بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

لعل أصعب ما يواجه الباحث في تاريخ أمة هو تاريخ عقلها في نشوئه وارتقائه، وتاريخ دينها وما دخله من آراء ومذاهب. ذلك أن مدار البحث في المسائل المادية وما يشبهها واضح محدود، وما يطرأ عليها من تغير ظاهر جلي. أما الفكرة فإذا حاولت أن تعرف كيف نبتت، وكيف نمت، وما العوامل في إيجادها، وما العناصر التي غذتها، وما الطوارئ التي طرأت عليها فعدلتها أو صقلتها؛ أعياك ذلك، وبلغ منك في استخراجه الجهد؛ لأن الفكرة أول أمرها لا مظهر لها نستدل به عليها، وقد تتكون من عناصر قد لا تخطر ببال، ويعمل في تغييرها وتعديلها عوامل في منتهى الغموض. والمذاهب الدينية قد يكون الباعث عليها غير ما ظهر من تعاليمها؛ قد يكون الباعث عليها سياسيًّا، وهي في مظهرها الخارجي مجردة من كل سياسة، وقد يكون الباعث لها إفساد الدين، فتتشكل بشكل المتحمس للدين، وقد يكون المذهب صالحًا كل الصلاح، ولكن يحكيه أعداؤه فيشوهونه ويلغون فيه فيفسدونه، فيقف الباحث حائرًا ضالًّا، يتطلب بصيصًا من نور يهديه، أو أثرًا في الطريق سلكه من قبله فيحتذيه.

وفوق هذا، فالأفكار متنوعة، والآراء متعددة، وقضايا كل عصر تخالف ما قبلها، ويراها الباحث فيظنها أول وهلة جديدة، لم ترتبط بما قبلها برباط، ولم تتصل به أي صلة، فيُعمِل فكره فيما عسى أن يكون بينهما من قرابة أو نسب، وما قد يصل بينهما من سبب.

ففي سبيل الله ما يلاقي مؤرخ الفكر من عناء لا يتناسب وما يحصله من نتاج!

•••

سرت في «ضحى الإسلام» سيري في «فجر الإسلام»، رائدي الصدق والإخلاص للحق، فإن أصبت فحمدًا لله على توفيقه، وإن أخطأت فالحق أردت، ولكل امرئ ما نوى.

عنيت بضحى الإسلام المائة سنة الأولى للعصر العباسي (١٣٢–٢٣٢هـ)؛ أعني إلى خلافة الواثق بالله؛ فهو عصر له لون علمي خاص، كما أن له لونًا في السياسة والأدب خاصًّا، امتاز بغلبة العنصر الفارسي، وبحرية الفكر إلى حد ما، وبدولة المعتزلة وسلطانهم، وبتلوين الأدب من شعر ونثر لونًا احْتُذِيَ على كر الدهور، واختلاف العصور. كما امتاز بتحويل ما باللسان العربي إلى قيد في الدفاتر وتسجيل في الكتب، وما باللسان الأجنبي إلى لغة العرب. وهو في كل هذا يخالف العصور قبله والعصور بعده، مخالفة تجعله حلقة قائمة بنفسها، يصح أن تسمى، وأن تدرس، وأن تميز. على أني أحيانًا يدعوني إيضاح الفكرة إلى أن أربطها بما كان منها في العصر الذي قبله، كما قد يدعوني تسلسلها إلى أن أتجاوزه إلى العصر الذي بعده.

وقد رتبته أبوابا أربعة:
  • الباب الأول: في الحياة الاجتماعية في ذلك العصر، واجتزأت منها بما له أثر قوي في العلم والفن.
  • والباب الثاني: في الثقافات المختلفة؛ دينية، وغير دينية.
  • والباب الثالث: في الحركات العلمية، ومعاهد العلم، وحرية الفكر، ومزايا البلدان في تلك الحركات.
  • والباب الرابع: في المذاهب الدينية، وتاريخ حياتها، وأشهر رجالها، وأهم أحداثها.

وكنت أحزر أنه سيكون حجمه حجم «فجر الإسلام»، فلما شرعت في تأليفه اتسع علي موضوعه، وغرمتني مناحيه، وواجهت مسائلَ لم تكن خطرت لي، فتركت البحث على سجيته، والقول على طبيعته، فإذا هو ضعف فجر الإسلام أو يزيد، فاضطررت أن أجعله جزأين، في كل قسم بابان.

وأتقدم إلى القراء اليوم بقسمه الأول، راجيًا ألا يفرغوا من قراءته حتى أقدم إليهم قسمه الثاني.

على أني لم أقل في كل موضوع إلا كلمته الأولى، ولم أنظر إليه إلا نظرة الطائر، ولو حاولت أن أستوفي الكلام في كل فصل لكان من كل فصل كتاب. فإن نجحت في إثارة الباحثين لنقده، وتصحيح خطئه، وتوسيع مباحثه، فذلك حسبي، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

٢٣ رمضان سنة ١٣٥١
١٩ يناير سنة ١٩٣٣
أحمد أمين

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤