الفصل السادس

السُّلَّم: المِحَن والإنجازات

دعوني أبدأ بتشبيهٍ لتوضيح كيف أدَّى تعطُّش الإنسان لطرق جديدة كي يعيش بها حياته، وما نتج عن هذا من إنجازات، إلى ظهور الحضارات والثقافات. إنه مفهوم بسيط؛ السُّلَّم، فمع كل اختراع مُتعاقب، سواء كان تقدمًا تكنولوجيًّا أو شكلًا أفضل للحكم، يصعد الإنسان درجة على السُّلَّم. وهذه ليست خطوة فردية، بل مجتمعية؛ فربما تكون أذكى شخص وأكثر شخص مُبتكِر في العالم، لكن إذا كنتَ تعيش في عزلة تُشبه عزلة الناسك على قمة جبل أو في كهف على شاطئ المحيط، فإن إبداعك لن يُساعد أحدًا، بل إن أحدًا لن يلحظه. فحتى تُحدِث حكمتك تأثيرًا لا بد من التعبير عنها داخل مجتمع يتقبَّل أفكارك، ويُمكنه دمج إسهامك في نمط حياته. يجب أن يكون للمجتمع حجم معين، فأسرة واحدة لا تكفي، لكن ١٠٠ أسرة تبدأ في تشكيل كتلة حَرِجة؛ فهي تستطيع تحقيق الإنجازات. تحدثتُ في الفصل الثاني عن التنوع الحيوي في البشر، وأشرتُ إلى وجود خليط من المهارات بين مجموعة من ١٠٠ شخص مثلًا؛ فبعضهم سيكون أكثر ذكاءً وآخرون أكثر إصرارًا، وبعضهم سيكون أفضل في الصيد وآخرون في صنع رداء أو إناء، وبعضهم سيكون مناسبًا أكثر للقيادة بينما يكون آخرون أفضل في الاتباع. إذا تخيلنا أن كل فرد من هؤلاء جزء من أسرة، فسيُصبح لدينا ١٠٠ أسرة، تُكوِّن مجتمعًا قادرًا على التقدم خطوة أو اثنتين أعلى السُّلَّم.

منذ ١٠ آلاف سنة حلَّ المزارعون محل الصيادين جامعي النباتات في كثير من مناطق العالم؛ خاصةً في مِنطقة «الهلال الخصيب» في الشرق الأوسط، التي تمتد من المِنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات في العراق حاليًّا في الشمال حتى الروافد العليا لنهر النيل في الجنوب.١ تؤدِّي الزراعة إلى حياة أكثر استقرارًا؛ فيزيد احتمال بقاء حديثي الولادة على قيد الحياة، ونتيجةً لهذا يزيد حجم المجتمعات، رغم أن الاقتراب كثيرًا من الحيوانات قد يكون له تأثير ضار على الحياة من خلال نقل الأمراض المُعدية.٢ أما الحُجة المضادة، التي تقول إن زيادة الأعداد أدَّت بالإنسان إلى ترك حياة الترحال والتحوُّل للزراعة من أجل توفير الطعام للأسر المتنامية، فهي أقل إقناعًا؛ فهل يُمكنك التفكير في مثال واحد لاستجابة النفس البشرية للزيادة السكانية بعلاج جذريٍّ؛ مثل التدخل في الطبيعة بإكثار بذور النباتات الصالحة للأكل، وترويض الحيوانات للاستخدام المنزلي؟ لا تُعتبر حبوب منع الحمل مثالًا جيدًا؛ إذ كان المستفيدون من اختراعها منذ ٤٠ عامًا يتمركزون في أمريكا الشمالية وأوروبا، حيث لا يمثِّل حجم السكان مشكلة. وأثبتَت تجربة استخدامها في الدول المكتظَّة بالسكان مثل الهند فشلَها حتى الآن، وفي الصين اتَّبعوا حلًّا أسهل لاستمرار التحكُّم في عدد السكان؛ تمثَّل في التخلص من الطفل الثاني. أيًّا كانت أهداف اختراع الزراعة، فإنها مكَّنت المجتمعات من الوصول إلى الكتلة الحرجة التي عرفناها مسبقًا. أنا لا أقول إن أول مليونَي سنة من وجود الهومو على سطح الأرض لم تشهَد أيَّ تقدُّم؛ فقد تعلَّم أهمية النار، وصنْع أدوات بسيطة. وبعد ظهور الهومو سيبيان منذ نحو ١٤٠ ألف سنة، بدأ أخيرًا يَزرع الأرض. كانت هذه كلها تطورات مهمَّة، عدة خطوات إلى أعلى سُلَّم الإنجازات، لكن ظهورها كان بطيئًا مقارنةً بالإنجازات التي تحقَّقت على مدى قرون منذ نحو ٦ آلاف سنة فصاعدًا، من بناء القرى والمدن، وصياغة القوانين، واختراع الكتابة، ونشأة الفن. تمثِّل كل هذه الأشياء جودة الحياة الدائمة التوسُّع؛ فمن خلال الدمج بين البراعة اليدوية والكلام والوظيفة الدماغية المتطوِّرة تمكَّن الإنسان — داخل المجتمع المناسب — من الصعود عدة درجات أعلى السُّلم؛ فقد صعد أعلى من أيٍّ من أسلافه. في الواقع لا توجد أدلة تقريبًا على أن الشمبانزي، أو أيًّا من الحيوانات الأخرى، تصعد السُّلَّم على الإطلاق؛ فأسلوب حياتها يتغيَّر تغيرًا طفيفًا من جيل لآخر، من المحتمل أنه لم يتغير كثيرًا على مدار ٥ ملايين سنة مضت.
أريد التحدث الآن عن مفهوم آخر يهدف إلى شرح سبب تفوق بعض المجتمعات في بناء الحضارات٣ أكثر من غيرها؛ أن لديها قدرة أفضل في صعود سُلَّم التقدم الثقافي. اختَرع هذا المفهوم منذ نصف قرن المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي. لا يوجد وقت لدى طلاب العلم في عصرنا الحالي لوجهات نظر توينبي؛ فهي ليست «عصرية» بما يكفي، وأعترف بأن تحليل توينبي للحركات التاريخية الحديثة، مثلًا على مدى الألف سنة الأخيرة، ليس مبسَّطًا، لكني أجد تحليله للأحداث التي نتحدَّث عنها هنا، خاصةً تلك التي حدثت تقريبًا بين ٤٠٠٠ قبل الميلاد و١٠٠٠ ميلاديًّا، التي وُلدت خلالها الحضارات الأولى، مثيرًا للاهتمام، وعليك أن تحكم بنفسك. إن الفرضية بسيطة، وتقضي بأن المجتمعات تستجيب لتحدي المحنة أفضل من استجابتها لفرصة الحياة السهلة.

(١) تحدي المحنة

عند التفكير في مصير أسلافنا، الذين جابوا أفريقيا وأوروبا وآسيا ووصلوا إلى أستراليا وجزر المحيط الهادئ، وشقُّوا طريقهم من شمال أمريكا إلى جنوبها — ويُطلِق المؤرخون على هذا مصطلح «تجوُّل القوم» — يتبادَر إلى الذهن سؤال بديهي: ما الذي أدَّى إلى ظهور مجتمعات متطورة في بعض أجزاء من العالم دون الأجزاء الأخرى؟ لماذا في بلاد الرافدَيْن (العراق حاليًّا) ومصر، وفي الصين والهند، وفي اليونان (كريت على وجه التحديد)، وفي أمريكا الوسطى (شبه جزيرة يوكاتان تحديدًا)، وليس في شمال أوروبا، أو في وسط أفريقيا وجنوبها، أو في أستراليا أو أمريكا الشمالية (شكل ٦-١)؟ توجد في الأساس ثلاث وجهات نظر، أولها تتعلق ﺑ «العِرق».

يُشير هذا ضمنيًّا إلى أن بعض مجموعات الهومو سيبيان كانت أكثر ذكاءً وتنظيمًا إلى حدٍّ ما من غيرها. يوجد اعتقاد، يَشيع ترويج المنحدرين من أصل أوروبي له، أن بعض الأعراق — كما تحدِّدها الخصائص الجسدية مثل لون البشرة — أقل حظًّا في المهارات العقلية من غيرهم. ومع ذلك لا توجد أدلة علمية إطلاقًا على ارتباط الصفات الجسمانية بصفات دماغية مثل الذكاء؛ ومن ثم تورثها على نحو متلازم. على العكس من ذلك، أوضحتُ في أوقات كثيرة أن الأفراد، وليس المجتمعات، هم الذين يتفاوتون في صفات مثل البراعة الذهنية. بالإضافة إلى هذا، بما أن المايا في أمريكا الوسطى والإنكا في بيرو، الذين أقاموا حضارات مُزدهرة يَرتبطون بالهنود الأمريكان في أمريكا الشمالية وجزر الكاريبي، الذين لم يتطوَّروا كثيرًا إلى أبعد من إقامة مُستعمرات قبلية، فإن افتراض أن العِرق يُحدِّد التأسيس الناجح للحضارات يبدو غير موثوق فيه. تنشأ الْمُعضلة نفسها مع الثقافة المينوية في كريت، مقارنةً بالحياة البسيطة التي يعيشها أمثالهم في أماكن أخرى من حوض البحر المتوسط. صحيح أنَّ اليونانيين في أرض اليونان (المسينيين) أقاموا فيما بعد واحدًا من أنجح المجتمعات على وجه الأرض، إلا أنهم سرقوا أفكارهم من المينويين، تمامًا كما أخذ الرومان أفكارهم من اليونانيين، وقلَّد بقية الأوروبيين في النهاية ثقافة روما، أو فُرضت عليهم.

fig14
شكل ٦-١: مولد حضارات أولية.
يُمكن طرح هذه الحُجج أيضًا فيما يتعلَّق بالحضارات التي أُقيمت في بلاد الرافدَيْن ومصر، وفي الهند والصين. في كل حالة كانت بعض المجموعات تَبني مدنًا وتنشئ ثقافةً متطوِّرة، بينما لا يفعل هذا آخرون لهم الخلفية العرقية نفسها. يجب الانتباه هنا إلى أنني أتحدَّث عن الحضارات البدائية التي نشأت مُنعزلة، في ظل غياب التواصل مع أي ثقافة موجودة. وكما يمكن تتبع الحضارة المسيحية في أوروبا إلى المينويين، مع مُدخلات أيضًا من ثقافات مصر وبلاد الرافدَيْن، ترجع جذور الحضارة الإسلامية إلى ثقافات بلاد الرافدَيْن ومصر، مع مدخلاتٍ أيضًا من الحضارة الرومانية في هذا الوقت. وعلى النحو نفسه نشأت ثقافات كوريا واليابان من حضارة الصين،٤ وثقافة الأزتيك من حضارة المايا. توجد مدرسة فكرية تَنسب نشأة إمبراطورية جوبتا وظهور الهندوسية منذ نحو ١٦٠٠ سنة إلى تأثير السومريين في بلاد الرافدَيْن ومن بعدهم تأثير اليونانيين، لكن يرى معظم الهنود أن الإمبراطورية الماورية التي تأسَّست قبل هذا بسبعمِائة سنة، ووصلت إلى أوجها تحت عهد أشوكا، تمثل استمرار حضارة نشأت في وادي نهر السند. إن الفكرة التي أريد التعبير عنها أن الثقافات البدائية نشأت مستقلة، بجانب المستعمرات البدائية التي عاشت فيها المجموعة العرقية نفسها، ولم يَحدث إلا فيما بعد كثيرٌ من الاقتباس والتبادل للأفكار بين مجتمعات لها خلفية عرقية مشابهة.

إذن ليس العرق هو السبب. تَعتمد التفسيرات الأخرى لظهور حضارة في جزء من العالم دون الآخر على نوع البيئة؛ وتَختلف فقط في كونها مناقضة تمامًا لبعضها؛ فتقترح الأولى أن البيئات المناسبة؛ الوادي الخصب لنهر النيل في مصر، والمِنطقة الخصبة بين نهرَي دجلة والفرات في بلاد الرافدَيْن، وضفاف النهر الأصفر في الصين، والغذاء الوفير من البحر في كريت؛ هي التي أدَّت إلى حياة مستقرة وإلى ظهور مجتمعات مستقرة، فانتقل البشر ببساطة إلى حيث بدتِ الحياة سهلةً، واستقروا في هذه الأماكن. لا يمكنني إنكار أن الانتهازية واستغلال موقف مُواتٍ صفة بشرية مَحضة، لكنها أيضًا، مثل البحث، إحدى الصفات التي تميز جميع الكائنات الحية؛ فتستغلُّ النباتات بيئة مناسبة وكذا الجراثيم؛ فتَتكاثَر الأخيرة بسرعة داخل إنسان وظيفة جهازه المناعي مختلة. لكن يوجد جانب سلبي لهذا؛ فالبكتيريا التي تتطفَّل على الحيوانات، مثل البكتيريا المكورة العنقودية والبكتيريا العُقَدية — التي تسبِّب كثيرًا من الأمراض التي تصيب الإنسان — أصبحت معتمِدة كثيرًا على عوائلها؛ بحيث فقدت القدرة على النمو في أي مكان آخر؛ فاحتياجها إلى عناصر غذائية مُعدَّة مِن قبلُ أكبر بكثير من حاجة الإنسان؛ فمن بين عشرين نوعًا مختلفًا من الأحماض الأمينية المطلوبة لصنع بروتين، نستطيع نحن البشر صنعها جميعًا عدا عدد قليل من الجلوكوز والأمونيا عبر عملية الأيض لدينا، وتحتاج البكتيريا المكوَّرة العنقودية والبكتيريا العُقَدية إلى وجود كل واحد من هذه الأحماض الأمينية العشرين في وجبتها الغذائية.

ستُذكِّرني بأنني قلتُ في فصل سابق إن بعض الجينات التي نحملها معنا هي باقية لدينا من أسلاف سابقة من وقت بعيد. لماذا إذن لم تحتفظ البكتيريا المكوَّرة العنقودية والبكتيريا العقدية بجينات أسلافها، التي تتمكَّن من خلالها صنع جميع الأحماض الأمينية العشرين من الجلوكوز والأمونيا بنفسها؟ والإجابة أننا على مدار فترة طويلة بما يَكفي من الوقت نفقد بالفعل جينات معيَّنة. وعلى الأرجح، فإن السلف المشترك للنباتات والحيوانات الذي عاش منذ ٣ مليارات سنة كان يتمتَّع بالقدرة على التمثيل الضوئي، فكان يَستخدم الطاقة من الشمس لتحويل ثاني أكسيد الكربون والماء إلى كربوهيدرات وأكسجين. أما نحن فقد فقدنا الجينات التي تحدِّد البروتينات الضرورية لتحقيق هذا التفاعُل. كيف؟ عبر الانقراض التدريجي لبعض الأنواع القديمة، وتطوُّر أنواع أخرى. تكون هذه العملية أكثر بطئًا في الحيوانات منها لدى البكتيريا؛ فالإنسان يلد مرة واحدة تقريبًا كل ٢٠ سنة، أما البكتيريا المكورة العنقودية فتلد كل ٢٠ دقيقة، وهو تفاوت يقدَّر بنحو ٥٠٠ ألف ضعف. إذن، هل يوجد جانب سلبي لانتهازية الإنسان؟ على مدى النطاق الزمني الذي ظهرت فيه الحضارات — بضعة آلاف من السنوات على أحسن تقدير — يكون التغيُّر الجيني طفيفًا للغاية بحيث تصعب ملاحظته. هذا لا يعني أنه لا يحدث، لكن يكون تأثيره ضئيلًا. ومن ناحية أخرى، لا يعني التغير في سلوك الإنسان بالضرورة تغيرًا جينيًّا على الإطلاق؛ فالتغيرات في الملابس التي تحدثتُ عنها في فصل سابق ليس لها أساس جيني، ولا ظهور الثقافة.٥ من جهتي أعتقد في وجود جانبٍ سلبي للانتهازية، تمامًا مثل جانبها الإيجابي، لدى الإنسان، سواء كان مُعرَّفًا جينيًّا أم لا؛ فعلى المدى القصير تكون دون شك مفيدة، لكن على المدى الطويل تؤدِّي إلى الرضا بالوضع القائم، وهو قرين الخمول. استمع إلى الشاعر الإنجليزي ألفريد تنيسون الذي كتب في القرن التاسع عشر، على غرار ملحمة «الأوديسا» لهوميروس، يصف مجموعة من الصيادين الكادحين، الذين عثَروا على جزيرة عليها أناس أصابهم الخمول بسبب أكل زنابق الماء:
اكتفينا من الحركة والإعياء،
وذعر البرية،
نتخبط في البحر المتلاطم
حيث يَهيم فرس البحر ذو الأنياب.
هذا أجمل وأحلى،
يا رجال إيثاكا، هنا المُلتقى،
في الوادي المزهر الصغير نتلكأ،
مثل آكل اللوتس، آكل اللوتس المصاب بالهَذَيان!
نحن سنأكُل زهور اللوتس
التي في حلاوة قرص العسل الأصفر
في الوادي أحيانًا
وعلى المرتفَعات القديمة المقدَّسة،
ولا مزيد من الترحال
في الرغوة الفِضية الصاخبة،
إلى الوطن الكئيب
على حافَة البحر المالح،
إلى جزيرة إيثاكا الصغيرة، بعد نهاية اليوم.
لن نرفع بعد الآن المِجداف المتكسِّر،
ولن نبسط بعد الآن الشراع المرهَق،
ومع آكلي اللوتس السعداء شاحبي البشرة
سنبقى في الوادي الذهبي،
في أرض اللوتس، حتى نفاد اللوتس،
لن نتجول بعد الآن.
أنصِتْ! كم جميل ثُغاء النعاج ذَوات القرون
على المنحدَرات المنعزلة،
ووثْب السحلية في بهجة
وانهمار المياه البيضاء ذات الرغوة.
إن شجرة الصَّنَوْبر الداكنة تَنتحب،
وتعترش الكرمة اللَّدْنة،
ويرقُد الشمام الثقيل
على طول الشاطئ الطويل،
يا سكان جزيرة إيثاكا، نحن لن نتجول بعد الآن،
أكيد أكيد أن النوم أحلى من الكد،
والبَرَّ أفضل من الكدح في المحيط والتجديف بالمجاديف.
يا سكان جزيرة إيثاكا، نحن لن نعود بعد الآن.٦

يكون المجتمع الذي يعيش على الانتهازية أقل ابتكارًا وأقل تقدمًا من المجتمع الذي يواجه التحديات على نحو مباشر؛ فقد أثبت نشاط الصيد القاسي، على المدى الطويل، أنه أكثر نفعًا للإنسان من جمع والتقاط الطعام.

إذن فإن الافتراض الثاني الخاص المتعلِّق بالبيئة هو أنَّ تحدي الظروف الصعبة هو الذي يُخرج الإبداع لدى الإنسان، وسعيه للعثور على طرق لترويض البيئة لأوامره، فكانت المِحَن، وليس الرخاء، هي التي أدَّت إلى ظهور الحضارات. حتى في وقت مبكر من التاريخ، منذ ٥٠ ألف سنة، ألم يكن الإنسان يستجيب لتحدٍّ عندما انطلق من المكان المعروف حاليًّا بإندونيسيا وبدأ يجدف في اتجاه الشرق ليصل إلى سواحل غينيا الجديدة، التي كانت ترتبط في هذا الوقت بأستراليا بجسر أرضي؟ يُعتبر وجود مجرى مائي عنصرًا مهمًّا في أي مجتمع؛ خاصةً إن كان مجتمعًا زراعيًّا، وحقيقة أن الحضارات السومرية والمصرية والهندية والصينية نشأت كلها على ضفاف نهر ليست مصادفة. إلا أن توينبي يشير إلى أن المراعي المجاورة لنهر النيل، وتلك الموجودة بين نهري دجلة والفرات، في الواقع مرَّت بفترة من الجفاف عقب نهاية العصر الجليدي الأخير، تحولت خلالها الأرض المحيطة بها من أرض عشبية إلى صحراء. ومع ذلك كانت هذه هي الفترة نفسها، منذ نحو ٦ آلاف إلى ٤ آلاف سنة، التي وصلت فيها الثقافات المصرية والسومرية (في بلاد الرافدَيْن) إلى ذروتها.

حدَث هذا لأن هذه المجموعات التي كانت تمتلك فيما بينها عزمًا كبيرًا ودافعًا قويًّا للبحث عن إجابات للتحديات الجديدة، اختارت الانتقال من مراعٍ في سبيلها إلى الاختفاء حول نهر دجلة ونهر النيل إلى مستنقعات الأنهار نفسها، التي تجنَّبتها شعوب لديها رغبة أقل في خوض المِحَن.٧ ومن خلال الحاجة إلى التكيف مع هذه المستنقعات، توصَّل المغامرون إلى طرق لصرف المياه وري محاصيلهم استمرت حتى يومنا هذا. أما الأقل ابتكارًا فإما ظلُّوا حيث كانوا وماتوا، أو انتقلوا إلى مناطق بإمكانها الاستمرار في دعم حياتهم على الزراعة البدائية والصيد دون عناء كبير. لم يكن هؤلاء هم الذين بنَوْا أهرامات الجيزة أو مدينة بابل، ولم يكن هؤلاء هم الذين اخترعوا العجلة ولا الكتابة المسمارية، ولم يكونوا هم من صنعوا الحُلي ولا الأوعية المصنوعة من الذهب، ولم يكونوا هم الذين حدَّدوا نقاط البوصلة من مواقع النجوم.
ما التحديات التي تَحتَّم على المستوطنين في وادي النهر الأصفر التغلُّب عليها؟ ربما كان التفاوت في درجات الحرارة مع تغير الفصول؛ الشتاء قارس البرودة في مقابل الصيف شديد الحرارة. لم تكن الشعوب الموجودة في الجنوب، في وادي نهر اليانجتسي الذي يظلُّ فيه المُناخ أكثر دفئًا طوال السنة، بحاجة لمواجهة هذا التحدي، ويرى توينبي أن هؤلاء لم يكونوا مؤسِّسي الثقافة الصينية.٨ ومع ذلك، أصبحنا نعرف الآن أن المُناخ في شمال الصين كان أكثر دفئًا بدرجة كبيرة في العصر الحجري الحديث، لذلك ربما لعبتْ عوامل أخرى دورًا. بالإضافة إلى هذا، منذ عصر توينبي، كشفت أعمال التنقيب في محيط حوض نهر اليانجتسي مواقع لمستوطنات في قِدَم تلك الموجودة على طول النهر الأصفر؛ ربما تمثِّل التحدي الذي واجه مؤسسيها في الفيضانات التي تحدث بانتظام على ضفاف نهر اليانجتسي الممتلئ بالماء.

ربما تكون الغابات الموجودة في سهول يوكاتان غنية بالموارد الطبيعية، لكن نموَّها بسرعة كبيرة طرح تحديًا مستمرًّا يتمثَّل في تقليم أظافر الطبيعة؛ وذلك بتقليم الشجيرات وتقطيع الأشجار باستمرار من أجل الحفاظ على الممرات التي اختار المايا الاستقرار فيها. أما الذين عاشوا على المرتفعات — الذين أسَّسوا في النهاية إمبراطورية الآزتيك — فكانت حياتهم أسهل. فلم يؤسِّس أسلافهم حضارة بدائية، ولكنهم ظلوا صيادين ومزارعين بدائيِّين، حتى استوعبوا في النهاية ثقافة أولئك الذين أسَّسوا مدينة تيوتيهواكان في الشمال، والمايا الذين بنَوْا مدينة بالينكي وتشيتشن إيتزا في الجنوب الشرقي. اضطُر الإنكا في بيرو إلى مواجهة نوعين من التحدي؛ فعلى جبال الأنديز المرتفعة كان ثمَّة مُناخ قارس البرودة وتربة فقيرة، وعلى طول الساحل كانوا يواجهون غيابًا تامًّا لسقوط للأمطار وكانت الأرض مجرَّد صحراء، كحالها إلى يومنا هذا. ومع ذلك استطاعوا التغلب على كلا التحديين وأسَّسوا إمبراطورية استمرت طوال ٣٠٠ عام.

في حالة الحضارة المينوية (وثمة من لا يعتبرونها حضارة بدائية على الإطلاق) فيصعب تحديد التحدي الذي فرضته الحياة على جزيرة كريت. تتمثل الحُجة التي يَعرضها أرنولد توينبي في أن التحدي كان قد حدث بالفعل عند استعمار الجزيرة، وتمثَّل في الواقع في البحر. وتشير الأدلة الإثنولوجية إلى أن المستوطنين لم يأتوا من أوروبا أو آسيا، ولكن من شواطئ شمال أفريقيا الأكثر بُعدًا؛ فيبدو أن جفاف المراعي لم يدفع مؤسسي الحضارة المصرية نحو مستنقَعات النيل فحسب، لكنه أيضًا حثَّ مجموعة أخرى من الرجال، المستعدِّين لمواجهة تحدٍّ مختلف، إلى عبور البحر إلى جزيرة كريت.

من بين التفسيرات الثلاثة التي ذكرتُها لظهور الحضارات البدائية — العِرق أو البيئة الملائمة أو البيئة غير الملائمة — يتجه تفضيلي الشخصي كثيرًا نحو التفسير الثالث.٩ إنه التحدي؛ تحدي المجهول، الذي له جاذبية خاصة لدى الإنسان؛ لأن البحث جزء أساسي من طبيعته؛ فهو يبحث عن طرق للتغلب على المِحنة، وللنجاح حيثما فشل أسلافه. وقد رأينا أن رغبة الإنسان الفطرية في الاستكشاف أدَّت إلى استقراره في جميع أنحاء العالم، بدايةً من التندرا المتجمِّدة في ألاسكا وكندا حتى الصحراء في أفريقيا وآسيا، ومن سهول سيبيريا حتى غابات بورنيو والبرازيل. لم يغامر أيٌّ من الرئيسيات الأخرى بالخروج من بيئة أسلافه، ولو حدث هذا، لمات من البرودة أو الحرارة، أو من نقص الطعام والماء. فإن إبداع الإنسان وبحثه عن طرق للتغلب على القيود المفروضة عليه من البيئة، هو الذي مكَّن الإنويت من ارتداء ملابس والحياة في أكواخ الإسكيمو في درجات حرارة تنخفض إلى أقل من −٤٠ درجة (على هذا النطاق تتطابق الدرجات المئوية والفهرنهايتية بعضها مع بعض)، ومكَّن البربر من التكيُّف مع الجفاف والحرارة في الصحراء عبر رصد كل نقطة مياه متاحة والحفاظ عليها. ومع ذلك لم يُقِمِ الإنويت أو البربر حضارة؛ فإذا كان التحدي قاسيًا للغاية، فلن تتمكن المجموعة ببساطة من التغلب عليه. إن التوازن بين التحدي والقدرة على التغلب عليه هو أمر دقيق للغاية. لقد استبعدْتُ الفروق في الخلفية العِرقية بوصفها سببًا في ظهور الحضارات، لكني أقرُّ بأن مدى إبداع الإنسان، وسعيه للتوصل إلى طرُق جديدة للحياة، أمر نسبي؛ فيوجد لدى بعض الناس أكثر من غيرهم. ومن الواضح أن جميع مجموعات الإنسان العاقل تَمتلك غريزة استكشافية، بالإضافة إلى القدرة على الاستفادة من هذه الصفة من خلال استخدام اللغة وحركات اليدين، أكثر من أيٍّ من الرئيسيات الأخرى.
عودةً إلى السُّلم؛ نقول إنه ليس كل المجموعات تصعد السُّلم، فبعضها يظلُّ في مكانه، وأحيانًا ينزلق أكثر إلى الأسفل. أشرتُ في الفصل السابق إلى البولينيزيين سكان جزيرة الفصح. فبعدما ارتقَوُا السُّلَّم للوصول إلى هذه الجزيرة في المقام الأول، ثم لبناء أروع تماثيل على الإطلاق، سقطوا إلى الأسفل عدة درجات عندما استنفدوا كافة مواردهم دون التفكير في الغد. هل كان هذا لأنهم، بسبب العزلة، لم يتعرَّضوا لتحدٍّ كافٍ من الدخلاء؟ وهل كان هذا أيضًا السبب في أن حضارة المايا داخل الغابات المطيرة الكثيفة — شهدت أوج ازدهارها بين القرنين الرابع والثامن الميلاديين — انهارت على مدار سبعة قرون؟ ثمة سبب آخر للانحدار أسفل السُّلم وهو عكس الخمول؛ فالدمار قد يكون خارجيًّا أو داخليًّا؛ فالإمبراطورية الرومانية، على الأقل في الغرب، انهارت بسبب اضمحلالٍ داخلي جعلها غير قادرة على صد الغزوات المتتالية من الفانداليين والقوط والفرنجة. كان أحد العوامل المساهمة ظهور القيَم المسيحية، التي أثبتت عدم توافقها مع حكم الإمبراطور (تعلم الحكام الذين جاءوا فيما بعد، سواء في إيطاليا أو إسبانيا، جيدًا كيفية التغلُّب على مشكلة التواضع والتسامح في الدين المسيحي؛ فكانوا يتجاهلونها). ربما كان من بين العوامل الأخرى، المرض على سبيل المثال، توجد أدلة على أن الملاريا جاءت إلى جزيرة سردينيا، وانتقلت منها إلى البر الرئيسي على يد الفاندال المُغيرين، الذين أحضروا البعوض المصاب معهم من سواحل شمال أفريقيا.١٠ أما باقي الإمبراطورية في الشرق، فرغم تراجُع تأثيره وحجمه، فقد ظل موجودًا لمدة ألف سنة أخرى قبل اجتياح العثمانيين له في النهاية. وفي عصرنا الحالي، يُظهر مثال الصين تحت حكم ماو تسي تونج كيف يمكن لإبادة الثقافة من الداخل تدمير حضارة. لا تظل كثير من المجتمعات على حالها لفترة طويلة؛ فكما تَرتفع قيمة سوق الأسهم وتنخفض، لكن نادرًا ما تظل ثابتة، فإن مصائر الثقافات إما تتحَّسن أو تتدهور، لكنها نادرًا ما تظل كما هي. وفي النهاية، ألا تكونُ قيمة سوق الأسهم مجرد انعكاس للنجاحات والإخفاقات المادية؟ مجرد خطوات أعلى السُّلم المالي أو أسفله؟

إن سلم الإنجازات نفسه ليس ثابتًا؛ فهو سُلم متحرِّك — سُلم دوار — ويتحرك في اتجاه واحد فقط، إلى الأعلى؛ فالحضارات قد تتدهور، لكن هذا يكون تراجعًا مؤقتًا. فالعُرف الصيني المتمثل في التفاخر بالمهارة اليدوية والمعرفة ربما توقَّف لجيل أو اثنين في النصف الثاني من القرن العشرين (مع فقدان نحو ٥٥ مليون مواطن صيني بريء حياتَهم بسبب المجاعة أو الانتحار، وهو عدد أكثر من ضحايا ستالين وهتلر معًا، خلال قفزة ماو العظيمة إلى الأمام)، لكنها لم تُفقد وأُعيد إحياؤها في أثناء تأليفي لهذا الكتاب. ومعظم الناس على وجه الأرض حاليًّا يعيشون حياة أفضل مما كان عليه الوضع منذ ٥ آلاف سنة. وإذا كان سكان الأحياء الفقيرة المُعدَمين في مكسيكو سيتي أو مومباي (بومباي سابقًا) يعيشون حاليًّا حياة أسوأ من التي عاشها أجدادُهم؛ فإن هذا لأن محاولتهم لتحسين جودة حياتهم بالانتقال من القرية إلى المدينة بحثًا عن عمل ثبت أنها خاطئة؛ فلم تكن توجد وظائف. كان عنصر السعي موجودًا، لكنهم ساروا في الطريق الخطأ.

(٢) توريث القدرات البشرية

إذا كانت المهارات التي اكتسبتها الحضارات السابقة لا تُفقَد، فهل هذا يعني أننا نزداد ذكاءً بمرور الوقت؟ نعم؛ فطالما أن الذكاء يشير إلى قدرتنا على بناء منزل أو سد أو زورق أو طائرة أو صاروخ أفضل، أو قدرتنا على التواصُل مع بعضنا عبر الهاتف أو لا سلكيًّا أو عبر الإنترنت. إن التِّقنية التي يتوصَّل إليها أحد الأجيال تُعدُّ نقطة الانطلاق للجيل التالي؛ فالمعرفة هي أصل في زيادة مستمرة، ولأن مزيدًا من الناس يشاركون تباعًا في السعي، لأن التقنية الواحدة تنتج عنها عدة تقنيات جديدة، فإن اكتسابنا للمهارات يزيد بمعدل أُسي. وقد اكتسبنا تقنيات أكثر في المِائة سنة الأخيرة أكثر مما حدَث في السنوات العشرة آلاف السابقة عليها. لا يُغيِّر أي نوع آخر بيئته على هذا النحو؛ فنمط حياة الحيوانات من حولنا هو نفسه إلى حدٍّ كبير كما كان منذ مليون سنة. الأمر الذي لا يتغيَّر هو قدرة الإنسان على اختراع شيء جديد؛ قدرته الذهنية. فيَمتلك الأفراد، كما أكَّدتُ، قدرة ذهنية بدرجات متفاوتة، لكن تظل هذه الدرجات نفسها على مدى آلاف الأجيال.

أما الصفات الجسمانية مثل شكل الوجه ومرونة الأطراف، والصفات العقلية مثل الحالة المِزاجية أو البراعة، أو الطيبة أو القسوة، والنزعة للاستكشاف أو صنع أعمال فنية، فتتحدَّد جميعها بشبكة من الجينات المتفاعلة وامتدادات الدي إن إيه الأخرى. تُحدِّد هذه معًا مجموعة من عدة بروتينات تعمل في تناغم. وتتأثَّر النتيجة النهائية بالبيئة أيضًا؛ بعوامل مثل نظام غذائي صحي من ناحية، أو مستوًى غير صحي من التلوث أو إصابة جرثومية من ناحية أخرى. يبدو أن الذكاء، مثلًا، تُحدِّده جيناتنا والبيئة بالقدر نفسه تقريبًا. كذلك يبدو أنه لا يتغير كثيرًا مع التقدُّم في العمر؛ فمُعدَّل ذكائنا في السبعين يُعادل القدر نفسه الذي كنا عليه في السابعة (تمامًا كما تظل شخصيتنا — ضعيفة أو قوية، كاذبة أو صادقة — نفسها طوال حياتنا). إن معرفتنا — ما نتعلمه — هي التي تزيد مع التقدم في العمر، تمامًا مثلما تكون المهارات التي تَكتسبها الثقافات المتعاقبة تراكُمية، كما أن قدرتنا على استخدام هذه المعرفة؛ على نحو جيِّد أو سيئ، وبسرعة أو ببطء، لا تتغير، تمامًا كما لا تتغير قدرة المجتمعات على صنع ثقافة أو رغبتها في تدميرها. إذا كان الذكاء لا يتغير مع التقدم في العمر، فإن هذا يعني أن التأثير البيئي — مثل التغذية والتلوث والإصابة بالأمراض — يحدث في سنٍّ مبكِّرة، على الأرجح في أثناء فترة الحمل. هذا ليس مثيرًا للدهشة؛ فنحن نعلم أن معظم خلايا المخ تتجمَّع في سن الثالثة أو ما شابه. وفي أثناء فترة الطفولة اللاحقة يتشكَّل سلوكنا أكثر إلى حدٍّ ما بالعوامل البيئية؛ فتكون على الأرجح لمجموعات أقراننا التأثير نفسه الذي يلعبُه والدانا. وبمجرد وصولنا إلى مرحلة البلوغ، نظل أذكياء أو أغبياء، أُمناء أو مراوغين، عدائيِّين أو وُدَعاء، تمامًا كما كنا ونحن صغار. ولهذا فإن الرجال والنساء المبدعين الذين حقَّقوا نجاحًا في مجالهم — العلماء والكُتاب الحاصلون على جائزة نوبل، على سبيل المثال — يواصلون العمل في السبعينيات والثمانينيات من عمرهم. لماذا يفعلون هذا؟ ألا يُمكنهم الاعتماد على ما حققوه من نجاح؟ لا يمكنهم فعل ذلك؛ فالبحث عن أفكار جديدة، والرغبة في الإبداع تجري في دمائهم.

علينا أن نتذكر شيئًا آخر؛ أن البيئة قد تؤثر في طريقة عمل الجينات، لكنها لا تغيِّر تركيبها، إلا كما ذكرنا مسبقًا على مدى إطار زمني يَصل إلى عشرات الآلاف من الأجيال، وبطريقة عشوائية تمامًا؛ فالإنسان الذي يعيش على ارتفاع كبير ربما يتكيَّف معه بمرور الوقت عن طريق زيادة كَمِّية الهيموجلوبين التي يُفرزها،١١ لكن هذه القدرة لا تورَّث إلى ذريته، فيكون عليهم التكيف مرة أخرى منذ لحظة مولدهم. بالمثل لا تنتقل الحياة في ثقافة غنية فكريًّا إلى أطفال المرء؛ فربما تكون المعرفة تراكَمِّية، لكن الصفات المطلوبة لتوليد هذه المعرفة أو الانتفاع بها لا يُمكن استيعابها ونقلها إلى الجيل التالي. إذا كان الأمر كذلك، فربما كان أحفاد سقراط وأفلاطون وأرسطو وأرشميدس شكَّلوا حتى الآن دولة للعباقرة؛ ويوضِّح قضاء بضع ساعات في مطار أثينا أو في إشارة مرورية في المدينة مدى حمق هذا الافتراض. ورغم أن الذكاء يكون أحيانًا سمةً في العائلات — فهو على أي حال يتحدَّد جزئيًّا بعوامل وراثية — فإن خلط الجينات في كل جيل، بالإضافة إلى عوامل بيئية تجعَل الذكاء صفةً غير متوقَّعة؛ فلم يكن أيٌّ من أطفال داروين عبقريًّا،١٢ وأعتقد أن هذا الأمر ينطبق على ابنة أينشتاين أيضًا (وأنا واثق من أنها ستُسامحني على هذه الملحوظة). من ناحية أخرى، نجد أن إيرين كوري، ابنة ماري كوري، فازت بجائزة نوبل في عام ١٩٣٥ لاكتشافها نشاطًا إشعاعيًّا من صنع الإنسان. لقد فازت والدتها بجائزتَي نوبل؛ الأولى في عام ١٩٠٣ (مع زوجها بيير كوري) على اكتشاف عنصر الراديوم، والثانية وحدها في عام ١٩١١ على عَزله. وفي عام ١٩١٥ اشترك ويليام براج مع ابنه لورنس براج في الفوز بجائزة نوبل على ابتكار تقنية تصوير البلورات بالأشعة السينية، التي اعتمد عليها توضيح التركيب الجزيئي الذي جاء فيما بعد. أظهرت لجنة نوبل بُعدَ نظر مُبهر في هذه الواقعة؛ إذ كرَّمَت بعد ٥٠ عامًا مكتشفي بنية الدي إن إيه (فرانسيس كريك وجيمس واطسون وموريس ويلكنز)، والبروتينات (الميوجلوبين على يد جون كندرو، والهيموجلوبين على يد ماكس بيروتس، والإنسولين على يد دوروثي هودجكن)، وهي الاكتشافات التي تحقَّقت كلها بسبب تصوير البلورات بالأشعة السينية.

ينطبق الشك نفسه بشأن انتقال الموهبة على الإبداع الفني؛ فقد تزوجت كوزيما ابنة المؤلف الموسيقي ليست من ريتشارد فاجنر، لكن لم يؤلِّف أيٌّ من ذريتهم — الذين ارتبط معظمهم بشكل أو بآخر بمهرجان بايرويت — فعليًّا مقطوعات موسيقية. من ناحية أخرى، ألف أربعة من أبناء يوهان سباستيان باخ مقطوعات موسيقية؛ حيث ألَّفَ فيلهلم فريدمان مقطوعات للأورج، تمامًا كما فعل أخوه الأكثر منه أعمالًا كارل فيليب إيمانويل، أحد مبتكري أسلوب السوناتا والسيمفونية في الموسيقى، كما ألَّف يوهان كريستوف فريدريش موسيقى الحجرة وكونشيرتوهات وسيمفونيات، كما فعل يوهان كريستيان الأمر نفسه وأصبح معروفًا باسم «باخ الإنجليزي»؛ فكان يعمل مايسترو لدى أسرة جورج الثالث، وقدَّم عزفًا مميزًا لسوناتا مع موتسارت (في الثامنة من عمره) في لندن.

لكن هل بالفعل التأثير الوراثي، وليس البيئي أيضًا، هو الذي يفسِّر إنجازات الذُّرية؟ كان زوج إيرين كوري، جان-فريدريك جوليو، الذي حصل مناصفة معها على جائزة نوبل، مساعد ماري كوري، ولا بد أن كلًّا من جان-فريدريك وإيرين تأثَّرا كثيرًا بوالدَي إيرين وببيئة المعهد الذي كانوا يعملون جميعًا فيه. كما كان براج الوالد والابن متعاونَين مقرَّبَين، وعلَّم يوهان سباستيان باخ التأليف الموسيقي لأبنائه الأربعة جميعهم (بالرغم من عوامل التشتيت الأخرى المتمثِّلة في إنجاب ١٦ طفلًا آخر، وتأليف أكثر من ٦٠٠ كانون وكانتاتا وكونشرتو وفوجا وقداس وأوراتوريو ومقدمة موسيقية ومتتالية)، ولا يمكن وصف البيئة في منزل باخ بأي شيء آخر إلا أنها كانت موسيقية بشدة. ومن أجل إظهار علاقة وراثية واضحة بين العباقرة وذريتهم علينا البحث عن أمثلة ينفصل فيها الطفل عن والديه في سنٍّ مبكِّر ومع ذلك تظهر عليه صفات بارزة في الفلسفة أو العلم، في تحصيل العلم أو الفن. وللأسف لا يتبادر أيُّ مثال إلى الذهن.

مرةً أخرى، تتوزَّع الصفات التي تميِّزنا عن الشمبانزي بالتساوي بين كل البشر الموجودين في العالم. ربما يتفاوت لون البشرة وغيره من الصفات الجسدية بين المجموعات العرقية المختلفة، لكن لا توجد أدلة على أن الصفات الدماغية التي تحدَّثْنا عنها تظهر بقدر كبير لدى بعض الأعراق أكثر من غيرها. فإن فرص العثور في أي مجتمع على شخص ذكي أو غبي، وعلى قائد أو تابع، وفنان أو مخرِّب، وشخص أمين أو مخادع، وعلى طاغية أو قدِّيس، هي نفسها في أمستردام وأديس أبابا وأديلايد، وفي بوسطن وبوجوتا وبكين. كما أنها في عصرنا الحالي كما كانت تقريبًا منذ ١٠ آلاف عام. ويتمثَّل الاختلاف في طريقة استخدام المجتمعات المختلفة لهذا الخليط من الصفات. سنتحدث في الفصلين التاليَين عما يُدعى الثقافة وجودة الحياة، لكن أولًا سنستفيض قليلًا في الحديث عن الموضوع الذي نتناوله الآن؛ أن صفاتٍ مثل العبقرية نادرًا ما تنتقل إلى ذرية المرء، ونتحدث عن صفة القيادة.

(٣) الحُكام

يوجد دائمًا داخل أي مجموعة من الحيوانات حيوان واحد يُسيطر على الآخرين. يكون الحاكم بوجهٍ عام الأقوى والأشرس بين الذكور، لكن أحيانًا تكون أنثى، مثل حال قرود الفرفت أو الضباع. بالمثل، في الحشرات الاجتماعية، مثل الدبابير والنحل والنمل، تكون الملكة هي التي تحكم. تَختلف السيطرة عن القيادة عند انتقال الحيوانات من مكان لآخر. وفي مجموعة من الرئيسيات ربما يكون الذكر القائد في المعركة، لكن تتخذ الأنثى دومًا قرارَ متى يتحرَّكون وإلى أين؛ هذا لأن العامل المقيِّد للإناث فيما يتعلق بنجاح عملية الإنجاب هو العثور على الطعام، بينما يكون بالنسبة للذكور العثور على أنثى. في ٩٧٪ من كل أنواع الثدييات، لا تستثمر ذكور الرئيسيات وقتًا في الاعتناء بذريتها، بل بدلًا من ذلك تبحث عن إناث. قد تكون القيادة في مجتمع الحيوانات قصيرة الأمد تمامًا كما في مجتمع البشر؛ فعندما يفقد الذكر المهيمن داخل المجموعة عراكًا مع منافس له، فإن الأخير يتولى القيادة. ومع تقدم القائد في العمر، يحلُّ محله عضو آخر في المجتمع. يخرج القائد الجديد على نحو طبيعي، فيكون الأقوى والأكثر هيمنة، ولا يحدُث اختيار الحاكم الجديد إلا في حالات قليلة للغاية. يوجد مثال على هذا في نظام التسلسل الهرمي بين الحشرات الاجتماعية؛ فعندما تموت ملكة النحل، يختار العمال خليفتها من خلال انتقاء الأنثى التي يرجَّح إنتاجها لأكبر عدد من الذرية (فالملكة هي الوحيدة المسموح لها بالتكاثر داخل خلية النحل). ومع ذلك لا يقع الاختيار أبدًا على ذرية القائد ليخلف والده لمجرَّد انتسابه إليه. فالحيوانات تستفيد على النحو الأمثل من غريزتها؛ فصفات مثل القيادة نادرًا ما تَرثها الذرية. أما البشر، في مجتمعات في جميع أنحاء العالم، فقد اختاروا اتباع هذا المسار فحسب، من خلال اختيار أحد الأقارب المقربين — عادة المولود الأول — للحاكم السابق كي يخلفه. إلى أيِّ مدًى نجاح مبدأ التوريث هذا؟

خلال فترة ازدهار الثقافة اليونانية طوال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، عندما كان رجال مثل إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس وسقراط وديموقريطوس وأريستوفان وأفلاطون وأرسطو، يضعون قواعد الفلسفة والدراما الغربية، وعندما كانت أول جامعة في العالم (أكاديميا) في طَور التأسيس، كان المواطنون في أثينا هم مَن يتولَّون حكمها. ويرجع أصل مبدأ الديمقراطية (حكم الشعب) — الذي أيده بريكليس طوال حياته — إلى هذه الفترة بالتحديد؛ وإذا كان الذين يتولون الحكم الأكثر قدرة، والأفضل تعليمًا، كان هذا أفضل. لم يكن يوجد عنصر التوريث في الخلافة في الحكم الأرستقراطي (حكم الأفضل) في هذا الوقت. فعلى العكس، تُظهر إنجازات هذا العصر أن البيئة كان لها تأثير أكبر من القرابة في انتقال القدرات العقلية؛ فقد كان سقراط معلم أفلاطون، الذي علَّم بدوره أرسطو.

يُمكننا أيضًا ملاحظة كيف كان الحكم في الصين في هذا الوقت؛ فرغم أن الكلمة الأخيرة كانت دومًا للإمبراطور، فقد كان الحكم يحدث في الأساس على يد بيروقراطية متعلمة؛ فحتى الجيش كان يأتي في المرتبة الثانية. ومنذ الوقت الذي لم تكن فيه الصين موحدةً بَعدُ تحت قيادة أسرة تشين في القرن الثالث قبل الميلاد، شكَّل الدارسون الذين تلقَوْا تدريبًا في فن الإدارة نظامًا للإدارة بالاستحقاق والكفاءة، اعتمَد بموجبه الترقي بصرامة على الموهبة، وليس النسَب؛ فكان نظام الاختبار الذي يحدث على أساسه اختيار الإداريين المستقبليين من أكثر الأنظمة صرامة على الإطلاق. وبالتأكيد أدى شكل الحكم هذا إلى استقرار الإمبراطورية واستمرارها على مدى ٢١ قرنًا تالية.

حين نَنتقل إلى العصر الروماني، نجد أن أعظم إنجازاته حدثتْ تحت حكم الجمهورية (تقريبًا من ٥٠٠ إلى ٢٧ قبل الميلاد. ووقتها أصبحت كلمة «ملك» سُبة). في أثناء القرن الأول الميلادي على وجه الخصوص وسَّعت روما حدودها عبر انتصارات يوليوس قيصر؛ فبدأت في إدخال النظام القانوني المستخدم حتى يومنا هذا في معظم أنحاء أوروبا، وكانت موطنًا للخطباء أمثال شيشرون وللشعراء مثل فيرجيل. كانت الجمهورية يَحكمها قنصلان ومجلس للشيوخ، لم تكن عضويته (٩٠٠ عضو في هذا الوقت) مقتصرة على الأرستقراطيين أصحاب الأراضي (الأشراف)، ولكنها كانت مفتوحة أيضًا لبعض العوام (عامة الشعب).١٣ كان القادة مثل يوليوس قيصر يتلقَّوْن أوامرهم من مجلس الشيوخ، وكانوا يتصرفون وفقًا لأوامره. وفي حقيقة الأمر، حين طُلب من القيصر في عام ٤٩ ميلادية التنازل عن القيادة، فإنه تجاهَلَ الأمر، واتجه بجيشه جنوبًا وعسكر به على الضفة الشمالية لنهر روبيكون بالقرب من جمهورية سان مارينو الحالية. وقد ألزم قيصر نفسه، بعبوره هذا المجرى المائي، بمجموعة أحداث ستُحدِّد بقية حياته؛ فقد اختار دخول روما وحكمها بمفرده. استطاع تحقيق هدفه (فقد فعل هذا بوجه عام)، ورغم أنه حكَمها كديكتاتور، فقد فعل هذا بحكمة وابتكار. وعند اغتياله بعد خمس سنوات، انتقلت السلطة إلى أوكتافيان، الذي تبناه القيصر كابنٍ له؛ فلم تكن صلة قرابة أوكتافيان به أكثر من مجرد حفيد أخته. إن ممارسة تبنِّي المرء قريبًا بعيد الصلة وجعله ابنه — ومن ثم خليفته — توضِّح إدراك الرومان لضعف مبدأ التوريث. ورغم أن أوكتافيان أعاد اسميًّا الحكم لمجلس الشيوخ، الذي منَحه لقب أوغسطس (بمعنى المبجَّل)، فقد حكم كإمبراطور تمامًا منذ عام ٢٧ قبل الميلاد فصاعدًا. وتحت حكمه وصلت روما إلى القمة من حيث الإدارة المبدعة والثقافة المزدهرة، وكان وقت سلام إلى حدٍّ كبير (السلام الروماني). كان العصر الأوغسطي ناجحًا للغاية؛ لدرجة أن اسمه أُطلق على فرنسا وإنجلترا منذ أوائل القرن الثامن عشر حتى منتصفه، عندما ازدهر كُتَّاب مثل كورني وراسين وموليير، ومثل بوب وأديسون وسويفت وستيل، الذين أُعجبوا جميعهم عرَضيًّا بالقيم الرومانية.

عند وفاة أوغسطس في ١٤ ميلاديًّا، انتقل التاج إلى ابن زوجته (فلم يكن لديه ابن) تيبيريوس، الذي اعتبره أوغسطس ابنه بالتبني، واستمر تقليد تحديد المرء لخليفته طوال سنوات بقاء الإمبراطورية. وكما قد نتوقع، أحيانًا يُثبت الابن بالتبني جدارته للمهمة، وأحيانًا لا، كان ابن تيبيريوس بالتبني (حفيد أخيه) كاليجولا كارثةً على روما، بينما تمكَّن خليفته، كلوديوس (عمه فعليًّا)، من إنقاذ الوضع إلى حدٍّ ما. أما ابن كلوديوس بالتبني، نيرون (حفيد حفيدة أغسطس من زواج سابق) فقد اتَّضح أنه أسوأ حتى من كاليجولا؛ وعندما مات ألغى مجلس الشيوخ فترة حكمه رسميًّا من السجلات. ومع وفاة نيرون انتهت السلالة التي تمتدُّ حتى يوليوس قيصر، وأُدخل دم جديد من خلال اختيار أباطرة من أسرة فلافيان، مثل فسبازيان، وأُنقذت روما. وقد بدأت أحد أكثر فتراتها نجاحًا عندما تلاشَتِ السلالة الأنطونية، التي تلت سلالة فلافيان، فوقع الاختيار على شخص غريب تمامًا؛ فكان أول ابن مُتبنًّى، وربما الوحيد الذي لم تكن تربطه بوالده صلة قرابة على الإطلاق، فلم يكن حتى من روما، إنما كان قرويًّا من إسبانيا. كان هذا هو الإمبراطور تراجان الذي أثبَتَ أنه أحد أفضل حكام الإمبراطورية؛ إذ وسع حدودها أكثر، مثلما فعل خليفتُه؛ إسباني آخر هو هادريان. إن الاستنتاج الذي يُمكننا التوصل إليه من هذا بسيط؛ فطوال عهد الجمهورية وفي السنوات الأولى من الإمبراطورية، وهي الفترة التي لم يكن أيُّ حاكم يُعيَّن بسبب نسبه فقط، كانت روما في أوج ازدهارها؛ ومن ثم عندما أصبح الاختيار يقع على الأباطرة إلى حدٍّ كبير بسبب نسبهم (وكانت فترات حكمهم تُقتطع بالقتل)، بدأت روما في الاضمحلال.

لا يكون الحاكم الذي يعيِّن نفسه، مثل يوليوس قيصر أو أغسطس، أسوأ بالضرورة من الحاكم المنتخَب، شريطة أن يكون رجلًا موهوبًا. في إنجلترا عندما عَيَّن أوليفر كرومويل نفسه في عام ١٦٥٣ السيد الحامي للكومنولث، بدأ كثيرًا من الإصلاحات المفيدة، وورث ابنُه ريتشارد اللقب بعد وفاة كرومويل في عام ١٦٥٨، وأثبت عدم كفاءته للمهمة. ونتيجة لهذا سرعان ما أُعيد النظام الملكي بدلًا من هذا، لكن مع شرط واحد؛ من الآن فصاعدًا أصبح البرلمان، وليس التاج، هو الذي يتَّخذ القرارات المهمة في الدولة.

في العصور الوسطى كانت القوة الوحيدة خارج آسيا التي تُضاهي الإمبراطورية العثمانية — القوة السائدة منذ ١٣٠٠ ميلاديًّا فصاعدًا — في الثقافة والحضارة توجد في دولة مدينة صغيرة تقع على عدد من الجزر داخل بحيرة تبلُغ مساحتها أقل من ١٠٠ ميل من أحد جوانبها إلى الجانب الآخر. ومع ذلك كانت البندقية تُضاهي الإمبراطورية العثمانية — التي بلغت مساحتها ٥ آلاف ميل من الهند في الشرق حتى البرتغال في الغرب — في التِّجارة وفاقتْها في الفن. استمرَّت جمهورية البندقية نحو ٨٠٠ سنة، وأنتجت فترةَ ازدهارها (من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر) بعضًا من أفضل الفنانين في أوروبا؛ رسامين مثل ياكوبو بيليني وابنيه جينتيلي وجوفاني، بالإضافة إلى تلميذيه جورجوني وتيتيان، وأعقبهم تينتوريو وفرونزه وإل جريكو. كانت هذه الجمهورية أيضًا موطنًا لمعماريين مثل بالاديو، وموسيقيين مثل مونتيفيردي وفيفالدي. مع ذلك، في الوقت الذي كانت معظم الدول في بقية أنحاء أوروبا يحكمها ملوك وأمراء بالوراثة، فضلت البندقيةُ القادةَ المنتخَبين (لا بد من الاعتراف بأن نحو ١٪ فقط من الشعب كان له الحق في التصويت)؛ فقد ألغت على وجه الخصوص الخلافة الوراثية لأسرة دوجي — حُكام البندقية — في عام ١٠٣٢. يمكن القول إن سُلطات الأسر الحاكمة حققت نجاحًا مماثلًا في إنجلترا وفرنسا وإسبانيا، إلا أن الحُكام الضعفاء حدُّوا من تقدم بلادهم في أوقات كثيرة. نمَتِ البندقية بثبات، على مستوى ممتلكاتها الخارجية وفي استقرار مؤسساتها. ولم تبدأ قوَّتها، وليس ثقافتها، في التدهور إلا عندما تحوَّلت التِّجارة بين أوروبا وآسيا من كونها تُجرى عبر البحر المتوسط (رحلة برية طويلة) إلى إجرائها عبر طريقٍ في المحيط أسهل حول أفريقيا، اكتشفه المستكشِفون البرتغاليون في مطلع القرن السادس عشر.

يمكننا إجراء مقارنة سريعة بين استقرار الحكم البابوي في روما مع حكم الإمبراطورية خارج حدود المدينة المقدَّسة، التي من المفترض أنها تُطبِّق حكم الباباوات؛ أي الجانب العلماني في مقابل الجانب الديني للعالم المسيحي. كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، رغم استمرارها لألف سنة، تُمزِّقها النزاعات بين الأسر الحاكمة وجيرانهم، وقد نجت الكنيسة الكاثوليكية مرَّتين في هذه الفترة. ومنذ عام ١٠٥٩ لم يستطع أيُّ بابا تعيين خليفته؛ فيجب انتخاب كل بابا، عبر اقتراع سري، من مجمع الكرادلة. يوجد مثال آخر يُمكن الاستشهاد به؛ فمنذ عام ١٣٢٨ حتى عام ١٥٧٢ حكمت أسرة ياجيلون بولندا، ورغم أن الحكام جميعهم كانوا أقارب، فإن الملك كان يُنتخَب — وإن كان من الطبقة الأرستقراطية — ولم يكن يُعين ذاتيًّا؛ حتى إنه أُدخل شكل محدود للحكم البرلماني في عام ١٤٩٣. ازدهر الفن والعلم في أثناء حكم أسرة ياجيلون؛ فقد أحدثت دراسات نيكولاس كوبرنيكوس، التي أدَّت إلى افتراضه في عام ١٥٤٣ أن الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس، وليس العكس، إلى إحداث ثورة في علم الفلك، وأثَّرت كثيرًا في رجال مثل جاليليو ونيوتن. توسَّعت بولندا على أكبر مساحة ملكتْها في تاريخها؛ فبحلول عام ١٥٦٩ امتدت من البلطيق حتى البحر الأسود. وصلت حركة الإصلاح الديني إليها في عام ١٥٢٠ تقريبًا، رغم قمعها في البداية، وأُقر الدين البروتستانتي في عام ١٥٥٢ وطوال السنوات اﻟ ١٣٠ التالية كانت بولندا الدولة الوحيدة في أوروبا الخالية من الاضطهاد الديني. وبمجرد إدخال الحكم الوراثي مرةً أخرى، انهارت الدولة، ولم تَستعِدْ قطُّ المكانة التي تمتعت بها تحت حكم الحُكام المنتخَبين.

عند التفكير في الحكم الفعلي للدولة، تمثِّل الصين مثالًا بارزًا؛ إذ يُختار كل المسئولين فيها على أساس الجدارة، ومن طبقات البيروقراطية المتعلمة. ورغم الصراعات الداخلية وغزو المغول وغيرها من القبائل المحاربة، استمرَّت الإمبراطورية ألفَي سنة. قارن دولتين لهما الحجم نفسه في أوروبا في القرن الثامن عشر. كان الوزراء في فرنسا رجالًا ذوي مكانة مرتفعة، ويُعيَّنون لنسبهم.١٤ أما في بريطانيا فكان الوزراء سياسيِّين أظهروا حماسهم لشئون الدولة، انضم كثير منهم لمجلس العموم،١٥ وليس مجلس اللوردات.١٦ عانت فرنسا من ثورة ومن عهد الإرهاب.١٧ أما بريطانيا فقد اتَّجهت إلى الثورة الصناعية وقوانين الإصلاح في القرن التالي.
ماذا إذن عن النُّظُم الملَكية حاليًّا في غرب أوروبا، المعتمدة جميعها على مبادئَ وراثيةٍ صارمة؟ صحيح أن بلجيكا وبريطانيا والدنمارك وهولندا والنرويج وإسبانيا والسويد، بالإضافة إلى تايلاند واليابان في الشرق، من أكثر الدول المستقرة والناجحة اقتصاديًّا في العالم. لكن فيها جميعًا لا يكون المَلِك أكثر من مجرد رئيس دستوري للدولة،١٨ فكلُّ القرارات المهمة تتَّخذها الحكومة الموجودة في هذا الوقت، والتي يُنتخب كل عضو فيها بطريقة ديمقراطية. ولا يهمُّ على الإطلاق كثيرًا إذا كان الملك أقل كفاءة من سلفه.
خلاصة هذا الكلام واضحة؛ فكما يمكننا التوقع من المبدأ البيولوجي الذي أكدتُ عليه، الذي يقول إن الموهبة تورث عشوائيًّا، كان الحُكام بالوراثة بوجه عام يتصرَّفون أسوأ من المنتخَبين. وعندما لا يتعدى صاحب المركز الوراثي كونه رمزًا دستوريًّا فحسْب، يُمكن للدولة أن تستمر — فأحيانًا تكون أفضل، ونادرًا ما تفشَل — تمامًا مثل الجمهورية التي يَنتخب الشعب حاكمها. نشأت الحضارات لا لأنَّ حُكامها كانوا أبناء قادة، بل لأنه تَصادف امتلاكُهم لصفات المبادَرة والقيادة الضرورية. لقد غيَّر سعي الإنسان وجه العالم، لا لأنَّ لاعبيه الأساسيِّين ورثوا حب الاستطلاع والنزعة الاستكشافية أو التَّوْق للغزو من آبائهم، وإنما لأنهم تمتَّعوا بهذه الصفات نتيجة للصدفة البحتة.١٩

(٤) عودة إلى العصر الحجري الحديث

تُعتبر زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات طريقة أكثر فاعلية في إنتاج الطعام من الصيد وجمع النباتات. وكما أشرنا سابقًا، فإنها تشجِّع أيضًا على استقرار المجتمعات وتوسعها. لا عجب إذن أن أول قُرًى ومدن نشأت من المستوطَنات التي صاحبت ممارسة الزراعة، وكانت الزيادة السكانية فادحة. فقبل ظهور المجتمعات الزراعية، كان سكان العالم يزيدون لكن ببطء، ومنذ نحو ١٠ آلاف سنة ربما كانوا فعليًّا يقلُّون، فكان الإنسان العاقل معرَّضًا لخطر الانقراض، ومع ذلك فقد نجا، وبعد هذا بخمسة آلاف سنة كان ثمة مليون شخص يعيشون في مصر وحدها. تتطلَّب الزراعة مخزونًا مضمونًا من المياه، وبدأ النمو الحضري يحدُث على طول ضفاف الأنهار، كما يحدُث حتى وقتنا هذا. وفي أماكن أخرى، مثل كريت، يكون هطول الأمطار كافيًا لدعم نمو معظم المحاصيل. ويَنطبِق الأمر نفسه على أمريكا الوسطى؛ حيث نشأت المجتمعات الزراعية في المرتفعات الوسطى أو داخل الغابة المطيرة نفسها. وفي أمريكا الجنوبية أيضًا، ربما كان المزارعون الأوائل يعيشون في المناطق الجبلية في جبال الأنديز؛ حيث وفَّر الجليد الذائب، إن لم تكن مياه الأمطار، بيئة مناسبة (ظهر التحدي فيما بعد، عندما انتقلت المجتمعات إلى المناطق الساحلية الجافة أو إلى المنحدَرات المرتفعة في جبال الأنديز). في العالم القديم ظهر تحول الأفراد من صيادين وجامعي نباتات إلى مزارعين منذ نحو ١٠ آلاف سنة، واستغرق الانتقال من الحياة في مخابئ بدائية إلى التمتُّع باستقرار المباني ٤ آلاف سنة أخرى، وأصبح واضحًا في عام ٤ آلاف قبل الميلاد تقريبًا في أقدم الحضارات. وفي أمريكا، التي لم تصبح مأهولة بالسكان إلا منذ نحو ١٢ ألف سنة أو ما شابه في الشمال وبعد ألفي عام أخرى في الجنوب، يجب ألا يتوقع المرء العثور على أدلة على مستوطنات ترجع إلى وقت أبعد من هذا. في الواقع لم تكن هذه المستوطنات تَرجع إلا إلى بضعة آلاف من السنوات؛ مما يُشير إلى ظهور الزراعة في العالم الجديد في الوقت نفسه تقريبًا الذي ظهرت فيه في العالم القديم. هل كان المسئول عن هذا تغيُّر عالمي في المُناخ، في اللحظات الأخيرة من آخر عصر جليدي؟ إنها مسألة غير محسومة تَحيق بها فرضيات أكثر عددًا من الحقائق.

نشأت أقدم المجتمعات الزراعية في مناطق معينة فقط، وفي المناطق الأخرى استمرَّ الإنسان في ممارسة حياة الترحال، سواء عن طريق الصيد أو رعي الحيوانات المستأنَسة، لعدة ألفيات. حتى في عصرنا الحالي، يمكن اعتبار الأكراد الموجودين في المناطق الجبلية في تركيا وشمال العراق وغرب إيران وشرق سوريا، وفي أرمينيا وأذربيجان، والباسك الذين يعيشون في جبال البرانس الغربية بين إسبانيا وفرنسا، والنوير الذين يعيشون في جنوب شرق السودان، أنهم ما زالوا جميعًا يعيشون حياة الترحال؛ حيث يتنقلون ذهابًا وإيابًا مع مواشيهم وفقًا للمواسم. هذا بالإضافة إلى حقيقة استمرارهم في الحياة باستقلالية؛ إذ يتحدثون لغة خاصة بهم، ويُضايقون جيرانهم الأقوياء الذين وجدوا أنفسهم حاليًّا في نطاق سيطرتهم، ويتعرَّض الرحالة للمُضايقة من كافة الجوانب. يظهر مثال آخر على حياة الترحال لدى الذين ينتقلون من مكان لآخر بسبب التِّجارة. ذُكرت هجرات الغجر في الفصل السابق، وبالمثل يواصل الطَّوارق٢٠ التنقُّل بين مِنطقة المغرب في شمال أفريقيا (خاصةً المغرب والجزائر) والمِنطقة التي تقع جنوب الصحراء الكبرى (خاصةً السنغال وموريتانيا ومالي والنيجر).
ربما تؤدي الزراعة إلى شكل من الحياة أكثر استقرارًا لكنها لا تؤدي بالضرورة إلى ظهور القرى والمدن؛ فتوجد حتى يومنا هذا مجتمعات زراعية لم تتغيَّر حياتها كثيرًا على مدار ألفيات كثيرة؛ في الوادي الكبير لنهر باليم في غينيا الجديدة، وعلى طول ضفاف نهر أورينوكو في جنوب فنزويلا، وفي أجزاء كثيرة في أفريقيا. لا يعيش هؤلاء الناس في قرًى أو مدن، وليس لديهم فن أو أدب، وليس لديهم إلا قدر قليل من التكنولوجيا أو التِّجارة. كما أن متوسِّط أعمارهم أقل من المواطن العادي في العالم المتقدِّم، رغم أنه على الأرجح يُقارب متوسط عمر شخص فقير يعيش حاليًّا في موسكو أو شخص يسكن الأحياء الفقيرة في مكسيكو سيتي. لم تنتج أيُّ حضارة من أعمالهم؛ فهم لم يبحثوا كثيرًا مثل غيرهم، فهل يعيشون إذن حياة أقل إنجازًا من حياتنا؟ لا يُمكنني التعليق على هذا؛ لأني أحرص على تعريف سعي الإنسان من حيث صفاته الفطرية فقط، وأتعامل مع عواقبه بوصفها ثقافية فقط، وأمتنع عن أن أنسب لسعي الإنسان القِيَم التي نُطلق عليها السعادة أو الرضا أو النجاح. بدلًا من هذا أودُّ لفت انتباه القارئ إلى تعليق لأستاذ علم النفس والمتخصِّص في علم الأعصاب ستيفن بينكر،٢١ الذي مفاده أن عقل الإنسان ليس «مُعدًّا» ليتكيَّف مع توترات وضغوط الحياة الحضرية؛ فهو متكيِّف مع فترة العصر الحجري الحديث — حتى قبل ظهور الزراعة — التي قضى فيها الإنسان ٩٩٪ من حياته. مَن يُمكنه القول إذن إن الفضول لا تكون له أحيانًا إيجابيات وسلبيات؟

هوامش

(١) يَقترح آخرون ظهورًا أقدم للزراعة، ليس زراعة المحاصيل ولكن زراعة الأشجار والنباتات، في الغابات الاستوائية. انظر كولين تودج، المرجع السابق، ص٢٧٢ والصفحات التي تليها. يشكِّك تودج أيضًا في الفوائد المزعومة للزراعة مقارنة بالصيد وجمع النباتات. انظر الفصل التاسع (تكنولوجيا العصر الحجري).
(٢) ريتشارد رادجلي، المرجع السابق، ص٨.
(٣) أستخدم مصطلح «حضارة» على مدار هذا الكتاب للإشارة إلى مرحلة متقدِّمة من التطور الاجتماعي الذي يصحب بناء المدن، كما يُشير الاسم الإنجليزي ذو الأصل اللاتيني. انظر أيضًا الهامش ٢٢ في الفصل السابع.
(٤) لكن لاحظ إنجازات ثقافة جومون في اليابان منذ ١٣ ألف سنة مضت، المُشار إليها في نهاية الفصل السابع.
(٥) عليك بقراءة كتاب هيلاري وستيفن روز «وا أسفا، داروين المسكين» (المرجع السابق) للحصول على فكرة عن أوجه قصور التحكُّم الوراثي في سلوكنا. تمثل مجموعة المقالات التي يعرضانها في الواقع هجومًا على علم النفس التطوري، كما يتضح من عنوان الكتاب الفرعي.
(٦) من النسخة الأصلية ١٨٣٢ لقصيدة «آكلي اللوتس» (قصائد تنيسون)، المجلد الأول، كريستوفر ريكس (محرر)، لونجمان، لندن، أُعيدت طباعته عام ١٩٨٧.
(٧) توجد وجهة نظر تقول إن بناة الأهرامات في مصر عاشوا في الأصل في المِنطقة التي تُعرف حاليًّا باسم الصحراء الغربية، على بُعد مئات الأميال غرب مدينة القاهرة الموجودة في عصرنا الحالي. منذ نحو ١٠ آلاف سنة، قبل نهاية آخر عصر جليدي، كانت هذه المِنطقة مرعًى للسافانا، بحيرات وأنهار توفِّر المياه، مع وجود كثير من الحيوانات كطعام. ومع ارتفاع درجات الحرارة تدريجيًّا، أصبحت الأرض جافة، ومنذ نحو ٥ آلاف سنة هاجر سكان السافانا نحو الشرق. كانوا أكثر من مجرد صائدين وجامعين للنباتات؛ فتوجد أدلة على بنائهم ملاجئَ من الحجارة وعلى دَفنِهم لموتاهم. وعندما انتقلوا أخذوا معهم ذكرى المرتفَعات الحجرية التي تشبه الأهرامات، التي تتكون بفعل عوامل التعرية الطبيعية، التي كانوا يعيشون بينها. ما زالت هذه المعالم باقيةً، ويُمكن رؤيتها في المِنطقة الموجودة حاليًّا (من برنامج «العوالم المفقودة» للدكتور فاروق الباز من جامعة بوسطن في عام ١٩٦٣، وعُرض على تليفزيون المملكة المتحدة (القناة ٤) في ١٨ من نوفمبر عام ٢٠٠٢).
(٨) قد تَنطبق حُجة أن المُناخ الدافئ لا يمثل تحديًا كافيًا أيضًا على المِنطقة الواقعة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، على الأقلِّ داخل الغابة المطيرة، حيث لا تمثل المياه عاملًا مقيدًا.
(٩) لكن مع خليط من الثانية؛ فكما ذكرتُ في نهاية هذا الفصل، نشأت المجتمعات الزراعية حيث لم تكن المياه عاملًا مقيدًا (رغم أن العناية بالمحاصيل وترويض الحيوانات مثلت تحديًا كافيًا)؛ فمن بين المستوطنات الزراعية الكثيرة المنتشرة في جميع أنحاء العالم، لم يتمكَّن إلا بعضها من مواجهة التحدي الإضافي للحياة الحضرية بنجاح.
(١٠) كما ظهر في برنامج «الملاريا وسقوط روما»، الذي عُرض على تليفزيون المملكة المتحدة (بي بي سي ٢) في ٢٦ فبراير عام ٢٠٠٢ كجزء من سلسلة «لقاء مع الأسلاف».
(١١) توجد حاجة إلى مزيد من الهيموجلوبين عندما يكون ضغط الأكسجين في الخارج مُنخفِضًا.
(١٢) من بين أبناء داروين الذين ظلُّوا على قيد الحياة، أصبح جورج هاورد يشغل كرسيَّ أستاذية بلومي لعلم الفلك في كامبريدج (وقائد فرسان فرقة باث)، وأصبَح فرانسيس أمينًا للجمعية الملكية، وأصبح هوراس، المهندس المدني، أيضًا زميلًا للجمعية الملكية. لم يرثوا هم ولا إخوتهم، ويليام إراسموس أو هنريتا أو ليونارد (رائد في الجيش)، الألمعية الذهنية لوالدهم.
(١٣) يوضِّح الاختصار الشهير SPQR (الذي يعبِّر عن مصطلح الشعب الروماني ومجلس الشيوخ الروماني، باللاتينية) أهمية وجود مجلس مُنفصِل للشعب.
(١٤) يعتبر رجال الدين الكرادلة ريشيليو ومازاران استثناءات واضحة.
(١٥) مثل روبرت والبول وويليام بيت الأصغر.
(١٦) باستثناء الأرستقراطيين البارزين مثل دوق بورتلاند واللورد نورث.
(١٧) توضِّح الخلافة التلقائية للابن الضعيف لويس الخامس عشر فكرتي جيدًا عن مساوئ نظام الوراثة؛ فقد ذهَب لويس السادس عشر إلى المِقْصَلة بشجاعة كافية، لكنه لو كان رجلًا أقوى وقائدًا أفضل ربما استطاع منع بعض المذابح التي تعرَّض لها الرجال والنساء الفرنسيون في عهد الإرهاب.
(١٨) عرَّف عالم الاقتصاد في القرن التاسع عشر والتر باجهوت ثلاثة حقوق للملوك البريطانيين؛ هي أن يُحذِّروا ويُشجِّعوا ويُستشَاروا (كتاب ديفيد كانادين «في ظل تشرشل: مواجهة الماضي في بريطانيا الحديثة»، ألين لين/بنجوين، لندن، ٢٠٠٢، ص١٢)، ولم يتخطَّ أيُّ ملك في العصور الحديثة هذه الامتيازات.
(١٩) تُشير حقيقة أن هذه الصفات لا تورَّث مباشرةً إلى أن ظهورها يعتمد على أكثر من مجرد جين واحد. وبدلًا من هذا تظهر مثل هذه الصفات نتيجةً لتفاعل خفي بين عمل عدة جينات (التي لا تنتقل من جيل إلى آخر في تناغم) وتفاعُلها مع البيئة. لا يوجد جين واحد للقيادة أو الإبداع، تمامًا مثلما لا يوجد جين واحد لأمراض مثل السرطان أو السكري أو النوبة القلبية.
(٢٠) هم بربر ويعتنقون الدين الإسلامي، رغم أن الرجال، وليس النساء، هم مَن يرتدون الحجاب.
(٢١) ستيفن بينكر، المرجع السابق، ص٤٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤