الفصل الثالث

الأسرة المحمدية العلوية (من سنة ١٨٠٥ ولا تزال)

fig078
شكل ٣-١: محمد علي باشا مؤسس الأسرة الخديوية بمصر.

(١) محمد علي باشا (من سنة ١٨٠٥–١٨٤٨م)

(١-١) صبوته وشبيبته

انظر إلى خارطة بلاد الروملي في سواحلها الجنوبية على مسافة ٣٢٠ كليومترًا من الأستانة غربًا؛ تَرَ قرية اسمها قواله لا يزيد عدد سكانها على الثمانية آلاف نفس. وكان في تلك القرية في أواسط القرن الماضي رجل اسمه إبراهيم آغا كان متولِّيًا خفارة الطرق، وُلِدَ له سبعة عشر ولدًا لم يعِش منهم إلا واحد. وفي سنة ١٧٧٣ تُوُفِّيَ هذا الرجل وامرأته عن ذلك الولد وسِنُّه أربع سنوات واسمه محمد علي.

فأصبح الغلام يتيمًا ليس له من يعوله إلا عمًّا اسمه طوسون آغا، وكان متسلمًا على قواله، فجاء به إلى بيته شفقة عليه. غير أن المَنِيَّة عاجلت طوسون فقُتِل بأمر الباب العالي بعد ذلك بيسير، فأصبح الغلام يتيمًا قاصرًا وليس من ينظر إليه.

وكان لوالده صديق يعرف بجربتجي براوسطة، فشفق على الغلام وجاء به إليه وعني بتربيته مع أولاده. غير أن ذلك لم يُنسِه حاله من اليُتم فكان يشعر بالذل وضعة النفس. ويُروَى عنه بعد أن ارتقى ذروة المجد، واعتلى منصة الأحكام أنه كان يحدث عما قاساه في صبوته من الذل إلى أن يقول:

وُلِدَ لأبي سبعة عشر ولدًا لم يعِش منهم سواي، فكان يحبني كثيرًا ولا تغفل عينه عن حراستي كيفما توجهت. ثم توفاه الله فأصبحت يتيمًا قاصرًا، وأبدل عزي بذُلٍّ، وكثيرًا ما كنت أسمع عشرائي يكررون هذه العبارة التي لا أنساها عمري، وهي: «ماذا عسى أن يكون مصير هذا الولد التعس بعد أن فقد والديه!» فكنت إذا سمعتهم يقولون ذلك أتغافل عنه، ولكنني أشعر بإحساس غريب يحركني إلى النهوض من تحت هذا الذل. فكنت أجهد نفسي بكل عمل أستطيع معاطاته بهِمَّة غريبة، حتى كان يمر عليَّ أحيانًا يومان ساعيًا لا آكل ولا أنام إلا شيئًا يسيرًا. وفي جملة ما قاسيته أني كنت مسافرًا مرة في مركب فتعاظم النوء حتى كسره، وكنت صغيرًا فتركني رفاقي وحدي وطلعوا إلى جزيرة هناك على قارب كان معنا، فجعلت أجاهد في الماء وسعي، تتقاذفني الأمواج وتستقبلني الصخور حتى تهشَّمت يداي — وكانتا لا تزالان يانعتين — وما زلت حتى أراد الله ووصلت الجزيرة سالمًا، وقد أصبحت هذه الجزيرة الآن قسمًا من مملكتي.

ومما يحكى عنه في أيام صبوته أنه كان يتردد على رجل فرنساوي مقيم في قواله اسمه المسيو ليون، وكان من كبار التجار محبًّا للفضيلة، وحالما رأى محمد علي للمرة الأولى أشفق عليه وأحب مساعدته؛ لما توسم فيه من الفطنة والنباهة فكان يقدم له كثيرًا من حاجياته، ويسعفه بكل ما في وسعه، حتى ألفه محمد علي كثيرًا. وهذا هو سبب وثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر، واستخدمه أفرادًا منهم في مصلحة البلاد. ويقال: إنه — رحمه الله — بعث سنة ١٨٢٠ إلى الموسيو ليون المشار إليه يدعوه إلى مصر يقضي فيها زمنًا في ضيافته، فأجاب دعوته ولكنه مات قبل قدومه، فأسِف عليه محمد علي كثيرًا وبعث إلى شقيقته هدية تساوي عشرة آلاف فرنك.

قلنا: إنه رُبِّيَ في صبوته ببيت جربتجي براوسطة وتعلم في صغره ما يتعلمه أبناء تلك البلاد من ألعاب السيف والجريد والحكم وما شاكل، فنبغ فيها حتى إذا بلغ أشُدَّه انتظم في سلك الجهادية تحت إدارة مربيه، فأظهر في جباية الضرائب مهارة وبسالة عجيبتين، فرقَّاه إلى رتبة بلوك باشي وزوَّجه إحدى أزواج قرابته، وكانت مطلَّقة ولها مال وعقار فترك الجهادية وتعاطى التجارة، وعلى الخصوص في صنف التبغ؛ لأنه أكثر أصناف التجارة في بلاده. وقد برع في تلك التجارة حتى اكتسب شهرة واسعة وثقة عظمى لدى عملائه. وكان قد ذاق لذة التجارة وأحبها مذ كان يتردد على المسيو ليون المتقدم ذكره؛ ولذلك رأيناه بعد أن تولى مصر يوجه انتباهه بنوع خاص لتنشيط التجارة.

وما زال يتعاطى التجارة إلى سنة ١٨٠١ حينما عزم الباب العالي على إخراج الفرنساوية من مصر بمساعدة إنكلترا. فبعثت الحكومة العثمانية إليهم عمارة قوية تحت قيادة حسين قبطان باشا، وفيها قوات إنكليزية وبعثت الصدر الأعظم في حملة من جهة البر كما تقدم.

(١-٢) ارتقاؤه منصة الأحكام

وكان محمد علي في جند القوة البحرية، وقد تجند إليها في جملة من تجند في براوسطة بصفة معاون لعلي آغا بن مربيه على ثلاثمائة جندي ألباني (أرناءوط).

فجاءت العمارة إلى أبي قير، وكانت الغلبة هناك للفرنساويين، ثم عاد علي آغا إلى بلاده تاركًا رجاله تحت قيادة محمد علي، وكان هذا قد ترقى إلى رتبة بيكباشي.

ثم تغلَّب العثمانيون بمساعدة العمارة الإنكليزية وحملة الصدر الأعظم ودخلوا البلاد وأخرجوا الفرنساويين، وجعلوا يهتمون في تأييد سلطة الباب العالي فيها.

وكان في الجنود العثمانية جماعات من الأرناءوط والإنكشارية والغليونجية، فتفرقت هذه الجنود لحماية مصر السفلى وبعض مدن الصعيد. أما الإنكليز فكانوا تحت قيادة الجنرال هتشنسون، فنزلوا الإسكندرية ريثما يُقِيمُون في القطر المصري واليًا عثمانيًّا يؤيد سلطة الباب العالي، ويكبح جماح المماليك الذين كانوا لا يزالون يحاولون الاستقلال.

فأقاموا محمد خسروا باشا المتقدِّم ذكره، وكان في الأصل من مماليك حسين قبطان باشا، وهو الذي سعى له في هذه الولاية. فجاء القاهرة وقاص الذين كانوا فيها من محالفي الفرنساوية. وكان في يده أوامر سرية بإعدام المماليك بأي وسيلة كانت، فبعث إلى محاربتهم وكانوا في الصعيد، فتضايقوا ولم يروا وسيلة إلا الالتجاء إلى فرنسا، فكتبوا إليها يستنجدونها متعهدين بإجراء كل ما تطلبه منه؛ فلم يسعدهم الحظ بمساعدتها.

(أ) محمد علي وخسرو باشا

أما الحملة التي بعثها خسرو باشا إلى الصعيد، فإنها عادت ولم تأتِ بفائدة، ثم حاربهم مرارًا في أماكنَ مختلفة. وفي جملتها واقعة بعث إليها حملة من جنده، وكان محمد علي قد ترقَّى إلى رتبة سرششمة وصار قائدًا لأربعة آلاف من الألبانيين، فأمره أن يسير في رجاله مددًا لتلك الحملة، فسارت الحملة وحاربت المماليك وانكسرت قبل وصول محمد علي ورجاله. فنسب قائدها انكساره إلى تأخُّر محمد علي عن المجيء وأبلغ ذلك لخسرو باشا. وكان هذا حاقدًا على محمد علي، فاستقبل ذلك البلاغ بالصدق وأَقَرَّ على إعدامه سرًّا. وكتب إليه أن يوافيه في منتصف الليل للمخابرة ببعض الشئون، فأدرك محمد علي مراده ولم يُجِبِ الدعوة.

ولم يَرَ وسيلة لنجاته من مكيدته وعدوانه إلا بالالتجاء إلى المماليك، فانحاز إليهم وأخذ في مخابرتهم سرًّا وجهرًا، فتمكنوا بذلك التحالف من إخراج خسرو باشا من القاهرة قهرًا. ففر إلى دمياط وأقاموا مكانه طاهر باشا. ولما قُتِلَ طاهر احتل محمد علي القلعة برجاله، فقام أحمد باشا والي الشرطة إذ ذاك يطلب الولاية، فأخرجه المماليك من القاهرة ذليلًا، ثم اتحد الجميع وساروا لمحاربة خسرو باشا في دمياط، فأسروه وجاءوا به إلى القاهرة وحجروا عليه في القلعة.

أما الباب العالي فلما بلغه ما حصل في مصر بعث إليهم واليًا اسمه علي باشا الجزائرلي، فلم يصل القاهرة إلا بعد شق الأنفس، ولما وصلها عمد إلى الكيد بالمماليك ومحمد علي فعادت العائدة عليه.

(ب) الألفي والبرديسي

وكان الألفي والبرديسي زعيما المماليك يتنازعات السلطة. وكان الألفي قد سار إلى إنكلترا يطلب مساعدتها على رفيقه للاستئثار بالسيادة. فلما عاد من سفرته اغتنم محمد علي تلك الفرصة، وأوغر صدر مناظره البرديسي عليه فنصب له مكيدة لم يقع فيها ولكنه فَرَّ إلى الصعيد. فظن البرديسي أن جو القاهرة قد خلا له، ولكن محمد علي كان له بالمرصاد فحرك الألبانيين عليه، وأوعز إليهم أن يثيروا ويطالبوا بمرتباتهم، فقاموا وهددوا البرديسي بالأذى إذا لم يدفع إليهم المتأخرات. فضرب على أهل القاهرة أموالًا واستبد في تحصيلها بقساوة، فثاروا جميعًا عليه فاضطر إلى مغادرة القاهرة ولم يعُد يرجع إليها. وكل ذلك سنة ١٨٠٤.

فلما فر الأميران لم يبقَ في القاهرة من رجال السلطة إلا محمد علي وقد فرغت حاجته إلى المماليك بعد أن كادَ لهم كيدًا وشتت شملهم، فرأى أن يستعين بالأهلين في نيل ما تَتُوقُ إليه نفسه من المطالب، فجمع إليه العلماء والمشايخ وتفاوضوا في إخلاء سبيل خسرو باشا، فأقروا على ذلك وأن يعود إلى منصبه فأعادوه ولكنه لم يمكُث فيه إلا يومًا واحدًا، ثم أخرجوه من القاهرة إلى رشيد ومنها إلى الأستانة. وكل ذلك بمساعي محمد علي وحسن درايته وإتقان سياسته.

(ﺟ) خورشيد باشا

ثم تظاهر أن الأمور لا تستقيم في مصر إلا بتنصيب والٍ عثماني حر، وأشار بتنصيب خورشيد باشا وكان في الإسكندرية. فوافقه العلماء والمشايخ في ذلك على أن يكون هو نائبًا عنه في الأحكام بصفة قائمقام، وبعثوا إلى الباب العالي يخبرونه بذلك، ويسترحمونه بتثبيت انتخابهم فأجيب طلبهم بفرمان مؤرَّخ في مارس سنة ١٨٠٤ هذا نصه:

إننا كنا صفحنا ورضينا عن الأمراء المصرلية (المماليك) على موجب الشروط التي شرطناها عليهم بشفاعة علي باشا والصدر الأعظم، فخانوا العهود ونقضوا الشروط، وطَغَوْا وبَغَوْا وظلموا، وقتلوا الحُجاج وغدروا علي باشا المولَّى عليهم (يريد علي باشا الجزائرلي) وقتلوه ونهبوا أمواله ومتاعه، فوجهنا عليهم العساكر في ثمانين مركبًا حربية، وكذلك أحمد باشا الجزار بعساكر بَرِّيَّةٍ للانتقام منهم ومن العسكر الموالين لهم، فورد الخبر بقيام العساكر عليهم، ومحاربتهم لهم وقتلهم وإخراجهم، فعند ذلك رضِينا6 عن العسكر لجبرهم ما وقع منهم من الخلل الأول، وصفحنا عنهم صفحًا كليًّا وأطلقنا لهم السفر والإقامة متى شاءوا وأينما أرادوا من غير حرج عليهم، وولَّينا حضرة أحمد باشا خورشيد كامل الديار المصرية؛ لما علمنا فيه من حسن التدبير والسياسة ووفور العقل إلخ.

fig079
شكل ٣-٢: أرناءوط محمد علي.

ثم جرت بعد ذلك وقائع كثيرة بين محمد علي والمماليك في أماكن مختلفة من القطر، فأصبحوا بعد ما قاسوه من الحروب المتواترة مدة سنين على غير ما كانوا عليه من النفوذ قبلًا، وأصبحت قوتهم لا تزيد عن خمسة أو ستة آلاف من الفرسان وكانت ماليتهم آخذة في الانحطاط.

وكانت العساكر مؤلَّفة من الألبانيين (الأرناءوط) وهؤلاء قَضَوْا تحت قيادة محمد علي مدة طويلة وكانوا يحبونه، فشق ذلك على خورشيد باشا وصار يخاف هؤلاء الألبانيين، فاستقدم إليه جندًا من الدلاة (المغاربة)، فوصلوا مصر في أول سنة ١٢٢٠ﻫ. وكان محمد علي يوم وصولهم في جهات الصعيد يحارب المماليك، فبلغه أن أحمد باشا خورشيد استقدم هؤلاء الدلاة يستعين بهم على الأرناءوط، فعاد إلى القاهرة برجاله مُظهِرًا طلب العلوفة، ولولا ذلك لمنعه الدلاة من الدخول إليها. أما خورشيد فأوجس خيفة من قدومه فجعل يراقب حركاته. أما الدلاة فانتشروا في البلاد ينهبون ويقتلون، ويصادرون الناس ويأخذون أموالهم، فاشتكوا إلى خورشيد باشا أولًا وثانيًا وثالثًا، وهو يعِدُهم بكف هؤلاء ثم يُخلِف ولا تزيد الأحوال إلا اضطرابًا، فشق ذلك خصوصًا على علماء البلاد ومشايخها، وكرهوا خورشيد باشا كرهًا شديدًا، وصاروا يتوقعون تلخهم منه وعلم هو بذلك فلم يزدد إلا فجورًا.

(د) الإجماع على تولية محمد علي

وفي ٢ صفر سنة ١٢٢٠ ورد لمحمد علي باشا خط شريف بولاية جدة، فألبسه خورشيد باشا الفروة والقاووق المختصَّيْن بهذه الرتبة، وقد توسم قرب تخلُّصه منه، فخرج محمد علي باشا يريد الذهاب إلى جدة، وفي نفسه أن لا يخرج من مصر، فقامت العساكر وطالبوه بالعلوفة فقال: «هذا هو الباشا طالِبُوه بها.» وسار إلى منزله في الأزبكية — قرب أوتيل شبرد — وهو ينثر الذهب على الناس فازدادوا له حبًّا ولخورشيد باشا كرهًا.

وبعد ثلاثة أيام — لا ندري ما دار في أثنائها بينه وبين علماء البلاد ومشايخها — سار المشايخ والعلماء جميعًا إلى محمد علي في منزله، ينادون بصوت واحد: «لا نقبل خورشيد باشا واليًا علينا.» فقال: «ومن تريدون إذن؟» قالوا: «لا نريد أحدًا سواك.» فامتنع أولًا وجعل يرغبهم في خورشيد ويحملهم على الإذعان والسكنية، وهم لا يزدادون إلا إصرارًا على طلبهم، فوافقهم فأحضروا له الكرك والقفطان وألبسوه إياهما، وبعثوا إلى خورشيد أن ينزل من القلعة فأبى فحاصروه فيها، وكتبوا إلى الباب العالي بذلك فوَرَدَ الفرمان بولاية محمد علي في ١١ ربيع آخر سنة ١٢٢٠ﻫ/٩ يوليو (تموز) ١٨٠٥، وعزل خورشد باشا فخرج هذا من القلعة بأمر من الأستانة، وغادر البلاد وفي نفسه من الغيظ على محمد علي ما ليس وراءه غاية.

(ﻫ) الألفي ومحمد علي

وكان المماليك لا يزالون منتشرين في جهات القطر يحكمون ويستبدُّون، وكان الألفي مقيمًا في الصعيد، وقد التف حوله جمهور من المماليك، وحالما علم بتولية محمد علي باشا نزل بفرسانه طالبًا خَلعه، وتخابر مع خورشيد باشا ليساعده في غرضه، وتعهد أنه إذا فعل ذلك يعيد الأحكام ليده، ويكون بعد ذلك خاضعًا لأوامر الدولة العثمانية ضاربًا بسيفها، هذا إذا كانت تخلع محمد علي باشا. وخابر من الجهة الثانية دولة إنكلترا ووعدها أنها إذا عضدت مشروعه هذا يكون مستعدًّا أن يسلمها أبواب القطر المصري حالًا. فعلم بذلك قنصل فرنسا فعرقل مسعاه، فعكف على مصالحة محمد علي باشا على شيء يرضى به الاثنان، فحصلت المخابرات فلم يتَّفِقا، فعاد الألفي إلى مسعاه ثانية بواسطة سفير إنكلترا في مصر، فطلب هذا إلى الباب العالي بالنيابة عن دولته إرجاع سلطة المماليك إلى البلاد، وتعهَّد بأمانة الألفي وخضوعه لأوامر الدولة. فقبل الباب العالي بذلك فأصدر عفوًا عامًّا عن المماليك باسم أميرهم الكبير الألفي، فوصله في غرة ربيع آخر سنة ١٢٢١ﻫ، وفي ١٤ الشهر المذكور وصل القاهرة خبر قدوم عمارة عثمانية تُقِلُّ موسى باشا مرسلًا من قبل الباب العالي واليًا على مصر، ومعه عدة من العساكر المنظمة على النظام الجديد، وخط شريف إلى محمد علي باشا أن ينتقل إلى ولاية سلانيك، وأن يرجع المماليك المصرية إلى مراكزهم في الإمارات والأحكام.

(و) سعي محمد علي وحزمه

فخاف محمد علي من حبوط المسعى، فأخذ الأمر بالحزم والحكمة فرأى أن أحزاب المشايخ والعلماء جميعها معه، وانضم إليهم بعض المماليك الذين كانوا في الأصل من الجيش الفرنساوي، وظلوا في مصر بعد سفر الحملة لعدم إمكانهم مرافقتها، واعتنقوا الديانة الإسلامية وانضموا إلى المماليك، فاستكتبهم كتابًا إلى الباب العالي يطلبون فيه استبقاء محمد علي باشا، وإرجاع موسى باشا ويبينون الأسباب الموجبة لذلك. فكتبوه وأمضوه وأرسلوا منه نسخة إلى الأستانة، وأخرى إلى قبطان باشا قائد العمارة التي أتت بموسى باشا. فأجابهم القبطان أن ما قدَّموه من الأعذار غير مقبول ولا بد من خروج محمد علي باشا من مصر حالًا. وكان لسفير فرنسا في الأستانة رغبة شديدة في بقاء محمد علي باشا على مصر لِما علم من عزم الألفي على تسليم البلاد للدولة الإنكليزية، فسعى جهده مع قبطان باشا في بقاء محمد علي باشا، وعلم بعد ذلك أن المماليك لم ينفكوا منذ وجودهم في مصر عثرة في سبيل حقوق الدولة، وأنهم منقسمون فيما بينهم لا يتفقون على أمر.

فرأى طلب أهل البلاد أقرب إلى الصواب فكتب إليهم أن يعيدوا طلبهم، وأن يبعثوا الطلب مع ابن محمد علي باشا. فكتبوه وأرسلوه مع ابنه إبراهيم بك على يد قبطان باشا. وفي ٥ شعبان سنة ١٢٢١ برحت العمارة العثمانية الإسكندرية، وعليها قبطان باشا وموسى باشا وإبراهيم بك.

وفي أواخر شعبان/نوفمبر (ت٢) سنة ١٨٠٦م، وردت الأوامر الشاهانية بتثبيت محمد علي باشا على ولاية مصر، مع الإيعاز إليه أن لا يتعرض للمماليك بعد ذلك لصدور العفو عنهم قبلًا. وفي الشهر التالي مات عثمان البرديسي. وفي ١٩ ذي القعدة سنة ١٢٢١ﻫ/يناير (ك٢) سنة ١٨٠٧م تُوُفِّيَ محمد الألفي. وهما زعيما أحزاب المماليك، فولوا عليهم شاهين بك رئيسًا، إلا أنهم مع ذلك لم تَعُدْ تقوم لهم قائمة وقد خلا الجو لمحمد علي باشا.

(ى) مقاومة الإنكليز لمحمد علي

ثم إن الحكومة الإنكليزية اعتبرت تثبيت محمد علي مخلًّا بنفوذها ومضرًّا بمصالحها، فجردت حملة من ثمانية آلاف مقاتل تحت قيادة الجنرال فرازر لإرجاع سلطة المماليك، وكانوا قد تبعثروا في البلاد، فوصل الإنكليز الإسكندرية في ٩ محرم سنة ١٢٢٢ﻫ/١٧ مارس (آذار) سنة ١٨٠٧م مُظهرين حماية القطر من الفرنساوية، فاستولوا على المدينة في ٢١ محرم، وظلوا فيها ستة أشهر لا يستطيعون انتقالًا إلى ما وراءها. وكانوا قد أرسلوا فرقة منهم إلى رشيد فمزقتها سيوف الأرناءوط كل مُمَزَّقٍ، وفي يوم الخميس ٥ جمادى الآخرة سنة ١٢٢٣ﻫ استقال السلطان مصطفى، وسِنُّه ٢٣ سنة، فبويع السلطان محمود بن عبد الحميد (محمود الثاني).

fig080
شكل ٣-٣: السلطان محمود الثاني.

وفي ١٣ رجب سنة ١٢٢٢ﻫ/١٤ سبتمبر (أيلول) سنة ١٨٠٧ انسحبت الجيوش الإنكليزية باتفاق صُلح مع القُطر، فاستتبت القوة لمحمد علي باشا، وقد رضي جلالة السلطان عنه ودخلت الإسكندرية في ولايته. ثم سعى بعضهم في المصالحة بينه وبين المماليك فتمَّت بقدوم شاهين بك إلى مصر بالهدايا الثمينة. فأكرمه محمد علي وبنى له قصرًا نفيسًا لسكناه في الجيزة. ثم تبادلوا الزيارات وكل علائق المودة، وهكذا فعل سائر المماليك.

(١-٣) أعماله الحربية

(أ) الحملة على الوهابيين

فلما رسخت قدم محمد علي باشا في مصر أخذ في تسليم مصالح حكومته إلى من يَثِقُ بهم من ذوي قرباه؛ لأنه كان شديد المحبة لعائلته، ولا شك أن أزره اشتد بهم. ثم استفحل أمر الوهابيين في شبه جزيرة العرب، فأرسل السلطان محمود يعهد إلى محمد علي باشا أمر إخضاعهم وتخليص البلاد من أيديهم.

fig081
شكل ٣-٤: زعيم الوهابيين.

والوهابيون طائفة من المسلمين تذهب إلى إغفال الكتب الدينية الإسلامية إلا القرآن والحديث. زعيمها الأول محمد بن عبد الوهاب وُلِدَ في العيينة من إقليم العارض من نجد سنة ١١٠٦ﻫ/١٦٩٦، وكان أبوه شيخًا فقيهًا، فرُبِّيَ في حجره على المذهب الحنبلي ثم انتقل لإتمام دروسه في البصرة وهَمَّ بزيارة مكة والمدينة وعاد إلى بلده. ثم تزوج في الحريملة بالعارض، وأقام فيها واشتهر بين قومه بالتقوى وصدق التديُّن. وأنحى عليهم باللائمة لتقاعدهم عن الفروض الدينية، وإهمالهم قواعد الدين الأساسية، وبالغ في تعنيفهم حتى تآمر بعضهم على قتله، وتربصوا له في مكمن، فأدرك غرضهم ففر إلى بلده العيينة، وأخذ يجتذب الأحزاب إليه من أهله وأبناء قبيلته بالوعظ والمراسلة والإقناع، فالتف حوله جماعة من الأنصار في بلدته وما يحيط بها من البلاد.

وجاءته امرأة عاهرة تلتمس التوبة على يده فردَّها أولًا وثانيًا. فجاءته ثالثة فاستغرب أمرها وسأل القوم إذا كانت مجنونة فقالوا: إنها في كمال عقلها لكنها شردت عن طريق التقوى وتريد الرجوع إليها. فحكم عليها بالإعدام لأن ضميرها لم يوبخها يوم ارتكبت تلك الرذائل. وعلم بهذا الحكم الجائر أمير الحسا فبعث إلى شيخ العيينة أن يقتل محمد بن عبد الوهاب أو ينفيه. فأمر بإخراجه من بلده على أن يدس له من يقتله.

وبلغ نفيه مسامع بعض أتباعه في الدرعية من إقليم العارض المذكور، وأميرهم يدعى محمد بن سعود، فتقدموا إليه أن يأذن باستقدامه إليهم، فأذن لهم بذلك، فبعثوا إلى شيخ العيينة أن يوجهه إليهم. فبعثه في خفارة فارس أَسَرَّ إليه أن يقتله غيلة في أثناء الطريق. فهَمَّ الفارس أن ينفذ ذلك الأمر مرارًا وهو يؤجله، واتفق أنه هَمَّ بالعمل أخيرًا وهو على مقربة من الوفد الذي أرسله ابن سعود لاستقبال ذلك المنفي. ولم يكد الفارس يطعنه حتى جاء أولئك للدفاع عنه وقد كاد يُقتَل.

فدخل محمد بن عبد الوهاب الدرعية فأحسن ابن سعود وفادته إكرامًا لأتباعه، ووعد بحمايته ممَّنْ يناوئه، وأذن له في نشر تعاليمه. ففعل ونفوذه يزداد وأنصاره يتكاثرون وشهرته تتسع. فأخذ يكاتب مشايخ القبائل يدعوهم إلى نبذ الرذائل والرجوع إلى الكِتاب والسُّنَّة، وأنهم إذا لم يفعلوا حمل عليهم بأهل درعية جهادًا في سبيل الحق. فأذعن له كثيرون وقاومه آخرون، فمن وافقه انتقل إليه في درعية. فتزايد أنصاره فيها وفي غيرها من إقليم العارض، وأكثرهم في العيينة وحريملة ودرعية والعمارية والمنفوحة.

تعاليم الوهابية

وأساس مذهب ابن عبد الوهاب أنه لا يعرف إلا الله ولا يتوسل إلى سواه، وأهم تعاليمه:
  • (١)

    الصلاة خمس مرات في اليوم.

  • (٢)

    الصوم في رمضان.

  • (٣)

    الامتناع عن المسكرات.

  • (٤)

    منع البغاء.

  • (٥)

    منع الميسر والسحر.

  • (٦)

    تفريق جزء من مائة من الأموال زكاة على الفقراء.

  • (٧)

    التشديد في عقاب شهادة الزور.

  • (٨)

    إبطال الربا.

  • (٩)

    الحج مرة على الأقل.

  • (١٠)

    منع التدخين.

  • (١١)

    منع الرجال من لبس الحرير أو التزين لأنه من شأن النساء.

  • (١٢)

    هدم المزارات وقباب الأولياء لأنها من ظواهر الوثنية وتشغل الناس عن مخاطبة الله رأسًا.

هذه خلاصة تعاليم محمد بن عبد الوهاب أخذ ينشرها بالإقناع والموعظة ومحمد بن سعود ينشر معها نفوذه وسلطانه في نجد. فعارضه أهل الرياض من ذلك الإقليم بقيادة أميرهم دهيم بن دواس، وحمل برجاله على المنفوحة فعادوا خائبين. فتشدد ابن سعود وشيخه ابن عبد الوهاب وتمكنا من الثبات في الدعوة. فتزوج ابن سعود ابنة محمد بن عبد الوهاب فولدت عبد العزيز فخلف أباه عند موته سنة ١٧٦٥، وكان الوهابيون قد تكاثروا وصاروا جندًا كبيرًا فحمل بهم على أطراف جزيرة العرب.

وكان عبد العزيز شجاعًا حازمًا شديد البطش مع تقوى وورع، فغدره رجل من فارس بطعنة خنجر وهو يصلي فقتله سنة ١٨٠٣، فخلفه ابنه سعود وكان قد تعوَّد الحرب من صغره، فقاد بعض رجال أبيه وهو لا يزال في الثانية عشرة من عمره. ثم ما زال يقود الجند في الحروب حتى هدَّد الدولة العثمانية في الشام والعراق. وكان جميل الخِلقة عاقلًا حكيمًا، وقد قام في اعتقاد العرب أنه لا يلبث أن ينشر هذا المذهب في العالم كله فحاموا حوله. فخافت الدولة العثمانية بطشه فجنَّدت إليه حملة بقيادة سليمان باشا فقهرها، ثم حمل بعشرين ألف مقاتل على كربلاء وفيها قبور أئمة الشيعة وصاح برجاله: «اقتلوا هؤلاء الكفار الذين يُشرِكون بالله.» فأخذوا في هدم المزارات كلها من قبر الحسين إلى أقل الأبنية. فلم يتركوا حجرًا على حجر، واستولوا على ما كان هناك من التحف والأموال، واستعانوا بها على أمورهم.

وفي السنة التالية فتحوا مكة ودخل سعود الكعبة رسميًّا في ٢٧ أبريل سنة ١٨٠٣ واستولى على ما فيها من التحف، وشدد في نشر تعاليمه هناك. فبطل التدخين وكف الناس عن تعاطي المُسكِرات وعكفوا على الصلوات. وبادر سعود فكتب إلى السلطان سليم الثالث وهو يومئذٍ على العرش العثماني كتابًا هذا معناه:

من سعود إلى سليم: أما بعدُ فقد دخلت مكة في الرابع من المحرم سنة ١٢١٨ﻫ وأمَّنت أهلها على أرواحهم وأموالهم بعد أن هدمت ما هناك من أشباه الوثنية وألغيت الضرائب إلا ما كان منها حقًّا، وثَبَّتُّ القاضي الذي وليته أنت طبقًا للشرع الإسلامي، فعليك أن تمنع والي دمشق ووالي القاهرة من المجيء إلى هذا البلد المقدس بالمحمل والطبول والزمور؛ فإن ذلك ليس من الدين في شيء. وعليك رحمة الله وبركاته.

ولم تمض تلك السنة حتى دخلت المدينة في حوزة الوهابيين وأجرى سعود فيها إصلاحه الديني، فهدم قبة القبر النبوي، ونزع الستائر التي كانت هناك. وأخذ في نشر سياداته على بلاد العرب، فأصبحت حدود مملكته سنة ١٨٠٩ من الشمال صحراء سوريا ومن الجنوب بحر العرب ومن الشرق خليج العجم ومن الغرب البحر الأحمر، وقد استفحل أمرهم ولم يَرَ الباب العالي بُدًّا من تكليف بطل مصر ومُحيِي معالمها رحمه الله.

فأجاب محمد علي مطيعًا، وجعل يجمع القوات اللازمة لتلك الحملة لكنه فكر في أمر المماليك، فخشي إذا سارت الحملة أن لا تكون البلاد في مأمن منهم، فيجمعوا كلمتهم ويعودوا إلى ما كانوا عليه من القلاقل، فعمد إلى إهلاكهم قبل مسير الحملة. لكنه في الوقت نفسه أخذ في إعداد المهمات، فجند أربعة آلاف مقاتل تحت قيادة ابنه طوسون باشا، ثم طلب إلى الباب العالي أن يبعث إلى السويس بالأخشاب لبناء المراكب اللازمة لنقل الجند ومعَدَّات الحرب، فأرسل إليه ما طلب فابتنى ثمانية عشر مركبًا وأعدها عند السويس في انتظار الحملة.

مذبحة المماليك

أما المماليك فكانوا قد يئِسوا من الاستقلال بالأحكام، بعد أن رأوا ما حل بسلفائهم وما عليه محمد علي باشا من العزيمة، فكفوا عن مطامعهم واكتفوا بالتمتع بأرزاقهم وممتلكاتهم في حالة سلمية. فقطن بعضهم الصعيد وبعضهم القاهرة وتشتتوا في أنحاء القطر. وكان شاهين بك — وهو الذي تولى رئاستهم بعد وفاة الألفي — قد أذعن لمحمد علي باشا كما تقدَّم. فأقطعه أرضًا بين الجيزة وبني سويف والفيوم فأوى إليها. وفي محرم سنة ١٢٢٦ﻫ/فبراير (شباط) سنة ١٨١١م سار قُوَّادُ الحملة من القاهرة، وعسكروا في قبة العزب في الصحراء ينتظرون سائر الحملة ومعها طوسون باشا. وتعين يوم الجمعة لوداع طوسون والاحتفال بخروجه ورِجَالِهِ إلى قبة العزب، فأعلن ذلك في المدينة، ودُعِيَ كل الأعيان لحضور ذلك الاحتفال، وفي جملتهم المماليك، وطلب إليهم أن يكونوا بالملابس الرسمية.

ففي يوم الجمعة ٥ صفر سنة ١٢٢٦ﻫ/أول مارس (آذار) سنة ١٨١١م احتشد الناس إلى القلعة، وجاء شاهين بك في رجاله، فاستقبلهم الباشا في قصره بكل ترحاب. ثم قُدِّمَتْ لهم القهوة وغيرها، ولما تكامل الجمع وجاءت الساعة أمر محمد علي بالمسير، فسار الموكب وكُلٌّ في مكانه منه جاعلين المماليك إلى الوراء يكتنفهم الفرسان والمشاة. حتى إذا اقتربوا من باب العزب من أبواب القلعة في مضيق بين هذا الباب والحوش العالي، أمر محمد علي فأُغلِقَت الأبواب وأشار إلى الألبانيين (الأرناءوط)، فهجموا على المماليك بغتة، فانذعر أولئك وحاولوا الفرار تسلُّقًا على الصخور، ولكنهم لم يفوزوا؛ لأن الألبانيين كانوا أكثر تعوُّدًا على تسلقها. واقتحم المشاة المماليك من ورائهم بالرصاص، فطلب هؤلاء الفرار بخيولهم من طرق أخرى، فلم يستطيعوا لصعوبة المسلم على الخيول، ولما ضُويِقَ عليهم ترجَّل بعضهم وفروا سعيًا على أقدامهم والسيوف في أيديهم، فتداركتهم الجنود بالبنادق من الشبابيك فقُتِلَ شاهين بك أمام ديوان صلاح الدين. وحاول بعضهم الالتجاء إلى الحريم أو إلى طوسون باشا بدون فائدة. ثم نودي في المدينة أن كل من يظفر بأحد المماليك في أي محل كان يأتي به إلى كخيا بك، فكانوا يقبضون عليهم ويأتون بهم إليه أفواجًا وهو يقتلهم.

fig158
شكل ٣-٥: أمين بك (المملوك الشارد).
وكان عدد المماليك المدعوين إلى الوليمة أربعمائة، فلم ينجُ منهم إلا اثنان؛ أحدهما: أحمد بك زوج عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير، كان غائبًا بناحية موش. والثاني: أمين بك، أتى القلعة متأخرًا فرأى الموكب سائرًا نحو باب العزب فوقف خارج الباب ينتظر خروج الموكب. ثم لما أُقفِلت الأبواب بغتة وسمع إطلاق النار أدرك المكيدة، فهمز جواده وطلب الصحراء قاصدًا سوريا. والمتناقَل على الألسنة أن أمين بك هذا كان داخل القلعة فعندما حصلت المعركة همَز جواده فوثب به من فوق السور لجهة الميدان فقُتِلَ جواده وسلم هو، وقد صوروا تلك الإشاعة في الرسم (شكل ٣-٥) والأقرب للحقيقة أن هذه الإشاعة مختلقة أو مبالغ فيها. ثم نودي في الأسواق أن شاهين بك زعيم المماليك قُتِلَ فخافت الناس ثم طافت العساكر في المدينة ينهبون بيوت المماليك ويأخذون حريمهم وجواريهم وعلا الصياح.

وفي اليوم التالي نزل الباشا من القلعة وطوسون معه، وطاف المدينة يأمر الناس بإيقاف النهب وقتل كل من حاول ذلك، ولكنه حرَّض على قبض من يظفرون به من المماليك في سائر أنحاء القُطر، فكانوا يأتون بهم أفواجًا يسوقونهم كالغنم إلى الذبح. فبلغ عدد من قُتِلَ من البكوات ٢٣ بيكًا. وفي اليوم التالي نزل طوسون باشا إلى الأسواق في فرقة من الجند لتسكين القلوب وإيقاف النهب. أما الجثث التي كانت في القلعة فاحتفروا لها حفرًا جعلوا فوقها التراب وصرح محمد علي باشا بحماية نساء المماليك ولم يسمح بتزويجهن إلا إلى رجاله.

عود إلى الوهابيين

ولما خلت البلاد من المماليك عكف محمد علي على المهام الأخرى، وأخصها مسألة الوهابيين فكتب إلى غالب شريف مكة يخبره بإعداد حملة تنقذه من الوهابيين، فيفتح طريق الحرمين لجميع المسلمين، وطلب إليه أن يمهد له السبيل. فأجابه شاكرًا ووعد بالمساعدة.

أما سعود أمير الوهابيين فأنبأته الجواسيس بما نواه محمد علي، فأمر فاجتمع حوله خمسة عشر ألفًا ليدفع بهم جنود مصر. أما حملة طوسون فركبت البحر من السويس حتى أَتَتْ ينبُع على الساحل الشرقي من البحر الأحمر، ومنها يتصل إلى المدينة فتملكوا ينبع وساروا منها إلى صفر، وفيها معسكر الوهابيين، وقد تأهبوا للدفاع، فهجم طوسون باشا فتقهقر سعود ورجاله أولًا، ثم ارتدُّوا على الجيوش المصرية فانهزموا وتركوا مؤنهم وذخائرهم وجِمالهم وعادوا إلى ينبع. فعلم محمد علي باشا بذلك فجنَّد جندًا كبيرًا مددًا لابنه، فاشتد أزر طوسون وجمع إليه القوتين، وسار حتى أتى المدينة فأطلق عليها القنابل فهدم بعض السور ثم دخلها وأثخن في حاميتها حتى سلَّمت فكف السيف عنها. فانتشر خبر افتتاح المدينة في سائر الحجاز فخاف الوهابيون وفرِح أعداؤهم ولا سيما الشريف غالب. وقد كان في جدة لا يدري ماذا يكون من أمر تلك الحملة، فلما علم بانتصارها كاد يطير من الفرح.

وأجلى الوهابيون عن مكة خوفًا من أهلها، فجاءها طوسون واحتلها، وكتب إلى أبيه ففرح فرحًا لا مزيد عليه لما آتاه الله من النصر على يد ابنه نصرًا لم يتأتَّ لغيره من القُوَّاد العثمانيين. وجيء إليه بقائد حامية المدينة من الوهابيين، فأرسله في خفر إلى الأستانة فقتلوه حال وصوله إليها. أما من بقي من دعاة الوهابيين فكانوا لا يزالون في أمن خارج مكة تحت قيادة كبيرهم سعود.

فلما جاء صيف سنة ١٨١٣ / سنة ١٢٢٨ﻫ علِموا أن جنود طوسون لا يحتملون حَرَّ تلك البلاد، وأنهم إذا ناهضوهم إذ ذاك ربما تَغَلَّبُوا عليهم، فجندوا وساروا إلى تربة شرقي مكة، فحاربوها واستولَوْا عليها ثم ساروا إلى المدينة وهددوها بعد أن استولوا على كل ما بين هاتين المدينتين من القرى والمدن. فاتَّصل الخبر بمحمد علي فلم ير بُدًّا من ذهابه بنفسه لنصرة الجنود المصرية، وقد أصبحت مصر في مأمن من المماليك وغيرهم، فسار في جُندٍ عظيم حتى أتى جدة فنزلها في ٣٠ شعبان سنة ١٢٢٨ﻫ/٢٨ أغسطس (آب) سنة ١٨١٣م، فلاقاه الشيخ غالب شريف مكة ورحب به. وبعد أن أدى فروض الحج رأى أن الشريف ليس ممَّن يُعوَّل عليهم في الدفاع، فعمد إلى خلعه بطريقة تضمن حقن الدماء ففاز، ثم وضع يده على ممتلكاته، وبعث به وبعائلته إلى القاهرة، ومنها إلى سالونيك فعاش فيها أربع سنوات ومات.

أما الوهابيون فمات قائدهم سعود في درعية في ٢٦ ربيع آخر سنة ١٢٢٩ﻫ/١٧ أبريل (نيسان) سنة ١٨١٤م، فانحطت سطوتهم فأقاموا عليهم ابنه عبد الله، ولم يكُن كفؤًا فحصلت بينه وبين الجنود المصرية مناوشات كثيرة لم تأتِ بنتيجة. وفي ٢٨ محرم سنة ١٢٣٠ﻫ/١٠ يناير (ك٢) سنة ١٨١٥م حصلت معركة كبيرة بين جنود محمد علي والوهابيين تحت قيادة فيصل أخي عبد الله، شفَّت عن انتصار المصريين. فتقدم طوسون إلى نجد إلا أنه اضْطُرَّ أخيرًا إلى التوقف لقلة المؤن وهو لم يبلغ درعية.

ثم اقتضت الأحوال عود محمد علي إلى مصر، فعاد وقد فتح طريق الحرمين ولكنه لم يُبِدْ جميع الوهابيين. فوصل القاهرة في ٤ رجب سنة ١٢٣٠ﻫ، فاهتم بتدريب الجند على نظام جند أوروبا، وهو أول من فعل ذلك في مصر فأصدر أمرًا عاليًا في شعبان سنة ١٢٣٠ﻫ مؤدَّاه أن الجنود المصرية ستدرب على النظام الحديث وهو النظام الفرنساوي، فعظم على الجهادية ولا سيما الأرناءوط الامتثال إلى هذه الأوامر، فرأى أن يدخل هذا النظام أولًا بين الجنود الوطنية؛ لأنهم أقرب إلى الطاعة من هؤلاء الألبانيين، ومن كان من شاكلتهم، وسنعود إلى ذلك.

وفي أثناء ذلك عاد طوسون باشا من الحجاز، فخرج الناس لملاقاته بالاحتفال والإكرام، ثم نزل الإسكندرية حيث كان أبوه مقيمًا فوجد امرأته قد وضعت في أثناء غيابه غلامًا دعته عباسًا. وبعد يسير أُصِيبَ طوسون بأَلَمٍ شديد في رأسه وحُمًّى لم يعش بعدها إلا قليلًا، واختلفت الروايات في أسباب موته وكيفيته ومكانه، ولكنهم اتفقوا أن موته كان شديد الوطأة على أبيه. ونُقِلَتْ جثة طوسون باشا إلى القاهرة، ودفنت قرب مسجد الإمام الشافعي وراء جبل المقطم حيث مدفن العائلة الخديوية اليوم.

وبعد قليل عاد محمد علي إلى رُوعِه فأخذ يهتم في أمر الوهابيين؛ خشية أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فكتب إلى عبد الله بن سعود أن يأتي إليه بالأموال التي استخرجها الوهابيون من الكعبة، وأن يتأهب متى قدم للمسير إلى الأستانة. فأجابه يعتذر عن الشخوص وقال: «إن تلك الأموال قد تفرقت على عهد أبيه.» وأرسل له هدايا فاخرة فأرجع إليه محمد علي تلك الهدايا وأوسعه تهديدًا. ثم جرد إليه حملة عهد قيادتها إلى ابنه إبراهيم باشا، وكان باسلًا مِقدامًا وقائدًا مجرِّبًا لا يهاب الموت، شديد الغضب سريعه، ولكنه كان سليم القلب حر الضمير؛ ولذلك كانت أحكامه عادلة صارمة.

وفي ١٠ شوال سنة ١٢٣١ﻫ سار إبراهيم باشا بحملته من القاهرة في النيل إلى قنا، ومنها في الصحراء إلى القصير على شاطئ البحر الأحمر، ومنها بحرًا إلى ينبع ثم إلى المدينة، وتربَّص هناك بجميع قواته يستعد لهجوم شديد امتثالًا لمشورة أبيه. فْالْتَفَّ حوله عصبة جديدة من القبائل المتحابة، ولما تكاملت قواته أقام الحرب سِجَالًا، وما زال بين هجوم ودفاع حتى فاز، وقبض على زعيم الوهابيين عبد الله فأوصله إلى أبيه، فوصل القاهرة في ١٨ محرم سنة ١٢٣٣ﻫ فأُذِنَ له بالمثول بين يدي الباشا وتقبيل يديه، فرحب به كثيرًا لأنه كان يعجب بشجاعة الوهابيين، ثم سأله ما ظنه بإبراهيم فأجابه قائلًا: «إنه قد قام بما عليه ونحن قمنا بما علينا وهكذا أراد الله.» وفي ٢٠ محرم أُرْسِلَ إلى الأستانة وطافوا به في أسواقها ثلاثة أيام ثم قتلوه. وخَلَعَ السلطان على إبراهيم باشا خلعة شرف مكافأة له وسماه واليًا على مكة. فاتصلت هذه الأخبار بدرعية فخاف أهلها فهدموا المدينة وفروا من وجه الموت، فاحتلتها الجنود الظافرة وانتهى أمر الوهابيين. أما محمد علي باشا فإنه نال من إنعام السلطان لقب خان مكافأة لإخلاصه وبسالته، وهو لقب لم يُمْنَحْ لأحد من وزراء الدولة إلا حاكم القرم.

fig082
شكل ٣-٦: إبراهيم باشا بلباسه العسكري.

(ب) فتح السودان

ولما انتهى هذا الرجل الخطير من حروبه في بلاد العرب، فكر في فتح السودان على أمل أن يلاقي فيها الكنوز الثمينة من مناجم الذهب بجوار البحر الأزرق، ناهيك بما هنالك من المحصولات والواردات العجيبة من الصمغ والريش والعاج والرقيق وغير ذلك. فجنَّد خمسة آلاف من الجند النظامي وبعض العربان وثمانية مدافع، وجعل الجميع تحت قيادة إسماعيل باشا أحد أولاده. فسارت الحملة من القاهرة في شعبان عام ١٢٣٥ﻫ/يونيو (حزيران) ١٨٢٠م في النيل، فقطعت الشلال الأول فالثاني فالثالث حتى السادس، فأتت شندي والمتمة وقد أخضعت كل ما مرت به من القرى والبلدان بدون مقاومة. ومن شندي سارت إلى سنار على البحر الأزرق وراء الخرطوم.

ولم يكن من القبائل التي يعتد بها هناك إلا الشائقية فقاوموا قليلًا ثم سلموا، ودخلت سنار وكوردوفان في أمراك مصر. فسار إسماعيل باشا في جنوده إلى فزغل، وهناك ظن نفسه اكتشف معادن الذهب. ثم فشا في رجاله الوباء فمات منهم كثيرون وأتته نجدة من ثلاثة آلاف رجل بقيادة صهره أحمد بك الدفتردار، فاشتد أزره فأقام صهره هذا على كردوفان وسار في جيش إلى المتمة على البر الغربي من النيل، ثم عدَّى إلى شندي في البر الشرقي لجباية المال وجمع الرجال. فاستدعى إليه ملكها واسمه النمر وقال له: «أريد منك أن تأتي إليَّ قبل خمسة أيام بملء قاربي هذا من الذهب، وألفين من العساكر.» فجعل ذلك الملك يستعطف إسماعيل باشا ليتنازل عن ذلك القدر، فقبل منه أخيرًا عوضًا عن الذهب مبلغ عشرين ألف ريال من الفضة.

فأجابه إلى ما أراد ولكنه لم يكُن يستطيع جمعها في تلك المدة، فطلب إليه تطويل الأجل، فضربه إسماعيل بالشبق (الغليون) على وجهه قائلًا: «لا، إن كنت لا تدفع المال فورًا ليس لك غير الخازوق جزاء.» فسكت الملك النمر وقد أضمر له الشر وصمم على الانتقام، فطيَّب خاطره ووعده بإتمام ما يريد. وفي تلك الليلة جعل يرسل التبن الجاف أحمالًا إلى معسكر إسماعيل علفًا للجمال، ولكنه أقامه حول المعسكر كأنه يريد إشعاله. وفي المساء أتى إلى إسماعيل في سرب من الأهلين ينفخون بالمزمار ويرقصون رقصة خاصة بهم. فطرب إسماعيل وضباطه لذلك، ثم أخذ عدد المتفرجين من الوطنيين يتزايد شيئًا فشيئًا حتى أصبح كل أهل المدينة هناك. فلما تكامل العدد أمرهم ملكهم بالهجوم فجهموا بغتة على إسماعيل ورجاله، ثم داروا بالنيران على التبن فأشعلوه فمات إسماعيل باشا وكثيرون ممَّن كانوا معه بين قتل وحرق. وفي اليوم التالي أتموا على الباقين وساقوا سلبهم إلى المدينة.

فاتصل الخبر بأحمد بك الدفتردار فاشتعل غيظًا، وأقسم أنه لا يقبل أقل من عشرين ألف رأس انتقامًا لإسماعيل، فنزل بجشيه القليل حتى أنفَذ قَسَمَهُ فقتل ذلك العدد من الرجال متفننًا في طرق قتلهم على أساليب مختلفة. فهدأت الأحوال بعد ذلك وهكذا تم افتتاح السودان. وما زال أحمد بك الدفتردار على حكومة سنار وكردوفان إلى عام ١٢٤٠ﻫ/عام ١٨٢٤م ثم أُبْدِلَ برستم بك.

(ﺟ) حرب المورا

وفي عام ١٢٣٩ﻫ أرسل محمد علي باشا بأمر الباب العالي حملةً مصريةً تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا لمحاربة المورا في بلاد اليونان، فسار وحارب، وأظهرت العمارة المصرية في تلك الحروب شجاعة الأبطال، ولولا اتحاد الدول مثنى وثُلاث على الجنود العثمانية والمصرية، لما قامت لليونان قائمة في تلك الحرب، ولكننا نقول إن إبراهيم باشا عاد عَوْدَ الظافرين بعد أن بذل في سبيل ذلك عشرين مليون فرنك وثلاثين ألف مقاتل.

(د) فتح سوريا

ثم كانت حملة إبراهيم باشا على سوريا لافتتاح عكا لأسباب ترجع إلى مطامع محمد علي في توسيع مملكته وإنشاء دولة مستقلة. وأما البواعث الظاهرة لتلك الحملة، فهي أن الأمير بشيرًا الشهابي الكبير أمير لبنان جاء مصر سنة ١٨٢١ يلتمس من محمد علي التوسُّط لدى الباب العالي في العفو عن عبد الله باشا والي عكا؛ لأن الدولة كانت تحب محمد علي باشا وتعد خاطره على أثر ما أوتيه من النصر في حرب الوهابيين بعد أن تعبت هي في قهرهم.

وكان محمد علي باشا إذ ذاك في شاغل من أمر الحرب في المورا، وكانت الدولة قد بعثت إليه أن يُجَنِّدَ جُنْدًا لمحاربتها، فلما جاءه الأمير بشير مستنجدًا طيَّب خاطره ووعده بالمساعدة، وكتب إلى الباب العالي بذلك وأسكن الأمير في بني سويف ريثما يرِد الجواب، وشدد في طلب العفو تشديدًا كبيرًا؛ لأنه كان راغبًا في امتلاك قلب الأمير ولسانه؛ ليكون له عونًا في ما نواه من فتح الشام.

ولبث الأمير في مصر حتى وردت الأوامر بالعفو عن عبد الله باشا فحملها شاكرًا، بعد أن تداول مع محمد علي باشا سرًّا بشئون كثيرة تعود إلى مقاصد الباشا في بر الشام. وسار الأمير من مصر إلى عكا بكل إكرام مصحوبًا بسلاحدار الباشا حاملًا الفرمان بالعفو، فوصلوا عكا فسُرَّ عبد الله باشا بفوزه. ولكن الجنود العثمانية في الشام طلبت النفقات المعينة في مثل هذا الصلح، ولم يكن عند عبد الله باشا نقود، وكان الأمير قد جاء بنحو نصف القدر اللازم من محمد علي، فضرب عبد الله باشا الباقي على المقاطعات وأخذ بعضها من الأمير.

وجرت حوادث كثيرة انتهت بالتباعد بين الأمير وعبد الله باشا. وكان محمد علي لما جاءه الأمير بشير بواسطة العفو عن عبد الله باشا أَسَرَّ إليه عزمه على فتح الشام، وطلب نصرته فوعده سرًّا ولبث ينتظر فرصة أو حجة. وكان يظن أن صنعه الجميل مع عبد الله باشا والأمير يكفي لبلوغ أمانيه، ولكنه رأى من عبد الله باشا اعوجاجًا عن غرضه. والغالب أن عبد الله كان طامعًا بمثل مطامع محمد علي، فلما علم بما نواه هذا صار يحاذره.

fig083
شكل ٣-٧: الأمير بشير الشهابي الكبير.

وأدرك محمد علي ذلك فعزم على اختباره والتعويل على تنفيذ مقاصده بالقوة، فبعث إلى الأمير بشير أن يبعث إليه بجانب من الأخشاب التي يحتاج إليها في بناء المراكب. فباشر الأمير إجابة طلبه فمنعه عبد الله باشا، فشق ذلك على محمد علي واعتبره بظاهر الأمر مخالفًا لأوامر الدولة العثمانية؛ لأن تلك المراكب إنما هي للحكومة السنية، فجرد لمقاصَّته حملة بقيادة ولده إبراهيم باشا.

جرَّد محمد علي باشا عام ١٢٤٧ﻫ/١٨٣١م حملة في البر والبحر، فأرسل البيادة والطبجية عن طريق العريش برًّا، وسار إبراهيم باشا في رجاله بحرًا. أما حملة البر فاستولت على غزة ويافا بغير شديد مقاومة. ثم وصل إبراهيم باشا إلى يافا وسار في جيشه إلى عكا فوصلها في ٢١ جمادى الأولى سنة ١٢٤٧ﻫ، فحاصرها برًّا وبحرًا إلى ٢٦ ذي القعدة منها فهجم عليها هجمة نهائية شفت عن تسليمها. ثم سار قاصدًا دمشق فأخضعها ولم تدافع إلا يسيرًا، وبرحها إلى حمص حيث كانت تنتظره الجنود العثمانية تحت قيادة محمد باشا والي طرابلس، فوصلها في ٨ يوليو (تموز) سنة ١٨٣٢م، وبعد الأخذ والرد استولى إبراهيم باشا على حمص، فخافت سوريا سطوة هذا القائد العظيم فسلمت له حلب وغيرها من مدن سوريا. فتغيَّر وجه المسألة باعتبار الباب العالي فبعث حسين باشا السر عسكر بجيش عثماني لإيقاف إبراهيم باشا عند حَدِّه، فجاء وعسكر في إسكندرونة فلاقاه إبراهيم باشا وحاربه وانتصر عليه، ولم يعُد يلقَى بعد ذلك مقاومة تستحق الذكر. ثم تقدم في آسيا الصغرى تاركًا طورس وراءه، وكان الباب العالي قد أرسل رشيد باشا في جيش لملاقاته، فجنَّد إبراهيم باشا جندًا كبيرًا من البلاد التي افتتحها، وسار نحو الأستانة لملاقاة رشيد باشا، فالتقى الجيشان في ديسمبر (ك١) سنة ١٨٣٢م في قونية جنوبي آسيا الصغرى، فتقهقر رشيد باشا برجاله، واخترق إبراهيم أسيا الصغرى حتى هدد الأستانة.

فتوسطت الدول وفي مقدمتهن الدولة الروسية، فأنفذت إلى مصر البرنس مورافيف لمخاطبة محمد علي باشا بذلك وتهديده، فبعث إلى إبراهيم باشا أن يتوقف عن المسير. ثم عقدت بمساعي الدول معاهدة من مقتضاها أن تكون سوريا قسمًا من مملكة مصر وإبراهيم باشا حاكمًا عليها وجابيًا لخراج أدنه. وقد تم ذلك الوفاق في ٢٤ ذي القعدة سنة ١٢٤٨ / ١٤ مايو (أيار) سنة ١٨٣٣م، وهو المدعو وفاق كوتاهيا. فعاد إبراهيم باشا إلى سوريا، واهتمَّ بتدبير أحكامها وجعل مقامه أولًا في أنطاكية، وابتنى فيها قصرًا وقشلاقات وولى إسماعيل بك على حلب وأحمد منكلي باشا على أدنه وطرسوس، أما الإجراءات العسكرية فلم يكن يُسَوِّغُ لأحد سواه أن يتولاها.

وكان إبراهيم باشا سائرًا بالأحكام بكل دراية وحكمة خشية سوء العقبى، إلا أنه مع ذلك لم ينجُ من ثورة ظهرت في ضواحي السلط والكرك في أواخر سنة ١٢٤٩ﻫ (منتصف عام ١٨٣٤م)، وامتدت إلى أورشليم وبعد الأخذ والرد اضْطُرَّ إبراهيم باشا إلى المحاصرة في أورشليم؛ لأنها ذات أسوار منيعة ثم امتدت الثورة إلى السامرة وجبال نابلس.

وفي ١٦ يونيو (حزيران) منها هجم المسلمون على صفد، وفيها جماهير من اليهود فهدموا منازلهم وقتلوا رجالهم وفتكوا بنسائهم، وأصبحت تلك المدينة في حوزتهم، ثم أجروا مثل هذه التعديات على المسيحيين في الناصرة وبيت لحم وأورشليم، ولكنهم لم يتمكنوا مما تمكنوه بصفد. ويقال بالجملة إن سوريا أصبحت بسبب ذلك شعلة ثوروية، فاتصل الخبر بمحمد علي باشا فبرح الإسكندرية إلى يافا، فتقرب منه وجهاء البلاد وسراتها، ثم عمدت الجيوش المصرية إلى قمع الثائرين، فتشتت العصاة إلا النابلسيين فإنهم قاوموا طويلًا لكنهم أذعنوا أخيرًا. ثم هاجم المصريون السلط والكرك وهدموهما. وبعد قليل عادت الثورة إلى جبال النصيرية، فاعترض أهلها فرقة من الجند كانت سائرة من اللاذقية إلى حلب وأعادوها إلى حيث أتت. فأرسل المصريون سبعة آلاف مقاتل اتحدوا بثمانية آلاف من الدروز والمارونيين بقيادة الأمير خليل بن الأمير بشير أمير لبنان، وسار الجميع إلى النصيرية وأخضعوهم. ثم سعى إبراهيم باشا في تجريد السوريين من السلاح خوفًا من عودهم إلى الثورة، ففعل لكنه لم يستطع تجريد اللبنانيين. وكان الأمير بشير وإبراهيم باشا على وفاق تام كأنهما خُلِقَا ليتحدا.

وبعد أن أتم إبراهيم باشا جمع سلاح السوريين بمساعدة الأمير بشير هجم برجاله على أهالي الشوف والمتن من لبنان، وجمعوا ما استطاعوا من الأسلحة، وحملوا كل ما جمعوه منها إلى عكا، وكانوا يصطنعون منها نعالًا لخيولهم. فاستتبت الراحة في سوريا وأذعنت البلاد. إلا أن محمد علي باشا لم يقف عند هذا الحد فأحب استخدامها لتوسيع دائرة حكمه، فجعل يجمع منها الرجال والخيل بطرق قهرية فغضب الباب العالي فعقد مجلسًا في يناير سنة ١٨٣٩ للنظر في مقاصد المصريين، فأقر المجلس على تجريد حملة من ثمانين ألف مقاتل منهم خمسة وعشرون ألفًا من الباشبوزق طبقًا لإرادة السلطان محمود، وأن تسير تحت قيادة حافظ باشا لمحاربة المصريين.

وكان محمد علي باشا قد سار إلى السودان تاركًا القاهرة بقيادة حفيده عباس باشا. فلما عاد علم بإعدادات الباب العالي فانذعر لها فكتب إلى ابنه يستحثه، فأخذ إبراهيم في الاستعداد للدفاع فحشد جيوشه في حلب لدفع الجنود العثمانية القادمة برًّا. ثم علم أن معظم الأهلين راغبون في دولتهم الأصلية ومستعدون للتسليم، وعلى الخصوص الدروز تحت قيادة شبلي العريان أحد أبطالهم المعدودين. فحصلت مواقع شديدة بين الجيوش العثمانية والجيوش المصرية في تزيب انتهت بانهزام الأولى إلى مرعش. وكان السلطان محمود قد أرسل عمارة بحرية لمحاربة المصريين، فجاءت الإسكندرية فأصابها ما أصاب الحملة البرية، ولكنه تُوُفِّيَ قبل بلوغه خبر تلك الوقائع فخلفه السلطان عبد المجيد سنة ١٨٣٩.

fig084
شكل ٣-٨: نقود السلطان محمود الثاني.

ثم توالت الحوادث إلى ١٥ يوليو (تموز) سنة ١٨٤٠م، فانعقدت معاهدة لندرا تقضي باعتبار محمد علي باشا من تابعي الدولة العثمانية. إلا أن ذلك لم يكن ليُوقِفَه عن مقاصده ولديه إذ ذاك نحو ١٤٦ ألفًا من الجنود النظامية و٢٢ ألفًا من الباشبوزق منها ١٣٠ تحت قيادة ابنه إبراهيم في سوريا، والباقون متفرقون في الحجاز وسنار وكريد ومصر. ولكنه علم بعد ذلك أن هذه القوات قليلة في جانب ما يلزمه لإتمام مشروعه، فجعل يضم إليها تلامذة المدارس حتى استخدم المرضى والجرحى. ثم عمد إلى إنشاء خفر وطني احتياطًا، ولكنه لم ينجح به كل النجاح، على أنه مع ذلك لما عُرِضَتْ عليه معاهدة لندرا لم يُصادِق عليها، فعرض عليه أن يأخذ ولاية عكا ترضيةً له ويضمها إلى مصر وينسحب من سوريا فرفض أيضًا.

(ﻫ) خروج إبراهيم باشا من سوريا

وبعد ذلك بيسير جاءت الجيوش الإنكليزية إلى صيدا وفر إبراهيم إلى الجبل. وكان الكومودور نابيه قد سار في عمارة بحرية إنكليزية لمحاصرة بيروت، وكانت تحت قيادة سليمان باشا الفرنساوي وقد حصَّنها تحصينًا منيعًا ومعه فرقتان من الجند. ولكن لسوء الحظ جاءته الأنباء أن إبراهيم قُتِلَ وتشتت رجاله، فخاف سليمان ورأى أن لا بد له من تأكيد حقيقة ذلك الخبر، حتى إذا تحقق موت إبراهيم يضم إليه ما بقي من الجيوش للمدافعة، فبرح بيروت بعد أن جعل عليها صادق بك أحد أميرالايات الفرقتين. أما هذا فلما رأى نفسه منفردًا في بيروت خاف وترك المدينة وفر، فاستولى عليها الإنكليز، ثم اتصل به من سليمان أن إبراهيم باشا لا يزال حيًّا، ويأمره بالثبات أمام العدو ريثما يحضر. فخاف صادق بك الوقوع في شر أعماله فانضم إلى الإنكليز هو ورجاله. ثم سار نابيه من بيروت إلى عكا وحاصرها، ففر إسماعيل بك ومن فيها من الرجال وسلمت المدينة.

ثم سار نابيه إلى الإسكندرية بست سفن وعرض على محمد علي باشا الصلح فقبل، وعقدوا معاهدة وقَّع عليها الطرفان، ولما أرادوا تثبيتها مانعت الدول في ذلك وبقيت الأمور على حالها حتى دارت المخابرات بين الباب العالي ومحمد علي باشا، فأراد السلطان إرضاء محمد علي فأعطاه أن تكون ولاية مصر وراثية لنسله بشرط أن يكون لجلالة السلطان الحق المطلق أن يختار من عائلة محمد علي من يريد لتوليتها. فتردَّد محمد علي في بادئ الرأي. ثم أمر جيوشه أن تنسحب من سوريا وكان عددها عند ذهابها إليها مائة وثلاثين ألفًا، فلم يرجع منها إلا خمسون ألفًا وقد أخذ التعب منهم مأخذًا عظيمًا، فلم ير بُدًّا من قبول أنعام السلطان. فبعث إلى الباب العالي بذلك فأرسل إليه خطًّا شريفًا بتاريخ ١٣ فبراير سنة ١٨٤١م بتثبيته على مصر مع حقوق الوراثة لأعقابه، وأن يكون لجلالة السلطان أن يختار منهم من يريد لهذا المنصب هذا نصه:

فرمان ولاية محمد علي على مصر

رأينا بسرور ما عرضتموه من البراهين على خضوعكم، وتأكيد أمانتكم وصدق عبوديتكم لذاتنا الشاهانية ولمصلحة بابنا العالي. فطول اختباركم وما لكم من الدراية بأحوال البلاد المسلمة إدارتها لكم من مدة مديدة لا يتركان لنا ريبًا بأنكم قادرون بما تُبدُونه من الغيرة والحكمة في إدارة شئون ولايتكم على الحصول من لَدُنَّا الشاهاني على حقوق جديدة من تعطُّفاتنا الملوكية وثقتنا بكم. فتقدرون في الوقت نفسه إحساناتنا إليكم قدرها، وتجتهدون ببث هذه المزايا التي امتزتم بها في أولادكم. وبمناسبة ذلك صممنا على تثبيتكم في الحكومة المصرية المبينة حدودُها في الخريطة المرسومة لكم من لَدُنْ صدرنا الأعظم، ومنحناكم فضلًا عن ذلك ولاية مصر بطريق التوارث بالشروط الآتي بيانها: متى خلا منصب الولاية المصرية تعهد الولاية إلى من تنتخبه سُدَّتُنَا الملوكية من أولادكم الذكور، وتجري هذه الطريقة نفسها بحق أولاده وهلم جرًّا. وإذا انقرضت ذريتكم الذكور لا يكون لأولاد نساء عائلتكم الذكور حق أيًّا كان في الولاية وإرثها. ومن وقع عليه من أولادكم الانتخاب لولاية مصر بالإرث بعدكم يجب عليه الحضور إلى الأستانة لتقليده الولاية المذكورة. على أن حق التوارث الممنوح لوالي مصر لا يمنحه رتبةً ولا لقبًا أعلى من رتبة سائر الوزراء ولقبهم، ولا حقًّا في التقدُّم عليهم، بل يعامل بذات معاملة زملائه. وجميع أحكام خطنا الشريف الهمايوني الصادر عن كلخانة وكافة القوانين الإدارية الجاري العمل بها أو تلك التي سيجرى العمل بموجبها في ممالكنا العثمانية، وجميع العهود المعقودة أو التي ستُعقد في مستقبل الأيام بين الباب العالي والدول المتحابَّة يتبع الإجراء على مقتضاها جميعها في ولاية مصر أيضًا. وكل ما هو مفروض على المصريين من الأموال والضرائب يجري تحصيله باسمنا الملوكي. ولكيلا يكون أهالي مصر وهم من بعض رعايا بابنا العالي مُعَرَّضِين للمَضَارِّ والأموال والضرائب غير القانونية، يجب أن تنظم تلك الأموال والضرائب المذكورة بما يوافق حالة ترتيبها في سائر المماليك العثمانية وربع الإيرادات الناتجة من الرسوم الجمركية، ومن باقي الضرائب التي تتحصل في الديار المصرية يتحصل بتمامه ولا يخصم منه شيء، ويؤدَّى إلى خزينة بابنا العالي العامرة والثلاث الأرباع الباقية تبقى لولايتكم لتقوم بنفقات التحصيل والإدارة المدنية والجهادية، وبنفقات الوالي وبأثمان الغلال الملزَمة مصر بتقديمها سنويًّا إلى البلاد المقدسة مكة والمدينة. ويبقى هذا الخراج مستمرًّا دفعه من الحكومة المصرية بطريقة تأديته المشروحة مدة خمس سنوات، تبتدي من عام ١٢٥٧ﻫ — أي من يوم ١٢ فبراير سنة ١٨٤١ — ومن الممكن ترتيب حالة أخرى بشأنهم في مستقبل الأيام تكون أكثر موافقة لحالة مصر المستقبلة ونوع الظروف التي ربما تَجِدُّ عليها. ولما كان من واجبات بابنا العالي الوقوف على مقدار الإيرادات السنوية، والطرق المستعملة في تحصيل العشور وباقي الضرائب، وكان الوقوف على هذه الأحوال يستلزم تعيين لجنة مراقبة وملاحظة في تلك الولاية، فينظر في ذلك فيما بعدُ ويجري ما يوافق إرادتنا السلطانية. ولما كان من اللزوم أن يعين بابنا العالي ترتيبًا لسك النقود لما في ذلك من الأهمية، بحيث لا يعود يحدث فيها خلاف لا من جهة العيار ولا من جهة القيمة، اقتضت إرادتي السَّنِيَّة أن تكون النقود الذهبية والفِضِّيَّة الجائز لحكومة مصر، ضربها باسمنا الشاهاني معادلة للنقود المضروبة في ضربخاناتنا العامرة بالأستانة، سواء كان من قبيل عيارها أو من قبيل هيئتها وطرزها.

ويكفي أن يكون لمصر في أوقات السلم ثمانية عشر ألف نفر من الجند للمحافظة في داخلية مصر، ولا يجوز أن تتعدى ولايتكم هذا العدد. ولكن حيث إن قوات مصر العسكرية مُعَدَّةً لخدمة الباب العالي كسائر قوات المملكة العثمانية، فيسوغ أن يزاد هذا العدد في زمن الحرب بما يرى موافقًا في ذلك الحين. على أنه بحسب القاعدة الجديدة المُتَّبَعة في كافة ممالكنا بشأن الخدمة العسكرية، بعد أن تخدم الجند مدة خمس سنوات يُستَبدلون بسواهم من العساكر الجديدة. فهذه القاعدة يجب اتِّباعها أيضًا في مصر بحيث ينتخب من العساكر الجديدة الموجودة في الخدمة حالًا عشرون ألف رجل ليبتدئوا الخدمة، فيحفظ منها ثمانية عشر ألفًا في مصر، وترسل الألفان لها لأداء مدة خدمتهم. وحيث إن خُمس العشرين ألف رجل واجبٌ استبدالهم سنويًّا، فيؤخذ سنويًّا من مصر أربعة آلاف رجل حسب القاعدة المقررة من نظام العسكرية، حيث سحب القرعة بشرط أن تُستعمل في ذلك مواجب الإنسانية والنزاهة والسرعة اللازمة، فيبقى في مصر ثلاثة آلاف وستمائة من الجنود الجديدة والأربعمائة يُرسَلُون إلى هنا، ومن أتم مدة خدمته من الجنود المرسلة إلى هذا الطرف ومن الجنود الباقية في مصر يرجعون إلى مساكنهم، ولا يسوغ طلبهم للخدمة مرة ثانية. ومع كون مناخ مصر ربما يستلزم أقمشة خلاف الأقمشة المستعملة لملبوسات العساكر، فلا بأس من ذلك فقط يجب أن لا تختلف هيئة الملابس والعلامات التمييزية ورايات الجنود المصرية عن مثلها من ملابس ورايات باقي الجنود العثمانية. وكذا ملابس الضابطات وعلامات امتيازهم، وملابس الملاحين وعساكر البحرية المصرية ورايات سفنها، يجب أن تكون مماثلة لملابس ورايات وعلامات رجالنا وسفننا. وللحكومة المصرية أن تعين ضباطًا برية وبحرية حتى رتبة الملازم، أما ما كان أعلى من هذه الرتبة فالتعيين إليها راجع لإرادتنا الشاهانية. ولا يسوغ لوالي مصر أن ينشئ من الآن فصاعدًا سفنًا حربية إلا بإذننا الخصوصي. وحيث إن الامتياز المُعطى بوراثة ولاية مصر خاضع للشروط الموضَّحة أعلاه، ففي عدم تنفيذ أحد هذه الشروط موجِب لإبطال هذا الامتياز وإلغائه للحال. وبناء على ذلك قد أصدرنا خطنا هذا الشريف الملوكي؛ كي تقدروا أنتم وأولادكم قدر إحساننا الشاهاني فتعتنوا كل الاعتناء بإتمام الشروط المقررة فيه، وتحملوا أهالي مصر من كل فعل إكراهي، وتكفلوا أمنيتهم وسعادتهم مع التحذر من مخالفة أوامرنا الملوكية، وإخبار بابنا العالي عن كل المسائل المهمة المتعلقة بالبلاد المعهودة ولايتها لكم. ا.ﻫ.

فرمان ولايته على السودان

ثم صدر فرمان آخر يُثَبِّتُ ولايته على النوبة ودارفور وكردوفان وسنار هذا نصه:

إن سُدَّتَنَا الملوكية كما توضح في فرماننا السلطاني السابق قد ثبتتكم على ولاية مصر بطريق التوارُث بشروط معلومة وحدود معينة. وقد قلدتكم فضلًا عن ولاية مصر ولاية مقاطعات النوبة والدارفور وكوردوفان وجميع توابعها وملحقاتها الخارجة عن حدود مصر، ولكن بغير حق التوارث. فبقوة الاختبار والحكمة التي امتزتم بهما تقومون بإدارة هاته المقاطعات وترتيب شئونها بما يوافق عدالتنا، وتوفير الأسباب الآيِلَة لسعادة الأهلين وترسلون في كل سنة قائمة إلى بابنا العالي حاوية بيان الإيرادات السنوية جميعها. وحيث إنه يحدث من وقت لآخر أن تهجم الجنود على قرايا المقاطعات المذكورة، فيأسرون الفتيان من ذكور وإناث، ويبقونهم في قبضة يديهم لقاء رواتبهم، وحيث إن هذه الأمور مما تفضي معها الحال ليس فقط لانقراض أهالي تلك البلاد وخرابها، بل إنها أمور مخالفة للشريعة الحقة المقدسة، وكلا هاتين الحالتين ليست أقل فظاعة من أمر آخر كثير الوقوع وهو تشويه الرجال ليقوموا بحراسة الحريم، ذلك ممَّا ليس ينطبق على إرادتنا السنية مع مناقضته كل المناقضة لمبادئ العدل والإنسانية المنتشرة من يوم جلوسنا المأنوس على عرش السلطنة السنية. فعليكم مداركة هذه الأمور بما ينبغي من الاعتناء لمنع حدوثها في المستقبل، ولا يبرح عن بالكم أن فيما عدا بعض أشخاص توجَّهوا إلى مصر على أسطولنا الملوكي قد عفوتُ عن جميع الضابطات والعساكر، وسائر المأمورين الموجودين في مصر. نعم بموجب فرماننا السلطاني السابق أن تسمية الضابطان المصرية لما فوق رتبة المعاون تستلزم العرض عنها لأعتابنا الملوكية إلا أنه لا بأس من إرسال بيان بأسماء من رقَّيتم من ضباط جنودكم إلى بابنا العالي؛ كي ترسل لهم الفرمانات المؤذنة بتثبيتهم في رتبهم، هذا ما نطقت به إرادتنا السامية، فعليكم الإسراع في الإجراء على مقتضاها. ا.ﻫ.

فأصبحت حكومته بعد ذينك الفرمانين محصورة في مصر والسودان. وبمقتضى ذلك تنازل محمد علي باشا عن عشرة آلاف من جنود سوريا، فلم يبقَ عنده إلا ثمانية عشر ألفًا بين مشاة وفرسان وغيرهم. فاضطر إذ ذاك إلى الاقتصاد لإصلاح مالية البلاد، فأوقف كثيرًا من المدارس العمومية التي كان قد خصص مبالغ معلومة للنفقة، ومن ضمنها مدرسة شبرا الزراعية وأبدل الأساتذة الأوروباويين لما بَقِيَ من المدارس بأساتذة أتراك أو وطنيين، وسار من ذلك الحين في خطة الإصلاح قانعًا بما قسم له من البلدان فعمل على إرضاء جلالة السلطان، فأنفذ إلى جلالته ابنه سعيد باشا لتقديم فروض العبودية.

(١-٤) أواخر أيامه

ثم أُصِيبَ إبراهيم باشا بانحراف في صحته، فسار إلى أوروبا لقضاء فصل الصيف سنة ١٨٤٥ فأصاب ترحابًا عظيمًا في سائر الممالك الأوروبية ولا سيما في فرنسا وإنكلترا، وعاد إلى مصر في أواخر صيف عام ١٨٤٦م وكان والده قد توجه قبل وصوله بيسير إلى الأستانة بدعوة رسمية ليقدم عبوديته لجلالة السلطان فوصلها في ١٩ يوليو (تموز) عام ١٨٤٦م، ونزل في سراي رضا باشا، ثم تَشَرَّفَ بالمثول بين يدي جلالة السلطان فرحب به. ولما أراد تقبيل الأعتاب الشاهانية أمسكه جلالته وأجلسه بجانبه ومكثا ساعة يتحادثان. ثم انصرف شاكرًا وزار عدوَّه القديم خسرو باشا وتصافَيَا. وفي ١٧ أغسطس من تلك السنة برح الأستانة قاصدًا قواله مسقط رأسه فأقام فيها عدة أبنية لتعليم الفقراء وإعانة الضعفاء والمساكين، ثم برحها إلى الإسكندرية فقوبل بالأنوار وسار منها إلى القاهرة، فتقاطر إليه المهنئون من الأصدقاء أفواجًا، فكان يستقبلهم وعلى صدره الطغراء الشاهانية تتلألأ كالشمس.

وفي منتصف عام ١٨٤٨ توعَّك مزاج محمد علي باشا، وازدادت فيه ظواهر الخَرَف فلم يعد ثَمَّ بُدٌّ من تولية إبراهيم باشا، فتوجه هذا إلى إلى الأستانة في أغسطس من تلك السنة؛ لأجل تثبيته على ولاية مصر خلفًا لأبيه، فثبته السلطان بنفسه فعاد لمعاطاة الأحكام. ثم راجعه العياء واشتد عليه بغتة، ففارق هذا العالم في ١٠ نوفمبر عام ١٨٤٨م، وبعد وفاته بإحدى عشرة ساعة دُفِنَ في مدفن العائلة الخديوية بجوار الإمام الشافعي بالقاهرة.

وكان عباس باشا غائبًا في مكة فاستُقدِم حالًا لاستلام زمام الأحكام، فوصل القاهرة في ٢٤ ديسبمر بعد أن قضى فروض الحج، ولم يكن ثَمَّ اعتراض على توليته فجاء الفرمان الشاهاني من الأستانة مؤذِنًا بذلك فتولى الأمور.

كل ذلك ومحمد علي باشا في الإسكندرية، وقد أخذ منه المرض مأخذًا عظيمًا، وما زال يهزل جسدًا وعقلًا إلى ٢ أغسطس عام ١٨٤٩م، فتوفي ولم يستغرب الناس وفاته؛ لأنه مكث في حالة النزاع مدة طويلة. وفي ٣ منه تقاطر الناس من الأعيان والقناصل إلى سراي رأس التين في الإسكندرية لحضور مشهد ذلك الرجل العظيم. فإذا هو في قاعة الاستقبال في تابوت تُغَطِّيهِ شيلان الكشمير، وعلى صدره سيفه والقرآن الكريم، وعلى رأسه طربوشه الجهادي أحمر تونسي، وحوله العلماء في الملابس الرسمية يتلون القرآن بأنغام التجويد. وكان سعيد باشا أكبر من وُجِدَ في الإسكندرية من عائلة الفقيد، فكانت توجه نحوه خطابات التعزية. ونُقِلَتْ جثة الفقيد ودُفِنَتْ في جامعه في القلعة ولا تزال هناك إلى الآن.

(١-٥) إصلاحاته

استولى محمد علي على مصر وهي في معظم الخراب والفساد سياسيًّا وتجاريًّا وزراعيًّا وأدبيًّا، فأخذ على نفسه إصلاح شئونها وبذل في ذلك من الجهد والعناية ما ليس وراءه غاية، وقد فاز بما أراد فأحيا الديار المصرية وأنعشها وأنماها من سائر الوجوه حتى أصبحت تُجارِي ممالك أوروبا؛ ولذلك لقبه كتاب عصره بموجد الديار المصرية يريدون أنه أوجدها من العدم، وهذه أهم إصلاحاته:

(أ) الإصلاح الإداري

وأول شيء باشره من الإصلاح مسح الأرضين والانتفاع بزرعها وتوزيعها. وتفصيل ذلك أن الديار المصرية كانت منقسمة من حيث ملكها إلى قسمين؛ أحدهما: الأرضون التي كادَ يكون لواضع اليد عليها الحق في ملكها ملكًا مطلقًا، وكانت معفاة من الضرائب. والقسم الثاني: التي لم يكن لزارعها إلا حق التمتع بريعها، وهي الأرض التي كان عليها الضريبة الخَرَاجية. أما نفس العقار في هذين القسمين فكان ملك بيت المال أو الحكومة أو السلطان.

هذا كان شأن الأرضين المصرية قبل الفتح العثماني وبعده إلى القرن السابع عشر، حينما استأثر الأمراء المماليك بالقوة والسلطة، واختل نظام الأرضين، وصار الناس يُهاجِرون، فأهملت الأشغال العمومية، وقل ريع الأرض فأصبحت الحكومة في عجز كُلِّيٍّ عن استحصال النقود فالتجأت إلى تلزيم الخراج؛ وذلك أن الحكام كانوا يضمنون خراج النواحي والبلاد لأناس، وكان ذلك الضمان أو الالتزام يُقَرَّرُ إما بالمزايدة أو بالاتفاق بين الملتزم من جهة والرزنامة بالنيابة عن الحكومة من جهة أخرى. حتى إذا تم الأمر أعطت الرزنامة للملتزم تقسيطًا؛ أي عقد تلزيم يصدق عليه شيخ البلد وهو كبير أمراء المماليك.

فإذا دفع الملتزم الضريبة يُعطَى له حق التصرف في تحصيل المال الذي عجله، وعلى فوائده التي كان يقرر سعرها هو بنفسه كما يريد. وكانت الحكومة تتعهد بمساعدته في التحصيل، وتجعل له في مقابل ما ينفقه ويكابده في ذلك التحصيل بِقَاعًا غير التي التزمها معفاة من كل ضريبة تعرف بالأواسي. أما الفلاحون فلم يكونوا يملكون أرضًا قط، على أن الملتزمين أنفسهم كانت تُنزع منهم الالتزامات إذا تصدى لهم من كان أكثر صَولَةً منهم وأشد بطشًا. ولا يخفى ما كان ينجم عن هذا التصرُّف من الاختلال وضياع الحقوق والأتعاب.

فلما استقام الأمر لمحمد علي باشا أمر بمسح كل أرض مصر المزروعة، ثم قسمها إلى مديريات والمديريات إلى مراكز أو أقسام، وهذه إلى نواحٍ، وعيَّن فيها من يقوم بإدارة أمورها وآخرين لجباية الضرائب، وأبطل الالتزامات جملة ووزَّع أرض كل ناحية بين أهل تلك الناحية نفسها بحيث يصيب كل فلاح قادر على الشغل جانبًا من الأرض بقدر جانب الآخر، فبلغ نصيب كل فلاح ثلاثة أفدنة وبعضهم أربعة أو خمسة، وجعل لمشايخ البلاد جانبًا من الأرض أعفاه من الضريبة في مقابل نفقات ضيافة جُباة الأموال الأميرية الذين كانوا يمرُّون في بلادهم، وما كانت الحكومة تكلفهم به من المَهام، ودعا تلك العطايا مسموح المشايخ، أو مسموح المبسطة، وهي تقابل الأواسي المتقدم ذكرها.

ثم رأى — رحمه الله — أن الفلاح لا يستطيع من نفسه أمرًا يكفُل إخراجه مما هو فيه من الضيق الذي تراكم عليه بمرور الأجيال، وكان قد انتهى من أعماله الحربية ولم يعُد ثَمَّ حاجة إلى بقاء ضباط الجهادية منقطعين إلى وظائفهم العسكرية مع رواتبهم جارية عليهم في حالة السلم، وأن ليس من التدبير والحكمة أن يتناولوا معيناتهم وهم عطل من الأعمال. ورأى من الجهة الثانية أن الفلاح يحتاج إلى مرشد يهديه إلى الطرق اللازمة لاستقامة أمره، ووازع يدفعه إلى النهوض بواجباته. وعلم أيضًا أن المرء مهما كان صادقًا في خدمة الحكومة يشتغل لنفسه أكثر مما يشتغل لغيره، فارتأى أن يعهد بأمر البلاد من حيث الزراعة إلى أولئك الضباط، ففوَّض إليهم تعميرها وإصلاحها بأنفسهم، ولم يحرم الفلاح مع ذلك من ثمرة أتعابه، بل جعل لهذه الطريقة التي اعتمدها أصولًا وقوانين تقضي بأن لا تُعطَى الأطيان للمتعهد ما دامت رائجة ومقتدرة على أداء ما عليها من الأموال في أوقاتها. أما الأطيان غير الرائجة فتحال إلى عُهدته باختيار أربابها وهو يتعهد بأداء المال المطلوب للحكومة، وبهذه الواسطة نشطت الزراعة وتحسَّنت تحسُّنًا عظيمًا، وما زالت تلك الأرضين في يد المتعهدين إلى أيام المغفور له عباس باشا وهو الذي استردها.

مساحة الأرض الزراعية في أيامه

كانت الأرض الزراعية في عهد المماليك لا تزيد على مليون فدان وبعض المليون، فلما تولى محمد علي مسحها سنة ١٨١٣ وأعطاها إلى الفلاحين كما تقدَّم، وأخذت مساحة ما يزرع منها يزداد حتى بلغت سنة ١٨٢١ نحو مليوني فدان متفرقة في المديريات على هذه الصورة، نقلًا عن فيلكس منجن في كتابه المنشور سنة ١٨٢٣:

محافظة فدان
الجملة ١٩٥٦٨٤٠
منوف ١٩٤١٥٠
غربية ٢٢٥٩٦٠
البحيرة ١٠٠٧٩٢
الشرقية ١٦١٢٠٤
المنصورة (الدقهلية) ١٥٥٨٦٠
القليوبية ٨٠٠٠٠
الجيزة ٨٥٩٠٠
الفيوم ٧٠٢٠٠
الأطفيحية ٥٥٠٠٠
بني سويف ١٦٦٤٦٠
المنيا ١٤٨٣٤٠
أسيوط ١٧٨٥٨٤
جرجا ١٩٠٤٠٠
إسنا ١٤٣٩٩٠

ثم أخذت مساحة الأرض الزراعية تتسع تدريجًا بالأسباب التي اتخذها محمد علي من تحريض الناس على الزراعة وتسهيل الري، حتى بلغ ما احتفره من الترع نحو أربعين ترعة بين كبيرة وصغيرة مجموع مكعبها جميعًا ١٠٤٣٦٦٦٦٧ مترًا مكعبًا، ناهيك بما بذله من العناية في إنشاء الجسور والقناطر والسدود وغيرها. فلا عجب إذا بلغت مساحة الأطيان المزروعة التي كانت تأخذ عليها الحكومة الأموال حوالي سنة ١٨٤٠ ضعفَيْ ما كانت عليه قبل بضع عشرة سنة، وإليك تفصيل ذلك عن كتاب الدكتور كلوت بك:

محافظة فدان
الجملة ٣٧٩١٢٢٦
منوف ٣٠٠٠٠٠
الغربية ٤٥٠٠٠٠
البحيرة ٢٤٥٠٠٠
الشرقية ٣٦٠٠٠٠
المنصورة ٣٢٠٠٠٠
القليوبية ٢٩٠٠٠٠
الجيزة ٢٥٤٠٠٠
الفيوم ١٢٤٠٠٠
بني مزار ١٤٨٢٠٠
بني سويف ١٣٩٤٠٠
المنيا ١٥٢٨٠٠
الفشن ١٦١٠٠٠
أسيوط وجرجا وإسنا ٨٤٦٨٢٦

وبمقابلة مساحة أطيان كل مديرية على حِدَة بين ما كانت عليه سنة ١٨٢١، وما صارت إليه سنة ١٨٤٠ يتضح لك مقدار ذلك النجاح.

ومن أعماله الإدارية إنشاء الدواوين ومنها ديوان المعاونة، وفائدته النظر في ما يُعرض من الدواوين الأخرى والمديريات وسائر الجهات. ثم الديوان الخديوي، وكان يقوم بإشغال ديوانَي الداخلية والخارجية والضابطة. ثم ديوان الأشغال وديوان المبيعات وديوان الفردة، ثم أنشأ بعد ذلك ديوان الخارجية خاصة وديوان العسكرية، ثم الخزانة المالية وما يتعلق بها وديوان الأوقاف وديوان المعامل وديوان التفتيش والحقانية والترسخانة والأبنية وديوان المدارس. وجميع ذلك أو معظمه عهد بإدارة أعماله إلى مديرين ورؤساء من أبناء هذا القطر، وكلها ترجع بأحاكمها إلى ديوان المعاونة.

ثم أنشأ مجالس للقضاء وما يقتضي لها من القوانين والأحكام، ورتب البريد يُحمل على يد السعاة برًّا وبالسفن بحرًا. وأنشأ ما يقوم مقام التلغراف الآن من الإشارات بواسطة أبنية مرتفعة ممتدة على خط واحد بين المدن الكبيرة بين البناء والآخر مسافة تكفي لفَهم الإشارة لا يزال بعضها منها قائمًا أثرًا لهمة ذلك الرجل.

وأنشأ لتأييد السلم وتوطيد الأمن فرقة الضابطة، وفرقهم في أنحاء البلاد فأمِن الناس غائلات السبل ولا سيما الأوروبيون فإنهم كانوا يقاسون في أثناء تجوالهم في القطر إهانات ومشاقَّ جسيمة، فأصبحت السبل في مأمن وتسهَّلت الصلات التجارية على الخصوص بين إنكلترا والهند على طريق البحر الأحمر، فاستعاضوا بها عن طريق رأي الرجاء الصالح في أمور كثيرة.

(ب) الإصلاح الزراعي

ولم تقِف إصلاحاته عند هذا الحد، ولكنه رأى خصب التربة المصرية وإمكان استخدامها لغير أنواع المزروعات المعروفة بمصر، فجاء إليها بالقطن البذار (التقاوي) الأميركي، وجاء بنبات النيلة من جهات الهند وبنبات الأفيون من آسيا الصغرى. وجاء بغير ذلك من أنواع المغروسات المفيدة، وجاء بأناس عالِمين بكيفية زراعتها واستغلالها. وأكثر من غرس الحدائق والأشجار في القاهرة وضواحيها تلطيفًا لحرارة الهواء واستزادة للغيث، من جملة ذلك مغارس الليمون في شبرا، والحدائق في الروضة وحديقة الأزبكية، فقد كان في مكانها قبل أيامه بركة كبيرة يتصل إليها الماء من النيل أيام فيضانه، وكان الناس يأتون إليها في المواسم والأعياد في قوارب عليها الأنوار وسائر الزخارف، فاحتفر محمد علي حولها ترعة ينصرف إليها الماء فظهرت أرض البركة، فجعل حول هذه الترعة صفوفًا من الأشجار تحيط ببقعة كلها غرس طيب. أما الحديقة التي نراها الآن فهي من آثار الخديوي الأسبق إسماعيل باشا.

fig085
شكل ٣-٩: القناطر الخيرية.
fig086
شكل ٣-١٠: لينان باشا مهندس القناطر الخيرية.

ومن آثاره الزراعية السدود التي أقامها في أبي قير وترعة الفرعونية وأشتوم الديبة وأشتوم الجميل وغيرها. وأنشأ كثيرًا من الجسور والترع ونظر في تطهيرها، وأنشأ الترع الصيفية لإنماء الزراعة الصيفية، وأبدل الخول بالمهندسين في أعمال الري، وبعث كثيرًا من أبناء البلاد إلى أوروبا لدرس فن الزراعة وإتقانه؛ ليخدموا بلادهم به.

ومن مشروعاته الخطيرة من هذا القبيل القناطر الخيرية القائمة عند رأس الدلتا، والسبب في بنائها أنه رأى النيل لما يصل إلى رأس الدلتا ينفصل إلى فرعين هما فرعا رشيد ودمياط أو الفرع الغربي والشرقي، ورأى أن الغربي أكبرهما ويمر في بقاع معظمُها لا يصلح للزراعة، فيذهب كثير من مائه هدرًا، والشرقي يخترق أرضين واسعة الأرجاء حسنة التربة، فإذا كانت أيام التحاريق لا يبقى من مائه ما يكفي للري، فأراد اتخاذ وسيلة ينتفع بها بما يزيد من ماء الفرع الغربي بإضافته إلى الشرقي. ورأى الصعيد في زمن التحاريق يشح فيه الماء لارتفاع أرضه، وقد لا يرتوي جيدًا إلا في زمن الفيضان فأقر على بناء القناطر على عرض الفرعين عند أول تفرعهما عند رأس الدلتا، وأن يجعل لهذه القناطر أبوابًا من الحديد تُغلَق وتُفتَح عند الاقتضاء، فإذا أقفل قناطر هذا الفرع انصرف جانب من الماء المنحدر إليه إلى الفرع الآخر، فيستطيع صرف المياه كيف شاء، وإذا كان الفيضان قليلًا يقفل قناطر الفرعين جملة، فيرتفع الماء في الصعيد فيروي أرضيه، ثم لا ينصرف منه إلا ما يلزم لري الوجه البحري فإذا كانت أيام التحاريق تفتح القناطر، فتفيض المياه والأرض في حاجة إليها.

فباشر هذا العمل الخطير ولم يضع الحجر الأول منه إلا عام ١٢٥١ﻫ/١٨٣٥م، ولم ينثنِ عن عزمه حتى أتم بناءه بدراية لينان بك المهندس الفرنساوي. غير أن ذلك المشروع لم يأتِ بالفائدة المطلوبة تمامًا بما يتعلق بارتفاع الماء في الصعيد، ولكن الحكومة جعلت همها في السنين الأخيرة إصلاح ما هو فاسد منها وسد ما فيه من الخلل.

(ﺟ) الإصلاح العسكري

كانت القوة العسكرية في مصر لمَّا تولاها محمد علي أخلاطًا من الألبانيين (الأرناءوط) والدلاة (المغاربة) والإنكشارية، ومن جرى مجراهم ونظامهم الحربي النظام القديم الذي كان مُتَّبَعًا في الأزمنة السالفة عند الدولة العلية قبل القرن الماضي. فرأى — رحمه الله — أن يدربهم على النظام الفرنساوي الذي اتبعه بونابرت في غزواته وأخذته عنه دول أوروبا. فحاول ذلك مرارًا فعظُم على رجاله ولا سيما الأرناءوط وعَصَوْا أوامره فيه؛ لأنهم اعتبروا ذلك بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ولما أَلَحَّ عليهم ثاروا وتجمهروا إلى القلعة يطلبون الرفق بهم، فرأى من الدراية والحزم أن يعاملهم بالحسنى، فأجابهم إلى ما أرادوا، وأخذ يدخل ذلك النظام رويدًا رويدًا بالحيلة، فانتخب فتيانًا كان قد قَبَضَ عليهم في جملة ما قبضه من أموال المماليك الذين ذبحهم، وكان قد جَعَلَ أولئك الفتيان من حُرَّاسِه واستبقى صغارهم في القلعة يتربَّوْن فيها على جاري العادة من تربية الغلمان المماليك في ذلك العهد استعدادًا للخدمة العسكرية أو غيرها. فكانوا يُحَفِّظُونَهُم القرآن ويُعَلِّمُونَهُم الخط واللغة التركية والرياضة البدنية.

فلما عزم على تنظيم الجند انتخب أكبر أولئك المماليك، وأرسلهم إلى الصعيد يتعلمون النظام العسكري الحديث على أساتذة من الإفرنج. وعلم أن هؤلاء التلاميذ لا يلبثون أن يصيروا جندًا فتفرغ أماكنهم من تلك المدرسة، فأنشأ في قصر العيني بمصر القديمة سنة ١٨٢٥ مدرسة إعدادية سماها المدرسة التجهيزية الحربية، أدخل فيها نحو ٥٠٠ غلام بعضهم من صغار المماليك، والبعض الآخر من أبناء الأتراك والأكراد والألبانيين والأرمن واليونان وغيرهم ممن كانوا في خدمته وليس فيهم وطني. فكانوا يُعَلِّمُونَهُم القرآن والنحو وآداب اللغة التركية والفارسية والعربية. وأما لغة التعليم فهي التركية. ونظرًا لأنهم ينوون إدخالهم المدرسة الحربية فكانوا يُعَلِّمُونَهُم مبادئ الحساب والهندسة والجبر والرسم واللغة الإيطالية؛ لأن أكثر أساتذة المدرسة الحربية كانوا يومئذٍ من الإيطاليين.

واستبطأ محمد علي ثِمَار هذه المدرسة لرغبته في سرعة تنظيم الجند، فأوفد جماعة من أولئك المماليك إلى ليفورن وميلان وفلورنسا ورومية لدرس الحركات العسكرية وبناء السفن والطباعة والهندسة وغيرها من الفنون الحربية. أشار عليه بذلك الأساتذة الإيطاليان. ثم أرسل غلمانًا آخرين إلى إنكلترا لدرس الميكانيكيات، وسلك الأبحر، ونواميس السائلات. ولما تحقق فوزه بتنظيم الجند أحس بحاجته إلى مدرسة طبية تُخرج الأطباء لمعالجة الجند، فأنشأها سنة ١٨٢٥ واختار تلامذتها من الوطنيين أبناء الأرياف أو تلامذة الأزهر خلافًا للمدرستين التجهيزية والحربية وسيأتي ذكرها.

وتعجيلًا لثمار سعيه في إعداد الجند المنظَّم وأطبائه أوفد سنة ١٨٢٦ أربعين من تلامذة المدرستين التجهيزية والطبية إلى فرنسا لإتقان الفنون الحربية والطب والإدارة الملكية والعسكرية، وغير ذلك ممَّا يحتاج إليه في إدارة حكومته، ويفتقر فيه إلى استخدام الإفرنج؛ لاقتصار الوطنيين إلى ذلك الحين على درس العلوم الأزهرية، وهي يومئذٍ قاصرة على العلوم الدينية واللسانية. وأنشأ مدرسة للطبجية وجعل في القاهرة معامل لسكب المدافع، واصطناع سائر حاجيات الجند.

والفضل في تدريب الجند على النظام الجديد راجع لقائد من قُوَّاد الفرنساويين اسمه الجنرال «سيف»، ولكنه أسلم ودَعَا نفسه سليمان باشا، وقد خدم الحكومة المصرية خدمات صادقة في حروبها ببر الشام وغيرها.

fig087
شكل ٣-١١: سليمان باشا الفرنساوي.

وأصله من ليون في فرنسا، ولد سنة ١٧٨٧، وسُمِّيَ يوسف سيف، وكان أبوه متوسط الحال يتعاطى الصناعة، فلما بلغ يوسف أشُده أراد والده أن يستعين به في أعماله، ولكن الغلام كان يشعر بأنه أرفع من ذلك المكان فضلًا عن ميله الفطري إلى التنقُّل، فلم يستطع المواظبة، فشق ذلك على أبيه فتوعده إذا لم يثابر على العمل بأن يدخله في سلك الملاحة عقابًا له، فكان ذلك موجِبًا لسروره، فأدخله في مهنة البحرية سنة ١٧٩٩، وهو لم يُتِمَّ السنة الثالثة عشرة من عمره، فأعجبه جوب البحار وركوب الأخطار في سفن كانت إلى ذلك العهد تسير بلا بخار. حتى كانت حروب ترافلغار سنة ١٨٠٥ بين الأسطول الإنكليزي بقيادة الأميرال نلسون الشهير والأساطيل المتحدة لدول فرنسا وإسبانيا تحت قيادة الأميرال فيلينوف وأميرالين إسبانيين. وكان الفوز للإنكليز، لكن صاحب الترجمة أظهر على صغر سنه أعمالًا تدل على استعداده للشئون الحربية. وكان المُنتَظَر أن ينال في مقابل ذلك مكافأة تستحق الذكر، فاتفق أنه تخاصَم وأحد رؤسائه، وكان سيف عنيفًا خشِنًا فجرتهما المعاتبة إلى المضاربة فبدا الضابط فضرب سيف ضربة جرحته، فلم يستطع صبرًا على ذلك فهَمَّ بالضابط وما زال يضربه حتى قيل: كفى! فقُبِضَ عليه فحوكم فحكم عليه بالإعدام وهو حكم عسكري لا مَرَدَّ له.

ولكن العناية سخرت له رجلًا من الأشراف اسمه الكونت بول دي سيغور يقال إن سيف كان قد أنقذه من الموت مرة فذكر له هذا الجميل، فلما علم بالحكم عليه توسَّط في أمره، فأنقذه وأرسله إلى الجيش الفرنساوي الذي كان إذ ذاك في إيطاليا.

ولما شبَّت الحرب بين فرنسا والنمسا كان سيف في جملة الأسرى عند النمساويين، وبقي مغتربًا عامين حتى إذا كانت حملة نابوليون الشهيرة على روسيا سنة ١٨٠٢، فكان سيف في جملة جندها، وأظهر في أثناء وقائعها الهائلة بسالة أوجبت التفات نابوليون الخصوصي، حتى أراد أن يقلده نشان اللجيون دونور فدعاه إليه بهذا الشأن، فآنس منه استخفافًا فحنق عليه وحرمه من ذلك الشرف. على أنه ما لبث أن رقي في الرتب العسكرية حتى بلغ رتبة كولونيل (أميرالاي) بعد رجوع تلك الحملة السيئة الحظ.

ثم كانت الوقائع المشهورة التي قضت على رجل فرنسا (نابليون) بالأسر والنفي، فقُضِيَ على الكولونيل سيف بالخروج من الجندية والانقطاع إلى التجارة التماسًا للتعيُّش، ولكن أنَّى للجندي المحارب أن يساوم امرأة أو غلامًا على مبيع سلعة فيبح صوته قبل إتمام المبايعة! وخصوصًا صاحب الترجمة؛ فقد كان قليل الصبر على مثل ذلك، فأنفت نفسه التجارة ولم يُفلِح فيها. وسمع في أثناء ذلك أن شاه العجم في حاجة إلى ضباط حاذقين في تدريب الجند، فكتب إلى صديقه الكونت دي سيغور المتقدم ذكره يلتمس كتاب توصية منه إلى الشاه، فنصح له الكونت أن يتوجه إلى محمد علي باشا بمصر.

فجاء مصر سنة ١٨١٩ ومعه كتاب توصية فأحسن محمد علي باشا مقابلته، وكلفه بالبحث في جهات السودان عن معادن فحم الحجر، ولكنه لم يعثر على شيء منه فعاد إلى القاهرة واتَّفق وصوله إليها يوم الاحتفال بغلبة الجنود المصرية على الوهابية.

وكان محمد علي قد شاهد الجنود الفرنساوية بمصر وأعجبه نظامها، وكانت الجنود المصرية عبارة عن فرق أو وجاقات وفيهم الأرناءوط والإنكشارية والمغاربة ونحوهم، ولكل من هذه الفرق قائد فإذا نزلوا ساحة الوغى ركب كلٌّ جواده، واستل حسامه أو بندقيته أو رمحه وهجم على ما يتراءى له.

ففاوض محمد علي الكولونيل سيف في تنظيم الجند فرغبه فيه، فعهد إليه تأليف الجند على هذه الصورة وتدريبه على الحركات العسكرية. وقد حارب سليمان باشا تحت علَم الحكومة المصرية في المورة وسوريا وغيرهما، وتوفِّي بمصر سنة ١٨٦٠.

وبنى محمد علي في الإسكندرية ترسانة أتى إليها بالسفن والدوارع من مرسيليا والبندقية، وأقام فيها مدرسة جاء إليها بالأستانة من فرنسا وإنكلترا، وبنى حول الإسكندرية حصنًا منيعًا وحصونًا أخرى في أماكن أخرى.

(د) الإصلاح التجاري

ولما أصلح الزراعة وكثرت حاصلات البلاد وجَّه التفاته إلى تنشيط التجارة، فأراد إنشاء مينا أمين تأوي إليه السفن التجارية، فلم تعجبه رشيد ولا دمياط لخشونة مرساهما، فاختار الإسكندرية فاحتفر ترعتها الموصلة بينها وبين النيل، ودعاها ترعة المحمودية نسبة إلى السلطان محمود الثاني، فكثر نقل البضائع فيها بين الإسكندرية وداخل القطر، فاكتسبت الإسكندرية بذلك أهمية كبرى وتقاطر إليها التُّجَّار من أماكن مختلفة من أوروبا وغيرها، وأقيمت فيها البنايات الكبيرة على النمط الإفرنجي، ووُجِدت فيها الفنادق والنزل للغرباء. وأصلح مرفأ بولاق وغيره، ووسع للأجانب في الاستيطان والاتِّجار، فاتسعت التجارة وكثرت العلائق، وعاد كُلُّ ذلك بالنفع الجزيل. وتوطيدًا لأعماله هذه أنشأ مجلسًا تجاريًّا مؤلَّفًا من الوطنيين والأجانب للحكم في القضايا التجارية.

حاصلات البلاد

قد رأيت أن محمد علي عهد بالأطيان المهملة إلى رجاله ليزرعوها ويستغلوها، فاشتغل هو في تصريف حاصلاتها، فاحتكر غلات هذا القطر ومصنوعاته، وتولى بيعها رأسًا للتجار السوريين والإفرنج واليونان والأرمن. وكان يلاحظ سعر السوق ويهتم به مثل اهتمام سائر التجار في الأسعار. وكثيرًا ما كان يربح الأرباح الفاحشة وقد يخسر تبعًا لحال السوق. وكان يبيع البضاعة تسليم الإسكندرية فينقلها هو على نفقته في أثناء الفيضان على السفن. وكان له في بولاق وكالات لخزن الأقطان والسكر والكتان والحناء التي ترِد من الأرياف، وعلى تلك المخازن وكلاء لا يسلمون منها شيئًا إلا بأمر الباشا. وكان يتجر أيضًا بالتبر والعاج وغيرهما من واردات السودان وأصناف أخرى كثيرة. ناهيك بأرباح الجمارك وما يرد على مصر من تجارات أخرى. وكان يُدَوِّنُ أرباحه من هذه التجارة في دفاتر حكومته. وإليك ميزانية الحكومة المصرية لسنة ١٨٢١، وفيها أصناف التجارات ومقدار أرباحها وكيفية الإنفاق منها وغير ذلك:

ميزانية الحكومة المصرية لسنة ١٨٢١.
الدخل كيس قرش
مال الميري ١٣٢٣٠٨ ١٣١
أرباح الاتجار بالقطن والشمع والسكر والكتان والنيلة والعسل والحناء وماء الورد وبزر الكتان والسمسم والقرطم وغيره ٢١٠٠٠
أرباح المنسوجات الحريرية والقطنية ٢١٠٠٠
أرباح من مبيع الجلود ٨٠٠٠
أرباح من مبيع الحصر ١٢٠٠
أرباح من مبيع الرز ١٣٧١٤ ٢٥٠
أرباح من مبيع النطرون ٦٠٠
أرباح من مبيع الصودا ٩٠٠
أرباح من مبيع ملح النشادر ٢٨٠
أرباح من مبيع القصب (خيوط الذهب) ٤٥٠
أرباح جمرك السويس ٥٠٠٠
أرباح جمرك القصير. ١٨
عوائد بضائع سنار ٢٠٠
عوائد تجارة دارفور في أسيوط ٢٦٠
عوائد تجارة دارفور في مصر القديمة ٥٠٠
عوائد تجارة دارفور في بولاق ٣٠٠٠
عوائد تجارة دارفور في دمياط ٣٦٠٠
عوائد تجارة دارفور في ترعة المحمودية ٥٠٠
عوائد تجارة دارفور في الإسكندرية ٢٥٠٠
عوائد تجارة دارفور على النقود ٣٥٠٠
ضمان الملح والمشروبات ٥٠٠٠
ضمان المذبح ٣٧٠
ضمان عوائد التمغة ٧٥٠
ضمان السنا ١٢٠
أثمان الأسماك في المنزلة ٨٠٠
ضرائب بيع الأسماك بمصر وبولاق ١٥٠
ضرائب بيع الحيوانات في إمبابة والرميلة ٥٠
ضرائب على الرقاصات والمشعوذين وغيرهم ٣٠٠
عوائد التوارث ٤٠٠
عوائد المعديات ٦٠٠
أجرة نقل البضائع ٤٠٠
قبالة المشروبات بالصعيد ٣٥٠
عوائد الأسواق والوكالات في الصعيد وغيرها ١٤٠٠
عوائد النخيل ١٠٠٠٠
عوائد إدخال الحبوب للقاهرة ٧٢٠
جملة الدخل ٢٣٩٩٤٠ ٣٨١
الخارج كيس
نفقات الجند ١٠٠٠٠٠
المرسل إلى الأستانة ١٢٠٠٠
على المعامل وأجرة العمال ١٥٠٠٠
أجرة الموظفين الملكيين ١٦٠٠٠
نفقات على الملتزمين ٦٠٠٠
نفقات الجوامع والمدارس إلخ ١٨٠٠
مرتبات الملتزمين ١٢٠٠
نفقات بيت محمد علي باشا وأولاده ٢٤٠٠٠
هدايا من المشايخ للعربان إلخ ١٠٠٠٠
نفقات الحج ١٧٠٠
نفقات الكسوة ٣٠٠
نفقات على وادي الطملات للغرس وغيره ١٤٠٠
جملة الخارج ١٨٩٤٠٠
fig088
شكل ٣-١٢: بوغوص بك أعوان محمد علي في المسائل المالية.

وكان ينفق الباقي في بناء الثكنات والمعامل والمنازل وغيرها. ولمعرفة حقيقة قيمة هذه المبالغ ينبغي تحويلها إلى الفرنكات والكيس يومئذٍ عبارة عن ١٥٠ فرنكًا، فيكون دخل الحكومة المصرية سنة ١٨٢١ نحو ٣٦٠٠٠٠٠٠ فرنك نحو ثلثها من الأرباح التجارية. ونشر الدكتور كلوت بك ميزانية كهذه عن سنة ١٨٣٣ كان مجموع الدخل فيها ٦٢٧٧٨٧٥٠ فرنكًا منها نحو ١٥٠٠٠٠٠٠ فرنك من التجارة. وبلغ الخارج ٤٩٩٥١٥٠٠ فرنك ثلثها لنفقات الجيش.

ومن أعوان محمد علي في المسائل المالية والتجارية بوغوص بك الأرمني المتوفَّى سنة ١٨٤٤، وقد ترجمناه في الجزء الأول من تراجم مشاهير الشرق الطبعة الثانية.

(ﻫ) الإصلاحات الصناعية

أما الإصلاحات الصناعية فكثيرة ولكن لم يبقَ منها إلى الآن إلا آثار بالية مع ما توخَّاه — رحمه الله — من إنشاء المعامل، واستجلاب الصُّنَّاع من أقطار أوروبا؛ فإنه أنشأ في هذا القطر معامِلَ عديدة لمعالجة القطن والنيلة واصطناع الطرابيش التونسية والورق والغزل وأنواع الأقمشة من الحرير والكتان والقطن والصوف في سائر جهات القطر، ومعامل الأسلحة على أنواعها وغيرها. أما سبب حبوط معظم تلك المعامل فعائد إلى عدم وجود معادن الفحم الحجري في القطر المصري.

(و) الإصلاحات الصحية

رأى ذلك الرجل العظيم أن البلاد في احتياج كلي لهذه الإصلاحات لانتشار التدجيل والتطبيب بالكتابة والحجابة وما شاكل فاستقدم أحد مشاهير الأطباء الفرنساويين واسمه الدكتور كلوت (ثم صار كلوت بك) وإليه يُنسب شارع كلوت بك في القاهرة. فأنشأ المدارس الطبية والمستشفيات، وفي مقدمتها المدرسة الطبية في قصر العيني (وكان هذا القصر قبلًا مسكنًا لإبراهيم بك الكبير من أمراء المماليك)، يدرس فيها الطب والجراحة، ومدرسة أخرى في فن القوابل ومستشفى كبيرًا في أبي زعبل (قرب المطرية)، وأنشأ مجلسًا صحيًّا ومدرسة بيطرية، ورتَّب مستشفيات وأطباء للعساكر وأخرى للأهالي، وعين أطباء لمراقبة الأحوال الصحية في المديريات، وكان معوله في تلك الإصلاحات على الدكتور كلوت بك.

وهو فرنساوي الأصل واسمه الأصلي أنطون برطلمي كلوت، ولد في غرينوبل بفرنسا سنة ١٧٩٣م من أبوين فقيرين، ورُبِّيَ في شظف من العيش وضيق ذات اليد، وكان على صغره ولِعًا بتشريح الحشرات ودرس طبائعها. وتُوُفِّيَ والده سنة ١٨١١م بعد أن نزح إلى برينون، وكان له صديق اسمه الدكتور سابيه، فلما عاين ما في الغلام من المواهب على حاله من الفقر جعله مساعدًا له يرافقه في أعمال الطبية ويتمرن في الجراحة، وكان كلوت يطالع ذلك العلم بنفسه ساعات الفراغ، حتى قرأ كتاب الجراحة تأليف «لافه»، ثم رأى أن برينول لصغرها لا تفي بما تجمع إليه نفسه ولا تروي مطامعه، فنزح إلى مرسيليا رغم إرادة والدته التي كانت كثيرة التعلُّق بولدها؛ هذا لأنه كان وحيدًا لها، ولكنه أصر على عزمه وضغط على عواطفه طلبًا للعلى وسعيًا وراء العلم، وهو لا يملك إلا بعض الدريهمات وشيئًا من الثياب، على أنه لم يُلاقِ في مرسيليا إلا الخيبة، فحدثته نفسه أن يسافر في سفينة جرَّاحًا لبحارتها، ويتحمل مشاقَّ الأسفار وأخطارها سدًّا لعَوَزه وهو في التاسعة عشرة من سنه، فلم يقبله ربانها وكان ذلك لحسن حظ المترجَم؛ لأن السفينة غرقت في ذلك السفر.

fig089
شكل ٣-١٣: كلوت بك مؤسس الإصلاحات الطبية بمصر.

فاضطره العوز لتعاطي مهنة الحلاقة فصار يختلف إلى حلَّاق يعالج بالفصد والجراحة الصغرى. ثم عاد إلى بلده ودخل المستشفى بعد عَناء وتكرار الالتماس وأَكَبَّ على الدرس والمطالعة، حتى نبغ بين أقرانه، وفي سنة ١٨٢٠ نال شهادة الدكتورية. فعاد إلى مرسيليا وعُيِّنَ طبيبًا ثانيًا بمستشفى الصدقة، ومستشارًا جراحيًّا بمستشفى الأيتام فنَمَّ به بعض ذوي الحسد فأقيل من منصبه، ولكنه لم يسعَ في الانتقام بل تضاعفت همته في العمل.

وفي سنة ١٨٢٥ اجتمع به الموسيو تورنو وكان تاجرًا فرنساويًّا من نزالة مصر، بعث به المغفور له محمد علي باشا لاختيار من يليق بمنصب طبيب لجيشه، فحبب إليه المسير إلى مصر في ذلك المنصب، فقدِم عن طيب خاطر فرأى أمامه بابًا واسعًا للعمل لما علمتَ من حاجة البلاد إلى الإصلاح الطبي، فأخذ يعمل ليله ونهاره مفكِّرًا في الوسائل المؤدية إلى المراد. وكان محمد علي باشا يركَن إليه ويثِق برأيه ويجيب مطاليبه، فأسس أولًا مجلسًا صحيًّا ليستعين بأعضائه على الإجراء والتنفيذ وبث الوصايا الصحية، فرتبه على مثال المجالس الصحية الفرنساوية، ولإتمام النظام العسكري أنشأ المستشفيات العسكرية ومصلحة الصحة البحرية. ولا يخفى أن المستشفيات تحتاج إلى عَمَلَةٍ من الأطباء والتومرجية وغيرهم، ولم يكن في مصر شيء من ذلك فاضْطُرَّ أن يعلم كلًّا من هؤلاء واجباته من التطبيب وملاحظة المرضى وغير ذلك. وأشهر المستشفيات التي بُنِيَتْ بناءً على إشارته مستشفى أبي زعبل، وأنشأ في المستشفى بستانًا للنبات.

fig090
شكل ٣-١٤: محمد علي باشا البقلي الجراح الشهير أحد تلامذة الإرسالية.

وفي نحو ١٨٢٦م أسس المدرسة الطبية في تلك القرية أيضًا أراد بذلك أن لا يقتصر الطب على الجيش، بل يتعلمه أبناء البلاد حتى يفيدوا أبناء جَلدتهم بتطبيبهم وتعليمهم، وكان في السنين الأولى من تأسيس هذه المدرسة هو وحده يُلقِي الدروس بواسطة المترجمين تسهيلًا لفهمها؛ فتُرجِمَت كتب عديدة إذ ذاك وفي جملتها قاموس نستين الطبي وغيره من كتب الطب والجراحة والعلوم الطبيعية. ومما كان عقَبة في طريق التشريح العملي أن تشريح جثث الموتى كان أمرًا مُنكَرًا في عيون المشارقة، فبذل كلوت جهده حتى أبيح له التشريح سرًّا على أن ذلك لم يُنجِه من غضب الأهالي عليه، حتى إن أحدهم جاءه يريد قتله خلسة بخنجر ولكنه لم يفُز.

وفي سنة ١٨٣٢ سار الدكتور كلوت بك في ١٢ تلميذًا من تلاميذ مدرسته هذه لامتحانهم في باريس، فامتحنتهم الجمعية الطبية العلمية فحازوا استحسانها، وأظهروا كُلٌّ نجابةً وذكاء وبراعة. وهاك أسماء هؤلاء التلاميذ:
  • أحمد الرشيدي.

  • حسين الهيهاوي.

  • حسن الرشيدي.

  • عيسوي النحراوي.

  • محمد منصور.

  • مصطفى السبكي.

  • إبراهيم النبراوي.

  • محمد الشباسي.

  • محمد السكري.

  • محمد علي البقلي.

  • محمد الشافعي.

  • أحمد بخيت.

وقد كان نجاح هؤلاء المصريين في امتحانهم موجبًا لسرور أستاذهم كلوت بك سرورًا زائدًا؛ لأنهم سيكونون له عونًا في نشر الفوائد الطبية والوصايا الصحية في هذه الديار، وقد نبغ منهم غير واحد بالتأليف والتطبيب والجراحة وغيرها، وترجمنا بعضهم في الهلال أو مشاهير الشرق.

وفي سنة ١٨٣٧ نُقِلَتْ المدرسة الطبية من أبي زعبل إلى القاهرة وهي المعروفة بمدرسة قصر العيني. ثم أنشأ فيها فرعًا لدرس فن القِبَالة يتعلمها النساء؛ لأن عوائد المشارقة لا تسمح بولادة النساء على أيدي أطباء من الرجال، وأنشأ لهن مستشفى خاصًّا بهن، وكان لهذه الخدمة فائدة عظمى؛ خصوصًا لأن النساء لمبالغتهن في التحجُّب لا يؤذِنَّ للطبيب بمساعدتهن في الولادة ولا الكشف عليهن في تشخيص بعض الأمراض، فكم كان يموت منهن لنقص المعالجة.

(ى) الإصلاحات العلمية

أما الإصلاحات العلمية فلا تقل أهمية عما تقدَّم؛ لأنه ألَّف مجلسًا للمعارف العمومية قصد به تعليم خدمة الحكومة الملكيين والجهاديين، ما يؤهلهم للقيام بمهامِّ أعمالهم وفتح مدارس كثيرة لتعليم الشبان من أهل البلاد، وبعث بعضًا منهم إلى أوروبا لإتقان الدروس على مثال الإرساليات العلمية بعد ذلك. وبلغ عدد التلامذة الذين أُرسِلُوا إلى أوروبا في زمن محمد علي ٣١٩ تلميذًا أنفق عليهم ٢٢٤٠٠٠ جنيه.

وكان غرضه من الإرساليات على الغالب تخريج شبان في الفنون العسكرية والاقتصاد والميكانيكيات والطب والتعدين والترجمة. وقد نشرنا أسماء تلامذة إحدى الإرساليات ومواطنهم، والغرض من تعليمهم في السنة ١٥ من الهلال (صحيفة ٢٢٠).

fig091
شكل ٣-١٥: مختار بك أول ناظر للمعارف بمصر.
وكانت المدارس المصرية في أول أمرها تابعة للعسكرية، فاغتنم رجوع جماعة من طلبة إحدى الإرساليات من أوروبا سنة ١٨٣٦ وأنشأ مجلسًا خاصًّا بالمدارس سمَّاه ديوان المدارس برئاسة مختار بك أحد الطلبة القادمين من أوروبا، وهاك أسماء أعضاء ذلك المجلس:
  • كلوت بك.

  • رفاعة بك.

  • كياني بك.

  • بيومي أفندي.

  • أرتين بك (والد يعقوب باشا أرتين).

  • لامبر.

  • هكيكيان بك.

  • هامون.

  • وارين بك.

  • دوزول (سكرتير).

فترى أن بعض هؤلاء الأعضاء من أبناء المصريين والأرمن، ممن تخرجوا في مدرسة باريس والبعض الآخر من الفرنساويين. فلا غرو إذا ساروا في التعليم على طرق فرنساوية ونشَّطوا اللغة الفرنساوية. وكان من جملة ما حملوه معهم من أوروبا أو تولَّد فيهم بعد الاطِّلاع على تواريخ الأمم أن يُنشِئوا في مصر دولة إسلامية عربية، تقابل الدولة الإسلامية التركية، وكانت الحرب قائمة بينهما في الشام وما وراءها.

فلما تألَّف ديوان المدارس وتحقق أعضاؤه حاجة الجيش إلى ضباط لم يروا مندوحة عن الاستعانة بالوطنيين، فاستأذنوا محمد علي في الإكثار من المصريين في المدارس، وكانوا إلى ذلك الحين لم يُدخِلوا منهم إلا عددًا قليلًا فأذن لهم. فأنشَئوا مدارس ابتدائية وثانوية في أنحاء القطر المصري على نمط المدارس الفرنساوية وهذه العلوم التي كانوا يعلمونها فيها:
  • القرآن.

  • الخط.

  • اللغة العربية.

  • اللغة التركية.

  • اللغة الفرنساوية.

  • مبادئ الحساب.

  • مبادئ التاريخ.

  • مبادئ الجغرافيا.

  • الرسم.

ونظرًا لتغلب العنصر العربي في هذه المدارس جعلوا التعليم كله في اللغة العربية، واستقدموا لها الأساتذة في بادئ الرأي من تلامذة الأزهر لتعليم القرآن واللغة، واستعانوا بالمتقاعدين من ضباط الجيش القديم المتخرِّجين في أوروبا لتعليم مبادئ العلوم ثم نشأت طائفة من الأساتذة المبرزين في العلم، على أن روح الأزهر ظلت سائدة عليها كلها مدة طويلة.

ولم تمضِ بضع سنوات حتى أصبحت المدارس التابعة للديوان المذكور سبعين مدرسة منها ١٦ مدرسة كبرى وهي:

مدرسة الموسيقى العسكرية تأسست سنة ١٨٢٤
المدرسة الحربية في قصر العيني تأسست سنة ١٨٢٥
مدرسة الطب والصيدلة تأسست سنة ١٨٢٧
مدرسة الكيمياء العملية تأسست سنة ١٨٢٩
مدرسة المشاة تأسست سنة ١٨٣١
مدرسة الفرسان تأسست سنة ١٨٣١
مدرسة الطبجية تأسست سنة ١٨٣١
مدرسة البحرية تأسست سنة ١٨٣١
مدرسة طب الحيوان تأسست سنة ١٨٣١
مدرسة التعدين تأسست سنة ١٨٣٤
مدرسة الهندسة تأسست سنة ١٨٣٤
مدرسة الزراعة تأسست سنة ١٨٣٧
مدرس الولادة تأسست سنة ١٨٣٧
مدرسة الإدارة الملكية والحسابات تأسست سنة ١٨٣٧
مدرسة الألسن والترجمة تأسست سنة ١٨٣٧
مدرسة الصنائع والفنون تأسست سنة ١٨٣٩
fig092
شكل ٣-١٦: رفاعة بك أول ناظر لمدرسة الألسن والترجمة.

وبلغ عدد التلامذة في المدارس كلها نحو ٩٠٠٠ تلميذ تنفق الحكومة على تعليمهم ولبسهم وطعامهم وسكنهم.

والسبب في مكابدتها الإنفاق عليهم أن معظمهم في الأصل من غلمان المماليك، فهم ملك الحكومة وهي بالطبع مكلَّفة بإعالتهم، فلما استكثرت الحكومة من التلامذة الوطنيين عاملتهم تلك المعاملة، فجعلت تعليمهم مجانًا. ولم يكُن لها بُدٌّ من ذلك؛ لأنهم كانوا يدخلون تلك المدارس رغم إرادتهم وهم يَكرَهون التعليم فيها كما كانوا يكرهون الجندية. وظل ذلك شأن التعليم بمصر إلى آخر أيام محمد علي سنة ١٨٤٨.

المدرسة المصرية في باريس

ولما أفضت ولاية مصر إلى ابنه إبراهيم توقَّع الناس تغييرًا في التعليم؛ لأنه كان قد أعدَّ إصلاحًا مهمًّا على أثر رحلته في أوروبا. ولكن الأجل عاجله قبل مباشرة العمل، وكان ديوان المدارس قد نظر منذ تأسيسه سنة ١٨٣٦ في التعليم العالي وقرر عجز مصر عن القيام به لسببين؛ الأول: خُلُوُّهَا من أساتذة قادرين على تدريس العلوم العالية، والثاني: خُلُوُّ اللغة العربية من الكتب اللازمة لهذه العلوم. ولهذين السببين قررت الحكومة الاستمرار على إرسال التلامذة إلى أوروبا للتخرج بالعوم العالية. ولكنها أصبحت لا ترسل غير النجباء المتخرجين من المدارس الكبرى. ولم يكُن بدٌّ للتلامذة المشار إليهم من معرفة لغة البلاد التي سيُتِمُّون علمهم في مدرستها، فأنشئُوا لهذه الغاية مدرسة مصرية في باريس يديرها رجل مصري اسمه اسطفان بك، معه وكيل أرمني اسمه خليل أفندي جراكيان. وأما الأساتذة فعينتهم نِظَارة الحربية الفرنساوية من ضباط جندها.

فأرسلت الحكومة المصرية إلى هذه المدرسة نحو أربعين طالبًا فيهم جماعة من أمراء العائلة الخديوية، وفي جملتهم البرنسان حليم وحسين أبناء محمد علي، والبرنسان أحمد وإسماعيل (الخديوي) أبناء إبراهيم، واتفقا أن إبراهيم باشا مَرَّ بتلك المدرسة في أثناء سياحته بأوروبا ومعه سكرتيره نوبار باشا، فأعجب بنجاحها من حيث التعليم، ولكنه انتقد تقصيرها في التربية؛ لأن التلامذة كانوا يُرسَلون إليها وهم في حدود الشباب، فارتأى أن يأتوها وهم صغار بين الثامنة والتاسعة من العمر ليتعلموا ويتثقفوا معًا. وعزم أنه حالما يرجع إلى مصر يأمر رجاله جميعًا بإرسال أولادهم إلى هذه المدرسة وهم أحداث. ولكن المَنِيَّة عاجلته والثورة الفرنساوية آلت إلى إقفال المدرسة سنة ١٨٤٨.

المطبعة الأهلية

وأنشأ محمد علي المطبعة الأهلية في بولاق على أنقاض مطبعة أتى بها بونابرت معه، لمَّا أتى لفتح مصر كما تقدم، فلما خرجوا منها سنة ١٨٠١ أُهمِلت تلك المطبعة، ولم يلتفت أحد إليها حتى تولى عرش الحكومة المصرية سنة ١٨٠٥ المغفور له محمد علي باشا مؤسس العائلة الخديوية، وعمل على إصلاح هذا القطر وكان في جملة مساعيه العلمية إحياء هذه المطبعة وتجديدها. فاستحضر لها العدد والحروف واستخدم العمال من أوروبا وسوريا، فأداروها واصطنعوا حروفًا جديدة تُشبِه حروفها الأصلية من وجهٍ وتختلف عنها من وجه آخر. وهي قاعدة حروف بولاق المشهورة، وقد طُبِعَتْ بها كتب جمة طبية وتاريخية ودينية ما لا يُحصى ولا يُعَدُّ، وفي شهرة مطبعة بولاق ما يغني عن تَعداد فضائلها.

وأما الذي اصطنع قاعدة تلك الحروف فجماعة من عمالها يومئذٍ، لم تطلع إلا على اسم واحد منهم وهو إلياس مسابكي من أهل دمشق الشام. وكان في جملة حروف بولاق قاعدة فارسية جميلة أُهْمِلَتِ الآن.

وأمر بترجمة كثير من الكتب المفيدة في التركية والعربية والفارسية، وأنشأ الجريدة المصرية الرسمية (الوقائع المصرية) وديوان المهندسخانة وغير ذلك.

(١-٦) صفاته ومناقبه

كان محمد علي متوسط القامة عالي الجبهة أصلعها، بارز القوس الحاجبي أسود العينين غايرهما، صغير الفم باسمه كبير الأنف متناسب الملامح مع هيبة ووداعة. أبيض اللحية كثيفها مع استدارة وسَعة. جميل اليدين منتصب القامة جميل الهيئة ثابت الخطوات منتظمها سريع الحركة. إذا مشى يجعل يديه متصالبتين وراء ظهره غالبًا، وعلى الخصوص إذ مشى في داره مفكِّرًا في أمر، وكذلك كان يفعل بونابرت. وقَلَّمَا كان يفاخر باللباس، فكان لباسه غالبًا على زي المماليك يلبس العمامة أو الطربوش. وأبدل اللباس العسكري في أواخر أيامه بلباس واسع بسيط لا يمتاز به عن بعض أتباعه.

وكان يكره التفاخر بالحاشية فلم يكُن على بابه إلا رجل واحد يخفره. وإذا استوى في مجلسه لا يتقلد السلاح بل يجلس وفي يده حقة العطوس والمسبحة يتلاهى بها، وكان يحب ألعاب البليارد والداما، ولا يأنف من مجالسة صغار الضباط. وأما جلساؤه العاديون فالقناصل وكبار السياح وكانوا يُحِبُّونَه ويحترمونه، ويلقبونه بمُبِيد المماليك أو مصلح الديار المصرية. وكان سليم القلب مع دهاء وسياسة سريع التأثر لا يعرف الكظم، فكثيرًا ما كان ينقاد بدسائس المفسدين. وكان كريم النفس سخي العطاء، وفي بعض الأحوال مسرفًا. وكان يتفاخر بعصاميته ويرتاح للتكلم عن سابق حياته. وكان محبًّا للاطِّلاع ولا سيما على الأخبار السياسية، وكان يُجِلُّ الجرائد ويعتقد تأثيرها في الهيئة الاجتماعية فكانوا يترجمونها له فيطالعها بتمعن.

fig093
شكل ٣-١٧: محمد علي باشا بالطربوش.

أما هواجسه السياسية فكانت تُقلِق راحته فلا ينام إلا يسيرًا، وقَلَّما يرتاح في نومه، ولا ينفك متقلبًا من جانب إلى آخر، فكان يجعل عند فراشه اثنين من خَدَمته يتناوبان اليقظة لتغطيته إذا انكشف عند الغطاء من التقلُّب. ويقال إن من جملة دواعي أرقه الشهقة المرتجفة التي كانت تتردد إليه كثيرًا، وكان قد أصيب بها في حملته على الوهابيين على أثر رعب شديد. على أن ذلك الأرق لم يكن ليُضعِف شيئًا من سرعة حركته، فكان يستيقظ نحو الساعة الرابعة من الصباح ويقضي نهاره في المشاغل المختلفة بين مفاوضة مع ذوي شوراه أو مراقبة استعراضات العساكر أو استطلاع أمور أخرى يتعلق بمصالح الأمة. وكان بارعًا في الحساب بغير تعلُّم؛ لأنه شرع بتعلم القراءة والكتابة وهو في الخامسة والأربعين من عمره. ويقال إنه ابتدأ يتعلم أحرُف الهجاء على أحد خدمة حريمة، والكتابة على أحد المشايخ، وهذا مِمَّا يزيده شرفًا وفخرًا، ويبرهن على ما فطر عليه من قوة الإدراك والحذاقة والمقدرة على المهامِّ السياسية. وكان صارم المعاملة مع لين ورقة وحسن أسلوب. وكان متمسكًا بالإسلام مع احترام التعاليم الأخرى، ولا سيما التعاليم المسيحية فكان يقرب أصحابها منه ويعهد إليهم أهم أعماله.

ويقال إنه كان بالإجمال أبًا حنونًا لرعيته وصديقًا مخلصًا ونصيرًا مسعفًا لذوي قرباه أبًا حقيقيًّا ولأولاده؛ ولذلك تراه بعد أن أصيب بفقد أكثرهم غلب عليه الحزن، حتى أثَّر في صحته تأثيرًا رافقه إلى اللحد. أما حبه للرعية فلا يحتاج إلى دليل، فهذه الديار المصرية عمومًا إذا قصرت ألسنة أهلها عن تعداد مآثره ينطق جمادها بمزيد فضله هذه الترع والجسور والنباتات والشوارع والجناين. هذه المطابع والمدارس هذه النظامات الجهادية والملكية والقضائية هذه الزراعة والفلاحة، هذه شبه جزيرة العرب تردِّد ما لاقته من نجدته. وقد كان موضع احترام رعيته وذويه حتى الأجانب البعيدين منه وطنًا ودينًا ومشربًا، وكثيرًا ما تقربوا إليه بالنياشين والهدايا إقرارًا بفضله على العالم عمومًا، بتمهيد سبل التجارة بين أوروبا والهند على الخصوص.

(٢) إبراهيم باشا بن محمد علي (وُلِدَ سنة ١٢٠٤ﻫ وتولى وتُوُفِّيَ سنة ١٢٦٥ﻫ)

fig094
شكل ٣-١٨: إبراهيم باشا في أواخر أيامه.

هو نجل محمد علي باشا، وقد تَقَدَّمَ في سيرة أبيه معظم سيرة حياته؛ لأنهما عمِلَا معًا في مصر، وكان إبراهيم ساعد أبيه الأيمن في فتوحه وسائر أعماله العسكرية. وُلِدَ في قواله عام ١٢٠٤ﻫ، ومال من صغر سنه للأعمال الحربية وفيه مواهب أعاظم القواد يشهد بذلك ما أتاه من الأعمال العظمى في مصر والشام والمورة والسودان وغيرها مما فصَّلناه في ترجمة أبيه. وكان يعرف الفارسية والتركية والعربية، وله اطِّلاع واسع في تاريخ البلاد الشرقية، تولى الإمارة المصرية بعد تنازُل أبيه عام ١٢٦٥، فسار على خطواته سيرًا حسنًا، وإن كان في الحقيقة يختلف عنه بمواهبه الأصلية، فقد كان إبراهيم صارم المعاملة صعب المراس شديد الوطأة كما يغلب أن يكون رجال العسكرية. وكان أبوه لين العريكة حسن السياسة ذا دهاء وحكمة. ولم يبقَ حكم إبراهيم إلا ١١ شهرًا وتُوُفِّيَ قبل والده.

وكان رَبْعَ القامه ممتلئ الجسم قَوِيَّ البنية مستطيل الوجه والأنف، أشقر الشعر في وجهه أثر الجدري، وكان كثير اليقظة قليل النوم. وكان نقش خاتمه: «سلام على إبراهيم.»

(٣) عباس باشا الأول (وُلِدَ سنة ١٢٢٨ﻫ وتولى سنة ١٢٦٥ﻫ وتُوُفِّيَ سنة ١٢٧٠ﻫ)

fig095
شكل ٣-١٩: عباس باشا الأول.

هو عباس باشا بن طوسون باشا بن محمد علي باشا، وُلِدَ عام ١٢٢٨ﻫ أو ١٨١٣م ورُبِّيَ أحسن تربية، وكان محبًّا لركوب الخيل فرافق عمه إبراهيم باشا في حملته إلى الديار الشامية، وشهد أكثر الوقائع الحربية وفي سنة ١٢٦٥ﻫ تولى زمام الأحكام على الديار المصرية بعد وفاة عمه إبراهيم، وكان على جانب من العلم والمعرفة؛ لأن المرحوم جده كان يحبه كثيرًا فاعتنى بتعليمه في مدرسة الخانكاه.

ومن مشروعاته المهمة الشروع في إنشاء الخط الحديدي بين مصر والإسكندرية، وتأسيس المدارس الحربية في العباسية، ومد الخطوط التلغرافية لتسهيل سبل التجارة وغير ذلك.

وكان له غلام يُدعَى البرنس إبراهيم إلهامي كان على جانب عظيم من الجمال والذكاء واللطف والمعرفة والعلم، زار الأستانة سنة ١٢٧٠ﻫ، وتشرف بمقابلة السلطان عبد المجيد فأحبه وزوجه بابنته وغمره بنعمه. فرجع إلى مصر حامدًا شاكرًا والمرحوم إلهامي باشا هو والد ذات العفاف والعصمة حرم المغفور له توفيق باشا الخديوي السابق، ووالدة مولانا الخديوي الحالي.

وعباس باشا هو الذي وضع الحجر الأول لمسجد السيدة زينب بيده، وقد كان لذلك احتفال عظيم حضَره كثير من الأعيان ورجال الدولة، وذُبِحَتْ فيه الذبائح وفُرِّقَتِ الصدقات على الفقراء كَمِّيَّات كبيرة.

وفي أيامه كانت بين الدولة العَلِيَّة والروسيين حروب، فبعث لنجدة الدولة حملة كبيرة سارت عن طريق بولاق في البحر، وسار هو بنفسه لوداعها هناك وقبل ركوبها النيل نهض لوداعها، فألقى في الجمهور خطابًا بليغًا منشِّطًا.

وتُوُفِّيَ عباس باشا في شوال سنة ١٢٧٠ أو يوليو سنة ١٨٥٤م في قصره بمدينة بنها العسل، ثم نُقِلَ ودُفِنَ في مدفن العائلة الخديوية في القاهرة.

(٤) سعيد باشا (وُلِدَ سنة ١٢٣٧ﻫ وتولى سنة ١٢٧٠ﻫ وتُوُفِّيَ سنة ١٢٧٩ﻫ)

هو ابن محمد علي باشا، وُلِدَ في الإسكندرية عام ١٢٣٧ﻫ/١٨٢٢م، وكان محبًّا للعلم بارعًا فيه وعلى الخصوص في اللغات الشرقية والعلوم الرياضية، وسلك الأبحر والرسم وكان يتكلم الفرنساوية جيدًا. تولى زمام الأحكام عام ١٢٧٠ﻫ أو ١٨٥٤م بعد وفاة عباس باشا ابن أخيه، وكان مُؤثِرًا للعدل والفضيلة مهتمًّا بالإصلاح الإداري. ومن أعماله المبرورة إتمام الخطوط الحديدة والتلغرافية بين إسكندرية ومصر والشروع في مَدِّ غيرها، وتنظيم لوائح الأطيان واسترجاعها من المتعهدين إلى أربابها. وقد عدل الضرائب فجعلها عادلة ورفع كثيرًا من الضرائب التي كان يتظلَّم منها الرعايا، ونزح ترعة المحمودية، وفي أيامه تمت معاهدة ترعة السويس وقد نشَّطها تنشيطًا كبيرًا، وأقام على طرفها الشمالي مدينة حديثة دُعِيَتْ باسمه وهي بورت سعيد، وغرس الأشجار في طريق المنشية.

وفي السنة الثانية من تَوَلِّيه على مصر وضع الحجر الأول لأساس القلعة السعيدية عند رأس الدلتا، فيما بين القناطر الخيرية تداعت أركانها الآن، وقد عثرنا على قطعة فضية مستديرة قطرها قيراطان ونصف على أحد وجهيها رسم النيل عند تفرُّعه والقناطر الخيرية، يليها على الجانبين بُرَجا القناطر، وبينهما عند رأس الدلتا القلعة السعيدية، وكل ذلك في أجمل ما يكون من الرسم. وعلى الوجه الآخر كتابة تركيَّة تفيد «أن المغفور له سعيد باشا بن محمد علي باشا المشهور، قد وضع أساس القلعة السعيدية وما يليها من الاستحكامات بيده في يوم الأحد ٢٣ جمادى الآخرة عام ١٢٧١ﻫ لأجل حماية الديار المصرية» هذا نصها التركي:

قواله لي مشهور محمد علي صلبندن بيك ايكييوز او توزيدي سنه هجريه سنده اسكندريه ده دنيايه كلوب يتمش سنه سي شوال المكر منده خطه جسيمه مصره حكمي جاري اولان محمد سعيد محافظه ام دنيا ايجون اشبو استحكامات قويه يه بيك ايكبيوز يتمش برسنه سي جمادي الثانينك يكرمي او جنجي دوشنبه كوني ومولودينك اوتوز درنجي سنه سي كندي يديله وضع اساس ايتمشدر.

fig096
شكل ٣-٢٠: سعيد باشا.

وفي أيامه ثارت مديرية الفيوم على الحكومة فبعث إليها وأخمد الثورة فهدأت الأحوال. ولما اختتن نجله طوسون أطلق كل من كان في السجون من المجرمين حتى القاتلين. وفي أيامه أعطيت بلاد السودان بعض الامتيازات وتولَّى عليها البرنس حليم باشا حكمدارًا. وفي عام ١٢٧٦ﻫ أو ١٨٥٩م توجه لزيارة سوريا، فمكث في بيروت ثلاثة أيام ونزل ضيفًا كريمًا على وُجَهَاء المدينة، وكان في أثناء مروره في الطرقات ينثر الذهب على الناس.

وفي عام ١٢٧٨ﻫ أو ١٨٦١م تُوُفِّيَ المغفور له السلطان عبد المجيد وتولى السلطان عبد العزيز. وفي يوم السبت ٢٦ رجب عام ١٢٧٩ﻫ أو ١٧ يناير ١٨٦٣م تُوُفِّيَ سعيد باشا في الإسكندرية ودُفِنَ فيها.

(٥) إسماعيل باشا (ولد سنة ١٨٣٠ وتولى سنة ١٨٦٣ وخُلِعَ سنة ١٨٧٩ وتُوُفِّيَ سنة ١٨٩٥)

fig097
شكل ٣-٢١: إسماعيل باشا.

(٥-١) ترجمة حاله

هو إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير. وكان لوالده ثلاثة أولاد ذكور: أكبرهم البرنس أحمد (وُلِدَ عام ١٨٢٥)، ثم البرنس إسماعيل (ولد عام ١٨٣٠) ثم البرنس مصطفى (وُلِدَ عام ١٨٣٢). وكان البرنس أحمد من نوابغ الزمان ذكاء وفطنة كثير الشبه بوالده شكلًا وأخلاقًا، ولكنه تُوُفِّيَ في أثمن سني حياته بين الشباب والكهولة، فأصبح صاحب الترجمة كبير أبناء إبراهيم.

ورُبِّيَ إسماعيل باشا في حجر والده وتعلَّم وتثقف بحياطة جده؛ لأن جده — رحمه الله — كان قد أنشأ لأولاده الصغار وأولاد أولاده الكبار مدرسة خصوصية في القصر العالي فيها نخبة من مهرة الأساتذة، فتلقى صاحب الترجمة فيها مبادئ العلوم واللغات العربية والتركية والفارسية، ونذرًا يسيرًا من الرياضيات والطبيعيات. فلما بلغ السادسة عشرة من عمره بعَث به جده مع ولديه المرحومين البرنسين حليم باشا وحسين بك، والمرحوم البرنس أحمد باشا مع إرسالية فيها نخبة من شبان مصر الأذكياء إلى مدرسة باريس، يتولى رئاستهم وجيه أرمني اسمه اسطفان بك. فقضوا في تلك المدرسة بضع سنوات تلقَّوْا بها العلوم العالية، ثم عادوا إلى مصر إلا حسين بك فإن المنية أدركته هناك. ومن العلوم التي تلقاها إسماعيل اللغة الفرنساوية والطبيعيات والرياضيات وخصوصًا الهندسة، وعلى الأخص فن التخطيط والرسم. وهذا هو سبب شغفه بعد ذلك بتنظيم الشوارع وزخرفة البناء.

ولما عادت الإرسالية كان عباس باشا الأول واليًا على مصر، فمكث إسماعيل معه على صفاء وموَدَّة حتى وقع بين عباس باشا وسعيد باشا نفور مبني على اختلاف في اقتسام التركة، وانحاز سائر أفراد العائلة الخديوية إلى سعيد وفي جملتهم إسماعيل. فساروا كافة إلى الأستانة ورفعوا دعواهم إلى جلالة السلطان، فصدرت الإرادة الشاهانية بإنفاذ المرحوم فؤاد باشا الصدر الأعظم — وكان يومئذٍ فؤاد أفندي — وجودت أفندي — وهو جودت باشا المؤلف الشهير — إلى مصر. فأتيا وسوَّيَا الخلاف وتصالح أفراد هذه العائلة الكريمة، فعادوا إلى مصر إلا إسماعيل فإنه بقي في الأستانة، وتعين عضوًا في مجلس أحكام الدولة العلية.

وفي سنة ١٨٥٤ تُوُفِّيَ عباس باشا الأول وتولى عمه سعيد باشا، فعاد صاحب الترجمة إلى مصر فولَّاه عمه المشار إليه رئاسة مجلس الأحكام فاهتمَّ بشأنه أعظم اهتمام، ونظمه على مثال مجلس أحكام الدولة العلية.

وفي عام ١٨٦٣ تُوُفِّيَ المغفور له سعيد باشا، فأفضت ولاية مصر إلى إسماعيل باشا وهو خامس ولاتها من السلالة المحمدية العلوية، فأخذ منذ تبوُّئِه الأحكام في رفع شأن هذه الديار وإعادة رونقها الذي كان لها في عهد محمد علي باشا، فأطلق يده في النفقة لتنظيم الشوارع وتشييد الأبنية وإنشاء المشروعات النافعة على أنواعها، مما سيأتي تفصيله، غير مبالٍ بما قد يجر إليه ذلك من الضيق.

وكانت ولاية مصر تنتقل في الأسرة الخديوية إلى من يختاره جلالة السلطان الأعظم بقطع النظر عن علاقته بالوالي السابق. وكان ولاة مصر يُلقَّبُون بالعزيز أو الوالي أو الباشا، وإذا لُقِّبُوا أحيانًا بالخديوي فإنما يكون ذلك على سبيل التجمُّل والتفخيم، أما إسماعيل باشا فهو أول من نال رتبة الخديوية ولقب الخديوي فأصبحت ولاية مصر إرثًا صريحًا في نسله ينتقل منه إلى أكبر أولاده ومنه إلى أكبر أولاده، وهكذا على التعاقُب، وهاك أهم نصوص الفرمان المؤذِن بذلك الصادر في ١٢ جمادى الأولى سنة ١٢٩٠ﻫ الموافق ٨ يوليو عام ١٨٧٣:

الفرمان الخديوي

إن كيفية وراثة الحكومة المصرية المقررة في فرماننا الصادر ثاني ربيع الآخر عام ١٢٨٥ﻫ، قد غُيِّرَتْ على وجه أن تنتقل الخديوية من متبوئي كرسيها إلى بكر أبنائه، ومن هذا إلى بكر أبنائه أيضًا وهلم جرًّا، علمًا بأن ذلك أدنى إلى المصلحة وأشد ملاءمة لأحوال البلاد المصرية. واختصاصًا لك بانعطافي الذي صرتَ له أهلًا بحسن سعيك واستقامتك واجتهادك وأمانتك، وإثباتًا لذلك أجعل قانون الوراثة لخديوية مصر ومتعلقاتها وما يتبعها من البلاد وقائمَّقامية سواكن ومصوع وتوابعهما كما تقدم بيانه. بحيث تكون الولاية لبِكر أبنائك ثم لبِكر أبنائه من بعده. فإذا لم يرزق من تولى الخديوية ولدًا ذكرًا كانت الولاية من بعده لأكبر إخوته، أو لأكبر بني أخيه الأكبر كما تقرر. ولا تكون هذه الوراثة لأبناء البنات. ولأجل تأييد هذه الأحكام ينبغي أن تكون الوصاية في حال كون الوارث قاصرًا على الصورة الآتية وهي: إذا توفي الخديوي وكان كبير ولده قاصرًا — أي غير بالغ من العمر ثماني عشرة سنة — يكون هذا القاصر بالحقيقة خديويًّا بحق الوراثة فيصدر إليه فرماننا بوجه السرعة. وإذا كان الخديوي المتوفَّى قد نظم قبل وفاته أسلوبًا للوصاية، وعين كيفيتها وذوي إدارتها بصك مثبت بشهادة اثنين من رؤساء حكومته، فأولئك الأوصياء يقبضون إذ ذاك على أَزِمَّة الأعمال عقب وفاة الخديوي. ثم يُنهون بذلك إلى الباب العالي فيثبتهم في مناصبهم. ولكن إذا تُوُفِّيَ الخديوي بغير وصية وكان ابنه قاصرًا فمجلس الوصاية عند ذلك يؤلف من مُتَوَلِّي إدارة الداخلية والحربية والمالية والخارجية والحقانية وقائد العسكر ومفتش المديريات. فيجتمع هؤلاء الذوات وينتخبون للخديوي وصيًّا بإجماع الرأي أو بأغلبيته، فإذا تساوت الآراء لاثنين من المنتخبين كانت الوصاية لأرفعهما رتبة باعتبار الترتيب السابق من الداخلية فما بعدها. ويشكل مجلس الوصاية من الباقين فيباشرون جميعًا أمور الخديوية، ويعرضون ذلك لسلطنتنا السنية ليصدق عليه بالفرمان الشريف. وكما أنه لا يجوز تبديل الوَصِيِّ وتغيير هيئة الوصايا قبل انتهاء مدتها في الصورة الأولى — أي فيما إذا كان تنظيمها بحكم وصية الخديوي المتوفَّى — فكذلك لا تغير في الصورة الثانية. وأما إذا تُوُفِّيَ الوصي أو أحد أعضاء مجلس الوصاية في خلال تلك المدة، فينتخب بدل الأول أحد أعضاء المجلس وبدل الثاني أحد ذوات المملكة. وبمجرد بُلُوغ الخديوي القاصر ثماني عشرة سنة يكون راشدًا فيباشر إدارة أمور الخديوية؛ وذلك مما تقرر لدينا واقتضته إرادتنا السلطانية.

ولما كان تزايد عمارة الخديوية المصرية وسعادة حالها ورفاهة سكانها من أهم الأمور لدينا، وكانت إدارة المملكة المالية ومنافعها المادية المتوقف عليها تكامل وسائل الراحة، وتوفر أسباب السعادة عائدة على الحكومة المصرية؛ رأينا أن نذكر كيفية تعديل الامتيازات وتوضيحها على شرط بقاء جميع الامتيازات الممنوحة سابقًا للحكومة المصرية. وذلك أنه لما كانت إدارة المملكة الملكية والمالية بجميع فروعها وأحوالها ومنافعها عائدة بالحصر على الحكومة ومتعلقة بها، وكان من المعلوم أن إدارة أي مملكة وحسن انتظامها وتزايُد عمرانها وسعادة سكانها مما لا يتم إلا بالتوفيق والتطبيق بين الإدارة العمومية والأحوال والموقع وأمزجة السكان وطبائعهم، فقد منحناكم الرخصة المطلقة في وضع القوانين والنظامات الداخلية حسب الحاجة واللزوم. ولأجل تسهيل تسوية المعاملات سواء كانت من قبل الرعية أو من قبل الحكومة مع الأجانب. ولتوسيع نطاق الصناعة والحرف وتوفير أسباب التجارة منحناكم أيضًا الرخصة التامة في عقد المشاركات، وتجديد المقاولات مع مأموري الدول الأجنبية في أمور المملكة الداخلية وغيرها، على شرط أن لا يكون ذلك مُوجِبًا للإخلال بمعاهدات الدولة السياسية.

ولكون خديوي مصر حائزًا لحق التصرف المطلَق في الأمور المالية، قد أعطيت له الرخصة في عقد الفروض من الخارج بغير استئذانٍ عندما يجد لذلك لزومًا، على شرط أن يكون القرض باسم الحكومة المصرية. وبما أن أمر المحافظة على المملكة وصيانتها من الطوارق (وهو أهم الأمور وأحوجها إلى العناية) من أقدم الوظائف المختصة بخديوي مصر قد منحناه الإذن المطلق بتدارُك أسباب المحافظة، وتنسيبها على مقتضى ضرورات الزمان والحال، وبتكثير أو تقليل عدد العساكر المصرية الشاهانية حسب اللزوم بغير تقييد ولا تحديد. وأبقينا كذلك لخديوي مصر امتيازه القديم بمنح الرتب العسكرية إلى رتبة ميرالاي والملكية إلى الرتبة الثانية، على شرط أن تكون المسكوكات المضروبة في مصر باسمنا الشاهاني، وتكون أعلام العساكر البرية والبحرية في القطر المصري كأعلام عساكرنا السلطانية بلا فرق أو تمييز، ولا يجوز لخديوي مصر أن ينشئ البوارج المدرَّعة بغير استئذان. أما سائر السفن والبوارج ففي استطاعته أن ينشئها متى شاء. انتهى.

وقد امتاز إسماعيل باشا عن سائر ولاة مصر قبله أنه حبَّب سكنى الديار المصرية إلى الأجانب من جالية أوروبا وأميركا وغيرهما، بما مهده من وسائل الراحة والطمأنينة مع الأخذ بناصرهم، وتأييد مشاريعهم وتنشيطهم وتوسيع نطاق التجارة، فتقاطروا إليها أفواجًا وأقاموا فيها على الرحب والسعة لما آنسوه من الكسب الحسن والعيش السهل.

وفي عام ١٨٦٩ احتفل إسماعيل باشا بافتتاح ترعة السويس، وكان قد بوشر بحفرها على عهد عَمِّه سعيد باشا، فحضر ذلك الاحتفال ملوك أوروبا أو من يقوم مقامهم. وكان له رنَّة بلغ صداها أربعة أقطار المسكونة لما أعدَّه فيه إسماعيل من وسائل الزينة مما قد تقصر عنه هِمَمُ الملوك العظام، وفي جملة ذلك أنه بنى الأوبرا الخديوية بالقاهرة لتكون مرسحًا يشاهد فيه ضيوفه صنوف التمثيل، وكانت المدة غير كافية لتشييد ذلك البناء، فبذل الدرهم والدينار فلم تمضِ خمسة أشهر حتى تم البناء وسائر معدات التمثيل على ما نشاهده الآن، وهو من المراسح التي لا مثيل لها إلا في عواصم أوروبا العظمى.

(٥-٢) قناة السويس

ويجدر بنا في هذا المقام أن نأتي على تاريخ هذه القناة من أقدم زمانها، فنقول:

لا يخفى أن الفاصل بين البحرين الأبيض والأحمر برزخ السويس، وما برح ملوك مصر من عهد الفراعنة يسعَوْن في الوصل بينهما لتسهيل طرق التجارة بين الشرف والغرب، ولم يكن الناس اكتشفوا رأس الرجاء الصالح، فكان برزخ السويس فاصلًا بين الشرق والغرب، فاهتم رجال السياسة من الملوك وغيرهم في الوصل بينهما بحيث تجري السفن من الواحد إلى الآخر ولو بقناة صغيرة. ولكن القدماء كانوا يعتقدون أن البحر الأحمر أعلى من البحر الأبيض المتوسط فخافوا إذا فتحوا ما بينهما أن تطوف الماء وتغرق البلاد، فوجهوا عنايتهم إلى الوصل بين البحرين بطرق أخرى. ويقال بالإجمال إن مساعيهم كانت ترمي إلى إحدى ثلاث طرق، وهي: (١) الوصل بينهما بواسطة النيل والصحراء. (٢) بواسطة النيل وفروعه. (٣) بواسطة ترعة مالحة.

وإليك خلاصة السعي في كل منهما:

(أ) الوصل بين البحرين بالنيل والصحراء

هذه أقدم طرق الإيصال بينهما وأول من شرع بها مريرع أحد ملوك العائلة السادسة الفرعونية في القرن السابع والثلاثين من قبل الميلاد، وأتمه حنو من العائلة الحادية عشرة. وبعض المؤرخين يذهب إلى أن بطليموس فيلاذلفوس هو أول من أوجد هذا الاتصال في القرن الثالث قبل الميلاد، ولعل الصواب أنه أعاده بعد إهماله.

وكان الاتصال المذكور يتم بطريق الصحراء بين برنيس على البحر الأحمر وقفط على النيل بقرب قوص بمصر العليا. فكانت المنقولات تُحمل على الجمال أو نحوها من برنيس إلى قفط ومن هناك تُنقل على مراكب نيلية إلى البحر المتوسط عن طريق دمياط أو رشيد. وما زالت هذه الطريق عظيمة الأهمية حتى اكتشفوا رأس الرجاء الصالح جنوبي أفريقيا سنة ١٤٩٧م فانحطت أهميتها. ولما فتح خليج السويس كادت تُهمِل بالكلية لكنها لا تزال تُستعمل في بعض الأحوال. وقد أصبح الاتصال الآن بين القصير على البحر الأحمر وقنا على النيل عوضًا عن برنيس وقفط، وقد يكون إلى قفط، ولا تستعمل إلا إذا كان المقصود المواصلة بين البحر الأحمر ومصر العليا رأسًا.

(ب) الوصل بواسطة النيل فقط

لابد قبل الكلام في ذلك من كلمة نقولها في تاريخ فروع النيل؛ لأنها الآن غير ما كانت عليه في عصر الفراعنة والبطالة والرومان. فالنيل الآن ينقسم بقرب القاهرة إلى فرعيه الكبيرين فيسيران شَمالًا يمر الشرقي منهما ببنها فميت غمر فسمنود فالمنصورة، وينتهي إلى البحر المتوسط بالقرب من دمياط. والغربي يمر بمنوف فكفر الزيات فدسوق إلى أن يصب في ذلك البحر بالقرب من رشيد. وهذان الفرعان هما الفرعان الوحيدان للنيل الآن، وقَلَّمَا يتفرع منهما غير الترع الاصطناعية.

أما في الأزمنة الخالية فكانت لهما فروع أخرى كبيرة أكبرها متشعب من الفرع الشرقي. وكيفية ذلك أن هذا الفرع بعد أن يصل إلى قرب بنها يسير منه فرع غربي، ينقسم إلى عدة فروع تنتهي إلى البحر المتوسط بثلاثة تصب عند بحيرتي المنزلة والبرلس، أهمها فرع كبير شرقي يقال له فرع بلوسيوم كان يخرج من الفرع الشرقي قرب بنها، ويسير نحو الشمال الشرقي فيمر ببوباستس (تل بسطة) فالصالحية فدفنة إلى أن يصب في البحر المتوسط بالقرب من بلوسيوم (طينة) شمالي الفرما. أما بحر القلزم أو البحر الأحمر فكان متصلًا بالبحيرة المرة الكبرى بمضيق صالح لسير السفن، وكانت هذه البحيرة خليجًا يدعى خليج هيرويوليس نسبة إلى مدينة كانت قائمة على مسافة قصيرة من رأسه بالقرب من فيثوم (تل المسخوطة).

والوصل بين البحرين بواسطة النيل يتم بحفر ترعة موصلة بين النيل والبحر الأحمر، أما البحر المتوسط فإن النيل يصب فيه. وأول من فكر في ذلك سيتي الأول من ملوك العائلة التاسعة عشرة، فأراد أن يصل النيل بالبحيرة المرة بترعة. ويظن أرستوتل وسترابو وبلينيوس أن سيزوستريس (رعمسيس الثاني أو الأكبر) هو أول من فعل ذلك في الجيل الرابع عشر قبل الميلاد. وربما كان ظَنُّهُمْ هذا مبنيًّا على أن هذا الملك هو الذي أسس مدينة فيثوم المتقدم ذكرها، فرجحوا أنه احتفر إليها ترعة من النيل لريها. وهذه الترعة توصل بين النيل وخليج هيروبوليس فيتم الاتصال المطلوب. أما المُعوَّل عليه بالإسناد إلى المصادر التاريخية الوثيقة أن أول من أخرج ذلك إلى حيز الفعل إنما هو الملك نخاو الثاني من العائلة السادسة والعشرين (سنة ٦١٠ق.م) فاحتفر ترعة تنشأ من فرع بلوسيوم عند بوباسبس بالقرب من الزقازيق، وتسير فيما يُدعَى الآن وادي القنال حتى هيروبوليس، ويقال إن امتداد هذه الترعة كان ٦١ ميلًا من الأميال الرُّومانية (نحو ٥٧ ميلًا إنكليزيًّا).

فلما استولى الفرس على مصر أتمها الملك داريوس (دارا) بن هستاسبس سنة ٥٢٠ق.م، وكان المَضِيق بين هيروبوليس والبحر الأحمر كاد يمتلئ من الرواسب، فأمر بجرفه وتوسيعه وكان طوله نحو عشرة أميال. ولا تزال آثاره باقية إلى هذا العهد بالقرب من شالوف عند الطرف الجنوبي للبحيرة الكبرى وترعة الإسماعيلية. ويشاهد هناك بعض الآثار الفارسية الدالة على صحة ذلك. وكان المعروف إذ ذاك أن البحر الأحمر أعلى من النيل كما تقدم، فلم يجسر نخاو ولا داريوس على إيصال ترعتهما هذه إلى الخليج تمامًا؛ خشية أن يختلط الماءان أو يطوف المالح على العذب. فتمت المواصلة إذ ذاك على هذه الصورة: تسير السفن من البحر المتوسط في فرع بلوسيوم إلى بوباستس ومنها في تلك الترعة إلى هيروبوليس. ومن هذه كانوا ينقلون المحمولات إلى مراكب البحر الأحمر على الدواب أو غيرها، فكانوا يُقاسُون في ذلك بعض المشقة، فلما تولى بطليموس فيلادلفوس وجَّه اهتمامه إلى إصلاح ذلك الخلل سنة ٢٨٥ق.م، فاحتفر ترعة موصلة بين هيروبوليس ورأس البحر الأحمر، وترعة أخرى من هيروبوليس إلى خليج هيروبوليس ووسَّع المَضِيق. فأصبح هناك ترعتان كلتاهما متصلة بالبحر الأحمر، واتخذ حواجز واحتياطات أخرى لمنع طغو المياه المالحة على العذبة، بحيث يمكن للسفن أن تمر إلى الخليج وإلى البحر الأحمر مع توقي الطغيان. وابتنى عند مصب الخليج في البحر الأحمر مدينة دعاها أرسينوا، جعلها محطة بحرية تنتهي إليها المراكب القادمة عن طريق النيل وتقلع منها السائرة في البحر الأحمر.

ثم أخذ ماء النيل يتحول عن فرع بلوسيوم شيئًا فشيئًا حتى جَفَّ ماؤه فبطلت تلك الترعة. حتى إذا كان الإسلام وفُتِحَتْ مصر على يد عمرو بن العاص أمره الخليفة بإنشاء ترعة يسهل نقل المؤن عليها إلى الحجاز، فاحتفر قناة دعاها خليج أمير المؤمنين فابتدأ بها عند مصر القديمة حيث يبتدئ خليج مصر اليوم، فسار بها في ظاهر الفسطاط حتى القاهرة ومنها إلى المطرية ومنها إلى بوباستس، حيث تبتدئ الترعة القديمة، ومن بوباستس إلى البحر الأحمر. وما زالت تسير السفن في خليج أمير المؤمنين إلى أيام الخليفة المنصور فأمر بردمه منعًا لإمداد العلويين الذين ثاروا في المدينة. وما زال مردومًا إلى الآن. ويقال إن الحاكم بأمر الله الفاطمي أمر بحفره سنة ١٠٠٠ للميلاد لتسير فيه السفن الصغيرة ثم أُهْمِلَ فطمرته الرمال. وظل من آثاره إلى عهد غير بعيد الخليجُ الذي كان يقطع القاهرة من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وهو المعروف بخليج مصر. كان ينشأ من فم الخليج عند مصر القديمة ويسير نحو الشمال الشرقي، وقبل أن يبلغ نِظارة المالية ينعطف نحو الشرق الجنوبي حتى جامع السيدة زينب فيعود إلى سيره نحو الشمال الشرقي، فيمر بجانب بركة الفيل ثم سراي درب الجماميز فتكية الحبانية ثم يقطع شارع محمد علي، فيمر بجانب سراي منصور باشا إلى أن يقطع السكة الجديدة قرب اتِّصالها بشارع الموسكي، فيمر تاركًا كنيسة اللاتينيين وكنيسة السريان إلى يساره، وكنيسة الأرمن وكنيسة القبط إلى يمينه إلى أن يصل إلى بداية سكة مرجوش فيتركها إلى يمينه، ثم يقطع سور القاهرة عند باب الشعرية ويسير خارج القاهرة إلى شارع الظاهر، فيمر تاركًا جامع الظاهر إلى يمينه حتى يلتقي بترعة الإسماعيلية وهناك ينتهي.

وكانت فائدة هذا الخليج قاصرة على ري المدينة وبعض ضواحيها، وكانوا يحتفلون بفتحه سنويًّا عند وفاء النيل، فلما توزعت المياه في القاهرة بالأنابيب إلى المنازل لم تبقَ له فائدة فأذِنت الحكومة لشركة ترمواي القاهرة بردمه ومد خط الترمواي فوقه، وهو الفرع المعروف بترمواي الخليج الآن.

(ﺟ) الوصل بينهما بقناة مالحة

وهي الباقية إلى الآن — نعني قناة السويس — وقد فكر في حفرها الفراعنة ولكنهم خافوا طغيان الماء كما تقدم. وفكر فيه أيضًا المسلمون منذ فتحوا مصر، فذكروا أن عمرو بن العاص أراد فتح قناة توصل بين البحرين، فمنعه عمر بن الخطاب لئلا يتخذها الروم طريقًا إلى الحجاز. وأراد ذلك الرشيد بعده على أن يحفر ترعة ممَّا يلِي بلاد الفرما نحو بلاد تنيس، بحيث يكون مصب البحر الأحمر في البحر المتوسط، كما هو حاله اليوم، فشاور وزيره يحيى بن خالد فقال له: «إذن يخطف الروم الناس من المسجد الحرام والطواف؛ وذلك أن مراكبهم تنتهي من البحر القلزم (الأحمر) إلى بحر الحجاز فنطرح سراياها مما يلي جدة، فيخطف الناس من المسجد الحرام ومكة والمدينة.» فامتنع عن ذلك. وربما فكر فيه غيره من ملوك المسلمين ولم يُخرِجوه إلى حَيِّزِ الفعل.

ثم ذهبت دولة العرب وأخذ الإفرنج يهبُّون من سباتهم وسعوا في اكتشاف الطرق التجارية، وكانت التجارة بين أوروبا والمشرق في الأجيال الأخيرة محصورة على نوع ما في فينيسيا (البندقية)، وكان الفينيسيون أبرع الناس فيها وأكثرهم اشتغالًا بالأسفار بين البحرين عن طريق مصر. فلما اكتشف رأس الرجاء الصالح تحولت تلك التجارة إلى يد البرتغاليين فشق ذلك على الفينيسيين، فاهتموا بإنشاء ترعة توصل بين البحرين، فخابروا سلطان مصر إذ ذاك (قنسو الغوري)، وما زالت المخابرات بهذا الشأن دائرة حتى الفتوح العثماني حتى سنة ١٥١٧م، فبطلت وأُهمِل المشروع. فلما كانت الحملة الفرنساوية اهتم نابوليون بونابرت بذلك الاتصال بواسطة برزخ السويس، فاستكشف البرزخ ومعه المهندس الشهير موسيو لابير سنة ١٢١٣ﻫ أو ١٧٩٨م، وتفحَّصاه تفحصًا مدققًا، فزعم لابير أن البحر الأحمر يعلو المتوسط ٣٠ قدمًا فعدل عن فتح ترعة موصلة بين البحرين رأسًا، وقدم التقرير الآتي ويتضمن أفضل ما رآه من الطرق:
  • (١)

    الاتصال بواسطة النيل وفروعه وذلك بترعة من الإسكندرية إلى الرحمانية على فرع رشيد. وفي النيل من هناك إلى القاهرة وبخليج أمير المؤمنين من القاهرة إلي البحيرة المرة حيث يقام الحواجز. ومن هناك إلي السويس بترعة مالحة.

  • (٢)

    الوصل بين البحرين رأسًا بأن تحفر ترعة بين السويس والبحيرة المُرَّة وترعة أخرى بين البحيرة المرة وبلوسيوم. إلا أن هذا التقرير لم يباشر تنفيذه قبل أن قضي على تلك الحملة بالانسحاب من مصر.

وفي سنة ١٢٥٥ﻫ أو ١٨٣٧م أنشأت شركة البواخر الشرقية خطًّا تجاريًّا بين الهند وإنكلترا، عن طريق برزخ السويس بأن تأتي المنقولات في البحر المتوسط إلى أول البرزخ، فتنقل في البر إلى السويس، ومنها في البحر الأحمر إلى الهند وغيرها.

وفي سنة ١٢٦٤ﻫ أو ١٨٤٦م تعينت لجنة مختلطة للنظر في تقرير لابير، فقررت أن الفرق بالارتفاع بين البحرين لا يُعبأ به، إلا أنها انحلَّت ولم تصل إلى نتيجة، وتركت ذلك إلى أحد أعضائها الموسيو تالابوت فكان من رأيه تتبع الترعة القديمة من السويس إلى تل بسطة (قرب الزقازيق) رأسًا، واحتفار ترعة من هناك إلى رأس الدلتا حيث القناطر الخيرية الآن، فتقام لها قناطر تسير عليها مياه تلك الترعة إلى البر الغربي، ومن هناك تتم الترعة إلى الإسكندرية. فكأنه يريد إيصال البحرين بترعة تمر بين السويس والإسكندرية وتقطع رأس الدلتا، فلم يصادف مشروعه استحسانًا لما كان يحول دون ذلك من المشاقِّ. ثم قدم الخواجات بارولت تقريرًا من مقتضاه أن يوصل البحر الأحمر ببحيرة المنزلة إلى دمياط، ثم يقطع النيل وتتم الترعة إلى رشيد فيقطع فرع رشيد أيضًا، وتوصل الترعة إلى الإسكندرية، فلم يصادف هذا نجاحًا أيضًا لمشابهته بمشروع تالابوت.

وفي سنة ١٢٧١ﻫ أو ١٨٥٥م اهتم لينال بك وموجل بك تحت إدارة الموسيو دلسبس في أمر هذه المواصلة، بعد أن حصل هذا الأخير على البراءة في ذلك من سعيد باشا والي مصر إذ ذاك، فأقرُّوا على وجوب فتح ترعة في خط مستقيم بين السويس وبلوسيوم مارَّة في البحيرات المُرَّة، فبحيرة التمساح فالمنزلة. وأن تتصل هذه الترعة من طرفيها بحواجز عند التقائها بالبحرين. وأقرا أيضًا على احتفار ترعة عذبة من بولاق مصر توصل المياه إلى بلوسيوم. فعمل الموسيو دلسبس تقريرًا في ذلك وعرضه سنة ١٨٥٦ على لجنة دولية مؤلَّفة من نواب دول أوستريا وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وبروسيا وإسبانيا، فأدخلت فيه تعديلات من مقتضاها أن تنتهي تلك الترعة من طرفها الشمالي في نقطة على مسافة ١٧ ميلًا ونصف إلى الغرب من بلوسيوم، حيث بورت سعيد الآن، وسبب ذلك أن مياه البحر المتوسط هناك عمقها بين ٢٥ و٣٠ قدمًا على مسافة ميلين من الشاطئ، أما عند بلوسيوم فلا تبلغ هذا العمق إلا على مسافة خمسة أميال. وأن تغفل الحواجز عند طرفي الترعة. وتم الاتفاق على ذلك وأخذوا في العمل، وانتهى حفرها في ١٩ نوفمبر سنة ١٨٦٩ في زمن الخديوي إسماعيل، فاحتفل بفتحها احتفالًا عظيمًا حضره ملوك أوروبا أو مندوبوهم كلَّف مصر نحو مليون جنيه.

(د) القناة والحكومة المصرية

تم إنشاء هذه القناة بعقود مُبرَمة بين الحكومة المصرية والشركة التي أنشأتها. فأول عقد أُبرِم في ٣٠ نوفمبر سنة ١٨٥٤ بين سعيد باشا والي مصر وبين فردينان دلسبس صاحب المشروع، وأذن له بمصادقة السلطان عبد المجيد بتشكيل شركة من متمولي العالم لجمع المال اللازم لحفر القناة الموصِّلة بين البحرين، ويكون لها حق الانتفاع بريعها ٩٩ سنة من يوم فتحها. وأنه بعد انقضاء المدة المذكورة تحل الحكومة محل الشركة، فيَئُول إليها جميع حقوقها وتصير الترعة وما يتبعها من الأبنية ملكًا لها إلا الأدوات والأثاث فإنها تدفع أثمانها. وتعهد سعيد باشا في ذلك العقد أن يشارك الشركة هو وحكومته لإخراج هذا المشروع لحيز الوجود. وتعهَّد في لائحة صدرت بعد سنتين أن يكون أربعة أخماس الفَعَلة الذين يشتغلون في حفر القناة من المصريين، واشترطت أشياء أخرى لمصلحة الشركة.

وتعهدت الشركة من الجهة الأخرى أن تنجز العمل في سِتِّ سنوات، وأن تتكفل هي بالنفقات اللازمة، وأن القناة تكون طريقًا حرًّا لكل طارق بلا تفريق بين الدول أو الأمم، وأن يكون للحكومة المصرية ١٥ في المائة من صافي الربح، ولها أن تشتري من أسهم الشركة المقدار الذي تريده.

واضْطُرَّتِ الحكومة سنة ١٨٦٦ إلى عقد وفاق ثالث مع الشركة يقضي على الحكومة بغرامة؛ وذلك أن السلطان عبد العزيز اعترض على تعهد سعيد باشا بتشغيل المصريين في القناة رغم إرادتهم، واعتبر ذلك من قبيل السخرة الجبرية، وهي تخالف الحرية الشخصية، فاضطر إسماعيل باشا وهو الخديوي يومئذٍ أن يدفع للشركة غرامة مقدارها مليون ونصف من الجنيهات.

ابتدأت الشركة بالحفر سنة ١٨٥٩ وأعلنت الاكتتاب بأسهمها، فاشترت الحكومة المصرية على عهد سعيد باشا ١٧٧٦٤٢ سهمًا، وذلك يعدل نحو ٤٤ في المائة من رأس مال الشركة، واشترت فرنسا ٢٠٧١٦٠ سهمًا — أي نحو ٥٢ في المائة — ولم تشتر إنكلترا إلا ٨٥ سهمًا.

ففُتِحَتْ القناة للملاحة سنة ١٨٦٩ وبيد الحكومة المصرية ٤٤ في المائة من أسهمها، ثم كان ما سيأتي ذكره من تهوُّر إسماعيل في النفقات على البلاد وعلى نفسه، واضْطُرَّ للأموال فجعل يبدِّد مما في يديه من الأسهم. واحتاج أخيرًا إلى مبلغ كبير وكان لا يزال عنده من الأسهم ١٧٦٠٠٠، فتقدمت فرنسا لابتياعها فانتبهت إنكلترا لما يترتب على ذلك من تغلُّب نفوذ فرنسا في ذلك الطريق. فما زالت تسعى حتى ابتاعت تلك الأسهم بمبلغ ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه وهي لو بقيت إلى اليوم لبيعت بثلاثين مليونًا أو أكثر.

وتورط إسماعيل في السخاء فاحتاج إلى مال آخر، فاقترض مليون جنيه من شركة السنديكات الكبرى ورهن عندها حصة مصر من أرباح القناة — أي ١٥ في المائة — فلما اقتضى إسرافه تداخُل أوروبا في الشئون المالية المصرية ظهر للمولجين بالبحث والتفتيش ثقل ما تحملته مصر من الديون، فوضعوا قانون التصفية وعجزت مصر عن دفع المليون المذكور، فتنازلت عن الرهن وتألفت شركة فرنساوية دفعت الدَّين وقامت مقام مصر في الاستيلاء على حصتها المشار إليها. ويقدرون جملة ما وصلها من ذلك بأربعين مليون جنيه.

وكان إسماعيل قبل بيع أسهم القناة قد باع أرباحها لعشرين سنة، فلما باع الأسهم لإنكلترا سوت مسألة تلك الأرباح بأن تسددها الحكومة المصرية بأقساط مقدارها ٢٠٠٠٠٠ جنيه كل سنة إلى سنة ١٨٩٦.

وأرادت الشركة أن تمد أجل امتيازها فعرض المستشار المالي ذلك بصفة مشروع يقضي بأن تزيد الحكومة مدة امتياز الشركة ٤٠ سنة فضلًا عن الستين الباقية، بحيث يصير آخرها سنة ٢٠٠٨ وتقبض مصر في مقابل ذلك أربعة ملايين جنيه تستولي عليها في أثناء أربع سنوات (من سنة ١٩١٠–١٩١٣)، ويكون لها من سنة ١٩٢١ حصة من الربح تبدأ بأربعة في المائة، وتزداد إلى ستة فثمانية فعشرة فاثني عشر في المائة إلى سنة ١٩٦٩، وهي نهاية مدة الامتياز الأصلية. ومتى دخلت مدة الامتياز الجديد تستولي الحكومة المصرية فيه على خمسين في المائة من أرباح الشركة الصافية. ومتى انتهت هذه المدة سنة ٢٠٠٨، تصير القناة وأبنيتها ملكًا لها إلا الأدوات والأثاث فتدفع قيمتها.

ولما نشر المستشار مشروعه طلب الأهلون عقد الجمعية العمومية لأخذ رأيها فيه، وفوضت الحكومة إليها الحكم القطعي بشأنه فقررت رفضه.

(٥-٣) عود إلى إسماعيل

وفي السنة الأولى من ولاية إسماعيل حلَّت ركاب السلطان عبد العزيز في القطر المصري، فلاقى ترحابًا جديرًا به.

وفي عام ١٨٧٢ تعدَّى الأحباش على حدود مصر مما يلي بلادهم، وأسَرُوا بعضًا من رعايا مصر فبعثت الحكومة المصرية تطلب ردهم، فجرت المخابرات فآل ذلك إلى حرب جرَّد فيها إسماعيل حملة لم تنَل غرضًا فانتهت الحرب بالصلح. وفي عام ١٨٧٣ شخص — رحمه الله — إلى دار السعادة، فاحتفل بقدومه فعاد وقد حاز رضى الحضرة الشاهانية ورجال المابين الهمايوني، وفي تلك السنة احتفل بزواج أنجاله الثلاثة، وهم المغفور لهم: توفيق باشا الخديوي السابق، والبرنس حسن باشا، والبرنس حسين باشا احتفالًا واحدًا تحدَّث به الناس زمنًا طويلًا، وممَّا زاد ذلك الاحتفال بهجة أنهم نالوا عندئذٍ رتبة الوزارة الرفيعة معًا.

(٥-٤) الديون المصرية

ولنَأْتِ الآن إلى أمر هواهم الأمور المتعلقة بصاحب الترجمة، وعليها مدار ما آل إليه أمره، نريد به أمر الديون التي تعاظمت على مصر في أيامه. وإيضاحًا لذلك نذكر ملخص تاريخ الدين المصري. فأول من وضع جرثومة الدين المصري المغفور له سعيد باشا عام ١٨٦٢، وقدره الاسمي ٣٢٩٢٨٠٠ جنيه بفائدة ٧ بالمائة، وفي السنة التالية تولى صاحب الترجمة تخت الحكومة المصرية، فأخذ في البذل والإنفاق في التشييد والبناء وغير ذلك حتى زادت النفقات على الدخل. فكان إذا أراد عملًا جنح إلى الاستقراض لا يبالي بعاقبة ذلك، حتى بلغت ديون مصر نحو مائة مليون جنيه فأصبحت حملًا ثقيلًا على الخزينة المصرية وعلى أهالي البلاد؛ لأنه كان يضرب الضرائب الفادحة ليفي منها فائدة تلك الديون، ويستخدم العنف في تحصيلها من الأهالي حتى آلَ الأمر إلى مداخلة الدول الأجنبية للمحافظة على أموال رعاياها أصحاب الديون.

فتخابرت الدول وتشاورت في أحسن الوسائل لضمان تلك الأموال واستهلاكها، فألفت لجنة دولية مشتركة سمَّوها صندوق الدين العمومي صدر الأمر العالي بتشكيله في ٢ مايو عام ١٨٧٦، وورد في ذلك الأمر أن هذا الصندوق قد أُنْشِئَ لتأمين أرباب الديون على ديونهم، واستلام ما يستحق لهم من الفوائد وغيرها، وأن الحكومة لا يجوز لها تجديد قرض إلا بالاتفاق مع صندوق الدَّيْنِ، وأن الدعاوى التي يتراءى لصندوق الدَّيْن رفعها على الحكومة تنظر في المجالس المختلطة.

وكانت الديون المصرية قسمين: دَيْنُ الحكومة ودَيْنُ الدائرة السنية، فضموهما في ٧ مايو من تلك السنة إلى دَين واحد فبلغ قدره ٩١ مليون جنيه وسمَّوْه الدَّين المُوَحَّد بفائدة ٧ بالمائة، ويتم استهلاكه في ٦٥ عامًا. ثم رأى إسماعيل باشا أن توحيد الدَّين على هذه الصورة لا يتيسر له إتمامه، فأصدر في ١٨ نوفمبر منها أمرًا يقول فيه أن تصدر الحكومة المصرية عليها سندات بمبلغ ١٧ مليون جنيه تكون ممتازة برهن خصوصي هو السكة الحديدية المصرية ومينا الإسكندرية، وفائدته ٥ بالمائة وسمَّاه الدَّين الممتاز.

على أن كل هذه الوسائل لم تكُن كافية لإقناع الدول؛ لأن الحكومة لم تكن تقوم باستهلاك الديون حسب الشروط، فعينت الدول عام ١٨٧٨ لجنة مالية لمراقبة حسابات الحكومة المصرية فرأت فيها عجزًا مقداره مليون ومائتا ألف جنيه، فتنازل إسماعيل باشا عن أملاكه الخاصة وأملاك عائلته للحكومة، وهي التي تعرف بأملاك الدومين. وتقرر في تلك السنة استقراض ثمانية ملايين جنيه ونصف، وجعلوا أملاك الدومين رهنًا لها، وهذا هو الدَّين المعروف بدين روتشيلد.

(٥-٥) إقالته

وكانت أعمال الحكومة المصرية تجري بمقتضى إرادة الخديوي رأسًا، أما بعد مداخلة الأجانب بأحوال المالية فلم يَرَ إسماعيل بُدًّا من جعل حكومته شوروية، فشكل مجلس النظار على ما هو عليه الآن برئاسة نوبار باشا وصادَق على تعيين ناظرَيْن: أحدهما إنكليزي وهو المستر ولسن للمالية، والآخر فرنساوي وهو المسيو بلينير للأشغال العمومية. فرأى مجلس النظار أن يقتصد شيئًا من نفقات الجند، فرفت جانبًا منهم فثار المرفوتون وجاء جماعة منه، وفيهم ٤٠٠ ضابط إلى نِظارة المالية، وأمسكوا بنوبار باشا والمستر ولسن وطلبوا إليهما دفع ما تأخَّر لهم من رواتبهم، وخاطبوهم بعنف وشدة حتى علت الضوضاء وكادت تئول إلى ثورة لولا أن أقبل إسماعيل باشا وخاطب الجند ووعدهم وأمر بانصرافهم، أما هم فحالما رأوه ذعروا وكأنه جاءهم برقية أو سحر فانكفَئوا راجعين. والمظنون أن ذلك حصل بالتواطؤ من قبل، وهي أول ثورة عسكرية حدثت في هذا العهد.

ثم استقال الوزيران نوبار ورياض تخلُّصًا من عبء التَّبِعة؛ لما آنسوه في أعمال الخديوي من الخطر، فشكل مجلسًا آخر برئاسة ابنه توفيق باشا (الخديوي السابق) على أن ذلك لم يُقَلِّلْ شيئًا من القلاقل؛ لأن الداء لم يكُن في المجلس، ولكنه كان في مقاصد إسماعيل لأنه استعظم أغلال يديه بمجلس فيه ناظران أجنبيان فقلب هيئة ذلك المجلس في ٧ أبريل عام ١٨٧٩، وأخرج الناظرين الأجنبيين وعهد برئاسة المجلس إلى المرحوم شريف باشا، فعظم ذلك على دولتي إنكلترا وفرنسا لأنهما اعتبرنا تلك المعاملة إهانة لهما، فعمدتا إلى الانتقام فسعتا في ذلك لدى الباب العالي سرًّا وجهرًا. وفي ٢٦ يونيو عام ١٨٧٩ صدر الأمر الشاهاني بإقالته وتولية المغفور له توفيق باشا، وفي ٣٠ منه سافر إسماعيل باشا من القاهرة إلى الإسكندرية ومنها إلى أوروبا، ويقال إنه خاطب ابنه توفيق باشا عند سفره قائلًا:

لقد اقتضت إرادة سلطاننا المعظم أن تكون يا أعز البنين خديوي مصر، فأوصيك بإخوتك وسائر الآل برًّا واعلم أني مسافر وبودي لو استطعت قبل ذلك أن أزيل بعض المصاعب التي أخاف أن توجب لك الارتباك. على أني واثق بحزمك وعزمك، فاتبع رأي ذوي شوراك وكن أسعد حالًا من أبيك.

وما زال بعد سفره مقيمًا في أوروبا حتى أفضت به الحال إلى الإقامة في الأستانة العلية، فأقام فيها إلى أن توفاه الله فيها في ٦ مارس عام ١٨٩٥، وله من العمر ٦٥ سنة فحُمِلَتْ جثته إلى مصر ودفنت فيها.

(٥-٦) أعماله وآثاره

قلنا: إن إسماعيل باشا كان شديد الشغف بتنظيم المدن؛ حتى قيل إنه يريد أن يجعل القاهرة تضاهي باريس بالنظام والترتيب، فنظم طرقها ووسعها، وأكثر من فتح الشوارع الجديدة، وابتناء الأبنية الفاخرة كالأوبرا الخديوية والقصور الباذخة في القاهرة والإسكندرية، وأعظم تلك الأبنية سراي الجيزة، وهي مما تقصر عنه همم الملوك حتى ضُرِبَتْ بها الأمثال، وأنشأ المتحف المصري في بولاق والمكتبة الخديوية وهما من أَجَلِّ الآثار وأنفعها. أما المتحف فقد أنشأه بأمره مارييت باشا وقبره فيه. وكان المتحف أولًا في بولاق ثم نُقِلَ على عهد الخديوي السابق إلى سراي الجيزة، ثم نُقِلَ في عهد الخديوي الحالي إلى بناية بَنَوْهَا له خاصة بجوار قصر النيل.

fig098
شكل ٣-٢٢: مارييت باشا مؤسس المتحف المصري.

ومارييت باشا فرنساوي الأصل وُلِدَ في بولون سيرمير سنة ١٨٢١، ونشأ على حب الآثار المصرية ودرسها. ثم اتفق سنة ١٨٥٠ أن الإنكليز أنفذوا إلى مصر وفدًا لغويًّا يبحث في مكاتب الديور المصرية عن الكتابات القبطية القديمة، فعثروا في دير بوادي النطرون على أوراق كثيرة أرسلوها إلى لندن فاقتدى الفرنساويون بهم، وكانوا إنما يرجون بأبحاثهم هذه العثور على حقائق جديدة تتعلق بتاريخ اليونان. وكان مارييت قد اشتهر بينهم بمعرفة هذه اللغة، فعينوه في هذه المهمة براتب مقداره ثمانية آلاف فرنك، فسافر في ٤ سبتمبر سنة ١٨٥٠ حتى جاء القاهرة، فرأى أنه لا يستطيع الذهاب إلى ذلك الدير أو غيره إلا بوصية من بطريرك القبط، وكان البطريرك قد غضِب من تصرف الوفد الإنكليزي لأنهم حملوا ما حملوه من الكتب جبرًا. وبعد السعي والالتماس رضي أن يكتب إلى مارييت كتاب توصية باسم رئيس دير الأنبا مقار. على أن مارييت لم يكن يرجو الحصول على ذلك الكتاب قبل مضي ١٥ يومًا. فلكي لا يضيع فرصة أخذ يتعهد مشاهد القاهرة فسار إلى القلعة. وكان ذهابه إليها سببًا لتغيير عظيم في مستقبل حياته؛ لأنه أشرف من سورها على ضواحي العاصمة، فرأى أهرام الجيزة وأهرام سقارة فتاقت نفسه إلى زيارتها، وقد نسي ما جاء من أجله فركب إلى سقارة وتوغل في صحرائها يتوقع العثور على آثار مهمة لقربها من أنقاض منف العظمى، فوقف يتفرَّس في تلك الرمال القاحلة فرأى فيها حجرًا ناتئًا يشبه رأس الإنسان فتأمله فإذا هو رأس أبي الهول. وكان قد شاهد أمثال هذا التمثال قبلًا فلم يهمه ذلك الاكتشاف لغرابته، ولكنه توسَّم منه خيرًا لما سبق إلى ذهنه ممَّا قرأه في استرابون عن آثار منف، وما زال حتى وفق إلى اكتشاف السرابيون في تاريخ طويل فصلناه في ترجمته في مشاهير الشرق الجزء الثاني. ولما تولى إسماعيل هَمَّ بإنشاء متحف الآثار المصرية فلم يجد أولى منه. وتوفي مارييت سنة ١٨٨٠.

أما المكتبة الخديوية، فما زالت في درب الجماميز حتى نُقِلَتْ إلى بناية بَنَوْهَا لها وللمتحف العربي بباب الخلق تفتخر بها مصر على سائر الأمصار الشرقية لما حوته من الآثار العلمية، وبينها جانب كبير من الكتب الخطية التي يعز وجودها.

ومن أعمال إسماعيل أنه جَرَّ الماء بالأنابيب إلى بيوت العاصمة، وكان الناس يستقون قبلًا بالقِرَب والصهاريج، وعمم زرع الأشجار في المدن وضواحيها، وأنار القاهرة بالغاز، وتدارك ما ينجم عن الحريق باستجلاب آلات الإطفاء.

fig099
شكل ٣-٢٣: نوبار باشا معين الخديوي إسماعيل في إنشاء المجالس المختلطة.

وهو الذي نظم معظم فروع الإدارة على ما هي عليه الآن، فقسم القطر المصري إلى ١٤ مديرية وعيَّن لها المراكز وأسس مجلس النواب ونظمه. ونظم مجالس القضاء الأهلي والقضاء الشرعي، وجعل لكلٍّ روابط وحدودًا. ووضع نظام المجالس الحسبية وأنشأ مجلس حسبي القاهرة. وعلى عهده أنشئت المجالس المختلطة بمساعي وزيرة نوبار باشا، فأنفذه سنة ١٨٦٧ إلى أوروبا مندوبًا مفوضًا لمخابرة الدول العظمى في إنشاء محاكم مختلطة تقوم مقام المحاكم القنصلية التي كانت مرجع محاكمة الأجانب في ذلك الحين، فقضى في سعيه هذا سبع سنوات يتردَّد في أثنائها بين ممالك أوروبا، ويفاوض عظماءها وملوكها والخزينة المصرية مفتوحة بين يديه، فأنفق أموالًا طائلة ولكنه عاد ظافرًا غانمًا. وقد أراد إسماعيل بتلك المجالس تقليل تفرُّد القناصل وحصر التوسط الأجنبي، ولكنها كانت سببًا لزيادة النفوذ واتساع دائرته. وكانت مصلحة البريد قبلًا شركات أجنبية، فأنشأ مصلحة البوسطة المصرية، وجعلها من المصالح الأميرية كما هي الآن.

(أ) البريد المصري

كان البريد في زمن محمد علي يُنقل على الخيل أو على أيدي السعاة بين القاهرة والإسكندرية ودمياط ورشيد. ولما تكاثر الأجانب شعروا بالحاجة إليه فأنشَئوا بريدًا إفرنجيًّا تولاه رجل إيطالي سنة ١٨٤٠ وتولاه غيره حتى دخل في خدمته إيطالي آخر اسمه جاكمو موتسي، وكان نشيطًا دربًا فعمل على توسيع نطاقه، فأنشأ له نحو سنة ١٨٥٤ فروعًا في دمياط والمنصورة وزفتى ودمنهور ورشيد وطنطا وغيرها.

fig0100
شكل ٣-٢٤: موتسي بك أول مديري البريد المصري.

فقامت المناظرة بين البريد الأوروبي وبريد الحكومة المصرية. ولم تكن الحكومة تستطيع إلغاء ذلك البريد احترامًا للامتيازات الأجنبية، فسعت في ضم البريدين، وجعلت فاتحة ذلك الاتفاق رخصة وقتية أعطتها لصاحبي البريد الأوروبي تيتوكين وموتسي، تُخوِّلهما إدارة البريد بمصر إلى عشر سنوات على أن تنقل المراسلات بالسكة الحديدية المصرية مجانًا، فكان ذلك فاتحة تنظيم البريد.

وتُوُفِّيَ تيتوكين بعد سنتين واستقل موتسي بالعمل، وخطر له الرجوع إلى بلده، فأراد أن يبيع الرخصة لبعض البنوك الإفرنجية فاغتنمت الحكومة هذه الفرصة وعرضت على موتسي المذكور أن يعيد البريد للحكومة قبل انتهاء مدة الرخصة، ويتولى إدارته بنفسه على شروط رضيها، وانضم البريدان سنة ١٨٦٥ وسُمِّيَا معًا «البوسطة الخديوية»، وسمي جاكمو موتسي مديرًا عامًّا عليها، وأُنعِم عليه بالرتبة الثانية مع لقب بك فصارا اسمه موتسي بك، وهو أول مديري البريد المصري.

وتكاثر قدوم الأجانب إلى مصر في عصر إسماعيل وزادت الحركة التجارية زيادة كثيرة، وزادت الحاجة إلى البريد فأنشأ موتسي بك فروعًا له في البلاد والقرى الكبرى في مصر السفلى والعليا وعلى شواطئ البحرين الأبيض والأحمر، وجعل ديوانه المركزي في الإسكندرية وسن له لائحة وقوانين رسمية، وجعل لمراسلاته تعريفة عمومية، وكانت المراسلات تُنقَل في أول عهد البريد بلا طوابع. فاصطنع موتسي بك طوابع البريد المصري لأول مرة سنة ١٨٦٦، وجعل رسمها مثل رسمها الآن في وسطه صوره أبي الهول والأهرام بشكل بيضي، وحوله اسم البريد وقيمة الطابع.

وما زال البريد المصري مستقلًّا عن البرد الإفرنجية إلى سنة ١٨٦٨، فعقد أول معاهدة في هذا السبيل مع بريد النمسا، ثم عقد معاهدة أخرى مع بريد إيطاليا، وفي سنة ١٨٧٣ عقد معاهدة ثالثة مع بريد إنكلترا، وفي السنة التالية (١٨٧٤) دخل البريد المصري في اتحاد البوسطة العام.

(ب) المطابع والجرائد

وحسَّن إسماعيل مطبعة بولاق، وزاد فيها وأمر بترجمة الكتب المفيدة وطبعها ونشرها، وأسس معملًا للورق ونشط المطبوعات، فلم يكن في القاهرة إلا جريدة الوقائع المصرية تَصدُر على غير نظام فجعل لها إدارة خاصة بها. وتكاثرت على عهده المطابع والجرائد العربية كجريدة التجارة، ومصر، والوطن، والأهرام، والكوكب الإسكندري، وروضة الإسكندرية، وروضة المدارس، واليعسوب، ونزهة الأفكار، وحديقة الأبصار، وبالجملة فقد كانت للعلم في أيامه نهضة مرجع الفضل بها إليه؛ لأنه كان يحب العلماء ويجيز المجيدين منهم ويأخذ بناصرهم ماديًّا وأدبيًّا، وكان يشهد الاحتفال بامتحان التلامذة بنفسه ويسلم الجوائز لمستحقيها بيده، وقد ينهض عند تقديمها تنشيطًا لهم.

(ﺟ) المواصلات

ولم يكُن في القطر المصري يوم تولِّيه إلا خط حديدي ممتد بين القاهرة والإسكندرية، فأنشأ كثيرًا من الخطوط الأخرى الممتدة إلى سائر أنحاء القطر شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، ومد أسلاك التلغراف حتى أوصلها إلى السودان، وقد بلغت نفقات الخطوط الحديدية والآلات التجارية والعربات والآلات التلغرافية التي أحدثها بين عام ١٢٨١ و١٢٩٠ﻫ ٩٦٥٨٣٢٧ جنيهًا، على تقدير المرحوم صالح مجدي بك.

(د) الأبنية

fig0101
شكل ٣-٢٥: سوق الرقيق في الخرطوم – تاجر يساوم على جارية.

ومن آثاره مدينة الإسماعيلية بناها على قنال السويس، وسماها باسمه وجعل فيها الحدائق والقصور، وأنشأ المنارات في البحرين الأبيض والأحمر، وزَيَّنَ حديقة الأزبكية بغرس أشجارها وتسويرها ورتب فيها الموسيقى، وبنى بنايات كثيرة بالقرب من طره على طريق حلوان لمعامل البارود والأسلحة الصغيرة أنفق على بنائها مبالغ كبيرة، ولكنه لم يستعملها. وبنى ليمان الإسكندرية والحمامات المعدِنية في حلوان ولولاها لم تعمر حلوان، وبنى المرصد بالعباسية، وكثيرًا من معامل السكر في سائر أنحاء القُطر، هذا فضلًا عن الترع الكثيرة والجسور الهائلة. ومن أشهر تلك الترع الإبراهيمية بالصعيد والإسماعيلية بين القاهرة والسويس. ومن أعظم الجسور كبري قصر النيل الموصل بين القاهرة والجزيرة، وبنى حوضًا لترميم السفن في السويس.

ومما تم على يده من الأعمال العظيمة إبطال تجارة الرقيق، وإتمام فتح السودان وإخضاعها، فافتتح مملكة دارفور عام ١٢٩١ﻫ وما بعدها حتى بلغت جنوده الدرجة الرابعة من العرض وراء خط الاستواء. وعني في تحسين أحوال السودان فمهد شلال عبكه. وفتح سدًّا كبيرًا جنوبي مديرية فشوده طوله ستون ميلًا كان يعيق مسير السفن في النيل الأبيض، فتسهلت طرق التجارة كثيرًا. ومن مآثره تسهيل اكتشاف ما غمض من قارة أفريقيا بمد أصحاب الخبرة، كما سيأتي في مقدمة الكلام عن الحوادث السودانية.

(٥-٧) النهضة العلمية في أيامه

وقد علمت ما كان من رواج العلم في زمن محمد علي ثم أصابته صدمة في زمن عباس وسعيد. والأول حالما تولى أقفل المدارس كلها إلا واحدة سماها المدرسة المفروزة لتخريج الضباط البرية والبحرية. حتى مدرسة الطب، فإنه أبدلها بمدرسة بسيطة لإخراج الأطباء للجيش فقط. وكان يختار من تلامذة هاتين المدرستين جماعة يرسلهم إلى أوروبا لإتمام دروسهم كما كان يفعل جده محمد علي.

وجاء بعده سعيد باشا ولم يكن أكثر رغبة من سلفه في التعليم، وكان مع ذلك متقلبًا ينشئ المدارس ثم يأمر بإقفالها ثم يفتحها ويقفلها على ما يبدو له أو تمس الحاجة إليه أو تبعث الحالة عليه. وكان عباس الأول لما أقفل المدارس استبقى ديوانها، فأجهز سعيد باشا على ما بقي وحَلَّ ذلك الديوان وما زال محلولًا حتى أعاده إسماعيل.

تولى إسماعيل باشا سنة ١٨٦٣ وليس في مصر إلا مدرسة ابتدائية ومدرسة ثانوية ومدرسة حربية ومدرسة طبية صيدلية. وكانت هذه المدارس في حالة يرثى لها من الاختلال والتضعضع، فأمر بتنظيمها وعهد بذلك إلى أدهم باشا وكان قد تولى ديوان المدارس بعد مختار بك سنة ١٨٣٩ إلى سنة ١٨٤٩، ففوض إليه إحياء التعليم مهما كلفه إحياؤه. فأنشأ في ناحية العباسية مدرسة ابتدائية، ومدرسة تجهيزية، ومدرسة حربية للفرسان والمشاة، ومدرسة هندسية، ومدرسة للطب. واستقدم للمدرسة الحربية مديرًا وأساتذة من أوروبا، وعهد بالمدارس الأخرى إلى أساتذة من الوطنيين المتخرجين في فرنسا. ولو أمعنتَ النظر في الأحوال السياسية التي كانت محيطة بإسماعيل لرأيته أنشأ هذه المدارس لمثل الغرض الذي أنشأها له جده محمد علي منذ أربعين سنة؛ لأن عنايته الكبرى كانت متجهة على الخصوص إلى المدارس الحربية، وإلى ما يهيئ رجالًا يخدمون حكومته. واقتدى بجده أيضًا في إرسال الشبان إلى أوروبا لإتمام علومهم.

وسهل إسماعيل قدوم الأجانب إلى مصر ورغَّبهم فيها، فأنشَئوا المدارس على ما يلائم أغراضهم، ولكنها عادت بالنفع على الشبيبة المصرية، وكثيرًا ما كانت الحكومة تُنَشِّطُ هذه المدارس بالرواتب السنوية. وحدث في أيام إسماعيل نهضة أدبية بمَن وفد على مصر من رجال الأدب من كل الطوائف وأُنشِئَت الصحف وتألَّفت الجمعيات. فرأى الحال ماسة إلى زيادة العناية في التعليم فأنشأ نظارة المعارف العمومية وعهد إليها بتنظيم المدارس على نمط جديد. فألحقوا مدرسة الحربية بنظارة الحربية، وسَمَّوْا ما بقي من المدارس «المدارس الملكية» تحت نِظَارة المعارف العمومية، وقسموها إلى ثلاث طبقات باعتبار درجة التعليم: ابتدائية وثانوية وعليا وأنشَئُوا مدارس لم تكُن من قبلُ كمدرسة الإدارة، ثم صارت مدرسة الحقوق، ومدرسة دار العلوم، ومدرسة الصنائع والفنون في بولاق، ومدرسة المعلمين، وأعادوا مدرسة الألسن لتخريج شبان يتولَّوْن الترجمة والتحرير في الدواوين. أما التعليم العالي فظل محصورًا في المدرسة التجهيزية، وأكثر وزراء إسماعيل عملًا في ذلك المرحوم علي باشا مبارك.

fig0102
شكل ٣-٢٦: علي باشا مبارك وزير المعارف المصرية.

ولم تمض عشر سنوات من حكم إسماعيل حتى كمل نظام هذه المدارس، وعنيت الحكومة بإنشاء الكتاتيب في سائر أنحاء القُطر فبلغ عددها بضعة آلاف، وزاد عدد التلامذة على مائة ألف وفي جملتها مدارس للبنات. غير ما أنشأه الأجانب من المدارس الخصوصية، وأكثرها لجماعة المرسلين من الطوائف النصرانية.

وفي عهده تأسست المحافل الماسونية الوطنية، وبحمايته تعَزَّز شأن الجمعية الماسونية في مصر، وانتشرت مبادئها حتى انتظم في سلكها نجله المغفور له الخديوي السابق وجماعة كبيرة من أمراء البلاد ووجهائها.

fig0103
شكل ٣-٢٧: السيد جمال الدين الأفغاني في موقف الخطابة.

وحدثت في أواخر أيام إسماعيل حركة فكرية وافقت قدوم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر فزادت الحركة. وجمال الدين من كبار الرجال، كان له مطمع في الإصلاح السياسي، فأتى مصر سنة ١٨٧١ على قصد التفرُّج بما يراه من مناظرها ومظاهرها، ولم تكن له عزيمة على الإقامة بها حتى لاقى صاحب الدولة رياض باشا، فاستمالته مساعيه إلى المقام، وأجرت عليه الحكومة راتبًا مقداره ألف قرش مصري كل شهر نُزُلًا أكرمته به لا في مقابلة عمل. واهتدى إليه بعد الإقامة كثير من طلبة العلم، واستوروا زنده فأورى واستفاضوا بحره ففاض. وحملوه على التدريس فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى والحكمة النظرية من طبيعية وعقلية وفي علم الهيئة الفلكية وعلم التصوف وعلم أصول الفقه الإسلامي. وكانت مدرسته بيته فعظم أمرُه في نفوس طلاب العلوم، واستجزلوا فوائد الأخذ عنه وأُعجِبوا بعلمه وأدبه وانطلقت الألسن بالثَّنَاء عليه وانتشر صيته في الديار المصرية. ثم وجه عنايته لتمزيق حُجُب الأوهام عن أنوار العقول؛ فنشطت لذلك الباب، واستضاءت بصائره، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية فاشتغلوا على نظره وبرعوا وتقدَّم فن الكتابة في مصر بسعيه. وكان القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة قليلين.

فنبغ من تلامذته في القطر المصري كَتَبَةٌ لا يُشَقُّ غبارهم، ولا يُوطَأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن أحد تلامذته أو قلَّد المتصلين به، وقد ترجمناه مطوَّلًا في الجزء الثاني من تراجم مشاهير الشرق.

وخلاصة القول أن مصر كانت في أيام إسماعيل زاهرة والناس في رغد ورخاء، وخصوصًا بعد ارتفاع أثمان الأقطان في أثناء حرب أميركا؛ فإن ثمن القنطار الواحد بلغ ١٦ جنيهًا فكان سكان هذا القطر السعيد وفيهم الكاتب والشاعر والتاجر والصانع يتحدثون بمآثره وإنعامه وتنشيطه. على أن العقال منهم كانوا لا يَغْفُلُونَ عن ذكر ما كان من إسرافه فوق ما تحتمله حال البلاد، وتنبأ بعضهم بمنقلب تلك الحال ووقوع مصر في وهدة الدَّين، وتعرُّضها لمطامع الدول الأجنبية. والواقع أنه لم يترك هذه الديار إلا وقد بلغت ديونها زهاء مائة مليون جنيه كما رأيت. وهي لا تزال تئن من وطأتها إلى الآن، وكان ذلك من أعظم الأسباب لمداخلة الأجانب في إدارة البلاد ومراقبة أعمالها.

على أننا لا نُنكِر أن الإصلاحات التي أجراها ببعض تلك الأموال قد عادت على البلاد بالنفع الجزيل. ولكننا لا نرى أنها تعوض الخسارة كلَّها وزِدْ على ذلك أنه لو أحسن التصرف في النفقات وسار بها سيرًا قانونيًّا لكانت العواقب أحسن كثيرًا، ولأصبحت مصر في غِنًى عن كل هذه التقلُّبات. ويقال إن مقدار الأموال التي دُفِعَتْ من خزينة الحكومة المصرية بأمره بغير تسمية المدفوع إليه — بمعنى أنه كان يرسل إلى المالية تذكرة بإمضائه يقول فيها ادفعوا إلى رافعه المبلغ الفلاني. فيدفعونه وهم لا يعلمون مصيره — فقد جُمِعَتْ هذه المبالغ، فبلغت ٨٤ مليونًا من الجنيهات. فإذا صحَّت هذه الرواية كان هذا المبلغ وحده كافيًا لوفاء دين مصر.

(٥-٨) صفاته

كان إسماعيل باشا رَبعة ممتلئ الجسم قوي البنية عريض الجبهة كثيث اللحية مع ميل إلى الشقرة، أما عيناه فكانتا تتَّقِدَان حِدَّةً وذكاء مع ميل قليل نحو الحول، أو أن إحداهما أكبر من الأخرى قليلًا.

وكان جريئًا مِقدامًا ذا قوة غريبة على إقامة المشروعات، كثير العمل لا يعرف التعب ولا الملل ولا مستحيلَ عنده. وكان ساهرًا على مَجريات حكومته لا تفوته فائتة. وأما أعمال الدائرة السنية فقد كان يطلع على جزئيات أعمالها وكلياتها، فلا يُباع قنطار من الفحم إلا بمصادقته.

وكان عظيم الهيبة جليل المقام لا يستطيع مخاطبه إلا الانقياد إلى رأيه؛ حتى قيل على سبيل المبالغة: إن الذين يخاطبونه يندفعون إلى طاعته بالاستهواء أو النوم المغنطيسي.

وكان حسَن الفراسة قَلَّ أن ينظر في أمر إلا استطلع كُنهه، فإذا نظر إلى رجل عرف سره أو تنبأ بمستقبل أمره. وممَّا يتناقلونه عنه أنه أدرك مستقبل أحمد عرابي وهو لا يزال ضابطًا صغيرًا، فأوصى المغفور له الخديوي السابق أن لا يرقيه؛ لئلا يتمكن من بَثِّ روحه الثورية فتقود إلى ما لا تُحمَد عقباه.

وكان يتكلم الفرنساوية جيدًا وهي اللغة التي يخاطب بها الأجانب، ويحسن العربية والتركية والفارسية، ويحب الفخر والبذخ والأبهة، وكان منغمسًا في الترف مُكثِرًا من السراري والحظايا شديد الوطأة على العامة.

ولكنه مع ذلك كان كثير الميل إلى تنشيط المعارف ورفع منار العلم. ويؤيد ذلك أن مصر بُلِيَتْ عام ١٨٧٤م بطغيان السيل، فأصابها جهد عظيم فوجَّه التفاته إلى حال المزارعين والتجار، فأراد جماعة من تجار الإسكندرية أن يقيموا له تمثالًا تَذكارًا لفضله، فأبى وأمر أن يقام بدل ذلك التمثال مدرسة للتعليم.

(٥-٩) تركته ووصيته

يعسر تقدير تركة إسماعيل تقديرًا مدقَّقًا لكثرة فروعها، واختلاف جزئياتها وتفرُّقها في البلاد، ولكن المعروف من تركته أنه استبدل معاشه قبل مماته باثنين وعشرين ألف فدان من الأطيان، باع ألفين منها للأوقاف العمومية و١٥٠٠ للجناب العالي، فبقي له ١٨٥٠٠ فدان، منها ١٢ ألف فدان في تفتيش إيتاي البارود وقفها على زوجاته الثلاث في حياتهن ثم يرثها ورثته بعدهن. والباقي وقدره ٦٥٠٠ فدان يقسم على الورثة. وترك غير ذلك ممَّا ورِثه عن والدته وهو ٥٠٠٠ فدان وهبها لها المرحوم عباس باشا الأول وهي مرهونة، و٩٠٠ فدان وقصرًا في حلوان وسراي القصر العالي و٣٤ فدانًا تابعة لها. وما ورثه عن ابنه المرحوم البرنس علي باشا جمالي الذي تُوُفِّيَ منذ بضع عشرة سنة وهو ٦٠٠ فدان. وترك في العباسية قصر الزعفران، وفي الأستانة قصر ميركون، وهو يحتوي على قصرين كبيرين وقصرين صغيرين، وترك فيها أيضًا قناق بايزيد وتقدر قيمة أرضه بثلاثين ألف جنيه وأصله للمرحوم البرنس حليم باشا ورِثه عن أخته زينب هانم، فأخذه جلالة السلطان منه ووهبه للفقيد. فهذه التركة كلها ما عدا سراي الزعفران تُقَسَّمُ على الورثة بعد إيفاء ديونه التي تقدر بنحو ١٨٠ ألف جنيه.

أما وصيته فإنه كان قد أضاف ٤٧٠٠ أو ٤٨٠٠ فدان من أطيانه في أيام ولايته إلى الأطيان الموقوفة على أهل قواله، وقدرها ١٠ آلاف فدان في كفر الشيخ، وجعل لنفسه الشروط العشرة في هذا الوقف بما فيها من حق التغيير والإبدال. ثم آلت نِظارة هذا الوقف إليه ففصل ٤٧٠٠ فدان التي أضافها إليه عملًا بحقه ووقفها على حاشيته كلها، ولم يستثنِ أحدًا منهم فرنساويًّا كان مثل سكرتيره أو إنكليزيًّا مثل طبيبه أو غيرهما من الأتباع والجواري اللواتي يبلغ عددهن ٤٥٠ جارية عدا ٤٠٠ بيضاء كان قد زوجهن بأعيان مصر قبل مفارقته هذه البلاد.

وقد أقام صديقه الحميم راتب باشا وكيلًا لحرمه، وأوصى أن يُعطَى ١٥٠ جنيهًا شهريًّا وأن تعطى حرمه ٥٠ جنيهًا شهريًّا، وأن يُضاف راتبها إلى راتبه إذا تُوُفِّيَتْ في حياته، ويؤخذ راتبهما كليهما من تفتيش إيتاي البارود.

وتَئُول نظارة وقف قواله بعده إلى البرنسس زبيدة هانم بنت محمد علي باشا الصغير ابن محمد علي باشا الكبير. وتئول نظارة وقف القصر العالي إلى البرنس عثمان باشا فاضل، ولهذا الوقف بيوت ونحو ١٢٠٠ فدان من الأطيان، ويبلغ دخله نحو ٥ آلاف جنيه سنويًّا. وقد ترك سراي الزعفران لحرمه الثلاث. وكذلك كل منقولاته وقيمتها غير معلومة.

(٦) محمد توفيق باشا الخديوي السابق (وُلِدَ سنة ١٨٥٢ وتولى سنة ١٨٧٩ وتوفي سنة ١٨٩٢)

fig0104
شكل ٣-٢٨: محمد توفيق باشا الخديوي السابق.

هو أكبر أنجال المرحوم إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وُلِدَ سنة ١٨٥٢ وأدخله والده مدرسة المنيل وسِنُّهُ تسع سنوات، فدرس فيها اللغة والجغرافيا والتاريخ والطبيعيات والرياضيات واللغات العربية والتركية والفرنساوية والإنكليزية. وكان ميالًا للعلم من صِغَرِ سنه فأحرز منه جانبًا أهَّله لرئاسة المجلس الخصوصي في حياة والده وسِنُّهُ ١٩ سنة. ثم تقلد نظارة الداخلية ونظارة الأشغال العمومية ورئاسة مجلس النظار.

ولما بلغ الحادية والعشرين من عمره تزوج بكريمة المرحوم إلهامي باشا، وهي مشهورة بالجمال والتعقُّل والكمال. وفي السنة التالية (١٨٧٤) وُلِدَ له بِكْرُهُ (الخديوي الحالي) فسماه عباس حلمي. ثم وُلِدَ البرنس محمد علي سنة ١٨٧٦، والبرنسس خديجة هانم سنة ١٨٧٧، والبرنسس نعمت هانم سنة ١٨٨١.

وما زال يتقلَّد المناصب في عهد المرحوم أبيه حتى قضت الأحوال بإقالته كما تقدم في ترجمته، فاستلم — رحمه الله — أَزِمَّةَ الأحكام في ٢٦ يونيو سنة ١٨٧٩، وجاءه التلغراف من الصدر الأعظم يُؤذِن بذلك هذا نصه:

بناءً على أن الخطة المصرية هي من الأجزاء المُتِمَّة لجسم ممالك السلطنة السَّنِيَّة، وأن غاية حضرة صاحب الشوكة والاقتدار إنما هي تأمين أسباب الترقي وحفظ الأمن والعمارة في الممالك، وبناءً على أن الامتيازات والشرائط المخصوصة الممنوحة للخديوية المصرية مبنية على ما للحضرة الشاهانية من المقاصد المذكورة الخيرية. وبناءً على تزايُد أهمية ما حصل في القطر المصري ناشئًا عمَّا وقع فيه من المشكلات الداخلية والخارجية الفائقة العادة، وجب تنازُل والد جنابكم العالي إسماعيل باشا. ثم إنه بناءً على ما اتَّصَفَتْ به ذاتُكم السامية الآصفية من الرشد وحسن الرَّوِيَّة على ما ثبتت لدى ملجأ الخلافة الأسمى، من أن جنابكم الداوري ستوفَّقون إلى استحصال أسباب الأمنية والرفاهية لصنوف الأهالي، وإلى إدارة أمور المملكة على وفق إرادة الحضرة الشاهانية الملوكانية، توجهت الإرادة العَلِيَّة بتوجيه الخديوية الجليلة إلى عهدة استئهال آصفانيتكم، وبناءً على الفرمان العلي الشأن الذي سيصدر حسب العادة على مقتضى الإرادة السنية السلطانية التي صار شرف صدورها. وبناء على ما كُتِبَ في التلغراف إلى حضرة المشار إليه إسماعيل باشا، من تخلِّيه عن النظر في أمور الحكومة وتفرُّغه منها بصورة وقوع انفصاله. وقد تحرر تلغراف هذا العاجز لكي يعلن حال وصوله للعلماء والأمراء والأعيان وأهل المملكة جميعًا، وتباشر من بعده أمور الحكومة. وهذا من التوجيهات الوجيهة إلى أثر استحقاق آصفانيتكم لتجري التنظيمات والترقيات مبدأً ومقدمةً، ويصير تكرير الدعاء بتوفيق الذات الجليلة الفخيمة السلطانية؛ ولذلك صارت المبادرة إلى إيفاء لوازم التهنئة لحضرتكم أيها الخديوي المعظم والأمر والفرمان على كل حال لمن له الأمر أفندم.

الإمضاء
خير الدين

فصدرت الأوامر بإعداد ما يلزم للاحتفال بذلك، وجلس سُمُوُّهُ في القلعة يستقبل المهنِّئين من الوزراء والعلماء يتقدمهم نقيب الأشراف ثم القاضي ثم شيخ الجامع الأزهر ثم جاء القناصل، وبعد ذلك دخل الذوات وأمراء العسكرية والملكية، ثم رجال الحقانية ثم النواب ووجهاء البلاد، ثم أرباب الجرائد، ثم الموظفون والمستخدَمون وغيرهم. ومن جملة من وفد للتهنئة وفد ماسوني جاء بالنيابة عن الشرق الأعظم المصري، فقدم عبوديته فنال من سُمُوِّهِ عواطف الرضاء عنهم وعن أعمالهم، ووعدهم رعاية محافلهم وحمايتها فانصرفوا شاكرين. وبعد ذلك أرسل الجناب الخديوي تلغرافًا إلى الباب العالي جوابًا على التلغراف المؤذِن بارتقائه إلى كرسي الخديوية.

(٦-١) كيف كانت حالة مصر لما تولاها توفيق باشا

أقيل إسماعيل ومصر تحت المراقبة المالية، وقد فرغت خزينتها من المال وأفسدت قلوب جندها على أمرائهم حتى كسروا قِيد الحرمة بالثورة التي أحدثها إسماعيل. وقد تنافرت قلوب سكان هذا القطر بسياسة خديويها المعزول؛ فإنه أغضب العامة بشدة وطأته عليهم، وجعل الأغنياء في خطر على أموالهم وبعث الأجانب على سوء الظن بالحكومة لتأخُّرها عن دفع ديونهم، ولم يتفق الدول على العمل في حفظ حقوقها. وقد اشتد كُره العرب للأتراك وخوف الأتراك من الإفرنج، فلم يكن ثَمَّة مندوحة عن الاستعانة بأوروبا لتسوية الأحوال واستمرارها.

وكان في جملة المشاكل التي خلفها إسماعيل بمصر اضطراب العلائق بينها وبين الباب العالي. وكان الباب العالي قد منح إسماعيل امتيازات أهمها أربعة: (١) جعل ولاية العهد في الأبناء. (٢) حق عقد المعاهدات التجارية مع الدول. (٣) عقد القروض المالية. (٤) زيادة عدد الجُند حسب الحاجة. فلما أُقِيلَ إسماعيل أراد السلطان إلغاء هذه الامتيازات وتصدَّت للدفاع عنها إنكلترا وفرنسا صاحبتا المراقبة على أحوال مصر. وكانت فرنسا تحب قطع علاقة مصر مع الباب العالي أو حلها على الأقل. وأما إنكلترا فكانت لا ترى خروج مصر من سيادة الدولة العثمانية. واتفقت الدولتان على بقاء الإرث في البِكر من الأبناء؛ لأنه أدعى إلى منع الفتن والدسائس ودافعتا عن تفويض مصر في عقد المعاهدات التجارية وعقد القروض. لكن السلطان أفلح في تحديد عدد الجند، فجعله لا يزيد على ١٨٠٠٠ جندي وصدر الفرمان بذلك في ١٤ أغسطس سنة ١٨٧٩ وهذا نصه:

الفرمان بولاية توفيق باشا

الدستور الأكرم والمعظم الخديوي الأفخم المحترم نظام العالم وناظم مناظم الأمم، مدير أمور الجمهور بالفكر الثاقب متمِّم مهام الأنام بالرأي الصائب، ممهد بنيان الدولة والإقبال، مشيد أركان السعادة والإجلال، مرتب مراتب الخلافة الكبرى، مكمِّل ناموس السلطنة العظمى المحفوف بصنوف عواطف الملك الأعلى، خديوي مصر الحائز لرتبة الصدارة الجليلة فعلًا، الحامل لنيشاننا الهمايوني المرصع العثماني، ولنيشاننا المرصع المجيدي وزيري سمير المعالي توفيق باشا، أدام الله تعالى إجلاله وضاعف بالتأييد اقتداره وإقباله.

إنه لدى وصول توقيعنا الهمايوني الرَّفيع يكون معلومًا لكم أنه بناء على انفصال إسماعيل باشا خديوي مصر في اليوم السادس من شهر رجب سنة ١٢٩٦ﻫ وحسن خدامتكم وصداقتكم واستقامتكم لذاتنا الشاهانية والمنافع دولتنا العلية، ولما هو معلوم لدينا أن لكم وقوفًا ومعلومات تامة بخصوص الأحوال المصرية، وأنكم كفؤ لتسوية بعض الأحوال الغير المُرضِيَة التي ظهرت بمصر منذ مدة وإصلاحها؛ وجهنا إلى عهدتكم الخديوية المصرية المحدودة بالحدود القديمة المعلومة مع الأراضي المنضمَّة إليها المعطاة إلى إدارة مصر توفيقًا للقاعدة المُتَّخَذة بالفرمان العالي الصادر في ١٢ محرم سنة ١٢٨٣ﻫ المتضمن توجيه الخديوية المصرية إلى أكبر الأولاد، وحيث إنكم أكبر أولاد الباشا المشار إليه قد وجهت إلى عهدتكم الخديوية المصرية. ولما كان تزايُد عمران الخديوية وسعادتها وتأمين راحة كافة أهاليها وسكانها ورفاهيتهم هي من المواد المهمة لدينا، ومن أجل مرغوبنا ومطلوبنا، وقد ظهر أن بعض أحكام الفرمان العلي الشأن المبني على تسهيل هذه المقاصد الخيرية، المُبيَّن فيه الامتيازات الحائزة لها الخديوية المصرية قديمًا، نشأت عنها الأحوال المشكلة الحاضرة المعلومة؛ فلذلك صار تثبيت المواد التي لا يلزم تعديلها من هذه الامتيازات وتأكيدها، وصار تبديل المواد المقتضى تبديلها وتعديلها وإصلاحها، فما تقرر إجراؤه الآن هو المواد الآتية، وهي: أن كافة واردات الخطة المذكورة يكون تحصيلها واستيفاؤها باسمنا الشاهاني. وحيث إن أهالي مصر أيضًا من تبِعة دولتنا العلية، وأن الخديوية المصرية ملزمة بإدارة أمور المملكة والمالية والعدلية بشرط أن لا يقع في حقهم أدنى ظلم ولا تَعَدٍّ في وقت من الأوقات، فخديوي مصر يكون مأذونًا بوضع النظامات اللازمة للداخلية المتعلقة بهم وتأسيسها بصورة عادلة. وأيضًا يكون خديوي مصر مأذونًا بعقد وتجديد المشارطات مع مأموري الدُّوَل الأجنبية بخصوص الجمرك والتجارة، وكافة أمور المملكة الداخلية لأجل ترقي الحرف والصنائع والتجارة واتِّساعها، ولأجل تسوية المعاملات السائرة التي بين الحكومة والأجانب أو بين الأهالي والأجانب، بشرط عدم وقوع خلل بمعاهدات دولتنا العلية البولوتيقية وفي حقوق متبوعية مصر إليها. وإنما قبل إعلان الخديوية المشارطات التي تُعْقَدُ مع الأجانب بهذه الصورة يصير تقديمها إلى بابنا العالي.

وأيضًا يكون حائزًا للتصرُّفات الكاملة في أمور المالية، لكنه لا يكون مأذونًا بعقد استقراض من الآن وصاعدًا بوجه من الوجوه، وإنما يكون مأذونًا بعقد استقراض بالاتفاق مع المدائنين الحاضرين أو وكلائهم الذين يتعيَّنون رسميًّا. وهذا الاستقراض يكون منحصرًا في تسوية أحوال المالية الحاضرة ومخصوصًا بها. وحيث إن الامتيازات التي أُعْطِيَتْ إلى مصر هي جزء من حقوق دولتنا العلية الطبيعية التي خُصَّتْ بها الخديوية وأودعت لديها لا يجوز لأي سبب أو وسيلة ترك هذه الامتيازات جميعها أو بعضها، أو ترك قطعة أرضٍ من الأراضي المصرية إلى الغير مطلقًا. ويلزم تأدية مبلغ ٧٥٠ ألف ليرة عثمانية، وهو الويركو المقرر دفعه في كل سنة في أوانه. وكذلك جميع النقود التي تُضرَب في مصر تكون باسمنا الشاهاني. ولا يجوز جمع عساكر زيادة عن ثمانية عشر ألفًا؛ لأن هذا القدر كافٍ لحفظ أَمْنِيَّةِ إيالة مصر الداخلية في وقت الصلح. وإنما حيث إن قوة مصر البرية والبحرية مرتَّبة من أجل دولتنا، يجوز أن يُزاد مقدار العساكر بالصورة التي تستتب فيها حالة دولتنا العلية محارِبة. وتكون رايات العساكر البرية والبحرية والعلامات المميِّزة لرتب ضباطهم كرايات عساكرنا الشاهانية ونياشينهم. ويباح لخديوي مصر أن يعطي الضباط البرية والبحرية إلى غاية رتبة أميرالاي والملكية إلى الرتبة الثانية. ولا يرخص لخديوي مصر أن يُنشئ سفنًا مدرَّعة إلا بعد الإذن وحصول رخصة صريحة قطعية إليه من دولتنا العلية. ومن الواجب وقاية كافة الشروط السالفة الذكر، واجتناب وقوع حركة تخالفها. وحيث صدرت إرادتنا السنية بإجراء المواد السابق ذكرها قد أصدرنا أمرنا هذا الجليل القدر الموشَّح أعلاه بخطنا الهمايوني، وهو مرسل صحبة افتخار الأعالي والأعاظم ومختار الأكابر والأفاخم علي فؤاد بك باشكاتب المابين الهمايوني، ومن أعاظم دولتنا العلية، الحائز والحامل للنياشين العثمانية والمجيدية ذات الشأن والشرف.

حرر في ١٩ شهر شعبان المعظم سنة ١٢٩٦ من هجرة صاحب العزة والشرف

وكان توفيق باشا من أشد الخديويين غيرة على الوطن المصري، ولم يكن له بُدٌّ من تشكيل وزارة يثِق بها تُعِينُهُ على الحكومة مع تحديد سلطته وسلطتها وعلاقة البلاد بالدولة العثمانية. فانتدب المرحوم شريف باشا لتشكيل وزارة فلبَّى الدعوة، لكنه عرض عليه لائحة في إنشاء الدستور فلم يوافق الخديوي عليها فقدم استعفاءه في ١٨ أغسطس سنة ١٨٧٩ فقبل. فعزم الخديوي — رحمه الله — أن يتولى رئاسة الوزارة بنفسه. ولم يطُل ذلك فانتدب رياض باشا لتشكيل الوزارة فشكلها في ٢٢ سبتمبر تحت رئاسته.

وفي أثناء ذلك وافق الخديوي على تعيين المفتِّشَيْن الماليين لمراقبة مالية مصر، وهما المسيو بارنج (اللورد كرومر) عن إنكلترا والمسيو بلينيار عن فرنسا. وكانت الحكومة الخديوية قد أصدرت أمرًا عاليًا بحدود سيادة هَذَيْنِ المفتِّشَيْن، فجعلت لهما حق الحضور في مجلس النُّظَّار على أن يكون لهما رأي استشاري. فلم تمضِ بضعة أشهر حتى استقرت أحوال الحكومة، وتشكلت الوزارة وتقررت العلائق بين مصر والسلطان وبينها وبين المراقبين أو المفتشين الماليين. ولم يتم حسن التفاهُم بينهما وبين الوزارة إلا بعد حين. وكان في جملة العراقيل في سبيل الأزمة المالية مسألة تصفية الديون وتقدير الميزانية الجديدة.

(٦-٢) تصفية الديون

أما تصفية الديون فتعينت لها لجنة في ٥ أبريل سنة ١٨٨٠ من خمسة أعضاء أوروباويين وعضو وطني هو المرحوم بطرس باشا غالي لينوب عن الحكومة المصرية. وأخذت اللجنة في عقد جلساتها والعمل مع المفتشين الماليين، وفرغت من ذلك في ١١ يوليو من تلك السنة ووضعت قانونًا صادق عليه الجناب الخديوي هذه خلاصته:
  • (١)

    أن صافي إيرادات السكك الحديدية والتلغرافات ومينا الإسكندرية يكون مخصَّصًا لتسديد فوائد واستهلاك الدَّين الممتاز دون غيره. أما فائدته فتبقى ٥ بالمائة على القيمة الاسمية. والقيمة التي تُدفَع سنويًّا لفائدة واستهلاك هذا الدَّين تكون ١١٥٧٧٦٨ جنيهًا سنويًّا.

  • (٢)

    أن صافي إيرادات الجمارك وعوائد الدخان الوارد ومديريات الغربية والمنوفية والبحيرة وأسيوط بما فيه جميع الرسوم المُقَرَّرَة إلا إيراد الملح والدخان البلدي. جميع صافي هذه الإيرادات تبقى مخصَّصة لتسديد الدَّين الموحَّد والفائدة باعتبار أربعة بالمائة.

  • (٣)

    أن أملاك الدائرة السنية وأملاك الدائرة الخاصة المذكورة في الكشوف والرهون العقارية المسجلة وغيرها تكون ملكًا للحكومة وهي تكون مخصصة لضمانة دَيْنِ الدائرة السنية العمومي.

  • (٤)

    تسوية الدين السائر تكون من البواقي من سلفة الأملاك الأميرية ومن النقود الباقية لغاية سنة ١٨٧٩م في خزينة النِّظارات والمديريات والمصالح التي لم تخصص للدَّيْن المنتظم ومن الزائد من دفعات المقابلة وموجود نقدية في صندوق الدين العمومي ومن المبالغ التي يمكن تحصيلها من المتأخرات لغاية ١٨٧٩م ومن العوائد والرسوم والأموال من أي نوع كانت. ومن العقارات الجائز للحكومة التصرُّف بها ولم تكن مخصصة. وما ينتج من تغيير البونات أو السندات. ومن سندات الدَّيْن الممتاز التي توجد على مقتضى المدون في البند السادس من قانون التصفية. ومن الجزء المخصص لاستهلاك الدَّيْن المنتظم حسب المدون في البند ١٥ من القانون. ومن الزيادات التي تظهر في الموازين كما هو مبين في البند السابع من قانون التصفية.

هذه شذرة صغيرة من قانون التصفية، ومن أَحَبَّ التفصيل فليراجع القانون نفسه فإنه مؤلَّف من ٩٩ بندًا ومعه كشفان عن التسويات التي حصلت وغيرها.

وبذلت الحكومة جهدها بأثناء ذلك في تخفيف أثقال الأهلين وفي نشر الأمن، فأصدرت أمرًا بإلغاء الضرائب الدنيئة والشخصية وأبطلت بون حليم باشا. ثم داهمتها الثورة العسكرية المعروفة بالحوادث العرابية فأحدثت فيها انقلابًا سياسيًّا لا يزال باقيًا إلى الآن وإليك تفصيلها:

(٦-٣) الثورة العسكرية أو الحوادث العرابية

(أ) تمهيد في العرب والترك

ما زالت مصر منذ دخلت في حوزة الأتراك قبل العثمانيين وبعدهم، وهي ترى للتركي حقًّا في السيادة تهابه وتخشى بأسه وتتوقع منه الاستبداد، رغم قلة الأتراك وكثرة العرب. وقد ظهر نفوذهم على الخصوص في الجندية، فقد كانت المناصب العالية والرواتب الفادحة والكلمة النافدة للتركي، وما على العربي إلا الطاعة. ويندر فيهم من يجسر على الشكوى أو التظلُّم جهارًا، ولعل أول من فعل ذلك منهم أحمد عرابي وهو جندي صغير. وقد جرأه على ذلك سعيد باشا بما كان له من الرغبة في رفع شأن أبناء العرب. وهاك ما رواه أحمد عرابي نفسه في أثناء كلامه عن سيرة حياته قال:

وكان المرحوم سعيد باشا عليه سحائب الرحمة والرضوان قد تولى الحكومة الخديوية في ١٥ شوال سنة ١٢٧٠، وأمر بدخول أولاد مشايخ البلاد وأقاربهم في العسكرية، فدخلتُ من ضمنهم وانتظمت في سلك الأورطة السعيدية المصرية بقناطر فم البحر في شهر ربيع أول عام ١٢٧١، وجُعلتُ فيها وكيل بلوك أمين من أول يوم صار انتظامي في سلك العسكرية بعد امتحاني بحضور إبراهيم بك أمير الآلاي وحسن أفندي الألفي حكيم الآلاي. ثم ترقيت إلى رتبة بلوك أمين في شهر رجب من السنة المذكورة بعد إعادة الامتحان مع الطالبين لذلك من غير واسطة أحد غير الجِدِّ والاجتهاد. وبعد عام نظرت فرأيت بعض الباشجاويشية المصريين تُرَقَّى إلى رتبة الملازم الثاني، وعلمت أن البلوك أمين لا يترقى إلا إلى رتبة الصول قول أغاسي وفيها يفنى عمره. فجزعت من ذلك وذهبت إلى أمير الآلاي وطلبت منه ترتيبي في رتبة جاويش في أورطة كانت أُفرِزت لإرسالها إلى مدينة المنصورة. فسألني الميرالاي المذكور عن سبب ذلك حيث إن راتب الجاويش أقل ١٠ غروش من راتب البلوك أمين وإن كانت الرتبتان متساويتين. فأفصحت له عما خالج فكري وإني إذا صرت جاويشًا سهل عليَّ الحصول على رتبة الباشجاويش ثم الانتقال إلى رتبة ضابط. فعجب لذلك الخاطر وأمر في الحال بجعلي جاويشًا. فمكثت في هذه الرتبة سنتين، وفي تلك المدة حُبِّبَ إليَّ الاعتزال عن الناس والاشتغال بدراسة قوانين العسكرية مع التدبر في معانيها حتى أتقنت قانون الداخلية، وقوانين تعليم النفر والبلوك والأورطة، وبعض فصول من تعليم الألاي. وفي أوائل عام ١٢٧٤ أمر سعادة راتب باشا بجمع الصف ضباط فاجتمعنا حوله في فسحة قصر النيل، وبلغنا إرادة المرحوم سعيد باشا وقال: إن أفندينا بلغه أنكم تقولون فيما بينكم: كيف يصير ترقي الصف ضباط الجدد، وتأخير من هو أقدم منهم في الرتب؟ وإنه أمر أن لا يترقى أحد بعد الآن إلا بعد الامتحان علمًا وعملًا، فمن فاق أقرانه في الامتحان ترقى إلى الرتبة التي يستحقها ولو لم يلبث في رتبته الأولى غير شهر واحد، فمن أراد منكم الامتحان فليتقدم إلى الأمام. فعند ذلك تقدَّمتُ أمام سعادته وأحجم الآخرون خوفًا وهلعًا ظنًّا منهم أنه يريد معاقبة من يتظاهر بذلك. ولما كرر عليهم الطلب خرج آخر وآخر حتى بلغ عدد الراغبين في الامتحان نحو ٣٠ شخصًا، فصار امتحانهم بحضوره تحت رئاسة المرحوم إسماعيل باشا الفريق، فكنت أول فائز في الامتحان. ا.ﻫ.

وفحوى ذلك أن الوطنيين يشكون من ترقية سواهم وتأخيرهم. فلم يكُن ذلك إلا ليزيد الضغائن في صدور الأتراك والشراكسة من كبار الضباط. وخصوصًا في زمن إسماعيل فإنه لم يكن يرى رفع شأن الوطنيين فكانت الضغائن تتزايد بينهم وبين الأتراك والشراكسة، ولكن إسماعيل كان شديد الوطأة يخافه العرب والأتراك، فلم يحدث في أيامه ما يُخشى عاقبته، وإن يكن هو أول من جرَّأ الجند على التمرد وطلب الحقوق كما تقدم في سيرة حياته.

فلما أفضت الخديوية إلى المرحوم توفيق باشا، وكان محبًّا للوطنيين رفيقًا بهم راغبًا في رفع شأنهم تنفسوا الصعداء. وأنعم على الضباط بالرتب وفي جملتهم أحمد عرابي.

(ب) أول نشأة عرابي

هو في الأصل من أبناء الفلاحين ويرجع بنسبه إلى الإمام الحسين، وقد قَصَّ ترجمة حياته للهلال في بضع وعشرين صفحة نُشِرَتْ في تراجم مشاهير الشرق الجزء الأول، نقتطف منها قوله في نشأته الأولى قال:

ومولدي بقرية هرية رزنة بمديرية الشرقية على ميلين من شرقي الزقازيق، وهي بلدة قديمة جدًّا من ضواحي مدينة بوباسطة كرسي مملكة العائلة ٢٢ في زمن شيشاق ابن نمرود التي يقال لها الآن «تل بسطة». وعشيرتي فيها نحو ربع تعدادها. وكان والدي — رحمه الله تعالى — شيخًا عليها إلى أن تُوُفِّيَ في شهر شعبان سنة ١٢٦٤ﻫ في زمن الهواء الأصفر عن ثلاث نسوة وأربعة أولاد وست بنات. وكنت ثاني أولاده الذكور وسِنِّي ٨ سنوات، وترك لنا ٧٤ فدانًا ولو شاء لاستكثر من الأطيان الزراعية، ولكنه كان — رحمه الله — يراعي مصلحة أبناء عمومته؛ حيث إن أطيان القرية كغيرها كانت مكلفة بأسماء المشايخ يوزعونها بمعرفتهم على أهل بلادهم بحسب الاحتياج، وظلت كذلك إلى عهد المغفور له عباس باشا الأول، وهو أول من كلف الأطيان بأسماء الأفراد، وألزمهم بدفع خَراجها وما زاد عنهم يُترك للميري ويسمونه المتروك. وكان والدي — عليه سحائب الرحمة والرضوان — عالمًا فاضلًا تقيًّا نقيًّا، أقام بالجامع الأزهر ٢٠ سنة تلقى فيها الفقه والحديث والتفسير، وبرع في كثير من العلوم النقلية والعقلية على كثير من المشايخ كشيخ الإسلام القويسني — رحمه الله تعالى — وغيره من العلماء الأطهار. ولما آلت إليه وظيفة الشياخة على عشيرته، جدد عمارة المسجد المنسوب إلى عشيرته بالقرية، وفيه أربعة أعمدة من الحجر الصوان القديم ومنبر من الخشب عجيب الصنعة. وأنشأ بجوار المسجد مكتبًا لتعليم القرآن الشريف، وجعل له فقيهًا صالحًا عالمًا يسمى الشيخ نجم من سلالة السيد العزازي، وألزم الأهالي بتعليم أولادهم. وكان — رحمه الله — يُشَدِّدُ عليهم في ذلك حتى صار نحو نصف تعداد الناحية المذكورة يُحْسِنُونَ القراءة والكتابة، وكل منهم يعرف واجباته الدينية، ومنهم نحو مائة وخمسين فقيهًا عالمًا، ومنهم المرحوم الشيخ محمد حسين الهراوي من علماء الجامع الأزهر والشيخ العارف بالله إبراهيم المصيلحي نفع الله به المسلمين. فلما بلغ سِنِّي ٥ سنوات أرسلني والدي إلى المكتب المذكور. فأقمت فيه ثلاثة أعوام ختمت فيها القرآن الشريف، وعمري إذ ذاك ثماني سنين وبضعة شهور. فلما تُوُفِّيَ والدي كفلني أخي الأكبر المرحوم السيد محمد عرابي الذي توفي في ٢٥ شعبان سنة ١٣١٨ — رحمه الله تعالى — وأخذت عنه مبادئ علم الحساب وتحسين الخط، مع ملاحظة بعض أشغال الزراعة. ثم بدا لي المجاورة في الأزهر حين بلغت اثني عشر عامًا، فكنت أُجَوِّدُ القرآن على أقاربي وأهل بلدي نهارًا، وأتوجه إلى بيت عمتي ليلًا، وتلقيت قليلًا من الفقه والنحو، وبعد سنتين رجعت إلى بلدي. ا.ﻫ.

fig0105
شكل ٣-٢٩: أحمد عرابي بلباسه العسكري.

وقد تقدَّم ما قاله عن نفسه في زمن سعيد باشا، وقد ارتقى في أيامه إلى رتبة قائمَّقام، وظل في هذه الرتبة كل أيام إسماعيل. فلما تولى توفيق باشا أحسن إليه برتبة أميرالاي على الآلاي الرابع. ولما تشكلت الوزارة الرياضية التي تقدم ذكرها كان ناظر الجهادية فيها عثمان رفقي باشا وهو شركسي متعصب على العرب، وفي جملة مساعيه أن يمنع ترقية المصريين من العسكر العامل في الآلايات والاكتفاء بما يستخرج من المدارس الحربية وصدرت أوامره بذلك. ثم أردفها بإحالة عبد العال حلمي بك أميرالاي السودان على ديوان الجهادية ليكون معاونًا، وكان عمره إذ ذاك أربعين سنة. ورتب بدله خورشيد نعمان بك من جنسه على الآلاي المذكور، وكان سنه فوق الستين وهو ضعيف لا يقدر على الحركة العسكرية. وامر برفت أحمد بك عبد الغفار قائمَّقمام السواري، وترتيب شاكر بك طمازه من جنسه بدله، وهو طاعن في السن. ثم ختمت تلك الأوامر وقيدت بدفاتر الجهادية.

وكان أحمد عرابي قد نال منزلة بين أقرانه لما فُطِرَ عليه من الجرأة والغيرة، فأراد الضباط أبناء العرب الاجتماع للاحتجاج على هذه المعاملة، فاختاروا ليلة أُقِيمَتْ فيها وليمة يُتْلَى فيها القرآن بمنزل نجم الدين باشا بمناسبة عودته من الحج في ١٤ صفر سنة ١٢٩٨، قال أحمد عرابي يروي الواقع بنفسه وهو من جملة المدعوين:

ولما وصلتُ إلى منزل الداعي وجدتُه غاصًّا بالذوات العسكرية وغيرهم، فجلست بجوار المرحوم نجيب بك وهو رجل كردي الأصل وبجانبه المرحوم إسماعيل كامل باشا الفريق وهو شركسي الأصل، ولكنه يتظاهر بحب العدل والإنصاف، فأخبرني نجيب بك بما صار، وأنه نصح لناظر الجهادية بالإعراض عن هذه الإجحاف فلم يصغ لقوله؛ ولذا فهو ساخط ومضطرب، ثم أوعز إليه أن يخبرني بما سمع منه. فأخبرني نجيب بك بحقيقة الحال همسًا في أذني، فقلت لإسماعيل باشا كامل: «أحق هذا؟» فقال: «نعم وأُعطِيَت الأوامر إلى الكتبة للإجراء على مقتضاها.» فقلت له: «إن تلك لقمة كبيرة لا يقوى ناظر الجهادية عثمان رفقي على هضمها.» وبعد تناول طعام الوليمة حضر لي أحد الضباط، وأخبرني بأن كثيرًا من الضباط ينتظرونني بمنزلي، وفيهم عبد العال بك حلمي وعلي بك فهمي. فأسرعت إليهم وهم في هياج عظيم وقد بلغهم صدور أوامر ناظر الجهادية قبل إرسالها إليهم. فلما رأوني أخبروني بما سمعته من المرحوم إسماعيل باشا كامل. فقلت لهم: «قد سمعت من غيركم فماذا تريدون؟» فقالوا: «إنه ليس ذلك فقط، بل إنه قد كثر اجتماع الشراكسة بمنزل خسرو باشا الفريق صغيرًا وكبيرًا، وهم يتذاكرون كل ليلة في تاريخ دولة المماليك بحضور عثمان رفقي باشا، ويلعنون حزبك ويقولون: قد حان الوقت لرد بضاعتنا، وأنهم لا يُغلَبُون من قلة، وظنوا أنهم قادرون على استخلاص مصر وامتلاكها، كما فعل أولئك المماليك.» وقد تحققوا ذلك ممن يوثُق بخبره. فقلت لهم: «وماذا تريدون إذن؟» فقالوا: «إنما جئناك لأخذ رأيك فيما دهمنا من الخَطبِ العظيم.» فقلت لهم: «أرى أن تُطَيِّبُوا نفوسكم وتُهَدِّئُوا رُوعكم، وتعتمدوا على رؤسائكم وتفوضوا لهم النظر في مصالحكم، وهم ينتخبون لكم رئيسًا منهم يثقون به كل الوثوق، ويطيعون أمره ويحفظونه بمعاضدتكم.» فقالوا كلهم: «قد فوضنا الأمر إليك وليس فينا من هو أحق به وأقدر عليه منك.» فقلت لهم: «لا، انظروا غيري وأنا أسمع له وأطيع وأنصح له جهدي.» فقالوا: «لا نبغي غيرك ولا نثق إلا بك.» فقلت: «فارجعوا لأنفسكم فإن هذا أمر عصيب لا يسع الحكومة إلا قتل من يقوم به أو يدعو إليه.» فقالوا: «نحن نفديك ونفدي الوطن بأرواحنا.» فقلت لهم: «أقسموا لي على ذلك.» فأقسموا، وفي الحال كُتِبَتْ عريضة إلى دولة رئيس النظار رياض باشا مقتضاها الشكوى من تعصُّب عثمان رفقي لجنسه، والإجحاف بحقوق الوطنيين والتمست فيها أولًا: تشكيل مجلس نواب من نبهاء الأمة المصرية تنفيذًا للأمر الخديوي الصادر إبان توليته. ثانيًا: إبلاغ الجيش إلى ثمانية عشر ألفًا تطبيقًا لمنطوق الفرمان السلطاني. ثالثًا: تعديل القوانين العسكرية بحيث تكون كافلة للمساواة بين جميع أصناف الموظفين بصرف النظر عن الأجناس والأديان والمذاهب. رابعًا: تعيين ناظر الجهادية من أبناء البلاد على حسب القوانين العسكرية التي بأيدينا. ثم تلوتُ العريضة هذه على مسامع الجميع، فوافقوا كلهم عليها فأمضيتها بإمضائي وختمتها بختمي، وختم عليها أيضًا علي فهمي بك أميرالاي الحرس الخديوي وعبد العال بك أميرالاي السودان. ا.ﻫ.

fig0106
شكل ٣-٣٠: رياض باشا.

ويظن اللورد كرومر أن المحرك الأصلي لهذه الحركة الأميرالاي علي فهمي قومندان الآلاي الأول وعليه حراسة القصر الخديوي. وكان قد استاء من معاملة الخديوي، فأراد أن ينتقم لنفسه فدبَّر هذه المظاهرة.

(ﺟ) فوز العرابيين الأول

ولما وصلت العريضة إلى رياض باشا استخفَّ بها، وأهمل الرد عليها أيامًا وهو يحرض أصحابها على سحبها وهم يرفضون. ثم بلغهم أن عريضتهم كان لها وقع سيئ عند الخديوي وحاشيته الأتراك. ثم أرسل الخديوي يُلِحُّ على الوزارة بسرعة الرد فقررت سرًّا محاكمة العارضين في مجلس عسكري بعد أن يُقبَض عليهم ويُسجَنوا. لكن ذلك السر وصلهم فاستعدُّوا للدفاع، فلما جاء أمر النُّظَّار بدعوتهم إلى قصر النيل دبَّرُوا شأنهم مع الآلايات، وذهبوا إلى القصر فجردوهم من السلاح وأوقفوهم تحت المحاكمة وإذا برجال آلاياتهم قد دخلوا بالقوة وأنقذوهم وساروا بهم إلى سراي عابدين، وألحوا في طلب عزل ناظر الجهادية. فلم تجد الحكومة بُدًّا من إجابة الطلب؛ لأن القوة في غير أيديها. فأجابهم الخديوي بعزل رفقي باشا وتعيين محمود باشا سامي البارودي مكانه، وهو من حزبهم ويقال إنه هو الذي أبلغهم قرار مجلس النظار بالقبض عليهم.

fig0107
شكل ٣-٣١: محمود باشا سامي البارودي.

وأثَّر خضوع الحكومة لمطالب الوطنيين هذه المرة تأثيرًا شديدًا؛ إذ تحقق لديهم أنهم إذا اتَّحدوا وثبتوا لا بد من نيل ما يطلبونه. وقام في نفوسهم حقد على رياض باشا والخديوي، وقوَّى هذا الإحساس فيهم قنصل فرنسا يومئذٍ البارون درين؛ لأنه كان يحسِّن أعمال رجال العسكرية في أعينهم فيزدادون تمردًا، وبلغ ذلك إلى الجناب الخديوي فشكاه إلى حكومته فأقالته. وبعث الخديوي إلى كبار الضباط وطيَّب خاطرهم، وأكد لهم ثقته في رياض باشا وأنه سيزيد الرواتب ويساوي بينهم على اختلاف أجناسهم.

أما زعماء الثورة فلم يزالوا خائفين من نجاحهم السريع، واعتبروا تلك المُحاسَنة مكيدة من الحكومة لتسكين جأشهم ثم تحتال للاغتيال بهم، فأكثروا من التحفُّظ، وشرعوا في عقد مجالس سرية ليلية في منزل أحمد عرابي يدعون إليها خواصهم، ويتفاوضون في أمر اجتماع كلمتهم والوقاية من الاغتيال. فاقترحوا على ديوان الجهادية اقتراحات عديدة تعزز جانبهم، فتمكن عرابي بذلك من استمالة قوم العسكرية، فطفق يَبُثُّ أفكاره بين الأهلين من مشاريخ العربان وعمد البلاد وأعيانها وعلمائها وتُجَّارها استجلابًا لمساعدتهم في مشروعه العائد إلى نفعهم على ما زعم، وكتب إليهم في ذلك منشورات ثورية إيقاعًا بالوزارة الرياضية.

وفي ٢١ جمادى الأولى سنة ١٢٩٨ﻫ أو ٢٠ أبريل ١٨٨١م، أصدر الجناب الخديوي باقتراح رياض باشا رئيس النظار أمرًا عاليًا بشأن زيادة مرتبات الضباط والعساكر، وتعديل النظامات والقوانين العسكرية بناءً على طلب محمود باشا سامي ناظر الجهادية، فاحتفل هذا احتفالًا فاخرًا في قصر النيل دعا إليه النُّظَّار والمفتشين احتفاءً بصدور ذلك الأمر خطب فيه رياض باشا ومحمود سامي وأحمد عرابي ثناءً طيبًا على المكارم الخديوية؛ لما منحته لجماعة الجهادية من الإنعام.

وفي ٢٨ شعبان أو ٢٥ يوليو كان الجناب الخديوي في مَصِيفِهِ في الإسكندرية، فاتفق أن عربة أحد تجار الإسكندرية صدمت جنديًّا من الطبجية صدمة قضت عليه، فحمله رفقاؤه إلى سراي رأس التين، وطلبوا إلى الخديوي النظر في أمره فوعدهم فسكن جأشهم. وبعد بضعة أيام تشكل مجلس حربي أصدر حكمه على النفر الذي حمل رفقاءه على المسير إلى رأس التين بالأشغال الشاقة طول حياته. أما رفقاؤه وهم ثمانية فحُكِمَ عليهم بثلاث سنوات في السجن، وبعد ذلك يرسلون إلى السودان أنفارًا للجهادية. فبعث عبد العال أميرالاي الفرقة السودانية إلى ناظر الجهادية محمود سامي يشكو من قسوة ذلك الحكم، فرفع سامي تلك الشكوى إلى الخديوي فتكدر واستدعى في الحال الوزراء تلغرافيًّا إلى الإسكندرية، فأتوها في ٧ رمضان أو ٢ أغسطس، وعقدوا برئاسته مجلسًا قدم فيه ناظر الجهادية استعفاءه، فقُبِلَ وعُيِّنَ بدلًا منه داود باشا يكن واستلم الأعمال، وعاد النُّظَّار إلى العاصمة وهدأت الأحوال بحسب الظاهر. والواقع أن الوطنيين ساءهم قبول استعفاء محمود باشا سامي؛ لأنهم يَعُدُّونه من أكبر أنصارهم.

(د) تغير القلوب بين الخديوي والعرابيين

فأصبح العرابيون ينظرون إلى الخديوي ووزرائه بعين الارتياب والحذر، وشاع يومئذٍ أن الخديوي استفتى شيخ الإسلام بقتلهم لأنهم خانوا الدولة والأمة، وهي إشاعة كاذبة لكنها أخذت مأخذ الصدق وازداد العرابيون بها حذرًا وسوء ظن.

وفي ١٥ شوال أو ٩ سبتمبر سنة ١٨٨١ بعد عود الجناب الخديوي من الإسكندرية، صدر أمر من نِظَارة الجهادية إلى آلاي القلعة بالتوجُّه إلى الإسكندرية، وأمر آخر إلى آلاي الإسكندرية بالمجيء إلى المحروسة، فأوعز عرابي إلى آلاي القلعة أن تلك الأوامر لا يقصد بها إلا تفريق كلمتهم، فصرح ذلك الآلاي بعدم امتثاله لما أُمِرَ به. وفي خلال ذلك كان عرابي يخاطب الآلايات بالإشارة أن يستعدُّوا للحضور إلى ساحة عابدين في أول سبتمبر، ثم أرسل كتابه إلى الخديوي وإلى نظارة الجهادية يخبرهم فيها أن الجيش سيحضر إلى سراي عابدين لإبداء اقتراحات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد، وكتب مثل ذلك إلى قناصل الدول مبينًا أن لا خوف من هذه الحركات على أبناء تابعيتهم؛ لأنها متصلة الغاية بالأحوال الداخلية. فأرسل الجناب الخديوي وفدًا إلى زعماء الثورة وهم: عرابي وعبد العال وأحمد عبد الغفار ينصحهم أن يكفوا عن إجراءاتهم، وتوجه بنفسه ومعه السير أوكلن كلفن قنصل إنكلترا والنُّظَّار إلى آلاي عابدين، وأخذ ينصحهم فتظاهروا بالانتصاح وتوزَّعوا في نوافذ السراي وقاية لها. ثم توجه الجناب الخديوي ورفقاؤه إلى القلعة للغرض عينه. فأجابه الجيش هناك: «نحن مطيعون لأوامر ولي نعمتنا، غير أننا أُخْبِرْنَا بأن المقصود من تسفيرنا إغراقنا عند كوبري كفر الزيات.» فقال سموه لمن معه: «يظهر أن العساكر مغرورون.» ثم تركهم وقصد العباسية لإيقاف عرابي فلم يجده، وقيل له إنه سار في جنده إلى عابدين فعاد سُمُوُّهُ أيضًا إليها.

(ﻫ) مظاهرة ساحة عابدين

وأشار عليه كلفن أن يبقى في الساحة ويدعو عرابي إليه ويأمره بالترجُّل، ففعل فسأله عن الغرض من هذا الاجتماع فأجابه أنه جاء يطلب أمورًا عادلة، فقال: ما هي؟ فأجاب: «إسقاط الوزارة، وتشكيل مجلس نواب، وزيادة عدد الجيش، والتصديق على قانون العسكرية الجديد، وعزل شيخ الإسلام.»

قال الخديوي: «كل هذه الطلبات ليست من خصائص العسكرية.»

فكف عرابي وأشارت القناصل على الخديوي أن ينقلب إلى داخل.

ثم قال قنصل إنكلترا إلى عرابي بالنيابة عن الجناب الخديوي: «إن إسقاط الوزارة من خصائص الخديوي، وطلب تشكيل مجلس النواب من متعلقات الأمة، ولا وجه لزيادة الجيش لأن البلاد في طمأنينة، فضلًا عن أن مالية مصر لا تساعد على ذلك، أما التصديق على القانون فسينفذ بعد اطِّلاع الوزراء عليه. أما عزل شيخ الإسلام فلا بد من إسناده إلى أسباب.»

فأجاب عرابي: «اعلم يا حضرة القنصل أن طلباتي المتعلقة بالأهلين لم أقدم عليها إلا لأنهم أنابوني بتنفيذها بواسطة هؤلاء العساكر لأنهم إخوتهم وأولادهم؛ فهم القوة التي ينفذ بها كل ما يعود على الوطن بالمنفعة. واعلم أننا لا نتنازل عن هذه الطلبات ولا نبرح هذا المكان ما لم تنفذ.»

قال القنصل: «إذن تريد تنفيذ اقتراحاتك بالقوة؛ الأمر الذي يُخشَى منه ضياع بلادكم.»

فقال عرابي: «ذلك لا يكون. ومن ذا الذي ينازعنا في إصلاح داخليتنا؟ فاعلم أننا نقاومه أشد المقاومة إلى أن نفنى عن آخرنا.»

القنصل : «وأين هذه القوة التي ستقاوم بها.»
عرابي : «في وسعي أن أحشد في زمن يسير مليونًا من العساكر طوع إرادتي.»
القنصل : «وماذا تفعل إذا لم تنل ما طلبت.»
عرابي : «أقول كلمة ثانية.»
القنصل : «وما هي؟»
عرابي : «لا أقولها إلا عند القنوط.»

ثم انقطعت المخابرات بين الفريقين نحوًا من ثلاث ساعات، تداول القناصل والخديوي في أثنائها داخل السراي، واستقر الرأي على إجابة طلبات عرابي وإنفاذها تدريجيًّا؛ لأن بعضها يحتاج لمخابرة الباب العالي.

فأصر عرابي على تنزيل الوزارة قبل انصرافه فنزلت، واسْتُدْعِيَ شريف باشا، وبعد اللتيا والتي قَبِلَ بأن يشكل وزارة جديدة بشرط أن يتعهد له رؤساء الحزب العسكري بالامتثال لأوامره، وأن يقدم عُمَدُ البلاد ضمانة على ذلك، فحصل وتشكلت الوزارة وجعل محمود سامي ناظرًا للجهادية.

fig0108
شكل ٣-٣٢: شريف باشا.

فأوعز شريف باشا إلى عرابي أن يتوجه بآلايه إلى رأس الوادي في مديرية الشرقية، وإلى عبد العال أن يسير بآلايه إلى دمياط، فامتثلا وسارا إلى حيث أمرا باحتفال عظيم، وخطب عبد الله نديم محرر جريدة الطائف وحسن الشمسي محرر جريدة المفيد في المحطة خطبًا، هنَّئُوا بها الحزب الوطني على فوزه.

هذه الثورة العسكرية الثالثة إذا اعتبرنا ثورة الضباط في أيام إسماعيل الأولى، وكل منها انقضت بإسقاط الوزارة أو بعزل وزير كبير.

ولما استقر عرابي في رأس الوادي جعل يتجول في أنحاء المديرية يبث مباديه في نفوس عُمَد البلاد ومشايخ العربان، فاستدعته الحكومة إلى العاصمة، وعرضت عليه رتبة لواء ومنصب وكيل نِظَارة الجهادية، فقَبِل الثانية ورفض الأولى؛ ليبقى الآلاي في عهدته. ولما استوى على منصبه الجديد جعل يعقد المحافل في منزله علانية، وتوسط بالعفو عن حسن موسى العقاد أحد تجار المحروسة وكان مُبْعَدًا في السودان، فأجابه الجناب الخديوي إلى ذلك ثم سعى في عزل الشيخ العباسي من مشيخة الإسلام واستبداله بالشيخ الإمبابي.

وفي ٢٨ شوال سنة ١٢٩٨ﻫ/٢٢ سبتمبر سنة ١٨٨١م صدقت الحكومة المصرية على القوانين العسكرية الجديدة، وهي من ضمن طلبات الجهادية يوم حادثة عابدين تحتوي على قانون الإجازات العسكرية البرية والبحرية، وقانون المستودعين وقانون معاشات الجهادية البرية والبحرية وفروعها، وقانون القواعد الأساسية في النظامات العسكرية، وقانون الترقي، وقانون الضمائم والامتيازات والإعانة العسكرية. وبعد التصديق عليها جاء إلى شريف باشا وفد جهادي، وقدموا له الشكر على اعتنائه بمطالبهم وبينوا ارتياحهم إلى وزارته وأكدوا له إخلاصهم.

fig0109
شكل ٣-٣٣: السلطان عبد الحميد.

وفي ١١ ذي القعدة أو ٤ أكتوبر من تلك السنة صدر الأمر العالي باعتماد اللائحة في انتخاب مجلس النواب، بناءً على تقرير رُفِعَ إلى شريف باشا مذيلًا بألف وستمائة توقيع يتضمن طلب تشكيل المجلس النيابي، ومن مقتضى تلك اللائحة أن يكون النواب واحدًا أو اثنين من كل مديرية و٣ من مصر و٢ من الإسكندرية، وواحدًا من دمياط، على شروط مذكورة في اللائحة. ووَزَّعَتْ نِظَارَةُ الداخلية منشورات بشأن ذلك إلى المديريات.

(و) مصر والدولة العثمانية

لا يخفى أن مصر نالت امتيازها، واستقلَّت بإدارتها رغم إرادة الباب العالي، وما برحت الدولة منذ منحت ذلك الامتياز وهي تتحيَّن الفرص لإرجاع سيطرتها إلى وادي النيل، وكان من جملة مطالب العرابيين تشكِّيهم من النفوذ الأجنبي بمصر وامتياز الأجانب على الوطنيين من كل وجه، وكتب عرابي إلى الأستانة يشكو ذلك إلى السلطان وهو يومئذٍ السلطان عبد الحميد، وكان قد أخذ في مطاردة الأحرار طلاب الدستور، بعد أن قلب دستورهم وأصبح لفظ الدستور يرعبه.

فلما جاءته شكوى العرابيين من الأجانب وجد بابًا للمداخلة بشئون مصر، لكنه يعلم أن من جملة مطالبهم الدستور ومجلس النواب وهو يكره الدستور واسمه، فكيف يقبل أن يُعلَن في بعض ولاياته؟ فضلًا عن الإشاعات التي كانت تتناقل يومئذٍ عن رغبة العرب في إحياء دولتهم وخلافتهم في مصر وسوريا. فأول خاطر بدا للسلطان أن يرسل جندًا عثمانيًّا يحتل وادي النيل بحجة إخماد الثورة. وأمر بإعداد الحملة في سبتمبر سنة ١٨٨١.

ولكن مصر تحت المراقبة الأجنبية فلا يسهل على السلطان احتلالها. وكانت سياسة فرنسا على الخصوص مقاومة كل توسُّط عثماني بشئون مصر. أما إنكلترا فلم تكُن ترى بأسًا من أن يرسل السلطان قائدًا عثمانيًّا يتوسط في حل ذلك المشكل. فاحتجت فرنسا بأن ذلك قد يقود إلى احتلال عسكري. فعرضت الدولة العثمانية لحل هذه المعضلة أن يُخلَع الخديوي وينصب مكانه حليم باشا — وهو من طُلَّابِ العرش المصري، وإنما منعه منه فرمان إسماعيل القاضي بانتقال الإرث إلى الأبناء — وكانت إنكلترا من أشد المعارضين لهذا التبديل، وفرنسا تعارض من الجهة الأخرى بإرسال جند عثماني. فاكتفى الباب العالي بإرسال مندوب ينوب عنه بحجة حقه بالسيادة على مصر، فأرسل رجلين هما فؤاد بك وعلي نظامي باشا، فوصلا الإسكندرية في ٦ أكتوبر سنة ١٨٨١.

فاحتجت إنكلترا وفرنسا على ذلك وأمرتا المراقبين في مصر أن يستقبلوها بالترحاب، ويمنعاهما من كل مداخلة سياسية. ولما بلغ الخديوي وصول المندوبين استغربه وسأل وكيلي إنكلترا وفرنسا عن السبب فأجابا أنهما لا يعلمان. على أن الدولتين إنكلترا وفرنسا ألحَّتا على الباب العالي أن يقصر زمن تلك الزيارة على قدر الإمكان. وغاية ما أتاه المندوبان أنهما استعرضا الجند، وخطب علي نظامي باشا في الضباط يذكرهم بأن الجناب العالي نائب جلالة السلطان بمصر، وأن من يعصي الخديوي يعصي أوامر الخليفة.

وعادت الدولتان إلى طلب خروج المندوبين حالًا فسافرا في ٢٠ أكتوبر. وعادت الدولتان إلى التفكير في ملافاة ما يُخشى وقوعه في مصر، وأظهر الخديوي بعد حادثة ٩ سبتمبر رَيْبًا في الجند وضباطه، وأنه لا يرى سبيلًا إلى الأمن إلا بإخضاع الجيش. وبلغ ذلك العرابيين فاتسع الخرق بين الطرفين.

(ز) مجلس النواب المصري

fig0110
شكل ٣-٣٤: عبد الله باشا فكري رئيس كتبة مجلس النواب.

وأراد شريف باشا رتق هذا الخرق بسياسة وأسلوب، فرأى أن يعقد مجلس النواب ويفوض إليه النظر في مطاليب الأمة وأعضاؤه نوابها، فينتقل النفوذ من الجيش إليهم فتتوازن القوى. فصدر الأمر العالي في ٨ أكتوبر بعقد مجلس النواب في ٢٣ ديسمبر، وتم انتخاب النواب على لائحة إسماعيل باشا التي وضعها سنة ١٨٦٦.

فكان مؤلفًا من اثنين وثمانين عضوًا أُقِيمَ منهم المرحوم سلطان باشا رئيسًا وعبد الله باشا فكري رئيسًا للكَتَبة. وأُعِدَّتْ قاعة المجلس في ديوان الأشغال لتكون مقر انعقاده. وحضر تلك الجلسة الجناب الخديوي، وقال المقالة الافتتاحية بيَّن فيها شدة رغبته في تأليف ذلك المجلس وتنشيطه. وقال إنه يرجو أن يكون مساعدًا له في نشر العلوم والمعارف بين أفراد الأمة مخلصًا في خدمة مصالحها. وحضر تلك الجلسة أيضًا جميع الوزراء ورجال الدولة، فتكلم كل منهم حسب مقتضى المقام. ثم نظر المجلس في بعض الأمور الداخلية وارفضَّت الجلسة. وعكف مجلس شورى النواب على الاهتمام بشئونه فرتب أقلامه، وانتخب رؤساءها ثم وجَّه التفاته على الخصوص إلى اللائحة الأساسية الجديدة التي كان قد وعده من مجلس النظار بإرسالها إليه لينظر فيها؛ لأن مجلس النواب افتُتِح بمقتضى لائحة إسماعيل.

وما لبث شريف باشا أن رأى النواب والجند اتحدا وتكاتفا، وانقضت سنة ١٨٨١ والأمر والنهي بمصر لعرابي وحزبه، وصارت الجرائد إذ ذكرته لقبته بألقاب الأمراء وكبار الحكام الفاتحين، مع أن الحكومة كانت قد أصدرت قانونًا للمطبوعات تُقَيِّدُ به أقلام الكتاب.

(ﺣ) إنكلترا وفرنسا

وعادت الدولتان إلى المباحثة في الطريقة المؤدية إلى سلامة القطر، وصيانة حقوق الأجانب فيه إذا اتَّقَدَتْ شعلة الثورة. ووافق ذلك إفضاء وزارة فرنسا إلى غمبتا الشهير، فوافق رأيه رأي إنكلترا بوجوب نصرة الخديوي وتأييد منصبه ضد مناوِئيه، وهم كثيرون غير الجيش المصري — فقد كان حليم باشا وأنصاره يبذلون المال والسعي في الرجوع إلى التوارث الأصلي، والسلطان من الجهة الأخرى يتحين الفرص ليعيد سيادته الفعلية — فأعلنت الدولتان أنهما لا تسمحان بحركة تؤدي إلى تغيير حالة مصر السياسية، واتفقتا على احتلال مختلط من الجندين الإنكليزي والفرنساوي يُؤتَى به إلى مصر عند الحاجة، وأعلنتا الخديوي بذلك بمذكرة مؤرَّخة في ٢ يناير سنة ١٨٨٢ بعثتا بها إلى وكيليهما.

وصلت هذه المذكرة إلى مصر في ٢٦ ديسمبر بعد أن فُتِحَ مجلس النواب بحضور الجناب الخديوي، وتلا خطابه الافتتاحي كما تقدم. فلما علم بعزم الدولتين على نُصرَتِه أجاب شاكرًا في ٦ يناير. فأثرت هذه اللائحة في النفوس تأثيرًا عظيمًا، واضطرب منها الجند فاجتمعوا في سراي قصر النيل للمذاكرة في مضمونها، فرابهم منها أمور كثيرة وأيقنوا أن المراد منها مزيد المداخلة وجعل البلاد تحت حماية فرنسا وإنكلترا. ثم وفد عليهم ناظر الجهادية (محمود سامي) ففوَّضوا الرأي إليه فسكَّن جأشهم وطيَّب أنفسهم، وتوجه بعد ذلك إلى النُّظَّار وفاوضهم في الأمر وأبلغهم انفعال العساكر من هذه اللائحة، ثم سار معهم إلى الخديوي فبسطوا لديه الأمر والرأي، والتمسوا المداركة بما يُذْهِبُ الآثار التي نشأت عن اللائحة المذكورة. فاستقر الرأي على إشعار الباب العالي بها مع الملاحظة بأنه لا حاجة لقبول مضمونها، فسكنت الخواطر بذلك واطمأنَّت النفوس. وأصبحت القوات العاملة في مصر حزبين: (١) الحكومة يعضدها المراقبان. (٢) النواب يعضدهم الجند.

وكانت الميزانية التي لا بد من عرضها على مجلس النواب للمصادقة عليها مؤلَّفة من قسمين؛ الأول: الإيرادات التي تخصصت لوفاء الدَّين. والثاني: النظر في سائر الإيرادات. فلما اجتمع مجلس النواب في ٢ يناير سنة ١٨٨١ وفد شريف باشا على المجلس لتقديم اللائحة الأساسية الجديدة التي أعدها له، فقدمها وخطب في ذلك خطابًا أثَّر في أذهان النواب، وقد جاءت هذه اللائحة مشتملة على أحكام حرة وحدود مطلقة يكون بمقتضاها للنواب حق النظر في القوانين والنفقات العمومية، وأن لا ينفذ قانون ولا يُعتَبَر نظام ما لم يصادق عليه في مجلسهم مع الحرية التامة لهم في إبداء آرائهم. فتعينت لجنة من أعضاء المجلس لمراجعة هذه اللائحة. وبعد الاجتماع مرات عديدة قررت أكثر بنود اللائحة، ووقع الخلاف بين النواب والنُّظَّار في شأن ما يتعلق منها بالميزانية.

وفي ٢٧ صفر من تلك السنة أعاد النواب اللائحة المذكورة إلى النُّظَّار بعد أن بيَّنُوا ما يريدون تعديله فيها. فرأى النظار أن يغيروا شيئًا من تعديلات النواب فلم يقبل أولئك، وأصروا إلا تنفيذ تعديل لجنتهم. وفي ١١ ربيع أول سنة ١٢٩٩ﻫ/٣١ يناير ١٨٨٢م أعاد النُّظَّار اللائحة إلى النواب مرفوقة بإفادة مفادُها أن وكيلي الدولتين فرنسا وإنكلترا لا يريان حقًّا لمجلس النواب في تقرير الميزانية، ولكنهما مع ذلك يقبلان المخابرة في هذا الشأن بشرط أن يستقر الاتفاق بين النواب والحكومة على سائر بنود اللائحة. وبناء على ذلك تطلب الحكومة من النواب تصديقهم على اللائحة مع إغفال ما يتعلق بالميزانية، لَبينما يعطي النواب رأيهم النهائي فيه. فنظر النواب في تلك الإفادة عدة ساعات فقرروا إحالتها إلى اللجنة التي كانت مكلَّفة بتنقيح اللائحة، وطلبوا إليها إعادة النظر في التعديلات التي أدخلها مجلس النُّظَّار، فصدقت على بعضها ورفضت البعض الآخر، وأَدخَلَت على البند المتعلق بالميزانية تعديلًا على مقتضى ما أرادت. وقررت في الوقت نفسه عدم قبول توسط القنصلين في ذلك الأمر.

وفي يوم الخميس ١٣ ربيع أول/٢ فبراير سارت لجنة مؤلَّفة من ١٥ نائبًا إلى الجناب الخديوي يطلبون تنفيذ ما قرروه أو استعفاء الوزارة. فوعدهم سُمُوُّهُ إلى صباح السبت، وانصرفوا فتقابل مع شريف باشا بحضور القنصلين، فأصر شريف باشا على رأيه واستعفى للحال. فاستدعى الجناب الخديوي لجنة النواب وكلفها أن تختار رئيسًا للوزارة فقالوا: إن ذلك من حقوق الجناب الخديوي. فألح عليهم فامتنعوا. ولكنهم قالوا: نريد وزارة تنفِّذ لائحتنا فاختار لهم محمود باشا سامي، وقلده منصب الوزارة وعهد إليه تشكيل وزارة جديدة. فشكلها وجعل أحمد عرابي ناظرًا للجهادية. فسُرَّ الحزب الوطني كل السرور ووردت لهم التهاني من سائر أنحاء القطر من وطنيين وأجانب وأقام النواب احتفالًا لفوزهم. وفي ١٥ ربيع أول أو ٤ فبراير اجتمع ضباط الجهادية من رتبة الصاغقول آغاسي فما فوق ومثلوا بين يدي الجناب الخديوي لإظهار الطاعة فشكرهم سُمُوُّهُ، وخاطبهم بما شف عن حبه لإصلاح البلاد. وفي ١٩ ربيع أول حضر محمود سامي إلى مجلس النُّظَّار فقوبل بالتعظم والتكريم وسُرَّ النواب بنفوذ رأيهم، فخطب فيهم ونشطهم وأقر لهم على اللائحة كما عملوها، فلما علم الناس بالتصديق على لائحة النواب أقاموا الاحتفالات في مصر والإسكندرية سرورًا بفوز الحزب الوطني، وأصبح الجهاديون القوة المتسلطة في البلاد، وإليهم يُوَجَّهُ الثناء؛ لأن تلك المُنَى قد أُدرِكت بمساعيهم.

ولما جلس عرابي على مسند نِظَارة الحربية والبحرية أُحسِن عليه وعلى عبد العال برتبة لوا «باشا»، ثم سعى في ترقية كثيرين من رفقائه الضباط، وقرر قانون الضمائم والمعاشات بصفة جمعت القلوب على ولائه. وعمد إلى التخلص من الحزب الشركسي الذي كان لا يزال متخللًا الجهادية، فشكل لجنة لفرز الضباط المستودعين ففرزت نحو الستمائة أكثرهم من الأتراك والشراكسة، فأصبحت الجهادية وطنية محضة. وذكرت جرائد أوروبا إذ ذاك أن الحزب الوطني وفي مقدمته عرابي كان يهدد مجلس النواب ويتوعده بالسوء إذا لم يسِر على غرضه. فنشر رئيس المجلس المذكور في الجريدة الرسمية ما ينفي تلك التهمة. ثم تخصصت جريدة الطائف لنشر محاضر مجلس النواب والتكلم بأفكار أعضائه والدفاع عنهم. وفي أواسط ربيع آخر أو مارس استعفى بلينيار أحد المراقبين الماليين فعين بدلًا منه الموسيو بريديف. وفي ٦ جمادى الأولى سنة ١٢٩٩ﻫ أو ٢٥ مارس سنة ١٨٨٢م انفضَّ مجلس النواب من أعماله لتلك السنة، وقد قرر فيها: (١) القانون الأساسي. (٢) لائحة الداخلية. (٣) لائحة الانتخاب. (٤) أمور أخرى مهمة.

وقد تقرر في لائحة الانتخاب ثبوت حق الانتخاب والنيابة معًا لأي مَن كان من رعايا الحكومة، سواء كان مولودًا في القطر المصري أو مقيمًا فيه منذ عشر سنين. ولما ودع النواب الجناب الخديوي سلَّم سموه كلًّا منهم أمرًا مؤذِنًا بتعيينه عضوًا في المجلس المشار إليه إلى خمس سنوات.

(ط) استفحال الثورة

فتمكن الارتباط بذلك بين الجهادية والنواب وأضيف إليهما الوزارة؛ لأنها وطنية أيضًا فازدادت مشاكل الخديوي والمراقبين وازدادوا اعتقادًا بوجوب احتلال القُطر بجند مختلط من الفرنساويين والإنكليز. وإنكلترا ترى في ذلك باعثًا على سُوء ظن الدول الأخرى، وتفضل صرف هذا المشكل باحتلال تركي بشروط لا يُخشى معها رجوع النفوذ العثماني.

على أن العثمانيين كانوا يَرَوْنَ في استفحال أمر الوطنيين على الخديوي فائدة لهم، وربما ساعدوا على ذلك تحت طي الخفاء أملًا باسترجاع مصر إلى حوزتهم. فلا غرو إذا تمسك الوطنيون بمطالبهم، واتحد في ذلك العسكر والنواب والوزارة. وقد زادهم تمسكًا بها إغراء بعض المتطرفين من الإفرنج فقد كان منهم جماعة يُحَسِّنُونَ تلك الثورة، ويُطْرُونَ القائمين بها ويبشِّرونهم باستقلال مجيد، وأشهر هؤلاء المغرورين ألفريد بلانت الإنكليزي.

فلا غرو بعد ذلك إذا تهور الوطنيون في مطالبهم، وتصوروا في أنفسهم القدرة على كل شيء فأغلوا أيدي المراقبين، ونبذوا سلطة الخديوي واحتقروا الإفرنج، فعم الخوف أنحاء القطر، وسادت الفوضى وضاعت سلطة المديرين.

وهم في ذلك نهض الباب العالي يقيم الحجة على لائحة الدولتين القاضية باتحادهما في مسألة مصر واحتلالها عند الاقتضاء وخاطب الدول الأخرى بذلك فأجابت روسيا والنمسا وألمانيا وإيطاليا أنهن يرغبن في بقاء مصر على حالتها السياسية تحت رعاية السلطان وسمينه في هذا الجواب «سوزرين Suzerain»، ومعنى ذلك في اصطلاح السياسة أن يكون للسلطان السيادة الاسمية على مصر. وهو يريد أن يسمى سوفرين Sovereign أي صاحب السيادة الفعلية. وعند التحقيق يتضح أن سيادته على مصر أقرب إلى هذا اللقب مما إلى ذاك؛ لأنه صاحب الحق الرسمي في خلع الخديويين وتوليتهم ولا يقدر صاحب اللقب الأول على ذلك؛ فالسلطان «سوزرين» على بلغاريا لأنه لا يقدر أن يولي أميرها أو يعزله ولكنه «سوفرين» على مصر.

وتغيرت وزارة فرنسا في أثناء ذلك وتولى حكومتها دي فريسينه بدلًا من غمبتا، وهو يخالفه في سياسته بمصر، فلا يرى احتلالها بجند مختلط وعرض على إنكلترا رأيه في حل المسألة المصرية بخلع الخديوي وتولية حليم باشا بشرط أن لا يزداد نفوذ العثمانيين فرفضت إنكلترا هذا الرأي.

(ي) مشكل جديد

قد رأيت أن أحمد عرابي رقَّى كثيرين من الضباط أبناء العرب، واضطهد الأتراك والشراكسة وأمر بنقلهم إلى السودان، فبلغه أنهم يكيدون له ويتآمرون على قتله، فأمر بالقبض على جماعة كبيرة منهم، وفيهم عثمان باشا رفقي ناظر الحربية السابق، وحاكموهم بمجلس حربي فصدر الحكم على أربعين منهم بالنفي المؤبَّد إلى أقصى السودان. فتولدت مشكلة جديدة؛ لأن رفقي باشا حائز على رتبة فريق من السلطان، وله وحده حق الحكم في هذا الشأن ووافق الخديوي على ذلك، فأغضب وزراءه وطال الأخذ والرد في المسألة، ثم تقرر تعديل ذلك الحكم بالنفي بدون تعيين السودان أو غيرها. فغضب العرابيون والوزارة الآن منهم، فبعثت تستقدم النواب لتشكو إليهم تصرف الخديوي وأنه يضيع امتيازات مصر بدون أن يشاور وزراءه، وقد أَسَرُّوا عزمهم على خلع الخديوي وإخراج أسرته وتولية محمود باشا سامي حاكمًا على مصر.

فاجتمع النواب من أنحاء القطر، وحاولوا تسوية الخلاف عبثًا فتعينت لجنة في ٢٥ جمادى الآخرة سنة ١٢٩٩ﻫ أو ١٤ مايو ١٨٨٢م لتعرض على سموه قبول الاقتراح، بشرط أن ينزل رئيس النظار فقط، وأن يجعل مكانه مصطفى باشا فهمي. فتوجهوا وعرضوا ذلك على سُمُوِّهِ فقَبِل بعد التردد. فساروا إلى مصطفى باشا يسألونه إذا كان يقبل تلك الرئاسة فأبى، فعادت المسألة إلى مركزها الأول بل زادت تجسُّمًا فوقفت حركة الأعمال، وباتت العيون شاخصة إلى ما سيكون. واجتهد سلطان باشا في تسوية ذلك الخلاف بكل طريقة ممكنة، وساعده ناظر المعارف فلم ينجح. وهم في ذلك وَرَد تلغراف من لندن ينبئ بصدور الأمر إلى الأسطول الإنكليزي الرأسي في بحر المانش أن يتأهب ليسافر في ٢٨ مايو إلى البحر المتوسط. فأوجس الناس خيفة.

وكان المسيو دي فريسينه قد عاد إلى مخابرة إنكلترا في أيهما أفضل لمصلحة مصر: الاحتلال الفرنساوي الإنكليزي أو التركي؟ وتقرر إرسال العمارتين إلى مياه الإسكندرية، وأن يُطلب من الباب العالي التوقف عن المداخلة إلا إذا دعته الدولتان المتحدتان إلى إرسال جند عثماني. وكان رأي فرنسا أن الدولتين إذا رأتا حاجة إلى الاحتلال العسكري تطلبا إلى السلطان أن يرسل جندًا عثمانيًّا للاحتلال بشروط معينة.

ولما بلغ السلطان عزم الدولتين على إرسال أسطوليهما إلى المياه المصرية، غضب ورفع احتجاجه إلى الدول ولكن ذلك لم يقِف في طريق الأساطيل.

ففي مساء الجمعة غرة رجب أو ١٩ مايو سنة ١٨٨٢ وردت على مينا الإسكندرية دارعة إنكليزية، وفي الصباح التالي دارعتان أخريان وثلاث دوارع فرنساوية، فأطلقت المدافع للسلام كالعادة. ثم جعلت البواخر ترِد إلى ذلك الثغر حتى تكامل الأسطولان ولم يكن معهما أسطول عثماني. فكثر تقول الناس في سبب قدوم هذه العمارات على هذه الصورة. ثم أُشِيعَ أن قدومها كان بوفاق مع الباب العالي وبارتياح الدول عمومًا بشرط أن تسرع بعد إنهاء المشاكل إلى الانسحاب.

وفي ٧ رجب أو ٢٥ مايو من تلك السنة قدَّم قنصلَا إنكلترا وفرنسا بلاغًا نهائيًّا من دولتيهما، تطلبان فيه سقوط الوزارة وإخراج عرابي من القطر المصري بأن تضمنا له حفظ رتبه ورواتبه ونياشينه، وإبعاد عبد العال حلمي وعلي فهمي إلى الأرياف في جهات لا يخرجان منها مع حفظ رتبهما ورواتبهما ونياشينهما، وأن الدولتين عازمتان على تنفيذ كل ذلك. وهما تُكَلِّفَانِ الجناب الخديوي أن يُصدِر عفوًا عامًّا عن الذين لهم دخل في المسألة. فرفض النُّظَّار هذا البلاغ ولم يجيبوا عليه بدعوى «أن لا علاقة للدول الأوروبية معنا، فإذا شئن فليخابرن الأستانة، أما نحن فإننا مستعدون للمقاومة.» فأخذ سلطان باشا يسعى في التوفيق فحبط مسعاه. وفي ٨ رجب أو ٢٦ مايو استعفت الوزارة محتجَّة على بلاغ الدولتين وطلباتهما، فكلف شريف باشا بتشكيل وزارة جديدة فأبى وأصر على الإباءة، فأطلعه قنصل فرنسا على تلغراف وارد إليه من وزارة فرنسا هذا نصه:

الأمل أن يقبل شريف باشا رئاسة الوزارة، وأكدوا له أننا نعضده ونؤيده بكل جهدنا.

فلم يقنعه ذلك وأصر على الرفض.

ثم عقدت جلسة عند الجناب الخديوي حَضَرها بعض رؤساء الجهادية، وفي مقدمتهم طلبة عصمت، فقال شريف باشا إنه يقبل أن يشكل وزارة جديدة بشرط أن تنفذ الجهادية مآل طلبات الدولتين، فقال طلبة: «نحن مطيعون، إنما يستحيل علينا تنفيذها ولا حق للدولتين بطلب ذلك؛ لأن هذه المسائل من اختصاص الباب العالي.» قال ذلك وخرج فتبعه الضباط. وبتاريخه ورد تلغراف من رأس التين بالإسكندرية أن العساكر هناك لا يقبلون غير عرابي ناظرًا عليهم، وأنهم إذا مضت ١٢ ساعة ولم يرجع إلى منصبه لا يكونون مسئولين عمَّا يحدث ممَّا لا يُستحب وقوعه. فزاد الإشكال والاضطراب فتمكن شريف باشا وغيره من إصرارهم على رفض تشكيل وزارة جديدة. وعند الغروب اجتمع النواب ورئيسهم وحضر عرابي، وجعل يخطب فيهم وخطب أيضًا عبد العال وغيره يطلبون تنازُل الخديوي، فتفاقم الخطب فأرسل الجناب الخديوي يخبر الباب العالي أن الجند غير راضين عن استعفاء الوزارة، وأنهم أقاموا الحجة على طلب الدولتين. فأجابه أن الحضرة السلطانية أمرت بتشكيل لجنة عثمانية تأتي مصر بعد ثلاثة أيام للنظر في هذا الأمر. فأمر الجناب الخديوي أن يرجع عرابي إلى مركزه مؤقتًا للتأمين على الأجانب لَبينما يصل الوفد العثماني، فسُرَّ الجند بذلك. وبعث عرابي منشورًا إلى قناصل الدول يضمن تأييد الأمن لجميع سكان القطر المصري من وطنيين وأجانب مسلمين وغير مسلمين، وفي الوقت عينه اقترح ثلاثة أمور:
  • (١)

    إعادة لائحة الدولتين وانسحاب أسطوليهما.

  • (٢)

    وضع قانون أساسي تبين فيه حدود كل من الجناب الخديوي ووزرائه.

  • (٣)

    قطع المخابرات والعلاقات توًّا مع الدولتين ومع سائر الدول إلا بواسطة الدولة العثمانية.

ثم عمل العرابيون على خلع الخديوي وتولية البرنس حليم باشا، وكثيرًا ما كانوا يُصَرِّحُونَ بذلك في مجالسهم.

وكان السلطان من الجهة الأخرى يسعى في اغتنام هذه الفرصة لاسترجاع نفوذه بمصر، واعترفت الدول أن السلطان أَوْلاهن بحل هذا المشكل. وبعد أن كانت فرنسا من أكبر المقاومين للتداخل العثماني صرح دي فريسنيه أن كل الوسائل لحل المسألة المصرية يمكن اتخاذها إلا الاحتلال العسكري الفرنساوي. خلافًا لرأي غمبتا سلفه. وكان الخديوي من الجهة الأخرى راغبًا في توسيط الباب العالي لعله يؤيده. وعرض البرنس بسمارك عقد مؤتمر دولي للقرار على هذه المسألة، فلم يرضَ السلطان بالمؤتمر لكنه انتدب رجلين من كبار رجاله أوفدهما إلى مصر أحدهما درويش باشا والآخر أسعد أفندي، وكانت مهمتهما القبض على الحبل من الطرفين لإرضاء الحزبين فيكون السلطان مع الفائز منهما. فكانت مهمة درويش باشا توطيد علائق الولاء مع الخديوي ضد عرابي، وبعكس ذلك مهمة أسعد أفندي. وكان في جملة الأوامر المعطاة لدرويش باشا أن يقبض على عرابي ورفاقه، ويرسلهم مغلولين إلى الأستانة، وأن يلغي مجلس النواب ويقوي نفوذ أمير المؤمنين، وفرق الأوسمة في العرابيين وفي حزب الخديوي.

فآلت هذه السياسة طبعًا إلى زيادة التفريق وتفاقم الفوضى وكره الأجانب، فأفضى ذلك إلى حادثة الإسكندرية في ١١ يونيو.

(ك) حادثة الإسكندرية

وسببها أن القلق والاضطراب استوليا على سكان القطر، وكثر الإشاعات ونزع النزلاء الأجانب إلى الجلاء خوفًا من أمر يأتي، فأصبحت الإسكندرية ملجأ الوافدين من جالية الريف على أمل أن يكونوا فيها آمنين من غوائل التَّعَدِّي لكثرة من فيها من الأجانب أو بالحري للاحتماء بجوار الأسطولين الإنكليزي والفرنساوي.

ثم أحس الأجانب فيها أن سفلة الأهالي ومعظم الجهاديين قد أغلظوا في معاملاتهم، واستبدلوا في أمورهم؛ فكانوا يخطرون في الأَزِقَّة تيهًا يمتهنون الرفيع ويستعبدون الوضيع، وقد لاح لهم أن أولئك الأجانب يريدون بهم شرًّا، فجعلوا يتوقعون منهم ما يتذرَّعون به إلى الوقيعة بهم توهُّمًا منهم أن أولئك من ألد الأعداء لوطنهم. فعلم الأجانب بتلك المقاصد فجعلوا يتأهبون سرًّا للدفاع بما أمكنهم من اقتناء الأسلحة والرجال وإخفائهم في منازلهم، واستشاروا أميري الأسطولين فوافقاهم، ثم عرضوا الأمر على القناصل الجنرالية في القاهرة بواسطة مندوب مخصوص، فأنكروا عليهم ذلك فلبثوا يتوقعون المقدور.

أما أهل الفتنة فأدركوا تحذُّر الأجانب منهم فهموا بهم في ٢٤ رجب أو ١١ يونيو، وابتدءوا الفتنة بخصام بين حَمَّار ومالطي اتصلوا منها إلى الإغارة على البيوت والمنازل، والفتك بكل من مَرُّوا به في السبل. فلم تكُن ترى إلا أخلاطًا من السفلة بين صعيدي وسوداني وبدوي وفيهم الحَمَّارة والحَمَّالون وأمثالهم، يهجمون جماعات على من لقُوه في طريقهم فقتلوا نحوًا من ٣٠٠ نفس وقتل منهم نحو هذا العدد. كل ذلك والأسطولان لم يُحَرِّكَا ساكنًا. وتمارض مأمور الضابطة المدعو السيد قنديل، ولم ينزل يومئذٍ إلى المدينة وجُرِحَ في هذه الواقعة عدد كبير من كبار الأجانب، وفيهم قنصل اليونان والمستر كوكسن قنصل إنكلترا في الإسكندرية وقنصل إيطاليا وفيس قنصلها وقنصل روسيا وكثيرون غيرهم. فأمر محافظ الإسكندرية «عمر باشا لطفي» الأميرالاي سليمان داود أن يبعث الجند لإيقاف الأهالي ومنعهم من ارتكاب تلك الفظائع. فأجاب أنه لا يستطيع ذلك إلا بعد أن يأتيه أمر من عرابي. فجاءه الأمر نحو الساعة الخامسة بعد الظهر، فسار الجند والمحافظ أمامهم ساعيًا على قدميه يسكنون الخواطر وينادون بإعادة الراحة. فرأوا المخازن قد نُهِبَتْ والأرزاق قد تبعثرت على قارعة الطريق. وعند الغروب هدأت الغوغاء وكَفَّ الناس فدخل كُلٌّ منزله وانقضى الليل ولم يحدث شيء. وفي اليوم التالي كثُر عدد المهاجرين بحرًا حتى خُيِّلَ للناس أنه لم يبق في المدينة أحد من الأجانب. فنزل من المدينة في يوم واحد نحو عشرة آلاف تفرَّقوا في السفن. كل ذلك خوفًا مما كانوا يَخْشَوْنَ حدوثه من مثل ما قاسوه. واتصلت هذه الأخبار بالداخلية فانتشر الاضطراب وعمَّت البلوى، وتقاطر الناس من سائر الأقطار الداخلية إلى السواحل يطلبون الفرار كما فعل الإسكندريون، واستمرت الحال على ذلك بضعة أيام حتى كاد يخلو القُطر من النزلاء، وقد قدَّر بعضهم عدد من هاجر في تلك المدة فبلغ زهاء مائة وخمسين ألفًا.

ولما بلغ خبر حادثة الإسكندرية إلى أهل العاصمة اضطربوا، وفي صباح ١٢ يونيو خاطب القناصل درويش باشا معتمد الحضرة السلطانية بكلام عنيف، وسألوه أن يتخذ التدابير الفَعَّالة لصيانة الأوروبيين وأموالهم في جميع أنحاء القطر، فعقد مجلسًا في عابدين حضره الجناب الخديوي ودرويش باشا ومن معه وشريف باشا ووكلاء الدول العظمى السياسيون، وبعد المذاكرة أقروا أن تُعطَى للقناصل ضمانات أكيدة تكفل إعادة الأمن والمحافظة على أرواح الأوروبيين وأموالهم، ومن أخص هذه الضمانات أن يمتثل عرابي لأي الأوامر التي تصدر له من الخديوي، فدُعِيَ وسُئِلَ فأجاب بالقبول وتعهد بإجراء ما يضمن الراحة. وأخذ درويش باشا على نفسه تبِعة تنفيذ الأوامر الخديوية بمعنى أن يكون مشتركًا مع عرابي ومسئولًا معه في تنفيذ تلك الأوامر. فرَضِيَ وكلاء الدول بذلك وانصرفوا، وأخذ عرابي يهتم قيامًا بتعهده، فنشر المنشورات بمنع الاجتماعات، وإبطال كل ما يوجب الارتياب. وكانت قد تعيَّنت لجنة بأمر الجناب الخديوي للنظر في أمر حادثة الإسكندرية تحت رئاسة عمر باشا لطفي محافظها، وفيها مندوبو القناصل، فاجتمعت اللجنة في الإسكندرية، وباشرت أعمالها وقررت ما خُيِّلَ لها أنها تدابير فعالة لإعادة الأمن.

وفي ٢٦ رجب أو ١٣ يونيو (حزيران) وصل سمو الخديوي إلى الإسكندرية يصحبه درويش باشا مندوب الحضرة السلطانية، فصفت لهما الجنود من المحطة إلى سراي رأس التين، وأطلقت المدافع تحية لهما. ثم زاره قناصل الدول إلا قنصلَا إنكلترا وفرنسا فإنهما بَقِيَا في مصر فأبدى لهم أسفه الشديد لما حدث، ووعدهم بصرف العناية إلى إخماد الفتنة، وخاطبهم درويش باشا أيضًا بمثل ذلك، وزاد عليه أنه واثق الثقة التامة بإخلاص الجهادية. إلا أن الخديوي أَسَرَّ إلى المستر كولفن المراقب العمومي الإنكليزي أنه غير واثق باستمرار الأمن والراحة، وأنه يعتبر مهمة درويش باشا كأنها قد انتهت ولم تفلح، وأنه لا يرى بدًّا من مجيء جنود عثمانية لإعادة الراحة. وكان في ثكنات الإسكندرية نحو من ثمانية آلاف جندي بالأسلحة الكاملة، ومعهم من المهمات ما يكفي خمسين ألفًا.

ثم بلَّغت القناصل رعاياها أن يتخذوا أقرب السبل للنجاة ممَّا ربما يحدث، وأوعزت إليهم أن يهاجروا من المدينة، فتناقلت الألسن هذه الأخبار، فتأكد الناس أن الساعة آتية لا ريب فيها، وعينت كل دولة من الدول الأجنبية سفنًا لنقل رعاياها المهاجرين مجانًا، فتسارع الفقراء من كل ناحية متقاطرين من مدن الداخلية والأرياف إلى الإسكندرية وبورت سعيد، حيث كانت تلك السفن مُعَدَّةً لتقلهم إلى بلادهم. وكان المستر مالت وكيل إنكلترا السياسي لا يزال في العاصمة، فجاءه أمر من لندرا بأن يحضر إلى الإسكندرية ويرافق الخديوي حيثما توجَّه، فأتاها وأتى معه المسيو سنكوفيتش وكيل فرنسا، فخلت العاصمة من رجال السياسة وخلا جَوُّهَا لعرابي وجماعته، واستفحل أمرهم ولا سيما لما بلغهم من انقسام دول أوروبا في المسألة المصرية، فظنوا أنهم في مأمن من الاغتيال. ثم حسب القناصل أن تغيير الوزارة يأتي بحل هذه المشكلة، فأشاروا على الجناب الخديوي بذلك فشكَّل وزارة جديدة تحت رئاسة إسماعيل راغب باشا، وبقي عرابي ناظرًا للجهادية والبحرية، فكان رأي هذه الوزارة أن الطريقة المُثلَى لملافاة الأمر أن يُصدرَ عفوًا عموميًّا، وأن يعلن في الجرائد الرسمية «أن كل من عليه مسئولية أو اشتراك بالحوادث الأخيرة، فعليهم العفو إلا المشتركين في حادثة الإسكندرية وهم تحت المحاكمة.» فوافقها الجناب الخديوي على ذلك. وفي ٥ شعبان سنة ١٢٩٩ﻫ أو ٢١ يونيو سنة ١٨٨٢م بعث الجناب الخديوي منشورًا إلى راغب باشا يطلب إليه التحري الحسن في مسألة حادثة الإسكندرية فأجابه بتلبية الطلب.

ثم جاءت الأخبار بعزم الدول على عقد مؤتمر في الأستانة لأجل البحث في المسألة المصرية، وتمنَّع الباب العالي من ذلك بدعوى أن ليس في مصر ما يوجب الاضطراب اعتمادًا على تقارير درويش باشا المُرسلة منه. وكان ذلك مما شدَّد عزائم الحزب الوطني ولا سيما لما رأوا الباب العالي واثقًا بهم يأبى عقد مؤتمر دولي. وكان عرابي يؤكد لأتباعه أن وجود هذه الأساطيل في مينا الإسكندرية لا يُخشى منه البتة؛ لأنها إنما أتت هذا البحر للتنزُّه كما فعلت مرات عديدة قبل هذه. أما إنكلترا فلم تنفك ساعية في عقد المؤتمر بدعوى أنه يستحيل إعادة الأمن إلى مصر بغير واسطة فعالة. وكان الباب العالي يجيب على ذلك بقوله إنه بعد تشكيل الوزارة الجديدة صار يرجو استقرار السلام، ووافقه على رأيه هذا دول ألمانيا وأوستريا وإيطاليا والروسية. وهذه الموافقة كانت مبنية على خوف الدول من مطامع إنكلترا في مصر. فلما علمت هذه بنِيَّاتِهم أكدت لهم أنها تتعهد متى عُقِدَ المؤتمر مع سائر الدول ألا تسعى البتة إلى ضم أرضٍ ما إليها، أو الاستيلاء على مصر أو قسم منها، أو الحصول على امتيازٍ ما سياسي أو تجاري بدون أن يكون فيه نصيب لسائر الدول، فوافقها الجميع على عقد المؤتمر أما الدولة العلية فأصرت على عدم لزومه.

وفي ٧ شعبان أو ٢٤ يونيو عُقِدَ المؤتمر في الأستانة، ولم يكن للدولة العلية معتمد فيه فقرر ما يأتي: «أن الحكومات التي وقَّع وكلاؤها بالنيابة عنها على ذيل هذا البروتوكول تتعهد أنها لا تقصد البتة اغتنام أرضٍ ما ولا الحصول على امتيازات ما، ولا أن يكون لرعاياها من الامتيازات المتجربة ما لا يستطيع أن يناله غيرهم من رعايا أي الدول في مصر، وذلك في أي مسألة حصل الاتفاق عليها بسعيها، واشتراكها في المخابرات لتنظيم أمور تلك البلاد.» وقد كانت إنكلترا في أثناء سعيها إلى عقد المؤتمر تحشد الجنود استعدادًا للحرب، وكانت في الوقت عينه تُلِحُّ على سائر الدول أن تساعدها في ذلك.

وجاء في أثناء ذلك إلى عرابي نيشان من لدن الحضرة السلطانية، فاتخذه الناس دليلًا على رضاء الباب العالي عن أعماله، وكان هو يحاول إقناعهم أن جميع الدول تساعده على مقاومة إنكلترا إذا مست الحاجة. وفي ٥ شعبان أو ٢٢ يونيو تمارض المستر مالت وكيل إنكلترا فأُنْزِلَ إلى إحدى السفن، وبقي فيها بضعة أيام ثم سافر إلى برندزي. وفي ٢٥ منه تنحى المستر كوكسن قنصل إنكلترا في الإسكندرية بدعوى مرضه بسبب الجراح التي كان قد أُصِيبَ بها في أثناء حادثة ١١ يونيو، وهكذا فعل قنصل مصر. أما باقي القناصل فبقوا في الإسكندرية إلى ٩ يوليو، وكان الخديوي ودرويش باشا مقيمين في سراي رأس التين، وعرابي مقيمًا في الترسخانة، وتحت أمره في ثغر الإسكندرية تسعة آلاف مقاتل.

وفي جلسة المؤتمر السابعة أقرت الدول على كتابة لائحة مشترَكة يقدمونها إلى الباب العالي، يطلبون منه إرسال جنود عثمانية إلى مصر لإخماد الفتنة ففعلوا فأبى، فاتخذت إنكلترا ذلك ذريعة لتداخلها بالقوة.

(ل) ضرب الإسكندرية

أما فرنسا فقد علمتَ ما كان من تغيُّر سياستها بعد تغيُّر وزارتها، وأصبحت لا ترى الاشتراك مع إنكلترا في أمور مصر، وإنما هي تشاركها فقط في حماية قناة السويس، ولم تَشَأْ مشاركة الإنكليز في تحمُّل تبِعة الاحتلال العسكري؛ ولذلك فلما رسا الأسطولان في مياه الإسكندرية تفرَّدَت إنكلترا بالعمل. فأخذ الأميرال سيمور قومندان العمارة الإنكليزية يترقَّب الأسباب لمباشرة العدوان، فادَّعى أن الجهادية يُحَصِّنُونَ القلاع في الثغر، وينقلون أحجارًا ضخمة يُلقُونها عند فَمِ المَضِيقِ لسَدِّ مدخل المينا، فيمنع المدد ويحصر الأسطول وقال إن هذا التحصين مُنافٍ لحقوقه. فكلف الحكومة المصرية أن تَكُفَّ عن التحصين حالًا، وإلا اضْطُرَّ إلى إطلاق مدافعه عليها فيَدُكَّهَا عن آخرها. فأجابه طلبة باشا عصمت أن لا صحة لما يقول، وأن الجهادية لم يهتموا قط بتحصين القلاع. وشاع ذلك فخافت الناس وأوعز إلى الجناب الخديوي بواسطة المستر كولفن أن يتنحى صيانة لحياته فأجابه: «لا يليق بي أن أترك الكثيرين من رعيتي الأمناء في أوانِ الشدة، ولا يليق بي أيضًا أن أترك البلاد في أوانِ الحرب.» ثم توسطت قناصل الدول في الإسكندرية بين الأميرال سيمور وبين الجهادية المصرية فلم ينجحوا. فتقدم عرابي وسامي إلى كاتب سر مجلس النُّظَّار أن يكتب تقريرًا في المسألة مفاده «أن الأميرال تجاوز الحدود فيما يطلب، وأنه لا بد من مقاومته وأن عرابي وقومه مفوَّضون في أمر الدفاع عن البلاد.» وداروا به على منازل النُّظَّار وطلبوا التوقيع عليه فوقع بعضُهم اختيارًا والبعض اضطرارًا، ويقال إن الخديوي نفسه صدَّق عليه أو أُلْجِئَ للتصديق ثم أرسلوه إلى الأميرال سيمور. وأرسل عرابي منشورًا إلى المديرين يطلب إليهم أن يكونوا مستعدِّين للإمداد بالجند والمال.

وفي مساء ٢٢ شعبان أو ٩ يوليو جاءَ المستر كارترايت إلى الخديوي، وأعلنه رسميًّا عزم الأميرال سيمور على مباشرة القتال صباح الثلاثاء في ١١ يوليو، وأَلَحَّ عليه أن يترك سراي رأس التين ويلجأ إلى سراي الرمل ففعل. ثم كتب رسميًّا إلى درويش باشا يطلب إليه أن يحافظ على حياة الجناب الخديوي، وألقى عليه التَّبِعة إذا أُصِيبَ بسوء.

وفي ٢٣ شعبان أو ١٠ يوليو كتب الأميرال سيمور رسميًّا إلى كل من درويش باشا وراغب باشا رئيس الوزارة يُعْلِمُهُمَا عن خروج رجال الوكالة الإنكليزية من القطر المصري، إشارة إلى قطع العلائق الودية، وأعلنت خارجية إنكلترا سائر الدول بذلك «وأنها لم تَرَ بُدًّا منه لكنها تصرح أن ليس لها أرب خفي أو نية غير بَيِّنَة، وأنما عمل هذا من قبيل الدفاع وحرصًا على مصلحة الجناب الشاهاني.» وفي مساء ذلك اليوم سافر الأسطول الفرنساوي متقهقرًا تاركًا سفينتين من سفنه فقط.

وفي الساعة السابعة من صباح الثلاثاء ٢٢ شعبان سنة ١٢٩٩ﻫ أو ١١ يوليو سنة ١٨٨٢م، أطلقت العمارة الإنكليزية مدافعها على حصون الإسكندرية، وما زالت إلى الساعة واحدة ونصف بعد الظهر، فهدمت معظمها وانفجر مستودع البارود في قلعة إطه. فجاء راغب باشا إلى الجناب الخديوي في الرمل وأخبره أن الحصون قاومت أشد مقاومة، وأن كثيرًا من سفن الإنكليز قد غرقت، وكان يقول ذلك مسرورًا. ولكن قوله هذا ما لبث أن نُقِضَ بورود الخبر الصحيح. ثم جاء عرابي فوقف بين يدي سُمُوِّهِ، فسأله عن حالة الحصون فقال: «لم يعُد في وسعنا المقاومة ولا بُدَّ لنا من تدابير أخرى أو أن نتساهل مع الأميرال.» وبعد المخابرة تَقَرَّرَ إرسال طلبة عصمت إلى الأميرال وعاد عرابي من حيث أتى. فعاد طلبة باشا من عند الأميرال وأخبر الجناب الخديوي أن الأميرال يطلب احتلال ثلاث قلاع، وإلا فإنه يستأنف القتال الساعة ٢ بعد الظهر. ثم قال: «ولكنني قلت له إن هذه المدة لا تكفي لإتمام المخابرة بشأن ذلك، فطلبتُ تطويلها فأبى فأتيت لأُعْلِمَ سموكم ملتمسًا رأيكم.» فعقد مجلس تقرر فيه أنه لا يحق للحكومة المصرية الترخيص في احتلال جنود أجنبية بدون مخابرة الباب العالي، إلا أن الوقت لم يسمح بتبليغ ذلك القرار للأميرال.

ولما رأى رجال الحصون المصرية عجزهم عن مقاومة السفن الإنكليزية، رفعوا العَلَم الأبيض إشارة إلى إيقاف العدوان فانقطعت السفن عن قذف النار. وكانت الحصون قد تهدَّمت فعلم الثائرون أن ذلك التسليم يعقبه احتلال الجيوش الإنكليزية المدينة، فوزعوا في غلس في ١٣ يوليو فرسانًا في أحياء المدينة يأمرون الوطنيين بالخروج من الإسكندرية حالًا، وكانت هذه الأوامر تصدر من الأميرالاي سليمان داود، وأمر أيضًا زمرًا من الرعاع أن تطوف المدينة وتُحرقها، فابتدءوا من الساعة الأولى بعد الظهر فكانت الإسكندرية مساء الأربعاء مضطرمة الجوانب منهوبة المخازن لا ترى فيها إلا لهبًا متصاعدة، وأناسًا حاملين الأمتعة والمصاغ فارِّين إلى داخلية البلاد.

وكان الخديوي في سراي الرمل، وبمعيته عثمان باشا وإسماعيل باشا الشركسيان وزبير باشا السوداني والجنرال ستون باشا وفدريكو بك وطنينو بك ودي مارتينو بك وأباتي بك وتيكران باشا وزهراب بك وغيرهم، لا يزيد عدد الجميع على خمسين. وبعد ظهيرة ذلك اليوم جاء إلى سراي الرمل نحو أربعمائة فارس وبعض المشاة واحتاطوا بها، فسُئِلُوا عن الغاية من مجيئهم فقالوا: «قد أتينا للمحافظة على السراي.» والحقيقة أنهم جاءوا مأمورين بإحراقها وقَتْلِ من يخرج منها. وفي الساعة ٧ مساءً بعث عرابي يستدعيهم إليه، فساروا وتخلَّف منهم أحد البكباشية ومعه ٣٥٠ فارسًا، فمثل بين يدي الجناب الخديوي وأقسم أنه يموت بين يديه، واقتدى رجاله به وأخبره أنهم كانوا قد أَتَوْا يريدون شرًّا. وفي خلال ذلك أرسل الأميرال سيمور ثلاث دوارع من أسطوله لترسو بجوار سراي الرمل صِيَانَةً لحياة الحضرة الخديوية، ويقال إنها هي التي كانت السبب في انسحاب الفرسان العرابيين. ثم جاء المحافظ إلى الخديوي يخبره بما كان من النهب والحرق في أحياء المدينة. فأرسل سموه كامل باشا الشركسي وزبير باشا ليمنعا الناس من ذلك.

(م) الإسكندرية بعد الضرب

ونحو الساعة بعد ظهر ٢٦ شعبان أو ١٣ يوليو كانت جنود عرابي قد انجلت عن الإسكندرية. فجاء زهراب بك بهذا النبأ إلى الخديوي وأن الأميرال سيمور عازم على إنزال جنود بحرية إلى رأس التين، وأنه يدعو الحضرة الخديوية إلى سفينته حيث يكون آمنًا. ففضل سموه التوجُّه إلى سراي رأس التين، فسار وبمعيته درويش باشا حتى جاء السراي فوجد هناك الأميرال سيمور وبعضًا من جنوده ينتظرونه في ساحة القصر. وفي المساء نزل بعض وكلاء الدول وهنَّئوه بسلامته وكان في السراي ٣٠٠ من الحامية الإنكليزية. وفي الصباح التالي أنزل الأميرال فِرَقًا أخرى من رجاله يطوفون الشوارع ومعهم عدد من المدافع تسكينًا لخواطر الباقين فيها.

وقد قدرت الخسائر بستمائة من الوطنيين وخمسة من الإنكليز على الدوارع، غير المذابح التي حصلت في أثناء ذلك في طنطا والمحلة الكبرى وسمنود وجهات أخرى. وبعد انتقال العائلة الخديوية إلى رأس التين استدعى الجناب الخديوي زهراب بك، وجعله ترجمانًا بين السراي والضباط الإنكليز، وعهد إليهم أن يمنع أيًّا كان من دخول القصر؛ لأن العرابيين كانوا قد عيَّنوا نفرًا من الجواسيس لتجسُّس حالة السراي. أما عرابي وأتباعه ففروا إلى كفر الدوار وعسكروا هناك على نية الدفاع.

ولما استتب المقام للإنكليز في الإسكندرية أخذوا في تنظيف الأسواق ونقل الجثث، ودعوا المهاجرين أن يعودوا إلى منازلهم لإعادة الراحة والطمأنينة، واسْتُدْعِيَ أثناء ذلك درويش باشا إلى الأستانة فتوجه.

وكتب راغب باشا إلى الأميرال سيمور يخبره أن إجراءات عرابي من الآن فصاعدًا مخالفة لأوامر الخديوي، وأنه هو وحده (عرابي) المسئول عنها.

ثم كتب الجناب الخديوي إلى أحمد عرابي يأمره بالإمساك عن جمع العساكر وإعداد التجهيزات؛ لأن الحكومة الإنكليزية لا خصومة بينها وبين الحكومة المصرية، وأنها مستعدة لتسليم المدينة متى رأت فيها قوة منتظمة والبلاد في أمن، وأمره أن يأتي إلى سراي رأس التين حالًا.

فأجاب عرابي «أن مقاومة العمارة الإنكليزية حصلت بإقرار مجلس النظار ودرويش باشا، وأن النظار هم الذين أعلنوا الحرب على الإنكليز وهكذا حصل، فإذا كان الأميرال الآن قد عدل عن المحاربة إلى المسالمة بعد وقوع الحرب، فذلك يُعَدُّ طلبًا للصلح ولا يجوز أن يكون إنكارًا للحرب» إلى أن قال: «إنه يميل إلى الصلح ولكن مع حفظ شرف البلاد والحكومة، فإذا كان الأميرال يريد تسليم المدينة فليسلمها، ولنخرج مراكبة من الإسكندرية، وإنه للمحافظة على شرف الحكومة الوطنية ينبغي الاستمرار على الاستعداد العسكري حتى تفارق المراكب المياه المصرية، وإنه يعتبر قول الإنكليز هذا مكيدة لأن الإنكليز لا يزالون في الإسكندرية؛ ولذلك لا يمكنه الحضور إليها.» ثم طلب التئام مجلس النظار في مركز الجيش للمداولة في الأمر وبعد ذلك يصرف الجيش ويحضر.

(ن) مساعي العرابيين

فيظهر أن إصرار عرابي هذا هو السبب في اتِّساع الخرق؛ لأن الحكومة الإنكليزية لم تكن تطمع باحتلال هذه البلاد على ما يظهر من أقوالها. وكتب عرابي إلى وكيل الجهادية يعقوب سامي في القاهرة إيقاعًا في الحضرة الخديوية، واتهمها بالتحامُل على الجهادية الوطنية، وأنها هي التي جلبت كل هذه المتاعب إلى القطر المصري، وطلب إليه أن يتروَّى في الأمر وينظر في صلاحية هذا الوالي للتولية عليها أو عدمه. فلما وصل كتاب عرابي هذا إلى يعقوب سامي جمع إليه الذوات والأعيان والرؤساء الرُّوحانيين في ديوان الحربية في غرة رمضان سنة ١٢٩٩ﻫ/١٧ يوليو ١٨٨٢م، وعقدوا جلسة تحت رئاسة وكيل الداخلية قام فيها عدة خطباء اتهموا الجناب الخديوي ببيع الوطن. واستقر الرأي أخيرًا على لزوم الاستمرار على إعداد التجهيزات الحربية، وأن تعين لجنة من ستة أشخاص يتوجهون إلى الإسكندرية لاستدعاء النُّظَّار إلى العاصمة للاستعلام منهم عن حقيقة ما حصل. وبناءً على ذلك القرار سار الوفد فمر بكفر الدوار وتداول مع عرابي ورؤساء الجند، فاختير منه اثنان هما: علي باشا مبارك وأحمد بك السيوفي؛ للتوجه إلى الإسكندرية للغرض المتقدم ذكره. فوصلا إليها وقابلا الجناب الخديوي صباح الاثنين في ٢٤ يوليو، وعرضا له الحالة فأصدر أمرًا عاليًا يقضي بعزل عرابي عن نِظَارة الجهادية، وأعلن ذلك في البلاد. ثم أرسل إلى الباب العالي يخبره بعصيان عرابي وأن الجند انحاز إليه وهو المسئول عنه.

أما عرابي فلم ينفك عن إعداد المُعَدَّات والتحصين بمساعدة رفقائه، فحاول سد ترعة المحمودية بجهة كفر الدوار فلم يُفلِح وجعل يشيع في البلاد أن الخديوي مشترك مع الإنكليز على إضاعة البلاد، إلى غير ذلك من إثارة خواطر الأهلين، ولما وصل الأمر بعزل عرابي إلى العاصمة اجتمع المجلس المتقدِّم ذكره في نِظَارة الداخلية، وقرروا بقاء عرابي للمدافعة عن الوطن، وإيقاف أوامر الخديوي؛ لأنه خرج عن قواعد الشرع الشريف.

واستولى العرابيون على الخطوط الحديدية والبرقية، فنصب الأميرال سيمور سلكًا تلغرافيًّا بين الإسكندرية وبورت سعيد، وأعلن الخديوي ثانية عصيان عرابي. غير أن هذه الأوامر والمنشورات كانت تذهب أدراج الرياح؛ لأن الأهلين أصبحوا منقادين للحزب الوطني انقيادًا أمست البلاد به آلة بيد زعيم الثورة يديرها كيف شاء.

ثم نزل العرابيون نحو الإسكندرية وعسكروا في الرملة، فخرجت إليهم فرقة من الإنكليز في ٥ أغسطس فلم تقوَ عليهم فتقهقرت إلى الإسكندرية، ثم عادت إليهم ثانية وقد تشددت، فتقهقر العرابيون وتحصنوا بين أبي قير وخطوط الرملة ثم تقهقروا إلى كفر الدوار، فاعتبر الإنكليز من ذلك الحين حالتهم في مصر حالة حربية يحتاجون فيها إلى الإمداد، فاستمدوا إنكلترا فأمدتهم بقوات كانت تتوارد إليهم عن طريق السويس. أما عرابي فكان في كفر الدوار في أربعة آلايات من المشاة وآلاي من الفرسان وآلاي من الطبجية وبطارية من مدافع الرش، وكثير من العربان، وقد قدرت الجنود الإنكليزية التي سارت لمحاربة عرابي بأربعة عشر ألفًا من المشاة وأربع فرق من الفرسان وألف من الطبجية معهم ٣٦ مدفعًا ونحو ست فرق من المهندسين. ثم انضم إلى هذه القوة بعد ذلك قوة هندية مؤلفة من تسعة آلاف جندي. ويقال بالإجمال إن جميع الحاميات الإنكليزية التي كانت في مالطة وقبرص وجبل طارق انضمت إلى حملة مصر.

على أن هذه الإعدادات لم تكن لتُثني العرابيين عن عزمهم؛ فإن عرابي كتب إلى المديرين بتاريخ ١٢ أغسطس أن يجمعوا جندًا يبلغ مجموعه ٢٥ ألفًا. وطلب أن يكون فيهما الخفراء؛ لأنهم أقرب الناس إلى الحركات العسكرية تلبية لما تدعوه إليه الحالة من السرعة في حشد الجيوش، وفرض أيضًا على المديرين أموالًا يجمعونها من الأهالي إمدادًا للحرب، فلا تَسَلْ عن الطرق التي كانوا يجمعون بها تلك النقود. وأخذ في تقوية الاستحكامات وتشييد الطوابي فمدها بين ما فوق الرملة بأربعة كيلو مترات إلى كفر الدوار، وأنشأ في كفر الدوار سدًّا عرضه ٣٠ مترًا وخندقًا عرضه أربعة أمتار جعله فاصلًا بين السد، وأرض أكثر فيها من مواقع الاستحكام. وكان الخط الدفاعي الأول ممتدًّا ممَّا بعد المحلة بمسافة ألف متر على طول الخط الممتد من الرملة إلى البيضة، وجعل ما وراء هذا الخط من المرتفعات والتلال مواقع محصَّنة إلى كفر الدوار، فكانت كلها نحو ٥٠٠ موقع. وأتم مثل هذه الأعمال الدفاعية من كفر الدوار إلى أبي حمص، ويوجد بين أبي حمص ودمنهور تل يفضل سائر التلال مساحة وارتفاعًا، فاختاره عرابي موقعًا يقِيه من الإنكليز إذا قضت عليه الحال بالتقهقر إلى دمنهور، وعزز دمنهور بالمدافع.

كل ذلك والمخابرات جارية مع السلطان بشأن اشتراكه في المؤتمر للنظر في مصلحة القطر المصري، وهو يأبى الاشتراك حتى أوعز إليه البارون دي رينغ أن فرنسا تحب الاتفاق مع العرابيين فرضي أن تشترك فيه، فانتدب للنيابة عنه سعيد باشا الصدر الأعظم وعاصم باشا ناظر الخارجية في ٢٠ يوليو. وأعلن سعيد باشا المؤتمر في ٢٦ منه أن جلالة السلطان يُعِدُّ حملة عثمانية إلى مصر، ولا حاجة إلى مداخلة الدول الأوروبية في هذه المسألة. وأخذت الدولة في إعداد ٥٠٠٠ جندي لهذه الغاية، فقال اللورد دفرين وهو سفير إنكلترا في الأستانة: لا بد قبل كل شيء من إصدار منشور شاهاني يعلن عصيان عرابي. فوافقه وأصدره فنشر في الجرائد فوجدوه لا يفي بالمرام. فترتب على ذلك تباعُد بين الدولة العلية وإنكلترا، وزاد التباعُد سعي السلطان في عرقلة مساعي الجند الإنكليزي بمصر أو لوقوفه في سبيل ما يحتاجون إليه من الدواب وغيرها لحمل أثقالهم مما يطول شرحه. فقطع اللورد دفرين العلائق السياسية مع الباب العالي. وانصرفت العناية عن إرسال جند عثماني أو غيره.

fig0111
شكل ٣-٣٥: مؤتمر الأستانة سنة ١٨٨٢.

أما في مصر فقد تركنا الجند الإنكليزي في الإسكندرية، وقد غادرها العرابيون وتحصنوا في دمنهور وكفر الدوار، وأدرك عقلاء الوطنيين عاقبة تلك المقاومة، فقام جماعة منهم يُخوِّفونهم العواقب بلا فائدة، والظاهر أن عرابي كان مُعوِّلًا في مساعيه على مساعدة الباب العالي. ثم ما لبث أن سمع بتصريح السلطان بعصيانه، ثم جاءته صورة المنشور السلطاني بهذا الشأن، وفحواه تعنيف عرابي على عصيانه، وأنه يجب عليه الرضوخ للجناب الخديوي.

وفي أواسط أغسطس وصل الجنرال السير وولسلي إلى الإسكندرية واستلم قيادة الجيش. ثم أخذت تتوارد القوات الإنكليزية فبلغت في أواخر الشهر المذكور نحو ٢٥ ألفًا، وكان قدوم هذا القائد العظيم داعيًا لتيقن الناس بفوز الحملة الإنكليزية؛ نظرًا لما اشتهر به من البسالة والدراية العسكرية. وبعد وصوله إلى الإسكندرية نشر إعلانًا مآلُه أنه لم يأتِ إلى مصر إلا لتأييد سلطة الخديوي، وهو لا يحارب إلا الذين يخالفون أوامر مليك البلاد، وتنبأ أنه سيدخل القاهرة في ١٥ سبتمبر من تلك السنة. ثم أخذت العساكر الإنكليزية تستكشف مراكز العرابيين في كل يوم، فكانوا إذا ظفِروا بشرذمة من العرابيين ولقُوا منها مقاومة قابلوها بقوة السلاح، فتُوَلِّي الأدبار تاركة في ساحة القتال من جُرِحَ منها فينقلونه إلى معسكره أما القتلى فكانوا يدفنونهم.

وفي ٥ شوال سنة ١٢٩٩ﻫ أو ٢٠ أغسطس ١٨٨٢م حصلت بين الفريقين معركة في كفر الدوار، استمرت ساعتين، وعدد العرابيين ضِعْفَا عدد الإنكليز، وانجلت عن انهزام قسم عظيم من العرابيين وانقلابهم إلى تل الوادي، واحتل الإنكليز بعض مواقع العصاة بعد أن قَتَلُوا منهم ١٦٨ وأسروا ٦٢. وجرت معركة أخرى في اليوم التالي لم يفُز بها أحد الطرفين. وفي اليوم الثالث ٧ شوال اقتتل الفريقان في كفر الدوار اقتتالًا تعزز فيه جانب الإنكليز بنجدة جاءتهم على قطار مخصوص، فتراجع العرابيون وتربصوا تحت إمرة طلبة عصمت في مواقفهم يتوقعون فرصة. وكان العرابيون بعد كل واقعة يكتبون إلى إخوانهم في العاصمة وغيرها أنهم ظافرون. أما عرابي فذهب لتحصين التل الكبير في مديرية الشرقية.

وبعث سير الأحوال وزارة راغب باشا على الاستعفاء فاستقدم الجناب الخديوي رياض باشا من أوروبا — وكان متغيبًا — فقدم في أواسط أغسطس وبعد قدومه دعا الخديوي شريف باشا إلى تشكيل وزارة جديدة، فلبى الدعوة وتعين رياض باشا ناظرًا للداخلية وعمر باشا لطفي ناظرًا للجهادية.

fig0112
شكل ٣-٣٦: عبد الله نديم خطيب العرابيين.

وأرسل الإنكليز فِرَقًا من جيوشهم تسير إلى مصر عن طريق الإسماعيلية، فاشتبكوا في ٩ شوال سنة ١٢٩٩ﻫ أو ٢٣ أغسطس سنة ١٨٨٢م مع العرابيين بين المسخوطة والإسماعيلية، وكان الفوز للإنكليز. واستولى الإنكليز أيضًا على المحسمة فأصبحوا على عشرة أميال من التل الكبير. وفي ٢٨ أغسطس حصلت واقعة القصاصين بين المحسمة والتل الكبير. وفي ٢٩ شوال أو ١٢ سبتمبر ورد للجناب الخديوي في الإسكندرية تلغراف من سلطان باشا ينبئ باستعداد الإنكليز لمهاجمة التل الكبير حيث تحصَّن العُصَاة، ثم ورد تلغراف آخر من الإسماعيلية يعلن هجوم الإنكليز على التل من كل ناحية وصوب في الساعة الرابعة والدقيقة ٣٠ بعد منتصف الليل، وأن العرابيين لم يقفوا أمام الإنكليز إلا ٢٠ دقيقة استولى الإنكليز بانقضائها على التل فغنموا ٤٠ مدفعًا، وقتلوا ألفي رجل وأسروا ألفين، واستولوا على المؤن والذخائر ثم أخذوا يتعقبون الجند المنهزم.

(س) واقعة التل الكبير

وتفصيل ذلك أن عرابي كانت قد وصلت إليه نسخة من جريدة الجوائب، وفيها منشور السلطان باعتباره عاصيًا فاغتاظ وكاد يقع في اليأس؛ لأن حجته الكبرى كانت أنه مدافع عن حقوق الدولة العلية في مصر، فتشاور مع عبد الله نديم وأقر على إخفاء ذلك عن الجند. فلما كانوا في التل الكبير وقد تحصنوا فيه بقوة ٣٠ ألف مقاتل و٧٠ مدفعًا زحفت الجنود الإنكليزية بقيادة الجنرال وولسلي بقوة ١٣ ألفًا و٦٠ مدفعًا، وقبل وصولهم إلى معسكر العرابيين أرسلوا جواسيس من المصريين ومعهم نسخ من الجريدة المشار إليها، ففرقوها في الضباط وكبار الجيش. فلما اطَّلع أولئك عليها خارت قواهم ويئسوا من الفوز؛ لأن معظمهم كان يقاتل لأجل السلطان، فعلم عرابي بذلك فجمع إليه الضباط وشاورهم، فأقروا على استمرار الدفاع محاباة ورياءً. وفيه كتب علي بك يوسف أميرالاي المقدمة إلى عرابي أنه قد تحقق أن العدو لا يخرج في هذه الليلة، فأصدر عرابي أمره أن يرتاح الجيش. أما العساكر الإنكليزية فسارت من أول الليل لا تفتُر لها عزيمة، وفي مقدمتها بعض الضباط المصريين الذين كانوا من حزب الجناب العالي، وأمامهم عربان الهنادي يرشدونهم إلى الطريق، فبلغوا المقدمة في آخر الليل فأخلى لهم علي بك يوسف الطريق، ومروا بين العساكر لا رَادَّ يردهم فأطلقوا النار على الاستحكامات، وأوقعوا بالجند الراقد فألقت الأجناد أسلحتها وفرت فاستيقظ عرابي من نومه على دَوِيِّ المدافع، وخرج من خيمته فارتاع لما علم أن العدو قد استولى على الاستحكامات، وانهزمت الجنود المصرية فأخذ يناديهم فلم يُلَبِّهِ مجيب، ثم رأى خيمته أصيبت بقنبلة فطارت، فعلم أنه لا ينجيه من الموت إلا الفرار. فركب جوادًا كريمًا وفر وتبعه عبد الله نديم فحاول بعض خَيَّالة الإنكليز إدراكهما فما استطاعوا، وما زالا حتى وصلا محطة أبي حماد فنزلا في القطار وأمرا السائق بالمسير فتعلل فهدداه فسار حتى وصل القاهرة.

(ع) عرابي في القاهرة

فتوجه عرابي توًّا إلى قصر النيل وعقد مجلسًا من أمراء العسكرية والملكية، وأخبرهم بما كان واستشارهم فاختلفت الآراء، فنهض البرنس إبراهيم باشا وخطب في الناس محرضًا على الدفاع فوافقوه بحسب الظاهر. واستقر الرأي على إنشاء خط دفاعي في ضواحي المحروسة. فسار عرابي في فرقة من المهندسين نحو العباسية يستشيرهم عن أنسب المواقع لبناء ذلك الخط، فقال له أحد الضباط: «إنك بجهلك وسوء تدبيرك قد أحرقت الإسكندرية وتريد الآن أن تحرق مصر، فإذا لم يكُن لك فيها ما يهمك فاعلم أن لنا فيها نساءً وأطفالًا وأملاكًا لا نسلِّم بضياعها تنفيذًا لأغراضك، ألا تدري أنك تعرض مصر للخطر بإنشاء الاستحكامات وتجعل منازلها هدفًا لكُرَات المدافع، فنحن لا نوافقك على ذلك، وإني أقول لك ذلك بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن جميع الضباط الحاضرين، فلا ترجُ منا مساعدة ويكفي ما قد جرى.»

فانذهل عرابي وارتبك في أمره، لا سيما لما رأى الباقين مستحسنين ما قاله رفيقهم، فكَرَّ راجعًا على عقبيه كئيبًا فاجتمع بأصدقائه ودعاهم إلى النظر في الأمر، فلم يجدوا أفضل من رفع عريضة إلى الجناب الخديوي يعتذرون بها عن أفعالهم ويقدمون له الخضوع، فحرروا عريضة وأرسلوها مع وفد مؤلف من بطرس باشا غالي وعلي باشا الروبي ومحمد رءوف باشا، ثم أردفوها بعريضة أخرى أرسلوها مع عبد الله نديم في قطار مخصوص، وكان ذلك في غرة ذي القعدة سنة ١٢٩٩ﻫ أو ١٤ سبتمبر سنة ١٨٨٢م، فأبى الخديوي قَبول العريضة وأمر بالقبض على الروبي وسجنه. أما نديم فإنه ركب القطار الذي قدِم عليه وعاد من فوره بعد أن وصل كفر الدوار، ثم اختفى بعد ذلك ولم يتيسر للحكومة القبض عليه إلا بعد عشر سنوات قضاها مختفيًا في الأرياف.

(ف) دخول الإنكليز القاهرة

أما الجنود الإنكليزية فإنها بعد استيلائها على التل الكبير سارت فمرَّت ببلبيس فالزقازيق واستولت عليهما، ثم سارت حتى أتت العباسية خارج القاهرة في مساء الخميس ١٤ منه وعسكرت في سفح المقطم، فخاف الناس أن يدخل الإنكليز مصر محاربين، ولكن الأمر جاء بخلاف ما كانوا يتوهَّمون؛ لأن الجيوش الإنكليزية دخلت العاصمة بحالة سلمية في يوم الجمعة ١٥ سبتمبر طبقًا لما تنبَّأ به الجنرال وولسلي، وألقت القبض على عرابي. وبعد وصول الجنرال وولسلي إلى القاهرة أنفذ السير الجنرال أفلن وود إلى كفر الزيات فوصلها في ١٦ منه، فسلمت فأمر بنسف الطابية التي كان قد بناها العرابيون في قرية أصلان، وسلمت باقي الحصون في بورت سعيد ورشيد وأخيرًا دمياط فإنها لم تسلم إلا في ٢١ سبتمبر.

وبعد وصول الجنود الإنكليزية إلى القاهرة احتلوا قشلاقات العباسية والقلعة والمقطم وقصر النيل، ونزل الجنرال السير وولسلي في سراي عابدين، وكان من جملة قواد هذه الحملة الدوق دي كنوت ابن ملكة إنكلترا. وأُودِعَ عرابي ومحمود سامي في سجن العباسية، والأسرى من الملكية في سجن الضبطية، والجهادية في القلعة.

ثم صدرت الأوامر الخديوية بتعيين حكام المديريات من أهل النزاهة والإخلاص، وصدرت أوامر أخرى بتعيين لجنة مخصوصة في الإسكندرية لتحقيق مواد السرقة والقتل والحرق التي وقعت فيها في حادثتي ١١ يونيو و١١ يوليو إلى غاية ١٦ منه، وتقديم التقارير بما تستطلعه. وأوامر أخرى بتعيين مثل هذه اللجنة في طنطا؛ لتحقيق مثل هذه الحوادث التي حدثت خارج الإسكندرية. وأرسلت نِظَارة الداخلية منشورات إلى المديرين يستقدمون مَن وقعت عليهم الشبهة بالاشتراك مع العرابيين. ولا تَسَلْ عن التهاني التلغرافية التي وردت للجناب الخديوي وللجنرال وولسلي بما آتاهما الله من النصر المبين.

وفي ٢٣ سبتمبر أُلْغِيَتْ جريدتا الزمان والسفير، وفي ٢٥ منه أقبل الجناب الخديوي إلى العاصمة ومعه شريف باشا وسائر النُّظَّار، فتواردت الجماهير لملاقاة سموه في المحطة، ثم ركب وإلى يساره ابن الملكة وأمامه الجنرال وولسلي والمستر مالت إلى سراي الإسماعيلية، وفي اليوم التالي سار إلى سراي الجزيرة للتشريفات الاعتيادية، واستمرت الزينة في القاهرة ثلاث ليال متوالية.

(ص) محاكمة العرابيين

وفي ١٥ ذي القعدة سنة ١٢٩٩ﻫ أو ٢٨ سبتمبر سنة ١٨٨٢م أمر سُمُوُّهُ بتشكيل لجنة مخصوصة بالقاهرة تحت رئاسة إسماعيل باشا أيوب؛ لتحقيق قضية من كان له يَدٌ في الحوادث الأخيرة، وأن تقدم ما تُقَرِّرُهُ لنظارة الداخلية لتنفذه. وأصدر أمرًا آخَرَ بتشكيل محكمة شرعية في القاهرة تحت رئاسة محمد رءوف باشا للحكم في الدعاوي التي تُقَدَّمُ من اللجنة المخصوصة، وأن تكون أحكام هذه المحكمة قطعية لا تُستأنف. وأصدر أمرًا آخر بتشكيل لجنة عسكرية بالإسكندرية للحكم في الدعاوى التي تُقَدَّمُ لها من اللجنتين المخصوصتين اللتين تشكلتا في الإسكندرية وطنطا، وأن تكون أحكامها قطعية تحت رئاسة عثمان نجيب باشا.

فشرع كل من هذه اللجنات والمحاكم في إجراء ما عهد إليه. وفي ١٨ ذي القعدة سنة ١٢٩٩ﻫ أو ٢ أكتوبر سنة ١٨٨٢م تعين الشيخ محمد العباسي لمشيخة الجامع الأزهر بدلًا من الشيخ الإمبابي. وكافأ الجناب الخديوي سلطان باشا بعشرة آلاف جنيه على صداقته التي أبداها أثناء الثورة. ثم أصدر الجناب العالي أمرًا بإلغاء الجيش المصري لصرف العساكر التي جاهَرَت بالعصيان والاكتفاء بمحاكمة الضباط وكبار القادة كعرابي وعبد العال وغيرهما. ثم أمر بتنظيم جند جديد. وفي ١١ ذي القعدة أو ٢٤ أكتوبر صدر العفو عن الملازمين واليوزباشية الذين كانوا في جيش عرابي مع بعض الاستثناء.

وأنعم الجناب الخديوي بالنيشان المجيدي والعثماني من رتب مختلفة على ٥٢ ضابطًا من ضباط الجيش الإنكليزي. وأخذت الحكومة المصرية بمشاركة قناصل الدول تسعى في تسكين البال وتوطيد الراحة والقبض على من اشترك بتلك الثورة، ومكافأة الذين ساعدوا في إطفائها وبرهنوا على إخلاصهم لمليك البلاد. وعُيِّنَتْ في الإسكندرية لجنة للنظر في تعويض الخسائر التي تكبَّدها أهاليها بسبب الحرق والنهب.

وأخذت الحكومة في محاكمة زعماء الثورة العرابية على أيدي اللجان المتقدم ذكرها، وفرغت من ذلك في ٣ ديسمبر سنة ١٨٨٢ ثم التأمت اللجنة مرارًا للنظر في تثبيت تلك الأحكام، ثم عُرِضَتْ على الجناب العالي فتكرم العفو عمن حُكِمَ عليهم بالقتل، فأصبحت الأحكام بعد ذلك العفو تقضي بتجريدهم من الرتب والألقاب والنياشين ونفيهم، وهاك ما صدر بشأن ذلك:
  • (١)

    الحكم الصادر على كل من أحمد عرابي وطلبه عصمت وعبد العال حلمي ومحمود سامي وعلي فهمي ومحمود فهمي ويعقوب سامي المقتضي جزاءهم بالقصاص، وقع تبديله بالنفي إلى الأبد من الأقطار المصرية وملحقاتها.

  • (٢)

    إن هذا العفو يبطل ويقع إجراء الحكم على المذكورين بالقتل إذا رجعوا إلى الأٌقطار المصرية أو ملحقاتها.

fig0113
شكل ٣-٣٧: أحمد عرابي في منفاه.

ثم ارتأى مجلس النظار أن تُضْبَطَ أملاكهم المنقولة وغير المنقولة، وأن يعين لهم في مقابل ذلك راتب سنوي كافٍ لمعيشتهم، فصدر بذلك أمر عالٍ في ٢٠ شوال أو ١٤ ديسمبر من تلك السنة؛ فعينت لجنة لإجراء ذلك. ثم صدرت الأحكام المختلفة على من بقي من أتباع عرابي كُلٍّ بحسب استحقاقه. وكان الأمر بالنفي على ما تقدَّم يقضي بتسفيرهم حالًا وإنما رأت الحضرة الخديوية إمهالهم إلى ١٦ صفر أو ٢٧ ديسمبر وعند ذلك ركبوا في قطار مخصوص مع من أرادوا استصحابه من ذويهم إلى السويس ومنها إلى جزيرة سيلان منفاهم.

fig0114
شكل ٣-٣٨: أحمد عرابي عند رجوعه.

وما زالوا هناك إلى سنة ١٩٠١ حتى أذِن الجناب الخديوي لهم بالعودة إلى مصر يقضون فيها بقية حياتهم بدلًا من منفاهم في سيلان. وقد توسَّط لهم بذلك الدوك أوف كورنول ويورك ولي عهد إنكلترا يومئذٍ بعد زيارته سيلان ومشاهدة المنفيين في منفاهم مع ما يغشاهم من الذل والضعف. وقَدِمَ أحمد عرابي إلى هذا القطر بعد غيابه عنه نحو ١٩ عامًا.

ثم أصدر الجناب الخديوي أمرًا عاليًا بتاريخ ٢٢ صفر سنة ١٣٠٠ﻫ الموافق ٣ يناير سنة ١٨٨٣م، بالعفو عن أهالي القطر المصري الذين اشتركوا في الثورة العرابية، ما عدا الذين سبق صدور الحكم عليهم لغاية تاريخه.

ولاحظ رياض باشا أن نِيَّات الإنكليز منصرفة إلى التساهُل مع عرابي ورفقائه في أثناء محاكمتهم وهو يريد التشديد، فأبت نفسه الكظم على ما في ضميره، فقدَّم استعفاءه من نظارة الداخلية، وخاضت الجرائد بهذا الشأن ولا سيما جريدة الديبا، وأبانت ما لهذا الوزير الخطير من المآثر الغراء في التنظيمات الإدارية وحرية التصرف بالأحكام. وقد أجمعت تلك الجرائد على استحسان فعله مؤثِرًا الاستعفاء على قَبول خدمة لا يستطيع فيها التصرُّف بالحرية التي تقتضيها مصالح الأمة التي هو أكثر الناس غَيْرَةً عليها. فلما قُبِلَ استعفاؤه عُيِّنَ بدلًا منه إسماعيل باشا أيوب، ثم تُوُفِّيَ هذا بعد يسير فعُيِّنَ بدلًا منه خيري باشا.

(٦-٤) الثورة المهدوية أو الحوادث السودانية مع ما تقدمها وما انتهت إليه

ولم تكد مصر تفرغ من الحوادث العرابية أو الثورة العسكرية المصرية، حتى ظهرت الثورة السودانية بظهور محمد أحمد المهدي السوداني، وكان لها تأثير شديد في تاريخ مصر الحديث، فرأينا أن نأتي على تاريخها تِبَاعًا من ظهور المهدي إلى انقضاء تلك الحركة واسترجاع السودان، وإن تجاوزنا مدة الخديوي السابق.

ونُمَهِّدُ الكلام بفذلكة عن تاريخ السودان المصري منذ فَتَحَهُ محمد علي إلى الحوادث المهدوية.

(أ) تاريخ السودان من فتح محمد علي إلى ظهور المهدي

قد تقدم ما كان من فتح السودان في زمن محمد علي باشا على يد ابنه إسماعيل باشا سنة ١٨٢٠ وما بعدها، حتى غدَر به الملك النمر صاحب شندي وقتله وثأر له الدفتردار. وأول والٍ عيَّنتْه الحكومة المصرية على السودان بعد الفتح الأميرالاي عثمان بك سنة ١٨٢٥، ولم يبقَ فيها إلا سنة فخلفه محو بك وغيره فغيره كما ترى في هذا الجدول:

(١) ولاة السودان في زمن محمد علي
عثمان بك من سنة ١٨٢٥-١٨٢٦
محو بك من سنة ١٨٢٦-١٨٢٦
خورشيد باشا من سنة ١٨٢٦–١٨٣٩
أحمد باشا أبو ودان من سنة ١٨٣٩–١٨٤٤
أحمد باشا المنكلي من سنة ١٨٤٤-١٨٤٥
خالد باشا من سنة ١٨٤٥–١٨٥٠
(٢) في زمن عباس الأول
عبد اللطيف باشا من سنة ١٨٥٠-١٨٥١
رستم باشا من سنة ١٨٥١-١٨٥٢
إسماعيل باشا من سنة ١٨٥٢-١٨٥٣
سليم باشا من سنة ١٨٥٣-١٨٥٤
علي باشا سري من سنة ١٨٥٤-١٨٥٥
(٣) في زمن سعيد باشا
علي باشا شركس من سنة ١٨٥٥–١٨٥٧
أراكيل باشا من سنة ١٨٥٧–١٨٥٩
حسن باشا سلامة من سنة ١٨٥٩–١٨٦٢
محمد باشا راسخ من سنة ١٨٦٢-١٨٦٣
(٤) في زمن إسماعيل باشا
موسى باشا حمدي من سنة ١٨٦٣–١٨٦٥
جعفر باشا سامي من سنة ١٨٦٥-١٨٦٥
جعفر باشا مظهر من سنة ١٨٦٦–١٨٧١
ممتاز باشا من سنة ١٨٧١–١٨٧٣
إسماعيل باشا أيوب من سنة ١٨٧٣–١٨٧٧
غوردون باشا من سنة ١٨٧٧–١٨٧٩
(٥) في زمن توفيق باشا
رءوف باشا من سنة ١٨٧٩–١٨٨٢
عبد القادر باشا حلمي من سنة ١٨٨٢-١٨٨٣
علاء الدين باشا من سنة ١٨٨٣
غوردون باشا من سنة ١٨٨٤-١٨٨٥

ولكل من هؤلاء الولاة تاريخ لا مَحَلَّ لذكره هنا، وإنما نشير إلى أهم الحوادث بوجه الاختصار؛ ففي أيام أحمد باشا أبو ودان ذهب محمد علي باشا بنفسه لزيارة السودان سنة ١٨٣٩ فتفقَّد مستعمرته الجديدة وعاد. وبعد سنتين حمل أحمد باشا الذكور لفتح السودان الشرقي ففتح التاكا، وما زال الولاة يوسِّعُون سيادة مصر على السودان إلى أواخر أيام الخديوي إسماعيل. وفي أوائل أيامه بولاية موسى باشا على السودان سنة ١٨٦٣، قدم السير صموئيل باكر الإنكليزي لاكتشاف منابع النيل ومعه امرأته فقاسى عذابًا شديدًا.

وفي ولاية جعفر باشا ثار الجهادية السود من كسلة لتأخُّر مرتباتهم وسوء معاملة قُوَّادِهِمْ، فتعبت الحكومة في إخماد الثورة وقد سُفِكَ بسببها دماء غزيرة.

ومن أهم حوادث السودان في تلك الفترة سعي الحكومة في إبطال تجارة الرقيق، ولم يَصْدُرِ الأمر رسميًّا بإبطالها إلا في زمن إسماعيل باشا بولاية موسى باشا، فأصدر أوامره المشدَّدة إليه سنة ١٨٦٣ فتعقب تجار الرقيق وهم يومئذٍ رجال السطوة والثروة وأصحاب الكلمة العليا هناك. فقبض على سبعين مركبًا مشحونة بالأرقاء بين كاكا وفشودة وأتى بهم إلى الخرطوم، ولم يطلق التجار حتى أخذ عليهم المواثيق أن لا يعودوا إلى هذه التجارة.

ثم انتدب إسماعيل باشا السير صموئيل باكر سنة ١٨٦٩ لفتح خط الاستواء على أن يكون واليًا عليه، وعقد له على ١٧٠٠ رجل، فسافر إلى الخرطوم عن طريق سواكن، ومنها خرج إلى خط الاستواء والحكومة تعضده، فأعلن ضم بعض بلاد خط الاستواء رسميًّا إلى الدولة المصرية أهمها بلاد يونيورو، وخلع ملكها كباريقة وأقام مقامه رجلًا يُوالي الحكومة، وعقد شروطًا ودية مع ملكها، وعاد إلى مصر سنة ١٨٧٣ واستعفى من منصبه على خط الاستواء، فعَيَّنَ إسماعيل الكولونل غوردون (غوردون باشا) مكانه، فسافر إلى ذلك المكان سنة ١٨٧٤ وبذل جهده في إصلاح تلك البلاد، والسودان يومئذٍ بولاية إسماعيل باشا أيوب. ثم استقال غوردون سنة ١٨٧٦ وعاد إلى بلاده.

fig0115
شكل ٣-٣٩: كباريقة ملك يونيورو في خط الاستواء ذاهب إلي معسكر صموئيل باكر.

وظهر في أثناء ذلك الزبير باشا وأنشأ دولة لنفسه في بحر الغزال ودارفور، وقد دَوَّنَ أعماله بنفسه ونشرت سيرته في تاريخ السودان لشقير بك. فلما تَمَّ له الفتح وعلم إسماعيل بأمره خافَه، وتمنَّى لو يقضي عليه وجرت حوادث اقتضت مجيء الزبير إلى مصر لعرض اختلاف جرى بينه وبين حكمدار السودان، وهو حسن الظن في الدولة المصرية، وكان يرجو أن يتفق مع الخديوي على تنظيم البلاد التي فتحها، فأتى مصر ومعه الهدايا من العساكر وأحمال الريش والسن، فأحسن الخديوي وفادته لكنه أمره أن يبقى بمصر.

وما زال فيها وانضمت بلاده إلى مملكة السودان المصرية.

وفي سنة ١٨٧٧ عادت حكمدارية السودان إلى غوردون باشا، وأخذ في تنظيم الحكومة والإدارة، وفي تلك السنة عقد إسماعيل باشا معاهدة إبطال تجارة الرقيق مع إنكلترا، وعهد إلى غوردون بتنفيذ ذلك ونشره، وهي مهمة شاقة كان لها تأثير شديد في الثورة السودانية التي بدأت في أيام خلفه رءوف باشا كما سترى.

(ب) أسباب الثورة السودانية

لا تثور أمة على حاكمها إلا لأمر هامٍّ تلجأ إليه عند فراغ الحيلة من نَيْلِ حقوقها. وأما الأسباب التي أعدت السودان للثورة فكثيرة أهمها:

انتظار المسلمين للمهدي

المشهور بين المسلمين من أوائل الإسلام أنه سيظهر رجل منهم يؤيد الدين وينشر لواء العدل، ويستولي على الممالك الإسلامية يُسَمَّى المهدي ويسندون ذلك إلى أحاديث نبوية بحث كثيرون من علماء الإسلام في صحتها وفسادها، وفي مقدمتهم العلامة ابن خدلون، وتتمة للموضوع نذكر الذين ادَّعَوُا المهدوية من أول الإسلام إلى الآن:
  • (١)

    محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية ظهر في المدينة سنة ١٤٥ﻫ فدعا الناس إليه، وكان له أخ اسمه إبراهيم نَصَرَهُ وقام بدعوته ففتح البصرة والأهواز وفارس ومكة والمدينة وبعث عُمَّاله إلى اليمن وغيرها، وكان ذلك في زمن الإمام مالك فأفتى له وشَدَّ أزره، فكثرت دعاته حتى كاد يذهب بالدولة العباسية لو لم يستدرك المنصور أمره ويتغلب عليه ويقتله.

  • (٢)

    عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق مؤسس الدولة الفاطمية في المغرب، التي فتحت الديار المصرية في أواسط القرن الرابع للهجرة، وبَنَتْ مدينة القاهرة على يد القائد جوهر. وقد اتَّسعت دولة الفاطميين وامتدت سلطتهم وطالت أيام حكمهم.

  • (٣)

    محمد بن عبد الله بن تومرت المعروف بالمهدي الهرعي ويُكَنَّى أبا عبد الله، أصلُه من جبال السوس في أقصى بلاد الغرب، رحل إلى المشرق حتى انتهى إلى العراق، واجتمع بأبي حامد الغزالي وغيره فأخذ العلم عنهم، واشتهر بالنسك والتقوى وساح في الحجاز وجاء مصر ثم سار إلى الغرب وأقام بمراكش وغيرها، وتأسست على يده دولة عظيمة في أوائل القرن السادس للهجرة هي دولة عبد المؤمن.

  • (٤)

    العباس الفاطمي ظهر بالمغرب في آخر الماية السابعة للهجرة وادَّعى المهدوية، فتكاتف الناس حوله وعظمت شوكته حتى دخل مدينة فاس عنوة وأحرق سُوقها وبعث عماله إلى الأنحاء لكنه قُتِلَ غيلة فانقضى أجله وسقطت دعوته.

  • (٥)

    السيد أحمد ظهر في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد في جهات الهند، وحارب الأسياخ على حدود بنجاب الشمالية الغربية سنة ١٨٢٦ ولم تقُم له قائمة.

  • (٦)

    محمد المهدي السنوسي بن الشيخ محمد السنوسي الذي ظهر في المغرب في أواسط القرن الماضي، وأصله من جبل سوس بجزائر الغرب نبغ (والده) سنة ١٨٣٧ ولاقى من بعض أولي الأمر الإسلامي ترحابًا ونشَر دعوته وأيدها، وكان مقامه الرئيسي في جغبوب على مقربة من واحة سيوا نحو الغرب، ولكنه أنشأ زوايا عديدة في أماكن أخرى من بلاد الغرب يبلغ عددها ثلاثمائة كلها تعلَّم طريقته وتعاليمه.

  • (٧)

    محمد أحمد المهدي السوداني، وقد نحا في دعواه مَنْحَى الشيعة فقال إنه الإمام الثاني عشر الذي ظهر مرة قبل هذه، وفي تسمية أتباعه بالدراويش تأييد لرغبته في قول الشيعة؛ لأن لفظ درويش فارسية.

عنف الحكومة المصرية في معاملة السودانيين

ما برحت الحكومة المصرية منذ دخول السودان في حوزتها وهي تنظر إلى السودانيين أنهم أَحَطُّ من سائر رعاياها، وتستعمل العنف في معاملتهم، يكفي شاهدًا على ذلك ما أتاه إسماعيل باشا بن محمد علي من التنكيل في الملك النمر صاحب شندي كما تَقَدَّمَ في فتح السودان، فقد ظل كثيرون من أعقاب أولئك المظلومين يتحيَّنون فرصة ينتقمون بها من الحكومة، وكانوا أول القائمين بنصرة محمد أحمد.

جور الحكام في تحصيل الضرائب

كان تحصيل الضرائب في السودان منوطًا بجماعة الباشبوزق، فكانوا يسومون السودانيين في تحصيلها أنواع الخسف والذُّل وقد يقتضونها مرارًا. وروى المستر فرنك باور قنصل إنكلترا بالخرطوم إذ ذاك أن الضرائب كانت تُضرَب على أهل السودان بلا شفقة. فيضربون ضريبة على كل فردٍ منهم وعلى الأولاد والنساء يقتضونها ثلاث مرات في السنة: مرة لصاحب القضاء، وأخرى للجابي، وأخرى للحكمدار. وكان الزارع إذا زرع حنطة لا يُؤذَن له بزراعتها حتى يدفع ثلاثة جنيهات كل سنة، ويدفع سبعة أخرى في مقابل التصريح له بريها من ماء النيل. فإذا تردد في الدفع سِيقَ إلى السجن وإذا صح زرعه دفع ذلك المال مرتين مرة للحكومة ومرة لجيب الباشا. وإذا كان من أصحاب السفن التجارية التي تجري في النيل فُرِضَ عليه أربعة جنيهات عن كل سفينة، فإذا لم يرفع العلم المصري على سفينته غُرِّمَ بأربعة أخرى. ومن تَأَخَّرَ عن تأدية تلك الضرائب اقتضتها الحكومة منه بالكرباج، وقد يعاقب ذلك المسكين بإحراق منزله أو سلب أمتعته. والخلاصة أن السوداني لم يكُن يباشر أمرًا إلا أدَّى عليه ضريبة.

منع تجارة الرقيق

من المقرر المشهور أن التجارة السودانية محصورة في أصناف معدودة أهمها تجارة الرقيق. والنخَّاسون أو تجار الرقيق أشبه بالملوك والقواد منهم بالتجار، في حاشية كل منهم مئات أو ألوف من الرجال بين خَدَمة وعمال وعبيد يقومون لقيامه ويقعدون لقعوده. فالنخاسون عُمَدُ السودان وعيون أعيانه وقادة أعماله، تَهابُهُم الحكام وتخشى سطوتهم الحكومة. وما زالت تجارتهم رابحة وأعمالهم سائرة حتى قام أهل العالم المتمدِّن لإبطال تجارة العبيد، فجاء السودان السير صموئيل باكر للقيام بتلك المهمة، ثم أنيطت بغوردون باشا، فأخذ يطوف الأصقاع والمدن في أنحاء السودان يعلم الناس الحرية الشخصية، ويأمُر التجار بالكف عن الاسترقاق جملة. وهي صدمة قوية ارتجت لها أركان السودان؛ لأن منع النخاسة لم يقتصر على تقليل أرباح النخاسين، ولكنه عرضهم لاستبداد الجباة؛ لأنهم كانوا يؤدون الجانب الأكبر من الضرائب عبيدًا أو ماشية، فأصبحوا بعد إبطال النخاسة لا يقوَوْن على تأديتها. فاستبد بهم الجباة وساموهم الذل والعسف حتى خِيفَ عصيانهم، ولكن غوردون باشا لحسن سياسته ولِين جانبه لم يحدث في أيامه اضطراب. فلما غادر السودان تولَّاه رجل لم يكن عالمًا بمحل الضعف ليتلافى خطره. فكأن غوردون أوقد نارًا في بعض جهات البيت فجاء غيره لا يدري كيف يطفئ تلك النار فتعاظمت والتهمت المدينة برمتها. فلما قام المهدي يدعو الناس إلى رفع المظالم آنس من أولئك التجار إصغاءً وكانوا له عونًا في إضرام تلك الثورة.

انتظار السودانيين أن يكون المهدي منهم

من المتداول بين شيوخ أهل السودان وفقهائهم أن المهدي سيظهر من بينهم استنادًا إلى أقوال يروُونها عن بعض الأئمة منها قول الإمام القرطبي في طبقاته الكبرى ونصه: «وزير المهدي صاحب الخرطوم.» وقول السيوطي وابن حجر: «إن من علامات ظهور المهدي خروج السودان.» ولذلك رأيتهم رحبوا بالشيخ السنوسي لما قام، لكن النجاح قدر لمحمد أحمد لأسباب أهمها:
  • (١)

    استخفاف الحكومة به عند ظهوره وتردُّدها في الضربة القاضية على تلك الثورة كما سيتضح لك من سيرة حياته.

  • (٢)

    قيام العرابيين بالثورة بمصر؛ فإنه هاج خواطر الأهلين وجرَّأهم على النهوض مع اشتغال الحكومة عنهم.

  • (٣)

    ضعف الحاميات المصرية في السودان؛ فإن مجموع الجند الذي كان في أصقاع السودان الواسعة من حلفا إلى خط الاستواء لا يتجاوز ٤٠٠٠٠ رجل موزَّعة في ١٥ مديرية وليس عندها معاقل حصينة.

(ﺟ) نشأة محمد أحمد المهدي (أصله ومولده)

fig0116
شكل ٣-٤٠: محمد أحمد المهدي.

ووُلِدَ في جزيرة ضرار من اعمال دنقلة سنة ١٨٤٣ وهو من ذُرِّيَّةِ رجل اسمه حاج شريف واسم أبيه عبد الله وأمه زينب، وكان أبوه نجارًا يصنع المراكب والسواقي، وضاق به الرزق في دنقلة فرحل بأهله إلى شندي ثم الخرطوم وابنه محمد أحمد طفل، ثم مات الوالد، وكان محمد أحمد ميالًا إلى التديُّن من صغره، فأخذ في درس القرآن وتفهُّم قواعد الإسلام، وانتهى في دروسه إلى محمد الخير في الغبش تجاه بربر، واشتهر بين أقرانه بالمبالغة في الزهد حتى قيل إنه كان يمتنع عن أكل زاد أستاذه لأنه يجري عليه من الحكومة، وهو يعتقد أنه مال الظلم.

وبعد أن أتم دروسه على محمد الخير مالت نفسه إلى التصوُّف، فذهب إلى الشيخ محمد شريف حفيد الشيخ الطيب صاحب الطريقة السمانية، وهو إذ ذاك مقيم عند قبر جده في أم مرَّحي، وسأله الدخول في مصافِّ تلامذته، وذلك في سنة ١٢٧٧ﻫ/١٨٦١م فأجابه محمد شريف إلى طلبه، فأقام عنده منقطعًا إلى الصلاة والعبادة، وما لبث أن أظهر من التقشف والزهد ما مَيَّزَهُ عن سائر التلامذة، حتى إنه كان يشتغل في منزل سيده بما هو منوط بالعبيد والجواري من احتطاب واستقاء وطحن وطبخ، وهو غير مُكَلَّفٍ بشيء من ذلك، وكان كلما وقف للصلاة يبكي حتى يبلل الأرض بدموعه، وإذا جلس أمام شيخه نكس رأسه ولم يرفع طرفه إليه إلا إذا كلمه فيرفع طرفه بأدب واحترام، وأقام على ذلك سبع سنين. فلما رآه شيخه على هذه الحالة وأنه سالك طريق المريدين وناهج منهج الصالحين، مال إليه وأحبه وجعله شيخًا وأعطاه راية، وأذِن له في الذهاب حيث شاء لإعطاء العهود وتسليك الطريقة. فذهب إلى الخرطوم وتزوج بابنة عمٍّ له وأقام مع إخوته يبث طريقته بغيرة وجد.

وفي سنة ١٨٧١ رحل مع إخوته إلى جزير أبا وراء الخرطوم، وبنى فيها جامعًا وخلوة للتدريس، فاجتمع عليه سكان تلك الجزيرة، وهم دغيم وكنانة وغيرهم من عرب البادية وأخذوا العهد عنه، ودخل بعضهم في تلمذته وفي جملتهم علي ود حلو الذي جعله بعد ادِّعائه المهدوية خليفته الثاني. ولم يمضِ إلا القليل حتى اشتهر صِيتُه وكثر أتباعه، وكان أستاذه محمد شريف قد انتقل إلى القادرية قرب جبل أولى على النيل الأبيض، فكان يزوره في كل موسم أو عيد لتقديم واجب الطاعة. وقبل الدخول عليه يجعل الرماد على رأسه والشعبة في رقبته والفروة الضأن على صُلبه تشبُّهًا بالعبد في ذُلِّه، فكان محمد شريف يحل الشعبة من رقبته والفروة عن صلبه ويلبسه أفخر الثياب فيقيم عنده أيامًا ثم يعود إلى مركزه في جزيرة أبا. وفي بعض زياراته حدثه عن خيرات البلاد التي رحل إليها وسهولة العيش فيها وزين له الإقامة في العراديب بين أبا والكوة، فانتقل إليها سنة ١٢٨٨ﻫ/١٨٧٢م، وكانت العراديب على خصبها خالية من السكان والزراعة، فعمرها وأقام فيها على صفاء تامٍّ مع محمد أحمد برهة، ثم لم يلبث أن تكدَّر هذا الصفاء فصار جفاءً ثم نفورًا ثم عداء.

واختلفوا في سبب العداء، والغالب أنه حسد من محمد الشريف لتلميذه لإقبال عربان العراديب إليه، فأخذ يخفِض من سطوته ويناوئه. وتعاظم النفور بينهما وظهر. فأخذ محمد أحمد في انتقاد أعمال أستاذه ومن جملتها أن الشريف كان يأذن للنساء في حضور مجلسه وتقبيل يده، ولم يكن يرى مانعًا من الرقص والغناء، فأخذ محمد أحمد يعلِّم تلامذته أن ذلك يخالف الشرع، فبعث محمد الشريف إليه ووبَّخه ومحا اسمه من الطريقة وهي إهانة عظيمة في نظرهم.

وكان محمد أحمد يحب الطريقة وله خلفاء وتلامذة فيها، فلم يكُن تركها سهلًا عليه، فعمد إلى المُلايَنة فذهب إلى أستاذه والتمس العفو، وقد ذرى الرماد على رأسه وجعل في عنقه الشعبة وهي عود ذو شعبتين توضع في العنق علامة التذلُّل والاستعطاف، وانتهره محمد شريف وطرده وأهانه. فلم يعد محمد يستطيع الكظم فالتجأ إلى شيخ آخر من الطريقة المذكورة اسمه الشيخ القرشي، وكان بينه وبين الشيخ الشريف منافسة، فخاف هذا عاقبة الأمر فاستقدم محمد أحمد واستدناه فأبى، وكان لذلك الإباء رنة في آذان أهل السودان. وعظُم محمد أحمد في عَيْنَيِ الناس وانتقل إلى جزيرة أبا. وبعد قليل ماتَ الشيخ القرشي فبنى محمد على قبره قبة. وبالغوا في إكرامه نكاية بالشيخ الشريف وازداد الرجل شهرة بالتقوى والكرامة في معظم أنحاء السودان، وهو إلى ذلك الحين لم يَدَّعِ المهدوية.

وكان استبداد جُباة الأموال ضاربًا أطنابَه، وحالُ السودان كما تقدم من القلاقل والاضطراب، فكان محمد أحمد إذا ذكر الضيق الذي أصابهم من ظلم الجباة نسب ذلك إلى خَطِيَّةِ بني الإنسان، وأن العالَم قد فسد والناس قد ضلوا عن سواء السبيل، فنالهم ما نالهم من غضب الله وأن الله سيبعث رجلًا يُصلِح ما فسد ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا هو المهدي المنتظر. وقد كان ذلك حديث الناس في سائر أنحاء السودان، فحيثما اجتمعوا تحدَّثوا في ما يقاسونه من الضنك وما ينتظرونه من الفرج على يَدِ ذلك المُنتَظَر، حتى أصبح لفظ المهدي يُدَوِّي في سائر مجتمعاتهم ومنازلهم في الأكواخ والأسواق والمساجد والزوايا على الطرق والعطمور، وحيثما وُجِدَ اثنان أو ثلاثة فلا حديث لهم إلا الفرج المنتظر على يد المهدي.

(د) قيامه بالدعوة

fig0117
شكل ٣-٤١: الدراويش.

وكان محمد أحمد على بَيِّنَةٍ من هذا الشعور العام، وحدثته نفسه أن يكون هو الرجل المنتظر لكنه لم يُصرِّح به لأحد. وهو في ذلك جاءه عبد الله التعايشي من البقارة، وكان يشتغل بالتنجيم وكتابة الأحجبة وله مطامع كبيرة، فاستحثَّ محمد أحمد على القيام بالدعوة، وأكد له أنه هو المهدي المنتظَر من علاماتٍ زعم أن أباه وصفها له، وأنه وجدها كلها في محمد أحمد. فجاء ذلك وفقًا لما في خاطر محمد أحمد فاعتقد أنه المهدي، وقرَّب التعايشي وتعاونا على بناء قبة له، واستقدم تلامذته وأقام في جزيرة أبا وأخذ يفتِّش الكتب ويبحث عما يؤيِّد دعواه، ويتبين صفات المهدي وعلاماته وأخذ يُظهِر دعواه لتلامذته سرًّا من أواسط سنة ١٨٨١.

ثم خرج سائحًا إلى بلاد الغرب مع رجاله وعليهم لباس الدراويش، وهي الجبة المرقَّعة والسُّبحة والعكاز، وجعل يبث دعوته بين رؤساء القبائل على أن يكتموا ذلك حتى تأتي الساعة. وعاد إلى أبا وأخذ في مكاتبة الناس في هذا الشأن. وبلغ ذلك الحكومة فلم تعبَأْ به حتى إذا جاءتها الوشاية بشأنه من محمد الشريف، وأطلعها على بعض تلك المنشورات بدأت تهتم بأمره. وكان حكمدار الخرطوم يومئذٍ رءوف باشا فكاتبه بما نُسِبَ إليه فأجابه بكتاب يؤيد به دعوته. فجمع علماء الخرطوم وأطلعهم على الكتاب فاتهموه بالجذب ولكنهم أجازوا القبض عليه، فانتدب لهذا الأمر محمد بك أبو السعود أحد معاوني الحكومة، فسار في قلة من الرجال، فوصل جزيرة أبا في ٧ أغسطس سنة ١٨٨١ فوجد محمد أحمد في الغار جالسًا وحوله جمهور من تلامذته، فسلم عليه وقال: «إن حكمدار السودان بلغه أمر الدعوى التي قمتَ بها، وأرسلني لآتي بك إليه بمدينة الخرطوم وهو ولي الأمر الذي تجب طاعته.» فأجابه محمد أحمد: «أما ما طلبته من الوصول معك إلى الخرطوم فهذا مما لا سبيل إليه، وأنا ولي الأمر الذي تجِب طاعته على جميع الأمة المحمدية.» ثم شرع في تقديم الأدلة على أنه المهدي المنتظر، فأغلظ له أبو السعود في الجواب وقال: «ارجع عن هذه الدعوى فإنك لا تطيق حرب الحكومة، ولا نرى معك من يقاتلها.» فأجابه محمد أحمد وهو يبتسم: «أنا أقاتلكم بهؤلاء.» وأشار إلى أصحابه ثم التفت إليهم، وقال: «أأنتم راضون بالموت في سبيل الله؟» فقالوا: نعم، فالتفت إلى أبي السعود وقال له: «قد سمعت ما أجابوا به فارجع إلى ولي أمرك في الخرطوم وأخبره بما رأيت وسمعت.» فلما رأى أبو السعود صِدق عزم محمد أحمد وأعوانه على نصرة دعواهم، وأن النصح لا ينجع فيهم؛ عاد مسرعًا إلى الخرطوم وقص على رءوف باشا ما رآه وسمعه.

(ﻫ) مناهضة الحكومة له

فجهز رءوف باشا حملة من بلوكين بعث بها إلى جزيرة أبا، وكان محمد أحمد قد واعد رجاله على الصبر فأطاعوا، فلما أتت جنود الخرطوم هجموا عليهم وقتلوا معظمهم وعاد الباقون ليخبروا بما كان. وهي أول وقعة جرت بين الدراويش والحكومة، وعُرِفَتْ بواقعة أبا، واشتهر فوز المهدي فيها فعدَّه أتباعه من كراماته لأنه غلب الحكومة الظالمة. ولكن محمد أحمد لم يكن يجهل مركزه بالنسبة للحكومة فخاف اهتمامها بأمره، وهو هناك لا يقوى على مناهضتها، وما كل مرة تسلم الجرة، فعزم على الهجرة وجعل وجهته جبل قدير. فقال لأصحابه إن النبي جاءه في المنام وأمره بتلك الهجرة، فأطاعوه وساروا وهم يدعون الناس إلى طاعة المهدي واعترضه ملك على جبل في الطريق يقال له جبل الجرادة، فخالف محمد أحمد فحاربه فكانت الغلبة للدراويش، فاشتد أزرهم وثبتوا في دعوتهم حتى أتوا جبل قدير في ٣١ أكتوبر سنة ١٨٨١، فلاقاه ملِكه واسمه ناصر وأنزله على الرحب والسعة فأمر محمد ببناء مسجد للصلاة.

وكان على فاشودة في ذلك الحين مدير من قِبَلِ الحكومة المصرية اسمه راشد بك، علم بقدوم المهدي إلى جبل قدير، فاستأذن رءوف باشا في تأديبه وطال انتظاره الإذن، وبلغه أن المهدي ورجاله في ضيق من المرض، فزحف وهو يستتر يريد مباغتتهم ولكن امرأة مؤمنة أتتهم بالخبر فاستعدُّوا للقاء، وعادت العائدة على راشد بك ورجاله، وغنم الدراويش ما كان معهم في الزاد والذخيرة في ٩ ديسمبر منها.

وكان لهذا الخبر وقع شديد على رءوف باشا في الخرطوم، وخاف على فاشودة وأخذ في التجنيد بقيادة جيكلر باشا، وبعث يستنجد مصر فاستضعفته فعزلته وولَّت مكانه عبد القادر باشا حلمي، وألح جيكلر بوجوب المبادرة فأذن له. فحشد جندًا مختلطًا من العساكر والباشبوزق وعقد لواءه ليوسف باشا الشلالي في أواسط مايو سنة ١٨٨٢، وبعث الشلالي إلى المهدي ينصحه في الطاعة، فأجابه جوابًا يدل على استخفافه به ويدعوه إلى طاعته. والتقى الجيشان في جبل الجرادة. وفي ٢٩ مايو جرت واقعة قُتِلَ فيها الشلالي وجماعة من كبار قُوَّادِهِ وغنِم الدراويش ما كان معهم من المئونة والذخيرة والعدة، فازدادوا تصديقًا لدعوتهم وشاع ذلك النصر في أنحاء السودان، فأعظمه السودانيون وارتفع قدر المهدي عندهم، وتوافد إليه الناس يبايعونه حتى بلغ عددهم ٢٠٠٠٠ في قدير وحدها، وهذه صورة المبايعة:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوالي الكريم والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم. أما بعد فقد بايعنا اللهَ ورسولَه وبايعناك على توحيد الله وألا نشرك به أحدًا ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي ببهتان، ولا نعصيك في معروف، بايعناك على زهد الدنيا وتركها والرضى بما عند الله؛ رغبة بما عند الله والدار الآخرة وعلى أن لا نفر من الجهاد.

فلم تمضِ سنة ١٨٨٢ حتى أصبحت السودان شعلة ثوروية تنادي باسم محمد أحمد. ولبَّى دعوته جماعة من كبار الرجال منهم عامر المكاشف في سنار والشريف أحمد طاها من مشايخ السمانية شرقي النيل الأزرق ومحمد زين وود الصليحاني وفضل الله رد كريف والحاج أحمد عبد الغفار وغيرهم. وبعضهم تفانى في نصرته وقُتِلَ في سبيل دعوته، فاهتمَّت الحكومة بشأن المهدي، وأخذ عبد القادر باشا حلمي في تحصين الخرطوم وجنَّد ثلاث أورط من السود وأخذ في تمرينهم واحتفر خندقًا وراء سور الخرطوم وأقام عليه الأبراج نصب فيها المدافع، فاطمأن الموالون للحكومة على أنفسهم، ثم حمل عبد القادر باشا بنفسه لإخماد تلك الثورة فأتى سنار لمحاربة أحمد المكاشف وكان قد استفحل أمره هناك، فحاربه في ٢٤ فبراير سنة ١٨٨٣، ففر المكاشف وغُلِبَ رجاله ودخل عبد القادر سنار وطمأن الناس ثم حارب أحمد عبد الغفار قرب الرصيرص، فشتَّت شمله وأمر العلماء أن يكتبوا الرسائل وينشروها في تكذيب دعوة محمد أحمد.

(و) سقوط كردوفان

وكانت كردوفان في أثناء ذلك قد أخذت بالثورة واتَّحد دعاة المهدي على طرد خَدَمة الحكومة المصرية، وكان مديرها سعيد باشا يقيم في عاصمتها الأبيض فبذل جهده في إخماد الثورة فلم يُفلِح، والدراويش يزدادون قوة وعددًا حتى هددوا بارا وكشجيل والبركة، والحكومة في الخرطوم تمُد سعيد باشا بالجند، ثم رأى المهدي أن يقدم لنصرة دعاته بنفسه، وفي أوائل سبتمبر سنة ١٨٨٢ أصبح على مقربة من الأبيض، فكتب إلى محمد سعيد باشا يدعوه إلى التسليم فجمع الباشا رجال مجلسه وشاورهم في الأمر فأقروا على شنق الرُّسُل وأن لا يبعثوا جوابًا، ولكن أهل الأبيض كانوا على دعوة المهدي سرًّا، وهم الذين دَعَوْه إلى فتحها وفي مقدمتهم إلياس باشا أعظم تجار كردوفان وحاكمها السابق، فانضموا إلى العصاة في تلك الليلة هم وبعض الحامية، وبقي محمد سعيد باشا في نحو عشرة آلاف من الجند الباشوزق، وأما جيش المتمهدي فكان جرَّارًا فيه ٦٠٠٠ تحمل البنادق التي غنِموها من الجنود المصرية بالمواقع الماضية، وأما سائر قواته فتبلغ ستين ألفًا، ويقول سلاطين باشا في كتابه «النار والسيف في السودان» إن حمَلة البنادق لم تأتِ معه إلى الأبيض بل بقيت في قدير.

وفي ٨ سبتمبر هجم العصاة على الأبيض فارتدُّوا خاسرين، وقد غنم منهم الجند المصري ٦٣ راية من جملتها راية المتمهدي نفسه واسمها «راية عزرائيل»، وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف وفي جملتهم محمد أخو المهدي ويوسف أخو عبد الله التعايشي، ولم يُقتَل من الحامية إلا ٣٠٠ فعظُم ذلك على المتمهدي، وأدرك خطر الهجوم على الأسوار الحصينة، وعوَّل من ذلك الحين أن لا يهاجم سورًا، وإنما يفتتح البلاد بالتضييق عليها بالحصار حتى يُضنِيها الجوع وتعمد إلى التسليم. ثم جاء العصاة مدد فاشتد أزرهم فشددوا الحصار على الأبيض وعلى بارا وكان في بارا نور عنقره أحد أمراء العرب، وكان مواليًا للحكومة ولكنه رأى مقامه حرِجًا وتحقَّق الفشل، فكتب إلى المهدي سرًّا أنه إذا أرسل إليه أميرًا من أكابر أمرائه سلَّم له، فأرسل إليه ولد النجومي فخرج نور عنقره مع محمد الخير، وكان يلقى سر سواري — أي قائد الخيالة — وسلما لولد النجومي فقبلهما. وانقضت سنة ١٨٨٢ والحصار شديد على الأبيض وبارا والعصاة يتكاثرون في سنار وغيرها.

وكان المهدي قد أرسل فِرَقًا من جنده لنشر دعوته في دارفور وبحر الغزال، فانتشرت الثورة هناك ولكنهم لم يغتَنِموا سنة ١٨٨٢ إلا بعضًا من بلادها، وفي أوائل سنة ١٨٨٣ فتحوا بارا في ٥ يناير واضْطُرَّتِ الأبيض إلى التسليم من الجوع في ١٩ منه، فدخلت كردوفان في حوزة الدراويش، وغنموا منها شيئًا كثيرًا من المؤن والذخائر والأسلحة والأموال، وصار المتمهدي من ذلك الحين حاكمًا على كردوفان وقبض على سعيد باشا ورجاله، وبعد أسرهم مدة اكتشف على تقرير بعثوا به سرًّا إلى الخرطوم وأمر بقتلهم، ثم سلمت سائر بلاد كردوفان.

(ز) حكومة المهدي

فلما فَتَح الأبيض ودانت له كردوفان أخذ في تنظيم حكومته على غير نظام الحكومة المصرية. وأهم أقسام الإدارة على أبسط وجوهها ثلاثة: الجند والمال والقضاء، فجعل على الجند خليفته عبد الله التعايشي قائدًا عامًّا لجماعة الدراويش يدير حركاتهم. وأنشأ إدارة سماها بيت المال وفيه تُحفظ الأموال كالعشور والغنائم والفطرة والزكاة والغرامات التي يضربونها على شارب المسكر أو السارق، وعهد بإدارة بيت المال إلى صديق له اسمه أحمد ولد سليمان. أما القضاء فأقام عليه رجلًا اسمه أحمد ولد علي كان قاضيًا في دارفور وسماه قاضي الإسلام. وكان محمد أحمد منذ أوائل ظهوره قد عين خلفاءه، وجعلهم أربعة مثل الخلفاء الراشدين يتولَّوْن الأمر بعده الواحد بعد الآخر، أولهم عبد الله التعايشي، والثاني علي ولد الحلو، والثالث محمد الشريف، والرابع محمد السنوسي ولكن هذا رفض الخلافة.

وعلم هذا المتمهدي أن الحكومة المصرية ستحمل عليه بكل قوتها لاستخراج كردوفان من يديه، فأخذ يحث الناس على الجهاد ويحقر الدنيا في أعينهم ويحبب الآخرة إليهم، وهم يفِدون إليه زرافات وقبائل يتبركون به، وقد آمنوا بدعوته بعد أن ذاقوا الراحة والاستقلال على يده، فتخلصوا من الضرائب ونجوا من الباشبوزق واستبدادهم، فاعتقدوا أنه المهدي المنتظر الذي جاء «ليملأ الأرض عدلًا وقسطًا كما ملئت جورًا وظلمًا»، ومما ساعدهم على هذا الاعتقاد تظاهر هذا الرجل بالتقوى والزهد، فلم يكن يلبس غير السراويل والجبة فوقها منطقة من خوص يقضي نهاره في الصلاة ونشر المنشورات يحث بها الناس على ترك الدنيا والتمسك بالآخرة ويضع لهم القوانين والأحكام، ومن أمثلة ذلك منشور نشره من الأبيض سنة ١٣٠١ وقعت لنا نسخة منه ننشرها مثالًا لتعاليمه، وهاك نصها بالحرف الواحد على علاتها اللغوية:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم. وبعدُ، فمن عبد ربه محمد المهدي بن السيد عبد الله إعلامًا منه إلى كافة المشايخ في الدين والأمراء والنواب والمقاديم أتباع المذكورين. يا عباد الله اسمعوا ما أقول لكم وكونوا على بصيرة، واحمَدوا ربكم واشكروه على النعمة التي خصكم بها وهي ظهورنا؛ فهو شرف لكم على سائر الأمم، ولكن المطلوب منكم يا أحبابنا المهاجرة في سبيل الله والمجاهدة في سبيل الله والزهد في الدنيا وكل ما فيها فإلى البوار، ولو كانت لها بال لكان ربكم يحليها، وانظروا في أهلها الذين كانت في كل ما يطلبوه، وصارت لهم بعدما كانت عسلًا حنظلًا وسمًّا، وصاروا في غاية العذاب والهلاك وشدة التعب والمشقة، ولو كان فيها خير لما صاروا هكذا وبعد ذلك فلهم العذاب الشديد، فإن عجبكم هذا فافعلوا وإلا فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين وجاهدوا في سبيل الله، فلهزة سيف مسلم في سبيل الله أفضل من عبادة سبعين سنة. ووقفة في الجهاد على قدر فواق ناقة يعني حلبة ناقة أفضل من عبادة سبعين سنة. وعلى النساء الجهاد في سبيل الله فمن صارت قاعدة وانقطع منها إرب الرجال فلتجاهد بيديها ورجليها، والشبابة فليجاهدن نفوسهن ويسكن بيوتهن ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، ولا يخرجن إلا لحاجة شرعية ولا يتكلمن كلامًا جهرًا ولا يُسمعن الرجال أصواتهن إلا من وراء الحجاب، ويقمن الصلاة ويُطِعْنَ أزواجهن ويسترن بثيابهن، فمن قعدت كاشفة فاتحة رأسها ولو لحظة عين فتؤدب وتضرب سبعة وعشرين سوطًا، ومن تكلمت بفاحشة فعليها ثمانون سوطًا ومن قال لأخيه: يا كلب أو يا خنزير أو يا يهودي أو يا … أو يا … فيضرب ثمانين سوطًا ويحبس سبعة أيام ومن قال: يا فاجر أو يا سارق أو يا زاني أو يا خائن أو يا ملعون فعليه ثمانون سوطًا أو يا كافر أو يا نصراني أو يا لوطي، فعليه ثمانون سوطًا ويحبس سبعة أيام، ومن تكلم مع أجنبية وليس بعاقد عليها ولا لأمر شرعي يجوز ذلك الكلام فيضرب سبعة وعشرين سوطًا، ومن حلف بطلاق أو حرام يؤدب سبعة وعشرين سوطًا، ومن شرب الدخان يؤدب ثمانين ويحرق التنباك إن كان عنده، وكذلك من خزنها في فمه ومن عملها بأنفه ومن أبقاها فيه يؤدب مثل ذلك، ومن باعها واشتراها ولم يستعملها يؤدَّب سبعة وعشرين سوطًا ومن شرب الخمرة ولو مصة إبرة فيؤدب ثمانين سوطًا ويحبس سبعة أيام، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد وإن لم يكلمه فيضرب ثمانين سوطًا ويحبس سبعة أيام، ومن ساعد شارب الخمر بشربة ماء أو إناء فيؤدَّب كذلك ويحبس ويجاهد نفسه في طاعة الله حقيقة أشد من الجهاد بالأرماح؛ لأن النفس أشد من الكافر مقاتلة، فالكافر تقاتله وتقتله وتكون لك الراحة منه، وهي عدوة في صورة حبيب فقتلها صعب ومسلكها تعب. ومن ترك الصلاة عمدًا فهو عاصي الله ورسوله، قيل كافر، وقيل يُقتل، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد وإن لم يكلمه فيُضرب ثمانين سوطًا ويُحبس سبعة أيام، وقيل أموالهم غنيمة.

وبنت خمس سنين إن لم يسترها أهلها فيضربون من غير حبس ومن علم بأمَة معها زوج بغير عقد وصبر يومًا قيل يقتل، وقيل يُحبس وماله غنيمة. واعلموا أيها الأحباب أن خلافتكم وإمارتكم ونيابتكم عنَّا في الأحكام والقضايا لأجل أن تشفقوا على الخلق وتزهدوهم في الدنيا ليتركوها وترغبوهم في الآخرة ليرغبوها ويطلبوها، وتعلموهم عداوة نفوسهم ليحذروا منها، وتنصفوا من أنفسكم إذا ادَّعوا عليكم فيها، فما أشكل عليكم فأمروهم فيه بالصبر لغاية طلب الأمراء وجمعهم عندنا، ويصير تخييره بحسب الحكم فيه من الله ورسوله، واعلموا يقينًا أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وكونوا عباد الله مع الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واعلموا أيها الأحباب أن القضايا التي كانت من اثني عشر رجب الماضي عام ١٣٠٠ ببقعة ماسة قد صار رفعها مطلقًا ما عدا الأمانة والدين ومال اليتيم، وأما التي بعد الاثني عشر رجب الماضي وقبل الفتوح تسمع فيه الدعاوي. وأما قتل النفس ففيه تفصيل في كونه مخير ولي المقتول في أخذ الدية أو القصاص، وأما بعد الفتوح بالنسبة إلى العهد فيتعين فيه القصاص لا غير، فاعملوا بذلك طبق المنشور، وكذلك مال الخلع أخذه عمومًا من الأزواج بعد الدخول بهن والاستمتاع بهن والاستيلاء عليهن فلا يصح أخذه منهن، فاحكموا فيه بالحكم الذي فصله الله — تعالى — في القرآن العظيم، واعلموا يا أحبابي ولا تخالفوا وامتثلوا الأمر وكونوا سامعين طائعين لأمري ولا تغيروا ولا تكفروا النعمة التي مَنَّ الله عليكم بها فقيدوها بالشكر. وتُزَوَّجُ الغنية بعشرة ريال مجيدي أو أنقص والعزبة بخمسة ريال مجيدي أو أنقص، ومن خالف هذا فعليه الأدب بالضرب والحبس في السجن حتى يتوب أو يموت في سجنه، ومقطوع من أهل زمرتنا ونحن بريئون منه وهو بريء منا، والسلام.

الختم

وكان مع ذلك لا يغفل طرفة عين عن بث العيون والأرصاد لاستطلاع حركات الحكومة ومعرفة أغراضها، فكان يعرف كل ذلك في حينه معرفة تامة، فلا تحدث حادثة أو تنوي الحكومة نية أو تخطو الجنود المصرية خطوة إلا ويعلم بها هو. وأرسل في أثناء ذلك قُوَّادَهُ تبث دعوته في أنحاء السودان، فبعث عثمان دقنة إلى السودان الشرقي يتولى قيادة العصاة هناك وأرفقه بالمنشورات إلى قبائل السودان الشرقي لتكون عضدًا له، وكان عثمان دقنة هذا من تجار الرقيق في سواكن وكان ناقمًا على الحكومة.

(ﺣ) حملة هيكس باشا

وكانت الحكومة المصرية في أثناء ذلك أخمدت الثورة العرابية (في ١٥ سبتمبر ١٨٨٢)، واحتل الإنكليز مصر وأصبحوا أصحاب الرأي النافذ، وقد أقروا على إلغاء جيش عرابي وإنشاء جيش جديد، وكان بعضهم قد وشى بعبد القادر باشا فاستدعته الحكومة إلى مصر، وأرسلت علاء الدين باشا حاكمًا على السودان في ٢٠ فبراير سنة ١٨٨٣، وحصرت سلطته في الإدارة الملكية، وعهدت بقيادة الجند إلى سليمان باشا نيازي، وجعلت هيكس باشا الإنكليزي رئيسًا لأركان حربه.

fig0118
شكل ٣-٤٢: هيكس باشا.

وأعدوا حملة لمحاربة المهدي كلها من جيش عرابي والحكومة تسيء الظن به، وقد أرسلته إما ليهلك أو ينتصر فيعوض على الحكومة ما أفسده، ولكن تلك الحملة كانت مشومة وآلت إلى استفحال أمر المهدي ودراويشه؛ لأنها هلكت عن آخرها على شكل لم يُسمع بمثله، ولم تطلع الحكومة على سبب ذلك إلا بعد حين وإليك هو:

جاء هيكس باشا في بادئ الرأي إلى الخرطوم والحكومة لم تصمم على فتح الأبيض، فأقام هناك مدة فبلغه أن بضعة آلاف من العصاة البقارة بقيادة الأمير أحمد المكاشف وكيل المهدي هناك، فخرج إليهم هيكس وحاربهم عند مرابية بالقرب من جزيرة أبا فقُتل المكاشف وعدد من قُوَّادِه ورجاله وفر الباقون، وكان لتلك الواقعة تأثير حسن في إرجاع ثقة أهل سنار والخرطوم إلى الحكومة وقوة جنودها.

فصممت الحكومة على إرسال حملة تفتح الأبيض، فكتب هيكس باشا إلى الحكومة بالقاهرة أنه لا يتحمل تبِعة هذه الحملة إلا إذا كانت القيادة له وحده، فسلمت له بذلك ولكنها أرسلت معه علاء الدين باشا حكمدار الخرطوم، فطلب هيكس مددًا من الرجال والمال. وسار علاء الدين باشا إلى شرقِيِّ النيل الأزرق فاستحضر أربعة آلاف جمل. وفي أواخر أغسطس تمت معدات الحملة فاجتمعت في أم درمان. وفي ٨ سبتمبر استعرض هيكس باشا جنوده، وفي ٩ منه خرجت الحملة من أم درمان قاصدة الدويم وبينهما مائة وعشرة أميال. وكانت تلك الحملة مؤلَّفة من أربع أرط من الجنود المصرية، معظمهم من الذين حاربوا في سبيل الثورة العرابية وخمس أرط سودانية وأورطة من الطبجية والخيالة، وكانت الجنود المصرية تحت قيادة سليم بك عوني والسيد بك عبد القادر وإبراهيم باشا حيدر ورجب بك صديق. والباشبوزق بقيادة خير الدين بك وعبد العزيز بك ووالي بك وملحم بك ويحيى بك. والطوبجية والسواري بقيادة عباس بك وهبي، وبلغ عدد جنود الحملة أحد عشر ألفًا منهم سبعة آلاف من المشاة المصريين والباقون من الباشبوزق والخَيَّالة وتوابع الحملة من الجَمَّالة وغيرهم، وفيها ٥٥٠٠ جمل و٥٠٠ فارس وأربعة مدافع كروب وعشرة مدافع جبلية وستة من نوع النوردنفلت، وكان فيها من الضباط الإفرنج الكولونيل فركوهار رئيس أركان حرب والبكباشية سكندروف وورتر وماسي وإيفانس وغيرهم ومكاتبو أتمس والدالي نيوز والغرافيك.

وفي ٢٠ سبتمبر وصلت الحملة الدويم، وهناك اجتمعت بعلاء الدين باشا. أما هيكس فكان لا يزال في الخرطوم وقد أرسل تلغرافًا إلى القاهرة أنبأ الحكومة بخروج الحملة من الخرطوم وبيَّن الصعوبة التي ينتظر ملاقاتها في طريقه؛ نظرًا لحرارة الإقليم وقلة المياه. وكان في عزمه أن يجعل مسير الحملة من الدويم إلى الأبيض عن طريق باره، وطول هذه الطريق ١٢٦ ميلًا يقيم في أثنائها محطات فيها قوات عسكرية لحفظ خط الرجوع (خط الاتصال) إلى الدويم، فيفتح أولًا بارة ويقيم بها مدة ثم يخرج على الأبيض.

فلما جاء الدويم وانضم إلى الحملة تفاوض هو وعلاء الدين باشا في الأمر فقال علاء الدين: إنه أرسل أناسًا جَسُّوا الأرض فقالوا إن طريق بارة قليلة المياه وأن أحسن طريق للأبيض بمثل هذا الجند الكبير طريق خور أبو حبل والرهد إلى الجنوب؛ فإن الماء كثير فيها. نعم إن طولها ٢٥٠ ميلًا ولكن مائة منها سهلة يسير بها الجند بكل راحة، والماء كثير إلا أن المسافة بين الدويم ونورابي وطولها ٩٠ ميلًا قليلة المياه، فأقنعه علاء الدين باشا أن الماء في تلك المسافة يسهل الحصول عليه، وبناءً على ذلك قرر أن تسير الحملة عن طريق خور أبو حبل فوصلوا في ٢٤ سبتمبر إلى شات، واستولوا على آبارها وأنشَئوا نقطة عسكرية. وبدأ الجند منذ خروجهم من الدويم يقدرون العواقب الوخيمة وينتظرون البلاء العظيم. وكان سيرهم على شكل مربع يتأهب للقاء العدو، في مقدمته الدليلان فالطلائع فالضباط العِظام وأركان الحرب ثم المربع وهو مؤلف من المشاة المصريين، وفي ساقته الخَيَّالة والجِمَال والأحمال والأثقال، وفي وسط المربع الطبجية، وقد شبه سلاطين باشا ذلك المربع بغاية من الرءوس والأعناق إذا أطلق العدو عليها رصاصة يستحيل أن تخطئها كلها.

وزِدْ على ذلك أن الجمال لم تكُن تستطيع المرعى بالنظر إلى انحصارها في المربع، فجاعت وأكلت قَشَّ أرحالها وخارت قواها حتى مات كثير منها. وفي ٣٠ سبتمبر وصلت الحملة إلى قرية تبعد ٣٠ ميلًا عن الدويم اسمها زريقة.

كل ذلك والحرارة تشتد واللغط يتعاظم بين الجند وكلهم خائف سوء العاقبة، ثم حدث نفور بين هيكس وعلاء الدين وسببه اختلافهما في الرأي بشأن خطة المسير. فرأى علاء الدين أن النقط العسكرية في خط الاتصال لا حاجة إليها؛ لأنها تقلل عدد الجند، فخالفه هيكس في ذلك لأن قطع ذلك الخط يقطع كل أمل برجوع أحد من رجال الحملة حيًّا إذا قدر انكسارها في ساحة الحرب على أنهم لم ينشئوا نقطة عسكرية بعد شات.

أما محمد أحمد فحالما عَلِمَ بمسير حملة هيكس جمع رجاله ودعاهم إلى الجهاد في سبيل الله، وخرج بنفسه وعسكر بقرب شجرة كبيرة بضواحي الأبيض ينتظر وصول الحملة، فاقتدى به خلفاؤه وأمراؤه فخرج كل منهم برجاله، وعسكروا هناك وبَنَوْا الأكواخ والكتول (نوع من العشش).

fig0119
شكل ٣-٤٣: خريطة واقعة هيكس باشا.

أما الحملة فما زالت سائرة تسحف سحفًا كأنها مثقلة بالقدر المحتوم حتى وصلت الرهد في ٢٠ أكتوبر، فأقامت هناك ٦ أيام شاهدت في أثنائها طلائع الدراويش وشرذمات منهم يهاجمونها. وفي ٢٦ أكتوبر سارت ولم تكد تترك معسكرها حتى احتلته العصاة، فعلم علاء الدين إذ ذاك خطأه في إهمال خط الاتصال وقد أصبحوا محاطين بالعدو من كل الجهات. وكان في عزمهم المسير إلى الأبيض عن طريق البِركة، ولكن الجواسيس أخبروا هيكس أن العصاة نزلوا البِركة ومعهم خلفاء المهدي وأمراؤهم بعدتهم ورجالهم، فتشاور علاء الدين وهيكس في هل يرجعون إلى الرهد أو يسيرون إلى كشجيل، ومنها إلى ملبيس فالأبيض؛ لأن خور أبو حبل يتشعب عند الرهد إلى شعبتين تسير إحداهما إلى البركة والأخرى إلى كشجيل. فأقر الرأي على المسير إلى كشجيل فساروا في ٣ نوفمبر عشرة أميال بين الغابات والأحراج، وقد أخطَئُوا الطريق ثم وقفوا وأنشَئوا زريبة باتوا فيها إلى الصباح، فاستأنفوا المسير حتى صاروا على مسافة ميلين من شيكان بين كشجيل والبِركة، وقد أجهدهم العطش فهجمت عليهم شرذمة من العصاة فتبادلوا إطلاق الرصاص، وقبضوا على بعض منهم؛ فعلموا أن الدراويش هناك بكثرة عظيمة، فجمع هيكس كبار رجاله وعقدوا مجلسًا تشاوروا فيه، فلم يقروا على أمر. وكثر اللغط بين الجند وتسلَّط الرعب على قلوبهم وأيقنوا بالهلاك، وفي الصباح التالي عزم هيكس على المسير تحت رحمة الله، فجعل جيشه ثلاثة مربعات وساروا في طريق وعر كثير الأشجار والصخور، فحصل بينه وبين الدراويش واقعة قُتِلَ فيها كثير من رجاله. ثم سار أيضًا فلم يمشِ ميلًا حتى هاجموه ثانية في شيكان. وقد رأينا في منشور أرسله المهدي إلى عثمان دقنة يخبره بتلك الواقعة ويسمي مكان وقوعها علوبة، وكانت تلك الهجمة القاضية لم تُبْقِ على تلك الحملة ولم تذر؛ لأن الدراويش هاجموها من كل جانب حتى صار الجنود المصريون يطلقون الرصاص بعضهم على بعض وهم لا يعلمون فقُتِلَ هيكس وكل قواده وجنده. ولم ينجُ منهم إلا نحو ثمانمائة رجل أكثرهم من الضعفاء الذين اختبَئوا بين الشجر أو تحت جثث القتلى، وفي جملتهم رجل اسمه محمد نور البارودي كان في خدمة هيكس، وهو الذي روى أكثر ما تقدم من مهلك هذه الحملة.

فرجع المهدي وخلفاؤه وقُوَّادُهُ إلى البِركة، وقد سكِروا من خمرة النصر وتركوا بعض الأمراء يجمعون الأسلاب والغنائم إلى بيت المال. وبعد ١٥ يومًا عاد المهدي إلى الأبيض بالمدافع والذخيرة والأموال التي اكتسبوها من حملة هيكس. وكان دخوله الأبيض باحتفال شائق. ولا ريب أن تغلُّبه في موقعة شيكان جعل حكومة السودان تحت أخمصه؛ لأن كثيرًا من القبائل كانوا يترددون في أمره وينتظرون حربه مع هيكس باشا، فلما علموا بما كان انضموا إليه وصاروا من أعوانه.

fig0120
شكل ٣-٤٤: سلاطين باشا.

وكان سلاطين بك (سلاطين باشا الآن) إلى ذلك الحين مديرًا على دارفور، وقد قاسى مَشَقَّاتٍ جسيمة في مناوأة العصاة وتمردهم. وكان يرجو الفرج على يد حملة هيكس. فلما علِم بفشلها لم يَرَ بُدًّا من التسليم فبعث إلى المهدي بذلك، وأن ينفذ إليه بعض أقاربه ليسلم البلاد له فبعث إليه الأمير محمد خالد، ويُكَنَّى زقل أميرًا على دارفور وأوصاه بسلاطين خيرًا. فوصل الدراويش دارا ونهبوها وأرسلوا بعضًا من حِسَانها هدية للمهدي، وجاء سلاطين مخفورًا إلى الأبيض، وبايع المهدي وأظهر الإسلام والإيمان بالدعوة وسُمِّيَ عبد القادر.

وأقام سلاطين من ذلك الحين مُلازِمًا لعبد الله التعايشي يقف عند بابه في جملة الملازمين.

(ط) السودان الشرقي

وفيما كان هيكس يتجشَّم الأخطار في قطع الصحاري والقفار ينتظر المقدور، كان عثمان دقنة ينشر دعوة محمد أحمد في السودان الشرقي، وقد اجتمع حوله أحزاب كبيرة، وقد حدَّثنا صديقٌ رافَقَ الحوادث في السودان الشرقي وعرف خفاياها، قال: «إن توفيق بك محافظ سواكن إذ ذاك تصرَّف مع العربان الذين يتولون خفارة الطريق بين سواكن وكسلا تصرُّفًا أوجب نفورهم؛ وذلك أنه ولى عليهم شيخًا اسمه محمد الأمين ليكون مسئولًا عنهم لدى الحكومة على جاري العادة، وكانوا يكرهون هذا الرجل؛ فالتمسوا من المحافظ أن يبدله بسواه فأبى إلا توليته؛ فغضبوا جميعًا ونفروا من الحكومة وهم كثار، فاتفق مجيء عثمان دقنة بمنشور المهدي فانضمُّوا إليه جميعًا فاشتد أزره بهم، ثم انضم إليه غيرهم. فسار لمناوأة الحكومة في سواكن وضواحيها فهاجموا سنكات في ٥ أغسطس سنة ١٨٨٣، ولكنهم عادوا خاسرين فساروا إلى طوكر وحاصروها، فأرسلت الحكومة محمود طلما باشا قائد حامية السودان الشرقي لإنقاذها، فباغته الدراويش وكسروه شر كسرة. وحاولت الحكومة مقاومة الدراويش بكل وسيلة وحصلت وقائع كثيرة في تمانيب وترنكتات وغيرهما فلم تعُد منهم بطائل. وما زالت سنكات وطوكر محاصرتين تطلبان المدد، فأعدت الحكومة في أوائل سنة ١٨٨٤ حملةً تحت قيادة باكر باشا سارت إلى سواكن لفتح الطريق بين سواكن وبربر، وطرد العصاة من البلاد الواقعة بينهما، فسارت ومعها نجدة من مصوع وكسلا فلاقاها العصاة في التب بغتة في ٢ فبراير، فحاربوها ففشِلت وعادت بخُفَّيْ حُنين. كل ذلك وحامية سنكات لا تزال محاصرة وفيها توفيق بك محافظ سواكن المتقدِّم ذكره، وكان رجلًا باسلًا شهمًا أظهر في حصاره شجاعة لم تُعهَد إلا بالقليل من الناس، وكان قد جاء سنكات عرَضًا وانحصر فيها. وسنكات قرية صغيرة لا تزيد حاميتها على ستين رجلًا وقد ضيق عثمان دقنة السبل عليها، وقطع المُؤَن عنها حتى كاد أهلها يهلكون جوعًا، فكتب عثمان إلى توفيق أن يُسَلِّمَ فلا يقتله، فأبى إلا البقاء على ولاء الحكومة. فلما جاء باكر باشا وعاد خائبًا بعث عثمان إليه أن يُسَلِّمَ فيَسْلَمَ وأن الأمل بإنقاذه قد انقطع فلم يجبه إلا بالثبات. ولما رأى توفيق بك أخيرًا أن المؤن فُقِدَتْ والجند جاعت وأهل البلد ملَّت جمع إليه رجاله وأهل سنكات وشاورهم في الأمر، وحثهم على الثبات على ولاء الحكومة. فقالوا: نحن على ما تريد فقال: «قد نفد زادنا والطريق مقطوع بيننا وبين المدد، فلنخرج مستقتلين فإما أن نسير إلى سواكن، وإما أن يلاقينا العصاة فندافع عن أنفسنا حتى الموت».»

فخرجوا في أوائل فبراير سنة ١٨٨٤ بعد أن هدموا الطوابي وأخربوا المنازل، وما ساروا ميلين حتى لاقاهم عثمان دقنة برجاله وهاجموهم، فقاتل توفيق بك حتى قُتِلَ شهيد الأمانة والبسالة، ولم ينجُ من رجاله وأهل القرية إلا نفر قليلون.

(ي) إخلاء السودان

وكان ذلك من جملة العوامل لتأييد دعوى المتمهدي ونشر سطوته وخوف الحكومة عاقبة أمره. وبدلًا من مواصلة العمل في كبح جماح العصاة، واسترجاع ما ملكوه من بلادها أقرَّت بمشورة الحكومة الإنكليزية على إخلاء ما بقي من السودان في قبضتهم وسَحْبِ جنودها منها، والتخلي عن السودان المصري كله للدراويش، وأصدرت بذلك أمرًا بتاريخ ٨ يناير سنة ١٨٨٤، وأنفذت الحكومة الإنكليزية الجنرال غوردون باشا إلى السودان للنظر في أفضل الوسائل لسحب حامية السودان وسكانها من الإفرنج وغيرهم، وتثبيت حكومة منتظمة على سواحل البحر الأحمر وغير ذلك. فسار غوردون باشا ومعه الكولونيل ستيوارت كاتم أسراره، فوصلا القاهرة فأنباء السير أفلن بارنغ (اليوم اللورد كرومر) أن الحكومة الإنكليزية قد فوَّضت إليه إخلاء السودان، وإعادة حكم الأمراء الذين كانوا يحكمونها لما فتحها محمد علي باشا، ويقال لهم الملوك، أو أن يولي غيرهم كما يتراءى له.

(ك) غوردون باشا

فسار غوردون عن طريق كرسكو وأبي حمد فوصل بربر في ٩ فبراير سنة ١٨٨٤، وفي ١٨ منه وصل الخرطوم فتلقاه أهلها بالإكرام. وكان السودانيون يحبونه ويكرمونه للين جانبه وكرم أخلاقه. ومن الغريب أن يسير غوردون بنفسه بلا جيش إلى بلاد اشتعلت بنار الثورة، ولكنه كان كثير الاتِّكال على الله، وقد صرح بذلك عند وصوله الخرطوم، فقال: «لم آتِ لإنقاذ السودان بجيش، ولكنني اتكلت على الله فلا أحارب إلا بسلاح العدل.»

fig0121
شكل ٣-٤٥: غوردون باشا.
سافر غوردون من القاهرة في ٢٦ يناير سنة ١٨٨٤ ومعه مساعده الكولونيل ستيوارت قاصدين الخرطوم في عطمور أبي حمد فبربر فالخرطوم مصحوبين بأوامر عالية خلاصتها في ما يأتي:
  • (١)

    أن يسحب الموظفين المصريين وعائلاتهم وأموالهم من سائر أنحاء السودان إلى مصر.

  • (٢)

    أن يقيم مقامهم موظفين من أهل السودان يدبر شئونهم بحكمته كأنه يؤسس دولة جديدة.

  • (٣)

    أن يجمع كلمة القبائل المجاورة للخرطوم ويحركها على قبائل الهدندوة في السودان الشرقي فيفتح الطريقين بين بربر وسواكن وبربر وكسلا.

  • (٤)

    أن ينقذ سنار وسائر البلاد الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض (الجزيرة).

  • (٥)

    أن يرسل ٥ بواخر لنقل عائلات الجنود المصرية في مديريات خط الاستواء وبحر الغزال.

  • (٦)

    أن يدبر طريقة لمن بقي في دارفور أن ينسحبوا إلى مصر عن طريق دنقلا.

هذه كانت مقاصده عند خروجه من مصر وخلاصتها خلاء السودان، فلما وصل بربر أراد أن يتلوها على أهلها فمنعه حسين باشا خليفة مدير بربر؛ لأن التصريح بذلك يعجل على بقية نفوذ الحكومة. فأطاعه ولكنه تلاها في المتمة فكانت داعيًا إلى سرعة سقوط بربر بعد ذلك. وأما غوردون فوصل الخرطوم في ١٨ فبراير كما تقدم. وفي يوم وصوله جمع أعيان الخرطوم كافَّة في بناية المديرية، وأفهمهم مهمته، ثم خرج إلى سراي الحكمدارية فلاقاه مئات من الناس وترامَوْا على يديه ورجليه يقبلونها، وهم يقولون: «يا سلطاننا يا والدنا يا مخلِّص كردوفان.» ثم أخذ غوردون وستيوارت في تدبير شئون الأحكام فأنشَئوا أقلامًا مختلفة في الحكمدارية للنظر في قضايا الناس وإنصافهم على اختلاف طبقاتهم. فأخرج دفاتر الحكومة القديمة وفيها قيود لذممات مطلوبة من أصحاب الأطيان خراجًا عن أطيانهم، فوضع تلك الدفاتر في باحة عمومية، وأوقد فيها النار ولما اتقدت النيران وتعالى لهيبها استخرج الكرابيج والعصي وسائر أدوات الضرب والصفع التي كان يستخدمها الحكمداريون قبلًا، وألقاها في ذلك اللهيب وأهل الخرطوم ينظرون. فكان لذلك تأثير حسن في أذهانهم، ثم أنشأ مجلسًا وطنيًّا مؤلَّفًا من أعيان المدينة وبعد قليل زار الترسانة والمستشفى، وأخيرًا ذهب لتعهد السجن ومعه ستيورات وكوتلجن والمستر بوار قنصل إنكلترا هناك. فرأى فيه حوادث تتفتت لها الأكباد فضلًا عن القذارة، وشاهد بين المسجونين أولادًا وشيوخًا بعضهم قد ثبتت براءتهم ولا يزالون في السجن وآخرون سُجِنُوا لتهمة فقضوا ثلاث سنين في السجن قبل أن تثبت عليهم جناية. ورأى هناك امرأة قضت خمس عشرة سنة مسجونة لذنب اقترفته في صباها، فأمر غوردون بإخراج المسجونين كافة وتنظيف السجن، فلم يأتِ المساء حتى خرجوا زرافات ووحدانًا، وهم يطلبون إلى الله — تعالى — أن يطيل عمره. وقضى أهل الخرطوم تلك الليلة سهارى فأضاءوا الأنوار الملونة وأوقدوا المشاعل وباتوا فرحين مسرورين.

وأراد غوردون أن يمكن محبته من قلوب أهل السودان، فخفف الضرائب وأنصف المظلومين، وأبطل كثيرًا من الضرائب، ثم أصدر منشورًا يلغي فيه الأوامر الصادرة بشأن إلغاء تجارة الرقيق وهاك مفاد المنشور:

منشور إلى أهل السودان كافة

اعلموا أن راحتكم هي غاية ما نرجوه، وبما أني أعلم أن إبطال تجارة الرقيق قد ساءكم وهالكم ما وضعته الحكومة من القصاص على من يتعاطاها، وغير ذلك مما صدر من الأوامر العالية بشأن تأكيد إلغائها، فقد رأيت التماسًا لراحتكم أن أُبطِل كل تلك الأوامر وأمنحكم الحرية التامة، فلا يعترضكم أحد في اتخاذ الرقيق لخدمتكم والسلام لكم.

غوردون باشا
الخرطوم

ففرح تجار الرقيق بهذا المنشور ولكنهم استدلُّوا منه على ضعف الحكومة، وأنها إنما اصدرته بالرغم منها؛ لأنها لم تقوَ على تنفيذ أمرها في إبطال تلك التجارة. ثم حول نظره إلى أمر المهدي فأرسل إليه في الأبيض كتابًا يطلب فيه إطلاق الأسرى، ويوليه كردوفان، وأرفق الكتاب بخلعة نفيسة فرد محمد أحمد الخلعة، وبعث إلى غوردون أن يُسلِم فيَسلَم وأن المهدي لم يقُم بدعوته طمعًا في الولاية.

وكان غوردون باشا في أثناء مسيره إلى الخرطوم قد تدبَّر أمر مهمته هذه، فرأى أن ترك السودان وشأنها بعد إخلائها يعود على مصر بالوبال، فلا تلبث الثورة أن تنتشر ويزحف الدراويش إلى حدود مصر، فبعث يوم وصوله الخرطوم رسالة برقية إلى الحكومة الإنكليزية يطلب فيها أن تبعث إليه الزبير رحمت باشا حالًا، حتى إذا أخلى السودان ودبَّر حكومته جعل الزبير باشا خلفًا له عليه خوفًا من استفحال أمر المهدي وخروجه على مصر، فأبت الحكومة إرسال الزبير فشق ذلك عليه كثيرًا.

ثم ما لبث أن علم بانتشار دعوة المهدي وانضمام معظم القبائل إليه، فأصدر منشورًا يتوعَّد فيه الثائرين بعذاب إليم، وينصح لهم أن يثوبوا إلى طاعة الحكومة.

وكان الكولونيل ستيوارت قد سار في مائة رجل بالأعلام البيضاء لمسالمة القبائل القاطنة على النيل الأبيض، وتلاوة منشورات غوردون عليهم، فكان كلما بعُد عن الخرطوم ازداد نفور الناس منه حتى صاروا يعترضون مسيره ويحاربونه، وأكثرهم من قبيلة البقارة، فعاد الخرطوم خاسرًا فأرسله غوردون ثانية في ٢ مارس سنة ١٨٨٤ بمنشورات أخرى فعاد بخُفَّيْ حُنَين. وما زالت الثورة تقترب من الخرطوم وضواحيها حتى أحدقت بها من كل الجهات. وفي أثناء ذلك جاءت حملة من الدراويش لحصار الخرطوم، فذهب جمع منهم إلى حلفاية شمالي المدينة فانهزمت حاميتها فجرَّد غوردون في ١٦ مارس عليهم ألفي مقاتل بالبنادق، وفيهم الباشبوزق والجند المنظَّم لاسترجاع حلفاية، فماطلهم الدراويش حتى غدروهم وكسروهم شَرَّ كسرة فعادوا القهقرى إلى الخرطوم، وقد قُتِلَ منهم جمع كبير ففشل غوردون لهذه الكسرة، وحاكَم قُوَّادَ تلك التجريدة وأكبرهم سعيد باشا وحسن باشا وكلاهما من أهل السودان، فحكم عليهما بالإعدام لثبوت الخيانة عليهما فقُتِلَا وقُطِّعَتْ أعضاؤهما.

(ل) سقوط بربر ومهلك ستيوارت

وفي ٢٥ يونيو سنة ١٨٨٤ وصلت الأخبار بسقوط بربر، والقبض على مديرها وإرساله أسيرًا إلى الأبيض، وتولَّى بربر أمير من أمراء الدراويش اسمه محمد الخير. وكان سقوط بربر ضربة قوية على الخرطوم؛ لأنها كانت واسطة الإيصال بينها وبين مصر. فأدرك غوردون صعوبة مركزه، وتحقق يقينًا أن إنفاذ مهمته لم يعُد ممكنًا بالحسنى فلا بد من استعمال قوة الجند، فطلب إلى حكومته إرسال حملة لمساعدته، فترددت إنكلترا مدة قبل الإقرار على الحملة. على أنها أقرت في مايو على وجوب إرسالها ولكن جنودها لم تبدأ بالمسير إلى السودان إلا في سبتمبر، فتذمَّر أهل الخرطوم وشكَوْا إلى غوردون حالهم، وفي جملتهم الأجانب المقيمون هناك، فقال لهم: من أراد الذهاب فليذهب، أما أنا فلا أستطيع الخروج إلا بعد إنقاذ الحامية والناس أو أن أموت معهم. ولكنه أشار على ستيوارت أن يسير إلى مصر بمن أراد مرافقته من الأجانب، وعهِد إليه إيصال تقاريره اليومية عن أحوال الخرطوم من أول مارس إلى ٩ سبتمبر وهو يوم سفر ستيوارت، وظن غوردون أن ذهاب ستيوارت بهذه التقارير إلى مصر يفيد الحملة القادمة لإنقاذه، فركب ستيوارت باخرة وركب معه بعض الإفرنج ورافقته باخرتان فوصل بربر وضربها ومَرَّ بها، فعادت الباخرتان وجرت باخرته حتى إذا تجاوزت أبو حمد إلى واد قمر ضايقها الدراويش من البر، ثم جنحت فنزل من فيها فلقيهم الدراويش وقتلوهم وحملوا الأسلاب والأوراق إلى المهدي. كل ذلك وغوردون يستحث الإنكليز ويستنهض هممهم وينذرهم بالخطر القريب، فجاءه خبر هلاك ستيوارت ومن معه قبل خروج الحملة. على أن تلك الحملة لم تصل الخرطوم إلا في ٢٨ يناير سنة ١٨٨٥؛ أي بعد سقوطها ومقتل غوردون بيومين.

(م) حركات الدراويش

فلننظر في حركات الدراويش وإجراءاتهم في معسكرهم في أثناء حصار الخرطوم ملخصًا عمَّا رواه سلاطين باشا في كتابه «السيف والنار في السودان»، وما حكاه غيره من الأسرى الذين رافقوا تلك الحوادث داخل الخرطوم وخارجها.

تركنا المتمهدي وقد عاد ظافرًا إلى الأبيض بخيله ورَجْلِه، فبعد وصوله إليها أنفذ بعض أمرائه لتأييد سلطته في دارفور وبحر الغزال وما جاورهما، ثم علِم ما كان من أمر السودان الشرقي، وظفِر عثمان دقنا في سنكات وتمانيب والتب وحصار كسلة.

وتكاثر دعاة المهدي بعد انتصاره على هيكس، وتقاطر الناس إليه قبائل وجماعات قيامًا بنصرته، وكانوا يعسكرون بخيامهم وإبلهم وخيلهم حول الأبيض، فقلَّت مياه الأبيض فخاف المهدي أن يصيبهم جَهد فأشار بالانتقال الرهد وفيها الماء غزير فانتقلوا إليها رجالًا ونساءً وأولادًا في أواسط أبريل سنة ١٨٨٤ بأحمالهم وأثقالهم ودوابِّهم، وأقاموا هناك والمهدي يقضي نهاره في الصلاة والوعظ والحث على الجهاد. ثم سمع بخروج الجنود المصرية من الخرطوم على أهل الجزيرة، فبعث محمد أبا جرجا أميرًا عليها في عدد عظيم من الدراويش على أن يمد أهل الجزيرة ويحاصر الخرطوم. فحصلت بينه وبين جنود الخرطوم وقائع انتصرت في أولها الجنود المصرية، ثم عادت العائدة عليهم بعد ذلك كما رأيت. وأرسل المهدي الشيخ محمد الخير أميرًا على بربر فسار إليها وحاصرها وفتحها، وأرسل مديرها حسين باشا خليفة أسيرًا إلى معسكر المهدي في كوردوفان. فالتقى بسلاطين باشا وتشاطَرَا مصيبة الأَسْر. أما دنقلا فكان مديرها مصطفى بك ياور (ثم صار مصطفى باشا) قد كتب إلى المهدي غير مرة يسلم إليه، فلم يركن هذا إلى تسليمه بل بعث السيد محمد علي وبعض الشائقية؛ ليجسوه فحاربهم وفرق شملهم وكان الماجور كتشنر (اللورد كتشنر باشا) قد جاء بمهمة سرية لاستطلاع نوايا مصطفى بك ياور وأحوال السودان، فشهد بعض مواقعه مع الدراويش.

وخلاصة الأمر أن حجار السودان ورماله كادت تنطق بصوت واحد: «صدق محمد أحمد بدعواه.» وكان إلى ذلك الحين مقيمًا في الرهد فكتب إليه أمراؤه من أنحاء مختلفة أن ينزل برجاله إلى النيل الأبيض، فكان يؤجل مسيره مظهرًا الازدراء بقوة أعدائه والاعتداد بقوته، ويستعرض جنوده كل جمعة استعراضًا عموميًّا يحضره هو بنفسه، والجيش إذ ذاك ثلاثة أقسام يرأس كل منها خليفة من خلفائه. ولكن الخليفة عبد الله التعايشي كانت له الرئاسة الكبرى، ويلقب «رئيس الجيش» وفرقته تسمى «الراية الزرقاء» ينوب عنه في قيادتها أخوه يعقوب التعايشي. وفرقة الخليفة علي ولد الحلو تدعى «الراية الخضراء»، وفرقة الخليفة محمد الشريف تسمى «الراية الحمراء» أو «راية الأشراف»، وتحت كل من هذه الرايات الثلاث رايات صغيرة لا يحصيها عَدٌّ يجتمع حول كل راية منها مئات من الدراويش.

وكيفية الاستعراض عندهم أن يقف أمراء الراية الزرقاء براياتهم صفًّا واحدًا يولون وجوههم المشرق، ويقف أمراء الراية الخضراء صفًّا آخر يقابل الصف الأول وجهًا لوجه، ويقف أمراء راية الأشراف صفًّا آخر يقابل الشمال، فيؤلفون مربعًا ينقصه ضلع كأنه باب يدخل به المهدي وحاشيته، فيمر بجانب الصفوف يحييها قائلًا: «الله يبارك فيكم.»

فلما انقضى رمضان تلك السنة قال محمد أحمد: إنه قد أوحي إليه في الرؤيا «الحضرة» أن ينزل لمحاصرة الخرطوم وأمر رجاله بذلك.

(ن) حصار الخرطوم

فزحفوا برجالهم وأحمالهم وأثقالهم ودوابِّهم، فضربوا نقارتهم وساروا حتى أشرفوا على الخرطوم وسلاطين معهم، فعسكروا هناك تحت راية التعايشي. وسار الأمراء الآخرون يبحثون عن مكان آخر يعسكرون فيه. ثم أمر المهدي أن يحدق جنده بالخرطوم، ويشددوا الحصار عليها فأمر أبا جرجا وولد النجومي أن يحاصراها برجالهما من البر الشرقي للنيل الأبيض عند مكان اسمه كلاكلا، وأمر أبا عنجة وفضل المولى أن يحاصرا طابية أم درمان على البر الغربي. وما زالوا محاصِرين تلك الطابية حتى فتحوها في ١٥ يناير سنة ١٨٨٥، وهي أول طابية فتحوها من حصون الخرطوم. ويؤخَذُ من تقرير كتبه الشيخ المضوِّي أحد قواد المهدي في ذلك الحصار أن المهدي كان عازمًا أن يشدد الحصار على الخرطوم حتى تسلم من الجوع كما فعل بالأبيض، وأن رجال ولد النجومي وحدهم بلغوا عشرين ألفًا. فربما كانت قوة الدراويش كلها ستين ألفًا أو سبعين أو أكثر.

fig199
شكل ٣-٤٦: نقود غوردون.
أما غوردون فلم يقضِ في الخرطوم شهرين حتى نفدت النقود من خزينتها، فاصطنع نقودًا من الورق بفئات متفاوتة يتعامل بها الناس إلى أجل مسمى. وقد شاهدنا كثيرًا منها عند وصولنا المتمة سنة ١٨٨٥، وفي شكل ٣-٤٦ صورة إحداها برسمها الأصلي تمامًا.

على أن ذلك قلَّما خفف من ضيق أهل الخرطوم ونزلائها؛ فإنهم ما انفكوا يشعرون بالضغط يومًا بعد يوم، والحصار يزيدهم تضييقًا حتى أصبحوا محاطين بالعدو من كل جهة، وقَلَّ زادهم أو نفِدَ وجاعوا، وغوردون يصبرهم ويعدهم بقرب وصول الحملة الإنكليزية لإنقاذهم، ولكنها تأخرت كثيرًا فمَلَّ الناس الانتظار، واشتد الجوع حتى أكلوا لحوم القطط والكلاب، ومضغوا سعف النخل وجذور الذُّرَة. كل ذلك وهم واثقون بوعد غوردون، ولكنهم أصبحوا يسيئون الظن به أخيرًا.

(س) الحملة الإنكليزية لإنقاذ غوردون

أما الحملة الإنكليزية التي أقروا على إرسالها لإنقاذ غوردون، فبرحت مصر في أوائل الخريف وعدد رجالها ستة آلاف من نخبة الجند الإنكليزي وأكثر قوادها من الأشراف؛ إذ تسابق الإنكليز إلى الانتظام في سلك هذه الحملة لزعمهم أنها عبارة عن «فسحة» على النيل، فلم يصل من رجالها إلى كورتي إلا بعضهم وتفرَّق الباقون في نقط خط الاتصال. ومن كورتي سارت حملة في عطمور صحراء بيوضة إلى المتمة بقيادة الجنرال ستيوارت، والقصد بها سرعة الوصول إلى الخرطوم. وسارت حملة أخرى على النيل إلى بربر بقيادة الجنرال أرل. وكنا ممَّن سار برفقة حملة العطمور فشهدنا وقائعها وسمعنا إطلاق مدافعها ورنات قنابلها ورصاصها، فقطعت الحملة جكدول فأبا طليح فلاقاها العرب على الآبار، فحصلت بين الفريقين واقعة شفَّت عن انهزام العرب فتعقبهم الإنكليز إلى المتمة ساروا بقيادة الجنرال ستيوارت ليلًا، وقد كنت في جملتهم في تلك الليلة الليلاء، فكنا سائرين لا نرى شيئًا من آثار الطريق المؤدي إلى المكان المقصود لشدة الظلام، فاضْطُرِرْنَا إلى الاستدلال عليها بالإبرة المغنطيسية (البُصلة) والنجم القطبي، وكنا تارة نصعد على آكام متلمسين وطورًا تعثر أرجل جمالنا بأعشاب أو أنجم شوكية ولم نكن نخرج صوتًا ولا نقدح نارًا؛ لئلا يكون بقربنا من الأعداء من يستطلع أحوالنا فتحبط مقاصدنا. ولم يأتِ آخر الليل حتى أصبحنا وليس فينا من لم يأخذ منه النعس مأخذًا عظيمًا. وكانت تأخذ من أحدنا سِنَة الوَسَن وهو على ظهر الجمل فينتبه وهو على وشك السقوط فيعتدل.

وعندما أصبح يوم غُرة ربيع آخر أو ١٨ يناير، أشرفنا على النيل المبارك عن بعد والمتمة عن يسارنا، ولم نكَد نقف والغزالة في الضحى حتى خرج إلينا من أسوار المدينة (المتمة) جيش جرار من العربان وقفوا على مرمى رصاص منا، وقد حالوا بيننا وبين النيل وجعلوا يطلقون علينا النار من وراء الأشجار والصخور، فأمر الجنرال ستيوارت بالترجُّل وإنشاء زريبة، وما كدنا نفعل حتى احتدمت نيران العدو، فأمر الجنرال بتشكيل مربع، ثم وقف وراء أحد المدافع وبيده المنظر يراقب حركات العدو، فأصابته رصاصة في بطنه فسقط على الأرض وسقطت قلوبنا معه. وكان بجانبي المستر سالكي هربرت كاتب سر الجنرال المذكور، فسألته ما ظنه بحياة الجنرال فأجاب متأسفًا أنه لا يرجو له شفاء. وما أتم كلامه حتى أصيب هو برصاصة في رأسه فشهق وسقط ميتًا لا حراك به، وكان خادمه بجانبه يخاطبه في بعض حاجاته فلما رآه ساقطًا رفع يده مناديًا يا سيدي يا سيدي، ولم يتم قوله حتى أصيبت يده عند المعصم برصاصة ثقبتها من الجانب الواحد إلى الآخر. وكنا نرى كثيرين غيره يسقطون مثل تلك السقطة. فلا تسل عما حل بالجند من اليأس إلا أنهم تجلدوا وأقاموا عليهم أكبر ضباطهم قائدًا، فأتموا تشكيل المربع بعد أن رفعوا الجنرال جريحًا جرحًا بليغًا لم يعِش بعده أكثر من شهر واحد، فمات عند انسحاب الحملة ودُفِنَ عند آبار جكدول في وسط الصحراء.

فسار المربع ونحن داخله قاصدًا النيل، فهاجمنا الأعداء ببسالة غريبة ثم ما لبثوا أن اقتربوا من مربعنا حتى تشتَّت شملهم، فسرنا حتى أدركنا النيل عند الظلام بعد مفارقتنا إياه نحوًا من أسبوعين فحيَّيناه تحية ملتاح، وعسكرنا على ضفته للمبيت تلك الليلة. وفي الصباح التالي جاءت العساكر مع من كان معهم في الزريبة، ثم انتقلنا إلى قرية جنوبي المتمة يقال لها القبة.

وكان غوردون قد أنفذ لملاقاة تلك الحملة أربع بواخر كانت في مياه الخرطوم؛ ليستعينوا بها في الوصول إليه، وبعث يقول لهم: إنكم إذا لم تصلوا إلينا في بضعة أيام ذهبنا هباءً منثورًا. وقد علم السير شارلس ولسن خلف الجنرال ستيوارت على تلك الحملة بذلك في ٢١ يناير، وكان يجب أن يبادر حالًا إلى الخرطوم بدلًا من أن يقضي أربعة أيام بجوار المتمة بلا داعٍ، فغادرها في ٢٤ يناير سنة ١٨٨٥ على باخرتين لم تصِلا الخرطوم إلا في ٢٨ منه، وكانت قد سقطت وقُتِلَ غوردون في ٢٦ منه، فعاد السير شارلس كاسف البال، ولم يصل المتمة إلا بعد شق الأنفس؛ لأن باخرتيه انكسرتا وأصابه من الخطر ما لا محل لتفصيله هنا.

(ع) سقوط الخرطوم

أما كيفية سقوط الخرطوم فعلى ما يأتي: من تأمل هذه الخارطة (شكل ٣-٤٧) علم أن الخرطوم واقعة موقعًا طبيعيًّا حصينًا للغاية فهي محاطة من الشمال والغرب بالنيل ومن الجنوب والغرب بسور منيع وراءه من الخارج خندق عميق والجند قائمون على السور ليلًا نهارًا وترى بين بنايات الخرطوم وسورها أرضًا لا بناء فيها.
fig200
شكل ٣-٤٧: دلالات الأرقام في خريطة الخرطوم: (١) الحكمدارية. (٢) السراي. (٣) حواصل الحنطة. (٤) الترسانة. (٥) القشلاق. (٦) طابية بوري. (٧) مخازن البارود. (٨) قرية توتي. (٩) الطابية البحرية. (١٠) السراى الشرقية.

وقد ذكرنا أن المهدي حاصر الخرطوم وشدد الحصار عليها لكي تُسَلِّمَ من الجوع، فلم تمضِ مدة حتى أنبأه جواسيسه أن حملة إنكليزية قادمة لإنقاذ الخرطوم وغوردون، فبعث إليها جندًا لاقاها في أبي طليح تحت قيادة موسى ولد الحلو وأبي صافية، فعادت خاسرة فأرسل جندًا آخر إلى المتمة بقيادة ثور عنجة فانكسر أيضًا كما تقدم. فلما بلغه خبر انكسار رجاله أراد التمويه على أتباعه، فأمر بإطلاق مائة قنبلة وقنبلة وهي إشارة النصر عندهم فاطمأنَّ الدراويش، ولكن محمد أحمد جمع أمراءه وخلفاءه في جلسة سرية وقال لهم إن الحضرة جاءته فأوحت إليه أن يهاجر إلى الأبيض. فاعترضه الأمير محمد عبد الكريم قائلًا: «إن الهجرة ميسورة لنا في كل حين والطريق إلى الأبيض مطلق لنا، فلنهاجم الخرطوم أولًا فإذا امتنعت علينا هاجرنا إلى الأبيض، وإذا فتحناها فلا يقوى الإنكليز ولا غيرهم على أخذها منا.» فاستحسن المهدي رأيه وصبر بضعة أيام وهو يستقصي أخبار الإنكليز وحركاتهم. وفي ٢٥ يناير بلغه قيام الباخرتين من المتمة، فأقر على مهاجمة المدينة في صباح اليوم التالي (يوم الاثنين في ٢٦ يناير سنة ١٨٨٥)، فبعث إلى القوات المحاصرة يقول إنه علم بالوحي أن الله قد جعل أرواح أهل الخرطوم كلها في قبضته.

وفي مساء ذلك اليوم ٢٥ منه قطع المهدي النيل الأبيض من أم درمان، وكل من أراد الجهاد معه ونزل إلى معسكر ولد النجومي في كلاكلا، وخطب هناك خطابًا حث رجاله فيه على الجهاد، وأوصاهم أن لا يقتلوا غوردون باشا. ولما أتم خطابه عاد ببطاننه إلى أم درمان.

وفي الصباح التالي ٢٦ منه الساعة الأولى بعد نصف الليل زحف الدراويش من كلاكلا بقيادة ولد النجومي وانقسموا فرقتين: فرقة تهاجم السور بين النيل الأبيض وباب المسلمية وفرقة تهاجمه من ناحية بوري (انظر شكل ٣-٤٧) وكان السور بين باب المسلمية والنيل الأبيض قد تهدم بعضه مما يلي النيل؛ لمجاورته أرضًا يغمرها ماء النيل في فيضانه ترى حدودها في الخارطة منقطة. وكان الماء قد انحسر عنه إذ ذاك وتَهَدَّمَ بعضُه فتكونت فيه ثغور دللنا عليه بتقطيع السور هناك إلى نقط. فعول الدراويش على أن يدخلوا المدينة من تلك الثغور على أنهم إذا فازوا بالدخول منها عدلوا عن الهجوم من جهة بوري ودخل القسمان معًا من جهة النيل الأبيض.

(ف) مقتل غوردون

فزحفوا سكوتًا حفاةً تحت جناح الليل لا تسمع لهم حركة حتى صاروا عند تلك الثغور، فردموا الخندق ووسعوا الثغور وصاحوا صياح الحرب قائلين: «في سبيل الله.» ودخلوا يزاحم بعضهم بعضًا، وقد غاصوا في الأوحال إلى الركب فبغتت الحامية فأطلقت بعض الطلقات، وكان فرج باشا قائد الحصون على باب المسلمية فما انتبه إلا وقد قضي الأمر، ولم تبقَ فائدة بالدفاع ففتح الباب وسلم فانهال الدراويش على المدينة كالسيل وهم ينادون: «للكنيسة … للسراي.» وأمعنوا في الأهالي المساكين قتلًا ونهبًا لم يُبقُوا ولم يَذَرُوا. وسار بضعة منهم إلى السراي، حيث يقيم غوردون وكان قد يئس من قدوم الحملة وبات تلك الليلة حوالي نصف الليل، ولم يكد يغمض جفنه حتى سمع إطلاق النار فصعد إلى سطح السراي وأشرف على الأسوار، فرأى العرب قد دخلوا السور ولم يعُد باليد حيلة فلبس ثيابه وتقلد سلاحه وهَمَّ بالنزول فلاقاه ثلاثة من الدراويش في أعلى السلم فسأل أولهم قائلًا: «أين محمد أحمد؟» فأجابه بطعنة قاضية وضربه آخر بالسيف فخَرَّ قتيلًا ولم يُبدِ دفاعًا، ويقال إن قتلته من رجال ولد النجومي ولم يكن ولد النجومي معهم، فجاء بعدئذٍ فساءه قتله فأمرهم بجر جثته إلى باحة السراي، وأن يُقطع رأسه ويُحمل إلى المهدي في أم درمان فحملوه إليه في منديل كبير في الساعة الأولى من النهار، وكان سلاطين مقيَّدًا في خيمته بأم درمان وقد سمع إطلاق المدافع، وعلم بهجوم العرب على الخرطوم، ثم سمع بفتحها فوقف حزينًا كئيبًا، فمر حاملو رأس غوردون به وبينهم رجل اسمه شطا كان يعرفه سلاطين قبلًا، فكشف له عن رأس غوردون وقال: «أليس هذا رأس عمك الكافر؟»

فأثر ذلك المنظر في سلاطين كثيرًا وكان قد هزل جسمه من الأسر والخوف، وكاد يُغمَى عليه ولكنه تجلد وقال بصوت ضعيف: «إنه مات في سبيل الدفاع عن واجباته هنيئًا له فقد استراح من متاعبه.» فقال له شطا ضاحكًا: «أتمدح الكافر! إنك ستلقى ما لقيه قريبًا.» فتأمل حال سلاطين إذ ذاك!

ثم حملوا الرأس إلى المهدي فأظهر كدره لذلك، وكان سلاطين يظن أن المهدي لو أراد أن يبقى عليه وأوصى رجاله بذلك ما تجرأ أحد على مخالفة أوامره.

fig0122
شكل ٣-٤٨: رأس غوردن يُريه الدراويش لسلاطين باشا.

هكذا سقطت الخرطوم عاصمة السودان في أيدي الدراويش، وبسقوطها سقط كل أمل بافتتاحها. ولكن المهدي لم يُقِمْ فيها بل أقام في أم درمان، وبنى هناك مدينة جعلها عاصمة ملكه من ذلك الحين.

أما الحملة الإنكليزية فإنها انسحبت من المتمة إلى كورتي، فأقامت هناك مدة ثم عادت إلى دنقلا فمصر فسحبت معها كل من أراد مرافقتها من سكان شمالي كورتي، وأصبحت السودان من ذلك الحين مملكة المهدي السوداني.

(ص) موت المهدي وخلافة التعايشي

fig0123
شكل ٣-٤٩: طبيب المهدي.

فلما فُتِحَتِ الخرطوم وعادت الحملة الإنكليزية إلى مصر ازداد الناس وثوقًا بدعوى المهدي مع ما شاهدوه من توفيقه في مشروعاته؛ فإنه كاد لا يشهد موقعة إلا انتصر فيها ولا حاصر مدينة إلا فتحها. وإذا اعتبرت ما لاقته الحملة الإنكليزية القادمة لإنقاذ غوردون من العراقيل والعوائق، عجبت لما اتفق لمحمد أحمد هذا من غرائب التوفيق. فاتَّخذ أشياعه ذلك دليلًا على كرامته، وأيقن هو أنه أصبح المالك المتصرِّف في السودان من أقصائه إلى أقصائه، وخُيِّلَ له أنه سيفتح الأمصار ويُخضِع الملوك والسلاطين فتنتشر سلطته في الخافقَيْن. على أنه لم يكن يرجو أن يتم ذلك كله على يده ولكنه كان يقول إنه لن يموت إلا بعد فتح الحرمين وبيت المقدس، ثم ينزل الكوفة ويموت فيها. ولكن ساء فأله؛ لأنه لم يكد يؤيد سلطته ويقيم في عاصمته «أم درمان» بضعة أشهر حتى داهمته الوفاة في ٢١ يونيو سنة ١٨٨٥ فيها على إثر إصابة شديدة بالحمى التيفوسية لم تنجع فيها حيلة، ففارق هذا العالم على عنقريب «سرير سوداني»، وحوله خلفاؤه الثلاثة وخاصة أمرائه منهم أحمد ولد سليمان ومحمد ولد البصير وعثمان ولد أحمد والسيد الملكي. فلما شعر المهدي بدنو الأجل قال لمن حوله بصوت منخفض: «إن النبي اختار الخليفة عبد الله خليفة لي وهو مني وأنا منه، فأطيعوه ما أطعتموني. أستغفر الله.» ثم تلا الشهادتين وجعل يديه متقاطعتين على صدره وأسلم الروح.

ولم يكد يخرج النفس الأخير من أنفاسه حتى تقدم الحضور فبايعوا عبد الله وسموه «خليفة المهدي» وكان في جملة من حضر موت المهدي امرأته عائشة ويدعونها «ستنا أم المؤمنين» فسارت لإبلاغ خبر وفاته إلى نسائه الأخريات وتعزيتهن، وكان الناس قد تجمهورا مئات وألوفًا حول المنزل ينتظرون الخبر عن سيدهم ومهديهم، فلما علموا بموته ضجوا وصاحوا فأوعز إليهم أن البكاء والندب حرام لأن المهدي إنما فارق مقامه في الأرض بمجرد إرادته ليلقى وجه ربه. فغسلوا الجثة ولفوها بالأكفان واحتفروا لها حفرة في تلك الغرفة حيث فارقتها الروح ودفنوها وجعلوا فوقها بعد ذلك مقامًا من الخشب يغشاه ستر أسود وبنوا فوقه قبة وسموا ذلك المقام «قبة المهدي» يزورها الناس للتبرك، واحتفروا بجانب القبة بئرًا يستقي الزائرون منها للشرب والوضوء وحول القبة درابزون من الخشب «شكل ٣-٥٠».

وكان سلاطين باشا قد نال العفو من المهدي قبل وفاته، فحُلَّت قيوده وعاد إلى معية التعايشي فشاهد تلك الحوادث شهادة عين، ووصفها في كتابه السيف والنار والسودان وصفًا تامًّا.

فبعد دفن المهدي سار خليفته عبد الله إلى الجامع وخطب في الناس وأنبأهم بوفاة المهدي فبكى وبكى الناس، ثم أوصاهم بالطاعة والاتحاد للعمل بأوامره، وبعد الخطبة تقدم الناس لمبايعته فتلوا صورة المبايعة التي ذكرناها قبل الآن، ولكنه غيَّر العبارة الأولى منها فجعلها «بايعنا الله ورسول الله ومهدينا وبايعناك على توحيد الله …» إلخ.

(ق) أوصاف المهدي

كان محمد أحمد طويل القامة عريض المنكبين أسمر اللون قاتمه قوي البنية. وكان أول قيامه بدعوته رَبع القامة فأصبح في أواخر أيامه سمينًا ضخمًا. وكان كبير الرأس عريض الجهة حادَّ العينين أسودهما خفيف اللحية أسودها، وعلى خديه آثار الأخاديد العرضية الثلاثة من كل جانب كسائر الدناقلة أبناء قبيلته. وكان متناسب الأنف والفم لا ينفكُّ مبتسمًا فتظهر أسنانه وبين الأماميتين منها فلجة تشبه الثمانية «٨» تعد عند السودانيين وغيرهم من المشارقة علامة السعد، ويقال لصاحبها أفلج، وكان ذلك من جملة ما حبب المهدي إلى النساء وكن يسمينه «أبو فلجة».

fig203
شكل ٣-٥٠: قبة المهدي وفيها قبرة.

وكان يلبس جبة بيضاء قصيرة مضربة تراها دائمًا مغسولة نظيفة مطيبة برائحة خشب الصندل والمسك وعطر الورد، وكان مشهورًا بين أتباعه بهذه الرائحة حتى نسبوها إليه، فسموها «رائحة المهدي» وذكر بعضهم خالًا كان في خده ادَّعى أنه من علامات المهدوية.

وقد علمت من تدبَّر ترجمة حاله أنه كان نبيهًا مدبرًا رضِيَّ الخُلُق، حسن السياسة، ماهرًا في التأثير على عواطف الناس إذا تكلم ظهر للسامعين أن جوارحه كلها تتكلم، فإذا ذكر مآثم بني الإنسان أو وصف النعيم المقبل، أو حث على الجهاد بكى وتخشَّع وأبكى السامعين. ويظهر من مجمل سيرة حياته أنه صبور على البلوى كاظم للغيظ مسالم للأحزاب مُحسِن إليهم، راغب في امتلاك قلوبهم باللطف وحسن الأسلوب، وكان ذلك من أكبر العوامل في نشر دعوته، وقيام الناس بنصرته، ولو أَمَدَّ الله في أجله لكان فتح السودان صعبًا على الجنود المصرية نظرًا لاستهلاك قواده في سبيل نصرته. أما خليفته فكان على غير خلقه من اللين والدعة والمسالمة، إلى حد هاج غيرة الخليفتين الآخرين وغيرهما من الأمراء، فقام الشقاق بين الدراويش فضعفت عزائمهم وفسدت أمورهم وتضعضعت أحوالهم وسهل الفتح على المصريين.

(ر) تعاليمه

ذكرنا في ما تقدم ما كان من أعماله الحربية منذ ظهوره إلى وفاته، فنقتصر الآن على ذكر ما أحدثه من التعاليم والتقاليد بين مسلمي السودان:
  • (١)

    علَّم الزهد في الدنيا وملذَّاتها ونبذ المجد الدنيوي، فأبطل الرتب والألقاب الرسمية وغير الرسمية، وساوى بين الغني والفقير وفرض على أتباعه لباسًا واحدًا يمتازون به ويدل على تزهدهم وهو الجبة المرقعة.

  • (٢)

    جمع المذاهب الأربعة (المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي) ووحَّدها بتسوية بعض ما بينها من الخلاف وإلغاء البعض الآخر، واختار آيات من القرآن الكريم تتلى كل يوم بعد صلاة الصبح وصلاة العصر سماها «الراتب» وسهل طرق الوضوء.

  • (٣)

    حرم الاحتفال بالأعراس احتفالًا يدعو إلى النفقة، ومنَع شرب الخمر وغيرها مما يتناولونه في الأعراس، وخفض مهر الزواج فجعله عشرة ريالات وبدلتين للبِكر وخمسة ريالات وبدلتين للثيب، وجازى من يخالف ذلك بسلب أمواله كلها. وأبدل ولائم الأعراس بطعام من التمر واللبن فتسهلت بذلك وسائل الزيجة على الفقراء، وقد كانت نفقات العرس الباهظة حائلة بينهم وبين الاقتران.

  • (٤)

    أبطل الرقص واللعب، ومن رقص أو لعب فقِصاصه الجَلْد وأخذ أمواله، وترى تفصيل ذلك في منشور المهدي الذي تقدم نشره.

  • (٥)

    منع الحج إلى الحرمين خوفًا على قواته من التفريق وتعاليمه من الضياع؛ لعلمه أنها تخالف تعاليم أهل الإسلام. ووضع قصاصًا على من يشك في دعوته أو يتردد في تنفيذ أوامره أن تُقطَع يده اليمنى ورجله اليسرى ويكفي لثبوت التهمة عليه شهادة شاهدين، وقد يكفي أن يدَّعي علمه ذلك بالوحي. وتأييدًا لدعوته أحرق كل كتاب أو ورقة تخالف هذه التعاليم.

وقد ضرب المهدي نقودًا باسمه هذه صورة قطعة فضية منها بحجمها الطبيعي (شكل ٣-٥١) على أحد وجهيها اسم المدينة التي ضربت فيها «أم درمان» وعند أسفل ذلك تاريخ ١٣٠٤ﻫ وهي سنة استقلالهم بالأقطار السودانية، وفي أعلاها رقم واحد يقصدون به السنة الأولى من سلطانهم. وعلى الوجه الآخر ما يشبه الطغراء يقرأ منها كلمة «مقبول» كأنهم يريدون بها أن هذه النقود مقبولة عند حكومتهم، وعند أسفل الطغراء يقرأ سنة ٥ ربما يقصدون بها السنة الخامسة من ظهور المهدي أو هجرته.
fig204
شكل ٣-٥١: نقود المهدي.

وكان المهدي قد بعث أمراءه إلى الأنحاء لبَثِّ دعوته وتأييد سلطته، وحث الناس للمهاجرة إلى أم درمان، فسعى محمد خالد في دارفور فأتم إخضاعها، وسار أبو عنجة إلى كردوفان وكانت قد سلمت إلى المهدي إلا سكان الجبال الجنوبية منها، فأخضع بعضهم وبقي البعض الآخر مستقلًّا. أما ما بقي من السودان الغربي من ضفاف النيل الأبيض إلى حدود وداي فقد دانت للمهدي برمتها.

(ش) السودان الشرقي

أما في السودان الشرقي فما زالت سنار وكسلا محاصرتين وقد دافعت حاميتهما دفاعًا حسنًا، حتى اضْطُرَّتْ إلى التسليم فلم تنقضِ سنة ١٨٨٥ حتى بلغ نفوذ المهدي وسلطته جنوبًا إلى لادو من مديرية خط الاستواء، ولم يبقَ من السودان في حوزة الحكومة المصرية إلا سواكن وحدها.

واتفق في أثناء حصار سنار أن القوة المحاصرة لها كانت تحت قيادة الأمير عبد الكريم، وهو من أقارب المهدي، فدفعته حامية سنار فأنفذ التعايشي ولد النجومي وهو من أعظم قواد الدراويش، ففتحها في أغسطس سنة ١٨٨٥ فبعث التعايشي إلى عبد الكريم أن يأتي هو ورجاله إلى أم درمان وكان قد أخذ معه لحصار سنار الجنود السودانية بلواء الخليفة محمد الشريف، وهو من أقارب المهدي أيضًا، فلما فتحت سنار على يد ولد النجومي ثم دعي عبد الكريم إلى أم درمان، حمل عبد الكريم ذلك من التعايشي محمل الإهانة له وذاع على الألسنة إذ ذاك أن عبد الكريم قال لو ضمت إليه رجاله ورجال الخليفة الشريف لأخرج الخلافة من يد التعايشي ودفعها إلى الخليفة الشريف لأنه أولى بها من ذاك. فبلغ ذلك الكلام مسمع التعايشي فبعث إلى أخيه يعقوب وهو عمدته وقائد جنده وأخبره الخبر وأوصاه أن يكون الجند على استعداد عند وصول عبد الكريم، فلما وصل عبد الكريم لاقاه التعايشي بالتحية والتهنئة وأثنى على ما بذله في حصار سنار، ثم شرفه وبعث إلى الخليفتين وسائر الأشراف (أقارب المهدي) فأدخلهم غرفة داخلية، ولما استتب بهم المقام أمر كاتبه فتلا عليهم منشورًا كان قد كتبه المهدي في الأبيض يحرض أتباعه به على طاعة التعايشي.

فلما تمت تلاوة المنشور قال عبد الله: إن عبد الكريم خائن. فأنكروا ذلك عليه ودافعوا عن صداقته وأمانته، فتظاهر بالعفو عنه ولكنه اشترط إخراج الجنود السودانية من قيادته إلى قيادة أخيه يعقوب، فقبل الشريف وسائر الأقارب بذلك رغم إرادتهم ثم أشار التعايشي إلى الخليفة علي ولد الحلو بطرف عينه أن يجددوا المبايعة ويمين الطاعة، فوضعوا أيديهم على القرآن، وأقسموا أن يسلموا الجنود السودانية وأن يحافظوا على الطاعة. ولا ريب أن الشريف ورجاله فعلوا ذلك قهرًا وفي أنفسهم حزازات يوَدون لو أنهم يذهبون بحياة التعايشي. وكانت تلك الحادثة أمثولة ذات بالٍ أصبح بها مقاوموه مقصوصي الأجنحة لا يستطيعون حراكًا، ولكنهم حقدوها عليه وأخذ كل من الفريقين ينظر إلى الآخر بعين الحذر. على أن الظواهر كانت تدل على اتحاد وارتباط متينين. أما التعايشي فما انفك يدعو الناس من الجهات البعيدة للمهاجرة إلى أم درمان ليعمرها، ويحشد فيها قوة عظمى يستعملها عند الحاجة.

(ت) حرب الأحباش

وفي أثناء ذلك تعدى بعض السودانيين على الأحباش في بلاد الحبشة، وأخربوا كنيسة من كنائسهم والتجأ المتعدون إلى قلابات وهي في بلاد الدراويش، مما يلي حدود الحبشة فحماهم حاكم المدينة، فجاء الأحباش بجند كبير تحت قيادة الراس عادل، وأخربوا البلدة وأحرقوها حتى صارت قفرًا يأوي إليها الضباع والذئاب، وساقوا الأولاد والنساء أسارى إلى الحبشة. فبلغ التعايشي ذلك فكتب إلى يوحنا نجاشي الحبشة إذ ذاك أن يرسل الأسرى ويعين الفدية التي يريدها عنهم، ولكنه بعث أيضًا يونس أحد قواده بجند إلى قلابات، وأمره أن يحصنها ويقيم فيها حتى يأتيه أمر آخر.

وبعد قليل جاء نبأ أن يونس في ضيق، فبعث أبا عنجة يتولى قيادة الدراويش في قلابات فسار في جنده وأنقذه من ضيقه. وقبض على ١١ أميرًا ظهر أنهم تآمروا على قتل يونس وبعث إلى الخليفة يستشيره في أمرهم فبعث إليه أن يقتلهم ثم ندم، فبعث أن لا يفعل ولكن سبق السيف العذل.

فجمع أبو عنجة هذه القوة وسار نحو راس عادل لينتقم منه فوُفِّقَ في هذه الحملة على غير انتظار وتغلَّب على رجال راس عادل وأخرجهم من محلتهم، واستولى على الخيم والمؤن وكل الأمتعة وأسر أمراؤه راس عادل وابنته. وكأنه بهذه الغلبة قد فتح كل مقاطعة امحرة، فسار توًّا إلى غندر على أمل أن يلاقي فيها خزائن وأموالًا، فلم يجِد شيئًا فأحرق البلدة وعاد وهو ينهب ويسلب كل ما مَرَّ به بطريقه حتى ساقوا أمامهم قطيعًا من نساء الأحباش وأطفالهم سَوْق الأغنام، فلما وصلوا قلابات بعثوا الأسرى إلى أم درمان، فأخذ الخليفة خمسهم وضموا الباقي إلى بيت المال وقد مات منهم في الطريق مئات من الجوع والتعب، وأصبح الطريق بين قلابات وأبي حراز مملوءًا بجثث أولئك المساكين وفي جملتها جثتا ابنة راس عادل وابنه لكن المنية عاجلت أبا عنجة، فمات ولم يتجاوز ٣٢ سنة من عمره.

ثم ما لبث النجاشي ملك الحبشة أن جنَّد للانتقام من الدراويش على خراب غندر فحمل بجند كبير على قلابات، وكانت جنود أبي عنجة لا تزال هناك ولم تفقد إلا قائدها الأكبر؛ فتأهبوا للدفاع فوصل النجاشي وعسكر بالقرب من قلابات، وانتهت الحرب بهرب الأحباش وقتل ملكهم وتركوا المعسكر غنيمة للدراويش، فوجدوا في جملة الغنائم تاج النجاشي يوحنا مصنوعًا من الفضة ومحلى بالذهب وسيفه، وكتابًا مرسلًا إليه من ملكة الإنكليز فحملوا ذلك غنيمة إلى أم درمان.

(ث) فتح مصر

ومن أغرب مطامع التعايشي فتح مصر وضمها إلى مملكته على حين أن المهدي نفسه لم يجاهر بذلك صريحًا. فلما توفي هذا كتب التعايشي كتابًا إلى جلالة السلطان وآخر إلى سمو الخديوي وآخر إلى ملكة الإنكليز يطلب إليهم جميعًا أن يسلموا له ويذعنوا لسلطانه، وأرسل الكتب مع رسل خصوصيين إلى مصر، فعاد الرسل ولم ينالوا جوابًا غير الاحتقار والازدراء فشق ذلك عليه وحقده عليهم.

فلما قدر له بالفوز على الأحباش حدثته نفسه أن يجرد على مصر فيفتحها، ويقيم نخاسًا من البقارة أو التعايشة أميرًا يتولَّى حكومتها أو يأتي هو بجلالة قدره من بيته في أم درمان، فينصب عنقريه في سراي عابدين!

fig0124
شكل ٣-٥٢: مجلس التعايشي وقضاته.

ولم ير بين قواده أولى بهذه المهمة من عبد الرحمن ولد النجومي، وكان من أشد الدراويش بطشًا وأصعبهم مراسًا، وأكثرهم استهلاكًا في نصرة الدعوة، وكان قبل ظهور المهدي تاجرًا بين مصر والسودان قد خبر الأرض وعرف الطرق، فأرسله في حملة أكثرها من قبائل الجعالين والدناقلة وغيرهم ممن جاوروا مصر العليا وخالطوا سكان تلك الأقاليم، متظاهرًا أن قصده بذلك فتح مصر برجال هم أدرى بها من غيرهم. ولكن الحقيقة أنه لم يجهل الخطر الذي يهدد ذلك المشروع فلم يُدخل في تلك الحملة أحدًا من أقاربه وأبناء عشيرته، ولا من قبائل البقارة وغيرهم من عرب غربي النيل الأبيض؛ لأنهم من حزبه فأذخرهم لحين الحاجة، أما الدناقلة والجعالين فأكثرهم من حزب الخليفة محمد الشريف، وقد رأيت ما بينه وبين التعايشي وما كان من تغير قلبيهما، فما انفك هذا بعد ذلك يعتبر الشريف عدوًّا له تحت طي الخفاء فبعث أحزابه في حملته هذه، وفي نيته أنهم إذا فتحوا مصر عاد الفخر له واتسعت مملكته، وإذا انكسروا تقهقروا إلى دنقلا وقد ضعف شأنهم وتخلص هو من دسائسهم.

فجعل دنقلا محط رحال تلك الحملة وأقام يونس ولد الدغيم أميرًا على دنقلا يقيم فيها ويدير شئونها، وولد النجومي يقود الحملة ولا يعمل إلا بمشورة يونس.

فلما أعد التعايشي تلك الحملة بعث كتبًا أخرى إلى مصر، وفيها الإنذار الأخير فبقي الرسل مدة في أسوان، ثم أعيدوا بلا جواب فبعث التعايشي رأس النجاشي يوحنا إلى يونس أمير دنقلا على أن يرسله إلى وادي حلفا تهديدًا للمصريين. وأمر أن يسير ولد النجومي بحملته على مصر فلا يحرك ساكنًا في حلفا، بل يهاجم أسوان فإذا فتحها يقيم فيها حتى تأتيه أوامر أخرى.

فخرج ولد النجومي من دنقلا في مايو سنة ١٨٨٩ في جيش لا نظام له والحكومة المصرية عالمة بكل حركة من حله وترحاله. وكان سردار الجيش المصري إذ ذاك الجنرال غرانفل باشا المشهور بالتأنِّي وصِدق الرَّوِيَّة فضلًا عن الرقة ولين الجانب فحصن حلفا وأسوان وسائر الحدود.

فلما دنت حملة الدراويش من أرجين بجوار حلفا اقتربت شرذمة منهم إلى النيل، وولد النجومي لا يعلم بها، فخرجت إليها الحامية المصرية بقيادة وودهاوس باشا فكسروها شر كسرة.

وكان غرانفل باشا قد خرج من أسوان فبعث إلى ولد النجومي يبين له خطر موقفه، وينصح له أن يُسَلِّم فيَسْلم فأبى فسار السردار بجيش معظمه على البر الغربي للنيل وبعضه على البر الشرقي؛ لأن الدراويش كانوا قادمين على البر الغربي، جرت بينهم وبين الحاميات مناوشات ليست بذات بال، حتى وصلوا توشكي وهناك حصلت الواقعة التي قضت على تلك الحملة، فقُتِل قائدها وتشتت شملها وإليك التفصيل.

(ذ) واقعة توشكي

توشكي قرية حقيرة على البر الشرقي، وبعضها على البر الغربي للنيل بين كروسكو وحلفا على بضعة أميال من هيكل أبي سمبل شَمالًا مؤلفة من أعشاش صغيرة من الطوب والقش متفرقة على ضفة النيل في مسافة من الأرض على موازاة النيل، يبلغ طولها ثلاثة أميال وعرضها منه إلى الصحراء نحو نصف ميل وفيها بعض النخيل.

وفي البر الغربي مقابل توشكي على بعد أربعة أميال منها جنوبًا سلسلة تلال عالية من حجر الغرانيت، تمتد من الضفة غربًا نحو ثلاثة أميال في الصحراء، وعند طرف هذه السلسلة وإلى جنوبيها كان معسكر الدراويش بقيادة ولد النجومي، وعلى نحو تلك المسافة شمالًا سلسلة أخرى. وبين السلسلتين سهل متصل بالصحراء وفيه حصلت الواقعة.

وكان السردار مقيمًا في توشكي فبعث طلائعه في صباح ٣ أغسطس سنة ١٨٨٩ باكرًا لاستكشاف معسكر العدو، فعادوا وأخبروا بأن العرب يستعدون للمسير، فخرج السردار لمجرد الاستكشاف، فلم يكَد يشرف على معسكرهم حتى رآهم هاجمين كالجراد، فبعث إلى الجند في توشكي وكان بعضهم لم يتناول طعامًا ولا تهيأ للمسير، فساروا بأسرع من لَمح البصر وهم لم يأكلوا بعدُ ولا حملوا من الماء إلا شيئًا قليلًا، فصمم السردار إذ ذلك أن لا يكف عن الدراويش حتى يشتت شملهم في ذلك اليوم، وكان قد علم بما كانوا فيه من الضيق والجوع. وهاك أسماء الأُرَط التي شهدت تلك الواقعة وهي الأرطة التاسعة بقيادة البكباشي لويد، والعاشرة بقيادة البكباشي دن والثالية عشرة بقيادة اليوزباشي كمستر والطبجية بقيادة البكباشي رندل، فضلًا عن البيادة الراكبين والأورطة الثانية من البيادة جاءت متأخرة، وقال الذين شهدوا واقعة توشكي إن الأرط السودانية عملت في ذلك اليوم أعمالًا عجيبة، وبالغوا برغبتهم في الحرب حتى عصوا أوامر قوادهم لمَّا دعوهم إلى الكف عنها، والخلاصة أن الواقعة المشار إليها لم تنقضِ إلى الساعة الثانية بعد الظهر من ذلك اليوم (٣ أغسطس سنة ١٨٨٩)، وبلغ عدد قتلى الدراويش ١٢٠٠ قتيل وزاد عدد أسراهم على أربعة آلاف، وفيهم النساء والأولاد فضلًا عن الأسلاب والأعلامم والسيوف والرماح، ولم يُقتَل من الجيش المصري إلا ٢٥ وجرح ١٤٠.

ووُجِد بين قتلى الدراويش إذ ذاك أعظم أمراء تلك الحملة ما عدا عثمان الأزرق وعلي ولد سعد وحسن النجومي وميرغني سوار الذهب وشيخ الأبيض، فقد نجا هؤلاء بنحو ألف وأربعمائة شريد وهم الذين استطاعوا الفرار من تلك الموقعة فقط. أما ولد النجومي فقد قُتِلَ وحز رأسه وجيء به إلى السردار.

فكان ذلك النصر مبينًا سُرَّ به المغفور له الخديوي السابق فبعث إلى السردار يُهَنِّئُهُ به لعلمه أنه أمثولة علمت التعايشي ما لم يكُن يعلم. أما الذين قُتِلُوا من الجنود المصرية فابتَنَوْا لهم مقامًا قرب مكان الواقعة ضموهم إليه وبنوا فوقه قبرًا نقشوا فوقه باللغة العربية حفرًا على واجهة القبر كتابة هذا نصها:

شيد هذا الأثر تذكارًا لواقعة توشكي التي حصلت في ٦ الحجة سنة ١٣٠٦ﻫ وانهزم فيها جيش العصاة السوداني المرسل تحت إمرة عبد الرحمن ولد النجومي فتشتتوا بعد قتل أميرهم، وكان الجيش المصري تحت قيادة سعادة السردار غرانفل باشا وفي هذا القبر دُفِنَتْ جثث العساكر المصرية الذين استشهدوا وهم بالميدان.

وبعد الواقعة سار الخديوي السابق في بعض رجال معيته لتفقُّد أحوال الحدود، فركب إلى مكان تلك الواقعة ووقف أمام قبر شهدائها يتأمل ما أظهره جنده من البسالة في ذلك القتال. وقد نشرنا رسمه رحمه الله واقفًا أمام ذلك القبر وقد أسند رأسه على كفه متأملًا (انظر شكل ٣-٥٣).
قحط عظيم: وكان خبر ذلك الانكسار صدمة قوية على الدراويش في أم درمان، فعرفوا قدر أنفسهم ووقفوا عند حدهم، ولكنهم لم يكادوا يتخلصون من عواقب تلك الكسرة حتى داهمهم قحط غلت فيه أثمان الحِنطة وقل الزاد واشتدت وطأة الجوع على الفقراء حتى أكلوا سيور الجلد التي يشدون بها مقاعدهم؛ فكثر النهب وازداد الضغط.

وكانت وطأة الجوع في الغالب أشد على المارِّين بأم درمان والقادمين إليها مما بأهلها، حتى اتصلت الحاجة ببعضهم إلى بيع أولادهم بيع الرقيق؛ إنقاذًا لهم من الموت جوعًا. قال سلاطين: «وكانت الجثث ملقاة في الشوارع والمنازل مئات وليس من يدفنها، فأصدر التعايشي منشورًا قال فيه إن كل صاحب منزل مطالب بدفن الجثث التي تشاهد ملقاة قرب منزله، فقلَّت الجثث على الشوارع ولكن بعضهم كانوا يحفرون حفرًا بقرب المنازل يدفنونها بها تخلصًا من مشقة الحمل إلى المدافن. وكانت مياه النيلين الأزرق والأبيض تجري أمام أم درمان حاملة مئات من الجثث فارق أصحابها الحياة على ضفاف النيل أو بالقرب منها، فألقوها أهلهم أو أصحابهم فيه.» وخلاصة القول أن الجوع أهلك من الدراويش أضعاف ما أبادته الحروب منذ ظهور المهدي إلى ذلك اليوم. ورافق هذا الضيق جراد جارف أكل ما بقي من الزرع.

على أن التعايشي ما زال يبث دعاته في سائر الأنحاء لتأييد دعوته، وكانت بقية من خط الاستواء لا تزال على ولاء الحكومة بقيادة أمين باشا، فأنفذت ألمانيا حملة بقيادة ستانلي الرَّحَّالة الشهير لإنقاذ أمين باشا، فقاست في سبيل ذلك مشقات جسيمة تمكنت بعدها من الخروج به وببعض الحامية، فدخلت مديرية خط الاستواء بحوزة الدراويش، ولم يبقَ للحكومة من السودان المصري إلا سواكن وطوكر.

fig206
شكل ٣-٥٣: توفيق باشا في توشكي.

وقد فصلنا تاريخ التعايشي وأصله وصفاته وأخلاقه ومناقبه وحكومته وإدارتها، من حيث الجند والمالية والقضاء والبريد وسائر أحوالها مطولًا في الجزء الأول من كتابنا تراجم مشاهير الشرق، نكتفي منها هنا بوصف حكومته:

(ض) حكومة التعايشي وإدارتها وأعمالها

المالية

تسمى المالية عند الدراويش «بيت المال» أو هي بيوت المال يختص كل بيت منها بنوع من أنواع الدخل والخرج أهمها خمسة وهي: (١) بيت المال العمومي. (٢) بيت مال الملازمين. (٣) بيت مال الخُمس للخليفة. (٤) بيت مال ورشة الحربية. (٥) بيت مال ضابطة السوق.

fig0125
شكل ٣-٥٤: عبد الله التعايشي.
  • بيت المال العمومي: هو عبارة عن الخزينة العمومية لمملكة الدراويش يجمع دخلها من المصادر الآتية: (١) الزكاة والفطرة. (٢) الأسلاب والغنائم المكتسبة بالحرب. (٣) العشور وهي ما يدفعه التجار على بضائعهم (المكس). (٤) ضريبة الصمغ. (٥) ضريبة القوارب. (٦) قروض يعقدها بيت المال مع التجار ولا ينوي دفعها. (٧) ضرائب العبور في النيل من ضفة إلى أخرى (المعديات). (٨) غلة الأرض الواقعة غربي النيل الأبيض وشرقي النيل الأزرق وهي تمتد جنوبًا إلى كركوج وفشوده وشمالًا إلى حجر العسل. (٩) معين يستولي عليه بيت المال العمومي من بيوت المال الأخرى.

    وأما نفقات بيت المال العمومي فهي: (١) نفقات نقل الجيوش ومؤنهم وذخائرهم إلى المديريات والمقاطعات. (٢) أعطيات الجند (رواتب الجهادية). (٣) رواتب المستخدمين. (٤) الصدقات.

  • بيت مال الملازمين: ويراد به خزينة الملازمين وهم جند التعايشي الخصوصيين ومنهم حراسه وياورانه. يجتمع دخل هذه الخزينة من محاصيل أرض الجزيرة (بين النيلين الأبيض والأزرق) وأما نفقاتها فمحصورة في رواتب الملازمين.
  • بيت مال الخمس للخليفة: وهو أشبه شيء بالخزينة الخاصة ودخله من المصادر الآتية: (١) معظم ما يَفضُل في خزائن المديريات بعد نفقاتها المعلومة. (٢) محاصيل الجزائر الواقعة في النيل وفي جملتها جزيرة توتي تجاه الخرطوم ومحصول أرض الغنيمة ومنها حلفاية وكملين، وكانتا قبلًا من أملاك الخاصة الخديوية. (٣) عشر البضائع التي ترد من بربر إلى أم درمان. (٤) أثمان العبيد الذين يرسلون من المديريات. (٥) محصول أكثر البواخر والسفن. أما خرج بيت مال الخليفة فمحصور في نفقات منزله الخصوصي.
    fig0126
    شكل ٣-٥٥: خارطة الخرطوم وأم درمان في زمن التعايشي.
  • بيت مال ورشة الحربية: ويشبه خزينة الحربية عندنا دخله من: (١) غلة جنائن الخرطوم. (٢) محصول بعض السواقي بجوار الخرطوم. (٣) العاج الوارد من خط الاستواء. وخرجه من: (١) نفقات البحرية. (٢) نفقات الترسانة ويسمونها بيت الأمانة. (٣) استخراج ملح البارود وتنقيته. (٤) نفقات معمل الأسلحة.
  • بيت مال ضابطة السوق: وهي خزينة الضابطة دخله من أموال السكيرين والمقامرين التي يحكم التعايشي بضبطها ومن ضريبة الحوانيت. وأما نفقاته فعلى ما يأتي: (١) رواتب الضابطة من الأنفار والضباط. (٢) نفقات بيت الضيافة وهو ليعقوب أخي عبد الله التعايشي. (٣) نفقات بناء السور الكبير لأم درمان.

    هذه هي أقسام المالية من الدخل والخرج أما المقادير التي تدخل وتخرج فلا تتيسر معرفتها.

fig0127
شكل ٣-٥٦: عبد الله التعايشي يقطع النيل ويحرض رجاله علي القتال.

النقود والتجارة

لما قام المهدي بدعوته ووُفِّقَ إلى فتح المديريات استولى على خزائنها وأموال أهلها فكان ينفق مما وصل إلي يديه من ذلك وهي النقود الدارجة في السودان على عهد الحكومة الميرية، أهمها الريال المجيدي والريال أبو مدفع، فلما اتسعت مملكته ونفِدت تلك الأموال أخذ في ضرب النقود باسمه أشار عليه بضربها أحمد ولد سليمان فضرب نقودًا فضية شبيهة بالريال المصري نشرنا رسمها وجنيهات شبيهة بالجنيهات المصرية. ولكنهم لم يكونوا يضبطون المقادير اللازمة من كل معدن منها. وكان الذهب قليلًا بين أيديهم فكَفُّوا عن ضرب الجنيه وأكثروا من ضرب النقود الفضية فضربوا منها ضربات عديدة تُعرف بأسماء خاصة بها منها «ريال المهدي» وهذا أحسنها كلها ومنها «مقبول» و«أبو سدر» وكلاهما من ضرب القيرافوي. و«أبو كيس» وعليه رسم رمحين متصالبين. و«العملة الجديدة». على أنهم أخذوا يُنقصون مقدار الفضة بالنسبة إلى النحاس شيئًا فشيئًا حتى صارت نسبة الفضة إلى النحاس كنسبة ٢ إلى ٥ وكانت في بادئ الرأي ٧ إلى ١ أي أن الريال كان يحتوي سبعة أجزاء من الفضة وجزءًا من النحاس وهو ريال المهدي فصار يحتوي جزءين من الفضة وخمسة من النحاس وذلك دليل على فقر السودان وفساد حكومته. على أن دار ضرب النقود كان يتخذها كبار الدراويش تجارة يكتسبون بها أموالًا طائلة لأنها تُعطى حكرًا أو ضمانة، ومن قوانينها أن يرأسها اثنان معًا يدفع الواحد منهما ستة آلاف ريال كل شهر وما يضربانه من النقود يجب أن يكون مقبولًا لدى التُّجَّار وغيرهم فإذا اعترض أحد على صحتها أو تمنَّع عن قبولها فعقابه الجَلد أو سلب الأموال. فالريال صار يستبدله تجار أم درمان بثمانية ريالات من العملة الجديدة ويستبدلون الريال أبا مدفع بخمسة ريالات فاضطروا ملافاة لما يلحقهم من الخسارة بهذه المعاملة أن يرفعوا أثمان بضائعهم حتى بلغ ثمن شقة البفتة الزرقاء التي يصطنعون منها ثياب النساء ستة ريالات وكان ثمنها على عهد الحكومة المصرية ثلاثة أرباع الريال. وأصبح رطل السكر (الرطل ١٤٤ درهمًا) بريالين. ومن الغريب أن غلاء الأثمان قاصر على البضائع الواردة من مصر أما ما يُجلب من السودان فأثمانه بخسة بالنسبة إلى تلك؛ فالجمل مثلًا يساوي ستين ريالًا والبقرة مائة ريال وأردب الذرة ستة ريالات والخروف خمسة ريالات فأكثر.

قواته

وأما قواته ومقدار ما كان عنده من الذخيرة والمئونة قُبَيْلَ ذهاب دولته فمعظمها من المشاة حمَلة السيوف والرماح، وعددهم ٤٦٠٠٠ ومن الخيالة ٦٦٠٠ ومن العساكر الجهادية ٣٤٣٥٠ وجملة ذلك نحو مائة ألف وخمسة آلاف مقاتل وعدد الأسلحة ٧٤ مدفعًا و٤٠٣٥٠ بندقية، هذه قوات التعايشي الرسمية ولكنها كانت تتضاعف بما ينضم إليها من القبائل القائمة بنصرته.

القضاء

كان القضاء منوطًا عندهم بالقضاة وكبيرهم يسمى «قاضي السلام» وجميعهم آلات صَمَّاء بيد التعايشي، فلا يصدرون حكمًا إلا كما يوحيه هو إليهم ما خلا القضايا الطفيفة من الأحوال الشخصية وما شاكَلها فقضاة الدراويش بهذا الاعتبار بين جاذبَيْن قويَّيْن ضميرهم والأحكام الشرعية من جهة وإردة التعايشي من جهة أخرى وهاك أسماء قضاة أم درمان عام ١٨٩٥.

  • (١)

    حسين ولد زهرة من قبيلة الجعالين.

  • (٢)

    سليمان ولد الحجاز من قبيلة الحجماب.

  • (٣)

    حسين ولد قيسو من قبيلة الحمر.

  • (٤)

    أحمد ولد حمدان من قبيلة العراقين.

  • (٥)

    عثمان ولد أحمد من قبيلة البطاحين.

  • (٦)

    عبد القادر ولد أم مريم وكان قاضي كلا كلا على عهد الحكومة المصرية.

  • (٧)

    محمد ولد المفتي وهو قاضي المواد الجزئية بين الملازمين.

وهناك قضاة آخرون للقبائل الغربية إذا حضروا الجلسة لا يُصدِرون حكمًا بل يُبدُون رأيهم. أما شيخ الإسلام فهو حسين ولد زهرة المتقدم ذكره أول القضاء تلقَّى الفقه في مدرسة الجامع الأزهر وهو أعلم أهل السودان كافَّة مع الميل إلى العدالة، وكثيرًا ما أصدر أحكامًا تنطبق على مقتضى الشريعة الغَرَّاء وتخالف إرادة التعايشي فأصبح التعايشي غير راضٍ عنه تمام الرضى وقَلَّمَا يدعوه لحضور الجلسات.

وأساس الأحكام عندهم الشريعة الإسلامية وتعاليم المهدي التي أشرنا إليها في كلامنا عن أوصاف المهدي وتعاليمه، ويزعمون أن هذه التعاليم إنما وضعها المهدي لإحياء ما كاد يندثر من أحكام الشريعة الغراء بالإهمال. وأهم تلك التعاليم الاعتقاد بأن محمد أحمد هو المهدي المنتظر حقيقةً ومن شك في ذلك فعقابه القتل.

وواجبات قاضي الملازمين الحكم فيما يعرض بين الملازمين أو بينهم وبين عامة الناس وفي الحالة الثانية فالحق دائمًا في جانب الملازمين. وهناك قاضيان ملحقان ببيت المال ينظران في القضايا المتعلقة بالأحكام الشرعية من جهة بيع الرقيق وشرائه. وعندهم قاضٍ يقيم في السوق ليحكم في الأمور الطفيفة التي تعرض هناك.

(ظ) فتح أم درمان وذهاب دولة الدراويش

fig0128
شكل ٣-٥٧: كتشنر باشا بعد فتح أم درمان.
تلك حال حكومة الدراويش سنة ١٨٩٦ ثم توالى عليها النحس، وجَنَّدَتِ الحكومتان المصرية والإنكليزية لقهرها بحملة مختلطة من الإنكليز والمصريين بقيادة السردار كتشنر باشا، وجرت في أثناء الطريق من حلفا إلى الخرطوم وقائع قاسى فيها الجند مشاقَّ عديدة، من جملتها واقعة الأتبرة وفيها قبضوا على الأمير محمود ابن عم التعايشي، وقيد أسيرًا كما ترى في شكل ٣-٥٨ مع نحو ٢٠٠٠ من رجاله وما كان معهم من الغنائم، واستعد السردار من هناك للزحف على أم درمان.

وبلغ التعايشي ذلك فجمع ذوي شوراه، فأشار عليه بعضهم بالهجرة فغضب وأمر بضرب ذلك الناصح وقال: «إني محارب حتى أُقتَل.» وأمر بالتحصين وبناء الطوابي لاتقاء نيران مدافع العدو التي ستُطلق عليهم من النيل، ولم يُجْدِهِ ذلك نفعًا فإن الجنود المتحدة وصلت أم درمان في ٢ سبتمبر سنة ١٨٩٨، وخرج التعايشي لملاقاتها، وبعد ثلاث هجمات متوالية اضْطُرَّ التعايشي للفرار بعد أن يئس من الفوز، وتحقق أن أخاه يعقوب قد مات. واحتل الجند المتحد أم درمان ورفعوا عليها الرايتين المصرية والإنكليزية، ولما علم السردار بفراره بعث في أثره كوكبة من السواري، ومعهم سلاطين باشا برًّا وأرسل مدرعتين بحرًا فعادوا ولم يدركوه.

fig211
شكل ٣-٥٨: الأمير محمود بن عم التعايشي وهو أسير.

وفي اليوم التالي استولوا على أوراق الخليفة وكُتُبه من بيته. وأمر السردار بنسف قبة المهدي ونبش قبره، وبُعِثَتِ الجمجمة إلى معرض التحف في لندن وبُعثِرَت سائر عظامه، ثم قصدوا بيت يعقوب أخي الخليفة وكانوا يظنون المال فيه فلم يجِدوا شيئًا، وتحققوا بعدئذٍ أن بعض رجال يعقوب لما تحققوا موته أتوا وخلعوا الأبواب وأخذوا الأموال، ثم ذهبوا إلى بيت المال فلم يجدوا فيه ما يستحق الذكر إلا ٢٠٠ قنطار عاج. ثم ذهبوا إلى سجن الخليفة، وأطلقوا من كان فيه من المساجين وكلهم من موظفي الحكومة وعددهم نحو ١٤٠٠ رجل بين ملكي وعسكري.

وبعد قليل نزل السردار كتشنر باشا إلى مصر، ونال على هذا الفتح مكافأة جزيلة وسُمِّيَ لورد الخرطوم ورُقِّيَ الكولونيل ونجت بك مدير قلم المخابرات إلى رتبة لواء، وسمي إدجوتنت جنرال للجيش المصري. وحاولوا القبض على التعايشي عبثًا وكانوا كلما طلبوه من مكان فَرَّ إلى سواه حتى علم ونجت باشا في أواخر سنة ١٨٩٩ أن التعايشي يتحفَّز للهجوم على أم درمان، وعلم بمكانه فحمل عليه وحاربه في جديد حتى قُتِلَ في ٢٤ نوفمبر من تلك السنة، وقتل معه الخليفة علي ولد حلو وأحمد فضيل والسنوسي أحمد أخو الخليفة من أمه وهارون محمد أخوه وغيرهم، وغنِموا ما كان معهم من الذخيرة والأموال وانقضت بذلك دولة الدراويش.

وصارت السودان من ذلك الحين تحت سيطرة الدولتين الإنكليزية والمصرية، وسنذكر نص الوفاق في كلامنا عن ولاية سمو الخديوي الحالي.

(٦-٥) عودٌ إلى ولاية توفيق باشا

قد فرغنا من الكلام على الحوادث السودانية إلى آخرها وإن تجاوزنا زمن الخديوي السابق رغبة في ترابط الحوادث، فلنعد إلى ما كان من أحوال مصر بعد ما ذكرناه على أثر الحوادث العرابية ونفي العرابيين فنقول: أول شيء باشرته إنكلترا بعد قهر العرابيين وإعادة السيادة إلى الجناب الخديوي، أنها أنفذت اللورد دوفرين معتَمَدًا من قبلها لتسوية المسائل المصرية وتنظيم تقرير بشأنها، ولم يكُن ذلك برضا الباب العالي. وأخذ اللورد دوفرين منذ وصوله إلى القاهرة يجتمع بالخديوي والوزراء، ويتداول معهم في المسائل التي يجب النظر فيها بعد أن درس أحوال البلاد، وبحث بنفسه عن الأمور التي كان عازمًا على وضعها. ثم حرر تقريره المشهور وأرسله إلى لندن في ٦ فبراير سنة ١٨٨٣م بحث فيه بحثًا دقيقًا في حالة مصر السياسية والقضائية والمالية، ودقق على الخصوص بديون الفلاحين، ثم شرع الإنكليز في إلغاء المراقبة الإنكليزية الفرنساوية للانفراد بالعمل، فكبر ذلك على فرنسا ولكنها لم تستطع أمرًا يمنع إلغاءها، فأُلغِيَت وجُعِلَ في مكانها بأمر الحضرة الخديوية موظف مصري دعوه مستشارًا ماليًّا، وله الحق أن يحضر في جلسات مجلس النظار، فتعين السير أوكلاند كولفن في هذا المنصب.

(أ) إصلاحات جديدة

وفي أول مايو سنة ١٨٨٣ صدر الأمر العالي بتشكيل المجالس الجديدة وغيرها على هذه الصورة:
  • مجالس المديريات: مجلس في كل مديرية ويكون لها أن تقرر رسومًا فوق العادة لصرفها في منافع عمومية تتعلق بالمديرية، إنما لا تكون قراراتها في هذا الشأن قطعية إلا بعد تصديق الحكومة عليها.
  • مجلس شورى القوانين: وفائدته النظر في القوانين التي تُسَنُّ حديثًا قبل نشرها ولا يجوز إصدار قانون أو أمر يشتمل على لائحة إدارة عمومية ما لم يتقدم ابتداء إلى هذا المجلس لأخذ رأيه فيه. وإن لم تعول الحكومة على رأيه فعليها أن تعلنه بالأسباب التي أوجبت ذلك إنما لا يترتب على إعلانه بهذه الأسباب جواز مناقشة فيها.
    fig0129
    شكل ٣-٥٩: اللورد دوفرين.
  • الجمعية العمومية: وهذه لا يجوز ربط أموال جديدة أو رسوم على منقولات أو عقارات أو عوائد شخصية في القطر المصري إلا بعد مباحثة الجمعية العمومية في ذلك وإقرارها عليه.
  • مجلس شورى الحكومة: صدر الأمر بتشكيله وتأجل بيان أعماله.

ثم شرعت الحكومة في تنظيم الجيش المصري الجديد بعدما ألغت الجيش القديم على ما تقدم، فانتخبت من الضباط من لم يكُن له يد في الحوادث العرابية، وأخذت بعد ذلك في تنظيم الجندرمة والبوليس، وجعلت السير أفلن وود قائدًا عامًّا للجيش المصري وباكر باشا قائدًا للجندرمة والبوليس، فكان عدد الجندرمة ٢٠٠٠ فارس و٣٠٠٠ ماشٍ، ثم تعيَّن الجنرال السير أفلن وود سردارًا للجيش المصري ورئيسًا لأركان حربه، فاختار لمساعدته عددًا من الضباط الإنكليز، جعلهم في أركان حربه وعهد إليهم قيادة الفرق لتعليمها الحركات العسكرية.

fig0130
شكل ٣-٦٠: مختار باشا الغازي.

ثم نظمت المجالس المحلية ووضع لها قوانين عادلة، وتعين لها رجال يقبضون على أَزِمَّتِهَا وقد انصرف إليها هَمُّ اللورد دوفرين، فتشكلت لجنة تحت رئاسة فخري باشا لانتقاء اللائقين الذين يجب انتخابهم ليعهد إليهم بالعمل والإدارة، واهتم مجلس النظار في مسألة القضاة الأوروبيين فقررت لجنة التعديل أن يكون في كل مجلس ابتدائي أوروبيان وفي الاستئنافي أربعة. وفي ٨ شعبان سنة ١٣٠٠ﻫ/١٤ يونيو سنة ١٨٨٣م صدر الأمر الخديوي بترتيب هذه المحاكم ولائحة قوانينها. ثم صدر الأمر الخديوي بكل من القانون المدني والتجارة البرية والبحرية والمرافعات وتحقيق الجنايات.

ثم أشارت إنكلترا على مصر بعد تبديد جيش هيكس باشا بإخلاء السودان. فقبلت ولم يقبل شريف باشا رئيس وزارتها فاستعفى وخلفه نوبار باشا في ٨ يناير سنة ١٨٨٤، وتكاثرت الإشاعات على أثر ذلك عن مقاصد إنكلترا بمصر وكثُر القيل والقال، حتى بين رجال إنكلترا أنفسهم. ثم عقد مؤتمر دولي في يونيو سنة ١٨٨٤ في لندن تحت رئاسة اللورد غرانفيل ناظر خارجية إنكلترا للبحث في أمور كثيرة تتعلق بمصر، فقرر تعديلات كثيرة انتهت بلا نتيجة فلا حاجة إلى ذكرها.

وفي ذي القعدة سنة ١٣٠١ﻫ/أوائل سبتمبر سنة ١٨٨٤م وفد على القطر المصري اللورد نورثبروك معتمَدًا من إنكلترا للنظر في المسألة المالية وأحوال الإدارة الداخلية مستصحبًا معه القاضي الهندي سميع الله خان، بناءً على رغبة اللورد في انتخاب قاضٍ مسلم يصحبه إلى مصر ويكون شريكًا له في هذه المهمة، فتحدث الناس كثيرًا بسبب قدوم هذا المعتمد. أما هو فأخذ في ملاحظة ما أتى من أجله وطاف البلاد شمالًا وجنوبًا. وبعد أن قضى أيامًا طِوَالًا عاد إلى بلاده وحرر تقريرًا رفعه إلى حكومته، فلم يحُز قبولًا فنسجت عليه عناكب النسيان.

وعاد الباب العالي إلى الاحتجاج على الاحتلال الإنكليزي، وبعد المخابرة مع إنكلترا تم الاتفاق في أكتوبر سنة ١٨٨٥م على إرسال مختار باشا الغازي معتمدًا عن الدولة العلية في مصر وأن ترسل إنكلترا معه معتمدًا اسمه السير وولف. فجاء مختار باشا وما زال مقيمًا إلى عهد قريب احتجاجًا حيًّا على الاحتلال الإنكليزي.

(ب) النقود المصرية الجديدة

fig214
شكل ٣-٦١: النقود المصرية الجديدة.

ثم اهتمت الحكومة بإصلاح نقودها بإنشاء نقود جديدة، وما زالت المسألة تحت البحث إلى أواخر سنة ١٨٨٥م، فصدر أمر عالٍ بتاريخ ٧ صفر سنة ١٣٠٣ﻫ أو ١٤ نوفمبر سنة ١٨٨٥م مؤذِن بضربها. وفي أواخر سنة ١٨٨٧م ظهرت وتداولتها الأيدي وهي مبنية على حساب الكسور العشرية تسهيلًا للمعاملة. وكيفية ذلك أنهم جعلوا قيمة الجنيه المصري مائة غرش كما كان قبلًا وقسموه إلى ألف جزءٍ دعوا الواحد منها مليمًا؛ أي جزء من ألف. فالمليم هو جزء من ألف من الجنيه المصري، والغرش عشرة مليمات والريال مائتا مليم (عشرون غرشًا) وهكذا. والجنيه وأجزاؤه مصنوعة من الذهب، والريالات وأجزاؤها من الفضة والمليم ومركَّباته إلى أبي العشر مليمات من النيكل. وقسموا المليم إلى نصفين يعرف الواحد منهما بنصف عشر الغرش، وقسموا كلًّا من هذين القسمين إلى نصفين يعرف الواحد منهما بربع عشر الغرش؛ أي جزء من أربعين من الغرش وهي البارة، وجميع أجزاء المليم مصنوعة من النحاس.

وترى في شكل ٣-٦١ مثال النقود المضروبة حديثًا وهذه القطعة تعرف بنصف ريال وقيمتها عشرة غروش أو مائة مليم. وترى على أحد وجهيها من الأسفل تاريخ سنة ١٢٩٣ﻫ وهي السنة التي تولى بها السلطان عبد الحميد الخلافة العثمانية. ومن الأعلى رقم عشرة وهي السنة العاشرة من توليته وفيها ضُرِبَتْ هذه النقود. وترى على الوجه الآخر الطغراء العثمانية باسم عبد الحميد وإلى أسفلها رقم عشرة تحته حرف ش للدلالة على قيمة هذه القطعة أي عشرة غروش.

أما قيم النقود الأجنبية بالنسبة للنقود المصرية فعلى الوجه الآتي:

النقود الأجنبية بارة غروش صاغ أو مليمًا
الليرة الإنكليزية تساوي ٢٠ ٩٧ ٩٧٥
الليرة العثمانية تساوي ٣٠ ٨٧ ٨٧٧٫٥
الليرة الفرنساوية (فانتي) ٠٦ ٧٧ ٧٧١٫٥

ومتى عرفت قيم الليرات يمكنك استخراج قيم أجزائها.

وفي السنة التالية (١٥ أبريل سنة ١٨٨٦) قررت الحكومة المصرية اقتضاء ضرائب المنازل من الأجانب كما كانت تقتضيها من الوطنيين. وكان الأجانب معفين منها إلى ذلك الحين.

(ﺟ) وفاق بشأن الجلاء

وفي ١٧ ربيع آخر سنة ١٣٠٤ﻫ أو ١٣ يناير سنة ١٨٨٧م أَلَحَّ الباب العالي على الحكومة الإنكليزية أن تعين زمن إنجلاء جيوشها عن القطر المصري. فأجابت أنها لا يمكنها ذلك إلا متى استتب النظام فيها. وفي ٣ فبراير تقرر أن يكون جيش الاحتلال منحصرًا في ثلاثة مراكز فيقيم في القاهرة ٢٩٠٠ جندي وفي الإسكندرية ٩٠٠ وفي أسوان ٤٠٠٠. وفي ١٥ جمادى الأولى أو ٩ فبراير اقترح السير وولف معتمَد إنكلترا في الأستانة على الباب العالي الاقتراحات الآتية بما يتعلق بمصر وهي:
  • (١)

    استقلال مصر تحت سيادة جلالة السلطان وإلغاء العهود والامتيازات القنصلية.

  • (٢)

    أن تكون حالة مصر من قبيل الحياد على مثال حالة بلجيكا.

  • (٣)

    حرية المرور في قتال السوس في زمني الحرب والسلم.

  • (٤)

    إخلاء إنكلترا للقطر المصري بعد أن تُجمع الدول على وجوب ذلك.

فتلقى جلال السلطان هذه الاقتراحات بفتور وطلب أن يتقدم كل ذلك تحديد إنكلترا زمن الجلاء. وبعد النظر في هذه الاقتراحات مدة يومين رفضت.

و٢٥ رجب سنة ١٣٠٤ﻫ أو ١٩ أبريل سنة ١٨٨٧م توفي شريف باشا رئيس مجلس النظار سابقًا وهو في أوروبا يسعى في ترويح النفس فأسف الجميع على فَقْدِهِ وحُمِلَتْ جثته إلى مصر ودُفِنَتْ فيها.

وفي ١١ شعبان أو ٥ مايو منها عرضت إنكلترا على الباب العالي أن يكون زمن احتلالها لمصر خمس سنوات، فطلب الباب العالي أن يكون ثلاث سنوات ولم يتقرر شيء. وفي أوائل يونيو عرض على الباب العالي وفاق بينه وبين إنكلترا بشأن مصر وهاك نصه:
  • (١)

    تبقى مصر كما هي حسب نصوص الفرمانات السلطانية.

  • (٢)

    يبقى خليج السويس على الحياد وتضمن الدول سلامة مصر.

  • (٣)

    تبقى العساكر الإنكليزية في مصر مدة ٣ سنوات وعند انقضائها يلبث الضباط الإنكليز في رئاسة الجيش المصري سنتين.

  • (٤)

    لا تخرج إنكلترا عساكرها من مصر بعد ختام السنة الثالثة من التوقيع على الوفاق إذا حدث اضطراب جديد في مصر داخليًّا كان أم خارجيًّا.

  • (٥)

    يحق لإنكلترا احتلال مصر بمساعدة العساكر العثمانية إذا وقع اختلال بها أو خشي أن ترسل دولة أجنبية عساكرها إلى مصر.

  • (٦)

    تستدعي الدولة العلية وإنكلترا بقية الدول للتصديق على هذا الوفاق وتطلبان من الدولة إجراء بعض التعديلات في المعاهدات الدولية المخولة للأجانب في مصر جملة امتيازات.

وبعد المخابرات الطويلة بشأن هذا الوفاق رفض الباب العالي المصادقة عليه.

وفي ٩ يونيو سنة ١٨٨٨ سقطت الوزارة النوبارية وعهد الخديوي بتشكيل وزارة جديدة إلى رياض باشا، والناس ما فتِئوا منذ اعتزال رياض باشا الأعمال بعد حادثة عرابي يشخصون إليه بأبصارهم، وقد أحاطت به آمالهم لما اشتهر به من الحب للشعب المصري ورغبته في إصلاح البلاد، ولما له من الولع الخاص بالزراعة وهو مشهور بذلك شهرة تضاهي شهرته في حب العلم وتنشيط ذويه. ومن مبادئه حرية الضمير والصرامة في اتباع الحق من حيث هو. وكثيرًا ما قاده ذلك إلى التنحِّي عن قبول منصب الوزارة في الأحوال التي كان يخشى معها تقييد أفكاره ومخالفة مبادئه. فعندما سقطت الوزارة النوبارية لم يكن الناس يصدقون أن رياض باشا يقبل أن يشكل وزارة جديدة. فلما أنبأهم البرق بجلوسه على دستها وتقلده أعمال نظارتي الداخلية والمالية كادوا يطيرون على أجنحة الآمال، وتطاولت أعناقهم استطلاعًا لما سيكون من أمر هذه الوزارة الجديدة.

وفي أيام وزارته أُنشِئَتْ المحاكم في الصعيد وتم ترميم القناطير الخيرية. وقد أدار شئون الحكومة بحزم وصدق نية لكنه أغضب كثيرين، واضْطُرَّ إلى الاستقالة في ٢٤ مايو سنة ١٨٩١، فخلفه مصطفى باشا فهمي، وظلت مقاليد الوزارة في قبضته حتى تولى الخديوي الحالي.

(٧) عباس باشا حلمي الخديوي الحالي (وُلِدَ سنة ١٨٧٤ وتولى العرش الخديوي سنة ١٨٩٢)

fig0131
شكل ٣-٦٢: عباس باشا حلمي الخديوي الحالي.

(٧-١) حياته الشخصية

هو بِكر الخديوي السابق، وُلِدَ في ١٤ يوليو سنة ١٨٧٤، ولما تُوُفِّيَ والده سنة ١٨٩٢ كان سموه — أعزه الله — في مدرسة فينا. وكان قبل ذهابه إليها قد تثقف في مدرسة عابدين التي شادها والده له ولدولة شقيقه البرنس محمد علي. فلما أتمَّا دروسهما فيها أرسلهما والدهما إلى مدرسة جنيف بسويسرة فمكثا فيها مدة يَجِدَّانِ في تحصيل العلوم. ثم برحاها إلى فينا وانتظما في مدرستها الملوكية العليا. وفي أثناء إقامتهما في تلك المدرسة استأذنا والدهما المرحوم بالتجول في أنحاء أوروبا لاستطلاع أحوال تلك المدنية من مصادرها، فزارا ألمانيا وإنكلترا وروسيا وإيطاليا وفرنسا، ولَقِيَا من ملوك هذه المماليك تَرحابًا حسنًا وزارا الممالك الأخرى.

وفي سنة ١٨٨٩ عادا إلى مصر واستأذنا والدهما المرحوم في زيارة معرض باريس لذلك العام، فأجابهما إلى ذلك فلقيا هناك تَرحابًا جميلًا وعادا إلى المدرسة. وفي سنة ١٨٩١ عادا إلى مصر في أثناء راحة المدرسة ثم رجعا إلى المدرسة في فينا. وفي ٨ يناير من السنة التالية عام ١٨٩٢ جاءهما النبأ البرقي بوفاة الخديوي السابق، فأصبح سمو أكبرهما مولانا الأمير خديويًّا على مصر من ذلك اليوم. ثم جاءته رسالة الصدر الأعظم بتثبيته على ذلك العرش، فأسرع إلى مقر حكومته فوصل الإسكندرية في ١٦ يناير المذكور، فاحتفل القطر بقدومه احتفالًا يليق بمقامه.

واشتهر سمو الخديوي بانعطاف المصريين إليه أكثر مما إلى كل خديوي سواه لما يلاقونه من دعته ولطفه وصدق محبته لهم. ويمتاز عصره عن عصور سائر أسلافه بنهضة الأقلام، واتساع نطاق الصحافة وإطلاق حرية المطبوعات وتكاثُر المطابع والجرائد والمجلات والمكاتب، وسائر عوامل النهضة العلمية.

وهو أوسع الخديويين اطِّلاعًا على أسباب المدنية الحديثة؛ لأنه تثقَّف في مدارس أوروبا مع كثرة أسفاره إليها وإلى الأستانة. وُلِدَ ولي عهده البرنس محمد عبد المنعم في ٢٠ فبراير سنة ١٨٩٩، وقد عهد بتعليمه وتثقيفه إلى شكري باشا وهو من أحسن العارفين بما يقتضيه منصب أمير مصر من الأصول والقواعد التي يجب أن يروض بها ولي العهد.

وقد سافر سموه إلى الحرمين سنة ١٣٢٧ﻫ/١٩٠٩ لقضاء فريضة الحج، فبرح موكبه القاهرة في ٢٩ ذي القعدة سنة ١٣٢٧ / ١١ ديسمبر سنة ١٩٠٩، فوصل جدة في ١٤ ديسمبر وحلت رِكابه في مكة فزار مناسك الحج وأدى فرائضه، وكان موضوع الاحترام والإعجاب حيثما حل، ثم يمم المدينة فأدى الزيارة وبرحها في ١٥ يناير سنة ١٩١٠، فوصل مصر في ٢٥ منه فزينت له العاصمة زينة لم يسبق لها مثيل.

(٧-٢) الوزارات في أيامه

وقد تقلب في أيام سموه وزراء هذه أسماء رؤسائها وتاريخ تشكيلها:

وزارة مصطفى باشا فهمي تشكلت في ١٤ مايو سنة ١٨٩١
وزارة رياض باشا تشكلت في ١٨ يناير سنة ١٨٩٣
وزارة نوبار باشا تشكلت في ١٤ أبريل سنة ١٨٩٤
وزارة مصطفى باشا فهمي تشكلت في ١١ نوفمبر سنة ١٨٩٥
وزارة بطرس باشا غالي تشكلت في ١٠ نوفمبر سنة ١٩٠٨*
وزارة محمد سعيد باشا تشكلت في ٢١ فبراير سنة ١٩١٠
يمتاز تاريخ بطرس باشا غالي من تواريخ سائر وزراء مصر أنه مات مقتولًا عمدًا بيد شاب اسمه إبراهيم الورداني تربص له وهو خارج من النظارة في رابعة النهار وأطلق عليه عدة رصاصات مات على أثرها ثم حوكم القاتل وقُتِلَ.

وكل ما أجرته حكومة مصر على عهد الجناب الخديوي إنما جرى على أيدي وزرائه شأن الحكومات الدستورية الكبرى مع ما تقتضيه حالة مصر السياسية من قبول مشورة المحتلين بلسان عميدهم. وكان العميد في أول حكم سمو الخديوي اللورد كرومر.

fig0132
شكل ٣-٦٣: اللورد كرومر.

وما زال اللورد كرومر في هذا المنصب إلى ٦ مايو سنة ١٩٠٧ فأبدلته إنكلترا بالسير الدون غورست. وفي زمن اللورد كرومر تمكَّن نفوذ الإنكليز في مصر وكثر نوابهم في الحكومة المصرية وهم المستشارون. ولا تخلو نِظارة من مستشار أو وكيل فضلًا عن المفتشين والمهندسين والقضاة ورؤساء المصالح ومديريها وغيرهم. فأعمال الحكومة المصرية يُجرِيها الوزراء باسم الجناب الخديوي، وبمصادقة سموه ومشورة الإنكليز. وتسهيلًا لتفهُّم الأعمال التي تمت على عهد سُمُوِّهِ نُقسمها إلى أبواب نبحث في كل منها على حدة فنقول:

(٧-٣) الأعمال السياسية

نريد بهذا الباب ذكر ما جرى في زمن الجناب الخديوي، مما يتعلق بالدول الأخرى، وليس هو من قبيل إدارة البلاد الداخلية. وأول تلك الأعمال تحديد تخوم مصر في الفرمان الشاهاني. فقد صدر الفرمان المذكور في ٢٧ شعبان سنة ١٣٠٩ أو ٢٦ مارس ١٨٩٢، وفيه اختلاف عن الفرمان الصادر للمرحوم توفيق الخديوي السابق، من حيث حدود مصر الشرقية عند شبه جزيرة سينا. فدارت المخابرات بين وزارة خارجية إنكلترا والباب العالي بهذا الشأن حتى أصدر الصدر الأعظم ملحقًا تلغرافيًّا يخوِّل الحكومة المصرية فيه إدارة شبه جزيرة سينا مؤرَّخًا في ٨ أبريل من تلك السنة، وهذا نص الفرمان المذكور بعد المقدمة:

فرمان الخديوي الحالي

إنه لدى وصول توقيعنا الهمايوني الرفيع يكون معلومًا لكم أنه بناء على ما قضى به الله من انتقال جنتمكان محمد توفيق باشا خديوي مصر إلى رحمته تعالى، وإعلامًا بجليل التفاتنا ونظرًا إلى حسن خدامتكم وصداقتكم واستقامتكم لذاتنا الشاهانية، ولمنافع دولتنا العلية، ولما هو معلوم لدينا من أن لكم وقوفًا ومعلومات تامة بخصوص الأحوال المصرية، وأنكم كفء لإصلاحها؛ وجهنا إلى عهدتكم الخديوية المصرية المحدودة بالحدود القديمة المبيَّنة في الفرمان الشاهاني الصادر بتاريخ ٢ ربيع الثاني سنة ١٢٥٧ﻫ، والمبيَّنة أيضًا في الخريطة الملحقة بالفرمان المذكور مع الأراضي المنضمَّة إليها طبقًا للفرمان الشاهاني الصادر بتاريخ ١٥ ذي الحجة سنة ١٢٨١ﻫ، وذلك بمقتضى إرادتنا الشاهانية الصادرة في ٧ جمادى الثانية سنة ١٣٠٩ﻫ؛ ولأنكم أكبر أولاد جنتمكان الخديوي المتوفى؛ وجهت إلى عهدتكم الخديوية المصرية توفيقًا للقاعدة المقررة بالفرمان الشاهاني الصادر في ١٢ محرم سنة ١٢٨٣ﻫ، القاضي بأن الخديوية المصرية تئول إلى أكبر الأولاد البكر فالبكر.

ولما كان تزايد عمران الخديوية المصرية وسعادتها وتأمين راحة أهليها ورفاهيتهم هي من المواد المهمة لدينا. ومن أجل مرغوبنا ومطلوبنا كُنَّا وجهنا فرمانًا شاهانيًّا لتحقيق هذه الغاية الحميدة بتاريخ ١٩ شعبان سنة ١٢٩٦ﻫ إلى جنتمكان والدكم بتوليته الخديوية المصرية، وضمَّناه المواد الآتية:

إن جميع إيرادات الخديوية المصرية يكون تحصيلها واستيفاؤها باسمنا الشاهاني، وحيث إن أهالي مصر أيضًا من تبعة دولتنا العلية وإن الخديوية المصرية ملزمة بإدارة أمور المملكة الملكية والمالية والعدلية، بشرط أن لا يقع في حقهم أدنى ظلم ولا تَعَدٍّ في وقت من الأوقات. فخديوي مصر يكون مأذونًا بوضع النظامات اللازمة الداخلية المتعلقة بهم وتأسيسها بصورة عادلة. وأيضًا يكون خديوي مصر مأذونًا بعقد وتجديد المشارطات مع مأموري الدول الأجنبية بخصوص الجمرك والتجارة، وكافة أمور المملكة الداخلية لأجل تَرَقِّي الحِرَف والصنائع والتجارة واتساعها، ولأجل تسوية المعاملات السائرة التي بين الحكومة والأجانب أو الأهالي والأجانب مع أمور ضابطة الأجانب بشرط عدم وقوع خلل بمعاهدات دولتنا العلية البوليتيقية، وفي حقوق متبوعية مصر لها، ولكن قبل إعلان الخديوية المشارطات التي تعقد مع الأجانب بهذه الصورة يصير تقديمها إلى بابنا العالي.

وأيضًا يكون حائزًا للتصرفات الكاملة في أمور المالية لكنه لا يكون مأذونًا بعقد استقراض بوجه من الوجوه. وإنما يكون مأذونًا بعقد استقراض بالاتفاق مع المداينين الحاضرين أو وكلائهم الذين يتعينون رسميًّا، وهذا الاستقراض يكون منحصرًا في تسوية أحوال المالية الحاضرة ومخصوصًا بها. وحيث إن الامتيازات التي أُعطِيَت لمصر هي جزء من حقوق دولتنا العلية الطبيعية التي خصت بها الخديوية، وأودعت لديها فلا يجوز لأي سبب أو وسيلة ترك هذه الامتيازات جميعها أو بعضها أو ترك قطعة أرض من الأراضي المصرية للغير مطلقًا، ويلزم تأدية مبلغ ٧٥٠ ألف ليرة عثمانية الذي هو الويركو المقرر دفعُه في كل سنة في أوانه، وكذلك جميع النقود التي تُضرب في مصر تكون باسمنا الشاهاني، ولا يجوز جمع عساكر زيادة عن ثمانية عشر ألفًا؛ لأن هذا القدر كافٍ لحفظ أمنية بلاد مصر الداخلية في وقت الصلح.

ولكن حيث إن قوة مصر البرية والبحرية مرتَّبة كذلك من أجل دولتنا يجوز أن يزاد مقدار العساكر بالصورة التي تستدعي فيها حالة دولتنا العلية محاربة، وتكون محاربة وتكون رايات العساكر البرية والبحرية والعلامات المميزات لرتب ضباطهم كرايات عساكرنا الشاهانية ونياشينهم. ويُباح لخديو مصر أن يعطي الضباط البرية والبحرية إلى غاية رتبة أميرالاي والملكية إلى الرتبة الثانية. ولا يرخص لخديوي مصر أن يُنشئ سفنًا مدرعة إلا بعد الإذن وحصول رخصة صريحة قطعية إليه من دولتنا العلية.

ومن اللزوم المحافظة على كل الشروط السالفة الذكر واجتناب وقوع حركة تخالفها، وحيث صدرت إرادتنا السنية بإجراء المواد السابق ذكرها قد أصدرنا أمرنا هذا الجليل القدر الموشَّح أعلاه بخطنا الهمايوني وأرسلناه.

تحريرًا في ٢٧ شعبان المعظم سنة ١٣٠٩ من هجرة صاحب العزة والشرف
وهذا تلغراف الصدر الأعظم المتمم له:

معلوم لدى جنابكم العالي أن جلالة مولانا السلطان الأعظم كان قد صرَّح للحكومة المصرية بوضع عدد كافٍ من الجند بجهات الوجه، والمويلح وطابا والعقبة الواقعة على شواطئ الحجاز، وكذلك في بعض جهات من شبه جزيرة طور سينا؛ بسبب مرور المحمل المصري من طريق البر.

ولما كانت جميع هذه الجهات غير مبينة أصلًا في خريطة سنة ١٢٥٧ﻫ المسلَّمة إلى جنتمكان محمد علي باشا المبينة بها الحدود المصرية؛ لذلك أُعِيدَ الوجه أخيرًا إلى ولاية الحجاز بمقتضى إرادة شاهانية كما أُعِيدَ إليها طابا والمويلح، وضمت العقبة كذلك الآن إلى الولاية المذكورة. أما من جهة شبة جزيرة طور سينا فهي باقية على حالتها، وتكون إدارتها بمعرفة الخديوية المصرية بالكيفية التي كانت مُدارة بها في عهد جدكم إسماعيل باشا ووالدكم محمد توفيق باشا. ا.ﻫ.

(أ) حدود مصر من الشرق

fig0133
شكل ٣-٦٤: خريطة الحدود بين مصر والشام.
ثم وقع خلاف في أواخر سنة ١٩٠٦ على تلك الحدود الفاصلة بين مصر والشام، وبعد مداولات طويلة بين مصر والباب العالي اتَّفق الجانبان على تعيين لجنة ينتدبها الباب العالي، وأخرى تنتدبها مصر. وقد انتخبت اللجنتان واجتمعنا على الحدود وأقرَّتَا على اتفاقية رسمية مؤرَّخة في أول أكتوبر سنة ١٩٠٦، وهذا نص موادِّها المتعلقة بالحدود وصورة الخريطة التي رُسِمَتْ لإيضاح ذلك:
  • المادة الأولى: يبدأ الخط الفاصل الإداري كما هو مبيَّن بالخريطة المرفقة بهذه الاتفاقية من نقطة رأس طابا الكائنة على الساحل الغربي لخليج العقبة ويمتد إلى قبة جبل فورت مارًّا على رءوس جبال طابا الشرقية المطلة على وادي طابا ثم من قمة جبل فورت يتجه الخط الفاصل بالاستقامات الآتية: من جبل فورت إلى نقطة لا تتجاوز مائتي متر إلى الشرق من قمة جبل فتحي باشا ومنها إلى النقطة الحادثة من تلاقي امتداد هذا الخط بالعامود المقام من نقطة على مائتي متر من قمة جبل فتحي باشا على الخط الذي يربط مركز تلك القمة بنقطة المفرق (المفرق هو ملتقى طريق غزة إلى العقبة بطريق نخل إلى العقبة) ومن نقطة التلاقي المذكورة إلى التلة التي إلى الشرق من مكان ماء يُعرف بتميلة الردادي والمطلة على التميلة (بحيث تبقى التميلة غربي الخط) — ومن هناك — إلى قمة رأس الردادي المدلول عليها بالخريطة المذكورة أعلاه ﺑ A3 ومن هناك إلى رأس جبل الصفرة المدلول عليه ﺑ A4 ومن هناك إلى رأس القمة الشرقية لجبل أم قف المدلول عليها ﺑ A5، ومن هناك إلى نقطة مدلول عليها ﺑ A7 إلى الشمال من ثميلة سويلمة ومنها إلى نقطة مدلول عليها ﺑ A8 إلى غرب الشمال الغربي من جبل سماوي، ومن هناك إلى قمة التلة التي إلى غرب الشمال الغربي من بئر المغارة (وهو بئر في الفرع الشمالي من وادي مايين بحيث تكون البئر شرقي الخط الفاصل) ومن هناك إلى A9، ومنها إلى A10 غربي جبل المقراة، ومن هناك إلى رأس العين المدلول عليه ﺑ A11، ومن هناك إلى نقطة جبل أم حواويط مدلول عليها ﺑ A12 ومن هناك إلى منتصف المسافة بين عامودين قائمين تحت شجرة على مسافة ثلاثمائة وتسعين مترًا إلى الجنوب الغربي من بئر رفح والمدلول عليه ﺑ A13 ومن هناك إلى نقطة التلال الرملية في اتجاه مائتين وثمانين درجة (٢٨٠) من الشمال المغناطيسي (أعني ٨٠ درجة إلى الغرب) وعلى مسافة أربعمائة وعشرين مترًا في خط مستقيم من العامودين المذكورين، ومن هذه النقطة يمتد الخط مستقيمًا باتجاه ثلاثمائة وأربع وثلاثين درجة (٣٣٤) من الشمال المغناطيسي (أعني ٢٦ درجة إلى الغرب) إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط مارًّا بتلة خرائب على ساحل البحر الأحمر.
  • المادة الثانية: قد دل على الخط الفاصل المذكور بالمادة الأولى بخط أسود متقطع في نسختي الخريطة المرفقة بهذه الاتفاقية والتي يوقع عليهما الفريقان ويتبادلانها بنفس الوقت الذي يوقعان فيه على الاتفاقية ويتبادلانها.
  • المادة الثالثة: تقام أعمدة على طول الخط الفاصل من النقطة التي على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى النقط التي على ساحل خليج العقبة بحيث إن كل عامود منها يمكن رؤيته من العامود الذي يليه وذلك بحضور مندوبي الفريقين.
  • المادة الرابعة: يحافظ على أعمدة الخط الفاصل هذه كل من الدولة العلية والخديوية الجليلة المصرية.
  • المادة الخامسة: إذا اقتضى في المستقبل تجديد هذه الأعمدة أو الزيادة عليها فكل من الطرفين يرسل مندوبًا وتطبق مواقع العمد التي تزاد على الخط المدلول عليه في الخريطة.
  • المادة السادسة: جميع القبائل القاطنة في كلا الجانبين لها حق الانتفاع بالمياه حسب سابق عاداتها؛ أي إن القديم يبقى على قِدَمِه فيما يتعلق بذلك وتُعطى التأمينات اللازمة بهذا الشأن إلى العربان والعشائر وكذلك العساكر الشاهانية وأفراد الأهالي والجندرمة ينتفعون من المياه التي بقيت غربي الخط الفاصل.
  • المادة السابعة: لا يؤذن للعساكر الشاهانية والجندرمة بالمرور إلى غربِيِّ الخط الفاصل وهم مسلحون.
  • المادة الثامنة: تبقى أهالي وعربان الجهتين على ما كانت عليه قبلًا من حيث ملكية المياه والحقول والأراضي في الجهتين كما هو متعارف بينهم. انتهى.

(ب) اتفاقية السودان

قد تقدم في كلامنا عن الحوادث السودانية أن السودان استرجع سنة ١٨٩٧ بحملة مؤلَّفة من الجُندين الإنكليزي والمصري فاقتضى ذلك أن يكون للدولتين معًا. وقد وضعتا وفاقًا بهذا الشأن وقَّعت عليه الحكومتان في ١٩ يناير سنة ١٨٩٩ هذا نص مواده:
  • (١)
    تطلق لفظة السودان في هذا الوفاق على جميع الأراضي الكائنة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض وهي:
    • أولًا: الأراضي التي لم تُخلِها قط الجنود المصرية منذ سنة ١٨٨٢.
    • ثانيًا: الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان الأخيرة وفُقِدَتْ منها وقتيًّا ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملكة والحكومة المصرية بالاتحاد.
    • ثالثًا: الأراضي التي قد تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدًا.
  • (٢)

    يستعمل العلم البريطاني والعلم والمصري معًا في البر والبحر بجميع أنحاء السودان ما عدا مدينة سواكن فلا يستعمل فيها إلا العلم المصري فقط.

  • (٣)

    تفوَّض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد يلقب «حاكم عموم السودان»، ويكون تعيينُه بأمر عالٍ خديوي بناءً على طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يُفصل عن وظيفته إلا بأمر عالٍ خديوي يصدر برضاء الحكومة البريطانية.

  • (٤)

    القوانين وكافة الأوامر واللوائح التي يكون لها قوة القانون المعمول به والتي من شأنها تحسين إدارة حكومة السودان أو تقرير حقوق الملكة فيه بجميع أنواعها وكيفية أيلولتها والتصرُّف فيها يجوز سَنُّهَا أو تحريرها أو نسخها من وقت إلى آخر بمنشور من الحاكم العام، وهذه القوانين والأوامر واللوائح يجوز أن يسري مفعولها على جميع أنحاء السودان أو على جزء معلوم منه ويجوز أن يترتب عليها صراحة أو ضمنًا تحوير أو نسخ أي قانون أو أية لائحة من القوانين أو اللوائح الموجودة.

    وعلى الحاكم العام أن يبلغ على الفور جميع المنشورات التي يصدرها من هذا القبيل إلى وكيل وقنصل جنرال الحكومة البريطانية بالقاهرة وإلى رئيس مجلس نُظَّار الجناب العالي الخديوي.

  • (٥)

    لا يسري على السودان أو على جزء منه شيء ما من القوانين أو الأوامر العالية أو القرارات الوزارية المصرية التي تصدر من الآن فصاعدًا إلا ما يصدر بإجرائه منها منشور من الحاكم العام بالكيفية السالف بيانها.

  • (٦)

    إن المنشور الذي يصدره حاكم عموم السودان ببيان الشروط التي بموجبها يصرح للأوروبيين من أية جنسية كانت بحُرِّيَّة المتاجرة أو السكنى بالسودان أو تملُّك ملك كائن ضمن حدوده لا يشمل امتيازات خصوصية لرعايا أية دولة أو دول.

  • (٧)

    لا تُدفع رسوم الواردات على البضائع الآتية من الأراضي المصرية حين دخولها إلى السودان، ولكنه يجوز مع ذلك تحصيل الرسوم المذكورة على البضائع القادمة من غير الأراضي المصرية. إلا أنه في حالة ما إذا كانت تلك البضائع آتية إلى السودان عن طريق سواكن، أو أي مينا آخر من مواني ساحل البحر الأحمر لا يجوز أن تزيد الرسوم التي تحصل عليها عن القيمة الجاري تحصيلها حينئذٍ على مثلها من البضائع الواردة إلى البلاد المصرية من الخارج. ويجوز أن تقرر عوائد على البضائع التي تخرج من السودان بحسب ما يقدره الحاكم العام من وقت إلى آخر بالمنشورات التي يصدرها بهذا الشأن.

  • (٨)

    فيما عدا مدينة سواكن لا تمتد سلطة المحاكم المختلطة على أية جهة من جهات السودان ولا يعترف بها فيه بوجهٍ من الوجوه.

  • (٩)

    يعتبر السودان بأجمعه ما عدا مدينة سواكن تحت الأحكام العرفية ويبقى كذلك إلى أن يتقرر خلاف ذلك بمنشور من الحاكم العام.

  • (١٠)

    لا يجوز تعيين قناصل أو وكلاء قناصل أو مأموري قنصلاتات بالسودان ولا يصرح لهم بالإقامة قبل المصادقة على ذلك من الحكومة البريطانية.

  • (١١)

    ممنوع منعًا مطلقًا إدخال الرقيق إلى السودان أو تصديره منه وسيصدر منشور بالإجراءات اللازم اتخاذها للتنفيذ بهذا الشأن.

  • (١٢)

    قد حصل الاتِّفاق بين الحكومتين على وجوب المحافظة منهما على تنفيذ مفعول معاهدة بروكسل المبرمة بتاريخ ٢ يوليو سنة ١٨٩٠ فيما يتعلق بإدخال الأسلحة النارية والذخائر الحربية والأشربة المقطرة أو الروحية وبيعها أو تشغيلها. ا.ﻫ.

تحريرًا بالقاهرة في ١٩ يناير سنة ١٨٩٩
الإمضاءات
كرومر
بطرس غالي

وشرَّف سمو الخديوي السودان سنة ١٩٠٢ وزار الخرطوم فقوبِلض بالاحتفاء والإعظام وتلا في سراي الخرطوم خطابًا بمعنى الرضى عن حالة السودان، وهذا رسم سموه وهو يتلو الخطاب.

fig0134
شكل ٣-٦٥: الجناب الخديوي يتلو خطابه أمام سراي الخرطوم.

(ﺟ) الوفاق الإنكليزي الفرنساوي

ومما يعد من قبيل الأعمال السياسية بمصر الاتفاق الذي عُقِدَ بين إنكلترا وفرنسا في ٨ أبريل سنة ١٩٠٤، فهو ذو شأن في سياسة مصر؛ لأن فرنسا اعترفت فيه باحتلال إنكلترا مصر وأطلقت يدها فيها، وهذا نص الفقرة المتعلقة بذلك من الاتفاق المذكور:

تصرح حكومة جلالة الملك (إنكلترا) أنها لا تنوي تغيير حالة مصر السياسية. وتصرح حكومة الجمهورية الفرنساوية أنها لا تعيق عمل بريطانيا العظمى في مصر بطلب تحديد زمن الاحتلال الإنكليزي، أو بأي أسلوب آخر.

(٧-٤) الأعمال الإدارية

يصعب تحديد ما جرى من الإصلاحات الإدارية في عهد الجناب الخديوي، ولكن يقال بالإجمال إن معظم ما تم في زمن الاحتلال من الإصلاحات تم في عهد سموه. استهلت حكومته — أعزه الله — بإلغاء السُّخرة، وكانت المخابرات جارية بشأنها من قبلُ، وقد صدرت عدة أوامر عالية تتعلَّق بها حتى صدر الأمر القاضي عليها في ٢٨ يناير سنة ١٨٩٢، وقد صدر بهذه المادة: «تلغى السخرة في كامل أنحاء القطر المصري.»

وصدر أمر سموه في هذا التاريخ بإلغاء الضرائب التي كانت قد وُضِعَتْ على الصنائع.

وفي أيام سموه ألغي نظام البوليس الذي كان متبعًا في زمن الخديوي السابق بأمر عالٍ صدر في ٣ نوفمبر سنة ١٨٩٤، ووضع النظام الحالي بناءً على لائحة رفعها المرحوم نوبار باشا. وفي ظل سموه عدلت الضرائب بأمر عالٍ صدر في ١٠ مايو سنة ١٨٩٩.

وفي أيامه أُلغِيَت الضرائب التي كانت على السفن المسافرة في النيل بأمر عالٍ مؤرَّخ في ٢٩ نوفمبر سنة ١٩٠٠، وأُلغِيَت الدخولية وهي الضرائب التي كانت الحكومة تتقاضاها على الخضار والفاكهة ونحوهما، ممَّا يدخل المدن فألغيت من أول سنة ١٩٠٣، وأُلغِيَ احتكار الملح في أول سنة ١٩٠٦ وفي عهد سُمُوِّهِ صفيت حسابات الدائرة السنية وبيعت البواخر الخديوية.

ومن الأمور الإدارية التي تمت في عهد سموه النفي الإداري الذي قررته الحكومة من عهد غير بعيد وقد أفاد كثيرًا.

(٧-٥) الأعمال الزراعية

fig0135
شكل ٣-٦٦: قناطر أسيوط. تمثيل النيل وخزاناته من الجنوب إلي الشمال (أ) القناطر الخيرية في رأس الدلتا. (ب) خزان أسيوط. (ﺟ) خزان أسوان. (د) جزيرة قبلي وفيها خرائب أنس الوجود. (ﻫ) الهويس الذي تسير به السفن.

إن الأعمال الزراعية التي شرعت بها الحكومة المصرية على يد مصلحة الري من أوائل عهد الاحتلال، لم تظهر ثمارها إلا في عهد الجناب العالي فبعد أن كانت مساحة الأطيان الزراعية أقل من خمسة ملايين فدان ناهزت سبعة ملايين. وكانت البقاع التي تزرع قطنًا عند ولاية سموه نحو ٩٠٠٠٠٠ فدان، فصارت نحو ١٥٠٠٠٠٠ فدان. وكانت غلة القطن سنة ١٨٩١ نحو ٤٦٠٠٠٠٠ قنطار فصارت في العام الماضي نحو سبعة ملايين قنطار. وأخذت تتحول ملكية الأرض إلى الفلاحين، وكان عدد مالكي الأطيان في أول ولاية سموه نحو ٧٥٠٠٠٠ إنسان، فأصبح عددهم ١٣٥٦٠٠٠ نفس. ولا يخفى ما يدل عليه ذلك من توزُّع الثروة بين الناس. وفي أيامه أُنشِئت مدرسة الزراعة وصارت هذه الصناعة تعلم قانونيًّا. وأنشئت المعارض الزراعية، وتألَّفت الشركات الزراعية والبنك الزراعي والنقابات الزراعية.

ومن المشروعات الزراعية قناطر أسيوط وهي على ٢٥٠ ميلًا جنوب القاهرة تولت إنشاءها للحكومة شركة السير جون إيرد وشركاه، بدأت فيها في شتاء عام ١٩٠٢، وانتهت منه في ربيع سنة ١٩٠٨، وهي كالقناطر الخيرية شكلًا ولكنها تمتاز عنها بأن القناطر الخيرية مبنية من القرميد وهذه من الحجر. طول قناطر أسيوط ٨٣٣ مترًا وعددها ١١١ قنطرة عرض كل قنطرة خمسة أمتار عليها أبواب من الحديد. وعلو القناطر من قاع النهر إلى السطح ١٢ مترًا ونصف متر، وثخانتها عند القاعدة ٢٦ مترًا ونصف متر وثخانتها عند السطح سبعة أمتار وثمانون سنتيمترًا. والغرض من هذه القناطر إصلاح الري مدار السنة في مصر الوسطى والفيوم؛ لأنها إذا أقفلت أعاقت جري الماء فيرتفع نحو ثلاثة أمتار فوق ارتفاعه الاعتيادي، فيزيد مساحة الأراضي الزراعية نحو ٣٠٠٠٠٠ فدان تروى من ترعة الإبراهيمة. ولقناطر أسيوط هويس لمرور السفن طوله ٨٠ مترًا وعرضه ١٦ مترًا.

fig0136
شكل ٣-٦٧: خزان أسوان.

أما خزان أسوان فهو أعظم مشروعات الري، تولت إنشاؤه الشركة المذكورة في أوائل سنة ١٨٩٩، وانتهى في أواخر سنة ١٩٠٢، مواده من حجر الغرانيت والسمنت والحصى. وبلغ وزن ما كانوا ينجزون عمله في اليوم الواحد ٢٦٠٠ طن. طوله ٢٠٠٠ متر. ويمتد من الجبل الشرقي إلى الجبل الغربي، وعلوه يختلف من ٢٠ مترًا إلى ٤٠ باختلاف عمق قاع النهر. وثخانته عند قاعدته ٢٥ مترًا وثخانة أعلاه أو هو عرضه من فوق ٧ أمتار. وفي جدار الخزان ١٨٠ فتحة هي نوافذ عليها الأبواب من الحديد تختلف سعتها باختلاف مواضعها، منها ١٤٠ نافذة مسطح الواحدة منها ١٤ مترًا. وأربعون نافذة مسطح الواحدة منها سبعة أمتار.

وقد وصفنا كيفية استخدامه في السنة ١١ من الهلال.

(٧-٦) النهضة المالية

إن النهضة المالية التي حصلت في زمن سُمُوِّهِ لم يسبق لها مثيل من عهد بعيد. فتكاثر الذهب وأثرى الناس وتوسَّعوا في أسباب العيش ولا سيما في أواسط العقد الأول من هذا القرن بارتفاع أثمان الأرضين، فتألفت الشركات المالية العقارية والبنائية لاستثمار أرض البناء والأطيان الزراعية. ولولا تورُّط الناس في المضاربة لسلمت مصر من ردِّ الفعل الذي أحدث الأزمة المالية منذ بضع سنين. ومع ذلك فإن ثمار النهضة المالية لا تزال باقية وهي ظاهرة في الحكومة، وفي الأمة وفي الأسواق التجارية وفي كل شيء كما يتضح ذلك من المقابلة.

فميزانية الحكومة المصرية كانت سنة ١٨٩٢ نحو عشرة ملايين جنيه، فأصبحت الآن نحو ١٦ مليونًا. وكانت الواردات التجارية سنة ١٨٩٢ قيمتها أقل من عشرة ملايين جنيه، فزادت في أثناء النهضة المالية على ٢٦٠٠٠٠٠٠ جنيه، وبلغت في السنة الماضية نحو ٢٣٥٠٠٠٠٠ جنيه، وكانت الصادرات ١٣٥٠٠٠٠٠ جنيه، فصارت نحو ٢٩٠٠٠٠٠٠ جنيه، وقد تكاثر إنشاء بنوك الصيرفة وأهمها البنك الأهلي أُنشئ سنة ١٨٩٨ ورأسماله ٢٥٠٠٠٠٠ جنيه، والبنك الزراعي أُنشئ سنة ١٩٠٢ ورأسماله خمسة ملايين جنيه وغيرهما.

ومن دلائل الثروة تكاثُر الأبنية واتِّساع المدن. وهذه القاهرة قد تضاعفت مساحتها مرارًا عمَّا كانت عليه قبلًا حتى كادت تتَّصل بضواحيها. غير ما أنشئ فيها بأثناء هذه النهضة من الأبنية الفخيمة والقصور الباذخة. وعمرت الضواحي وأُنشِئَ بضواحيها بلد جديد لا مثيل له في سائر أقطار العالم نعني واحة عين شمس.

واستحدث في أيام سموه بنك اقتصادي في مصلحة البوسطة المصرية منذ بضع سنوات، بلغ عدد الذين أودعوا نقودهم فيه إلى آخر العام الماضي نيفًا و٨٩٠٠٠ نفس، وبلغ مقدار ما أودعوه ٣٥٧٠٠٠ جنيه استعانوا بها على أمورهم.

(٧-٧) النهضة العلمية والحركة الفكرية

إن الحركة العلمية التي حدثت بمصر في أثناء العشرين سنة الأخيرة ظاهرة كالشمس بما أنشأته الحكومة، أو ساعدت على إنشائه من الكتاتيب والمدارس في أنحاء القطر، أو بما أدخلته من التعديل في طرق التعليم، وخصوصًا من حيث اللغة العربية. فقد كانت هذه اللغة يكاد يُقضى عليها في المدارس المصرية، فانتعشت الآمال بإحيائها فأخذت الحكومة في إرجاع التدريس إليها، وانبثَّت رُوح التعليم في أنحاء القطر، وكثُر الساعون في إنشاء المدارس من أهل اليسار في الأرياف. هذا من حيث المدارس الابتدائية.

أما التعليم العالي فأهم ما حدث منه في هذا العصر مدرسة القضاء الشرعي والجامعة المصرية، وبُذِلَتِ العناية في تحسين حال الأزهر وغيره من المدارس الكبرى. غير عناية الحكومة بالمعاهد العلمية كالمتحف المصري، والمتحف العربي ودار الكتب الخديوية.

ومن آثار الجناب الخديوي رأسًا في خدمة العلم والهيئة الاجتماعية عنايته في فن التمثيل، فأوفد شابًّا (جورج أفندي أبيض) يتلقى هذا الفن على أربابه في فرنسا، وقد عاد سنة ١٩١٠ ومعه جوق مثَّل عدة روايات في الأوبرا الخديوية على سبيل التجربة. ولا تزال عناية سموه موجَّهة إلى تنشيط هذا الفن وإحيائه في اللغة العربية.

fig0137
شكل ٣-٦٨: الشيخ محمد عبده.
وأكبر أدلة الحركة الفكرية ظهرت في الصحافة بما أطلقته لها الحكومة من الحرية، فتكاثرت الجرائد والمجلات في أيام سُمُوِّهِ وتشعَّبت مواضيعها وتألفت الأحزاب السياسية على اختلاف أغراضها، ولكل منها جريدة أو غير جريدة تنطق بلسانه. وتألفت الشركات المالية لإنشاء بعضها. وكبر حجمها وظهرت صبغتها الوطنية وتنوَّعت مواضيعها وتألفت لها نقابة صحافية. ويقال بالإجمال إن الصحافة المصرية بلغت في هذا العصر أرقى ما بلغت إليه في سائر الأعصر١ بما صارت إليه من التأثير في الأمة والحكومة. وقد رأيت أن الحكومة المصرية كانت قد قَيَّدَتِ الصحافة بقانون أنشأته سنة ١٨٨١ عرف بقانون المطبوعات، فهذا القانون أخذت الحكومة في إهماله رويدًا رويدًا بعد الاحتلال، وأصبح في عهد الجناب الخديوي في حكم الملغى عرفًا. فرأت الحكومة بالعام الماضي (سنة ١٩١٠) أن تقيد المطبوعات لأسباب اقتضت ذلك، فوضعت قانونًا جديدًا هو تعديل القانون القديم.

ومن آثار الحركة العلمية أيضًا إنشاء الجمعيات الأدبية والعلمية، وتأسيس الأندية الاجتماعية، وأهمها نادي المدارس العليا ونادي دار العلوم في القاهرة. ولا يكاد يخلو بلد من البلاد الكبرى من نادٍ أو جمعية على اختلاف مواضيعها.

واتَّفق في إمارة سمو الخديوي اضطراب أحوال المملكة العثمانية، والتغالب بين السلطان عبد الحميد وأحرار مملكته. فكانت مصر ملجأ الفارِّين من الظلم أو الطالبين للرزق من سائر الأمم.

ومن قبيل الحركة الفكرية في هذا العصر قيام نخبة من أدباء الشبان المسلمين للإصلاح الديني، وزعيمهم المرحوم الشيخ محمد عبده المصري المتوفَّى سنة ١٩٠٥.

ومن هذا القبيل جنوح الناس إلى الحكم الدستوري، وارتفاع صوت الصحافة في طلب الدستور وتوسيع اختصاص الشورى.

وزاد تألُّف الجمعيات الخيرية في زمن سموه، وانتظمت نظارة الأوقاف وانصرفت عنايتها إلى حفظ الآثار وترميم المساجد وبناء المعابد والمستشفيات الخيرية آخرها المستشفى العباسي. وتضاعفت نفقات الأوقاف الخيرية على المبرات والإحسان. فكانت يوم تولي الأريكة الخديوية ٨٢٧٦ جنيهًا، فأصبحت للعام الماضي ٦٥٧٧١ جنيهًا.

وبالإجمال فإن مصر بلغت في العصر العباسي الحالي ما لم تبلغ إليه في العصور الماضية، من حيث الرقي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري في ظل سمو الأمير أيده الله.

١  تجد مقالة إضافية في تاريخ النهضة الصحافية في الهلال سنة ١٨ صفحة ٤٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤