الفصل العاشر

الثنائية الثقافية عند الأشخاص الثنائيي اللغة

نظرًا لكون اللغة جزءًا من الثقافة وأن تعلُّم لغة جديدة قد يعني أحيانًا اكتساب ثقافة جديدة، ينتشر بين كثير من الناس الانطباعُ الخاطئ التالي عن الأشخاص الثنائيي اللغة:

خرافة: يتسم الأشخاص الثنائيو اللغة أيضًا بالثنائية الثقافية

في الواقع ليست الثنائية الثقافية ملازِمةً للثنائية اللغوية؛ فيستخدم كثير من الناس لغتين أو أكثر في حياتهم اليومية بينما ينتمون إلى ثقافة أساسية واحدة؛ على سبيل المثال: قد يستخدم شخص هولندي اللغات الهولندية والإنجليزية والألمانية في حياته اليومية، لكنه فعليًّا يعيش داخل الثقافة الهولندية فقط. ومن ثم، فإن كون المرء ثنائيَّ اللغة لا يعني تلقائيًّا أنه أيضًا ثنائيُّ الثقافة. مع هذا، فإن كثيرًا من الأشخاص الثنائيي اللغة هم أيضًا ثنائيو الثقافة، وهؤلاء هم موضوع هذا الفصل.

(١) وصف الأشخاص الثنائيي الثقافة

تعكس الثقافة كل جوانب حياة مجموعة من الناس؛ قواعدهم الاجتماعية وسلوكياتهم ومعتقداتهم وقِيَمهم وعاداتهم وتقاليدهم. فنحن كأفراد ننتمي لعدد من الثقافات (تُسمَّى عادةً الشبكات الثقافية) التي تتكوَّن من ثقافات ثانوية ورئيسية. تضم الثقافات الثانوية تلك الثقافات التي تتعلَّق بمجالات معينة في الحياة، مثل وظيفة المرء ومسكنه ورياضاته وهواياته، بينما تضم الثقافاتُ الرئيسية الثقافةَ القومية للدولة التي نعيش فيها، والمجموعات الاجتماعية والدينية التي ننتمي إليها، وما إلى ذلك. وهكذا نُعتبَر جميعًا بطريقةٍ ما «متعدِّدي الثقافات»، وتكون عادةً شبكاتنا الثقافية تكامليةً بحيث يمكن أن ننتمي إلى عدة شبكات في وقت واحد. فيما يلي سنُلقِي نظرة على الثنائية الثقافية وعلاقتها بالثقافات الرئيسية، خاصةً المجموعات القومية أو العِرْقية، التي في حالتنا هذه تكون لها لغات مختلفة. فتثير اهتمامي حقيقة أن بعض الناس تكون ثقافتاهم في الوقت نفسه فرنسية وإيطالية، ألمانية وأمريكية، كردية وتركية، روسية وإستونية، على الرغم من أن بعض هذه التوليفات تستنكرها أو حتى ترفضها المجموعاتُ ذات الصلة.

كيف يمكننا وصف الأشخاص الثنائيي الثقافة؟ يتمتع هؤلاء الأشخاص بالصفات التالية: أولًا: يشاركون بدرجات مختلفة في حياة ثقافتين أو أكثر؛ على سبيل المثال: يشارك الكوريون في الولايات المتحدة في حياة مجتمعهم الكوري في أمريكا، بالإضافة إلى مشاركتهم في حياة المجتمع الأمريكي الأكبر. ثانيًا: يكيِّفون، على الأقل جزئيًّا، مواقفَهم وسلوكياتهم وقِيَمَهم ولغاتهم مع ثقافاتهم؛ ومن ثَمَّ، يكيِّف الكوريون في الولايات المتحدة لغتَهم وسلوكَهم على أساس ما إذا كانوا يتعامَلون مع كوريين آخَرين أم مع أعضاء من المجتمع الأمريكي الأكبر. ثالثًا: يخلطون ويمزجون معًا جوانب من الثقافات التي يشاركون فيها. تنبع جوانب معينة (مثل المعتقدات والقِيَم والمواقف والسلوكيات وغيرها) من إحدى الثقافتين اللتين يعرفهما المرء؛ ومن ثَمَّ نجد تعبيرات مثل: «هذا جانبي الكوري» أو «هذا جانبي الأمريكي»، بينما تعبِّر جوانب أخرى عن مزيج من الثقافتين. يوجد مثال على هذا الأمر يتمثَّل في تعبيرات الوجه ولغة الجسد، اللتين عادةً ما تكونان نتيجةَ امتزاجِ ثقافتين في تكوين فريد.1 وعليه، فإن الأشخاص الثنائيي الثقافة يتكيَّفون مع مواقف أو سياقات معينة (فهذا أحد عناصر التكيُّف والديناميكية في ثنائيتهم الثقافية)، بينما يمزجون أيضًا بعضَ سمات ثقافتَيْهم (لا يمكن أن يتكيَّف هذا الجزء بالسهولة نفسها). فيما يلي نرى كيف يصف شخصٌ أمريكي من أصل فرنسي ثنائيتَه الثقافية، خاصة جانب المزج:
إن كوني ثنائيَّ اللغة في الولايات المتحدة، وخاصةً كوني أمريكيًّا من أصل فرنسي في مجتمعنا التعدُّدي، يعني أنه توجد لديَّ لغتان وإرثان تاريخيان وطريقتان في التفكير ورؤية العالَم. أحيانًا قد يكون هذان العنصران منفصِلين ومتمايزين بداخلي، لكن في أحيان أخرى ينصهران معًا.2
يعرض الشكل ١٠-١ مثالًا على الثنائية الثقافية لدى أحد الأشخاص. يعبِّر المربعان عن الثقافتين (في هذه الحالة تكون الثقافة «أ» هي السائدة)، والشكلُ البيضاوي عن العنصر الذي يمزج جوانبَ معينة في كلتا الثقافتين معًا. نادرًا ما توجد للثقافتين الأهمية نفسها لدى الشخص الثنائي الثقافة؛ فعادةً ما تلعب إحداهما دورًا أكبر؛ لذا يمكننا الحديث عن السيادة الثقافية مثلما تحدَّثْنا عن السيادة اللغوية لدى الأشخاص الثنائيي اللغة (لكن هذه السيادة لا تقلل من كون المرء ثنائي الثقافة). في الشكل، نرى من خلال حجم المربعين أن الثقافة «أ» أكثر أهميةً من الثقافة «ب». طوال حياة الشخص الثنائي الثقافة، يمكن للثقافات أن تزدهر وتخبو، فتصبح إحداها سائدة لفترةٍ قبل أن يصبح دورُها ثانويًّا. وفي حالتي أنا أشعر بأن ثقافتي السائدة قد تغيَّرت أربع مرات منذ أن أصبحتُ ثنائيَّ الثقافة؛ فقد كانت إنجليزيةً في سنوات المراهَقة، وفرنسيةً حتى سن الثامنة والعشرين، وأمريكيةً حتى سن الأربعين، وأصبحت سويسريةً منذ ذلك الحين.
fig8
شكل ١٠-١: تصوير لجمع شخص ثنائي الثقافة بين ثقافتين (الثقافة «أ» وهي الثقافة السائدة، والثقافة «ب»)، بالإضافة إلى العنصر الذي يمزج بينهما (الشكل البيضاوي المظلل).
يمكن أن يصبح الناس ثنائيي الثقافة في أي وقت خلال حياتهم؛ في مرحلة الطفولة، عندما يُولَد الطفل في أسرة ثنائية الثقافة؛ وعندما يلتحق الطفل بالمدرسة؛ وفي مرحلة المراهقة، إذا انتقل الشاب من ثقافةٍ إلى أخرى؛ وبالطبع في مرحلة البلوغ، كحال المهاجرين الذين يستقرون في دولة جديدة ويصبحون بمرور السنين ثنائيي الثقافة. بالنسبة إلى الحالة الأخيرة، خضعَتِ المراحل التي تحدث في حالة الهجرة لدراسة مستفيضة؛ وهي الوصول والعزلة والصدمة الثقافية والتكيُّف السريع بنحوٍ أو بآخَر مع ثقافة الدولة المضيفة. تتأثَّر هذه المرحلة الأخيرة بحجمِ المجموعة المهاجرة وتركُّزِها، وعددِ الأطفال في الأسرة، وموقفِ الدولة المضيفة تجاه المجموعة المعنية، وما إلى ذلك. يرد في الكتابات ذات الصلة أيضًا الصورةُ المثالية التي توجد لدى المهاجرين عن وطنهم الأم، والصدمةُ التي يتعرَّضون لها عند العودة إليه ورؤية أنه لم يَعُدْ مثلما يرونه في أحلامهم وذكرياتهم، والتقبُّل شبه الدائم لكونهم مهاجرين. كتبت نانسي هيوستن تقول:
بمرور الوقت، يقلُّ تواصُلك مع «وطنك الأم» ويصبح على فترات أبعد … يتقدم العمر بوالديك، ويغيِّر إخوتك وظائفهم و/أو شركاء حياتهم، ويصبح لديهم أطفال، ويتزوجون مرة أخرى، ويتركون شركاء حياتهم مرة أخرى، ولا تستطيع مجاراة كل هذه الأحداث، ويصبح الغرباء الذين كانوا يحيطون بك عند مجيئك لأول مرة، أبناءَ وطنك؛ فقد أصبح الآن مصيرهم هو الأهم بالنسبة إليك؛ لأنه أصبح مصيرَك أنت أيضًا.3
قد يعيش الأشخاص الثنائيو الثقافة بأكثر من ثقافتين أساسيتين، بناءً على خط سير حياتهم. يعبِّر الشكل ١٠-٢ عن شخص ثلاثي الثقافة تهيمن على حياته حاليًّا الثقافة «ب»، وتليها في الأهمية الثقافة «ج»، ثم الثقافة «أ».
fig9
شكل ١٠-٢: الأهمية النسبية لثلاث ثقافات لشخص ثلاثي الثقافة (الثقافة «ب» هي الثقافة السائدة، تليها الثقافة «ﺟ»، ثم الثقافة «أ»).

(٢) سلوك الأشخاص الثنائيي الثقافة

قد يجد الأشخاص الثنائيو اللغة، الذين هم أيضًا ثنائيو الثقافة، أنفسَهم في مواضع مختلفة في تسلسُل خاص بالمواقف يتطلَّب سلوكيات مختلفة وفقًا لكل موقف. على أحد طرفَي التسلسل، يكونون في وضع أحادي الثقافة، نظرًا لتعاملهم مع أشخاص أحاديي الثقافة، أو مع أشخاص ثنائيي الثقافة يشتركون معهم في ثقافة واحدة فقط؛ في هذا الموقف لا بد لهم من عدم تفعيل ثقافاتهم الأخرى قدر استطاعتهم. وعلى الطرف الآخر من التسلسل، قد يجدون أنفسهم يتعاملون مع ثنائيي ثقافة آخَرين يشاركونهم ثقافاتهم نفسها؛ في هذه الحالة، سيستخدمون معهم ثقافة أساسية يتواصَلون من خلالها معهم (سلوكيات هذه الثقافة ومواقفها ومعتقداتها)، ويُدخِلون الثقافة الأخرى، في شكل تبديلات واقتباسات ثقافية، متى أرادوا ذلك.

دَعْنا نستعرض هاتين الحالتين بمزيد من التفصيل. في حالة الوضع الأحادي الثقافة، يحاول الأشخاص الثنائيو الثقافة تطبيق شعار «إذا كنت في روما، فافعل مثل أهل روما.» فإذا كانت معرفتهم بالثقافة المعنية كافية (تمامًا مثل وجود معرفة كافية بإحدى اللغات التي لا بد من استخدامها)، ومن ثَمَّ يستطيعون عدم تفعيل ثقافاتهم الأخرى على الأقل إلى حدٍّ كبير، فإنهم يمكنهم التصرُّف على نحوٍ مناسب. ومن ثَمَّ، يعرف كثير من الأشخاص الثنائيي الثقافة كيفيةَ التعامل مع مواقف مثل الترحيب بمعارف لهم في المنزل، وعقد اجتماع في العمل، والتعامل مع الأقارب الأحاديي الثقافة، والتعامل تجاريًّا مع الإدارة المحلية، وارتداء ملابس مناسبة للسياق، إلى آخِره.

مع ذلك، بسبب عنصر المزج في الثنائية الثقافية قد لا يمكن أن تتكيف سلوكيات ومواقف ومشاعر معينة بالكامل مع أحد المواقف، وربما تكون بدلًا من ذلك مزيجًا من ثقافتَي المرء (أو ثقافاته). يكون هذا الشكل من التداخل الثقافي الثابت عاملًا للتمييز بين الثنائية اللغوية والثنائية الثقافية؛ فيستطيع الأشخاص الثنائيو اللغة عادةً عدم تفعيل إحدى اللغات واستخدام الأخرى فقط في مواقف معينة، بينما لا يستطيع ثنائيو الثقافة عادةً عدم تفعيل سمات معينة في ثقافتهم الأخرى عندما يكونون في بيئة أحادية الثقافة. سأقدِّم لك بعض الأمثلة على هذا: لا يكون أسلوبُ التحية لديَّ أحاديَّ الثقافة بالكامل عندما يجب أن يكون كذلك، على الرغم ممَّا أبذله من جهد لأتصرَّف على النحو الصحيح في كل ثقافة من ثقافاتي الأربع التي أتعامل بها مع الآخَرين. عندما أكون في إنجلترا، أميل للسلام باليد في نهاية الزيارة بينما يكفي التلويح البسيط باليد (فالسلام باليد يكون في بداية اللقاء، عادةً، ولا يتكرَّر في النهاية). كذلك يمثِّل تقبيل الصديقات عند تحيتهن مشكلةً؛ مَن هن السيدات اللاتي يمكن تقبيلهن، وكم مرة؟ لنفكر في الأمر؛ في إنجلترا والولايات المتحدة، إذا سُمِح بالتقبيل فإنه يكون قبلة قصيرة في الهواء؛ أما في فرنسا، فإن التقبيل يكون على الوجنتين؛ أما في سويسرا، فإن التقبيل يكون ثلاث مرات. تصبح الأمور أكثر تعقيدًا عندما تقابل صديقة سويسرية في فرنسا. (هل يجب تقبيلها مرتين كما يحدث في فرنسا، أم ثلاث مرات على الطريقة السويسرية؟) أخيرًا، عند محاولة جذب انتباه النادل في مقهًى فرنسي، لا أستطيع أن أكون صريحًا مثل الزبون الفرنسي العادي؛ فبدلًا من أن أناديه: Garçon! بصوت مرتفع، أحاول لفت انتباهه عن طريق التواصل البصري ورفع يدَيَّ باستحياءٍ (الأمر الذي يفشل دومًا، على الأقل في المحاولات القليلة الأولى).
يستطيع كل الأشخاص الثنائيي الثقافة الذين يقرءون هذا الكلام إضافةَ أمثلتهم المفضلة عن المزج الثقافي الموجود لديهم في مجالاتٍ مثل: حركاتِ اليد التي يستخدمونها مع أحد الأشخاص، ومقدارِ المساحة التي يتركونها بينهم وبين الشخص الآخر، والموضوعاتِ المسموح بالحديث فيها (ففي بعض الثقافات، مثلًا، من غير اللائق الحديث عن الرواتب مع أشخاص لا تعرفهم)، ومقدارِ ما تتركه من بقشيش، إلى آخِره. يذكر بول بريستون — الذي أجرى مقابلات مع عدد من الأشخاص الثنائيي اللغة والثقافة الذين لدى كلٍّ منهم والدان أَصَمَّان — أن التواصل البصري الطويل، المهم للغاية في ثقافة الصُّمِّ، يجعل الأشخاص العاديين يشعرون بعدم الارتياح، ومن ثَمَّ يحاول هؤلاء الأشخاص عدم استخدامه مع الأشخاص العاديين.4 يوجد مثال آخر يتعلق بالاستخدام المعقد لضمير المخاطب tu في مقابل vous في اللغة الفرنسية: حكت لي صديقة ثنائية الثقافة في الثقافتين الإنجليزية والفرنسية موقفًا حدث لها عندما كانت تتأقلم مع أسلوب الحياة الفرنسي، فقالت:
صدمتُ ذات مرة أصدقائي في حفل عشاء صغير، عندما استخدمتُ الضمير tu الذي يدل على عدم الرسمية عند مخاطبة إحدى المدعوَّات، التي كانت فتاة في نفس عمري تقريبًا. فقد قدَّمَتْها لي مضيفة الحفل، التي كانت صديقةً مقرَّبة لي، على أنها صديقتها؛ لذا ظننتُ أنه يجب عليَّ أن أعاملها على أنها صديقةٌ محتملة. لم أدرك على الإطلاق ما سبَّبَه سلوكي من إحراجٍ للمدعوِّين الآخَرين، أدركتُ ذلك فقط عندما غادرتُ وسألني الآخَرون لماذا أهنتها على هذا النحو. ألم ألاحظ أن الجميع كانوا يخاطبونها باستخدام الضمير vous؟ وأدركت أن العلاقات التي ينطبق عليها لفظهم amie (صديق)، وترجمتي غير الدقيقة له friend، ليست واحدة؛ فبالنسبة إليَّ، الصديقُ هو شخص أتعامل معه بودٍّ، بينما قد لا يكون المرء ودودًا بالضرورة مع شخصٍ يُقال عنه amie.5
دائمًا ما يقول الأشخاص الثنائيو الثقافة إن الحياة تكون أسهل عندما يكونون في وضع ثنائي الثقافة؛ أيْ عند التعامل مع ثنائيي الثقافة أمثالهم. أرسلت لي خبيرةُ الثنائية اللغوية، أنيتا بافلينكو، وهي شخص ثنائي اللغة والثقافة في الروسية والإنجليزية، المثالَ التالي:
قد يقضي المراهقون الأمريكيون الذين من أصل روسي في فيلادلفيا، مساءَ يومِ الجمعة مع أُسَرهم يضحكون على أحد الأعمال الكوميدية الشهيرة من العصر السوفييتي، ثم يخرجون في مساء يوم الأحد لمشاهدة أحد أفلام هوليوود الجديدة الناجحة. وعند حديثهم عن الفيلم بالإنجليزية، قد تتسرَّب بعض الصفات باللغة الروسية أو إشارة إلى إحدى الشخصيات الشهيرة في فيلمٍ روسي.6

يعرف المراهقون الثنائيو الثقافة أن الآخَرين على دراية بكلتا لغتَيْهم وثقافتَيْهم، وأنهم سيفهمونهم عندما يخلطون الثقافتين معًا في تصرُّفاتهم أو فيما يقولونه. يعتزُّ الأشخاص الثنائيو الثقافة بمثل هذه اللحظات كثيرًا؛ إذ يستطيعون فيها الاسترخاء وعدم القلق بشأن التعبير عن الأمور على نحوٍ صحيح في كل مرة يتحدَّثون فيها. يقول ثنائيو اللغة والثقافة دومًا إن أصدقاءهم المقرَّبين (أو شركاء «أحلامهم») هم أشخاص أمثالهم، يستطيعون الشعور بالراحة الكاملة معهم في التنقُّل بين لغاتهم وثقافاتهم.

(٣) هُوِيَّة الأشخاص الثنائيي الثقافة

يتعلَّق أحد الجوانب المهمة في الثنائية الثقافية بالهوِيَّة التي يقرِّر ثنائيو الثقافة أن تكون لهم. تتمثَّل أزمتهم في أن الأعضاء الأحاديي الثقافة في ثقافاتهم المختلفة يريدون أن يعرفوا ما إذا كانوا ينتمون إلى الثقافة «أ» أم الثقافة «ب» أم إلى ثقافةٍ جديدة، بينما يريد الأشخاص الثنائيو الثقافة أن يتقبَّلهم الآخَرون، سواء أكان على نحو واعٍ أم غير واعٍ، كما هم؛ أعضاء في ثقافتين أو أكثر. إلا أن الوصول إلى مرحلة أن يقول المرء: «أنا ثنائي الثقافة، أنتمي إلى الثقافة «أ» والثقافة «ب».» يأخذ وقتًا طويلًا، وأحيانًا لا يحدث أبدًا.7 لماذا؟ إنها عملية ثنائية تضم الطريقةَ التي يُصنَّف بها المرء من قِبَل أعضاء الثقافات التي ينتمي إليها، والطريقةَ التي يصنِّف بها المرءُ نفسَه. يضع آخرون في اعتبارهم درجةَ قرابة المرء، واللغاتِ التي يتحدَّث بها ودرجة إجادته لها، ومظهرَه الخارجي، وجنسيتَه، وتعليمَه، ومواقفَه، إلى آخِره؛ وتكون النتيجة أن المرء عادةً ما يُصنَّف في كل ثقافة ينتمي إليها؛ فيحكم عليه أصدقاؤه ومعارِفه وغيرهم بأنه ينتمي إلى الثقافة «أ» أو «ب»، لكن نادرًا ما يحكمون بأنه ينتمي إلى الاثنتين معًا. ثمة مشكلة أخرى تتمثَّل في أن أعضاء الثقافة «أ» قد يصنِّفون المرء بأنه ينتمي إلى الثقافة «ب»، والعكس صحيح، وهو نوع من التصنيف المزدوج المتناقض. يمكن رؤية أمثلة على هذا بين شباب الجيل الثاني من المهاجرين في أوروبا في عصرنا الحالي؛ فيُصنِّف الذين ظلوا في الوطن الأم المهاجرين على أنهم غربيون أو أوروبيون، بينما يراهم كثير من المواطنين في «الدول المضيفة» على أنهم ينتمون إلى ثقافة آبائهم الأصلية؛ على سبيل المثال: يشعر عادةً الشبابُ الوافدون من شمال أفريقيا الموجودون في فرنسا، بأنهم منبوذون من كلٍّ من دولةِ آبائهم والدولةِ التي وُلِدوا فيها (فرنسا)؛ فعندما يعودون إلى الجزائر أو تونس أو المغرب، يُعامَلون على أنهم أجانب لديهم أفكارٌ متطرفة وأخلاقٌ غربية، ومع ذلك يُعامَلون في فرنسا على أنهم أجانب من العرب وعادةً ما يتعرَّضون للاضطهاد؛ فتتعرَّض أوراقُ إثبات هويتهم للفحص باستمرارٍ، وعادةً ما تُسِيء الشرطة معاملتهم، ويُهدَّدون أحيانًا بالترحيل.
عندما يُواجَه الأشخاص الثنائيو الثقافة بمثل هذه الرؤى المتعارضة أحيانًا، يتحتم عليهم الوصول إلى قرارٍ بشأن هويتهم الثقافية؛ فيضعون في اعتبارهم الثقافاتِ التي ينتمون إليها ونظرتَها إليهم، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل: تاريخهم الشخصي، واحتياجات هويتهم، ومعرفتهم باللغات والثقافات ذات الصلة، والدولة التي يعيشون فيها، والمجموعات التي ينتمون إليها. وتكون النتيجة، بعد عملية طويلة وأحيانًا شاقة، الارتباط فقط بالثقافة «أ»، أو بالثقافة «ب»، أو لا بالثقافة «أ» ولا بالثقافة «ب»، أو مع الثقافتين «أ» و«ب» معًا.8 عادةً ما تكون الحلول الثلاثة الأولى غير مُرْضِية على المدى الطويل، حتى إنْ كانت تمثِّل حلولًا مؤقتة؛ فهي لا تعكس فعليًّا شخصيةَ الثنائي الثقافة التي تنبع من ثقافتين، وربما تكون لها نتائج سلبية فيما بعدُ؛ فالذين يختارون الارتباط بثقافة واحدة فقط (سواء أكان بحريَّة أم يُجبَرون عليه)، يبتعدون فعليًّا عن إحدى ثقافتَيْهم، وربما يشعرون فيما بعدُ بعدم الرضا عن هذا القرار. أما الذين يرفضون كلتا الثقافتين، فإنهم عادةً ما يشعرون بأنهم مهمَّشون أو متردِّدون بشأن حياتهم. ومن ثَمَّ ظهرت المصطلحات والتعبيرات الكثيرة التي تصف المهاجرين وغيرهم من الأشخاص الثنائيي الثقافة، مثل: «أشخاص مُنتزَعين من جذورهم»، و«لا جذور لهم»، و«هُجُن»، و«لا ينتمون إلى هنا ولا إلى هناك»، و«أشخاص على الحدود». عندما أجرى بول بريستون مقابلات مع أبناء ثنائيي اللغة والثقافة غير صُمٍّ لوالدَيْن أَصَمَّيْن، وجد أن كثيرًا منهم لا يستطيعون إطلاق اسم ثنائيي الثقافة على أنفسهم (أو لا يجرءون على ذلك)، حتى إن كانت تجربتهم مثالًا على الثنائية الثقافية. قال أحد هؤلاء:
شعرتُ دومًا بعدم الانتماء لأيٍّ من الثقافتين؛ فأنا لا أنتمي إلى الصُّمِّ ١٠٠ في المائة، ولا أنتمي أيضًا إلى الذين يسمعون. لم أشعر بالراحة مع الذين يسمعون، وإنما أشعر بمزيدٍ من الراحة مع الصُّمِّ، لكني أعرف أنني لستُ أَصَمَّ. ما أشعر به أنني في مكانٍ ما بين الاثنين.9

الحل الرابع، وهو أن يختار المرء الارتباط بالثقافتين معًا، يُعتبَر أفضل حلٍّ نظرًا لأن الأشخاص الثنائيي الثقافة يعيشون حياتهم داخل ثقافتين، يجمعون ويمزجون جوانب من كلٍّ منهما، حتى إن كانت ثقافةٌ واحدة منهما هي السائدة. ساعَدَ كثيرًا من الأشخاص الثنائيي الثقافة وجودُ مجموعات ثقافية جديدة، مثل مجموعات المهاجرين في أمريكا الشمالية؛ فإن انتسابَ المرء إلى الأمريكيين الكوبيين أو الأمريكيين الهايتيين، على سبيل المثال، والقدرةَ على استخدام هذين الاسمين، يُعتبَران أسلوبًا جيدًا لإخبار الآخَرين بأن لديك إرثًا مزدوجًا؛ كوبي وأمريكي، أو هايتي وأمريكي، وأنك تريد أن تُصنَّف بأنك شخص ثنائي الثقافة.

بالنسبة إلى الأشخاص الثنائيي الثقافة المنعزلين، قد تأخذ عمليةُ الارتباط بكلتا الثقافتين والاعترافُ علنًا بأنهم ثنائيو الثقافة بعضَ الوقت (وليس أنهم لا ينتمون ببساطة لا إلى الثقافة «أ» ولا إلى الثقافة «ب»، كما يقول كثير من الثنائيي الثقافة)، بل إنها قد لا تحدث أبدًا في واقع الأمر. يُظهِر بوضوحٍ أوليفيه تود، الصحفي والكاتب الفرنسي البريطاني، في سيرته الذاتية «بطاقة الهويات»، طوال الوقت أنه كان يبحث عن هويته المزدوجة والمختلطة، على الرغم من حقيقة أنه عندما كان شابًّا قال له الفيلسوف والكاتب الفرنسي جان بول سارتر إن مشكلته كانت أنه مقسَّم بين إنجلترا وفرنسا. يُثنِي تود على المشروعات بين البلدين، مثل نفق المانش، ويشعر بأكبر قدرٍ من الراحة مع الذين يشاركونه إرثَه المزدوج؛ والدتِه وزوجتِه الأولى آن-ماري، وكثيرٍ من أصدقائه الثنائيي الثقافة. وعلى الرغم من أنه فعليًّا لا يستخدم أبدًا مصطلح «ثنائي الثقافة» (وكَمْ شخصٍ من الثنائيي الثقافة يفعل هذا!)، فإن المرء يشعر بوضوح أن هذا ما يطمح إلى أن يتصف به علنًا، على الرغم من قوله بأنه فرنسي أكثر قليلًا من كونه بريطانيًّا. (يجب ألَّا تقف سيادة إحدى الثقافات بأي نحوٍ عقبةً في طريق تقبُّل الثنائية الثقافية للمرء، على الرغم من أن الأمر يكون كذلك بالنسبة إلى البعض.) يتحدث أوليفيه، في جزء مؤثر للغاية من سيرته الذاتية، مع ابنته الصغيرة التي تبنَّاها حديثًا، أوريليا، ذات الأصل الهندي قائلًا:
أتمنَّى أن أعود معكِ إلى الهند يا أوريليا، عندما تصبحين في العشرين أو الخامسة والعشرين من عمرك، فأنا أريدك أن تفخري بكونك فرنسية وهندية.10

لقد حظيتُ بشرف لقاء أوليفيه تود قبل تأليف هذا الكتاب، وسألته عن ثنائيته الثقافية. أكدتُ له على حقيقة أن المرء يمكن أن يكون ثنائيَّ الثقافة في الثقافتين «أ» و«ب»، حتى إن كانت إحدى الثقافتين هي السائدة؛ فأجابني بلطف شديد قائلًا إن معي حقًّا، وإنه بالفعل ثنائيُّ الثقافة.

تحكي الكاتبة فيرونيكا تشامبرز كيف اكتشفت بالتدريج هويتها المزدوجة، وكيف سمحت لها رحلتها إلى بنما بالتحوُّل من «فتاة سمراء وحيدة لديها إرثٌ لاتيني مثير، إلى شخص أصبح جزءًا من قبيلة لاتينية زنجية أو أحدَ البنميين الذين من أصل أفريقي.» وتضيف قائلة:
سعدتُ كثيرًا عندما علمتُ بوجود مجتمع لأناس مثلي؛ فقد كان الجميع من السود، ويتحدثون الإسبانية، ويرقصون مثلما نرقص في وقت الاحتفالات في بروكلين.11
تقترح اختصاصية علم النفس الإرشادي، تريزا لافرامبويز، وزملاؤها، وجودَ ستة عوامل تساعد الأشخاص الثنائيي الثقافة على تقبُّل ثنائيتهم الثقافية والتعايش معها بالكامل؛ وهي: الفهمُ الجيد للثقافتين المعنيتين، وتكوينُ موقف إيجابي تجاه كلتَيْهما، والشعورُ بالثقة من أن المرء يمكنه الحياة على نحو جيد في ظل كلتَيْهما، والقدرةُ على التواصُل لفظيًّا وغير لفظي في كلتا الثقافتين، ومعرفةُ السلوك المناسب استخدامه ثقافيًّا في كلٍّ منهما، والتمتعُ بشبكة اجتماعية جيدة في الثقافتين.12
أختتم هذا الفصل بملاحظة شخصية: عندما أتحدَّث عن الثنائية الثقافية أو أكتب عنها، يخبرني البعض بأنني متفائل للغاية، وأن «الأمور ليست بمثل هذه السهولة»، ونظرًا لمروري بصراع التحوُّل إلى ثنائي الثقافة، أتفق مع هذه الملاحظة الأخيرة ولا أدَّعي أن الطريق يخلو من العقبات؛ ومع ذلك أجيب أيضًا على هذا بأن الكثير من الأشخاص الثنائيي الثقافة لا يحصلون على مساعدة كافية للوصول لهويتهم المزدوجة وتقبُّلها، وعلى الرغم من ذلك، يصل البعض إلى تقبُّل ثنائيتهم الثقافية، على الرغم من احتمال ألَّا تتقبَّلهم الثقافتان اللتان ينتمون إليهما على هذا النحو. إن للأشخاص الثنائيي الثقافة أهميةً بالغة في عصرنا الحالي؛ فهم يمثلون جسورًا بين الثقافات التي ينتمون إليها، وهم وسطاء مفيدون يستطيعون شرْحَ إحدى الثقافات لأعضاء الثقافة الأخرى، ويؤدون دورَ الوساطة بين الثقافتين. قال أحد الذين أجرى معهم بول بريستون مقابلةً في دراسته: «نحن نستطيع رؤيةَ كلا الجانبين لأننا نوجد على كلا الجانبين.»13

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤