوصول إليها. وأشار إملين وأورينج إلى أن هذا الاحتكار يفرض احتمالية الظفر بشريك تزاوج واحد أو أكثر. على سبيل المثال، إذا كان الغذاء مُوزَّعًا في البيئة توزيعًا متجانسًا، فمن الصعب تقييد الوصول إليه، وهكذا يكون من المتوقع أن يَندُر نظام تعدد شريكات التزاوج في ظل هذه الظروف. أمَّا إذا كان توزيع الغذاء غير منظم، يكون بإمكان الذكر أن يهيمن على المورد، ومن ثَم يمارس الاحتكار على الإناث التي تلجأ إلى ذلك المورد.

ركز إملين وأورينج اهتمامهما على الطيور والثدييات، وقالا إن الشحرور الأحمر الجناحين الذي وصفناه آنفًا كان مثالًا على ما أطلقا عليه تعدُّد شريكات التزاوج بغرض الدفاع عن الموارد. ورغم أن الطيور لا تتغذى من المستنقعات التي يسيطر فيها الذكور على مناطق منها، فإن الأعشاش تكون عُرضةً للحيوانات المفترسة التي تلتهِم البيض والأفراخ، وأفضل مواقع التعشيش هي تلك المواقع الأقل عرضةً لخطر هذا الافتراس. والذكور التي تدافع عن مواقع التعشيش الجيدة داخل مناطقها من المرجح أن تجتذب المزيد من الإناث. وتستفيد الإناث من مثل هذا الترتيب لأنها تظفر بالموارد التي يوفرها الذكر.

علاوة على ذلك، سلَّط إملين وأورينج الضوء على عامل مساهم آخر أساسي في أنظمة التزاوج، ألا وهو نسبة الذكور إلى الإناث المتاحة للتزاوج، أو ما يُطلق عليه نسبة الذكور النشطة جنسيًّا إلى الإناث النَّشِطة جنسيًّا. وهذه النسبة تختلف عن نسبة الذكور إلى الإناث في المطلق؛ لأنه حتى لو تواجَد أفراد جنسٍ أو آخر، فربما لا يكونون جاهزين كشركاء تزاوج، ربما لانشغالهم برعاية الصغار أو لأنهم وجدوا شريكًا بالفعل. وانخفاض نسبة الذكور النشطة جنسيًّا إلى الإناث النَّشِطة جنسيًّا تعني أن الكثير من الإناث متاحة بوصفها شريكات تزاوج محتملات، وهو ما ينبغي أن يسفر عن تراجع التنافس بين الذكور وزيادة نظام التزاوج القائم على تعدُّد الشريكات. وتحظى الأنواع التي تتكاثر طَوال السنة بنسبة نشاطٍ جنسي بين الذكور والإناث مختلفةٍ عن نسبة تلك الأنواع التي تتكاثر في فترة محدودة فقط، مثل الكثير من الضفادع والعلاجيم.

وفي ضوء ذلك، يمكننا أن نرى أمثلة على أنظمة التزاوج المتنوعة لدى الطيور والثدييات التي عرضتها دراسة إملين وأورينج. إن نظام تعددية التزاوج لدى نوعٍ أو آخر، حيث يكون لجنسٍ واحد على الأقل شركاء متعددون، ربما يكون الأكثر شيوعًا بين الفقاريات، مع شيوع نظام تعدد شريكات التزاوج أكثر من نظام تعدُّد الشركاء. وبسبب المنافسة بين الذكور على شريكات التزاوج في أنظمة التزاوج القائمة على تعددية الشريكات، عادة ما يكون هذا النوع من تعددية التزاوج مرتبطًا بسماتٍ شكلية (مورفولوجية) أو سلوكية لافتة للغاية في الذكور التي تتفوَّق في هذه المنافسة. ويُلاحَظ بعض من أكبر الاختلافات في الحجم والشكل الخارجي بين الجنسين في الأنواع التي تتَّسِم بتعدُّدية شريكات التزاوج. فعلى سبيل المثال، يزن ذكر فيل البحر ثلاثةَ أضعاف وزن الأنثى، ويستخدم جسمه الضخم لصد المنافسين، وفي طيور الجنة، تكون الذكور ذات زينة مبهرجة، وتتمتع بريش ملون شديد التعقيد بما قد يَعوق قدرة الطائر على الطيران.

في بعض الأنواع، لا يكون الذكر نفسه مبهرجًا، وإنما يستعين ببيئته المحيطة ليقدِّم استعراضًا مبهرًا. وتحظى طيور التعريشة، وهي مجموعة من الطيور موجودة في أستراليا وغينيا الجديدة، ببعض من أكثر استعراضات المغازلة والتودُّد إبهارًا في مملكة الحيوان، ولكنها ليست جزءًا أساسيًّا من شكل الذكر. بدلًا من ذلك، يبني ذكر طائر التعريشة تعريشات رائعة — يصل طولها أحيانًا إلى عدة أمتار — مستخدمًا الفروع والأغصان، ثم يقوم بتزيينها بثمارٍ زاهية الألوان أو زهور أو أحجار. يستخدم الذكر هذه التعريشات كمنصات لأداء رقصاته المُعقَّدة وتغاريده الصاخبة عندما تحط أنثى بالقرب منه. بالمثل، في بعض أنواع سمك الينفوخ، تبني الذكور «قلاعًا رملية» تحت الماء، وهي ساحات جميلة مزخرفة بنقوشٍ في قاع المحيط، وتستغرق أسبوعًا أو أكثر من النحت والتشكيل المتواصلَين. وتضع الإناث البيض في هذه الساحات، ثم يعتني الذكر بالبيض.

عندما يستطيع الذكر احتكار الموارد التي تحتاج إليها الأنثى، كما في حالة طيور الشحرور الأحمر الجناحَين، تواجِهُ الإناث معضلة، ألا وهي: هل تشارك منطقة نفوذ جيدة مع إناث أخريات، أم تحظى بمنطقة ليست جيدة للدرجة وحدَها؟ وفقًا لشكل الموارد، ربما يكون من الأفضل اختيار ذكر أو منطقة أقل مثالية بدلًا من الاقتسام الدقيق للموارد، والواقع أنه يبدو أن هناك حدًّا أدنى عند تجاوزه توزع الإناث نفسها بين المناطق الأقل جودة.

على الرغم من أن تَشارُك الأنثى منطقةَ نفوذ عالية الجودة مع إناث أخريات قد يكون منطقيًّا تحت بعض الظروف، فقد يزيد الذكور والإناث عدد الذرية التي ينجبونها إلى أقصى حدٍّ بطرق مختلفة. ففي حيوان المرموط الأصفر البطن، وهو حيوان ينتمي إلى القوارض الكبيرة ويوجد في جبال أمريكا الشمالية المتوسطة الارتفاع، لا تستطيع الإناث العازبات التي تعيش بمفردها بعد التزاوج أن تنجب عددًا من الصغار يماثل ذلك الذي تنجبه الإناث التي تعيش مع ذكر. فإذا ارتبطت أكثر من أنثى بذكر واحد، تحقق كل أنثى منها نسبة نجاح تناسلي أقل من الأنثى الأحادية التزاوج. ولكن من وجهة نظر الذكر، يزيد وجود أكثر من أنثى واحدة في منطقة نفوذه نسبة نجاحه التناسلي، حتى ثلاث إناث، بعد ذلك يتضاءل عدد الذرية للذكر الواحد مرة أخرى. وهذا يعني أنه في أي حالة من هذه الحالات، لا يتكاثر الذكر أو الأنثى بالمعدل الأمثل.

الإفراط في تعدُّد الشريكات واستعراضات جذب الإناث

يظهر واحد من الأشكال غير المألوفة إلى حدٍّ ما لتعدد شريكات التزاوج في مجموعة متنوعة من الطيور والثدييات، التي يكون لديها مساحات للاستعراضات الجماعية أو المشتركة تُسمى ساحات استعراضات جذب الإناث. تجتمع الذكور في هذه الساحات، وعادةً ما تستخدم المواقع نفسها عامًا تلو الآخر، وتأتي الإناث إلى ساحة الاستعراضات، ويُعايِنَّ الذكور، وتقترن بواحد منها. وساحة الاستعراضات ليست منطقة نفوذ أو موقع تعشيش، ولا تظفر الأنثى بشيءٍ من الذكر بخلاف الحيوانات المنوية لتخصيب بيضاتها.

غالبًا ما تكون هذه الساحات مشهدًا مذهلًا؛ إذ يتنافس الذكور بمظاهر زينة معقَّدة على جذب انتباه الإناث. ففي أجزاء من غرب أمريكا الشمالية، تجتمع ذكور طائر طيهوج الميرمية كل عام في بداية فصل الربيع في مناطق مفتوحة في مجموعات تتراوح أعدادها ما بين ٢٠ و١٥٠ طائرًا في وقت السَّحَر الشديد البرودة لتختال بريش صدرها الأبيض المنتفخ، وتنفخ كيسين هوائيين صفراوين على صدرها ثم تفرغهما من الهواء بصوت فرقعة مميز (شكل ٢-٢). تأتي إناث طائر طيهوج الميرمية إلى ساحة الاستعراضات فُرادى، ويبدو أنها تتفحص الذكور المتباينة الأشكال. وربما تتردد على الساحة لعدة أيام قبل أن تنتقيَ ذكرًا لتقترن به، وبعد ذلك ترحل لتضع البيض وترعى الصغار بمفردها.

من أمثلة الحيوانات الأخرى التي تستعرض زينتها لاجتذاب الإناث الخفاش المطرقي الرأس والظبي الأفريقي (التوبي) وطيور استوائية صغيرة من فصيلة القَرقَرون. ورغم تباين تفاصيل استعراضات جذب الإناث وتنوعها، فثمة شيئان مشتركان في جميع الاستعراضات؛ ألا وهما العروض الجماعية، وغياب توفير أي موارد أخرى للإناث بخلاف فرصة التزاوج.

في معظم الأنواع التي تقوم باستعراضات جذب الإناث، يكون هناك ذكر واحد أو بضعة ذكور مسئولون فعليًّا عن كل عمليات التزاوج. تقوم ذكور الخفاش المطرقي الرأس بإعداد ساحات استعراضات على الأشجار الكبيرة عبر ضفاف الأنهار في أفريقيا الاستوائية؛ وتستعرض الذكور بصيحات بوقية صاخبة ورفرفة الأجنحة. وفي إحدى الدراسات، تزاوج ٦ بالمائة من الذكور بنسبة ٧٩ بالمائة من الوقت. وفي أحد الاستعراضات الخاصة بطائر البُحتُر ذي اللحية البيضاء، التي اشتملت على عشرة ذكور، ظفِر ذكر واحد بنسبة ٧٥ بالمائة من ٤٣٨ عملية جنسية، ونجح ستة ذكور في التزاوج بإجمالي عشر مرات فقط.

تثير هذه السلوكيات الاستثنائية ومعدلات التفاوت المرتفعة في نجاح عملية التزاوج سؤالين. الأول، لماذا تجتمع الذكور في هذه المجموعات المكونة من أفراد مستعرضين؟ والثاني، لماذا هذا التباين المفرط في نسبة نجاح التزاوج؛ بمعنى: إذا كانت الإناث لا تظفر بشيءٍ من الذكر بخلاف الحيوانات المنوية، لماذا يبدو أنها جميعًا تفضل شريك التزاوج نفسه؟

للإجابة عن السؤال الأول، طرَح العلماء ثلاثةَ احتمالات. وفقًا لفرضية «النقطة الساخنة»، يجتمع الذكور في مكان من المحتمل العثور فيه على الإناث — أي النقاط الساخنة — بناءً على المسارات المعتادة التي تسلكها الإناث للحصول على الطعام أو الوصول إلى الموارد الأخرى. أمَّا فرضية «الذَّكر الجذاب»، فتقترح أن الأماكن ليست هي مركز الجذب وإنما الذكور في حد ذاتها؛ فأغلب الذكور تضمُّ القليل من الأفراد ذوي الجاذبية الشديدة؛ ومن ثم تستفيد من تردُّد الإناث على مناطق الذكور الجذابة. وأخيرًا، تنص فرضية التفضيل من جانب الإناث على أن الذكور تجتمع لأن الإناث تفضل المواقع التي تتواجد فيها مجموعات كبيرة من الذكور. وتفضل الإناث هذه المجموعات إمَّا لأنها أكثر أمانًا، ربما لأنها تكون محمية من الحيوانات المفترسة، أو لأن هذه التجمعات تسهل على الإناث المقارنة بين شركاء التزاوج المحتملين.

fig5
شكل ٢-٢: تتمتع ذكور طائر الطيهوج بمجموعة متنوعة من مظاهر الزينة، من بينها الريش ذو الأنماط المعقدة الذي يظهر هنا، علاوةً على زوج من الأكياس الهوائية أسفل الريش الأبيض في منطقة الصدر. تُستخدَم الأكياس الهوائية لإصدار صوت «فرقعة» أثناء استعراضات الذكور.

للتفرقة بين الفرضيتَين الأُوليَين، يمكن أن نلاحظ ما يحدث إذا رحل ذكر نجح في التزاوج من ساحة الاستعراض. فإذا كانت فرضية النقطة الساخنة صحيحة، ينبغي أن يسفر رحيل الذكر الذي ظفِر بأغلب فرص التزاوج عن تزاوج الإناث بأي من الذكور المتبقية في الموقع أو المواقع التي استعرضت فيها الذكور الفائزة. وهذا من شأنه أن يعني أن المكان هو الأساس، لا الذَّكر. وعلى النقيض من ذلك، إذا كانت فرضية الذَّكر الجذَّاب صحيحة، ينبغي أن ترحل مجموعة الذكور من الدرجة الثانية بأكملها، حتى تتمكن من العثور على ذَكر جذاب آخر تتجمَّع حوله، ومن المفترض ألا تقترن الإناث بهذه الذكور البديلة الباقية.

تُظهر مثل هذه التجارب التي تجرى على العديد من الطيور التي تقوم باستعراضات جذب الإناث، بما في ذلك الشنقب الكبير والطيهوج الأسود، أن الإناث تميل إلى تعقُّب الذكر الذي كان يتَّسِم بالجاذبية، أو أن الذكور المتبقية تحتشد وترحل عندما يترك ذكر فائز الساحة. وتدعم هاتان النتيجتان فرضية الذَّكر الجذاب. وفي أنواع أخرى، يبدو أن الذكور تتعقب تحركات الأنثى وتركز أنشطتها الاستعراضية في تلك المناطق، وهو ما يدعم فرضية النقطة الساخنة. على الجانب الآخر، تلقَّت فرضية التفضيل من جانب الإناث بعض الدعم في حيوانات أخرى، من بينها طيهوج الميرمية المذكور أعلاه. وكما هو الحال عادةً فيما يتعلق بالسلوكيات المعقدة، ربما يكون لاستعراضات جذب الإناث عدَّة مزايا أسهمت في تطورها، كلٌّ منها ذو أهمية بشكلٍ أو آخر تبعًا للظروف.

بالنظر إلى تجمع الذكور، لماذا تقترن أغلب الإناث أو جميعها بنفس الذكر؟ هذا السؤال هو جوهر انتقاء شريك التزاوج بوجهٍ عام، إلا أن الأنواع التي تؤدي استعراضات جذب الإناث تسلط الضوء على المعضلة: ما الذي يعود على الإناث من الاقتران بذكر لا يقدم شيئًا سوى حيوانات منوية لتخصيب بيضاتها؟ تشتمل الحلول الممكنة على نماذج اعتباطية ونماذج تكيفية سنناقشها في الفصل الثالث، بالإضافة إلى كَوْن انتخاب الذكور الخالية من الطفيليات معيارًا محتملًا في استعراضات جذب الإناث. وبالفعل، عادة ما تحظى ذكور طيهوج الميرمية ذات الطفيليات الأقل عددًا بفرص تزاوج أكبر. واقتُرح أيضًا أن من خلال الاقتران بذكر مهيمن في ساحة الاستعراضات، تستطيع الأنثى أن تتجنَّب مضايقات الذكور التابعة القريبة، ولكن لا يُوجَد دعم كافٍ لهذه الميزة.

تعدد شركاء التزاوج

اليقنة طائر من الطيور الساحلية المتوسطة الحجم يعيش في المناطق الاستوائية بأفريقيا وأستراليا وأمريكا الوسطى والجنوبية. تمكنه أصابعه الطويلة من السَّير فوق زنابق الماء وغيرها من النباتات المائية، وهو ما جعله يكتسب أسماء محلية مثل جَوَّاب زنبق الماء أو حتى طائر اليسوع (شكل ٢-٣). للوهلة الأولى، لا يبدو أن لهذه الطيور نظامَ تزاوجٍ استثنائيًّا؛ فالطيور الشرسة الأكبر حجمًا، ذات اللون الزاهي، تحمي مجموعات الطيور الأصغر حجمًا والأكثر شحوبًا التي تعتني بالصغار. ولكن في تباين استثنائي، نجد أن طيور اليقنة الأكبر حجمًا والأزهى لونًا هي الإناث، التي تشتبك مع إناث أخريات وتضع البيض لكل ذكر من الذكور التي تعشش بداخل منطقة نفوذها. ويُطلق على نظام التزاوج هذا تعدد شركاء التزاوج، وهو النقيض لتعدد شريكات التزاوج الأكثر شيوعًا.

إن الندرة النسبية لنظام تعدُّد شركاء التزاوج، على الأقل على المستوى الاجتماعي، حيث ترتبط الأنثى لفترات طويلة بأكثر من ذكر واحد، أمر مفهوم. فعلى ما يبدو أنه في الكثير من الأنواع، إن لم يَكُن أغلبها، لا تستفيد الإناث والذكور كثيرًا من ارتباط أنثى واحدة بعدة ذكور، لا سيما عندما يكون النسل من ذكَر واحد فقط؛ نظرًا لأن الأنثى لا تستطيع أن تَحبَل مرةً أخرى، إن جاز لنا التعبير، عن طريق التزاوج عدَّة مرات أكثر من اللازم لتخصيب بيضها. ويظهر تعدُّد شركاء التزاوج أيضًا في عدة أنواع أخرى من الطيور الساحلية؛ إذ تتزاوج الإناث بذكر، وتضع حضنات من البيض، وتتركها لذكر ليحضنها ويرعى الأفراخ الصغيرة، ثم تنطلق لتفعل الشيء نفسه مع حضنات بيض أخرى وذكر آخر. وفي مثل هذه الحالات، لا ترتبط الأنثى بجميع شركاء التزاوج في آنٍ واحد، لكن لا يزال أكثر من ذكر واحد يتزاوج بأنثى واحدة.

fig6
شكل ٢-٣: تشتبك إناث اليقنة مع إناث أخريات للدفاع عن مناطق النفوذ التي يحتضن فيها عدة ذكور البيض وتعتني بالأفراخ الصغيرة.

يظهر تعدُّد شركاء التزاوج في عدد أقل من أنواع الثدييات، رغم أننا نراه في قردة الجبون وبعض أنواع قردة الطَّمارين، وهي قردة صغيرة الحجم تنتمي إلى رئيسيات الإقليم المداري الجديد وتسكن الأشجار. في مثل هذه الأنواع، بمجرد أن يُولد الصغار، تُسلمها الأنثى إلى أحد الذكور في المجموعة، والذي يحملها بدوره من مكان إلى آخر ويحميها؛ إذ يقوم بالأساس بكل مهامِّ رعاية الصغار عدا الرضاعة. ويظهر تعدُّد شركاء التزاوج لدى الإناث في عدد قليل جدًّا من المجتمعات البشرية تُعد على أصابع اليد الواحدة، لا سيما في أجزاء من الهند والتبت ونيبال، حيث تجمع المرأة بين أخين في بعض الأحيان وتتخذهما زوجين لها.

لا يزال السبب وراء نشأة نظام التزاوج هذا حيثما نشأ غير واضح، ويخمن بعض الباحثين أنه على الأقل في الطيور الساحلية، ربما يكون تعدد شركاء التزاوج شكلًا من أشكال التكيف مع الارتفاع الشديد لمعدلات افتراس العش، لدرجة أن الإناث تكون تحت ضغط انتخاب شديد لتضع عددًا كبيرًا من حضنات البيض لضمان أن حضنةً واحدة على الأقل ستبقى على قيد الحياة. بالطبع، في كلا الشكلين لتعددية شركاء التزاوج، إذا استلزم نجاح التناسل وجود رعاية أبوية، فلا بدَّ أن يكون أحد الأبوَين قادرًا على تقديم تلك الرعاية كلها أو أغلبها. وربما يكون في هذا القصور تفسير للسبب وراء انتشار تعدُّد شركاء التزاوج أكثر في تلك الطيور التي تضع صغارًا مبكرة النضج، بما فيها الطيور الساحلية، حيث تكون الأفراخ قادرةً على التحرك والعثور على طعامها، خلافًا لتلك الطيور التي تضع صغارًا ضعافًا تتطلب مزيدًا من الرعاية الفائقة.

واحد زائد واحد يساوي اثنين

عندما يمكث ذكر واحد وأنثى واحدة معًا طَوال موسم التزاوج أو أغلبه، نُطلق على نظام التزاوج هذا التزاوج الأحادي. ورغم أنه يعني دومًا اقتران الذكر والأنثى، فربما يستمر الزوجان معًا مدى الحياة، كما في إوز التندرا وبعض الأنواع الأخرى، أو لموسم تزاوج واحد أو موسمَين فقط، مع تغير الشركاء في الفترة البينية. وعادة، كلما مكث زوجان معًا وقتًا أطول، حقَّقا معدلًا أفضل في النجاح التناسلي.

fig7
شكل ٢-٤: قرَدة الجبون من الثدييات القليلة الأحادية التزاوج، وهي القردة العليا الوحيدة الأحادية التزاوج بخلاف البشر.

وغالبًا ما يرتبط التزاوج الأحادي بالرعاية الأبوية من جانب كلا الجنسين، كما هو الحال في الكثير من الطيور المغردة؛ حيث يبذل الذكر والأنثى على حدٍّ سواء جهدًا كبيرًا لجلب الحشرات إلى العش لكي تتغذى عليها الأفراخ الصغيرة. ورغم أن الذكور بوجهٍ عام تستفيد من التزاوج المتعدد، كما ذكرنا آنفًا، فقد ينشأ التزاوج الأحادي عندما تكون المساعدة من جانب الذكر ضرورية لبقاء الصغار على قيد الحياة. وربما يكون في ذلك تفسير للانتشار الواسع للتزاوج الأحادي في الطيور، إذ يحدث اقتران اجتماعي بين نسبة تُقدر بنحو ٩٠ بالمائة على الأقل من أنواع الطيور؛ فقدرتها المتطورة للغاية على الطيران تعني أن الفرخ الصغير يتطلَّب قدرًا كبيرًا من الرعاية ليُصبح مستقلًّا. علاوة على ذلك، بمجرد وضع البيض، يستطيع الذكر أن يفعل كل شيء تفعله الأنثى، من خلال توفير الحماية من الحيوانات المفترسة والمقومات الأساسية والغذاء للأفراخ الصغيرة.

بالطبع، يتفاوت كلٌّ من الذكور والإناث داخل الأنواع ذات التزاوج الأحادي في مقدار الرعاية المقدمة للأفراخ الصغيرة؛ فبعض الذكور تكون شديدةَ الاهتمام في حين يقدم البعض الآخر الحد الأدنى فقط من الرعاية الضرورية. وكما سنرى، قد يتوقف قدر المساعدة التي يقدمها الذكر على مدى انتشار التزاوج خارج نطاق الزوجين.

والتزاوج الأحادي نادر الحدوث نسبيًّا في الثدييات، وإن كان يحدث في بضعة أنواع، من ضمنها قرود الجبون، وهي رئيسيات طويلة الأذرع تعيش في غابات إندونيسيا (شكل ٢-٤). قد ينشأ التزاوج الأحادي الاجتماعي إذا عجز الذكور عن الوصول إلى الإناث نظرًا لأن تلك الإناث موزعة على مساحات متفرقة وواسعة في البيئة، أو لأنها قد تحول دون قتل الذكور للصغار. وعدد قليل من فئات الحيوانات الأخرى بالإضافة إلى الثدييات أحادية التزاوج أيضًا، بما فيها بعض الحيوانات التي ربما لا تتوقَّعها، مثل بضعة أنواع من الصراصير وبعض أنواع التماسيح. وأظهرت الدراسات الحديثة التي أُجريت على القوارض مثل فأر الشاطئ وفأر البراري أن النزعة للدخول في رابطة تزاوج مرتبط بالجينات التي تؤثر على مستويات الهرمون لدى الذكور وتؤثر بدورها على سلوكها الأبوي. ويمكن لحقن ذكر الفأر بهرمون مرتبط ببناء الجحور — الذي يُعد عنصرًا أساسيًّا لرعاية الصغار — أن يغير طريقة تصرُّفه. بالطبع لا يعني هذا أن الهرمونات تؤثر على نظام التزاوج، سواء في الفئران أو في البشر. ولكنه يوحي بأن الانتخاب يؤثر على الجينات التي تتحكم في مجموعة متنوعة من السلوكيات لتفرز التنوع الذي نلاحظه في أنظمة التزاوج.

القواعد والاستثناءات والتزاوج الإضافي الخارجي

من المهم إدراك أن ليس جميع الأفراد في نوع أو مجموعة تتبع نظام التزاوج نفسه. بعبارة أخرى، حتى في الأنواع التي نُصنفها ضمن الأنواع التعدُّدية التزاوج، ربما يحظى بعض الذكور بشريكات عديدات، فيما يحظى بعضها بشريكة واحدة، وبعضها الآخر لا يحظى بأي شريكات. وعلى نحوٍ مماثل، ربما لا يحظى فرد مُعين بعدد الشريكات نفسه على مدار حياته، بل يناوب بين الارتباط بعدة شريكات وشريكة واحدة أو البقاء دون تزاوج.

ومما يزيد الحيرة والالتباس، كما لاحظنا، أن التوصيف الدقيق والمنهجي لأنظمة التزاوج بدأ ينهار مع بَدء استخدام تقنيات البصمة الوراثية لإثبات الأبوة في الحيوانات البرية. كانت الطيور بالأساس ذات فائدة خاصة في هذا الصدد؛ لأن لديها خلايا دم حمراء ذات نواة، ومن ثَمَّ يمكن استخدام عينة دم صغيرة من فرخ صغير أو طائر بالغ للحصول على المادة الوراثية، رغم أنه في الآونة الأخيرة صار من الممكن الحصول على الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين (دي إن إيه) بسهولة من أنسجة متنوعة. ولذلك كانت الطيور من بين أول الحيوانات التي أوضحت مدى التعقيد الذي يكتنف عملية تحديد نظام التزاوج؛ ففي أنواع كثيرة من تلك التي يبدو فيها أن ذكرًا واحدًا يقترن بأنثى واحدة أثناء موسم التزاوج، يحدث التزاوج الإضافي الخارجي، ويكون لحضنات البيض التي تضعها أنثى واحدة عدة آباء. وتتفاوت الطيور في مدى إنجابها ذرية من التزاوج الإضافي، ولكن على الأقل يظهر في ٩٠ بالمائة من الأنواع ذرية أنجبها ذكر آخر غير الشريك الظاهري.

أضحت أسباب الاختلاف بين الأنواع موضوع الكثير من الأبحاث؛ إذ يدرس العلماء دور المتغيرات البيئية مثل الموسمية والجغرافية وكذلك قدْر التنوع الوراثي في المجموعة ككل. ومن أجل التفكر مليًّا في هذا الفهم، يفرق العلماء الآن بين نظام التزاوج الاجتماعي — أي شكل الروابط الاجتماعية والسلوكية بين الجنسين — ونظام التزاوج الجيني، الذي يحدد من الذي يمرر الجينات إلى الجيل التالي.

في حين أن استفادة الذكر من تخصيب بيضات أنثى في منطقة نفوذ ذكر آخر واضحة، فإنه يتعرض أيضًا إلى خطر قيام ذكور أخرى بالشيء نفسه تجاهه. فكيف تتحاشى الذكور هذه المشكلة؟ كما سنناقش في الفصل الخامس، في الكثير من الأنواع تخضع شريكة التزاوج للحراسة بعد حدوث التزاوج الفعلي، ومن خلال هذه الحراسة يظلُّ الذكر مع الأنثى ويحاول ثَنْيَها عن البحث عن شركاء إضافيين. وحراسة شريكة التزاوج بهدف منع الأنثى من التزاوج بذكور إضافيين هي عملية واسعة الانتشار، وتحدث في الحيوانات بكل أنظمة التزاوج تقريبًا، وليس فقط الحيوانات أحادية التزاوج الاجتماعي. فبعض ذكور الفراشات تحرس شريكات التزاوج ليس بالتواجد ماديًّا مع الأنثى، وإنما من خلال إفراز مادة أثناء القذف تجعل الأنثى منفرةً للذكور الآخرين، كنوع من التثبيط الجنسي. وفي بعض الحيوانات، يهجر الذكر الأنثى إذا ما انفصلت عنه أثناء الفترة التي تسبق وضع البيض؛ لأنها في تلك الفترة ربما تكون قد تزاوجت بذكر آخر.

ومن منظور أنثوي، يبدو الانخراط في التزاوج الإضافي الخارجي أمرًا محيرًّا؛ فإذا كان بإمكان ذكر واحد تخصيب جميع بيضات الأنثى، وإذا جازفت بهجر شريك التزاوج لها أثناء فترة الرعاية الأبوية، فلماذا إذَن تلجأ إلى عَلاقات التزاوج الإضافي هذه؟ طُرحت عدة تفسيرات مختلفة للفوائد التي تعود على الأنثى من التزاوج بعدة ذكور أو التزاوج الإضافي خارج رابطة التزاوج.

أولًا، على رغم أنه من الناحية النظرية يُنتج ذكر واحد ما يكفي من الحيوانات المنوية لتخصيب جميع البيض الذي تضعه الأنثى، فربما لا يكون هذا صحيحًا دائمًا، وهذا يعني أن التزاوج بمزيدٍ من الذكور يمكن أن يضمن الخصوبة، مما يحدُّ من خطر عدم تخصيب بعض البيض بسبب عقم الذكر. وثمة فكرة ذات صلة هنا مفادها أن التزاوج الإضافي ربما يضمن على الأقل أن واحدًا من شركاء التزاوج لديه جينات تتوافق مع بيض الأنثى من الناحية الوراثية. وتفترض هذه الفكرة أن ثمة مجموعات معينة من الجينات، لا ذكور معينة وحسب، تكون محبذة على نحوٍ خاص، وهو موضوع سنعود إليه في الفصل الثالث. ثانيًا، إذا كانت الإناث تنتقي شريكها المبدئي لأنه يُقدم مزايا مباشرة مثل الرعاية الأبوية، فربما تعظم كفاءتها أيضًا من خلال التزاوج بذكر يتمتع بجودة وراثية عالية، ولكن ليس من المحتمل أن يُقدِّم مثل هذه المزايا. وتشير بعض الأبحاث إلى أن الإناث تُبالغ في التدقيق والانتقاء فيما يتعلق بذكور التزاوج الإضافي، وأن الخصائص التي قد تجعل أحد الذكور مناسبًا لعلاقةٍ طويلة الأمد ربما تختلف عن تلك الخصائص المتوفرة في الذكر الذي يتزاوج بأنثى مرة واحدة وحسب.

وفي الأنواع ذات المجموعات الاجتماعية المستقرة، كما في بعض الرئيسيات وغيرها من الثدييات، ربما تحصد الإناث التي تتزاوج بعدة ذكور المزيد من المزايا المباشرة على هيئة موارد تتاح في وقت التزاوج، أو فيما بعد إذا شاركت الذكور في الرعاية الأبوية. وهذا التفسير مرتبط بفكرة اختلاط النسب؛ فإذا كانت الأنثى تتزاوج بعدة ذكور في مجموعتها الاجتماعية، وكانت الذكور تميل إلى الإسهام في رعاية نسل الإناث اللاتي تقترن بها، إذَن فلن يستطيع أي ذكر أن «يحدد» أي ذرية أنجب؛ ومن ثم يكون الذكور أكثر ميلًا للمساعدة في رعاية الصغار.

اكتُشف وجود التزاوج المتعدد لدى الإناث في وقتٍ متأخر إلى حدٍّ ما من تاريخ الانتخاب الجنسي، رغم أن كتَّابًا أوائل مثل أرسطو أشاروا إلى أن الدجاجات المنزلية تتزاوج بعدة ديوك. وربما لأن تركيز الكثير من الباحثين الأوائل قد انصب على الطيور والثدييات، فإن فكرة توقع ندرة تعدد شركاء التزاوج بدت منطقية بالنسبة إلى علماء الطبيعة الذين لاحظوا أن الإناث تتزاوج بعدة شركاء في عددٍ قليل فقط من الأنواع مثل طائر اليقنة. ولكن فيما بين الحشرات واللافقاريات الأخرى، يُعد التزاوج المتعدد القاعدة لا الاستثناء. وعلى مدار العَقد الماضي أو نحو ذلك، بدأ العلماء يعيدون التفكير في دور تعدُّد شركاء التزاوج في الانتخاب الجنسي، وذهبوا إلى حد الإشارة إلى «ثورة تعدد شركاء التزاوج» في فكر علماء الأحياء.

تطبيقات عملية

قد يبدو الأمر كما لو أنه ليس هناك أيُّ تطبيق عملي لدراسة أنظمة التزاوج، رغم أهميتها من المنظور التطوري والسلوكي. ولكن في الحقيقة، قد يكون فهم نظام التزاوج في نوعٍ ما ذا أهميةٍ بالغة في الحفاظ على أعداده أو فهم مدى احتمالية استمراره.

على سبيل المثال، نادرًا ما يقتل الصيادون الحيوانات دون النظر إلى جنسها أو سنها؛ فغالبًا ما تمثل الذكور الأكبر حجمًا أهدافًا مفضلة لهم. قد يبدو الأمر كما لو أنها استراتيجية حكيمة؛ نظرًا لأن الإناث الباقية من المفترض أن تستطيع أن تعوض الأفراد التي فُقدَت من الجماعة، إلَّا أن تأثير غياب الذكر متوقف على نظام التزاوج المتبع. فإذا كان النوع أحادي التزاوج، ورعاية الصغار تستلزم كِلا الأبوين، على سبيل المثال، فإن فُقدان الذكر ربما يعني أيضًا أن الأنثى لا يمكنها أن تتكاثر بمفردها، ويكون التأثير مُشابهًا لفقدان أسرة بأكملها. عوضًا عن ذلك، إذا فُقد ذكر من نوعٍ ما تسيطر فيه الذكور على مجموعات الإناث، قد يكون لهذا تأثير غير متكافئ على المجموعة نظرًا لأن إناثًا كثيرات تُترك دون ذكر لإنجاب الصغار.

وبالاستعانة بنماذج حسابية لدراسة آثار الصيد في مجموعة كبيرة من أنواع الثدييات في تنزانيا، وجد العلماء أن صيد الذكور فقط من المرجح أن يؤديَ إلى تراجع الأعداد أكثر من صيد أفراد كِلا الجنسين، لا سيما في الأنواع الأحادية التزاوج أو تلك الأنواع التي يساهم فيها الذكور بالرعاية الأبوية. وباستخدام معلومات نظام التزاوج، استنتج العلماء أنه بالنسبة إلى الكثير من الأنواع، من بينها الفهود والأسود والخنازير الوحشية وأنواع عديدة من الظباء، تكون معدلات الصيد أعلى من النسبة النموذجية التي تؤدي إلى الحفاظ على أعداد الحيوانات التي يجري صيدها. ونظرًا لأن نظام التزاوج غالبًا ما يرتبط بالاختلافات في معدل الوفيات بين الجنسين، مثل الذكور أحادية التزاوج التي تعيش وقتًا أطول من الذكور شديدة التنافس في الأنواع التي تتسم بتعدُّد شريكات التزاوج، فمن المهم مراعاة هذه الاختلافات السلوكية قبل وضع السياسات.

بالمثل يؤثر نظام التزاوج على الحجم الفعلي للمجموعة، وهو مصطلح يستخدمه علماء الأحياء لا لوصف الأعداد الفعلية للأفراد في مجموعةٍ ما، وإنما لوصف الأعداد التي تتكاثر بالفعل وتورث الجينات إلى الأجيال التالية. فقد يبدو أن نوعًا ما يتمتعُ بأعدادٍ كبيرة، ولكن إذا كانت النسبة التي تتكاثر من الحيوانات صغيرة، تكون المجموعة أصغر بكثيرٍ من منظور الحفاظ على النوع، مع احتمالية انخفاض مستوى التنوع الجيني، واحتمالية وجود خطر انقراض أكبر مما قد يبدو عليه للوهلة الأولى. مرة أخرى، قد تسفر أنظمة تعدُّد شريكات التزاوج عن انخفاض الحجم الفعلي للمجموعة إذا تكاثر عددٌ قليل من الذكور مع الكثير من الإناث، وهو أمر يجدُر بالمعنيِّين بالحفاظ على البيئة أن يضعوه في الاعتبار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤