الفصل السابع

كيف يؤدي الجنس إلى بقاء الأنواع؟

أحد الأسئلة الأكثر جوهرية في علم الأحياء يتعلق بكيفية نشأة الأنواع الجديدة. ونظرًا إلى أن تلك العملية تتضمن التكاثر، ونظرًا إلى أن التكاثر كثيرًا (ولكن ليس دائمًا) ما يعني الانتخاب الجنسي، فليس من المُستغرَب أن الانتخاب الجنسي كان يُعتقَد أنه يلعب دورًا في نشوء الأنواع أو الانتواع، أي الطريقة التي تنشأ بها الأنواع الجديدة وتظلُّ باقية. في الواقع، لاحظ داروين أن كثيرًا من المجموعات التي تحظى بأكبر عددٍ من الأنواع المختلفة، مثل طيور الجنة، كانت تحظى أيضًا بأكثر الذكور بهرجة وزينة. وكما أشرنا في الفصل الأول، فإن الانتخاب الجنسي، والمجموعة المتنوعة والمذهلة من مظاهر الزينة والتسلُّح الناتجة عنه، صار يُعرف الآن بأنه أكثر بكثيرٍ من مجرد وسيلة تتعرف بها الإناث على ذكر من النوع المناسب لها. ويمكن أيضًا أن يكون المحرك الذي يحفز نشوء الأنواع الجديدة.

كيف تتكون الأنواع؟

تنشأ الأنواع الجديدة — التي سنقوم بتعريفها باعتبارها مجموعات من أفراد هجينة منعزلة تناسليًّا عن المجموعات الأخرى — عند وجود معوقات أمام التناسل الحر بين الأنواع. بعض هذه المعوقات واضحة: مثل وجود سلسلة جبال تفصل بين مجموعات كان بينها اتصال، أو انفصال المجموعات نتيجة انزياح القارات. وبعضها يكون أقل وضوحًا، عن طريق حدوث تغيرات في توقيت زيارة مجموعات مختلفة من الحشرات للنباتات بحثًا عن الغذاء والتكاثر مثلًا. في النهاية، تصير المجموعات منعزلة وتتشعَّب إلى نوعَين منفصلَين، ذي تركيب جيني مختلف.

إذا التقت المجموعات مرة أخرى، فربما لا تتمايز بالشكل الكافي وتبدأ في التناسل فيما بينها، وهو ما يعني أن عملية نشوء الأنواع لم تَكُن مكتملة. أما إذا عجزت عن التناسل فيما بينها، فيمكن أن تظهر المُعوِّقات على أحد مستويين. أولًا، قد لا يحدث التزاوج في المقام الأول؛ ربما لأن الإناث لا تدرك الذكور باعتبارها شركاء تزاوج مناسبين، أو لأن أعضاءها التناسلية لم تَعُد تتناسب تمامًا مع أعضاء الذكور. ويُطلق على هذا انعزال تكاثري قبل زيجوتي؛ هذا لأن المجموعات تنعزل قبل أن تتاح الفرصة لتكوين زيجوت أو لاقحة، أو بويضة مُخصبة. ثانيًا، حتى إذا تزاوج ذكر وأنثى من المجموعتين، فربما لا ينجبان ذرية قادرة على النمو والبقاء على قيد الحياة؛ نظرًا لأن نسبة عدم التوافق الجيني بين الاثنين أعلى مما ينبغي. وكما أشرنا في الفصل الأول، على سبيل المثال، تعد البغال الذرية الناتجة عن تناسُل ذكر الحمار مع أنثى الحصان، وفي حين أن البغل نفسه قادر على البقاء على قيد الحياة، فإنه يعجز عن التناسُل، ومن ثم لا يمكنه الاستمرار في البرية. وهذا الانفصال يُطلق عليه انعزال تكاثري بعد زيجوتي. وتزعم العديد من الدراسات أن الانعزال التكاثري قبل الزيجوتي أهم من الانعزال التكاثري بعد الزيجوتي بالنسبة إلى عملية نشوء الأنواع، وهو ما يعني أنه من المرجح أن يلعب الانتخاب الجنسي — الذي يعد العملية الأساسية لالتقاء شركاء التزاوج معًا في المقام الأول — دورًا في ذلك.

في كلتا الحالتين، تواصل المجموعتان تطورهما بعد أن يتجدد الاتصال بينهما مرة أخرى. ويُطلق على إحدى علامات هذا الاتصال انزياح الخصائص التكاثرية، الذي بمقتضاه تتطور خصائص معينة مستخدمة في انتقاء شريك التزاوج لتصير أكثر اختلافًا في مناطق حدوث هذا الاتصال مقارنة بما هي عليه في أماكن لا يرجح أن تلتقي فيها المجموعتان. فعلى سبيل المثال، أحيانًا تسكن أنواع مختلفة من سمك أبو شوكة الثلاثي الشوكات، وهي أسماك صغيرة تعيش في أماكن كثيرة بالعالم، نفس البحيرات بكندا وأحيانًا تُوجَد بمفردها منعزلة. عندما يسكن نوعان من سمك أبو شوكة البحيرة نفسها، فإنهما يتطوران إلى شكلين مختلفين. يتغذى أحدهما من المياه المفتوحة والآخر يتغذى من قاع البحيرة. ويختلف النوعان في الحجم وشكل الفك والجسم، وكل هذا يساعد النوعَين على تناول طعام مختلف. ولا تبقى الذرية الهجينة الناتجة من التزاوج بين الشكلين على قيد الحياة أو تتكاثر مثلما يفعل الأبوان. ولكن إذا تواجد نوع واحد فقط في بحيرة ما، فإنه يتمتع بخصائص وسيطة بين الخصائص التي تظهر عند وجود أنواع متعددة معًا. وقد ثبَت حدوث انزياح الخصائص في عددٍ من الحيوانات الأخرى، من بينها الضفادع، التي تطور اختلافات في النداءات المستخدمة لجذب شركاء التزاوج عند التقاء الأنواع المتشابهة، وفي الطيور، التي ربما يكون بينها اختلافات أوضح في شكل مناقيرها، وتتبع أنظمة غذائية أكثر تمايزًا إذا كانت تعيش في المنطقة نفسها التي تعيش فيها أنواع قريبة الصلة منها.

أيهما أهم: الغذاء أم الجنس؟

لطالما كانت الأهمية النسبية للانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي في تكوين الأنواع موضع نقاش ساخن. تخضع الحيوانات التي تعيش في موائل مختلفة لأنواع مختلفة من الانتخاب الطبيعي، ومن ثم تحفز العوامل البيئية بوضوح قدرًا، ولو قليلا، من التباين بين المجموعات. ولكن ما دام الانتخاب الجنسي يجعل بعض الأفراد أكثر جاذبية كشركاء تزاوج من غيرهم، فثمة احتمال قائم بأنه يشكل أيضًا الطريقة التي تتزاوج بها المجموعات فيما بينها ومن ثم احتمالية التشعب إلى أنواع مختلفة. وعادةً ما ترتبط الاختلافات البيئية بإمكانية الوصول إلى مصادر الغذاء؛ ومن ثم يكون الانتخاب الطبيعي هو مرادف الانتخاب بناءً على القدرة على البحث عن الطعام. غير أن البحث عن شركاء التزاوج مُشابه تمامًا للبحث عن الطعام، وهو ما يجعل العمليتَين متشابهتَين. إذَن فالجنس يُشبه الطعام إلى حدٍّ كبير، بعدَّة طرق، وكلاهما له القدرة على تقسيم أحد الأنواع السالفة وتشعُّبها إلى عدة أنواع متمايزة.

تخيل أن مجموعة من الحيوانات تأكل الكثير من الأشياء المختلفة، ولكن كل فرد فيها مُتخصص في طعام مُعين. إن الطريقة التي تتجمَّع بها الأفراد ذات التخصصات الغذائية تلك كجزء من المجموعة الأكبر تحدد الطريقة التي يحتمل أن تنقسم بها المجموعة إلى أنواع مختلفة. ثمة نمط مُشابهٍ قد يظهر فيما يتعلق بانتقاء شريك التزاوج، ومن ثم يمكن أن تشتمل مجموعة ما على ذكور تتمتع بمجموعةٍ متنوعة من مظاهر الزينة، مثل ذيول مختلفة الأحجام. غير أن الإناث المختلفة قد تفضل ذكورًا بأطوال ذيول مختلفة. وفي كلتا الحالتَين، يَسهُل التنوع عندما تكون تفضيلات هؤلاء الأفراد محدودة وتجتمع في إطار تفضيلات أشمل للمجموعة (شكل ٧-١). وما زلنا لا نفهم متى أو لماذا تجتمع مثل هذه التفضيلات الفردية سواء للطعام أو شركاء التزاوج على هذا النحو؛ ومن شأن فهم هذا الأمر أن يقطع بنا شوطًا طويلًا نحو مساعدتنا في فَهْم آلية عمل كل من الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي لتكوين الأنواع الجديدة.
fig29
شكل ٧-١: السبل المؤدية إلى الانتواع، إمَّا من خلال الوسائل البيئية أو التفضيلات على صعيد شركاء التزاوج. يعني استغلال البيئة الملائمة أنواع الموائل وتفضيلات الطعام لدى حيوانٍ ما؛ فسمكة تتكاثر في أي مسطح من مسطحات المياه العذبة من شأنها أن تتمتَّع ببيئة ملائمة أكبر من السمك الذي يعيش في جداول المياه الصغيرة السريعة الجريان. ويمكن أن يحدث مزيد من التباين بين الأفراد عندما تغير مجموعة بأكملها تفضيلاتها فيما يتعلق بشركاء التزاوج أو استغلالها للبيئة الملائمة أو عندما يتخصَّص الأفراد بداخل المجموعة. ويحابَى الانتواع إذا كان هؤلاء الأفراد المتمايزين أكثر عرضة للتزاوج معًا.

العلاجيم والأسماك والأقفال والمفاتيح

تقدم بعض مجموعات الحيوانات أمثلةً إيضاحية جيدة للغاية على كيفية انقسام المجموعات إلى أنواع بسبب نوعٍ وحيد من الإشارات الجنسية يُستخدَم لتمييز الشريك المناسب بهدف التكاثر. غالبًا ما تُستخدَم الضفادع والعلاجيم، وحيوانات أخرى تُصدِر نداءات التزاوج، لدراسة تأثير الانتخاب الجنسي على تكوين الأنواع. فمن السهل على العلماء قياس نداءاتها، وتسجيلها، وتشغيلها كخلفيةٍ صوتية في التجارب، حيث يمكنهم ملاحظة طريقة استجابة الإناث لإشارات الذكور بمختلف أنواعها.

كان للانتخاب الجنسي دَور في الانتواع في ضفدع أمازوني، يُسمَّى «فيسيلوميوس بيترساي». فبعض مجموعات الضفادع تُصدِر نداءً بسيطًا بمكون يُطلق عليه «أنين»، ولكن في مواضع أخرى، يضيف الذكور أحيانًا مكونًا آخر يُطلق عليه «النقر». وتميل الإناث إلى تفضيل نداءات الذكور من مجموعة موطنها، وحتى في الأماكن التي تتداخل فيها الأنواع، ثمة تبادل جيني ضئيل، يوحي بأن المجموعات في طريقها نحو الانفصال بعضها عن بعض. والأهم من ذلك أن المجموعات ذات النداءات المختلفة أكثر تمايزًا من الناحية الجينية مقارنة بالمجموعات التي فصلتها نفس المساحة الجغرافية، ولكنها تتمتَّع بتعبيراتٍ صوتية مماثلة. ومن المفترض أن المجموعات ستصير أكثر تمايزًا من الناحية الجينية مع مرور الوقت. وتُعدُّ حقيقة أن سمةً منتخبة جنسيًّا قد تشعَّبت في حين ظلت الخصائص الباقية متماثلةً نسبيًّا بين المجموعات دليلًا آخر على أن الانتقاء الجنسي في حد ذاته قد حفز هذه العملية.

وعلى الرغم من أن الإشارات الجنسية الواضحة مثل نداءات الضفادع لها أهميتها في تمييز الأنواع بعضها عن بعض، فقد أدرك العلماء مؤخرًا أن الخصائص الأقل وضوحًا يمكن أن تكون جوهريةً أيضًا لإيجاد تنوع الكائنات على الأرض والحفاظ على هذا التنوع. فلكي يلتقي الحيوان المنوي بالبويضة، يجب أن تكون الأعضاء التناسلية الذكرية والأنثوية متوافقةً معًا. يبدو هذا شرطًا بسيطًا نسبيًّا، ولكن الأعضاء التناسلية للعديد من الحيوانات، لا سيما الحشرات، مُعقَّدة على نحوٍ مثير للدهشة، إذ تكون ذات امتداداتٍ متداخلة التفاصيل ومجموعة متنوعة من الأشواك ونتوءات لدى الذكور وقنوات ملتوية لدى الإناث. كان الاعتقاد في البداية أن هذه البنى تؤدي دور المعوقات أمام عمليات التهجين بين الأنواع المختلفة فيما يُسمَّى بآلية «القُفل والمفتاح»، التي بموجبها يمكن استخدام «المفتاح» المناسب فقط من جانب الذكر لتخصيب الأنثى ذات «القفل» المتوافق مع هذا المفتاح.

الواقع أن فرضية القفل والمفتاح أشبه بالفكرة القائلة إن الانتخاب الجنسي يتمحور بالكامل حول تعرُّف النوع. ولا تفسر هذه الفكرة، رغم أنها مقبولة من الناحية البديهية، التنوع الاستثنائي للأعضاء التناسُلية بين الأنواع، ولا تفسر أيضًا لماذا تختلف درجة تعقيد الأعضاء التناسلية باختلاف نظام التزاوج. ماذا لو كانت الأعضاء التناسلية عُرضة للانتخاب الجنسي عن طريق التنافس وانتقاء شركاء التزاوج كما هو الحال مع السمات الأخرى، بدلًا من أن تكون مجرد قِطَع أُحجية يجب أن تتوافق معًا؟ إذا كان الانتخاب الجنسي مسئولًا عن تطور شكل العضو التناسلي وحجمه، فمن المفترض أن نتوقَّع رؤية أنماطِ تشعبٍ في الأعضاء التناسلية توازي آلية عمل الانتخاب الجنسي. ومن ثم، ففي الأنواع الأحادية التزاوج، حيث تتزاوج الإناث بذكرٍ واحد فقط، تكون فرصة تأثير الانتخاب الجنسي على شكل العضو التناسلي أثناء العملية الجنسية وبعدها محدودة؛ ومن ثم يفترض أن نتوقَّع أن تُظهر هذه الأنواع تشعبًا تطوريًّا في شكل العضو التناسلي على نحوٍ أقل بكثير من الأنواع التعددية التزاوج. ويبدو أن هذا الافتراض يحظى بأدلةٍ داعمة في عدة أنواع مختلفة من الحيوانات (الفصل الخامس).

كما رأينا، من الممكن أن يعيق الانتخاب الطبيعي المبالغة في الخصائص الجنسية الثانوية المألوفة مثل التغريدات أو الريش، إذا كانت مظاهر الزينة هذه تجعل صاحبها لافتًا للضواري أكثر مما ينبغي. واتَّضح أن ثمة موازنات مماثلة بين الانتخاب الجنسي والانتخاب الطبيعي تحدُث فيما يخصُّ الأعضاء التناسلية أيضًا، وربما تتسبَّب في تشعُّبٍ تناسلي سريع، ومن ثم نشوء أنواع جديدة. على سبيل المثال، يمتلك ذكر سمك البكيلليات (وهي الفصيلة التي تضمُّ أسماك الجوبي وغيرها من أنواع الحيوانات المائية الأليفة) زعنفة شرجية كبيرة مُعدلة تقوم مقام «القضيب»، ويمكن أن تُصعِّب على السمكة السباحة وتَجنُّب الأسماك المفترسة. وهذا يعني أن كلًّا من الانتخاب الجنسي والطبيعي يعمل على تغيير شكل الأعضاء التناسلية في مثل هذه الأنواع. والواقع أن ذكورًا من مجموعات أسماك البعوض في الأماكن التي تخلو من الأسماك مفترسة تتمتَّع ببنًى تناسلية مختلفة على نحوٍ ملحوظ عن تلك الأسماك الموجودة في أماكن تُوجَد فيها أسماك مفترسة.

تلعب الموازنات المرتبطة بالانتخاب الجنسي دورًا أيضًا في الحفاظ على الفصل بين نوعَين من علاجيم قدم المجرفة الأمريكية، وهو نوع من العلاجيم التي تعيش في الصَّحْراء وتنمو شراغيفها في البرك المؤقتة في جنوب غرب الولايات المتحدة. يحدُث تهجين بين النوعَين، على الرغم من أن نتائج مثل هذا التزاوج عبر الأنواع لا تكون مواتية: فالذكور المهجَّنة قد تكون عقيمة، وتُنتج الإناث المهجنة عددًا أقل من البيض مقارنةً بالإناث النقية النوع. إذَن، لماذا لا تزال الأنواع الهجينة مستمرة؟ أليس من المفترض أن يمحوها الانتخاب من المجموعة؟

تكمن الإجابة في التفاعل بين بيئة العلجوم أثناء تطوره من شرغوف إلى علجوم بالِغ وبين نوعه. فلو كنتَ شرغوفًا في بركة تجفُّ سريعًا، فكلَّما كان بإمكانك تسريع وتيرة تطورك إلى كائن يتنفَّس الهواء، كان هذا أفضل لك. وقد اتَّضح أن الشراغيف الهجينة تتطور أسرع من الشراغيف المنتمية إلى أحد نوعَي الأبوين. وبناء على الظروف المحيطة، سوف تحظى الأنثى التي تنتمي إلى أحد الأنواع بعددٍ أكبر من الذرية الباقية على قيد الحياة، إذا فضلت التزاوج مع ذكرٍ من نوع مختلف. وقد أوضحت التجارب بالفعل أن أنثى علاجيم قدم المجرفة الأمريكية تفضل نداءات الذكور المنتمية إلى نوعها عندما تكون البركة عميقة ومستدامة، ولكنها تفضل نداءات الذكور من نوعٍ مختلف عندما تكون البركة ضحلة ومن المرجَّح أن تجفَّ قريبًا. بالإضافة إلى هذا، تنجب إناث العلجوم التي تحظى بظروفٍ جيدة ذرية تتطور على نحو أسرع. ويصبح تفضيل الإناث للذكور من النوع «الخطأ» أكثر وضوحًا عندما تكون الإناث في ظروفٍ سيئة؛ لأنها تستفيد فيما يبدو من خلال اكتساب أي ميزةٍ تستطيع الحصول عليها لذريتها، حتى وإن كان هذا يعني أن الذرية ليست قويةً مثلما يمكنها أن تكون.

نادرًا ما تتجاذب الأضداد

بالرغم من أن علاجيم قدم المجرفة الأمريكية توضح طريقةً يمكن أن تجعل التزاوج مع نوع مختلف مفيدًا، فإن في معظم الحالات يحدث الانتخاب ضد السلالات الهجينة؛ لأنها إما تكون أقل خصوبة أو أقل قدرة على البقاء من أي نوعٍ من نوعَي الأبوين. ومن منظور حيوان فردي، سيكون من المثالي تَجنُّب إنجاب هذه الذرية المهجنة من الأساس. وإحدى الطرق للقيام بذلك هو التزاوج مع أفراد أخرى شبيهة بالفرد نفسه؛ بحيث تقترن الذكور الأكبر حجمًا بالإناث الأكبر حجمًا وتقترن الإناث الأصغر حجمًا بالذكور الأصغر حجمًا مثلًا. ونطلق على هذه العملية للتزاوج بناءً على خصائص الفرد نفسه اسم التزاوج المتلائق. يعني التزاوج المتلائق الإيجابي أن الفردين المقترنين يختاران الخصائص نفسها التي يتمتعان بها، بينما في التزاوج المتلائق السلبي يختاران الخصائص المتضادة.

وبالرغم من أن تفضيلات التزاوج تلعب دورًا في التزاوج المتلائق، فمن الأهمية بمكان إدراك أنه يختلف عن الانتخاب الجنسي، ويمكن أن تحدث العمليتان على نحوٍ منفصل أو تحدثان معًا. يحدث الانتخاب الجنسي عندما يتمتع الأفراد بالتكاثر التفاضلي بفضل قدرتهم على التنافس على شركاء التزاوج، ولكن ربما يحدث تزاوج متلائق حتى إذا كان جميع الأفراد يتمتعون بنجاحٍ تناسُلي متكافئ؛ فإذا تزاوج جميع الذكور الخضراء اللون مع الإناث الخضراء وتزاوج الذكور الزرقاء مع الإناث الزرقاء، ولكن لا تتمتع الأفراد الخضراء أو الزرقاء بكفاءة أعلى، ففي هذه الحالة لا يكون الانتخاب الجنسي مفعَّلًا. وعلى النقيض، إذا كانت الإناث الخضراء والزرقاء تُفضل الذكور الخضراء، لا يكون التزاوج المتلائق واضحًا وإنما يكون الانتخاب الجنسي مفعَّلًا؛ لأن الذكور الخضراء اللَّون تتمتع بنجاحٍ تناسُلي أعلى من الذكور الزرقاء اللون. وتجدُر الإشارة أيضًا إلى أن الأفراد المتشابهة الشكل يمكن أن يَئول بها الأمر إلى اقتران بعضها ببعض رغم أنها لا تستخدِم خصائصها كمعايير. إذا كان الأفراد ذوي الجودة العالية قادِرين على جذب أفرادٍ آخرين ذوي جودة عالية كشركاء تزاوج، تاركين بذلك الأفراد ذوي الجودة الرديئة ليختاروا فيما بينهم، فربما يبدو الأمر كما لو أن الفرد يختار الشريك بناءً على سماته الخاصة، في حين أنه في الحقيقة، إذا أُتيحت الفرصة، كان سيُفضل الجميع أن يكون لديه شريك ذو جودة عالية. بالمثل، إذا كانت أحجام الذكور والإناث تتفاوت على نحوٍ مشترك مع مرور الوقت ويتمُّ أخذ عيناتٍ من الأزواج على مدار فترة طويلة، ربما يبدو الأمر كما لو أن الأفراد الكبيرة الحجم والصغيرة الحجم يختار بعضها بعضًا، إلا أن الأمر هو فقط أن المجموعة المتاحة من شركاء التزاوج تتغير مع مرور الوقت. في النهاية، ربما يحدث التزاوج المتلائق إذا تعذَّرت المغازلة أو العملية الجنسية حال وجود تبايُن ملحوظ في الحجم بين شركاء التزاوج؛ ولقد أشير إلى وجود قيود من هذا النوع بالنسبة إلى الضفادع وأنواع معينة من المفصليات، لا سيما الأنواع المائية مثل الحشرات المتزلجة على سطح الماء التي ناقشناها في الفصل السادس، وفيها يحمل أحد الجنسين الجنس الآخر.

يظهر التزاوج المتلائق في كل من اللافقاريات والفقاريات على حد سواء، بما فيها البشر. وفي حالات كثيرة، يحدث التزاوج المتلائق الإيجابي بناءً على الحجم؛ فعلى سبيل المثال، في أنواع كثيرة من القشريات والحشرات، نجد أن الذكور الكبيرة الحجم تتناسل عمومًا مع الإناث الكبيرة الحجم. وربما يرجع ظهور هذا النمط إلى أن الذكور الأكبر حجمًا أكثر نجاحًا في المنافسة على شركاء التزاوج وأكثر قدرة على اختيار الإناث الأكبر حجمًا التي تضع بدَورها عددًا أكبر من البيض.

ربما تتزاوج الحيوانات أيضًا على نحوٍ تلائقي بناءً على السلوك، لا المظهر. ففي أنواع كثيرة من الطيور المغردة، تفضل الإناث التزاوج مع الذكور التي تغرد بنفس نغمة التغريدات التي يغردها آباؤها. وقد يحدث هذا النوع من التزاوج عبر عملية تُسمى البصمة الجنسية، يتعلم فيها صغار الحيوانات مجموعة من السمات أثناء فترة حرجة ثم تستخدم هذه السمات كمعايير عند البحث عن شريك تزاوج بعد البلوغ. وعلى الرغم من أن البصمة الجنسية تنطوي على تعلم، فيمكن أن يكون لها تداعيات جينية مهمة؛ نظرًا لتثبيط التهجين واحتمال حدوث انفصال بين المجموعات.

وُجد التزاوج المتلائق الإيجابي بين البشر لمجموعة متنوعة وكبيرة من السمات، من بينها الصفات الجسدية مثل الطول والوزن النسبي وكذلك السمات النفسية مثل الميل نحو السلوك المعادي للمجتمع. كذلك يبدو أن العوامل البيئية مثل مستوى التعليم والمكانة الاجتماعية الاقتصادية تتفاوت تفاوتًا مشتركًا بين المتزوجين، وعلى الرغم من أننا نرى في مجتمعات كثيرة ميلًا لدى النساء نحو «الزواج من طبقة أعلى»، بحيث تكون النساء أكثر عُرضة من الرجال للارتباط بشركاء حياة أفضل منهنَّ تعليميًّا ومن طبقة اجتماعية أعلى منهن. ومن المثير للاهتمام أن الشركاء الذين يعيشون معًا دون زواج أكثر اختلافًا من المتزوجين، على الأقل في بعض الأحيان. ويشير علماء الاجتماع وعلماء النفس إلى أن مثل هذا التباين المشترك في الخصائص غير الجينية ربما يُعيق محاولات دراسة إمكانية انتقالها بالوراثة أو المساهمات النسبية للجينات والبيئة في تطوير السمات الشخصية أو حالات مرضية مثل السمنة.

fig30
شكل ٧-٢: في عُصفور الدُّوريِّ الأبيض الحلق، يتخذ الجنسان شكلَين مختلفَين، وتفضل الإناث التزاوج بذكَر من الشكل المعاكس لها.
على الرغم من أن التزاوج المتلائق الإيجابي أكثر شيوعًا، فهناك بعض الأمثلة المذهلة على التزاوج المتلائق السلبي. فعصفور الدوريِّ الأبيض الحلق الذي يعيش في أمريكا الشمالية يظهر في شكلَين مختلفين: عُصفورٍ دُوريٍّ ذي خطوط بيضاء، مع خطوط أفتح عند قمة الرأس، وخطوط صفراء أفتح عند العينَين، وخطوط أقل وضوحًا في الرقعة عند منطقة الحلق، وشكل آخر ذي خطوط سمراء، وهو أصغر حجمًا وأقل شراسة (شكل ٧-٢). ويُظهر الجنسان ثنائية الشكل الجنسي، التي يتسبَّب فيها اختلاف في أحد الكروموسومات. ويتزاوج زُهاء ٩٨ بالمائة من عصافير الدُّوريِّ في أي مجموعة بعصفور من الشكل المعاكس. فعندما أُتيح لعصافير الدُّوريِّ من كِلا الجنسَين وكِلا الشكلَين الاختيار بين شركاء تزاوج من كلا الشكلين، فضَّلت الإناث ذات الخطوط السمراء والخطوط البيضاء الذكور ذات الخطوط السمراء، على الأقل ما دامت العصافير كلها موجودة معًا في القفص نفسه وكانت الذكور قادرة على التفاعل مع الإناث. وحين كانت الإناث ترى شركاء التزاوج المحتملِين عبر نافذة فقط، لم تكن تظهر أي تفضيلات. من ناحية أخرى، فضل كِلا نوعي الذكور الإناث ذات الخطوط البيضاء، ولكن فقط حين لم تَكُن تتفاعل مع الإناث. ويتم الحفاظ على التزاوج المتلائق السلبي من خلال القدرة التنافسية الأعلى لدى الإناث ذات الخطوط البيضاء، القادرة على الاقتران بالذكور المفضلة ذات الخطوط السمراء.

وقد يُساهم التزاوج المتلائق في نشوء الأنواع في إطار سياقين. أولًا: يمكن أن يتسبب في انقسام مجموعة واحدة إلى مجموعتين، مما يؤدي إلى نشوء أنواع جديدة مع استمرار وجود النوعين في المكان نفسه. ثانيًا: من الممكن أن يحافظ على التمايز الجيني للمجموعات التي يحدث اتصال فيما بينها بعد انفصالها، ومن ثم الحيلولة دون اندماجها مرة أخرى في مجموعة واحدة. ونظرًا لإمكانية حدوث تزاوج متلائق دون حدوث انتخاب جنسي، لا يقود التزاوج المتلائق دومًا إلى الانعزال التكاثري. ومما له أهمية مماثلة هو درجة اختلاف أو تنوع الإناث في تفضيلاتها للذكور.

الانتخاب الجنسي ومعدل التنوُّع التطوُّري

نعرف أن التطور يحدث لجميع الكائنات الحية، ولكن لماذا يبدو أن بعض المجموعات تغيرت قليلًا نسبيًّا على مدار فترات طويلة من الزمن، في حين انقسمت مجموعات أخرى إلى أنواع مختلفة كثيرة على مدار عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من السنين، أي في غمضة عين من منظور الزمن التطوري؟ يبدو أن عدة مجموعات من الحيوانات قد انحدرت من سلفٍ مشتركٍ واحد وانقسمت إلى مجموعة ثرية التنوع من الأنواع بسرعةٍ كبيرة، وكثيرًا ما يلعب الانتخاب الجنسي دورًا في هذه العملية.

الفكرة بسيطة: إذا كانت الإناث المختلفة تتمتع بتفضيلات مختلفة للإشارات الجنسية من جانب الذكور مثل التغريدات المعقدة أو الريش الملون، وترث ذريتها هذه التفضيلات، فربما أن ما كانت تمثل سابقًا مجموعة واحدة مهجنة قد انفصلت إلى مجموعات فرعية عديدة، كلٌّ منها له مجموعة من الإشارات والتفضيلات الخاصة بها. فإذا كانت الذرية تميل نحو تفضيل شركاء التزاوج المشابهين لآبائهم، فإن هذا يُعزِّز الفصل. ومع مرور الوقت، يستمر الانتخاب داخل كل مجموعة من المجموعات الأصغر، وتتشعب المجموعات أكثر، مما ينتج عنه في النهاية مجموعة من الأنواع.

رغم أن أصل هذا المفهوم يرجع إلى داروين، فمن الصعب اختباره مباشرة. غير أنه من الممكن مقارنة عدد الأنواع في مجموعة مُعينة من الحيوانات لنرى ما إذا كانت النزعة نحو التشعُّب مقترنة بالنزعة نحو التحلِّي بمظاهر زينة جنسية مفرطة. وقد قامت إحدى الدراسات بذلك، مُستعينة بالطيور المغردة من مختلف أنحاء العالم. فحص الباحثون أزواجًا من مجموعات الطيور، مع وجود أنواع داخل كل مجموعة نشأت من سلَف مشترك. ثم قاسوا درجة اختلاف ريش الذكور والإناث في المجموعات المتنوعة. في بعض الأنواع، مثل طائر الفَرَّان، يبدو الجنسان شِبهَ متطابقَين، بينما في أنواع أخرى، مثل معظم طيور التناجر، تتمتع الذكور بألوان زاهية بينما تكون الإناث شاحبة نسبيًّا وغير لافتة للنظر. ومن المفترض أن الانتخاب الجنسي كان أشد وتيرة في الأنواع التي تنطوي على اختلافات أكبر بين الجنسين. بعد ذلك أحصى العلماء عدد الأنواع في كل زوج. وإجمالًا، كلما تزايد الاختلاف بين الذكور والإناث داخل مجموعةٍ ما، زادت الأنواع داخل هذه المجموعة، وهو ما يوحي بأن الانتخاب الجنسي قد شجَّع التنوع في الطيور المغردة.

اقتُرحت عمليات مشابهة لعددٍ من العمليات التي يُطلق عليها «التشعُّب التكيفي»، ناتجة عن تنوع سريع إلى أنواع عديدة منحدرة من سلفٍ واحدٍ عندما يُتيح تغيير ما في البيئة موارد جديدة، أو عند ظهور فرصٍ جديدة للانتخاب. وتشتمل الأمثلة الشهيرة على التشعُّب التكيفي طيور الجنة في غينيا الجديدة، وطيور حَسُّون جالاباجوس التي درسها داروين نفسه، والسمك البلطي في بحيرة مالاوي بأفريقيا، والسحالي التي تعيش على جزُر بمنطقة البحر الكاريبي. وتبدو مجموعات الحيوانات التي تعيش على الجزر عُرضةً بصورةٍ خاصة للتشعُّب التكيفي؛ ربما لأن بمجرد ظهور فرد مستوطن، يظهر العديد من الفرص والبيئات الجديدة ويمكن لنسله أن يحتلَّ مجموعة متنوعة من الموائل ويتخذ مجموعة متنوعة من الأشكال.

fig31
شكل ٧-٣: خريطة للجزيرة الكبرى بهاواي، بها خمس مناطق يسكنها مجموعات مختلفة من ذبابة الفاكهة، «دروسوفيلا الغابات» (مظللة باللون الرمادي). تطور المجموعات الموجودة في جانب هيلو من الجزيرة، التي تكون أصغر سنًّا من المجموعات في جانب كونا، اختلافات يمكن أن تؤدي مع مرور الوقت إلى نشوء نوعٍ جديد. خطوط المنسوب مقاسة بالأمتار.
ويضمُّ بعض أكثر الأمثلة المثيرة لعمليات التشعُّب التكيُّفي حيوانات أقل لفتًا للانتباه بكثير من طيور الجنة أو حتى السحالي. لطالما اشتهرت جزر هاواي بتنوُّعها الاستثنائي في الحيوانات والنباتات التي ينحصر وجودها في منطقة صغيرة فقط. وفي الكثير من الحالات، نشأت أشكال مختلفة عديدة من سلفٍ واحد استطاع أن يشق طريقه إلى هذه الجزر المنعزلة في المحيط الهادئ، وهو ما يتبين على نحوٍ رائع من خلال ذبابة الفاكهة الصغيرة الحجم. أغلب الناس يحسب ذباب الفاكهة، الذي ينتمي إلى فصيلة ذباب الخل، مجرد ذباب ضئيل الحجم باهت اللون يحوم حول الفاكهة الفاسدة أو حتى أكوام القمامة، إلَّا أن جزر هاواي بها أكثر من ٨٠٠ نوع مختلف من ذباب الخل (دروسوفيليد)، أكثر من أي مكانٍ آخر في العالم. وكل هذه الأنواع لها سلفٌ واحد مشترك، ربما أُنثى واحدة طارت أو حُملت بحرًا أو جوًّا على ساق طائر حتى وصلت إلى هاواي ومن ثم وضعت بيضها في الأرض الجديدة. والذباب الذي نجده اليوم في هاواي مختلف على نحوٍ مذهل في الحجم والمظهر الخارجي؛ إذ يتراوح طُول جسده بين أقل من ١٫٥ ملِّيمتر (١٦ جزءًا من البوصة) وأكثر من ٢٠ ملِّيمترًا (ثلاثة أرباع بوصة). ويشغل الذباب موائل مختلفة كثيرة، بداية من الغابات المطيرة الوارفة في الأودية التي تعزلها الجبال الشاهقة وحتى الحقول العشبية الموجودة على ارتفاعات شاهقة (شكل ٧-٣).

يتباين ذباب الخل على جزر هاواي في سلوكه التكاثري؛ فبعضه يضع بيضة واحدة فحسب وبعضه الآخر يضع المئات في المرة الواحدة. والانتخاب الجنسي بين الذباب متباين بالقدر نفسه، وربما تساهم الاختلافات في سلوك المغازلة والتزاوج في استمرار نشوء الأنواع الجديدة في هذه المجموعة. يعيش أحد الأنواع، المسمى دروسوفيلا الغابات، في الغابات الباردة والرطبة على ارتفاع ٧٥٠ مترًا (٢٥٠٠ قدم) فوق سطح الأرض، ويضع البيض في اللِّحاء المتحلل للأشجار. تتمتع أنواع كثيرة من ذباب الخل بطقوس تزاوج معقدة؛ إذ تُصدِر ذكور بعض الأنواع طنينًا بتردُّد أعلى مما يستطيع البشر سماعه، من خلال هزِّ أجنحتها بأنماط معقدة، وتؤدي أنواع أخرى رقصات تجتذب بها الإناث الجاهزة للتزاوج في الجوار. وتتمتَّع ذكور دروسوفيلا الغابات بمجموعة من الشعيرات على أرجلها الأمامية تفركها بأجساد الإناث أثناء فترة المغازلة، إلا أنها لا تستخدمها دومًا بالطريقة نفسها. وفي النصف الشمالي الشرقي من جزيرة هاواي، الذي يُسمى الجزيرة الكبرى، تحظى الذكور بعددٍ أكبر بكثيرٍ من الشعيرات من الذكور الموجودة في الجانب الجنوبي الغربي. من المفترض أن التبايُن قد تطور عبر الانتخاب الجنسي، وإذا واصلت الإناث من الجزء الشمالي الشرقي تفضيل نوعية المغازلة التي لا يستطيع تقديمها غير الذكور ذات الأرجل المشعرة، فسوف تواصل المجموعات التمايز بطرق أخرى يمكن في النهاية أن تقسمها إلى نوعَين.

تشكيل السلوك للأنواع

تتباين أنواع ذبابة الخلِّ المختلفة من حيث المظهر والسلوك، وفي حين أنه من المُسلَّم به منذ أمدٍ بعيد أن الاختلافات في شكل الحيوانات قد تقود إلى نشوء الأنواع عبر التأثير في الطريقة التي يتعرف بها شركاء التزاوج بعضهم على بعض، فإن الدور الذي يلعبه السلوك في تكوين الأنواع مُثير أكثر للجدل. وعلى الرغم من أننا نعرف أن السلوك الذي يتَّخذ هيئة المغازلة كثيرًا ما يؤثر على انتقاء شريك التزاوج ومن ثم تبادل الجينات بين مختلف المجموعات، فلم يتَّضح بعدُ كيف يُسهِم تطور السلوك في التنوع. ويرجع السبب في ذلك جزئيًّا إلى أن السلوك مرن للغاية؛ إذ يتغير أثناء نمو الفرد أو عندما تكون الحيوانات في ظروف مختلفة، ومن الصعب فَهْم الطريقة التي يمكن أن تؤثر بها تأثيرًا مستديمًا على تطور السمات الملموسة أكثر.

غير أن إحدى الدراسات وجدت أن السلوك، على هيئة تغريد الطيور على الأقل، كان يلعب دورًا مهمًّا في تكوين الأنواع. وفي حين أن ذكور الكثير من الطيور تغرد، فإن إحدى المجموعات الرئيسة، بما فيها عصافير الملك وطيور الفَرَّان، لا تُصدِر سوى تغريداتٍ بسيطة نسبيًّا ذات عددٍ قليل من النغمات، في حين أن مجموعة أخرى، من بينها طيور السُّمْنة وطيور النمنمة، تغرد التغريدات الشجية الملهمة بالأشعار وتعتمد على جهاز صوتي شديد التميز لإصدارها. وتغريدات المجموعة الأولى متوارثة، في حين أن المجموعة الثانية بحاجةٍ إلى تعلُّم تغريداتها، عادة من الأب. فحص العلماء معدلات الانتواع، التي تحددت باستخدام العَلاقات الجينية بين أفراد مجموعةٍ ما، في مجموعة فرعية من كِلا نوعي الطيور المغردة. كما قدروا أن تطور التغريدات بين الأنواع المختلفة، من خلال مقارنة المكونات داخل كل تغريدة وتحديد إلى أي مدًى تغيرت التغريدات على مدار الزمن التطوري. في كلتا المجموعتَين، كلما زاد معدل الانتواع، زاد معدل تطور التغريدات. بل والأكثر إثارة أن تطور التغريدات كان أسرع في مجموعة الطيور التي تعلَّمت التغريدات مقارنةً بالمجموعة ذات التغريدات الفطرية. وهذا يُشير إلى أن التعلم — تعلم التغريدات على الأقل، وربما أشياء أخرى كذلك — قد يصنع فارقًا في مدى سرعة اكتساب سمةٍ ما، وبالتبعية في سرعة التطور والانتواع.

ثمة رابط آخر بين السلوك والانتخاب الجنسي واحتمالية حدوث تغيرات في تعرف شريك التزاوج يأتي من دراسة للقدرة المعرفية في أسماك الجوبي، وهي ليست من الحيوانات المعروف عنها عمومًا أنها ذات مهارات عقلية. إلا أن انتقاء شريك تزاوج، بغض النظر عن النوع، يتطلَّب التقييم واتخاذ قرارات معقَّدة وهي القدرات التي قد تشجع التنوع. والقدرة المعرفية مرتبطة بحجم الدماغ، واستخدم العلماء الانتقاء الاصطناعي في انتقاء أسماك جوبي ذات دماغ كبير الحجم وأخرى ذات دماغ صغير الحجم، مما أوضح كما ينبغي الاختلافات في القدرة على حل المشكلات.

تكهَّن الباحثون حينئذٍ بأن إناث أسماك الجوبي ذات الدماغ الأكبر حجمًا من المفترض أن تكون أكثر قدرةً على تمييز ذكر جذَّاب عالي الجودة مقارنة بقريناتها ذات الدماغ الأصغر حجمًا، ومن ثم يُفترض أن تنتقيَ ذكرًا جذابًا بوتيرة أكبر (كما رأينا في الفصل الثالث، ذكرًا ذا رقع برتقالية أزهى). ومن أجل اختبار هذه الفرضية، قيموا تفضيلات الإناث من كل من السلالات المنتقاة وكذلك تفضيلات الإناث من مجموعات الأنواع البرية التي لم تخضع لأي انتقاء بناء على حجم الدماغ. وبالفعل فضلت كل من الإناث ذات المخ الأكبر حجمًا وإناث الأنواع البرية الذكور الجذَّابة، ولكن لم تُظهِر الإناث ذات الدماغ الأصغر حجمًا أيَّ تفضيل لنوعٍ مُعين من الذكور. لم يَكُن الاختلاف في التفضيلات بسبب اختلاف في القدرة البصرية، ما يعني أن التفضيلات لأنواع مُعينة من الذكور يمكن أن تنشأ بعدَّة طرق متنوعة أثناء تطور الدماغ، ومن ثم تُوجِّه الطريقة التي تصير بها المجموعات معزولة تكاثريًّا.

هل بإمكان الجنس أن يمنع الانقراض؟

يمكن النظر إلى الانقراض بوصفه المضاد للانتواع؛ إذ تختفي الأنواع من الوجود بدلًا من أن تتنوع. وهنا أيضًا ربما يلعب الانتخاب الجنسي دورًا. فنظرًا لأنه يسفر عن سماتٍ مبالغ فيها، مثل الذيل المروحي للطاووس، ونظرًا لأن تلك السمات عادةً ما تكون مؤذية أو مكلفةً جدًّا في إنتاجها، فقد أشير في بضع حالات إلى أن الانتخاب الجنسي أحيانًا يتجاوز كل الحدود، إن جاز التعبير، ومن الممكن أن يحكم على نوع ما بالانقراض. والإلكة الأيرلندية الشهيرة خير مثال على مثل هذا الإفراط التطوري الواضح (شكل ٧-٤). كان هذا النوع، الذي يُعرَف أيضًا باسم الأُيَّل الضخم، على قيد الحياة خلال العصر الجليدي (العصر البليستوسيني). كان طول الذكور يتجاوز المترَين من عند الكتفَين، وكانت قرونها الضخمة هي الأكبر بين أفراد فصيل الأُيَّل، إذ يصل طولها من الطرف إلى الطرف الآخر ٣٫٦٥ أمتار ويبلغ وزنها ٤٠ كيلوجرامًا. وتشير الأدلة الأحفورية إلى أن الإلكة كانت لدَيها دورة شبق أو فترة وداق، تمامًا مثل الأيائل الحديثة، وهو ما يعني أن الذكور كانت تتنافس على الأرجح للوصول إلى الإناث. وإنتاج القرون أمر مكلف جدًّا، والمنافسة الشديدة على شريكات التزاوج بين الذكور من شأنه أن يُسفر على الأرجح عن إصابة المتنافسين وأحيانًا موتهم. ورغم أننا لن نعرف يقينًا، فإن الكثير من العلماء تكهَّنوا بأن الانتخاب الجنسي للقرون الضخمة أدَّى في النهاية إلى وجود عدد قليل للغاية من الذكور في مجموعة الإلكة الأيرلندية، مما أدَّى بها إلى الانقراض في نهاية المطاف.
fig32
شكل ٧-٤: هيكل عظمي لذكر الإلكة الأيرلندية الضخم المنقرض إلى جوار هيكل عظمي لإنسان بهدف المقارنة.

من ناحية أخرى، ربما يستطيع الانتخاب الجنسي أن يمنع الانقراض. فإذا كانت الإناث لا تفضل إلا أنواعًا مُعينة من الذكور، فإن الذكور الأقل تفضيلًا تقلُّ فرصها في التزاوج، وبهذا يوفر الانتخاب الجنسي نوعًا من التصفية التي تحافظ على أنواعٍ معينة فقط من الأفراد. على سبيل المثال، وكما ناقشنا في الفصل الثالث، قد تفضل الإناث الذكور صاحبة العدد الأقل من الطفرات الضارَّة؛ ومن ثم فإن انتقاء شريك التزاوج «يمحو» الأشكال الجينية المغايرة الأقل تفضيلًا كل جيل. وبافتراض أن الذكور المفضلة هي ذكور ذات جودة أعلى من الذكور الأقل تفضيلًا، فهذا يعني أن الكفاءة الإجمالية للمجموعات المعرضة للانتخاب الجنسي الحاد ستكون أعلى من المجموعات التي لم تُعرَّض إلى هذا الانتخاب. والمحصلة النهائية مجموعات أقل عُرضة للانقراض.

وفي سبيل التحقُّق من أن هذه الفكرة ممكنة، أجرى العلماء مجموعة من التجارب باستخدام خنفساء الدقيق، وهي حشرة صغيرة كما يوحي اسمها، تغزو الدقيق وغيره من منتجات الحبوب المُخزنة. خضعت هذه الخنافس إمَّا للانتخاب الجنسي القوي أو الضعيف من خلال تنويع نسبة الجنس، بحيث حظيت بعض المجموعات بعدد ذكور أكثر من عدد الإناث (مما حفز منافسة شديدة على شريكات التزاوج)، وحظيت مجموعات أخرى بالعكس، وبعض المجموعات الأخرى تخضع إلى تزاوج أحادي قسري، بحيث استحال انتقاء شريك التزاوج (أو الانتخاب الجنسي). ثم حدث تزاوج داخلي للنسل الناتج من كل مجموعة (بحيث تزاوَج الإخوة مع أخواتهم) لاكتشاف أي طفراتٍ ربما تكون قد نشأت على مدار الأجيال السابقة. وسُمح للمجموعات بأن تنمو أو تنكمِش دون أي تدخُّل من الباحثين. وبالفعل، كانت احتمالات البقاء على قيد الحياة بعد حدوث التزاوج الداخلي للمجموعات التي تعرَّضت لانتخاب جنسي قوي أعلى، وأشار العلماء إلى أن وجود تاريخ من المنافسة على التزاوج يمكن أن يكون قد طهَّر المجموعة من الطفرات المشوهة. ولا يزال من غير المعلوم حتى الآن ما إذا كان هذا يعني أن الانتخاب الجنسي من الممكن أن يكون قد ساعد في نجاة الأنواع المهددة بالانقراض أم لا، إلا أن الفكرة تؤكد على أن فَهْم الانتخاب الطبيعي يمكن أن تكون له تداعيات عملية على حفظ الأنواع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤