الفصل الثالث عشر

نموذج خداع اللاوعي

تمارس الإعلانات سحرها على الجمهور غير المنتبه.

مايكل شودسون
«الإعلان: الإقناع الصعب» (١٩٨٤)

بعد عرض الكثير من المعلومات المستحدثة عن الكيفية التي يمكن أن تؤثر بها الإعلانات علينا، ربما تتساءل عن السبب الذي يدفعنا لإنشاء نموذجٍ جديد. لربما تتساءل أيضًا عن السبب الذي يمنعنا من تطبيق ما حصلنا عليه من معلوماتٍ وموادَّ على نموذج الإقناع الحالي. أقول إن السبب الذي يدفعنا لإنشاء نموذجٍ جديد هو أن بيئة الشراء قد تغيرت بالكامل في العقود الأخيرة الماضية. فلدينا أساليب تكنولوجية جديدة، وطُرُق تفاعل حديثة، وزيادة هائلة في عدد القرارات التي يتعين علينا اتخاذها يوميًّا.

تكنولوجيا حديثة

ليس هناك جدوى من التظاهر بأن العالَم لا يزال على حاله؛ فالأفلام على سبيل المثال كانت الدعامة الأساسية للبث التليفزيوني؛ حيث تجتمع الأسرة أمام التليفزيون عند الظهيرة أو المساء لمشاهدة أحد الأفلام. وهذا قدَّم الفرصة للشركات المُعلِنة كي تَعرِض إعلاناتها على جمهور المشاهدين.

ولكن الحال اختلف الآن، إذ يمكننا شراء الأفلام على أقراص دي في دي من محلات كبيرة أو شركات مثل «لاف فيلم»، فيمكن للمشاهد الاستمتاع بالفيلم أينما شاء (في غرفة النوم أو السيارة أو المطبخ) ووقتما شاء (أثناء تناول الغداء أو مساءً أو حتى في وقت متأخر من الليل). وفي بعض الحالات النادرة عندما يتم عرض فيلم لم يُعرض من قبلُ، يقوم أحدهم بتسجيله وتشغيله من جديد في وقت فراغه، وحينها يكون متاحًا له خيار تخطِّي الإعلانات. ولسنا مضطرين حتى لمشاهدة الأفلام على شاشة التليفزيون مع الآخرين، بل يمكن لأي فردٍ أن يشاهد أي فيلمٍ يعجبه وحده أو على شاشة الكمبيوتر. وبرغم الشاشات العريضة والشاشات المسطحة (وتكنولوجيا الصور ثلاثية الأبعاد)، فإن مشاهدة التليفزيون في جماعة صار إلى حدٍّ كبير شيئًا من الماضي.

إلا أن المسلسلات التليفزيونية وبرامج تليفزيون الواقع لا تزال كثيرة، بل وتقدم أيضًا فرصةً كبيرة للقائمين على صناعة الإعلان للحصول على جمهورٍ جيد. ولكنَّ جمهورًا يشاهد أشخاصًا مشهورين غير ذوي شأن يُضطَرُّون في الغابات لأكل الحشرات ليس مثل أفراد أسرة يجلسون في استرخاء معًا أمام التليفزيون لمشاهدة فيلم جيد. والحقيقة المُحزِنة هي أن الشركات المُعلِنة لم تَعُدْ تضمن عرض إعلاناتها في بيئةٍ ترفيهيةٍ عالية المستوى لجمهورٍ مسترخٍ سهل الانقياد.

البيئة الاجتماعية الجديدة

بموازاة التغير في التكنولوجيا، تغيرت بالفعل البيئة الاجتماعية التي تُمارِس فيها الإعلانات تأثيرها، فبالنسبة لمَن يعيش في الغرب، لم تَعُدِ الإعلانات التليفزيونية بذلك البريق الذي تميزت به عندما ظهرت لأول مرة. وبالتأكيد مَن وُلد في اليوم الذي عُرض فيه الإعلان التليفزيوني لساعات بولوفا في الولايات المتحدة الأمريكية (١ يوليو ١٩٤١) بلغ من العمر سبعين عامًا في ٢٠١١. وقد تم عرض الإعلان الأول على شاشة التليفزيون في بريطانيا في ٢١ سبتمبر ١٩٥٥ وكان يتعلق بمعجون أسنان «جيبس إس آر»؛ لذا فمَن وُلد في هذا اليوم بلغ من العمر ٥٦ عامًا في ٢٠١١. هناك قلة قليلة من الناس قد شهدت عالَمًا دون إعلاناتٍ تليفزيونية، ويتجلَّى هذا في الطريقة التي نتجاهلها بها. يشير مايكل شودسون في مقولته الواردة في بداية هذا الفصل إلى أنه في الحديث عن صناعة الإعلان، لا سيما الإعلانات التليفزيونية، لا تُعير الأغلبية الساحقة من الناس سوى قدر ضئيل من الانتباه لهذه الإعلانات، وهو ما يحدث عمومًا.

ولا يمكننا أيضًا إنكار أن بيئة التسويق التي تعمل من خلالها صناعة الإعلان قد تغيرت. لقد انتهى تقريبًا الزمن الذي كان يُذِيع فيه المُعلِنون تفاصيل منتجاتهم الجديدة على شاشة التليفزيون؛ فالتليفزيون وسيلة إعلامية مكلِّفة للغاية إذا أردتَ الخوض في تفاصيل منتج معين. وفضلًا عن ذلك، فإن أي فكرة أصلية لمنتج جديد غالبًا ما يقلِّدها المنافسون في وقت أقل بكثير من الوقت الذي يمكن أن يُستغرق في صنع إعلان تليفزيوني. وتُعَدُّ المكنسة الكهربائية دايسون دي سي وان مثالًا حيًّا على ذلك؛ فقد طُرحت هذه المكنسة الكهربائية في السوق عام ١٩٩٣ وكانت مزوَّدة بنظام شفاف لا يحتوي على حقيبة ويسمح برؤية الأشياء التي يتم الْتِقاطها من أرضية منزلك خلال عملية التنظيف. بالطبع كان يُنظَر إلى ذلك باعتباره فكرة عبقرية، ولكن في غضون ستة أشهرٍ فقط، وهو تقريبًا الوقت المستغرق في كتابة إعلان تليفزيوني وإجراء بحث بشأنه والتخطيط له وإطلاقه، يُقال إن أربع علاماتٍ تجاريةً على الأقل لمكانس كهربائية شفافة بلا حقيبة ظهرت في السوق.

عندما يكون من الممكن تقليد المنتجات المبتكرة بهذه السرعة، ما الداعي إذن لاستخدام وسيلة إعلامية مكلِّفة كالتليفزيون للإعلان عن أي أفكار جديدة سوى تلك الأفكار التي من شأنها أن تُحدِث تحولًا فعليًّا في المجال؟ ومن ثم النتيجة المباشرة المترتبة على السرعة التي تتمكن بها العلامات التجارية من مسايرة أداء العلامات التجارية المنافسة لها؛ تتمثل في أن الإعلانات التليفزيونية لا تُستخدم هذه الأيام من أجْل بيع المنتج، وإنما بهدف خلق مواقف إيجابية تجاه العلامة التجارية وإقامة علاقات إيجابية معها. وإذا أردتَ تفاصيل عن المنتج فيمكنك أن تجدها على الإنترنت.

ربما يجدر بنا أن نذكِّر أنفسنا بالهدف الذي نشأت من أجله العلامات التجارية، فقد ظهرت في الأساس باعتبارها طريقة للتمييز بين أبقار مزرعة معينة وأبقار مزرعة أخرى أقل جودة، وتحولت إلى طريقة للتمييز بين منتجات شركة معينة ومنتجات شركة أخرى أقل جودة. لكن اتضح بعد ذلك أنه بعيدًا عن كون العلامة التجارية وسيلة بسيطة للتمييز، أمكن استخدامها رمزيًّا لتوسيع نطاق ما تقدمه الشركة وتعزيزه. وقد أصبح هذا مفيدًا من ناحيتين؛ لأننا كمستهلكين وجدنا أننا نستطيع استخدام العلامات التجارية كوسيلة لاختصار المهمة غير السهلة المتعلقة باتخاذ قرار بشأن ما نشتريه.

ويوضح هذه الملاحظة جليًّا التجربة التي ألْمَحْتُ إليها في الفصل الثالث، والتي أُجريت عام ٢٠٠٠ على يد شتاين فان أوسيلير وجوزيف ألبا (٢٠٠٠). فقد قاما معًا بابتكار زوجٍ من العلامات التجارية الخيالية لقوارب النفخ، وتتميز كلٌّ منهما بخصائص مميزة عن الأخرى. بعد ذلك عرض الباحثان خصائص المنتجين على مجموعاتٍ مختلفةٍ مما أعطاهم مؤشِّرًا على الكيفية التي يتصرف بها الناس عند شراء منتجٍ لا يحمل علامةً تجاريةً. وقد توصلا إلى أن الطلاب فحصوا خصائص المنتجين حتى تأكَّدوا تمام التأكد أي من المنتجين يرمز إلى الجودة ثم تجاهلوا المنتج الآخر كما هو متوقَّع بالفعل.

وبعد ذلك، فحص الباحثان رد فعل الطلاب بعد عرض القوارب التي تحمل علامات تجارية على الطلاب أولًا. وكانت وجهة نظرهم أن العلامات التجارية «مؤشر» على الجودة، ولكنها لا «تُثبِت» تلك الجودة؛ ولذلك عندما تكون خصائص المنتج التي تثبت الجودة متاحة، يتجاهل الناس العلامة التجارية ويعودون إلى دراسة خصائص المنتج، لكن ما حدث بخلاف هذا. عند عرض العلامات التجارية أولًا، سرعان ما تَشكَّل لدى الطلاب تفضيل ما، وبعد ذلك بدلًا من فحص خصائص المنتج لمعرفة الخاصية أو السمة التي تدل على جودته، اكتفَوْا بمجرد فحص الخاصية أو السمة التي تكفي لدعم تفضيلهم للعلامة التجارية. لقد غُضَّ الطرف عن جميع خصائص المنتج الأخرى.

ومن ثَمَّ يبدو أن الفكرة القائلة بأن مجرد وجود العلامة التجارية على منتج معين يعوق سلوكنا التعليمي تبدو غير صحيحة بهذه الطريقة، فنحن نودُّ أن نبدوَ دومًا وأبدًا أناسًا يتصرفون بمنطق وعقلانيةٍ، ولكن المشكلة تتمثل في أننا لا نعيش في عالَمٍ يمنحنا وقتًا كافيًا لنتحلَّى بذلك المنطق وتلك العقلانية؛ فمعظم مَن يعيشون في بلدانٍ متقدمة يعيشون حياةً يملؤها الانشغال، حيث يكون التسوق مجرد نشاط ضمن أنشطة أخرى كثيرة مثل الاهتمام بالزوج، والأولاد، والمنزل، ووسائل الإعلام الاستهلاكية. ولكن ما يعقِّد من مشكلاتنا هو أننا عندما نقرِّر شراء شيءٍ ما نجد أنفسنا محاصَرِين بين منتجاتٍ متكاثِرة لا حصرَ لها يتعيَّن علينا الاختيار من بينها.

ديكتاتورية الاختيار

ما زلتُ أتذكَّر رفوف عبوات سمك التونة المعلَّب في متجر سنسبري الكبير في مدينة جرينفورد في عام ١٩٩٩. شَغَلَتْ هذه الرفوف نحو عشرين قدمًا من المتجر واحتوتْ على عبواتٍ مختلفة الأشكال والأحجام، فمنها العبوات الكبيرة المستديرة، والعبوات الصغيرة المستديرة، والعبوات الصغيرة البيضاوية، والعبوات الكبيرة البيضاوية. امتلأت تلك العبوات بأصناف مختلفة من سمك التونة، فمنه القِطَع الكبيرة، ومنه القِطَع الصغيرة، ومنه الشرائح، ومنه القِطَع المَخلِية. وقد اختلف النوع نفسه من أسماك التونة العادية إلى أسماك التونة الوثابة، وأسماك التونة الآسيوية وأسماك التونة ذات الزعنفة الصفراء. ومن هذه الأنواع ما نُقِع في محلولٍ ملحي، ومنها ما وُضع في زيت دَوَّار الشمس، ومنها ما وُضع في زيت الزيتون، ومنها ما وُضع في صوص الطماطم، ومنها ما وُضع في صوص المايونيز، ومنها ما وُضع في صوص المسطردة وغير ذلك. كل هذه الأنواع على اختلافها كانت تحمل علامات تجارية لأربع أو خمس شركات.

وعندما شعرتُ بأن الاختيار صعب، قررتُ أن أنفِّذ استراتيجيةً بسيطة، وذلك من خلال اختيار علامة تجارية معينة تَصِف نفسها بأنها «صديقة للدلافين»، ومع ذلك وجدتُ أن كل العلامات التجارية الأخرى تحمل نفس الشعار وتنسبه لنفسها، وهي مشكلةٌ أخرى، فمعظم العلامات التجارية تقريبًا تعرض الشيء نفسه ولكن في حُلَّةٍ مختلفة.

ومن ثَمَّ يجد المستهلك نفسه في حالةٍ شديدةٍ من الحيرة والاستنزاف النفسي … نظرًا ﻟ «فرط عدد الخيارات» كما هو مبيَّن في الفصل الثالث. وهذا بالضبط ما جعل فان أوسيلير وألبا يكتشفان أن الطلاب يختارون العلامات التجارية بغضِّ النظر عن خصائص المنتج. لقد صار الأمر طبيعةً إنسانيةً مستحدثة؛ حيث أصبحنا نبحث عن أسهل الطرق وأقصرها حفاظًا على الوقت والجهد. ولا يقتصر الحال على المنتجات البسيطة، بل يمتد إلى المنتجات الكبيرة والمهمة؛ فعلى سبيل المثال، يُقال إنَّ تعطُّل الغسالة الكهربائية من أكثر المشكلات التي نواجهها إرهاقًا (بعد الطلاق وشراء منزل)؛ لذا صار من المنطقي أن يبحث المستهلكون عن أكثر المنتجات والعلامات التجارية موثوقية. ولكن حاوِلْ أن تذهب إلى أحد الأسواق، وستجد نفسك في حَيْرة من أمرك للمفاضلة بين علامات تجارية تختلف فيما بينها من حيث برامج التشغيل، وسرعة الدوران، وكونها صديقة للبيئة من عدمه، وأسعارها، ولن تجد دليلًا واحدًا يرشدك إلى أي المنتجات أو العلامات التجارية أكثر مصداقية. وليس من المستغرب أن جيرارد تيليس يرى أنه «على العكس تمامًا من التصور الشائع، فإن أكثر المستهلكين لا يبذلون جهدًا كافيًا في البحث الجاد، حتى إنْ تعلق الأمر بمنتجات ذات تكلفة مرتفعة أو يشترونها على فترات متباعدة» (تيليس، ١٩٩٨).

والآن، كيف نخرج بقرارٍ مناسبٍ في هذا العالَم المحكوم بفرط الخيارات؟ الإجابة هي أننا نعتمد على الخطة الاحتياطية التي وضعها داماسيو، أو ما سمَّاه «التفعيل الخفي للتحيُّزات المرتبطة بتجارب عاطفية سابقة في مواقف مشابهة»، أو ما يُطلَق عليه اسم «الشعور الغريزي» أو «الحدس».

الحدس

تُعرَّف كلمة «الحدس» في قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية «بالقدرة على فهم الأمور غريزيًّا دون الحاجة إلى تفكير واعٍ.»1 هذا بالضبط ما يُخالِجنا عندما نستخدم الحدس، فعند استخدامه نفهم جيدًا أي المنتجات سنقوم بشرائه حتى ولو لم يكن هناك سببٌ عقلاني لذلك. في الواقع، السبب في اعتقادنا أننا نعرف الشيء الذي سنقوم بشرائه هو أننا وضعنا مؤشراتٍ وجدانيةً تكمن الآن في عقلنا اللاواعي وتحتمل التفعيل الخفي.

دعونا نُعطِ مثالًا يوضِّح طبيعة الحدس: قد يُخبِرنا أحد أصدقائنا في وقت ما من حياتنا أن غسالته الكهربائية قد تعطَّلت، ويلوم نفسه على أنه اشترى غسالة رخيصة مصنوعة في بلدٍ ما. وبعد فترةٍ من الزمن ينسَى مَن سمع القصة أحداثها على الرغم من تشكُّل بعض المؤشرات داخل العقل اللاواعي التي تدفعك للابتعاد عن شراء الغسالات الكهربائية الرخيصة المصنوعة من ذلك البلد تحديدًا؛ ومن ثَمَّ، عندما تهُمُّ بشراء غسالة كهربائية جديدة، فإنك تتجنب شراء العلامات التجارية الرخيصة وتلك المصنوعة في ذلك البلد.

في الواقع، وكما هو الحال بالنسبة لطلاب فان أوسيلير وألبا، فإنك لا تعبأ كثيرًا بالعلامات التجارية الأخرى؛ لأنك «تشعر» بأنك تريد أن تشتري العلامة التجارية الألمانية «بوش». ولكن لماذا تريد حدسيًّا أن تشتري منتجًا يحمل هذه العلامة التجارية تحديدًا؟ لأن هناك مؤشرًا لا واعيًا بداخلك يؤكد لك أن المنتجات الألمانية هي الأفضل صنعًا في العالم؛ ومن ثم هي الأكثر موثوقية؛ ومِن ثَمَّ يقع اختيارك على «بوش».

بطبيعة الحال، كون العلامة التجارية الألمانية «بوش» أغلى ثمنًا على نحو بسيط له دور في قرار الشراء. لماذا؟ لأن المؤشر الموجود داخل عقلك يخبرك بألَّا تَثِق في المنتجات الرخيصة، وهو ما يجعلك تَثِق في المنتجات غالية الثمن. وإضافة إلى ذلك، تجد أن هناك خصمًا بقيمة ١٠٪ على سعر العلامة التجارية الألمانية، وهو ما يجعلها أغلى من المنتجات الأخرى بنسبة بسيطة؛ ومن ثَمَّ يُصبح الإقبال عليها أكثر. انتبه إلى حقيقة أن نسبة الخصم لا تتعدَّى ١٠٪ لأن معظم المستهلِكين الآخَرين يُشبِهونك في أسلوب تفكيرك؛ ومن ثم يختارون العلامة التجارية الألمانية «بوش» حدسيًّا.

في أغلب الأحيان، صُنع القرار بالحدس يحدث على مستوى اللاوعي، وهو سلوكٌ عادي وليس استثنائيًّا. ولكن لا يعني ذلك أن عملية التسويق تقبل بفكرة أن هذا هو ما يحدث دائمًا. يقول جون بارج:

على الرغم من النتائج التي توصلتْ إليها الأبحاث الاستهلاكية في العقد الأخير، والتي ركَّزت بدورها على احتمالية وجود اختياراتٍ أو سلوكياتٍ تلقائية أو لا شعورية لدى المستهلك، فإن الأساليب المعرفية ما زالتْ تُهَيْمن على المجال، حيث يتم اتخاذ القرارات والقيام بالأفعال عن قصد. (بارج، ٢٠٠٢)

ومن ثم، فإن نوعية القرارات التي نتخذها والتي تتعلق بشراء غسالة كهربائية؛ قد تكون اتُّخذت بالفعل قبل أن تَطَأ قدمنا المتجر، وهذا هو نطاق خضوعنا للمؤثرات الخارجية. وبالطبع لم يلعب الإعلان دورًا فعليًّا في سيناريو الغسالة الكهربائية هذا، ولكن من السهل أن نعرض لكم كيف يمكن أن يكون له دور فعلي.

الآن يأتي دور الإعلان …

لنفرض أنك جالس أمام شاشة التليفزيون لتشاهد حلقةً معادةً من مسلسل «الأصدقاء» أو «نساء حائرات» أو أي مسلسلٍ آخَر حين بدأ عرض فقرة إعلانية. دعنا نفترض أنك لن تنهض من مكانك لإعداد كوبٍ من الشاي أو لن تغيِّر القناة، وستظل جالسًا. للتليفزيون أثرٌ بالغٌ في جعل المشاهد يجلس متسمِّرًا أمامه تمامًا كما لو كان خاضعًا لتنويم مغناطيسي. أتذكر روس جورليش، في دفاعه عن أحد الإعلانات التليفزيونية الذي لم يستغرق أكثر من ٣٠ ثانية وهو يقول: «هناك الكثير من المستهلكين الذين يعودون إلى منازلهم في المساء، ويُلغون عقولهم تمامًا، ويتسمَّرون أمام التليفزيون.»2 هذا هو الهدف الأساسي من مشاهدة التليفزيون؛ أن نستريح ولا نفكر في أي شيءٍ على الإطلاق.

وعندما يكون المشاهد في هذه الحالة من الكَسَل والاسترخاء أمام التليفزيون، فإن مستوى انتباهه لن يكون في أفضل حالاته. وباعتبار أننا لا نتوقَّع أن نتعلم شيئًا ذا أهمية كبيرة من إعلانات التليفزيون، فإنه لن يكون هناك أي تحفيز لزيادة مستوى الانتباه عندما تبدأ الفقرة الإعلانية. لكن عندما يبدأ الإعلان، فإنك ستعرف ما إذا كنتَ شاهدتَه من قبلُ أم لا … (تذكَّر وصف ليونيل ستاندينج لقدراتنا الإدراكية بالتفرد من خلال تجاربه المعتمدة على الصور) فإنْ أدركتَ أنك شاهدتَ ذاك الإعلان من قبلُ، فسوف يقلُّ مستوى انتباهك أكثر لأنك تعلم تمام العلم أنه ليس هناك جديد.

والآن دعنا نفترض أنك لم تتعرف على الإعلان وأنه لا يروِّج لشيء ترغب في شرائه بشدة. خلال عرض الإعلان، فإنك تسجل مجموعة من الآراء الحسية، وهذه بدورها تُطلِق مجموعة من التصورات، كل ذلك يحدث تلقائيًّا ولا شعوريًّا. وفي بعض الأحيان تشاهد أو تسمع شيئًا يسترعي انتباهك ولو قليلًا، وقد تقوم فعليًّا بشيء من التحليل. من الأشياء التي تُعيرها عادة شيئًا من انتباهك هُويَّةُ العلامة التجارية التي يتم الإعلان عنها (ألاحظ أنني أقول «هوية»؛ لأنها غالبًا ما تكون شعارًا وليست اسمًا يلفت انتباهنا للعلامة التجارية الفعلية). ولكن في هذه الحالة، لماذا يتوجب علينا الانتباه إلى ذلك؟ ببساطة لأنه بحكم غريزتنا نحن نرغب أن نفكَّ شفرة ما تراه أعيننا وتسمعه آذاننا، ونعلم أن الإعلان لا يكون له معنًى ما لم نَعرِف هدفه وبأي شيء يتعلق. ولكن بناءً على فرضية دينيت، فإن هناك احتمالية أن تكون فترة الانتباه قصيرة ويَلتَقِط الوعيُ العلامة التجارية لفترة وجيزة ثم سرعان ما تُنسَى.

أعتقد أن وكالات الإعلان تتسم بالغباء فيما يتعلق بموضع العلامة التجارية من الإعلان، فتلك الوكالات تَخشَى وضع العلامة التجارية في بداية الإعلان فتُدرِك أنت كمشاهد هدف الإعلان وصاحبه؛ ومِن ثَمَّ تنصرف عنه ذهنيًّا؛ لذا فإنها غالبًا ما تضع العلامة في نهاية الإعلان ظنًّا منها أننا سنُتابع الإعلان إلى النهاية لنتعرف على صاحبه. لكنَّ المؤسف بالنسبة لها أن معظمنا سرعان ما سينصرف عن الإعلان إذا لم نعرف بسرعة الهدف منه وما الذي يُعلِن عنه. وبحلول الوقت الذي تَظهَر وتتضح فيه العلامة التجارية في النهاية، سنكون على الأرجح قد نَسِينا القدْر الضئيل الذي استوعبناه بشأن ما كان يحاول الإعلان أن يقوله عن تلك العلامة التجارية.

من وقت لآخَر، يقودنا فضولنا إلى محاولة فهم رسالة الإعلان. وعندما يحدث ذلك، فإن الرسالة ستحقق أحد شيئين: إما أن تولِّد مجموعة من الأفكار التي بدورها ستغيِّر مِن مَوَاقِفنا. إنْ لم يكن هناك حافِز لنتذكَّر تلك التغييرات (كأن تكون متوقَّعة، أو مبتذَلة، أو ببساطة غير مُثيرة)، فإننا على مستوى الإدراك الحسي نستبعدها وننساها على الفور. وإما أن نُوليها اهتمامًا كبيرًا، وفي تلك الحالة سوف نفنِّدها ونقرِّر أنها هراء.

إذا استطاع الإعلان إيصال رسالة مُثيرة للاهتمام إلى عقولنا وأحدث تغييرًا في مواقفنا، فسوف يكون هناك زيادة في احتمالات شرائنا لمنتج يحمل تلك العلامة التجارية في وقت معين في المستقبل. ولكن من خلال التصفية الإدراكية الحسية والجدل المضاد والخمول العام، لن تتمكن معظم الإعلانات من تسجيل أي رسالة عقلانية لأكثر من ثوانٍ معدودةٍ بعد انتهائها.

وكما أوضحتُ سابقًا، إنْ شاهَدَ المستهلك الإعلان من قبلُ، فإن هناك احتمالًا كبيرًا لأن يكون مستوى انتباهنا أقل مما كان عليه في المرة الأولى؛ ومِن ثَم فإن قدراتنا التحليلية سوف تكون أقل نشاطًا، وسوف تقل احتمالات قيامنا بتفسير أو تذكر رسالة معينة … بالطبع إذا كان الإعلان يذكر شيئًا «جديدًا» بالفعل؛ ومن ثم مثيرًا بالنسبة لنا (كسعرٍ مميزٍ لسيارة أو أريكة أو إجازة أو موقع إلكتروني مُثير للاهتمام أو مُهِم … إلخ)، فسوف يكون هناك احتمال أكبر لأن نتذكره. ولكن بوجه عام لا يوجد الكثير من الإعلانات التليفزيونية التي تحفِّز انتباهنا لنوعية الرسائل العقلانية المتوقَّعة. من السهل أن يتجاهل العقل الادِّعاءات التافِهة من قَبِيل «منتجنا هو الأفضل في السوق»، أو «يتميز منتجنا بطعمٍ جيد لأننا لا نستخدم سوى أفضل المكونات الطبيعية»، أو «نحن نضمن لكم خدمة متميزة، وإلَّا يمكنكم استرداد نقودكم.»

ولكن هناك بعض العناصر التي تتم مُعالَجَتُها على مستوى الوعي وتمتلك فرصةً أفضل لأن تَعلَق في الذاكرة. إنِ اعتمد الإعلان على استخدام الشعار بثبات واستمرار، أو على شخصية شهيرة، أو على رسم أو تصميم فريد من نوعه، أو على مجموعة من الأحداث المتسلسلة، فسوف تربط حتى وإنْ كنتَ في حالة استرخاء بين الإعلان والعلامة التجارية بمُضِيِّ الوقت. من ضمن الأمثلة المألوفة على ذلك «رنين إنتل»، حيث يتميز الإعلان بأربع نغمات: الأولى والثالثة متماثلتان، والثانية أعلى، والرابعة أعلى من الثانية. تقريبًا لن تجد شخصًا في العالم لا يعرف هذا الرنين لأنه يصدر في أي إعلان عن جهاز كمبيوتر يستخدم مُعالِج إنتل.

ولهذه الارتباطات طبيعة طويلة الأمد، حيث ما زال الكثير من الناس في المملكة المتحدة حتى الآن يتذكرون شعارات: «لا تدع شيئًا يوقفك مع شيل»، و«ابدأ يوم عملك ببيضة»، و«جينيس مناسبة لك» حتى بعدما مرَّ عليها نصف قرنٍ من الزمان.

ومن أجل أن تفهم ذلك، اختبر نفسك وحاول أن تعرف اسم العلامة التجارية في هذه الإعلانات الأمريكية: Just do it! (فقط افعلها!)، وwe try harder (نحن نحاول أكثر)، وThat’ll do nicely (هذا كافٍ على نحو مناسب). وإذا كنتَ من سكان المملكة المتحدة، فجرِّب: Beanz meanz (الفاصوليا تعني)، وI bet he drinks … (أراهن على أنه يشرب …)، وLiquid Engineering (الهندسة السائلة). ليس لديَّ أدنى شكٍّ أنك ستَجِد الأمر سهلًا على نحو مذهل.

ما الذي تحقِّقه هذه الشعارات كي تَفهَم أنه يتعين علينا ترك الوعي والالتفات ثانيةً إلى اللاوعي؟

التكيُّف الترابطي اللاواعي

دعونا نعُدْ مجددًا إلى تدفُّق التصورات والمفاهيم الذي يَجرِي عندما يُشاهِد المستهلك الإعلانات التليفزيونية. وكما أوضحنا سابقًا، يحدث هذا التدفُّق خلال مشاهدة الإعلان لأننا ببساطة لا نستطيع مقاومة تلك التصورات والمفاهيم؛ ومن ثم فإن أي عنصر من عناصر الحملة الإعلانية يجد له مكانًا وموقعًا داخل العقل يجلب معه تدفُّقًا من التصورات والمفاهيم. وبالطبع هذا الأمر بديهي، حيث أكد فاتسلافيك أن «كل» عنصر تواصل «رقمي» له مفهوم «تناظري» وراء تواصلي.

هناك بعض التصورات التي تفتقر إلى الجانب العاطفي؛ فعلى سبيل المثال، «رنين إنتل» يُعَدُّ شعارًا تجاريًّا بحتًا، ولا يبعث بالكثير من القِيَم المفاهيمية. وباستخدام مصطلحات داماسيو، فإن المثال المبيَّن سابقًا يُعَدُّ ارتباطًا «غير فعَّال» من الناحية العاطفية، لكنَّ معظم الإعلانات تنقل الكثير من القِيَم المفاهيمية هذه؛ فعلى سبيل المثال تُثِير نيكول ووالدها في إعلان سيارة «رينو كليو» الإحساس بالأسلوب الراقي والإغراء الجنسي. ومن ضمن الأمثلة الأخرى جرو ورق تواليت أندريكس الذي يُطلِق أفكار القِيَم الأُسرية والرُّقِي في التعامل، أما موسيقى خطوط الطيران البريطانية، فإنها تثير أفكار الاسترخاء والسرور، وأما غوريلا إعلان «كادبوري» التي تطرق الطبول فتثير إحساسًا بالحرية، وأما موسيقى «سيجار هاملت» فتثير مشاعر المواساة. وفي كل حالة من هذه الحالات المبيَّنة، تعمل الارتباطات الفعالة عاطفيًّا التي نتعرض لها بشكل متكرر على تهيئتنا للشعور بأن العلامة التجارية التي يتم الإعلان عنها تحمل القِيَم العاطفية نفسها.

وبين الفَيْنة والفَيْنة، نصبح أكثر وعيًا بتلك الارتباطات العاطفية المفاهيمية (على سبيل المثال، عندما يسألنا شخص ينتمي لإحدى شركات أبحاث السوق عمَّا يُثِيره جرو أوراق تواليت أندريكس لدينا من أفكار). وفي معظم الحالات تبقَى تلك الارتباطات العاطفية قابعةً في العقل الباطن، وهناك تمارِس تأثيرها بالطريقة نفسها التي تُمارِس بها مؤشرات داماسيو تأثيرها؛ إذ إنه عندما نريد اتخاذ قرار ما، يكون لتلك المؤشرات الجسدية تأثير على الكيفية التي نصنع بها القرار. إنها تعمل أيضًا كمراقبٍ لا واعٍ عندما نحاول أن نتخذ قرارًا يتعارض معها. وإذا كنَّا في عجلة من أمرنا لاتخاذ قرار معين، فإنها يمكن أن توجِّه حدسنا وتصنع القرار بفعالية من أجلنا. يمكننا إيضاح الأثر الناتج عن تلك الارتباطات باستخدام دراسة حالة حملة طفل ميشلان الشهيرة.

دراسة حالة: حملة طفل ميشلان

في عام ١٩٨٤، كلَّفت شركةُ ميشلان وكالةَ دويل دين بيرنباك بتصميم إعلان لها، وابتكرت الوكالة حينها فكرة استخدام الأطفال في الإعلان تحت شعار «مع ميشلان، ستحظَى بأعلى درجات الأمان». قدمت الشركة إعلانات تعرض أطفالًا لمدة ١٧ عامًا، وذلك حتى أشار أحد الأشخاص العاملين لدَيْهم بقسم التسويق أن المستهلكين قد سَئِموا تلك الفكرة، أو أن هذه النوعية من الإعلانات لم تَذكُر القدْرَ الكافي من المعلومات عن إطارات ميشلان (وهو الأرجح). وسواء كان السبب هذا أم ذاك، تمَّ رَفْع تقرير بهذا الأمر للإدارة في فبراير ٢٠٠١، وخسرت وكالة دويل دين بيرنباك التعامل مع شركة ميشلان. عُرض الإعلان الأخير الذي يعرض أطفالًا في أبريل ٢٠٠١، حيث أُذيع فيه نبأ فوز الشركة بجائزة التميز في خدمة العملاء التي تمنحها شركة جيه دي باور المتخصصة في أبحاث السوق.

ومن ضمن الإعلانات الأكثر تأثيرًا إعلانٌ يعرض طفلًا يجلس داخل إطار سيارة ومعه كلب أشعث يجلس إلى جواره. في الخلفية تَظهَر نشرة أحوال جوية مصطنعة تتوقَّع جوًّا دافئًا قد يتحول إلى عواصف رعدية شديدة وفيضانات ثم إلى جليد يتحول إلى مطر متجمد. وبينما نسمع ذلك، يختفي الكلب عن الشاشة ويعود مرتديًا معطفًا أصفر اللون وحاملًا أحد جِرَائه (الذي يرتدي هو الآخر معطفًا). يُدخِل الكلب جروَه الصغير برفقٍ داخل الإطار إلى جانب الطفل الذي تبدو عليه الحيرة.

أُذيعتْ إعلانات الأطفال تلك خلال عقدين من الزمن وقد عزَّزت صورة العلامة التجارية ميشلان ليس فقط بين الأمهات اللائي لديهن أطفال بل أيضًا بين الناس عمومًا، ولكن كيف حدث ذلك؟ الأمر بسيط؛ فرؤية الطفل لا تعطي فقط إحساسًا باللُّطف والبراءة، بل الإحساس بالضعف أيضًا، وهو ما يثير الحاجة إلى السلامة؛ ومن ثم فإنه دون الحاجة إلى ادِّعاءات عقلانية بشأن أداء المنتج، تمكَّن الطفل الصغير من تكييف المشاهدين على الربط بين إطارات ميشلان والسلامة. وفي ظل غياب أي سببٍ عقلاني يدفع العميل لشراء المنتج، يكون لهذا المؤشر العاطفي أثرٌ كبيرٌ في اختيارنا للإطار؛ ومن ثَمَّ يجعلنا نفضِّل ميشلان على أي علامة تجارية أخرى.

ولكن المستهلك لا يشتري إطارًا جديدًا إلا بعد انفجار إطار سيارته أو عندما نعرف أن الإطارات التي نملكها لم تَعُدْ صالحة للطريق من الناحية القانونية. هذا ما يُطلق عليه الأسلوب المُسمَّى ﺑ «الشراء القائم على حدوث مشكلة»؛ ومن ثَمَّ يجب اتِّخاذ القرار هنا بسرعة. ففي موقف كهذا، يتوقَّع داماسيو أن حدسنا سيوجِّه على نحو مباشر عملية اتخاذ القرار، ولكن ما الذي يُثير حدسنا؟ إنه مؤشر الطفل الذي يكيِّفنا لتصديق أن إطارات ميشلان هي الأكثر أمانًا … هذا هو السبب الذي يدفعنا لشرائها.

هذا التكيُّف الارتباطي اللاواعي قد يكون له أثرٌ طويل الأمد، ويرجع ذلك في جزء منه إلى أنه يحدث على مستوى اللاوعي؛ ومن ثم لا يَلقَى أي معارضة أو جدل مضاد. وفي حالة إطارات ميشلان، ذكرت دراسة حالة جوديير التي كُتِبت بعد انتهاء حملة الطفل هذه بست سنوات أنه:
على الرغم من توقُّف عرض حملة الطفل التابعة لشركة ميشلان لسنواتٍ، ربطت هذه الحملة العلامة التجارية للشركة بالسلامة. فوفقًا لنظام تتبُّع العلامات التجارية لميلوارد براون، فإن إطارات ميشلان قد سبقت جوديير في عام ٢٠٠٦ من ناحية الرأي ومنظور الشراء، بل وحصلت أيضًا على تقديرات أعلى في بعض السمات المهمة مثل كونها علامةً تجاريةً حازت على ثقة مستهلكيها وتمتُّعها بجودة عالية.3

لذا، هناك طريقة يمكن للإعلانات التليفزيونية أن تؤثر بها على المستهلكين في حالة الاسترخاء من خلال التكيُّف الارتباطي اللاواعي. ولكن هناك طريقة أخرى مختلفة يمكن أن تؤثر بها الإعلانات التليفزيونية على المستهلكين على مستوى اللاوعي، وذلك من خلال التلاعب بعلاقتنا بالعلامة التجارية، وهو ما يحدث بالضبط مع الإعلانات التليفزيونية.

التلاعب بعلاقة اللاوعي

معظمنا لا يُمانِع ما يُعرَض على شاشة التليفزيون من إعلانات، فمُعظَم تلك الإعلانات رُوعِيَ فيها ألَّا تحويَ شيئًا مسيئًا، وبالطبع لا نجد بالضرورة تلك الإعلانات مسلِّية، حيث تُبيِّن الأبحاث أن مقدار التسلية فيها تراجَع بمعدَّل النصف تقريبًا على مدار العشرين سنة الماضية. ولكننا لا نعتبر الإعلانات في أغلب الأحيان على درجة كبيرة من الإزعاج؛ فنحن نعلم تمام العلم أن الإعلانات التليفزيونية هي ما تدفع فاتورة القنوات المفضَّلة لدينا، وأنه يجب علينا ألَّا نشكو أو نتذمَّر منها على الإطلاق.

ولأننا لا نمانع في أن تُعرض علينا الإعلانات التليفزيونية، ولا نتوقع أيضًا أن تخبرنا بالكثير من الأشياء الجديدة المهمة، فإننا نكون على استعداد لمشاهدتها دون اشمئزاز أو إعراض. هناك بعض الإعلانات المصمَّمة بطريقة جميلة، أو تصاحبها موسيقى جذَّابة، أو تعرض لنا قصصًا لطيفة، أو تُبرِز الكثير من المشاهد الطبيعية. وتُعرَض من وقت لآخر إعلانات خفيفة الظل ومسلية، ولكن بما أننا لا نَدَعُ أنفسنا نَقَع فريسة للرسائل التي توجهها هذه الإعلانات، فما العيب في أن نشاهدها إذن؟

ليس هناك عيب في ذلك بشرط ألَّا تُمانِع في أن تخضع علاقتك بالعلامة التجارية للتلاعب اللاواعي وأن يزداد تعلُّقك بها على مستوى اللاوعي؛ وذلك لأن هذا هو ما يحدث في أغلب الأحيان. ويُعَدُّ إعلان دوف سوبر باول مثالًا على ذلك.

دراسة حالة: إعلان دوف سوبر باول

تُعرف دوف دومًا بحملاتها الإعلانية الجريئة، فحملتا «الجمال الحقيقي» و«العودة بالزمن» هما مجرد مثالين على ذلك.

في عام ٢٠٠٦، وكجزء من حملتها المشهورة «الجمال الحقيقي»، قررت شركة دوف أن تُنشِئ صندوقًا أطلقتْ عليه اسم «صندوق دوف لتقدير الذات»، ليكون بمثابة عامل مهم في تعليم البنات الصغار والفتيات مفهومًا أشمل للجمال.4 ودعمًا لتلك الخطوة الطموحة، قدَّمتِ الشركة إعلانًا تليفزيونيًّا عُرِض خلال مباريات السوبر باول في عام ٢٠٠٦. وباستخدام أغنية المطربة سيندي لوبر «ترو كلرز» (ألوان حقيقية) الشهيرة كخلفية للإعلان، عرضت الشاشة فتياتٍ تتراوح أعمارهن بين ٧ و١٠ سنوات كُنَّ يَبدونَ يائساتٍ مكتئبات، ثم يَظهَرْنَ في الإعلان سعيدات ومُفعَمَات بالحيوية وواثقات.

كثير من الناس يسخرون جدًّا من إعلانات كهذه، وعلى مستوى الوعي يعترضون على فكرة الإعلان ويشكِّكون في مدى جدواه في إثارة اهتمام المُشاهد، وقد يقول أحدهم شيئًا من قَبِيل: «أراهن على أن الشركة أنفقت مالًا على عرض هذا الإعلان ضمن مباريات السوبر باول أكثر مما أعطت لدعم هؤلاء الأطفال.» ولكن الإعلان الذي يوضِّح التحول من فتياتٍ بائساتٍ إلى فتياتٍ سعيداتٍ وتصاحبه موسيقى جميلة، هو إعلان مؤثِّر ويَبعَث على الشعور بالرضا والاطمئنان. وهناك بعض الأبحاث العلمية التي أكَّدت صحة أنه بعكس الأغلبية الكاسحة لإعلانات السوبر باول، رأى ٩٢٪ من الناس أن تلك الإعلانات جيدة، ورأى ٩٣٪ أنها محرِّكة للمشاعر.

ومِن ثَم، بغضِّ النظر عن مدى رفضك لدوافع الإعلان أو بواعثه على مستوى الوعي، فإنه يجعلك تشعر بالفعل بالرضا عن دوف، وسوف يقوِّي تعلُّقَك بالعلامة التجارية. ليس لديك أي اختيار لأن الوسيلة الدفاعية الوحيدة هي حجتك العقلانية المضادة. الأمر أشبه بمشاهدة شخص ما يبكي في فيلم، فبغضِّ النظر عن إخبارك لنفسك أنك تشاهد فيلمًا، فإن خلاياك العصبية العاكسة سوف تجعلك تشعر بالحزن.

وهناك أمران آخران يجب أخذهما بعين الاعتبار أيضًا: الأول هو أنك سترفض إعلان صندوق دوف لتقدير الذات على مستوى الوعي فقط إنِ انتبهتَ له بالقدْر الكافي. والثاني هو أن عقلك الواعي يكون مشغولًا بحق ولا يكون على درجة كبيرة من جاهزية الاستقبال؛ لذا، وكما أوضحنا في الفصل الخامس، يبدو أن الوصلات المؤدِّية إلى إنجرام رفض الحجة المضادة سوف تُنسَى سريعًا وتُستَبدَل بوصلات جديدة. ولكن المشاعر التي تتولَّد بخصوص العلامة التجارية سيتم تخزينها داخل العقل الباطن في ذاكرةٍ ضمنية لا تَنفَد، ولا يمكن تجديد الوصلات العصبية؛ ومِن ثَمَّ سيبقى التحسُّن في علاقتك مع منتج دوف بداخلك دومًا أو حتى ظهور مؤشراتٍ سلبية تجعلك تشعر بمشاعر سيئة تجاه المنتج.

ما يتضح هنا هو أن الإعلان — من خلال عرض المحتوى العاطفي الذي يُشعِرنا بالرضا إضافة إلى عرضٍ سريعٍ للعلامة التجارية علينا — يؤثِّر في تعلُّقنا بالعلامة التجارية. ولا يجب أن يكون هذا المحتوى العاطفي شيئًا يجعلنا نضحك أو نبكي، فمِن الممكن أن يكون هذا المحتوى العاطفي موسيقى تُعزَف في الخلفية تكون جميلة وتحفيزية أو أناسًا يُعبِّرون عن مشاعرهم (الحب، الغضب، الإثارة، المَلَل، الفضول، التقدير، الاستمتاع … إلخ)، أو مواقف ساخرة، أو مثيرة للعواطف، أو درامية، أو مُبهِرة، أو حتى مجرد مشهد مصوَّر بطريقة جميلة وبقِيَم إنتاجية عالية.

ولكن ما أهمية ذلك الأمر؟ لا يهم كثيرًا أن تكون كل علامة تجارية معروضة على أرفف المتاجر مختلفة اختلافًا بيِّنًا عن باقي العلامات التجارية الأخرى. وإن كان الحال هكذا، فإن اختياراتنا لن تعتمد على ما نحمله من شعورٍ تجاه المنتج. ولكن، وكما أوضحنا سابقًا في هذا الفصل، لا يوجد اختلاف كبير بين العلامات التجارية، ونستطيع القول بأن كل المنتجات تلبِّي احتياجاتنا على نحو جيد. وفي ظل هذه الظروف، يمكن أن تكون مشاعرنا هي المسئولة عن تفضيلنا علامةً تجاريةً على أخرى.

حتى وإن كانت العلامات التجارية مختلفة بعضها عن بعض اختلافًا مهمًّا، فإنه يَصِير لزامًا علينا أن نأخذ بعين الاعتبار نموذج داماسيو لاتخاذ القرار الذي أوضح لنا كيف تؤدي مشاعرنا دور المراقب في التأثير على قراراتنا، فنحن بكل بساطة غير قادرين على اتخاذ قراراتٍ عقلانية دون التفاعل مع مشاعرنا؛ ومن ثَمَّ عندما يتعين علينا الاختيار بين علامةٍ تجاريةٍ ليست لها سمة مميزة وأخرى نشعر حيالها بإحساسٍ جيد، سنختار على الأرجح الثانية. باختصار، جميع تلك الصور الحميدة التي نراها في الإعلانات التليفزيونية هي ما توجِّه سلوكنا.

نموذج خداع العقل الباطن

إليك وصفتي للطريقة البديلة التي تؤثِّر بها الإعلانات التليفزيونية علينا في القرن الحادي والعشرين:

تبدأ الوصفة بالمحتوى العاطفي وراء التواصلي. هذا المحتوى العاطفي قد يكون عاطفةً حاضرة خلال الإعلان نفسه وتؤثِّر في الطريقة التي نشعر بها حيال العلامة التجارية (كما هو الحال في صندوق دوف لتقدير الذات)، أو قيمًا عاطفية ترتبط بعنصر من عناصر الإعلان وتصبح مقترنة بالعلامة التجارية؛ ومن ثم تُكيِّفُها بحيث يكون لها القيمة العاطفية نفسها (كما هو الحال في أطفال إطارات ميشلان وجرو ورق تواليت أندريكس).

عمومًا نحن نحب المحتوى العاطفي الإيجابي، ونَثِق فيما نحب. ونحن أيضًا لا نَمِيل إلى الانتباه كثيرًا للإعلانات (وخصوصًا الإعلانات التليفزيونية)، ومن ضمن الأسباب الرئيسية التي تجعلنا نشعر بحاجة فعلية إلى الانتباه أننا نريد أحيانًا أن نعترض على ما يُخبِروننا به. وكلما أحببنا ووثقنا في إعلانٍ ما، قلَّ اهتمامنا بمناقشة الفكرة التي يعرضها ومعارضتها، وقلَّ انتباهنا له.

وكما أكد بورنستين، كلما قلَّ مستوى انتباهنا للإعلان أو محتواه، انحدرت قدرتنا على مناقشته أو معارضة محتواه؛ ومن ثَم يكون الإعلان أكثر قدْرة على التأثير في مشاعرنا.

وكلما زاد تأثير الإعلان في مشاعرنا، زادت قدرته على تكييف العلامة التجارية بحيث تصبح مغلَّفة بهذه المشاعر وتوليد علاقات إيجابية بتلك العلامة التجارية. تلك الارتباطات التكيفية والعلاقات الإيجابية هما ما يجعلاننا أكثر رغبة في شراء المنتج.

كان من بين النتائج الرئيسية التي توصَّل إليها فاتسلافيك أنه على الرغم من أن محتوى التواصل (أي الرسائل الموجودة في الإعلان) يتلاشَى وينتهي سريعًا، فإن المواقف العاطفية الخفية إزاء علامة تجارية معينة، والتي يولِّدها التواصل وراء العاطفي غير المباشر، تُحفَظ في الذاكرة الضمنية لتظلَّ هناك فترةً طويلة جدًّا.

ومن ثَمَّ فإنه في بعض الأوقات في المستقبل، وحين اتِّخاذ قرار شراء منتج يحمل إحدى العلامات التجارية، وخصوصًا في حالة وقوع الاختيار بين علامتين تجاريتين متقاربتين جدًّا، فإننا سنختار حدسيًّا العلامة التجارية التي نفضِّلها. ونظرًا لأننا لا نتذكَّر كيف شكَّلنا وامتلكْنا تلك المواقف والمؤشرات التي أوجدت هذا الشعور الحدسي، فإننا لا يمكننا بسهولة منعها من التأثير فينا.

وهو ما يوضح أيضًا السبب في أننا نجد صعوبة كبيرة في تذكُّر بعض الإعلانات، وذلك لأن تفاصيل الإعلانات تتلاشَى بسرعة؛ لأنها كلها ذكريات معقَّدة عرضية زائفة لا تلبث أن تختفي لتحلَّ محلَّها غيرها. وفي حالة وجود محتوًى عقلاني يتم عرضه من خلال إعلانٍ تليفزيوني — اتفقنا على أننا لا نُعيره اهتمامًا كبيرًا على أي حال — فإن تفاصيل هذا المحتوى أيضًا لن تَجِدَ لها مكانًا داخل الذاكرة؛ لأن ذكرى الإعلان نفسها تتلاشَى. ولكن بالنسبة للذكريات العاطفية وراء التواصلية التي تؤثِّر على مشاعرنا تجاه العلامة التجارية، فإنها ستبقَى طويلًا. وربما لا يكون لدينا أدنى دليل على وجودها.

موجز: القرار والعلاقة

لدينا الآن رسم بياني متكامل لنموذج خداع اللاوعي الجديد (شكل ١٣-١)، وهو يُظهِر عددًا من الإضافات الهامة. فعلى سبيل المثال، يتم تمييز المواقف المرتبطة بالعلامة التجارية الآن وفقًا لكَوْنها علنية (أي تلك التي نُدرِكها ونكون قادرين على تذكُّرها)، أو غير علنية (أي التي لا ندركها ونجد صعوبة في تذكرها). كما يتم الآن تمييز تغير السلوك وفقًا لكون السلوك عقلانيًّا (أي يستند في معظمه إلى منطق)، أو حدسيًّا (أي يستند إلى مشاعر أو مؤشرات مختزنة في العقل من خبرات سابقة مماثلة).
fig5
شكل ١٣-١: نموذج خداع اللاوعي.

أول ما نُشير إليه هو أن خطوط «العاطفة» المنقطة تتصل الآن بخط «الإقناع» في توجيه السلوك العقلاني. وهو ما يعكس دَوْر العاطفة باعتبارها «المراقب» في عملية صنع القرار. وكما رأينا في الفصل الحادي عشر، لا يمكننا اتخاذ قرارات لا تتوافق عواطفنا معها.

الشيء الثاني هو أن التغييرات العلنية في الموقف والسلوك العقلاني قادرة على تقديم الحُجَج المضادة. وهذا يعني أن النصف العلوي من النموذج يصور حالة تتيقَّظ فيها وسائلنا الدفاعية إزاء الإعلان. وعلى العكس من ذلك، فإن النصف السفلي من النموذج يصور حالة تقلُّ فيها وسائلنا الدفاعية أو تنعدم إزاء الإعلان. ويكاد يكون من المستحيل أن ندافع عن أنفسنا ضد التغير غير العلني في الموقف والسلوك المدفوع بالحدس. وفي حالة التغير غير العلني في الموقف، يكون من المستبعَد أن نصبح على دراية بأن توجهاتنا قد تغيَّرتْ ما لم يُخضِعنا أحدُهم للتنويم المغناطيسي، وفي حالة السلوك المدفوع بالحدس يكون من المستبعَد أن نعرف على وجه التحديد محرك هذا الحدس.

ومِن ثَمَّ فإن كل شيء يعمل في اتجاه الجزء السفلي من النموذج سوف يكون قادرًا على ممارسة تأثير علينا يصعب علينا مقاومته. وأول تأثيرات «المستوى الأدنى» هذه هو المربع المميز بعبارة «الارتباطات العاطفية بالعلامة التجارية».

وهناك ثلاثة تأثيرات — الوعي بالعلامة التجارية، المشاعر، العواطف — يغطِّيها هذا المربع المميز بعبارة «الارتباطات الوجدانية بالعلامة التجارية»، وهو أعلى قليلًا من الجزء السفلي. وسبب وجوده هنا هو أن هناك كيانات، مثل «جرو أندركس» و«كاوبوي مارلبورو»، ليست سِرِّيَّة في حد ذاتها، ولكنها معلومة وكثيرًا ما يتم تذكرها جيدًا باعتبارها مرتبطة بالعلامة التجارية. على أن ما لا نعرفه بصورة جيدة هو أن تلك الوسائل مثيراتٌ مؤثرة عاطفيًّا تُطلِق المفاهيم والتصورات العاطفية القوية ذات الصلة، ومن خلال التعرض المتكرر لها تقوم هذه المثيرات ﺑ «تكييفنا» حتى نشعر بأنَّ للعلامة التجارية القيمةَ العاطفيةَ نفسها الخاصة بالكيان. وهكذا يدفعنا «جرو أندركس» إلى الشعور بأن أندركس تمتلك صفتين: ناعمة وعائلية. ويدفعنا كاوبوي مارلبورو، كما سنرى في الفصل السادس عشر، إلى الشعور بأننا إذا قمنا بتدخين ماركة مارلبورو فإن مَن حولَنا سيعتبروننا أقوياء ومستقلِّين. وبهذه الطريقة تُغيَّر توجهاتنا نحو العلامة التجارية بكيفية غير مُعلَنة، ومن دون أن ندرك أنها فعلتْ ذلك.

في أسفل النموذج يوجد مربع العلاقة بالعلامة التجارية. والابتكار في الإعلان قادر على التأثير على عواطفنا، وهي بدورها تؤثر على علاقتنا بالعلامة التجارية من خلال قوة التواصل غير المباشر. وهذا يحدث مرة أخرى بصورة غير معلنة في الغالب؛ فمعظمنا لا يُدرِك حقًّا أن لدينا مشاعر تجاه العلامات التجارية، ناهيك عن أن مقطوعة موسيقية يستخدمها الإعلان، على سبيل المثال، كفيلة بالتأثير عليها. وهذا ليس من الأمور التي نميل إلى التفكير فيها أو التحدُّث عنها.

هذا النموذج من الأمور المهمة. والأمر الأكثر أهمية هو مدى التأثير الفعلي لذلك علينا. وهو السؤال الذي أُجيبُ عنه في الجزء الأخير من هذا الكتاب.

هوامش

(2) Verbatim quote by Bruce Goerlich, Executive Vice President of Zenith Optimedia, at the lunchtime panel of the Advertising Research Foundation (ARF) Conference, April 17, 2007.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤