الفصل الأول

الدور الجاهلي

(١) الدولة الملكية القديمة

(١-١) العائلة الأولى الطينية (حكمت من سنة ٥٦٢٦–٥٣٧٣ق.ﻫ/٥٠٠٤–٤٧٥١ق.م وعدد ملوكها ٩)

أوَّل ملوكها الملك «مِنَّا» أو «مِينس» — وهو أول من حكم مصر بعد الكهنة «الحورشسو» نشأ في طينة (بقرب العرابة المدفونة بجوار جرجا) والظاهر أنه كان من الكهنة فثار في خاطره أمر الاستقلال بالملك، فقاومه الكهنة، فتغلب عليهم، فترك وطنه وأسس مدينة «منف» (البدرشين وميت رهينة) وجعلها سرير ملكه، وأنشأ حولها جسرًا يعرف الآن بجسر قشيشة، وحوَّل مجرى النيل إلى شرقيها، وكان يجري لجهة صحراء ليبيا.

فعمرت منف وأخصبت فشاد فيها الهياكل والمعابد، وأقام تماثيل الآلهة. فإذا زرت خرائب سقارة وشاهدت تمثال رعمسيس الثاني ملقًى في البركة الشرقية لميت رهينة اعلم أن بقرب ذلك التمثال كان باب الهيكل الذي بناه هذا الملك لمعبوده «فتاح» وما زالت منف مركز التمدن إلى عصر اليونان.

ومما يذكر عنه أنه فتح ليبيا فاتسعت مملكة مصر في أيامه، وكان رفيقًا برعاياه على ما اعتادوه، ولم يسلب الكهنة شيئًا من حقوقهم في قبائلهم.

على أنه لم ينج من إيقاعهم به فزعموا أنه أضرّ بالعبادة من حيث تقاعد الناس في أيامه إلى الزهد، وأحدثوا أنواع الترف، فكانوا يتناولون طعامهم وهم مضطجعون على أسرَّتهم.

وقام بعد «منا» أخوه «تتا» فأسس القصر الملوكي في منف، وكان عالمًا بالطب، ولا سيما التشريح فكتب فيه رسالة جددت كتابتها في عهد رعمسيس الثاني.

ومن ملوك هذه العائلة «ونيفس» حصلت في أيامه مجاعة، وهو الذي بنى هرم «كوكمه» بقرب الهرم المدرج في سقارة؛ لدفن ما كانوا يعبدونه من الثيران في عصره، فإن صح ذلك كان هذا الهرم أول ما بني من الأهرام في مصر، ولم يبق من العائلة الأولى من يستحق الذكر.

(١-٢) العائلة الثانية الطينية (حكمت من سنة ٥٣٧٣–٥٠٧١ق.ﻫ/٤٧٥١–٤٤٤٩ق.م وعدد ملوكها ٩)

نشأت في طينة أيضًا، والمظنون أن بينها وبين العائلة الأولى قرابة.

من ملوكها «كايه خوس» أجاز عبادة الحيوانات فأقام الثور «أبيس» في منف، والثور «منيفس» في مدينة الشمس (المطرية)، وقام بعده «بينوتريس» فجعل للنساء حق الحكم على سرير الملك إذا لم يكن للملك المتوفى أولاد ذكور، وزعم أن الملك نائب الآلهة في الأحكام، وادَّعى أن بينه وبين الآلهة نسبًا، وما زال الملوك بعد ذلك يدَّعون مثل دعواه إلى عهد اليونان.

ومن ملوكها «إستنس» كان عالمًا وطبيبًا فأتم الرسالة الطبية المتقدم ذكرها، واعلم أن الملك «منا» لم يقوَ في حياته على إخضاع جميع القبائل المصرية لحكمه، ولا أن يجعل مصر أمةً واحدةً. أما العائلة الثانية فلم تنتهِ حتى جعلت ذلك أمرًا مفعولًا.

(١-٣) العائلة الثالثة المنفية (حكمت من سنة ٥٠٧١–٤٨٥٧ق.ﻫ/٤٤٤٩–٤٢٣٥ق.م وعدد ملوكها ٩)

كانت طينة قبل ظهور الملك «مِنا» مدينة العلم والحكمة، ومحط رحال المنعة والسلطة. فلما بُنيت منف تحول كل ذلك تدريجيًّا إليها، وما زالت تنحط شيئًا فشيئًا حتى انقرضت بانقراض العائلة الملكية الثانية.

أما العائلة الثالثة: فأوَّل ملوكها «نخروفس» وفي أول حكمه تمردت ليبيا، وشقت عصا الطاعة، فسامها الرضوخ فأبت، فأدى به الأمر إلى تحكيم السيف، وكانت المعركة في ليلة مقمرة، يقال: إن الليبيين رأوا تلك الليلة دائرة القمر تتسع على غير المعتاد، فخيل لهم أن ذلك من غضب الآلهة على أعمالهم فألقوا السلاح وسلموا، وقام بعده الملك «توسرترس» وكان عالمًا بالطب فوضع فيه كُتبًا تداولها الناس إلى القرن الأول للتاريخ المسيحي.

أما من بقي من ملوك هذه العائلة فلم يصلنا من أخبارهم سوى أن المملكة زهت في أيامهم فتكاثرت مبانيها، وأقيمت فيها النصب الهائلة أعظمها أبو الهول التمثال المشهور بعظمه القائم إلى هذا العهد قرب أهرام الجيزة، ويسمى بلغتهم «خورميخي» أي شمس الأفقين، جعلوا جسمه جسم أسد، ورأسه رأس إنسان، إشارة إلى اجتماع القوة والتعقل وأشباه هذا التمثال كثيرة في الآثار المصرية بين ما حجمه هائل الكبر كأبي الهول الذي يبلغ طوله ٢٠ مترًا تقريبًا، وعرضه أربعة أمتار، وما لا يزيد عن حب المرجان حجمًا كانوا يصنعونه من العقيق حلية للعقود.

fig06
شكل ١-١: شيخ البلد.
fig07
شكل ١-٢: مصور مصري يلون تمثالًا حجريًّا.

ومن آثارهم أيضًا: الهيكل الكائن إلى جنوبي أهرام الجيزة بجوار أبي الهول، ويعرف بالكنيسة، وهو مبني من الحجارة الصوانية الضخمة، ولهم أيضًا آثار أخرى كمدافن ومحاريب وغيرها.

ومن ملوك هذه العائلة أيضًا «سنفرو» عمدتُ إلى ذكره لما عُرف به من العدل والبر، وما أوتي من العزم والقدرة على الفتوح، فقهر أهل جبل الطور، واستولى على أرضهم، وبنى فيها حصونًا ومعاقل، واحتقر آبارًا، وجعل فيها رجالًا يستخرجون معادنهم، ونقش رسمه على حجر في وادي مغارة، ويقال: إنه لما عاد إلى مصر ابتنى لنفسه هرمًا لم يُعلم مقره إلى الآن.

(١-٤) العائلة الرابعة المنفية (حكمت من سنة ٤٨٥٧–٤٥٧٣ق.ﻫ/٤٢٣٥–٣٩٥١ق.م وعدد ملوكها ١٤)

أعظم ملوك هذه العائلة، وأحقها بالذكر: الملك «خوفو» كان بنَّاءً ماهرًا، ومحاربًا باسلًا، فبنى أعظم أهرام الجيزة الذي تفتخر به مصر على سائر الأمصار، ويقال: إن الذين اشتغلوا في بنائه مائة ألف رجلٍ في ثلاثين سنة، كانوا يتناوبون كل ثلاثة أشهر، وبنى له جسرًا موصلًا بينه وبين ضفة النيل؛ لنقل الحجارة، وارتفاع هذا الهرم ٤٥٠ قدمًا وبعض القدم، وعرضه ٧٤٦ قدمًا، وهو من جملة عجائب الدنيا، يقصده السياح والمتفرجون إلى هذا العهد.

ونحت «خوفو» عدة تماثيل للآلهة، ورمم بعض الهياكل، وقال بعضهم: إنه كان عاتيًا يبخس الناس حقهم، ويهتضم أجورهم؛ لأنه ابتنى هرمه على نفقة الفعلة المساكين على أنه لم يكن على شيء من ذلك، وربما بنى المعنفون قولهم على أنه كان يستخدم الأسرى مجانًا، وتلك عادة كانت متبعة في ذلك العهد.

ومن ملوك هذه العائلة: «خفرع» وهو الذي بنى الهرم الثاني في الجيزة بجانب هرم «خوفو» وسماه «أُر» أي العظيم، ارتفاعه ٤٤٧ قدمًا، وعرض قاعدته ٦٩٠ قدمًا وبعض القدم، ولم ينجُ هذا من ألسنة القاذفين، فقد كان وسلفه «خوفو» مضغةً في أفواه المرجفين، وقد بلغت قحتهم إلى أن أخرجوا جثتيهما من هرميهما وكسروا تابوتيهما ورموا بالجثتين إهانةً واحتقارًا، وقد وجد في المعبد بجوار الأهرام سبعة تماثيل من الحجر الصوان مصنوعة على مثال ذلك الملك بغاية الدقة، وهي الآن في المتحف المصري.

ومن ملوكها: «منكورع» بنى الهرم الثالث من أهرام الجيزة، وسماه «حور» أي الأعلى، جعل ارتفاعه ٢٠٣ أقدام، وعرض قاعدته ٣٥٢ قدمًا وبعض القدم، وقد كان حظ هذا الملك من الشعب غير حظ سالفيه؛ لأنهم بالغوا في مدحه كثيرًا، ويقال: إنه أرسل ابنه ليطوف في الهياكل المصرية، ويرمم ما كان منها في احتياج إلى الترميم.

وكان «منكورع» عالمًا عاملًا في الدين والأدب، وقد وُجدت جثته محنطة في تابوت من الصوان في هرمه المتقدم ذكره، فحاولت الدولة الإنكليزية نقلها وتابوتها إلى متحفها، فغرقت بها السفينة على مقربة من البورتغال، ولم يبق إلا الجثة وغطاء التابوت، وهو مصنوع من خشب الجميز.

ومن ملوكها أيضًا: «سبسكاف» ويسميه مانيثون «سبرخرس» وهذا بنى الإيوان المغربي بمعبد فتاح بمنف، وهو أعظم إيوان فيه، وكان محبًّا للعلوم فقيهًا، ويقال: إنه ابتدع فن الهندسة، ورصد الكواكب، وسنّ قانونًا للقرض من مقتضاه أنه يجوز للإنسان أن يرهن مدفن أبيه على مبلغ يستدينه، وللدائن الحق في استخدام المدفن حتى يفيه الفلس الأخير.

(١-٥) العائلة الخامسة الأسوانية (حكمت من سنة ٤٥٧٣–٤٣٢٥ق.ﻫ/٣٩٥١–٣٧٠٣ق.م وعدد ملوكها ٩)

منهم «سحورع» أو «سفرس» بنى هرمًا شمالي قرية أبي صير، وله في وادي مغارة لوح لا يزال هناك، محفورة عليه صورته، منصورًا على أعدائه، وبعد وفاته عبده المصريون زمنًا طويلًا.

ومن ملوكها «نفراركارع» أو «نفرخرس» اتسع نطاق العلم في أيامه، وعمرت البلاد، وقد بنى هرمًا لا يعرف مقره.

ومن ملوكها «أعنوسر» وهو أول من أضاف إلى اسمه لقب عائلته «آن» فصار «عنوسرآن» غزا جزيرة جبل الطور، وانتصر عليها، ونقش صورته على حجر هناك، وبنى هرمًا في أبي صير، ودفن فيه بعد موته، وكان في عصر هذا الملك رجل يدعى «تي» بنى مقبرة بديعة الإتقان، وهي المقبرة المشهورة في سقارة على يسار المدفن المعروف ببربة «إبيس» يقصد المتفرجون من كل الأنحاء؛ لما فيها من الدقة، وبديع الصنعة، وجميل النقوش، وتعداد الرسوم، وكان هذا الرجل صهر الملك، وصاحب دولته، وله رسم محفوظ في المتحف المصري.

ومن ملوكها «ددكارع» اكتشف المعادن في وادي مغارة، وابتنى هرمًا لم يُعلم مكانه، ولرجال دولته عدة مقابر في سقارة.

ومن ملوكها «أوناس» أو «أنوس» بنى هرمًا في سقارة إلى الجنوب الغربي من الهرم المدرج، ترى حوله كثيبًا من الرمال والحصى قد تراكمت هناك عندما حاولوا فتحه سنة ١٨٨١ مما تساقط من كسائه الخارجي، وكان عرض قاعدته ٢٢٠ قدمًا، ولا يبلغ هذا القدر الآن؛ لما لحقه من الهدم والتساقط، وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن في هذه الأهرام كنوزًا فيحاولون فتحها هدمًا، ولما هدموا هذا الهرم بعد المشقة لم يجدوا فيه إلا تابوت الملك من المرمر الأسود، وذراعه الأيمن، وساقه، وقطعًا من أكفانه.

(١-٦) العائلة السادسة الأسوانية (حكمت من سنة ٤٣٢٥–٤١٢٢ق.ﻫ/٣٧٠٣–٣٥٠٠ق.م وعدد ملوكها ٦)

من ملوك هذه العائلة «مريرع» اتخذ جزيرة أسوان سريرًا لمملكته التي كانت شاملة لسائر القطر المصري، ومن ذلك الحين جعلت منف تنحط، وكان له وزير اشتهر بالدراية والحكمة، فعهد إليه بنظارة الأشغال، فقام بأعبائها حق القيام، فتضاعفت المحصولات، ولهذا الوزير حجر في متحف بولاق منقوش عليه ما يفهم منه شيء من سيرته.

ومن أعمال «مريرع» أنه فتح طريقًا تجارية بين قفط والبحر الأحمر، وخط مدينة في مصر الوسطى، وأصلح معبد دندرة، وفتح بلاد الشام، واستولى عليها، كل ذلك مدون نقوشًا على حجر وزيره المتقدم ذكره، وخضعت له النوبة وليبيا والحبشة وطور سينا، وهو أشهر ملوك هذه العائلة.

ومن ملوكها «مرنرع» الأول ابن المتقدم ذكره، ويسمى «سوكر مساف» وهو أول من اصطنع سفينة في مصر بهمة ودراية وزيره الذي كان وزيرًا لأبيه قبله.

ومن ملوكها أيضًا الملكة «ثيتوقريس» كذا دعاها مانيثون، وقال: إنها كانت أجمل وأكمل أهل عصرها، وكانت مع ذلك ذات حيلة ومكر، فكان لها أخ اتخذته بعلًا فقتله بعض رجال دولته قبل توليتها الملك. فلما تولت أخذت تسعى في طلب الثأر فاصطنعت سردابًا تحت الأرض يصل بين النيل ومحل أعدته لوليمة دعت إليها نفرًا من الأعيان ورجال الدولة، ومن جملتهم القاتل، فلما التأم الجمع واشتغلوا بالوليمة فتحت باب السرداب من جهة النيل فسار الماء فيه إلى قاعة الوليمة فأغرق جميع من كان هناك. أما هي فأسرعت من غيظها وألقت نفسها في الرماد الحار فماتت.

وفي أيام هذه العائلة أُتقنت الرسوم على أسلوب خاصٍّ بحيث أن من تعود معاينة الآثار المصرية يقدر على تعيين أي رسم كان من رسوم هذه العائلة.

(١-٧) العائلتان السابعة والثامنة المنفيتان والتاسعة والعاشرة الأهناسيتان (حكمتا من سنة ٤١٢٢–٣٦٨٦ق.ﻫ/٣٥٠٠–٣٠٦٤ق.م)

لم يُعلم ما الداعي لطموس أخبار هذه العائلات؟ على أنه قد عُلم أن قاعدة العائلتين الأوليين كانت منف، والأُخريين أهناس، وربما وجد في أهناس المدينة شيء من آثارهم إلا أنها على كل شيء لا تستحق الذكر.

(٢) الدولة الملكية الوسطى

(٢-١) العائلتان الحادية عشرة والثانية عشرة الطيبيتان سريرهما طيبة (حكمتا من سنة ٣٦٨٦–٣٤٧٣ق.ﻫ/٣٠٦٤–٢٨٥١ق.م، وعدد ملوكهما ٢٤)

أول ملوك العائلة الحادية عشرة «أنتف عا» لم يكن من ذوي العصبية الملكية، إنما كان من عمال ملوك أهناس المدينة في الوجه القبلي. على أنه كان مهوبًا لسطوته وعلو همته. بنى هرمًا من الطين في الجهة المعروفة بذراع أبي النجا بمديرية قنا، وجعل في وسطه ضريحًا متقنًا دفنت فيه جثته في تابوت غطاؤه مطلي بالذهب، استخرجه أهل تلك الناحية وذهبوا به. فلما توفي قام ابنه «منتوحتب» فجعل نفسه من مصاف الملوك، وليس له من الآثار ما يذكر به.

ومن هذه العائلة أيضًا «أنتف الرابع» تمكن بحكمته وبطشه من الاستيلاء على الوجه القبلي رغمًا عن ملوك أهناس، واستقلّ بالحكم عليه وعلى آسيا الشمالية، وقد قال «إني استوليت على الوجه البحري» ولا مثبت لقوله، ومن مآثره أنه جدد بنايات رفيعة العماد في جهة قفط استعملت أنقاضها في هذه الأيام لبناء قنطرة، ولما مات دفن في ذراع أبي النجا، وقد وجدوا من آثاره مسلة بالقرب من العرابة المدفونة.

وتولى بعده «منتوحتب الرابع» ولقب «بنخررع» وهذا بالحقيقة نزع الوجه البحري من ملوك أهناس، وما زال يقاتلهم حتى استقل بالملك جميعه فكل من قبل هذا من هذه العائلة لم يكونوا ملوكًا مستقلين.

وتولى بعده «سنخ كارع» ومن عظيم أعماله أنه أنفذ «حنو» أحد رجاله فأتم الطريق الموصلة بين مصر وبلاد العرب التي شرع فيها مريرع — المتقدم ذكره — جعل فيها خمس محطات فيها عيون من الماء، فيتم بها التواصل مع بلاد العرب والهند وشبه جزيرة العرب، وما زالت هذه الطريق كذلك إلى عصر اليونان فالروم.

ومن خصائص ملوك هذه العائلة أنهم كانوا يرسمون فوق توابيت موتاهم أشكالًا مجنحة يلونونها بألوان مختلفة زعمًا منهم أن إحدى معبوداتهم «إيزيس» كانت ترفُّ على أخيها «أوزيريس» ناشرةً جناحيها حنوًّا، ومعظم آثار هذه العائلة في ذراع أبي النجا لا يزال محجوبًا.

أما العائلة الثانية عشرة: فابتدأت بدور جديد، فقد كانت مصر قبلها منقسمة غالبًا إلى حكومات متعددة في وقت واحد، أما في أيامهم فانضمت جميعها تحت لواء واحد قاعدته مدينة طيبة.

أول ملوك هذه العائلة: «أمنمحعت الأول» كان من أتباع الملك منتوحتب الثالث، ويسميه مانيثون «أمنميس» فلما استتب له الملك قاتل الذين كانوا يكدرون صفو راحة مصر، وهم عصب من أهالي ليبيا والنوبة وآسيا، تجمعوا لقتاله حول قلعة تاتوي غربي منف، فحاربهم حتى انتصر عليهم وطردهم، واستولى على منف، وكان عاقلًا حكيمًا وشجاعًا مدربًا، استخرج المعادن من بلاد النوبة، وأخضع عدة أقاليم من بلاد الزنوج وغيرها.

وقبل وفاته ولى ابنه «أوسرتسن الأول» ويدعوه مانيثون «سيسونحوسيس» وهو صاحب المسلة المشهورة في المطرية التي طولها عشرون مترًا وبعض المتر، نصبها أمام هيكل الشمس المدعو «أتوم» إجلالًا لذلك الهيكل ومعبوده، ونصب بجانبها مسلة أخرى شاهدها عبد اللطيف البغدادي، وقد فقدت ولم يبق لها أثر الآن. أما الأولى فلا تزال باقية منقوشًا عليها بالقلم المصري القديم ما ترجمته ملخصًا: «إن الملك المنصور حياة كل موجود سلطان الوجه القبلي والبحري (خبر كارع) صاحب التاجين وسلالة الشمس (أوسرتسن) المحب لمعبودات المطرية دام بقاه، قد نصب هذا الأثر في مبدأ العيد الرسمي تخليدًا لذكره وإحياءً لهذا العيد.» انظر شكل ١-٣.

فإذا زرت قرية المطرية الآن، ووقفت بجانب مسلتها ترى حولك بقعة من الأرض فيها بعض الزرع طولها ٤٥٦٠ قدمًا بعرض ٣٥٦٠ محاطة بتلال متلاصقة كأنها سور من تراب. يقول مارييت: إن هذه البقعة ليست مساحة المدينة، وإنما هي مساحة الحوش الكبير الذي كان أمام هيكل الشمس، وجاء على ذلك بأدلة تقرب من الصواب.

ونصب أوسرتسن أيضًا مسلة أخرى فيما يحاذي قرية بجيج بجهة الفيوم، وقد ظن بعض المؤرخين مستنتجًا من سياق حكاية كتبها أحد معاصري هذا الملك أنه الفرعون الذي حصلت في أيامه المجاعة على عهد يوسف بن يعقوب، غير أن الجمهور على خلاف ذلك؛ لعدم مطابقة الزمن بين ما هو في العهد القديم وهذا التاريخ، ويقال بالإجمال: إن هذا الملك يعد من أول المؤسسين لهيكل طيبة «الأقصر» وقبل وفاته أمر مهندسه الخاص أن يبني له مقبرة فبناها، وجعل في داخلها عدة غرف أقامها على أعمدة، وجعل فيها حوضًا متصلًا بالنيل، وصنع لها أبوابًا ومسلات، ووجهة من حجر طرا الأبيض.

fig4
شكل ١-٣: مسلة المطرية.

ومن ملوك هذه العائلة «أوسرتسن الثاني» ويسميه مانيثون «سيزوستريس» ترك آثارًا كثيرة قلما يستفاد منها شيءٌ عن تاريخه، وغاية ما علم منها أن مملكة مصر كانت في عصره محافظة على شوكتها متسعة النطاق.

ومن ملوكها أيضًا «أوسرتسن الثالث» وكان رجلًا حازمًا مقدامًا، واشتهر بهذه الصفات فارتفعت منزلته في قلوب الأهلين فعبدوه، ومن أعماله: أنه جرد على السودان (أثيوبيا) وما وراءها لتوسيع نطاق مملكته، وشاد في وادي حلفا قلاعًا منها قلعتان تعرفان الآن «بقمنة» و«سمنة» لمنع الأعداء من مصر لا تزال تشاهد في أطلالهما الجدران الشامخة والبروج العالية والخنادق، وكان في داخلها معابد وعدة مساكن دمرت الآن.

وقد وجد الباحثون حجرين كانا منصوبين على حدود مصر الجنوبية. ذلك ما فُهم مما هو مكتوب عليهما، وبعد وفاة هذا الملك بخمسة عشر قرنًا أي في عصر العائلة الثامنة عشرة شاد «تحوتمس الثالث» معبدًا في سمنة، وكتب عليه ابتهالات كان يتلوها المصريون في ذلك الحين، ولهذا الملك هرم في دهشور.

ومن ملوك هذه العائلة «أمنمحعت الثالث» ولهذا الملك يد بيضاء في أمر النيل وفيضانه في إقليم الفيوم، وذلك أن للنيل — كما لا يخفى — ارتفاعًا معلومًا إذا بلغه كان غيثًا وحياة لأرض مصر، وإذا زاد عنه كان ضربة ودمارًا فتسقط الجسور وتغرق البيوت، وإذا نقص لا تكون مياهه كافية للري فيخشى من المجاعة. فلما علم هذا الملك بذلك هم بتدارك الأمر. فرأى في الصحراء الغربية من مصر بادية شاسعة الأطراف يمكن غرسها واستغلالها، تعرف الآن بوادي الفيوم، يفصلها عن وادي النيل الأصلي برزخ قليل الارتفاع، وفي وسط تلك البادية بقعة من الأرض تكاد لا تزيد ارتفاعًا عن أراضي وادي النيل تبلغ مساحتها عشرة ملايين من الأمتار المربعة، وبجانبه الغربي أرض منخفضة ذات اتساع عظيم تغمرها مياه البحيرة الطبيعية المعروفة الآن ببركة قارون «أو القرون» طولها يزيد عن عشرة فراسخ، فأمر بحفر ترعتين توصلان النيل بتلك البقعة؛ إحداهما: كانت تبتدئ من النيل بجانبه الغربي، وتجري بمحاذاة بحر يوسف الحالي، والأخرى: كانت تجري شمالًا، وهاتان الترعتان تلتقيان وتصبان في تلك البقعة الفسيحة، وجعل عند ملتقاهما قناطر بحواجز تسد وتفتح حسب اللزوم. فكانت تلك البقعة بصفة حوض عظيم تجتمع فيه مياه النيل عند فيضانه عرفت ببركة موريس.

فإن كانت زيادة النيل أقل من احتياج الأرض انصرف إليها من مياهه ما يسد احتياجها، وإذا كانت أكثر من الحاجة صُرف ما يزيد إلى ذلك الحوض، فإن طفح ماؤه انصرف إلى بحيرة قارون بواسطة حواجز تسد وتفتح على قدر الحاجة، وكانت الحكومة في كل سنة قبل ارتفاع النيل تنتدب من يسير إلى النوبة؛ لاستكشاف مقدار زيادته في جهة سمنة وقمنة، وفي تلك الجهات الآن كتابات هيروغليفية تشير إلى شيء من ذلك.

وكان في وسط بركة موريس هرمان في كل منهما تمثال، وأصل كلمة موريس «مري» ومعناها في اللغة المصرية بحيرة، وليس كما زعم اليونانيون من أنها دعيت بذلك نسبة إلى اسم أحد الفراعنة، وأصل كلمة الفيوم «بايوم» ومؤاداها باللغة المصرية: بلد البحر.

وإلى شرقي بحيرة موريس بناء هائل يعرف باسم «لابرانتا» واسمه بالمصرية «لابوراحونت» أي معبد فم البحر، بناه هذا الملك لاجتماع مجلس الأعيان من الكهنة، وفي هذا البناء رحبات إلى كل من الجانبين فيها من الغرف نحو من ثلاثة آلاف غرفة، ويحيط بالبناء من الخارج سور عليه نقوش.

أما بركة موريس فقد جفت، ولم يعد لها أثر الآن. أما موقعها فقد اختلف المهندسون في حقيقته، ومن رأي المستر كوب وايتهوس أنه واقع في وادٍ وسيع إلى جنوبي بركة قارون بعرض ٤٠ َ ٤٨° و٣٠ َ ٢٩° شمالًا، وهو المعروف الآن بوادي الريان، وقد اقترح وايتهوس على الحكومة المصرية أن تتخذ هذا الوادي مذخرًا لماء النيل كما كان قديمًا.

وامتدت حدود مملكة هذه العائلة إلى بلاد النوبة، وكان بينها وبين ليبيا الشمالية وآسيا علاقات تجارية محورها ما بين بني سويف وأهناس المدينة، وبسبب هذه العلاقات تعلم المصريون من الليبيين علم الرياضة الجسدية (الجمباز) أما صناعة البناء في أيام هذه العائلة فقد كانت من الإتقان والتفنن على غاية حتى قيل إن معظم الأعمدة الحلزونية الشكل في الآثار المصرية إنما من مصنوعات هذه العائلة.

(٢-٢) العائلة الثالثة عشرة الطيبية (حكمت من سنة ٣٤٧٣–٣٠٢٠ق.ﻫ/٢٨٥١–٢٣٩٨ق.م وعدد ملوكها ٨٧)

من ملوك هذه العائلة «سبك حتب الثالث» له آثار كتابية على صخور شامخة صعبة التسلق عند ضفة النيل بقرب سمنة مفادها أن ماء النيل بلغ هذا الارتفاع في السنة الثالثة من حكم الملك سبك حتب الثالث، وأوطأ جزء من هذه الكتابة يعلو أعلى نقطة يبلغها النيل عند ارتفاعه في هذه الأيام بنحو سبعة أمتار، وذلك من الأدلة على أن النيل كان أكثر ارتفاعًا في الأعصر الخالية منه في هذه الأيام بما يستحق الاعتبار، وهذه العائلة على كثرة عدد ملوكها قلَّ ما يعرف عنها، ويظن مارييت أن أكثر آثارها مردوم في أسيوط.

fig08
شكل ١-٤: حفار مصري يصنع تمثالًا.
fig09
شكل ١-٥: حفار مصري ينحت ذراعًا.

(٢-٣) العائلة الرابعة عشرة السخاوية (حكمت من سنة ٣٠٢٠–٢٨٣٦ق.ﻫ/٢٣٩٨–٢٢١٤ق.م وعدد ملوكها ٧٥)

بسقوط العائلة الثالثة عشرة سقطت طيبة بعد أن كانت سريرًا للدول المصرية نحوًا من سبعمائة سنة. على أن ملوك العائلتين الثانية عشرة والثالثة عشرة لم يكونوا في اهتمام لحفظ رونقها وأفضليتها على سائر القطر المصري، وإنما صرفوا اهتمامهم في تعمير الدلتا، ورفع شأنه، فزهت منديس وسايس وبوباستس، وعلى الخصوص تانس، ولكنهم مع ذلك لم يتخذوا غير طيبة سريرًا لملكهم. أما العائلة الرابعة عشرة فجعلت عاصمتها في الوجه البحري في مدينة خيس (سخا) في منتصف الدلتا. لا يعلم عن ملوك هذه العائلة ما يستحق الذكر سوى أن أسماءهم وجدت مكتوبة على صحيفة من البابيروس (البردي) حفظت في متحف تورين.

(٢-٤) العائلات الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة (الرعاة) (حكمت من سنة ٢٨٣٦–٢٣٢٥ق.ﻫ/٢٢١٤–١٧٠٣ق.م)

فالعائلة الخامسة عشرة مؤلفة من ملوك الرعاة الذين افتتحوا مصر، واتخذوا «أوريس» سريرًا لملكهم، وكان معظم سلطتهم في الوجه البحري. أما القبلي فكان يحكمه بعض الملوك الوطنيين. أما منشأ ملوك الرعاة ويدعوهم اليونانيون «هيكسوس» فقد اختلف المؤرخون في حقيقته، وقد عقدنا فصلًا في كتابنا تاريخ العرب قبل الإسلام بينا فيه أرجحية كون الرعاة عربًا من القبائل التي يسميها العرب «العمالقة» فليراجع هناك، ويقال: إنهم جاءوا مصر من جنوبي آسيا ففاجئوا المصريين في الوجه البحري، وافتتحوا بلادهم، وتقاطروا إليها أفواجًا حتى انتشروا فيها كالجراد، وجعلوا يعيثون استبدادًا فأحرقوا المعابد، ونهبوا ما فيها، واتخذوا منف قاعدة لحكمهم، ففر الملوك المصريون إلى الصعيد.

وأول من ملك من العمالقة «سلاطيس» شاد قلاعًا حصينة في أماكن مختلفة، وجعل في السويس جندًا عظيمًا خيفة أن يهاجمه كنعانيو الشام والعراقيون، وفي أيامه تقاطر أهل آسيا إلى مصر أسرابًا يطلبون ملجأ ورزقًا، فبنى لهم في أواريس معسكرًا عظيمًا يسع نحوًا من مائتين وأربعين ألفًا، وجعل حوله خندقًا، ورتب لهم أرزاقًا، فصاروا له أعوانًا، فهابه المصريون.

ثم تداول خلفاؤه على سرير الملك الواحد الآخر، وعددهم ٦، ومدة حكمهم جميعًا ٢٦٠ سنة، وقد كانوا في أول أمرهم مستبدين يسومون المصريين شر المعاملة، ولا يستخدمون في مصالح حكومتهم إلا الأجانب من أبناء جلدتهم. لكنهم في آخر الأمر قربوا الوطنيين منهم، واستخدموهم في مصالح الدولة، وصرفوا اهتمامهم إلى إحياء البلاد، وتجديد ثروتها، فبنوا المعابد، ودانوا بديانة أهل مصر. فخضع لهم الوجه القبلي فأصبحت مصر جميعها في أيديهم.

fig010
شكل ١-٦: مهاجرو آسيا.

ثم خلفتهم دولة الرعاة الثانية، وهي العائلة السادسة عشرة، وعدد ملوكها اثنان وثلاثون لم يعرف منهم إلا ملك واحد يدعوه المصريون «إيابي أعاكنن» والعرب يدعونه «الريان بن الوليد» ومانثيون يدعوه «أبوفيس» وفي أيامه نزح كثيرون من أهل الشام إلى مصر واستوطنوها، لكنهم حافظوا على لغتهم ولم يبدلوها، وفي أيامه أيضًا وفدت السيارة الذين باعوا يوسف بن يعقوب إلى قطفير وزير مصر الذي يدعى بلغة مصر القديمة «بدفير» أي هدية الشمس، وقصته مشهورة، وقد وجدت في الآثار حكاية استنتج منها بعضهم ما يؤيد قصة المجاعة التي حصلت في أيام يوسف، والله أعلم.

وأما العائلة السابعة عشرة: فكانت مصر في أيامها تحت حكومتين: وطنية بيد المصريين، وأجنبية بيد الرعاة، وبلغ عدد ملوك كلٍّ من الحكومتين نحوًا من ٤٣ ملكًا قلما يعرف عنهم، وكانت قاعدة مملكة الرعاة «صان» والوطنيين «طيبة» وغاية ما يقال في هذه العائلة: إنها لم تنته حتى انتهى معها الرعاة، وبانقضائه انقضت الدولة الملكية الوسطى.

(٣) الدولة الملكية الأخيرة (حكمت من ٢٣٢٥–٩٥٤ق.ﻫ وعدد عائلاتها ١٤)

(٣-١) العائلة الثامنة عشرة الطيبية (حكمت من ٢٣٢٥–٢٠٨٤ق.ﻫ/١٧٠٣–١٤٦٢ق.م وعدد ملوكها ١٤)

ولهذه العائلة شأن عظيم في تاريخ مصر القديم؛ لأن البلاد في أيامها نشطت وامتدت سطوتها إلى أنحاء بعيدة.

أول ملوكها «أحمس» ويسميه مانيثون «أموزيس» تزوج بابنة ملك أثيوبيا، وتحالف معه على طرد بقية العمالقة من مصر، وكانوا متحصنين في قلعة أوريس برًّا وبحرًا، فحاصرهم ثم طردوهم منها، وما زال يتبعهم بجنوده حتى نهر الفرات، فتخلصت مصر منهم بعد أن استبدوا فيها ستمائة سنة، وبقيت منهم بقية رضخت لأحكامه قهرًا، وما لبث أن عاد من هذه المحاربة حتى عصته أهل النوبة فجرد إليها وظهر عليها. أما الأثيوبيون فدخلوا في طاعته بغير حرب، وامتدت سلطته إلى البحر المتوسط، وفي السنة الثانية والعشرين من حكمه استعمل العمالقة؛ لقطع الحجارة من محاجر طرة لتجديد معبد «فتاح» في منف ومعبد «أمون» في الكرنك ولإنشاء معابد أخرى، وقد وجدت جثة هذا الملك في الدير البحري بجبل القرنة، وهي الآن في المتحف المصري.

ومن ملوكها «أمنحتب الأول» ويسميه مانيثون «أمنوفيس» كان ملكًا عادلًا مسالمًا، تزوج بابنة ملك أثيوبيا، وجثتاهما في المتحف المصري.

ومن ملوكها أيضًا: «تحوتمس الأول» رغب في توسيع دائرة ملكه، فجعل يحارب جنوبًا وشمالًا، فامتدت سلطته إلى محاجر مدينة «إنبو» في وسط النوبة، ويستدل على ذلك بوجود اسمه منقوشًا على حجرٍ هناك، وقد وُجدت نقوش أخرى في جهات أسوان تشير إلى شيء من ذلك، وامتدت مملكة مصر في أيامه جنوبًا إلى جبل «أبته» في الحبشة، وشمالًا إلى أقصى آسيا المعمورة من ضمنها فلسطين وبابل وغيرهما. أما معظم ثروة بلاده فكانت من أثيوبيا التي كانت تأتي منها البضائع مشحونة في مراكب النيل إلى مصر، وفيها الحيوان والحب والجلد والعاج والخشب والحجارة الكريمة والمعادن كالذهب وغيره، ويقال: إن اسم النوبة مأخوذ من «نب» أي ذهب، ومن آثاره أنه شاد معبد أمون في الكرنك، ومسلتين؛ إحداهما لا تزال إلى الآن عند باب المعبد المذكور، أما الثانية فقد ذهبت بها يد الزمان.

ومنهم الملكة «حعتشبو» ويسميها مانيثون «مفرس» ساست الأحكام بتدبير وحزم، ورسمت صورتها على الآثار بهيئة رجل ذي لحية ملوكية مهيبة، وقد سعت هذه الملكة في نشر سطوتها؛ ففتحت بلاد «بون» جنوبي بلاد العرب فكانت بابًا للتجارة، وكانت تأتي منها بالخشب والعطريات والصمغ والذهب والفضة والحجارة الكريمة، وغير ذلك من لوازم بناء الهياكل.

ومن آثار هذه الملكة: مسلتان نصبتهما في الكرنك، لم تزل إحداهما قائمة إلى هذه الغاية عليها كتابة بالقلم المصري القديم تفيد أنها أقامت هاتين المسلتين تذكارًا لوالدها، وكان على قمة كل منهما إكليل هرمي الشكل مصنوع من الذهب المغتنم من الأعداء، والمسلة الواحدة قطعة واحدة مقطوعة من محاجر أسوان استغرق عملهما معًا أربعة عشرة شهرًا، وارتفاع كل منهما ثلاثون مترًا.

ومن ملوك هذه العائلة: «تحوتمس الثالث» وهو شقيق الملكة المتقدم ذكرها. لم يمكنه الملك إلا بعد وفاتها، ولم يكن راضيًا بحكمها إلا رغم إرادته، فلما تولى محا اسمها عن أكثر الأماكن التي ذكرت فيها انتصاراتها، وكتب اسمه مكانه لتنسب تلك الانتصارات إليه.

وفي أيامه استقلت آسيا من سلطة المصريين إلا غزة وضواحيها. ثم ظهر التمرد في الشام فثار أهلها، وحرضوا سكان شمالي سوريا على مثل ما فعلوا. فقاتلهم وظهر عليهم وسلبهم مدينة حلب ومدنًا أخرى، ثم سار إلى الفرات فأخضع العراق والجزيرة، وبعد انتصاره أراد إكرام جيشه فصرح لهم أن يصطادوا من حيوانات تلك البلاد ما شاءوا، وكان في جملة صيدهم مائة وعشرون فيلًا، فعاد إلى مصر ظافرًا.

ثم لم يمض يسير حتى عادت آسيا الشمالية إلى الثورة فشقت عصا الطاعة، وتمرد أهلها، وتابعهم أهل الجزيرة. فعاد إلى قتالهم، وما زال حتى استظهر عليهم وعاد إلى مصر، ثم خرج عليه الزنج والعبيد من النيل الأعلى فحاربهم ونهب بلادهم وهدم مساكنهم وحرقها وقادهم أسرى إلى مصر (انظر شكل ١-٧).

ويقال بالإجمال: إن أكثر أيام هذا الملك كانت حروبًا وشدائد، ولذلك لقبوه بالسلطان الأكبر، وفي المتحف المصري حجر جيء به من الكرنك عليه من الأعلى صورة الملك المذكور كأنه يقرب القرابين لبعض الآلهة وهم وقوف بين يديه، وتحت ذلك كتابة هيروغليفية بين نثر ونظم كتبت عن لسان أمون إله طيبة يخاطب بها الملك بما يشبه المدح والتنشيط.

fig46
شكل ١-٧: أسرى الزنوج.

وكان في حوزته عند وفاته: الحبشة والنوبة والسودان والشام والجزيرة والعراق العربي وكردستان وأرمينيا وقبرس، أما جثته فتشاهد في المتحف المصري، ومن آثار تحوتمس الثالث مسلتان أقامهما في المطرية، حتى إذا كانت أيام الملكة كليوبطرا نلقتا إلى الإسكندرية وجعلتا أمام هيكل القيصر، وعرفتا بعد ذلك بمسلتي كليوبطرا، وعليهما كتابة هيروغليفية كثيرة بينهما أسماء تحوتمس الثالث ورعمسيس الثاني وسيتي الثاني ولا وجود لاسم كليوبطرا عليهما، وفي سنة ١٨٧٧ب.م نقلت إحداهما إلى لندرا، وأقيمت على ضفاف التيمس، ثم نقلت المسلة الأخرى إلى أميركا بعد حين.

ومن ملوكها الملك «أمنوفيس الثاني» استلم زمام الأحكام وسلطة مصر منتشرة في أقاصي الأرض، فاجتهد في حفظها إلا أن آشور نظرًا لبعدها من مصر ثارت واستمالت إليها ما حولها من المدن، فجهز إليها أمنوفيس وما زال يحاربها ومن تابعها نحوًا من سنتين، كان يتردد أثناءهما بين العراق والجزيرة وأكاد، وأخيرًا عاد إلى مصر بحرًا غانمًا ظافرًا، وفي جملة ما جاء به من الغنائم سبع جثث ممن قتلهم في تلك الحملة فعلق ستًّا منها على سور طيبة، ولهذا الملك رسم منقوش على مقبرة في القرنة هو فيه على هيئة ملك عظيم الشأن جالس على كرسي قد نقش على قاعدته أسماء البلاد الخاضعة له.

fig011
شكل ١-٨: معاصر العنب عند المصريين.

ومن ملوكها أيضًا الملك «تحوتمس الرابع» ومن أعماله: إعادة عبادة الشمس إلى مصر. فكرّم أبا الهول المرموز به عنها، ومن يزر هذا التمثال العظيم في الجيزة يرَ في صدره لوحًا ارتفاعه أربع عشرة قدمًا إنكليزية، في أعلاه إلى اليمين رسم هذا الملك يقدم العبادة لأبي الهول وإلى اليسار رسم الشمس، ويلي ذلك نقوش كتابية تفيد أن ذلك الملك لم يدِّخر وسعًا في تحسين مدينتي منف والمطرية، وإعطاء المرتبات المقررة للمعابد، أو لإنشاء الهياكل والتماثيل، والمعبودات وكان ملكًا قويًّا مهوبًا.

ومن ملوكها أيضًا «أمنوفيس الثالث» لما تولى الأحكام كانت حدود مملكة مصر ممتدة شمالًا إلى نهر الفرات وجنوبًا إلى جلة، ولسِعَة شهرته في الأقطار الغربية دعاه اليونان بالممنون، وله تمثال عظيم في طيبة مشهور بهذا الاسم، وقد كثرت في أيامه القلاقل والفتن فسعى في إخمادها بعزم ونشاط، وكان ذا وقار ومهابة، وفي الحروب باسلًا مقدامًا. كل ذلك تراه مكتوبًا نقشًا على تاج هيكل الأقصر؛ لأنه جدد فيه قسمًا عظيمًا، وكان يلقب نفسه بسلطان البرين وأمير العالمين (يريد عالمي آسيا وإفريقيا) وكان حسن السياسة فزادت مصر في أيامه سطوة ومملكتها اتساعًا.

ومن آثاره هيكل في «نبته» جعل في الطريق إلى بابه صفين من الكباش الراقدة على مثال أبي الهول، وحسَّن معبد تحوتمس الثالث في سولين بين الشلال الثاني والثالث، وشاد هيكلًا غربي الكرنك خدمة للمعبود أمون، وهناك إصلاحات أخرى أجراها في هياكل ومعبودات أسوان وجزيرتها وجبل السلسلة وغيرها، وأنشأ على ضفة النيل الغربية تجاه الأقصر معبدًا طالما كان من أعظم الآثار القديمة، أما الآن فقد أصبح خرابًا لأسباب لا نعلمها إلا صنمين كبيرين كانا على بابه، ولا يزالان قائمين رغم مصادمة الأيام، ويعرفان بشامة وطامة، وكل منهما تمثال أمنوفيس الثالث، وبقيا إلى سنة ٥٩٥ قبل الهجرة ولم ينتبه إليهما حتى حصلت زلزلة أسقطت جزء أحدهما الأعلى وبقيت قاعدته في مكانها، فلوحظ أن هذه القاعدة إذا سقط عليها الندى ثم أشرقت عليها الشمس أخرجت صوتًا يستمر مدة، فجعلوا يقولون في شأنه أقوالًا شتى أكثرها مبني على الوهم والخرافات، ثم اهتم القوم بإعادة الجزء الساقط إلى قاعدته فأعادوه وملطوا مكان الالتحام جيدًا فلم يعد يسمع له صوت فعلموا أن ذلك الصوت كان يحدث من تأثير أشعة الشمس على نقط الندى بعد تخللها جسم ذلك الحجر.

ومن ملوكها أيضًا «أمنوفيس الرابع» رغب في عبادة الشمس فابتنى في محل تل العمارنة على مقربة من المنيا مدينة جديدة جعلها سريرًا لملكه بدلًا من طيبة، ونقل إليها معبود قرص الشمس وسماه (أتن) على مثال إله اليهود (أدوناي) أقامه في معبد ابتناه من أجله، وقد نقبوا أطلال تلك المدينة فوجدوا بينها بقية ذلك المعبد على دهليزين وستة أعمدة مدرجة الوضع يظهر أنها كانت منصوبة في صحنه، وشاهدوا على جدرانه رسم الشمس مشرقة على الملك ورجاله وهم وقوف يقربون القرابين إليها، وبين أشعتها أيدٍ ممتدة كأنها تنثر الحياة على المخلوقات، وحول هذه الرسوم أدعية وقصائد كان يتلوها المرتلون على نغمات الأوتار، وعلى جدران الهيكل أيضًا رسم هذا الملك ورجاله على هيئةٍ غير مصرية، ويشاهد أيضًا في مقبرة بتل العمارنة نقوش بينها صورة الملك واقفًا على عربته الحربية وبجانبه بناته السبع يقاتلن معه، وله آثار في سوليب، وهيكل ومسلة بمدينة طيبة.

ومن ملوكها أيضًا الملك «حور محب» وهو من أقارب «أمنوفيس الرابع» ثارت عليه الرعية عند أول حكمه فأرضاهم بمحو عبادة الشمس وهدم معبدها والمدينة جميعها وإعادة الديانة المصرية، ولما خمدت الثورة بنى الوجهة الرابعة من معبد الكرنك، وفي أيامه خرجت آسيا من سلطة المصريين، وما زالت كذلك إلى أن جاءت العائلة التاسعة عشرة.

(٣-٢) العائلة التاسعة عشرة الطيبية (حكمت من ٢٠٨٤–١٩١٠ق.ﻫ/١٤٦٢–١٢٨٨ق.م وعدد ملوكها ٨)

أول ملوكها «رعمسيس الأول» ولم يتحقق حتى الآن إذا كان مصري المولد أو آسيويه، تبوأ كرسي الملك شيخًا، وكانت المملكة المصرية تئن لخروج معظم إيالاتها من طاعتها على إثر الحرب الدينية فجدد شبابها ونهض للجهاد، فحارب الأثيوبيين والحثيين، وكانوا أمة عظيمة تحتها عدة طوائف قد تحالفوا معًا على قتال المصريين، ويقال: إن هذا الملك هو أول من ناهض الحثيين، واخترق بلادهم، وجال في أصقاعهم حتى ضفاف نهر العاص.

fig012
شكل ١-٩: جنازة مصرية قديمة.

وخلفه ابنه «سيتي الأول» فسعى سعيًا حميدًا لتوسيع مملكته فغزا بعضًا من بلاد آسيا الغربية. ذلك ما يستفاد مما كتب على هيكل الكرنك، فغزا غزوات عديدة إلى الشام والعراق وغيرها، ففتح بلادًا تمتد من جنوبي الشام إلى أرمينيا، وقد كانت قبلًا لا يطلب منها إلى جزية تدفعها وحكامها من أبنائها. أما هذه المرة فأدخل أهلها في طاعته، وجعل عليهم حكامًا من أمرائه، وأحاطهم بنقط حصينة كغزة وعسقلان جعل فيها حاميات من رجاله فأمن طغيانهم، إلا ما جاور الفرات فإنه عجز عن إبقائه في حوزته وعصته الجزيرة والعراق، ولم يعد قادرًا على مقاومتها فوقف عند حده، ولذلك كانت فتوحاته كبيرة في الظاهر حقيرة في الباطن، ولما عاد من تلك المحاربات جعل يمكن العلاقات مع إيالاته بواسطة النقط العسكرية التي كان قد جعلها فيها فزاد الارتباط بين المصريين والأمم المتحابة ولا سيما الكنعانيين، فأدخل المصريون معبود الكنعانيين (بعلًا) في عِداد معبوداتهم ومثلوه بالشمس، وكان لهذا المعبود زوجة اسمها استارته (عشتروت) مثلوها بالقمر، واتخذوا من آسيا أيضًا آلهة أخرى.

ومن آثار هذا الملك هيكل في القرنة، وآخر في رداسية، وآخر في العرابة المدفونة، وقد نحت أعمدة كثيرة أقامها في النوبة، وحجرًا جعله في أسوان، وفتح ترعة بين النيل والبحر الأحمر تبتدئ من تل بسطة وتجري شرقًا في وادي الطملات إلى أن تصب في البحيرات المرة، وبنى خط دفاع شرقي مصر، وشاد محرابًا في القرنة، وفتح طريقًا للقافلة بين قرية رداسية بإقليم إسنا ومعدن الذهب بجبل أتوكي حيث اصطنع عينًا صناعية ينفجر منها الماء غزيرًا، وأصلح الغار الذي في بني حسن للمعبودة «بشت» ويعرف الآن بغار «أتيميدس» وأخيرًا بنى لنفسه ضريحًا في بيبان الملوك يعجب له كل من عاينه؛ لدقة صنعه، ولما فيه من المناظر الفلكية البديعة.

ومن ملوك هذه العائلة «رعمسيس الثاني» المشهور باسم «سيزوستريس» ويقال له: «رعمسيس الأكبر» لأنه في الواقع أعظم من ملك مصر حكمة وبطشًا، حكم مدة طويلة كلها فتوحات وحروب ومبانٍ ونقوش، فلا يكاد يوجد أثر من الآثار المصرية القديمة إلا وعليه اسمه ورسمه، ولي الملك صغيرًا فشبّ معتادًا على الأعمال السياسية، وكان متوقد الذهن وفيه فطنة ونباهة منذ حداثته.

ولما توفي والده قام بأعباء الملك بنفسه فأخذ في توسيع نطاقه بالفتوحات، وأول غارة شنها كانت على الشام فسار بجيشه، وما بلغ نهر الكلب بقرب بيروت حتى خمدت الفتنة، فعاد إلى مصر تاركًا أثرًا منقوشًا على صخر هناك، وفي السنة الرابعة من حكمه ثار عليه سكان شمالي آسيا وهم الحثيون وكاتي وكركاميش وكوش، وكانوا أقوامًا من الشجاعة على جانب عظيم، فانضموا لمحاربته، وساروا جميعًا حتى وادي الأرونط بقرب حدود مصر في ذلك العهد. فبلغ رعمسيس خبرهم فجمع إليه أمراءه ورجال دولته وقوَّاده وجنوده، وسار في مقدمتهم، وما زالوا يخترقون سوريا حتى أتوا نهر العاص قرب مدينة قادس فإذا هي على جانب من المنعة، ففرق رجاله فرقًا في نقط معينة، ثم سار في حاشيته منفردًا فلقيه جواسيس الحثيين فأغروه على التقدم نحو المدينة، فسار في حاشيته تاركًا جيشه في أماكنهم، فلما اقترب من المدينة علم أنها دسيسة أوقع فيها، فالتفت وإذا بمركبات الحثيين حوله لا عداد لها، فلما رأى ذلك رجال حاشيته طلبوا النجاة بأنفسهم، وبقي رعمسيس وحده فاستنجد إلهه وهاجم الحثيين بمفرده على مركبته ففرقهم وفاز بهم، وبعد يسير عاد إليه رجال حاشيته وقد كادوا يذوبون خجلًا لما كان من فرارهم، أما هو فاكتفى بتوبيخهم، ثم اجتمع بجيشه ثانية، وهاجم العدو فهزمهم، وانتهى الأمر بعقد معاهدة بينه وبينهم، ثم همَّ بالجلاء من آسيا.

fig013
شكل ١-١٠: رعمسيس الثاني.

وبينما هو في طريقه إلى مصر ثار عليه الكنعانيون، وانضم إليهم الحثيون ناقضين العهدَ، وثار غيرهم معهم، فأصبح جميع من قطن ما بين ضفاف الفرات وضفاف النيل يقاتلون المصريين إلَّا أهل آسيا الصغرى فإنهم هجروا أوطانهم ولم يظهروا للقتال، وما زالت هذه الحروب متواصلة يتخللها هدنات وفترات مدة خمس عشرة سنة فاستولى رعمسيس على مدينتي ثابور وميروم وقلعة أورشليم وعسقلان. ثم سار شمالًا وقاتل هناك حتى أخذ من الحثيين مدينتين، وُجد في إحداهما الآن تمثاله، وما زالت الحرب سجالًا حتى اضطر ملك الحثيين إلى المصالحة فطلبها فقبل رعمسيس ذلك في السنة الحادية والعشرين من حكمه، فعقدوا معاهدة كتبت أولًا بلغة الحثيين، ثم نقشت على لوح من فضة وقدمت إلى رعمسيس، ومفادها أن الحثيين يتعهدون أنهم لن يعودوا بعد ذلك إلى حمل السلاح ضد المصريين، وعلى مثل ذلك يتعهد المصريون، وأن يكون الفريقان متحالفين إلى الأبد، وجعلوا في وسط لوح الفضة وعلى جانبه الأعلى صورة تمثال «ست» معبود المصريين معانقًا تمثال «خيتا» معبود الحثيين، وما زالت هذه المعاهدة مرعية مدة ست وأربعين سنة كانت الراحة في أثنائها مستتبة، وتصاهر الملكان توطيدًا للعلاقات الودية، فأصبح المصريون والحثيون قلبًا واحدًا، وبعد التوقيع على المعاهدة بيسير دعا رعمسيس الثاني ملك الحثيين لزيارته إلى مصر فزاره فأكرم مثواه.

ولما سكنت الحروب أخذ رعمسيس في تشييد المباني؛ فشاد في كل مدينة معبدًا، وتمم معبد القرنة في الأقصر، وكان قد شرع فيه أبوه، ومن آثاره أيضًا: هيكل بناه في شرقي الشيخ عبد القرنة بطيبة سماه شامبليون «رامسيون» منقوش فيه تفاصيل إحدى وقعاته، ومنها معابد في العرابة المدفونة ومنف وتل بسطة وغيرها، وأسس في الوجه البحري مدنًا عديدة دعاها باسمه.

وكان لهذا الملك العظيم في قلوب رعيته من المحبة إلى حد الشغف، وكان لهم فيه من الثقة إلى حد العبادة، ولما مات دفن في مقبرة بيبان الملوك، ثم نقل إلى الأقصر لأسباب غير معلومة، ثم نقل إلى المتحف المصري وهو هناك إلى هذه الغاية.

ومن ملوك هذه العائلة «منفتاح الأول» ابن رعمسيس الثاني، اتبع خطوات أبيه، فجعل يزيد في بنايات الدلتا وتحسنها، ثم ثار عليه أهل آسيا الصغرى وطائفة الليبيين فأنفذوا إليه بوارجهم في البحر المتوسط إلى سواحل ليبيا مملوءة بالعدة والرجال من قبائل مختلفة، وما زالوا حتى أتوا السواحل المصرية ودخلوها من غربي الدلتا، كل ذلك والمصريون لا يبدون حراكًا إلا إذا كان للتسليم، ولم يمضِ كثير حتى أصبح معظم الوجه البحري في ذمة أولئك الوافدين.

فلما علم منفتاح بذلك تجند في منف وأرسل فرقة من فرسانه لمقابلة العدو، ثم أمر بتحصين جميع المراكز الواقعة على ضفتي فرع رشيد. فتثاقل الليبيون فأنفذ إليهم فرقة شتتتهم، وعاد المصريون فائزين غانمين بعد أن أحرقوا معسكر العدو فعاد الأمن إلى بلادهم، ويقال: إن الإسرائيليين هاجروا مصر في أيام هذا الملك ولهم على ذلك أدلة أعرضنا عن ذكرها لضيق المقام.

(٣-٣) العائلة العشرون الطيبية (وتسمى الرعمسيسة) (حكمت من سنة ١٩١٠–١٧٣٢ق.ﻫ/١٢٨٨–١١١٠ق.م وعدد ملوكها ١٢)

من ملوكها «رعمسيس الثالث» وهو آخر من اشتهر من ملوك مصر القدماء، وفي أول حكمه ثار عليه أهل البادية، فهددوا استحكامات الدلتا، وأهانوا العَمَلة الذين كانوا يستخرجون المعادن من جبل الطور، وخرجت ولايات الشام من طاعته، وسطا الليبيون على أرضه فاحتلوا بعضًا من الدلتا من جهة الغرب.

فلما علم رعمسيس بما كان من تلك الوقاحة سار في جيش من رجاله على البدو فهزمهم، ثم على الليبيين فأقلعهم من محتلهم فعادوا على أعقابهم خاسرين. فلما علم أهل آسيا الصغرى والجزائر اليونانية بما كان جردوا جيوشهم متحالفين على محاربة رعمسيس، وما زالوا حتى أتوا الدلتا، فلاقتهم الجيوش المصرية عند مصاب النيل بقلوب لا تهاب الموت، وفي مقدمتهم رعمسيس الثالث غير مبالٍ بما كان حوله من الأسهم المتساقطة عليه من كل الأنحاء، وما زالت الحرب سجالًا إلى أن فاز المصريون فوزًا تامًّا، ولهذه المعركة العظيمة رسم منقوش على جانب الحوش الأول من مباني مدينة «أبو» بطيبة.

واستتبت الراحة في ديار مصر بعد ذلك نحو سنتين، ثم عاد الليبيون إلى الثورة ثانية، وضموا إليهم بعضًا من القبائل المجاورة لبلادهم، وأغاروا على مصر من غربيها فقابلهم المصريون بثبات فانتهت الحرب بنصرة المصريين، كل ذلك منقوش في مدينة «أبو» بطيبة أيضًا. فاضطر الليبيون بعد المعركة الثانية إلى رعاية حقوق مصر عليهم فرضخوا لها صاغرين. ثم دخل في ذمة المصريين أيضًا أهل الشام وسكان سيسيليا وغيرهم من الأمم المتعاهدة فأصبحت مصر دولة مهيبة واسعة النطاق، واستعز رعمسيس بالملك. إلا أنه لم ينج من بعض المتاعب الداخلية؛ لأن أخاه أرمانيس كان يسعى فيه بدسيسة يُذهب بها حياته، ولم ينجح، فعلم رعمسيس بذلك فأتى بأخيه ومن شاركه، وبعد تحققه ارتكابهم جازى كلًّا منهم بما فعل، فصفا له الدهر، فجعل يجدد المباني، فبنى في مدينة «أبو» قصرًا كبيرًا نقش على جدرانه ما كان من محارباته، ووسع معبد الكرنك، وأصلح هيكل الأقصر وغيره من مباني الوجه البحري، وكانت التجارة في أيامه رائجة ممتدة الأطراف.

وتلا هذا الملك ملوك آخرون من هذه العائلة يعرفون برعمسيس الرابع والخامس … إلخ، ويقال بالإجمال: إن سطوة مصر أخذت بالسقوط في أيامهم الواحد بعد الآخر إلى أيام رعمسيس الثالث عشر — وهو آخر من ملك من هذه العائلة — فإذا بمصر في أيامه منكسرة الشوكة، محصورة الحدود، يترصدها الأعداء يريدون التهامها، فكانت غنيمة لأحد كهنتها الذي يدعى «حرحور» وهو أول من ملك من العائلة الحادية والعشرين.

(٣-٤) العائلة الحادية والعشرون الطيبية والطينية (حكمت من ١٧٣٢–١٦٠٢ق.ﻫ/١١١٠–٩٨٠ق.م وعدد ملوكها ٤)

أولهم الكاهن «حرحور» اختلس الحكم اختلاسًا من العائلة الرعمسيسية على أسلوب دنيء منقوش على هيكل «خونسو» بطيبة، ثم نفى من بقي من العائلة المذكورة إلى الواحات في وسط الصحراء الكبرى.

وتولى بعده ابنه الكاهن «يعنخي» وليس له ما يذكر به سوى أنه تزوج بابنة ملك الشام.

ثم تولى بعده ابنه الكاهن «بينوزم الأول» وفي سنة ٢٥ من حكمه قامت فتنة بين أهالي الوجه القبلي وأهالي الوجه البحري بسبب نفي العائلة الرعمسيسية، وانتهت باستدعاء أولئك المنفيين من الواحات إلى طيبة.

وفي أيامه أتى النمرود بجيشه من آشور متظاهرًا بالدفاع عن العائلة الرعمسيسية، وإنما كان قصده الاستيلاء على البلاد المصرية فتحققت أماله، وأخذها عنوة، وضمها إلى بلاده، ثم توفي النمرود، ودفنته أمه في العرابة المدفونة، وجعلت لمدفنه المرتبات المعتادة، وتولى بعده ابنه «ششنق» على مصر وآشور، واتخذ مدينة «تانيس» سريرًا لملكه، وسيأتي ذكره في الكلام على العائلة الثانية والعشرين.

(٣-٥) العائلة الثانية والعشرون البسطية (حكمت من ١٦٠٢–١٤٣٢ق.ﻫ/٩٨٠–٨١٠ق.م)

سميت بسطية؛ لأن قاعدة ملكها كانت في تل بسطة بالشرقية قرب الزقازيق، وعدد ملوكها تسعة، ومدة حكمهم ١٧٠ سنة.

أول ملوكها الملك «ششنق الأول» ويدعى في التوراة شيشاق، وهو سامي الأصل ابن النمرود كما تقدم، ولد في مصر ونشأ فيها، ولما استتب له المقام في عاصمته سار إلى العرابة المدفونة لزيارة قبر أبيه فوجد خدمة القبر قد نهبوا ما كان في المعبد من الأمتعة الفضية، فأمر بقتلهم بعد أن سار إلى طيبة واستشار معبودها «أمن رع» بذلك، وأعاد إلى المعبد منهوباته، ورتب للخدمة مرتباتهم. كل ذلك منقوش على حجر في العرابة المدفونة.

ومن أعمال هذا الملك أنه سار إلى فلسطين، ووضع يده على أموال المسجد الأقصى الذي بناه سليمان الحكيم، وعلى أموال القصور الملوكية، وفيها الدروع السليمانية الذهبية المشهورة، ثم سار إلى الإسرائيليين فسلموا له القلاع بغير قتال، وبعد عوده من هذه الغزوة نقش صورته على الجدار القبلي لهيكل الكرنك بالقرب من إيوان البسايطة الذي أسسه هو، وبجانب صورته أسماء المدن التي افتتحها مكتوبة في ست وتسعين منزلة، ورسم صور الملوك الذين أصبحوا تحت حكمه، وفي جملتهم الملك رحبعام بن سليمان مكتوف اليدين وراء ظهره وفي عنقه حبل، وبنى عمارات كثيرة في طيبة بحجارة من جبل السلسلة من أعظمها الإيوان المتقدم ذكره، ولا تزال آثاره باقية إلى هذا العهد قبلي هيكل رعمسيس الثالث، ويُعرف هذا الإيوان عند علماء اللغة الهيروغليفية بإيوان البسايطة، وتوفي بعد أن حكم ٢١ سنة.

fig014
شكل ١-١١: نبات البردي الذي كانوا يصنعون منه البابيروس.

وتولى بعده ابنه «أوسوركون الأول» وليس له آثار تذكر، وخلف هذا ثلاثة ملوك ليس لدينا شيء من أخبارهم. ثم تولى الملك «تاكلوت الثاني» وله لوح حجري في رواق البسايطة بالكرنك منقوش عليه بالقلم الهيروغليفي شيءٌ من سيرته، وفي أيامه ضعفت شوكة مصر فعصتها أعمالها، واستقلت في سلطتها. فأصبحت مصر حقيرة، وقد ذهب نفوذها ولا شيء من العزة والمنعة فيها.

ثم تولى بعد هذا «ششنق الثالث» و«بيمابي» و«ششنق الرابع» وفي عهدهم تجزأت مصر إلى أعمال متفرقة على كل منها حاكم ليبي تحت إدارتهم، فاستبد أولئك الحكام، وتغافل عنهم ملوكهم، فزادوا فجورًا وما زالوا حتى أزالوا سلطة أولئك، وأخذوا الملك من أيديهم، ولقبوا أنفسهم بالفراعنة، ونزل الملوك الأصليون في بسطة، ثم هاجروا منها خوفًا إلى منف، وانتهى الأمر بعد موت ششنق الرابع بخروج الدولة من يدهم إلى ملوك العائلة الثالثة والعشرين.

(٣-٦) العائلة الثالثة والعشرون الطينية (حكمت من سنة ١٤٢٣–١٣٤٣ق.ﻫ/٨١٠–٧٢١ق.م وعدد ملوكها ٥)

قاعدة ملكهم «تانيس» المعروفة الآن بصان في الوجه البحري بمديرية الشرقية، وقد كانت عند أول استيلائهم على الوجه البحري مدينة بسطة، وكانت طيبة في أيدي الأثيوبين فنزعها منهم «بتوباستيس» وهو أول ملوك هذه العائلة، وفي أيام هذه العائلة انقسمت مصر إلى عشرين إقليمًا تحت كل منها أقسام يتولى القسم منها أمير يرجع في معضلات أحكامه إلى مركز الإقليم، وما زال الأمر كذلك حتى ظهرت العائلة الرابعة والعشرون.

(٣-٧) العائلة الرابعة والعشرون الصاوية (حكمت من سنة ١٣٤٣–١٣٣٧ق.ﻫ/٧٢١–٧١٥ق.م وعدد ملوكها ٥)

أولهم «تفنخت» وكان أحد أمراء الأقسام المتقدم ذكرهم. فقويت سطوته شيئًا فشيئًا حتى تمكن من جميع مصر قبليها وبحريها إلا إقليم الشرقية فإنه تركه للعائلة الملوكية السابقة، ولما علم ملك أثيوبيا بما كان جرد إليه جيشًا وحاربه فقهره، ونقش صورة المحاربة على حجر وُجد في جبل برقل، ثم نقل إلى متحف بولاق. فلما دخلت مصر في سلطة ملك أثيوبيا واسمه «يعنخي» جعلها ملحقة ببلاده لكنه أبقى لرؤسائها الامتياز، وجعل «تفنخت» ملكًا عليهم بالأصالة، وبعد يسير مات يعنخي وخلفه آخر لم يكن أهلًا للأحكام، فتحرر المصريون من سلطته فانسحب برجاله إلى بلاده، وفي أثناء ذلك مات تفنخت فتولى بعده ابنه «باكوريس» وكان قوي الإدراك فقيهًا بارعًا فجعل مصر الوسطى والسفلى تحت حكمه إلا أن الدهر لم يدم له؛ لأن الدولة الأثويبية صارت إلى «سباقون» فجاء مصر وافتتحها عنوة وألقى باكوريس حيًّا في النار، وبموته ماتت العائلة الصاوية، وأمست مصر إيالة أثيوبية.

(٣-٨) العائلة الخامسة والعشرون الأثيوبية (حكمت من سنة ١٣٣٧–١٢٨٧ق.ﻫ/٧١٥–٦٦٥ق.م وعدد ملوكها ٤)

أولهم «سباقون» المتقدم ذكره تولى زمام مصر، وجعل لنفسه ألقاب الفراعنة، وأخذ يبث النظام في البلاد، ويحسن سياستها فأبقى كل رئيس على إقليمه مع حفظ نفوذه عليهم جميعًا بمراقبة أمراء أثيوبيين. ثم شاد الجسور، واحتفر الترع حرصًا على البلاد أن يمسها غرق أو شرق، ورمم كثيرًا من المعابد، واستبدل عقوبة القتل بالأشغال الشاقة فاكتسب ثقة المصريين، واشتهر بالرأفة وحسن التدبير.

إلا أن ذلك لم يدم له؛ لأن مملكة آشور كانت في ذلك العهد قد امتدت سطوتها على الفينيقيين والإسرائيليين والفلسطينيين، ورغب هؤلاء في التخلص من نير الآشوريين فأجمعوا على أن يستنصروا «سباقون» في ذلك. فأنفذ هوشع ملك إسرائيل إليه هدايا فاخرة، وسأله التحالف معه على «شلمنصر» ملك الآشوريين فأجابه سباقون إلى طلبه طمعًا منه بالحصول على ما كان لأسلافه من ملوك مصر العظام. فبلغ خبر تلك المعاهدة مسامع شلمنصر فاحتال على هوشع حتى أسره، وفاجأ قومه بالهجوم فظهر عليهم، فاعترفوا له بالسيادة بعد أن قنطوا من مساعدة سباقون. ثم سار «شلمنصر» إلى السامرة وحاصرها، ولكنه مات قبل افتتاحها، وكان آخر أبناء العائلة الملوكية الآشورية، فأقيم مكانه «سرجون» رئيس قواده فاقتدى به وسار على خطواته فأتمَّ فتح السامرة، ثم سار إلى فلسطين، وقتل الملك «يهوبيد» أحد المتحالفين مع سباقون.

fig015
شكل ١-١٢: سرجون ملك آشور بيده الصولجان.

فلما رأى سباقون ذلك خاف على بلاده فتقدم بجنوده إلى الشام لرد «سرجون» بعد أن انضم إليه «حانون» ملك غزة أحد المتحالفين، فالتقيا بجيوش الآشوريين في مدينة رفح، وانتشبت الحرب بين الفريقين فانهزمت الجيوش المصرية والشامية وأخذ «حانون» أسيرًا، ونجا سباقون فضلَّ في الصحراء إلى أن وجد من أهداه إلى طريق مصر. فكانت هذه المحاربة أمثولة له لكي لا يطمع فيما هو عاجز عن نيله، ولم يكن ذلك كله شقاءه فإنه بعد هذه الهزيمة ثار عليه سكان الوجه البحري تحت رئاسة إسطيفانيتس أحد أقرباء الملك «باكوريس» سعيًا في إصلاح شئون البلاد فانهزم سباقون إلى الصعيد، واستقل باكوريس بالوجه البحري، لكنه لم ترسخ قدمه حتى انقسمت حكومته على نفسها، وقام النزاع بين فئتين من طالبي السيادة، وفي أثناء ذلك توفي «سباقون» وخلفه ابنه «سيخون» فاغتنم فرصة الانشقاق وحارب الوجه البحري واستولى عليه، وهذا ما لبث أن ثبتت قدمه حتى قتله «طهراق» وتولى مكانه.

fig016
شكل ١-١٣: إسرحدون يقود طهراق ملك مصر وبعل ملك صور بحيل.

أما «طهراق» هذا فكان رجلًا محاربًا نزع مدينة منف من «إستفانيتس» ثم جاءه إسرحدون ملك آشور فاتحًا ففر طهراق (تهراكا أو ترهاكه) إلى النوبة، واستولى ملك آشور على منف وطيبة ونهب أمتعة هياكلها وقسوسها، وأرسلها إلى بلاده؛ لتحفظ تذكارًا لتلك الغلبة. ثم اشتغل في إصلاح شئون مصر، وأعاد رؤساء الأقاليم كما كانوا كل واحد في إقليمه، وضرب عليهم الجزية، وبعد أن تم له ذلك سار إلى «نينوى» تاركًا بعض جنوده حامية في قلاعه خوفًا من غائلة الأثيوبيين فمر في أثناء الطريق بنهر الكاب قرب مدينة بيروت فنقش على الحجر الذي كان نصبه رعمسيس الثاني نقوشًا كثيرة بين فيها فتكه بالمصريين والأثيوبيين.

وفي سنة ٦٦٩ق.م اغتنم طهراق فرصة مرض إسرحدون، وهاجم المصريين لاسترجاع البلاد إليه، فلما علم أسرحدون بذلك، وعلم بعجزه عن الدفاع تنازل عن الملك لابنه الأكبر «آشوربانبال». فسار هذا إلى مصر، وأخرج منها الأثيوبيين، وأعاد السلطة لرؤساء الأقاليم، وعاد إلى وطنه. فعاد طهراق إلى مشروعه فتحالف مع المصريين سرًّا على أن يعضدوه فيما يريد، فعلم ملك آشور بذلك فقبض على الخائنين من رؤساء الأقاليم، وقادهم إليه أسرى إلا أن ذلك لم يمنع طهراق مما أراد فهجم على مصر، واستولى على منف، وأبطل عبادة الصنم «إبيس» منها.

أما ملك آشور فجعل يقرب منه رؤساء الأقاليم المأسورين عنده استجلابًا لرضاهم وطلبًا لمساعدتهم، فخلع عليهم، وأكثر من إكرامهم، وأرسلهم إلى مصر فأخذوا الوجه البحري ثم القبلي، ثم ما زالت مصر يتناوبها الآشوريون والأثيوبيون حتى انتهى الأمر بإغضاء الآشوريين عن تملكها لما يقتضي ذلك من المشقة، فدخلت في سلطة «نوان ميامون» ملك أثيوبيا بدون كبير مشقة، وترى كيفية استيلائه مكتوبة بالهيروغليف نقشًا على حجر وُجد في أطلال مدينة «نبته» بجبل برقل، وهو محفوظ في المتحف المصري.

(٣-٩) العائلة السادسة والعشرون الصاوية (حكمت من سنة ١٢٨٧–١١٤٩ق.ﻫ/٦٦٥–٥٢٧ق.م وعدد ملوكها ٦)

أولهم «بسامتيك الأول» استولى على الوجه البحري والقبلي حتى الشلال الأول، وكان أجنبيًّا وليس من العصبية الملوكية إلا أنه اقترن بابنة من العائلة الملوكية فاكتسب حق التملك بواسطتها. فتولى الملك ومصر تئن ضعفًا وقنوطًا؛ لما قاسته من الحروب التي توالت عليها أعوامًا بين الآشوريين والأثيوبيين فأخذ في إحياء ربوعها وإعادة رونقها إليها؛ فبنى المعابد في منف، ووجهات معبد فتاح، وفتح فيها طرقات على عمد عديدة، وبنى القاعة الكبيرة التي كانوا يعلفون فيها العجل «إبيس» ورمم ما كان متهدمًا من معبد الكرنك.

وباشر جميع هذه الأعمال دفعة واحدة فأصبحت مصر كأنها معمل عظيم للبناء والترميم، ونشط على الخصوص صناعة الحفر والنقش فبلغت أوجًا رفيعًا. ثم نظر إلى مناعة البلاد فرآها محاطة بأعداء كثيرين أشد بأسًا منها كالآشوريين والأثيوبيين، فأخذ في تحصينها؛ فبنى القلاع والحصون في مضايق طرق الشام من الشرق، وفي ضواحي بركة المنزلة، وفي مدينة دفنة بالقرب من «تسال» لمنع إغارة الآشوريين، وحصن أسوان لدفع الأثيوبيين.

على أنه عمد بعد الاكتفاء بالدفاع إلى الهجوم؛ فهاجم الأثيوبيين وحاربهم فظهر عليهم، ثم سار إلى الشام فاستولى على فلسطين، وأخذ مدينة أشدود من الكنعانيين، ثم عاد إلى بلاده قانعًا بما أوتيه من النصر، وفي أيامه كثر تردد الأجانب إلى مصر — وفيهم اليونان — فكان يكرم مثواهم، ويقطعهم من بلاده على سواحل بحر طينة ما يبتنون فيه معاقل وبيوتًا يقيمون فيها.

أما اليونان فأعجبتهم مصر وطاب لهم المقام فيها فأخذوا يتعلمون علومها وصنائعها، وأعجبتهم الديانة المصرية فاصطنعوا آلهتهم على مثال آلهة المصريين، وأدخلوا أحداثهم المدارس المصرية فنبغوا، وقام بينهم فلاسفة لا نزال نستفيد من تعاليمهم إلى هذا العهد، ومن هؤلاء الفلاسفة: سولون، وفيثاغورس، وأفلاطون … وغيرهم، وقد كان المصريون قبل ذلك العهد ينظرون إلى اليونان نظر الاحتقار، ويجتنبون معاشرتهم، وكانوا يبالغون جدًّا في وجوب الابتعاد عنهم.

أما «بسامتيك» فكان يحبهم ويقربهم منه حتى جعل بطانته منهم، وألف ميمنة جيشة من رجالهم، فأصبحت مصر في قبضة يدهم. فعظم ذلك على المصريين إلى حدٍّ لم يمكنهم معه البقاء في بلادهم، ولم يجدوا سبيلًا لشفاء ما في نفوسهم إلا بالمهاجرة من مواطنهم ومغادرتها لأولئك النزلاء، فاجتمع منهم نحو ٢٤٠ ألفًا، وهموا بالجلاء إلى أثيوبيا، فتبعهم الملك واستعطفهم أن لا يفعلوا فأتوا، فقال لهم: ولمن تغادرون نساءكم وأولادكم؟ قالوا أينما ذهبنا نجد نساءً وأولادًا، وما زالوا حتى دخلوا أثيوبيا فاستقبلهم ملكها وأكرم مثواهم، وأدخلهم في جيشه فتألفت منهم جيوش عرفت بالأسماخ، أي حجاب ميسرة الملك، وسماهم اليونان بعد ذلك «أنو بولس». أما «بسامتيك» فعرف بعد ذلك خطأه فأخذ في إصلاحه، فسعى في حشد الجيوش، ولكن هيهات أن تعود مصر إلى رونقها، وكان هو الجاني على نفسه.

ولما توفي تولى ابنه «نخاو الثاني» فأتم تنظيم الجيوش، وكان ذا نفسٍ أبيةٍ، وهمة عالية، فأنشأ معامل بحرية لتشييد السفن الحربية على نية افتتاح سواحل البحر الأحمر والمتوسط، وجعل رؤساء تلك المعامل من اليونان، ولاح له لإتمام مشروعه أن يوصل البحر الأحمر بالبحر المتوسط، فحفر ترعة امتدادها أربع مراحل، وعرضها يسع سفينتين، أولها مدينة بسطة بقرب الزقازيق، وآخرها بركة التمساح؛ لأن البحر الأحمر كان على مقربة من تلك الجهة، وكان قد سبقه إلى هذا المشروع — حسب قول بعضهم — ملوك العائلة العشرين ففتحوا هذه الترعة لكنها سدت بعد ذلك بالرمال، وسيأتي أمامك كلام مفصل عن تاريخ الوسائل التي اتخذت لإيصال البحرين عند الكلام على ترعة السويس من هذا الكتاب.

ثم سار نخاو بجيش لافتتاح فلسطين، وافتتح معها أكثر البلاد في طريقه إليها، وكانت تحت سلطة الآشوريين، ولما عاد إلى مصر كافأ من كان في عساكره من اليونان.

ثم إن ملك الآشوريين «نبوخذ نصر» أرسل ابنه بختنصر في جيش لاسترجاع فلسطين والشام من المصريين، فسار ولم يبلغ مقصوده حتى بلغه موت أبيه، فعاد إلى بابل مسرعًا بعد أن استرجع الشام، وحاول «نخاو الثاني» بعد ذلك الاستيلاء على بلاد الشام ثانية فلم يستطع.

ثم توفي، وخلفه ابنه «بسامتيك الثاني» وهذا لم تطل أيام حياته، فخلفه «وح أبرع» وهو الذي استنجد به «صدقيا» ملك اليهود على محاربة بختنصر ملك بابل في عصر أرميا النبي، فسارت جيوش مصر وما لبثت حتى عادت منهزمة، فاستولى الآشوريون على اليهود، فالتجأت اليهود إلى مصر فأقطعهم ملكها أرضًا بقرب دفنة فانتشروا في مجدل ومنف، وبعضهم سكن الصعيد.

وبختنصر لما استولى على الشام طمع بمصر، فجاءها مهاجمًا، وقتل ملكها، واستولى عليها، وأقام فيها عاملًا من أمرائه، وعاد إلى بلاده، وساق معه جميع من كان في مصر من العملاء إلا أن هيرودوتس المؤرخ يقول خلاف ذلك.

ثم حكم مصر الملك «أموزيس» وهذا كان في خشية من غارات الفرس على بلاده، ولذلك كان يحاذرهم لقوتهم، على أنه لم ينج من غائلتهم، فسلبوه بعضًا من بلاده، لكنه بالسياسة وحسن التدبير أمن من إغارتهم على كرسي ملكه، فارتاحت مصر في أيامه، فأقام فيها البنايات والمعابد والمسلات، واتسعت التجارة، ولا سيما مع اليونان فإنهم كانوا من البارعين فيها، فزاد عددهم في مصر حتى بلغ ٢٠٠ ألف نفس، فأعطاهم أموزيس أرضًا ابتنوا فيها بيوتًا لهم بالغوا في إتقان بنائها فأصبحت مدينة من أجمل مدن مصر، ثم جعلوا يحصنونها، وبعد يسير سنوا لأنفسهم قانونًا مخصوصًا، وكانت تجارة مصر في أيديهم فاتسعت وباتساعها اتسعت شهرة مصر فطمع الناس فيها، فأتاها الطلاب من كل الجهات بين فلاسفة وتجار وأجناد. ثم رأى «أموزيس» من الحكمة أن يتحالف مع أثينا لعلها تفيده ضد ملك فارس ففعل، وتم التحالف.

وفي أثناء ذلك مات «قورش» ملك فارس فقام ابنه «كمبيز» مكانه، وكانت مطامعه لا تزال قوية في مصر، فأخذ منذ توليته الملك يسعى في هذا السبيل، فاستكشف أنسب طريق يؤدي إلى وادي النيل برًّا، ولزيادة التأمين عقد معاهدات مع القبائل البدوية التي في طريقه؛ ليمدوه بالماء الذي يحتاج إليه رجاله، وبناءً على هذه المعاهدات سارت الجيوش الفارسية، وما زالوا حتى نزلوا أمام طينة، فبلغهم أن «أموزيس» توفي وتولى مكانه «بسامتيك الثالث» وهذا جهز جيوشه وعساكره عند طينة لدفع الفرس، فحصلت موقعة كبيرة، وكان الفرس لشدة مكرهم قد جعلوا أمام جيوشهم عددًا عظيمًا من القطط والبزاة وغيرها من الحيوانات المقدسة عند المصريين، فذهب هؤلاء ولم يجسروا على رمي السهام مخافة أن تصيب تلك الحيوانات المقدسة فلم يكن لديهم إلا الفرار ففروا إلى منف.

فأرسل إليهم «كمبيز» رسلًا في مركب يطلب إليهم التسليم، فخرج المصريون إلى ذلك المركب وكسَّروه إربًا، وقتلوا من كان فيه جميعًا، فاستشاط كمبيز غضبًا وانتقامًا، فسار بجيشه إلى منف وفتحها عنوة، وقبض على بسامتيك وقيده وأهانه وأودعه السجن ومن معه، وكان بسامتيك صبورًا فاحتمل كل ذلك ولم يبد تضجرًا، فعجب كمبيز لصبره، ثم اتفق بينما كان بسامتيك جالسًا في السجن مقيدًا وكمبيز بجانبه؛ إذ مر به أحد ندمائه السالفين مترديًا بثوب خلق، فتأفف بسامتيك وصفع بيده على جبهته متأسفًا، فقال له كمبيز: ما لك تتأسف وتتأفف الآن، وقد احتملت منك إهانة عظيمة، ولم تبد في أثنائها أسفًا؟! فقال: إنما أتأسف على حالة هذا الرجل فإنه كان في عز، وقد أصبح كما ترى، والرجل إذا حلت به المصائب وتجرد من ذات يده وأهين شرفه يحق عليه الأسف، فتأثر كمبيز من ذلك، وأسرع إلى حل قيوده، وأعاد إليه شرفه، إلا أنه رآه بعد ذلك يسعى ضده فأمر بقتله، فانتهت هذه العائلة، وابتدأت العائلة السابعة والعشرون.

(٣-١٠) العائلة السابعة والعشرون (الدولة الفارسية الأولى) (حكمت من سنة ١١٤٩–١٠٢٨ق.ﻫ/٥٢٧–٤٠٦ق.م وعدد ملوكها ٧)

أولهم «كمبيز» المتقدم ذكره، فهذا كان يراعي ميل الوطنيين، فأبقاهم على ما كانوا يعبدون، وأعاد إلى أعيانهم امتيازاتهم وحقوقهم، وتلقى أسرارهم اللاهوتية؛ ليكون له إلمام فيها، وأضاف إلى اسمه ألقابًا فرعونية، وكان لفتح مصر عظيم هيبة وتأثير عند الأمم المجاورة، فسعوا جميعًا إلى كمبيز بالهدايا والجزية، وجعل كمبيز مصر حصنًا يستعين به في فتح إفريقيا. ثم جند لقرطاجنة فلم يفز بها، فعاد وجند إلى واحات سيوى فلم يرجع من رجاله مخبر.

ثم طمع في أثيوبيا، وكانت إذ ذاك على جانب من المنعة والثروة، فأرسل إليها جواسيس معهم الهدايا، فساروا وقدموها إلى ملك أثيوبيا، وكان فطنًا نبيهًا فعرف مقاصدهم لكنه أظهر استحسانًا لهديتهم. ثم قال لهم وفي يده قوس كبيرة: «انظروا إلى هذه القوس» ورمى منها سهمًا، وقال: «خذوا هذه القوس إلى ملككم كمبيز، وأخبروه أن الأنسب أن يأتي هو بمفرده لفصل ما تحدثه به نفسه حقنًا لدم العباد، وهذه القوس قولوا له إني أوترتها وحدي، فإذا استطاع ذلك جاز له شيء مما يكنه ضميره، وإلا فليحمد الآلهة لإغضائنا عن بلاده.»

فلما بلغ كمبيز ذلك أخذت به سورة الغضب فجرد جيشه، وطلب أثيوبيا من أقرب الطرق، فسار في صحراء كروسكو وهو لا يدرس مسافتها فعطش جيشه وجاع حتى أكل بعضهم بعضًا، فاضطر إلى العود وفي نفسه من الغيظ ما كاد يذيبه، فجاء منف وكان أهلها في احتفال سنوي لأحد معبوداتهم فظنهم فرحين لخيبته فأمر بقتل كل الكهنة، وشق صوف العجل «أبيس» وألقاه للكلاب تأكله، ثم سخر بمعبوداتهم، فجعل أحدها فتاح على هيئة قزم زميم الخلق، ونهب جميع ما كان في المدافن القديمة، وزاد فجوره حتى قتل أخته وغيرها ممن هم بريئو الساحة، وهو مشهور بالقسوة والعسف، وبقي على كرسي الملك ثلاثة سنوات، ثم قتله شعبه.

وتولى بعده «دارا» فأخذ يسعى في وسيلة يستجلب بها رضى المصريين، فاتفق موت العجل أبيس في أول حكمه فجاء بنفسه إلى المعبد، وأظهر تأسفه الشديد لذلك، ووعد بمبلغ وافر لمن يأتي بعجل آخر مثله، فأحبه المصريون، واتسعت مملكة الفرس في أيامه كثيرًا، فكان تحتها ٣١ ولاية، وقبل أن يبارح مصر زار معبد فتاح بمنف، وأراد أن يجعل تمثاله بجانب تمثال رعمسيس الثاني فمنعته الكهنة بحجة أنه لم يأت بعد على ما أتاه رعمسيس الأكبر، فقال لهم دارا: «إني أرجو أن أساوي رعمسيس الأكبر إن طال عمري بقدر عمره.» وأذعن دارا لقول الكهنة بكل احترام.

ومن مآثره أنه مهد سبل التجارة فأتم طريق التواصل بين البحرين، كما سترى عند الكلام على ترعة السويس، وفتح طريق قفط للمواصلات برًّا، وطريق أسيوط الممتدة إلى العرابة المدفونة، ومنها إلى أسوان، وأكثر من العساكر للمحافظة على الواحات الكبرى، وكان الفرس القاطنون في مصر مجوسًا متعصبين، فصرح لهم باتباع دينهم على أن لا يستخدموا الكتابة الهيروغليفية على الإطلاق.

ثم ثار اليونان في آسيا فسار بجيش كبير لإقماعهم، فاغتنم المصريون فرصة غيابه وشقوا عصا الطاعة وأنزلوا ولاة «دارا» وعهدوا بالحكم إلى رجل يدعى «خبيش» من سلالة «بسماتيك» فعلم دارا بذلك فهم إليه لكنه توفي قبل إتمام مشروعه، فأقيم ابنه «شيارش» مكانه فجاء مصر واسترجعها عنوة، إلا أنه كان فاتر الهمة فأطلق تدبير الأحكام لولاة يعيثون بها كيف شاءوا، وهكذا كان شأنه في سائر ولاياته، فلم تمض مدة من الزمن حتى تجرد من سائر تلك الإيالات، وقتله من هم حوله، وتولى الملك بعده الملك «أرتحشارشا» فأحب المصريون الخروج من طاعته فاستنجدوا عليه اليونان فأنجدوهم، فحصلت حروب طويلة انتهت بانهزام المصريين، وثبوت قدم الفرس.

وفي سنة ٤٢٥ق.م توفي «أرتحشارشا» وخلفه الملك «شيارش الثاني» ثم «سوغديانوس» ثم «دارا الثاني» وبه انتهت هذه العائلة، وعادت مصر للمصريين.

(٣-١١) العائلة الثامنة والعشرون الصاوية (حكمت من سنة ١٠٢٨–١٠٢١ق.ﻫ/٤٠٦–٣٩٩ق.م)

ليس لهذه العائلة إلا ملك واحد يدعى «أميرتيوس» ولاه المصريون عند تخلصهم من نير الفرس، وحكم مدة سبع سنين كلها إصلاح وترميم.

(٣-١٢) العائلة التاسعة والعشرون الأشمونية (حكمت من سنة ١٠٢١–١٠٠٠ق.ﻫ/٣٩٩–٣٧٨ق.م وعدد ملوكها ٤)

وليس في تاريخها شيء مهم سوى أن الفرس كانوا يهددونها، وقدموا يريدون الاستيلاء عليها، ولم يظفروا.

(٣-١٣) العائلة الثلاثون السمنودية (حكمت من سنة ١٠٠٠–٩٦٢ق.ﻫ/٣٧٨–٣٤٠ق.م وعدد ملوكها ٣)

قضوا مدات حكمهم وهم بين دفاع وحذر من استيلاء الفرس، وحصل بينهما عدة وقائع كانت قيادة الجيوش المصرية فيها بيد قواد من اليونان مجربين، ولم يفز الفرس إلا في الواقعة الأخيرة، وكانت حكومة مصر بيد «نكتانيبس» فانهزم إلى النوبة، وهو آخر من حكم مصر من المصريين الأصليين؛ لأنها خرجت من يده إلى الفرس، ومنهم إلى اليونان، ثم الرومان، ثم العرب، ثم الترك كما سترى.

(٤) العائلة الحادية والثلاثون (الدولة الفارسية الثانية) (حكمت من سنة ٩٦٢–٩٥٤ق.ﻫ/٣٤٠–٣٣٣ق.م وعدد ملوكها ٣)

أولهم الملك «أوخوس» الملقب «بارتحشارشا الثالث» والذي نزع مصر من يد المصريين. مات مسمومًا فجاء ابنه «أرسيس» وحكم سنتين ثم مات، وخلفه أحد أقاربه المدعو الملك «دارا الثالث» وكان يدعى قبل توليته: «كودومانوس» وكان معاصرًا للإسكندر المكدوني الشهير، وفي أيامه جعلت دولة الفرس تتقهقر، وبدا نجم اليونان بالإشراق، فأخذ الإسكندر في فتوحاته، وتوسيع مملكة أبيه؛ ففتح الهند، وفارس، واستولى على مصر بعد موقعة انتهت بانهزام الفرس ودارا الثالث معهم، وقتل كثير من رجاله، ثم قتله أحد نوابه؛ فانتقل بعده حكم مصر إلى اليونان.

fig017
شكل ١-١٤: إسكندر المكدوني.

(٥) العائلة الثانية والثلاثون (الدولة اليونانية) (حكمت من سنة ٩٥٤–٩٤٥ق.ﻫ/٣٣٢–٣٢٣ق.م)

أول ملوكهم وآخرهم «إسكندر المكدوني». تغلب هذا الفاتح العظيم على الفرس، وأخرجهم من مصر، ودخلها عنوة، فمر ببقعة من الأرض على شاطئ البحر المتوسط من حدود مصر فاستحسن موقعها؛ لأنه رآها عبارة عن لسان من اليابسة داخل في البحر، وعلى أحد جانبيه بحيرة مريوط المشهورة، فلاح له أن يبتني فيها مدينة، فبناها على رسم مخصوص رسمه بنفسه، وعهد إتمام العمل إلى المهندس «نيوكراتس» فلما تم بناء المدينة دعاها الإسكندرية، ولا تزال معروفة بهذا الاسم إلى هذا العهد، وفي ٢٤ مايو (أيار) سنة ٣٢٣ قبل المسيح توفي هذا البطل الباسل في بابل وسنه ٣٣ سنة، فنقلت جثته إلى الإسكندرية ودفنت فيها.

(٦) العائلة الثالثة والثلاثون (البطالسة) (حكمت من سنة ٩٤٥–٦٥٢ق.ﻫ/٣٢٣–٣٠ق.م)

(٦-١) بطليموس الأول سوتر (حكم ٣٢٣–٢٨٥ق.م)

لما توفي الإسكندر جاء بطليموس الأول — واسمه سوتر — من بابل ووضع يده على مصر، وجعل يسعى في اكتساب ثقة أهلها، ثم أرسل أحد قواده المدعو «بيكانور» في جيش لافتتاح سوريا، فسار وحارب وفاز، ولم تمض بضع سنين حتى ضم إلى مصر سوريا وقبرص وفينيقية.

ثم شرع في بناء المعابد في الإسكندرية، وأقام على جزيرة فرعون التي يصلها بالإسكندرية برزخ صغير برجًا يبلغ علوه ألف ذراع على قمته نور يستضيء به القادمون بحرًا، وقد هدم هذا البرج الآن ولم يبق له أثر، ومن مآثر هذا الملك مدرسة الإسكندرية الشهيرة، فإنه جمع إليها العلماء والفلاسفة من اليونان وسائر بلاد العلم والصناعة في ذلك العهد، وكان يكرم وفادتهم، ويضعهم في مكانهم من الهيئة الاجتماعية، وأنشأ مكتبة نفيسة طار صيتها في الآفاق.

(٦-٢) بطليموس الثاني فيلادلفوس (٢٨٥–٢٤٧ق.م)

fig018
شكل ١-١٥: فلكي إسكندري يرصد الأفلاك.

وفي السنة التاسعة والثلاثين من حكم سوتر عهد الملك لابنه البكر «فيلادلفوس» وأجلسه على كرسي الملك في حياته سنة ٢٨٥ قبل المسيح، ولقبه ببطليموس الثاني، ثم توفي سنة ٢٨٣ قبل المسيح، فاهتم بطليموس الثاني في توطيد العلاقات مع الدول المعاصرة ولا سيما دولة الروم (الرومانيين) ولم يكن بينهما سابق مخابرات مطلقًا، وليتها لم تحصل؛ لأنها كانت — آخر الأمر — داعيًا لاستيلاء الروم على مصر. ثم عكف هذا الملك على تنشيط العلم وذويه فزاد في مكتبة أبيه فبلغت الإسكندرية في أيامه مبلغًا عظيمًا من العلم والثروة، ولم تعد ترى مثله بعد ذلك الحين. فقد كانت محور التجارة، ومحط رحال العلماء والفلاسفة، وفي أيامه أيضًا ترجمت التوراة الترجمة السبعينية المشهورة.

ومن مآثره: خرائب أنس الوجود عند شلال أسوان، فإنه هو الذي شرع في بناء الهيكل الكبير الذي تشاهد أطلاله هناك إلى هذه الغاية على جزيرة فيلوي تجاه أسوان، ويدعوها العامة أيضًا جزيرة البربة، وهي من الآثار المشهورة، وقد اشتغل في إتمام بناء الهيكل كل من جاء بعد فيلادلفوس من البطالسة.

(٦-٣) بطليموس الثالث إفرجيت (٢٤٧–٢٢٢ق.م)

وكانت مدة حكم فيلادلفوس ٣٨ سنة، ثم توفي وخلفه ابنه «إفرجيت الأول» ولُقِّب ببطليموس الثالث، وكان محبًّا للفتوح؛ فجرد جيوشه إلى آسيا مقتديًا برعمسيس الثاني، فلم يكن حظه منها بأقل من حظه؛ لأنه دوَّخ جميع البلاد التي على الفرات فبابل فالفرس فما وراءها، وضرب الجزية عليها كلها، وأعظم ما سُرَّ به المصريون: أنه استرجع من الفرس جميع ما كان منقولًا إلى بلادهم من تماثيل الآلهة المصرية بأمر كمبيز، ثم غزا أثيوبيا حتى «أبريم».

(٦-٤) بطليموس الرابع فيلوباتر (٢٢٢–٢٠٥ق.م)

وفي سنة ٢٢٢ قبل المسيح توفي «إفرجيت الأول» بعد أن حكم ٢٥ سنة تاركًا الملك لابنه «فيلوباتر» فتولى الأحكام حال وفاة أبيه، ولُقب ببطليموس الرابع، إلا أن المصريين اتهموه بقتل أبيه فكرهوه، وكان فظًّا عاتيًا فزادهم كرهًا، وبعد جلوسه بيسير سار في جيش عظيم لمحاربة أنطيوخس صاحب سوريا فحاربه، فطلب الصلح بأن يرجع له سوريا وفينيقية فقبل فيلوباتر، وبقي هناك بضعة أشهر ثم عاد إلى الإسكندرية. كل ذلك وأخته «أرسينوا» معه لم تفارقه يومًا واحدًا. فأصبحت الإسكندرية بعد ذلك في رغد ورخاء، فعكف فيلوباتر على الملذات فنسي واجباته المقدسة نحو البلاد فكثر اللغط بين الأهلين، وتكررت التظلمات، وليس من يجيب.

وفي ٩ أكتوبر (تشرين الأول) سنة ٢١٢ق.م أو سنة ٨٣٤ قبل الهجرة وضعت أرسينوا غلامًا، ولم يكن من وارثي الملك غيره، فما كان من فيلوباتر إلا أنه قتل أرسينوا بدسيسة بعض ذويه، وفي ٢٩ مارس (آذار) سنة ٢٠٥ قبل المسيح مات فيلوباتر، وأخفى أصحابه خبره حينًا ريثما يتمكنون من سلب أمواله. ثم شاع خبره فأقاموا عوضًا عنه ابنه الوحيد «أبيفان» وهو يطليموس الخامس، ولم يكن له من العمر إلا خمس سنوات فأقيم عليه وصيٌّ من سُراة الدولة.

وفيلوباتر هو المؤسس الأول لهيكل إدفو (فيما بين الأقصر وأسوان) وقد أتم بناءه من جاء بعده من البطالسة، والهيكل المذكور من أوضح الهياكل المصرية؛ لأنه باقٍ برمته إلا أن الرمال قد غطت الجزء السفلي فنرى فيه الأعمدة والرواقات والأبواب مكشوفة كشفًا تامًّا.

فلما رأى أنطيوخس حالة مصر من الارتباك بعد وفاة فيلوباتر عاد إلى ما كان شارعًا فيه ففتح سوريا وفينيقية عنوة، وهمَّ إلى مصر فعرض له شاغل أكثر أهمية، فعقد مع نوَّاب مصر صلحًا على أن يعطي ابنته كليوبطرا زوجة لبطليموس الخامس، وأن يترك له مقابل ذلك البلاد التي فتحها فقبلوا.

(٦-٥) بطليموس الخامس أبيفان (٢٠٥–١٨١ق.م)

وفي ٢٧ مارس سنة ٢٠٥ قبل المسيح أُجلس «أبيفان» على كرسي الملك، وسُلِّم زمام الأحكام، فكتب الكهنة شيئًا عن ذلك نقشًا على حجارة في ثلاث لغات كانت متعارفة في ذلك العهد، وهي الهيروغليفية (القلم المصري القديم)، والديموطقية، واليونانية، وقد وُجد أحد هذه الحجارة في رشيد، وبواسطته توصلوا إلى حل رموز القلم المصري القديم كما مرَّ بك، وفي سنة ١٩٢ زُفت «كليوبطرا» ابنة «أنطيوخس» إلى أبيفان بطليموس الخامس، وفي نحو السنة الثامنة عشرة من حكمه زادت التشكيات والتظلمات لسوء تدبيره وضعفه، وما زال الأهلون يزيدون عليه حنقًا وحقدًا حتى يئسوا من الإصلاح؛ فأماتوه مسمومًا في سنة ١٨١ قبل المسيح.

(٦-٦) بطليموس السادس فيلوماتر (١٨١–١٤٦ق.م)

فتولى مكانه ابنه «فيلوماتر» وهو بطليموس السادس، وله من العمر خمس سنوات، فحكم تحت رعاية أمه كليوبطرا، فأقامت له أوصياء من رجال دولته العقلاء، وفي السنة الحادية عشرة من حكمه انتشبت الحرب بين مصر وسوريا، وما زالت بينهما سجالًا حتى انتهت بانهزام المصريين وأسر ملكهم فيلوماتر، وسار السوريون في مصر برًّا إلى منف، أما الإسكندريون فلما علموا بسقوط منف وأسر ملكهم أقاموا عوضًا عنه أخاه إفرجيت الثاني، وبعد أربع سنوات أُخرج السوريون من مصر بمساعدة الروم، وعادت مصر لحكم البطالسة فعاد فيلوماتر إلى منصبه.

(٦-٧) بطليموس السابع إفرجيت الثاني (١٤٦–١١٧ق.م)

وفي سنة ٧٦٨ قبل الهجرة أو ١٤٦ قبل المسيح توفي فيلوماتر بعد أن حكم ٣٥ سنة، فأقيم على مصر «إفرجيت الثاني» وهو بطليموس السابع، وقد كان الحق في الحكم لابن فيلوماتر إلا أنه كان صغيرًا فقتله عمه وتزوج بأمه فكان الوريث الوحيد، ولم يكن إفرجيت الثاني حسن السياسة؛ فكان يقتل، ويسجن، ويستبد في أحكامه بغير وجه حق، فكرهته الرعية وصاروا يتوقعون له داهية، وبالغوا في اضطهاده إلى حد أنه لم يعد يمكنه البقاء بينهم، ففر من مصر ثم عاد إليها، وما زال حملًا ثقيلًا على عاتق رعيته إلى آخر أيام حكمه، فاهتدى إلى الصراط المستقيم، وأخذ في تنشيط العلم والصناعة حتى إنه كان يمارسها بنفسه، وألف نحوًا من أربعة وعشرين كتابًا معظمها في علم الحيوان.

(٦-٨) بطليموس الثامن والتاسع سوتر الثاني وإسكندر (١١٧–٨٢ق.م)

وفي سنة ٧٣٩ قبل الهجرة أو سنة ١١٧ قبل المسيح توفي إفرجيت الثاني بعد أن حكم ٢٩ سنة، فاستدعت كليوبطرا أولادها، وكان البكر في قبرص فأتى مصر فولته الملك، ودعته «سوتر الثاني»، ويسميه العرب «شوطار» فهو بطليموس الثامن، ثم سعت في إبعاده لغرضٍ في نفسها فأشاعت أنه مضمر قتلها، فثارت الرعية عليه ففر إلى قبرس ثم إلى سوريا، فاستدعت أخاه «إسكندر» وولته الملك فكان بطليموس التاسع، فخاف على نفسه أيضًا، ففضل الاعتزال على أخطار الملك، ففر إلى قبرس، وكان أخوه «سوتر الثاني» في سوريا يستعد للهجوم على مصر، فلما رأت كليوبطرا قرب مجيء الجيوش لمحاربتها أخطرت ابنها إسكندر فعاد من قبرس، وبعد يسير عادت الأمور إلى مجاريها، أما كليوبطرا فكانت رغم كل عاطفة والدية تحاول التخلص من ابنها هذا. أما هو فعلم بما في نفسها وسبقها إلى ذلك فذهب بحياتها، وفرَّ من مصر، فاستدعى أهالي الإسكندرية سوتر الثاني من سوريا؛ ليستلم زمام الأحكام فقدم فرحب به المصريون إلا أهالي طيبة لكنهم ما لبثوا أن أذعنوا.

وفي أيام سوتر هذا كانت مملكة الروم آخذة في الاتساع، ودولتهم بالقوة والثروة، ثم مات سنة ٨٢ قبل المسيح بعد أن حكم في المرة الأولى عشر سنوات، وفي الثانية سبع سنوات ونصف.

(٦-٩) بطليموس العاشر إسكندر الثاني (٨٢–٨٠ق.م)

فتولى مكانه ابنه «إسكندر الثاني» أو بطليموس العاشر، ولم يحدث في أيامه ما يستحق الذكر إلا أن دولة الروم كانت قد استولت على سوريا وسيرينيا وليبيا واليونان، فأصبحت مصر محصورة لا تستطيع حراكًا، وكان إسكندر هذا ساعيًا جهده في إرضاء الرعية لكنهم لم يكونوا يحبونه بل كانوا يرون فيه العسف والظلم، وما زالوا عليه حتى أبعدوه من الإسكندرية، فسار إلى صور فاعتراه مرض اشتد عليه حتى ذهب بحياته.

(٦-١٠) بطليموس الحادي عشر أوليتس (٨٠–٥٢ق.م)

ولم يبق من العائلة الملوكية من يحكم بعد إسكندر، فانتخب الإسكندريون رجلًا منهم يدعى «ديونيسيوس» ولقبوه «بأوليتس» لأنه كان مغرمًا بالفلوت (الآلة الموسيقية المعروفة) ولم يكن يهمه أمر الملك، على أن مصر كانت بغاية الاحتياج إلى الحكمة والتدبير؛ لما كان يهددها من المخاطر، فثار الأهالي عليه في طلب الإصلاح وهو غير قادر عليه، ولم يكن في وسعه إخماد الثورة؛ لأن الجيوش — الذين هم حامية البلاد — كانوا في جملة الثائرين، فترك مصر وفر إلى رومية، وكان له ابنتان الواحدة تدعى «كليوبطرا» والأخرى «برنيس» وبعد بضعة أشهر ماتت الأولى (كليوبطرا) فتولت الثانية مدة سنتين فعلم أوليتس بذلك فعاد إلى مصر وقتل ابنته قصاصًا لها على اختلاسها الملك.

(٦-١١) آخر البطالسة كليوبطرا (٥٢–٣٠ق.م)

وبعد يسير توفي أوليتس فتولت ابنة له ثالثة اسمها أيضًا كليوبطرا، وكانت بالغة رشدها، ولولا ذلك لتولى أخوها ديونيسيوس الثاني، وقد كان لحرسه أن يتولى مكانه إلا أن كليوبطرا جلست على كرسي الملك حالًا ودعت نفسها ملكة، وكانت مدة حكمها ٢٢ سنة، وهي آخر من حكم من الدولة اليونانية في القطر المصري، وكان لهذه الملكة مطامع في السيادة، وقد ملكت رغم مشقات كثيرة كانت تحول بينها وبين ما تريد، ففي أول الأمر نازعها أحد إخوتها ووافقه الأهلون فأخرجوها من مصر، فسارت إلى سوريا، واستنجدت بجيوش الروم فساعدها يوليوس قيصر القائد الروماني الشهير، وأعاد لها الملك، وأغرق أخاها في النيل، فتولت وتزوجت أخاها الآخر. ثم سارت برفقة قيصر إلى رومية وبقيت عنده إلى يوم مقتله سنة ٤٤ق.م، ولما جاء يوليوس قيصر الإسكندرية زار قبر الإسكندر، وكشف عن جثته، ووضع عليها إكليلًا كما ترى في شكل ١-١٦.

وفي سنة ٤٢ قبل المسيح قتلت كليوبطرا أخاها بالسم فخلا لها الجو، ثم اتفق أن «أنطونيوس وأكتافيوس» القائدين الرومانيين كانا في حرب مع «بروتس» فأمدت هذا الأخير بعمارة بحرية، وكانت قبل ذلك قد ولدت ولدًا دعته قيصرون نسبة إلى قيصر والده فكان هو الملك على مصر رسميًّا.

fig5
شكل ١-١٦: يوليوس قيصر أمام جثة الإسكندر.

فلما بلغ أنطونيوس وهو في طرسوس أن كليوبطرا أنجدت بروتس عدوه بالمال والرجال خلافًا للمعاهدة استدعاها إلى طرسوس للمرافعة، فركبت زورقًا جميلًا مزخرفًا؛ جؤجؤه من ذهب، ومجاديفه من فضة، تخرج عند التجديف بها صوتًا موسيقيًّا مطربًا، وكانت كليوبطرا من أجمل النساء؛ فلبست أفخر ما لديها من اللباس الثمين، وجعلت حولها الجواري في أحسن ما يكون من الترتيب والنظام، ونشرت الأرواح العطرية في ذلك الزورق. فلما بلغت طرسوس وشاهدها أنطونيوس شغف بها ولم يعد يخالف لها أمرًا، فأصدر الحكم كما شاءت وشاء الغرام فعادت إلى مصر غانمة.

وبعد يسير زارها أنطونيوس في الإسكندرية فأكرمت مثواه فدعاها ملكة الملوك، ودعا ابنها قيصرون ملك الملوك بدعوى أنه ابن قيصر بحسب الشرع، وكان ذلك سنة ٣٦ قبل المسيح، فزادت كليوبطرا عجبًا على عجب، ولم تعد تكتفي بلقب الملوك فدعوها إيزيس الإلهة الجديدة، وأما أنطونيوس فأنساه الغرام كل واجباته، ولم يعد يعلم أهو نائب القيصر أم هو ملك مصر؟ لأنه أصبح أسيرًا لكليوبطرا وكتب اسمهم بجانب اسمها.

ولما بلغ ذلك المشيخة الرومانية أشهرت الحرب على ملكة مصر سنة ٣٢ق.م فبعثت أوكتافيوس بجيش، وجعلت نقطة المحاربة في «فارنتو» و«برندزي» فلم يقبل أنطونيوس بذلك، وطلب أن تكون الحرب في فرساليا، ثم أعد جيشه وسار في خمسمائة مركب، وسارت معه كليوبطرا في ستين مركبًا، فالتقى الجيشان في أكتيوم باليونان، وأبت كليوبطرا إلا أن تكون الحرب بحرًا.

ثم إنها خشيت أن تعود العاقبة على جيش أنطونيوس، فانسحبت بمراكبها شيئًا فشيئًا، وكان أنطونيوس مهتمًّا بإعداد المهمات الحربية غير مبالٍ بالموت في جانب مرضاة سالبة لبه، ثم التفت إلى مراكبها فإذا هي بعيدة تخترق عباب البحر، فاقتفى أثرها تاركًا رجاله يحاربون ولا يدرون مقره، وما زال حتى أدركها وسار بها إلى مصر.

fig019
شكل ١-١٧: كليوبطرا والثعبان يلدغها.

أما الحرب فانتهت بانكسار جيوش أنطونيوس.

ثم رأت كليوبطرا أن محبها أنطونيوس لا يقوى على حمايتها فالتجأت إلى الجانب الأقوى؛ فأرسلت صولجانها سرًّا إلى أوكتافيوس، وطلبت مساعدته، فوعدها بما تريد بشرط أن تخلص من أنطونيوس، فعمدت إلى الحيلة، فأخفت نفسها وكل أمتعتها، وأشاعت أنها ماتت، فلما علم أنطونيوس بذلك لم يعد يهوى الحياة بعدها. ثم بلغته خيانتها فقتل نفسه.

أما أوكتافيوس فاستلم زمام الإسكندرية، ونوى بكليوبطرا سوءًا، فأوجست هي خيفة منه، وجعلت تستجلبه بما استجلبت غيره من قبله فلم تفز، وفي آخر الأمر قبض عليها، ففضلت الانتحار على أن يقتلها غيرها، فقربت ثعبانًا سامًّا إلى صدرها فلدغها فماتت في ١٥ أغسطس (آب) سنة ٣٠ قبل المسيح، وقال آخرون في كيفية موتها غير ذلك، والله أعلم.

وكانت مدة حكمها ٢٢ سنة، وكان ذلك اليوم آخر حكم اليونان بمصر، وأول حكم الروم فيها.

(٧) العائلة الرابعة والثلاثون (الدولة الرومانية) (حكمت من سنة ٦٥٢–٢٤١ق.ﻫ/٣٠–٣٨١ب.م)

لما ماتت كليوبطرا على ما تقدم دخلت مصر في حوزة دولة الروم، وصارت ولاية من ولاياتهم يتولاها والٍ منهم يحكم بمقتضى شرائعهم.

وهذه الدولة هي آخر دول الدور الجاهلي، وقد توالى على مصر في حوزة بلاد الروم عدة ولاة ليس في سرد أخبارهم ما يستحق الذكر سوى ظهور الديانة المسيحية في العالم، ومجيء بعض نصرائها إلى مصر وما لاقوه فيها من الاضطهادات العنيفة، وأشهر تلك الاضطهادات: اضطهاد ديوقليطيانس فإنه بالغ في مطاردة المسيحيين، وقتل منهم جمعًا غفيرًا بين كهنة وعامّة، ومن تولية هذا الملك (في ١٣ يونيو (حزيران) سنة ٢٨٤ب.م) يبتدئ التاريخ القبطي المعروف بتاريخ الشهداء، وهو المعول عليه عند الطائفة القبطية إلى هذا العهد، وفي سنة ٣٠٦ب.م جعل قسطنطين إمبراطور الروم سرير ملكه في مدينة بيزانس (القسطنطينية) فانحطت سطوة مصر.

fig020
شكل ١-١٨: ثيودوسيوس الأكبر.

وفي سنة ٢٤١ق.ﻫ أو ٣٨١ب.م نهى الإمبراطور «ثيودوسيوس» المصريين عن عبادة الأصنام، وأمرهم باتباع الديانة المسيحية، وإنفاذًا لأمره هذا أسرع في هدم الهياكل، وتنزيل الأنصاب، وإبطال التقاليد التي كان يعتبرها المصريون من ضروريات التدين، وكل ذلك بمساعدة بطريرك الإسكندرية ثيوفيلوس، وهنا ينتهي الدور الجاهلي، ويبتدئ الدور المسيحي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤