مقدمة

إن تعريف «السحر» أمر يثير الجنون. وقد حاول العديد من الفلاسفة، وعلماء الأنثروبولوجيا، والمؤرخين، وعلماء اللاهوت طوال القرن المنصرم أن يضعوا أيديَهم على معناه الأساسي، محللين إياه في بعض الأحيان بعمق معقد ومبهم بدرجة لم تسفر إلا عن تضييع معناه كليًّا؛ ولهذا السبب، كثيرًا ما يُعرِض عدد كبير ممن يدرسون «ممارسة» السحر في الماضي والحاضر عن تقديم تعريف مفصَّل له، مفترضين أن قرَّاءهم يفهمون أن السحر يتعلق بوجه عام بتحكم البشر في قوًى خارقة للطبيعة. وبعيدًا عن الوسط الأكاديمي، لا يزال «السحر» يغزو الخيال واللغة الشعبيين. والناس لا يشعرون بأي غضاضة إزاء تعدد معانيه في الوقت الراهن، غافلين عما أثاره تعريف السحر من جدل ونزاع ونقاش على مدى ألفين وخمسمائة عام. وفي الاستخدام الشائع اليوم، يرد لفظ «السحر» للإشارة إلى الخارق للطبيعة والخرافة والوهم والاحتيال والمعجزات والخيال، وباعتباره لفظًا شاملًا جامعًا. فنحن نستخدم مصطلح «سحر السينما»، كما أن الجنس الأدبي الذي يحمل اسم «الواقعية السحرية» محط إعجاب الكثيرين. ومن قبيل المفارقة أيضًا أن العلماء المعاصرين أدمجوا الكلمة في قاموس مفرداتهم، باستخدام مصطلحات مثل: «الحمض السحري»، و«الرصاصات السحرية»، و«الزوايا السحرية».

منذ «عصر التنوير الأوروبي» والسحر يُنظر إليه عادة بوصفه أمارة على البدائية، على مرحلة مبكرة من التطور البشري غارقة في ظلام الجهل. لكن لا يزال الكثيرون في عالمنا المعاصر المعولم يَلجَئون إلى السحر، ويخشونه أيضًا. فالسحر يقدم تفسيرات وحلولًا لمن يعيشون في فقر مدقع ويفتقرون إلى البدائل الأخرى. وفي الغرب الصناعي، بما فيه من أنظمة الرعاية الاجتماعية التي ترعاها الدولة، يستنكر الأصوليون الدينيون ما يشكله السحر من تهديد أخلاقي متواصل. لكن تحت ستار الوثنية الجديدة، باتت ممارسة السحر ديانة في حد ذاتها، ولا يزال السحر قضية عالمية بحق.

كل تعريف للسحر هو نتاج عصره؛ فالكلمات والمفاهيم تحمل معانيَ متعددة، وتغير المعنى أو تضيعه اعتمادًا على التطور الاجتماعي والثقافي والديني والفكري للمجتمعات التي تستخدمها. وكما سنرى، يقدم «السحر» وسيلة قيِّمة لاستكشاف هذه العلاقات. ولا تسعى هذه المقدمة القصيرة جدًّا إلى تقديم تعريف شافٍ للسحر؛ لأنه أمر يتجاوز نطاق أي تعريف بسيط، وإنما تُستكشف الطرق العديدة لفهم البشر واستخدامهم للسحر — فكرًا وممارسةً — على مدى آلاف السنين.

المصطلحات

كلمة السحر مستمدة من الكلمة اليونانية «ماجيا»، التي أول ما استُخدمت كانت تشير إلى المراسم والطقوس التي يؤديها «الماجو»، والجمع «ماجوي». وقد قيل إن الماجوي — أو المجوس — هم كهنة سحرة من الشرق، من «كلدو»، وهي مملكة بابلية تقع جنوبي العراق، أو فارس، التي صارت إيران في الوقت الحالي. وقد اشتُقت كلمة المجوس بالأساس من الكلمة الفارسية «ماكوز». كانت لفظة «ماجيا» بالنسبة للإغريق في ذلك الوقت أجنبية، وكان لديهم مفردات أخرى لوصف السحر؛ فقد كان لفظ «نيكومانتيشا» (استحضار الأرواح) مثلًا يعني التواصل مع الموتى لأغراض تَنَبُّئِيَّةٍ، ولفظ «فارماكا» يُستخدم للتعاويذ وتحضير العقاقير والسموم التي يستخدمها المشعوذون أو الساحرات، ولفظ «جويتس» يعني «المشعوذين» الذين كانوا خبراء في الخداع وإلقاء التعاويذ. ومع ذلك، لم يكن هناك تخصيص مباشر لألفاظ محددة للتعبير عن كل حرفة من حرف السحر في البيئة الإغريقية القديمة؛ ففي بعض المصادر، يلاحَظ أن كلمة «ماجيا» كانت تُستخدم بالتبادل مع كلمتَي «جويتيا» (ممارسة الشعوذة) و«فارماكا». وهكذا، لم تكن كلمة «ماجيا» في القرن الخامس قبل الميلاد هي اللفظة الشاملة الجامعة للتعبير عن الممارسات السحرية مثلما صارت خلال العصر الروماني.

معظم ما نعرفه عن «الماجوي» مستمد من المصادر الإغريقية للقرنين الرابع والخامس قبل الميلاد التي كانت تتخذ بوجه عام موقفًا عدائيًّا من الطابع الديني الغريب الذي يتسمون به؛ فقد وصفهم سوفوكليس بأنهم «كهنة متسولون محتالون»، بينما يشير مصدر آخر إلى «خدع الماجوي». وتصفهم المصادر بأنهم يشرفون على تقديم تضحيات من البشر والحيوانات، ويسيطرون على أرواح الموتى، ويشفون المرضى. ووفقًا لما ذكره مؤرخ القرن الخامس قبل الميلاد هيرودوت، كانوا يشرفون على طقوس الإراقة ويفسرون الأحلام وكسوف الشمس، وكانوا يغنون الترانيم والتعاويذ للآلهة وقت شروق الشمس، وكانت ممارساتهم تختلف عن ممارسات رجال الكهنوت الإغريق في عدة جوانب؛ فقد مارس «الماجوي» مثلًا طقس إراقة الحليب بينما لم يمارس الإغريق عمومًا هذا الطقس، ويُعتقد أنهم كانوا يتلون ترانيمهم ويمارسون طقوسهم همسًا، أو يتغنَّوْن بها بصوت منخفض، وهذه ممارسة مشبوهة. بالإضافة إلى ذلك، كان من المعتقد أنهم يمارسون نكاح المحارم.

كانت «الزرادشتية» هي الديانة الرئيسية لبلاد فارس في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي إحدى أكبر الديانات في العالم القديم، لكنها اليوم باتت إحدى أصغر الديانات القديمة التي لا تزال باقية إلى الآن. كان زرادشت نبيًّا أسطوريًّا يبشر بالسلطة الإلهية للكيان الأسمى «أهورا مازدا»، مصدر كل الخير الذي سينتصر في نهاية المطاف على قوى الفوضى والشر في العالم. ولا تربط المراجع الإغريقية الأولى ربطًا مباشرًا بين زرادشت والماجوي، لكن الربط بينهما صار حقيقة واقعة بحلول القرن الرابع الميلادي. كان الزرادشتيون يوصفون بأنهم عبدة النار، لكنهم في الواقع — في الماضي والحاضر — لم «يعبدوا» النار في حد ذاتها، وإنما كانوا يعتبرون أنها تمثل حكمة «أهورا مازدا». وإذا صحت الأقوال الإغريقية التي تصف الكهنة بأنهم متجولون أو متسولون، فإن هذا شاهد على أن «الماجوي» الفرس قد شدوا الرحال نحو الغرب كي ينشروا عقيدتهم أو ممارساتهم. ولا شك أن انتشارهم هذا ارتبط بالزحف الفارسي بقيادة الملك خشایارشا في ثمانينيات القرن الخامس على الأراضي اليونانية، وقد اتُّهموا فيما بعد بأنهم مسئولون عن نقل عدوى السحر لليونان القديمة. من ناحية أخرى، انتشرت في العالم الروماني الشائعات التي تروج أن بعض كبار مفكري اليونان قد شدوا الرحال شرقًا كي يأخذوا العلم عن «الماجوي».

خلال العهد الروماني، اتسع نطاق تعريف «الماجيا»؛ إذ لم يعد اللفظ يشير في المقام الأول إلى أنشطة كهنة أجانب، أو عقيدة غامضة. ويمكن العثور على أحد أول مظاهر هذا التحول في كتابات العالم الروماني المناصر للمذهب الطبيعي بلينيوس الأكبر (٢٣–٧٩م)، الذي يتناول بالنقاش المستفيض في موسوعته «التاريخ الطبيعي» مجموعة كبيرة من المعتقدات والممارسات التي يُسمِّيها «أباطيل سحرية»، وينكر فعاليتها ويكرر نسب أصولها للفرس؛ ولإعطائك فكرة عنها، إليك وصف بلينيوس لبعض التعاويذ السحرية المستخدَمة لعلاج الحُمَّى:

باليد اليسرى، يُمسَك بالدبور المعروف باسم «سيودوسفيكس»، والذي دائمًا ما يُرى يطير وحيدًا، ويعلَّق أسفل ذقن المريض. يَستخدم البعض لهذا الغرض أول دبور تقع عليه عينا المرء في ذلك العام. في تعاويذ أُخَر، يُستخدم رأس أفعى سامة يُفصل عن جسمها، ويُلف بقماش كتاني؛ أو قلب أفعى سامة يُجتث منها وهي لا تزال حية، أو خطم فأر وطرفا أذنيه، تلف جميعًا بخرقة حمراء.

وقد شهد العهد الروماني أيضًا استخدام لفظة «ماجو» للإشارة إلى الإناث.

في الوقت الذي كان بلينيوس يكتب فيه موسوعته «التاريخ الطبيعي»، كانت تُكتب أيضًا أول نصوص العهد الجديد، ومعها رواية تحكي كيف اتبع المجوس الذين يحملون هدايا من الشرق نجمًا قادهم إلى يسوع وهو رضيع. وقد صارت الطريقة التي أوَّل بها آباء الكنيسة قصة المجوس جزءًا من العملية الأشمل التي حاولت الكنيسة من خلالها «استئصال طابع السحر» من العهد الجديد؛ ومن ثم إحداث انفصال جذري بين السحر والدين. وهكذا كانت فكرة أن التنجيم قاد المجوس إلى مصيرهم تنطوي على إشكالية واضحة. وقد تساءل الفيلسوف ترتليانوس القرطاجي (حوالي ١٦٠–٢٢٠م): «ماذا إذنْ؟ هل يعني هذا أن دين هؤلاء المجوس يشكل ظهيرًا استند إليه المنجمون أيضًا؟» والإجابة هي: لا؛ لأن — كما فسر هو وغيره من آباء الكنيسة — أي قوًى شيطانية أو «خرافية» تمتع بها هؤلاء تبددت بفعل النجم اللامع والغاية المقدسة لرحلتهم.

وقد تقبَّل أوريجانوس — وهو معاصر لترتليانوس — حقيقة أن المجوس كانوا منجمين، لكنه كان مقتنعًا بأن ما قادهم إلى المسيح لم يكن هذا العلم الزائف، وإنما كان هُداهم إليه من خلال تفسيرهم للنبوءة التي تنبأ بها نبي العهد القديم الوثني بلعام بأن نجمًا سيخرج من آل يعقوب، الذين ينحدر منهم يسوع. ومع ذلك، أعيد تعريف المجوس الثلاثة — الذين انقطعت صلاتهم بالسحر — على أنهم الملوك الحكماء من المشرق، وأصبحوا من الرموز المهمة في الأيقونات والأساطير المسيحية.

على مدار القرون التي تلت ذلك، خضعت تعريفات السحر للتنقيح، وظهرت فئات جديدة عندما سعى رجال الدين المسيحيون والمسلمون واليهود والعلماء لفهم الجوانب المختلفة من السحر فهمًا أفضل بدلًا من رفضها؛ إذ لم يكن السحر عبارة عن مجموعة واحدة من الممارسات، وإنما صنوف تغطي طيف الإدراك الديني والعلمي. وهكذا، ظهر في القرون الوسطى مصطلح «السحر الطبيعي» باعتباره وسيلة للتمييز بين نوعَي السحر الجيد والسيئ، أو الشرعي وغير الشرعي. فالسحر الطبيعي — أو عجائب وأسرار العالم الذي خلقه الله — ليس مَثله كمَثل أباطيل الثقافات أو الديانات الأخرى، وإنما هو مفتاح استكشاف الخصائص الخفية للبيئة المادية. وفي وقت لاحق، عندما حاول علماء الاجتماع في القرن التاسع عشر فهم الممارسات السحرية في ثقافات الماضي والحاضر، سعَوْا هم أيضًا لتصنيف السحر على أساس خصائص كونية. وقد أدى هذا إلى ظهور مصطلح «السحر المتجانس» لوصف العلاقات الغامضة أو المستترة بين أشياء مرتبطة ببعضها أو تجمعها أوجه تشابه ظاهرية. وبهذا بات للسحر أساس منطقي وإن كان زائفًا. لكن قوة السحر باعتبارها أداة بلاغية ظلت طاغية مثلما كانت دائمًا. وظلت ممارسة السحر تُعرَّف من منظور المزاعم الخداعة والممارسات الغريبة للسحرة والكهنة الأجانب.

تعريف الآخر: السحر بوصفه اتهامًا

إذنْ، على مر القرون، اتهمت جماعات دينية «آخرين» بالسحر باعتبار ذلك وسيلة لتعريف الذات ولتعزيز الشرعية السياسية والثقافية؛ ففي سياق المسيحية الأولى، كان هذا الوصف يرد انطلاقًا من اعتبار السحر «انحرافًا دينيًّا»؛ فقد كانت أنشطة المسيحيين الأوائل — رشم الصليب، وممارسة سر التناول، وطرد الأرواح الشريرة، والتكلم بالألسنة، واجتماعات الصلوات الليلية — تعد ضربًا من السحر في نظر السلطات الرومانية. ساعد هذا الاتهام على تصنيف المسيحيين على أنهم دخلاء غير اجتماعيين ومعادون للمجتمع الروماني والعادات الرومانية. في المقابل، طور آباء الكنيسة الأوائل مفردات تفيد بأن السحر ينطبق على ديانات روما التي صوروها على أنها منحلة وفاسدة، وفيما بعدُ صارت هذه المفردات مرادفة لكل الأديان الأخرى، ما عدا المسيحية. وبنظرة أكثر شمولًا، دائمًا ما كانت الأديان التوحيدية على استعداد لاتهام الديانات الشركية والإحيائية بأنها غارقة بالسحر.

وبالمثل، كانت كلٌّ من ديانات الشرق الأدنى التوحيدية الثلاث — اليهودية والمسيحية والإسلام — يشوه بعضها صورة البعض بالأسلوب نفسه؛ فممارسة سر التناول وعبادة الثالوث المقدس في المسيحية شكَّلت تربة خصبة بالنسبة للنقاد من المسلمين واليهود. ولطالما كان المسيحيون والمسلمون يضطهدون اليهود بزعم أنهم يمارسون شعائر سحرية فاحشة، متبعين بذلك خطى السلطات الرومانية في الشرق الأدنى التي كانت تعتبرهم يشتغلون بالسحر. وفي أوروبا العصور الوسطى، كانت فكرة ممارسة اليهود لشعائر سحرية فاحشة راسخة بعمق في الثقافة الشعبية؛ ففي عام ١٢٣٥، وقعت مذبحة في مدينة فولدا بألمانيا في أعقاب انتشار شائعات بأن اليهود قد قَتلوا أثناء ممارسة شعائرهم صِبية مسيحيين، واستخدموا دماءهم في طقوس علاجية سحرية. وكان ثَمَّةَ اعتقاد سائد بأن اليهود قد سرقوا الخبز المقدس من الكنائس وثقَّبوه حتى سالت منه دماء استخدموها فيما بعد في طقوس شيطانية.

المسيحيون أيضًا صوَّروا الإسلام على أنه غارق في السحر. ويقول عالم الاجتماع الرائد ماكس فيبر — الذي سنتناول نظرياته بالنقاش في فصل لاحق: «إن نشر الإسلام في أفريقيا كان يستند في المقام الأول إلى أساس ضخم من السحر، ظل من خلاله يتفوق على الأديان الأخرى المنافسة على الرغم من أن المسلمين الأوائل كانوا يرفضون السحر.» وقد برزت مزاعم مماثلة خلال الفترة التي شهدت قدوم البعثة التبشيرية إلى أفريقيا والشرق الأوسط في القرن التاسع عشر. وقد كتب المبشر الأمريكي الكالفيني صمويل مارينوس زويمر — الذي بدأ بعثته التبشيرية في الجزيرة العربية في ثمانينيات القرن التاسع عشر — أن: «ما من دين توحيدي آخر تجد فيه السحر والشعوذة راسخَين بقوة كما هما في الإسلام.» لكنني أستطيع أن أسوق أدلة كثيرة تبين أن مفاهيم مماثلة كانت راسخة بالقدر نفسه في أمريكا المسيحية خلال تسعينيات القرن التاسع عشر؛ فقد كان الكثيرون يؤمنون بأمر العهد القديم الذي يقول «لا تدع ساحرة تعيش.» ويعملون به. وتُظهر مصادر الفولكلور والقضايا التي كانت تعرض على المحاكم في ذلك الوقت أن جميع الفئات العرقية والدينية في الولايات المتحدة الأمريكية كانت تمارس السحر الوقائي.

وقد استُخدم السحر أيضًا وسيلةً لوضع حدود تفصل بين الأشكال الصحيحة والفاسدة للعقيدة «في داخل» الأديان؛ فقد شهدت القرون الأولى للمسيحية ظهور طوائف متعددة كالغنوصية التي اتُّهمت بممارسة السحر. وخلال حركة الإصلاح الديني، تضمنت عملية تعريف البروتستانتية تحديد ما كان يُعتبر العناصرَ السحرية للكاثوليكية؛ إذ اتُّهم عدد من الباباوات بممارسة استحضار الأرواح، ورُفضت معجزات قديسي العصور الوسطى باعتبارها سحرًا، وعُرف الكهنة والرهبان بأنهم مروِّجون للخرافة يحتالون على الناس المذعورين. وأُنزل الرفات المقدس وطقوس طرد الأرواح الشريرة من علياء التقديس إلى دنيا الدنس.

وفي الإسلام، كانت الصوفية أيضًا محط اتهامات عديدة بممارسة السحر؛ إذ غالبًا ما توصف الصوفية بأنها البعد الباطني أو الخفي من الإسلام لتركيزها على الشعائر والزهد وبلوغ النورانية الروحية الفردية. كانت أُولى الطرق الصوفية قد تأسست بعد زمن النبي محمد. ويرتكز التعليم الصوفي على النقل الشفوي من خلال معلمين يمكن اقتباس تأثيرهم الروحي حتى بعد الموت؛ ولذا، تحظى أضرحتهم بالقدسية. ثم أتى مصلح القرن الثامن عشر الإسلامي المحافظ محمد بن عبد الوهاب (١٧٠٣–١٧٩١) وأتباعه، ودعا للتطهير من التأثيرات المفسدة لتقوى المسلم، ولتطبيق شكل نقي و«أصيل» للإسلام. أدانت الحركة الوهابية «وثنية» الطقوس الصوفية، وعبادة أتباعها للقديسين والصوفيين، وتقديسهم للأضرحة؛ فجرى — تحت تأثير الوهابية — هدم الأضرحة الموجودة داخل مدينتَي مكة والمدينة وما حولهما في أوائل القرن التاسع عشر، وتعرَّض الصوفيون للاضطهاد.

وقد اعتبر بعض العلمانيين الإسلاميين، كمؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك (١٨٨١–١٩٣٨)، التصوف شكلًا منحطًّا من الإسلام عمل على تعزيز السحر والخرافات، وأبقى الناس في حالة من الجهل والسذاجة. ويُعتبر «المرابطون» أو «الأولياء» الذين يتمتعون بتأثير كبير في شمال أفريقيا وغربها — والذين هم شكل وسط بين السحرة ورجال الدين — أحد مظاهر التصوف؛ ولذا، فإنهم محط استنكار لأنهم من وجهة نظر الإصلاحيين الإسلاميين التقليديين من التأثيرات المفسدة. وقد كانت سلطات الاستعمار في الماضي تهاجمهم بالقدر نفسه باعتبارهم مشعوذين.

هناك جماعات إصلاحية مماثلة كانت تهدف لاجتثاث السحر في ديانات كبرى أخرى؛ فقد حدث في الهند أواخر القرن التاسع عشر أن أطلق الهندوسي سوامي داياناند ساراسواتي (١٨٢٤–١٨٨٣) حركة تنادي بمفهوم أكثر توحيدية للهندوسية، على النحو الذي فسره من قراءته الانتقائية لأقدم كتب الهندوسية المقدسة «فيدا». ولا تزال الطائفة التي أسسها والمعروفة باسم «آريا ساماج» حية ونشطة في أجزاء من الهند اليوم. كان داياناند قد استمد الإلهام من الحافز الوطني للقضاء على تلك المظاهر الهندوسية التي منحت الحكام المسيحيين والمسلمين تربة خصبة لوصم العقيدة الهندوسية بأنها وثنية بدائية ناقصة. وقد كانت الهندوسية بحاجة إلى أن تُرشَّد وتصبح متماشية مع النظرة العلمية. ولتحقيق ذلك، كان لا بد من القضاء على كافة أشكال الاعتقاد بالسحر وممارسته، ووصف الكهنة البراهمة بأنهم أفسدوا المذهب الحقيقي الوارد في الفيدا ونشروا السحر والوثنية والخرافة. وهكذا كان السحر يعتبر عائقًا أمام التقدم والعصرية، وكذلك أمام استعادة نقاء الماضي.

السحر باعتباره دينًا شعبيًّا

عند مناقشة الديانات الرئيسية في العالم، كثيرًا ما كان الدارسون يعتبرون وجود معتقدات السحر وممارساته في حياة الناس اليومية شكلًا من أشكال «التقاليد الصغيرة»، أو ديانة «شعبية». وهذه المفردات — في حد ذاتها — إشكالية من حيث إنها يمكن أن تعطيَ انطباعًا زائفًا يشير إلى توافق في الآراء، وإلى أن الناس اعتنقوا نفس الأفكار والتفسيرات.

كما أنها يمكن أن تشير إلى وجود اختلافات في الطبقة أو في الطائفة، عندما تكون أشكال العبادة الدينية قيد البحث متوغلة في الواقع عبر عدة مستويات اجتماعية. لكن المصطلحات رغم ذلك يمكن أن تساعد على تحديد مجموعات عامة من المعتقدات والممارسات التي تختلف مع اللاهوت الرسمي، أو تكون محط استنكاره، وإن كانت لا تعد منافية للدين أو آثمة في نظر من يعتنقونها.

وكما رأينا للتو، غالبًا ما كان المصلحون الدينيون يعتبرون السحر انحرافًا أو شكلًا مفسدًا للدين، ويتهمون جماعات دينية معينة بأنها مصدره. وكانت بعض السلطات تصف عناصر من الدين الشعبي بأنها بقايا الديانات التي كانت موجودة قبل اعتناق السكان للدين الجديد. ويمكن رؤية هذا في التاريخ المسيحي والإسلامي؛ ففي أوروبا، وصفت الكنيسة الأولى السحر بأنه بقايا وثنية، وفي القرن التاسع عشر طوَّر علماء الأنثروبولوجيا الفكرة الجذابة التي تقول بأن العديد من الممارسات السحرية التي يمارسها الفلاحون الأوروبيون ليست سوى بقايا — أي حفريات ثقافية — لديانات ما قبل التاريخ. حتى الممارسات غير الضارة — كوضع حدوة حصان فوق باب المنزل — كانت تفسَّر على أنها ممارسة شعائر «دينية» قديمة.

وباعتباره جزءًا من حملة ابن عبد الوهاب لفرض ما اعتقد أنه الشكل النقي «الأصيل» من الإسلام، صنف الإيمان بالسحر وممارسته على أنهما لون من «الشرك»، وهو مصطلح مرادف للاستخدام المسيحي لكلمة «وثني». وقد كان عبد الوهاب وغيره من المصلحين غاضبين من استمرار المسلمين في استشارة السحرة، وعبادة الموتى والأشجار والصخور، وسعيهم لنيل شفاعة الأرواح، والتضحية بالحيوانات، وتدنيس النصوص المقدسة باستخدامها تمائم وأحجبة. وكانت هذه التأثيرات «غير الإسلامية» تُعزى لبقاء ممارسات قديمة من عهد ما قبل الإسلام، ولبعض من اعتنقوا الإسلام الذين فشلوا في التجرد من معتقداتهم وأشكال عبادتهم السابقة، وكذلك لعناصر مفسدة مثل الصوفيين. وقد كان مقدرًا للحركة الوهابية أن تمارس تأثيرًا كبيرًا على تشكيل المملكة العربية السعودية والمذهب الأصولي السني الإسلامي المعاصر. وفي مصر، أعرب عالم الدين المتحرر والمفتي محمد عبده (١٨٤٩–١٩٠٥) عن استيائه الشديد من انتشار الإيمان بالسحر بين المسلمين. وعلى الرغم من أن القرآن قد أقر بحقيقة السحر، نفى «عبده» في تفسيره لآيات القرآن وجود شيء من هذا القبيل، إذ يقول: «السحر إما خداع أو نتيجة لاستخدام أساليب لا يدركها المشاهدون.»

fig1
شكل ١: «مرابط» سنغالي يمارس عمله.1

لكن كما تشير دراسات معاصرة، لا تزال الممارسات السحرية لهذا «الإسلام الشعبي» — كما يسميه بعض الدارسين — محورية بالنسبة للحياة الدينية لبعض الجماعات السكانية كالبدو العرب، وسكان الحضر في مصر، وعلى نطاق أشمل، لمئات الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم. ومن الأمثلة على ذلك حج مسلمي قرغيزستان إلى أضرحة (مزارات) جبل سليمان في مدينة أوش؛ حيث يعلق الحجاج الذين يسعَوْن للشفاء على الأشجار المقدسة ما يكتبونه من ابتهالات، وطلبات لنيل البركة، فضلًا عن قطع ملونة من القماش. وقد فُسرت هذه الممارسات باعتبارها استمرارًا للعبادة القديمة لعهد ما قبل الإسلام، لكن الحجاج لا يرَوْن أن أنشطتهم هذه منافية للإسلام. وقد كانت قوة التاريخ الديني «الشعبي» للموقع سببًا في وضعه على رأس قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي في البلاد عام ٢٠٠٩.

قد تحظر سلطات البلدان الإسلامية ممارسة السحر، لكن على أرض الواقع يجري التمييز بين السحر الأسود والسحر الأبيض، وبين استخدامات الدين المسموح بها وغير المسموح بها. وقد قال عدد كبير من المسلمين ممن يقطنون مناطق الحضر بماليزيا لأحد الباحثين فيما يتعلق بالسحر الأسود: «لا يفترض بنا أن نؤمن به، لكن بطريقة ما، يبدو أنه يؤتي مفعولًا.» وفي الدين الشعبي، تعلو خبرة المرور بمحنة ناجمة عن السحر ثم العلاج منها بالسحر على الرسالة الدينية للقانون، في حين أن الإنفاذ المطلق لحظر السحر عادة ما تُخفَّف وطأته بحسب الغرض من استخدام السحر، والدوافع الكامنة وراء التصرفات. وقد شاركت منظمة العفو الدولية على مدار السنوات القليلة الماضية في العديد من الحالات التي حكمت فيها سلطات المملكة العربية السعودية بالإعدام على أشخاص متهمين بممارسة السحر الأسود؛ ففي عام ٢٠١٠، ألقت السلطات الضوء على قضية مواطن سوداني كان قد تلقى أموالًا ليلقيَ سحرًا على رجل ليجعله يترك زوجته الثانية ويعود إلى الأولى. قبل ذلك بثلاث سنوات، كانت السلطات السعودية قد نفذت حكم الإعدام في صيدلي مصري، ومن أسباب الحكم محاولة مماثلة منه للتفريق بين زوجَين بطرق سحرية.

ثمة مسار آخر لفهم العلاقة بين السحر والدين الشعبي من خلال مفهوم مذهب التوفيق بين المعتقدات، وهو يعني بالأساس المزج بين تقاليد دينية مختلفة داخل جماعة سكانية معينة أو دمجها. ويمكن استخدام وصف «توفيقي» بغرض التحقير، وربط هذا المذهب بالبدائية أو «عدم الشرعية» أو «الاصطناعية» أو «السطحية». وقد تستنكر الديانة السائدة نتيجة هذه العملية بوصفها سحرًا أو خرافة. لكن استخدام هذه العملية بحساسية، يمكن أيضًا أن يكون وصفًا لطريقة تمكُّن الأشخاص من العقائد والمعتقدات الثقافية المفروضة عليهم وسيطرتهم عليها، وتكييفهم إياها بما يتماشى مع احتياجاتهم الخاصة والمميزة. وعلى هذا، فإن استمرار اللجوء إلى الممارسات الدينية القديمة في سياق السحر لا يكون استمرارًا لبقائها على قيد الحياة، وإنما يكون تكييفًا لها. والأشخاص الذين يستخدمون مثل هذه الممارسات يعتبرونها مشروعة داخل إطار تصوُّرهم لما هو مباح في دينهم.

تعتبر ديانة «الفودو» مثالًا حيًّا على هذه العلاقة التوفيقية فيما يتعلق بتفسيرات السحر والدين؛ فلما كانت الفودو قد تطورت وسط شعب هايتي، أصبحت مزيجًا من الطقوس الكاثوليكية والمعتقدات الدينية والممارسات السحرية للشعوب التي عاشت فيما يطلق عليها الآن بنين. كما أن تطورها وسط سكان هايتي من العبيد يجعلها مرتبطة ارتباطًا لا انفصام له عن النضال من أجل الاستقلال والتحرر الذي جرى خلال أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أنها ديانة توحيدية بالأساس، نراها تضم مجموعة من القديسين الكاثوليكيين، والآلهة الأفريقية، وأرواح الأجداد. وتتضمن طقوس الفودو عناصر يمكن وصفها بأنها سحرية أو دينية، دون أن يَعتبر معتنقوها هذا نوعًا من التحقير.

وتوجد أمثلة أخرى عديدة على نظم عقائدية توفيقية مماثلة، كالحالات التي وُلدت نتيجة التفاعل بين الإسلام والديانات الأصلية في منطقة غرب أفريقيا؛ فقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن «الإسلام في أفريقيا دين أفريقي، صحيح أنه مُستمد من الخارج لكنه بعد ذلك جرى تطويعه بالعديد من الطرق المختلفة كي يتناسب مع العديد من السياقات المختلفة.» ويتطلب فهم التطور التوفيقي للتقاليد السحرية أن نأخذ في الاعتبار قوى العولمة؛ إذ تظهر دراسة مفصلة عن تطور طائفة «البروهيريا» — التي هي عبارة عن مزيج من الروحانية والكاثوليكية وتقاليد سحرية متنوعة — في بورتوريكو كيف شكَّل تأثير «الأمركة»، والهجرة إلى منطقة الكاريبي، والمنتجات الآسيوية، طبيعة العرض والطلب على السلع السحرية الموجودة لدى محلات التموين الدينية الشعبية المعروفة هناك باسم «بوتانيكاس»؛ فقد أضافت هذه العوامل عناصر جديدة على الممارسات التي تشكلت من ماضي الجزيرة الإسباني الكاثوليكي ومن تجربتها مع العبودية.

•••

كان الهدف من هذه المقدمة هو بيان كيف تشابك السحر بصورة معقدة مع تطور الدين فيما يمكن أن يوصف بأنه عملية تداوُل ثقافي. فما يبدو من الخارج على أنه سحر، يشكل في نظر من خضعوا للدراسة أو أُدينوا بممارسته التطبيق المشروع والعملي للعبادة الدينية، والتوظيف اليومي للدين لأسباب أخرى غير التنوير الروحي أو الخلاص. وبينما نواصل الآن تقدمنا عبر الكتلة المتشابكة من التفسيرات، سيكون من المفيد أن نضع في الاعتبار هذه المحاولات المبدئية لتقييم معنى السحر. ورغم ذلك، فإن ما ستبينه الفصول التالية هو أن الدين ليس سوى جزء واحد فقط من قصة السحر، وأن العلم ليس بعيدًا عنها أبدًا.

هوامش

(1) © Robert Harding Picture Library Ltd/Alamy.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤