تمهيد في نشأة علم الكلام

كثر البحث في العقائد في ذلك العصر وتشعب، واتخذ ألوانًا جديدة لم تكن أيام النبي ولا الأولين من صحابته، وأخذت هذه البحوث تتركز ليتكوّن منها علم جديد يساير سائر العلوم التي نشأت في هذا العصر، هو «علم الكلام».

وقد تعاون على نشوئه وارتقائه أسباب كثيرة: بعضها داخلي، وبعضها خارجي؛ وأعني بالأسباب الداخلية أسبابًا صدرت من طبيعة الإسلام نفسه والمسلمين أنفسهم، وبالأسباب الخارجية أسبابًا أتت من الثقافات الأجنبية والديانات المختلفة غير الإسلام.

فأما الأسباب الداخلية فأهمها:

  • (١)
    أن القرآن الكريم بجانب دعوته إلى التوحيد والنبوة وما إليهما عرَض لأهم الفرق والأديان التي كانت منتشرة في عهد محمد ، فرد عليهم ونقض قولهم؛ فحكى عن قوم أنكروا الأديان والإلهيات والنبوات، وقالوا: «ما يهلكنا إلا الدهر»، ورد عليهم بمختلف الدلائل. وعرض للشرك بجميع أنواعه؛ فمن المشركين من ألَّه الكواكب واتخذها شريكة لله، فرد عليهم بمثل آية إبراهيم: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الأَفِلِينَ؛ ومنهم من ألَّه عيسى عليه السلام، فردَّ عليهم في مواضع عدة وقال: إِنًّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وحمل على الذين قالوا بعبادة الأوثان وأشركوها مع الله. وحكى عن قوم أنكروا النبوات جميعًا فقالوا: أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولًا ورد عليهم: وعن قوم أنكروا نبوة محمد خاصة ورد عليهم. وأورد رأي قوم أنكروا الحشر والنشر، فرد عليهم بقوله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خلْق نُّعِيدُهُ، إلى غير ذلك. وعرض لمسائل التكليف والجبر، والاختيار وأبان الحجة فيها؛ فحكى عن طائفة من المنافقين يوم أحد أنهم قالوا: هَل لَّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ؟ وقالوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَئٌْ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا، ورد عليهم في قولهم. وأمر الرسول أن يدعو دعوته، ويجادل مخالفيه، فقال تعالى: ادْعُ إَِلى سَبِيلِ رَبَّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنة وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُِ فكان طبيعيًا أن ينهج علماءالملة هذا المنهج فيردوا على المخالفين، ويتوسعوا في الدفاع توسع المخالفين في الهجوم، ويجددوا الحجج في الرد كلما جدد المخالفون الحجج في الطعن، فكان هذا من أسباب نشوء «علم الكلام».
  • (٢)
    أن المسلمين لما فرغوا من الفتح، واستقر بهم الأمر، واتسع لهم الرزق، أخذ عقلهم يتفلسف في الدين فيثير خلافات دينية، ويجتهد في بحثها والتوفيق بين مظاهرها، ويكاد يكون هذا مظهرًا عامًا في كل ما نعرفه من أديان، فهي أول أمرها عقيدة ساذجة قوية لا تأبه لخلاف، ولا تلتفت إلى بحث، ينفذ نظرها إلى أسس الدين فتعتنقها وتؤمن بها إيمانًا تامًا في غير ميل إلى بحث وفلسفة؛ ثم يأتي طور البحث والنظر وصبغ مسائل الدين صبغة علمية فلسفية، وإذ ذاك يلتجئ رجال الدين إلى الفلسفة يستعينون بها في تدعيم حججهم وتقوية براهينهم؛ هذا ما كان في اليهودية، وهذا ما كان في النصرانية، وهذا ما كان في الإسلام؛ فقد كاد ينقضي العصر الإسلامي الأول في إيمان لا يعتوره كثير من الجدل؛ فلما هدأ الناس أخذوا ينظرون ويبحثون، ويتوسعون في النظر والبحث، ويجمعون بين الأشباه والنظائر، ويستخرجون وجوه الفروق والموافقات، فكان ذلك يستتبع حتمًا اختلاف وجهة النظر، فاختلاف الآراء والمذاهب. والنسق لذلك مثلًا: أن المسلمين الأولين كانوا يؤمنون بالقدر خيره وشره، ويؤمنون بأن الإنسان مكلف بما أمره الله به، وكان إيمانهم بذلك إيمانًا قويًا مجملًا من غير تعمق في بحث، ولا تفلسف في نظر؛ فجاء من بعدهم يجمعون الآيات الواردة في هذا الموضوع ويفلسفونها؛ فرأوا من ناحية أن الله تعالى يقول — مثلًا —: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم أَمْ لْمْ تُنْذِرْهُمْ لايُؤْمِنُونْ، ويقول: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُّم يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآَيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، ويقول: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنىَ عَنْهُ مَاُلهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ فقالوا إن هذه الآيات وأمثالها. يدل ظاهرها على الجبر والتكليف بما لا يطاق؛ وقد أخبر الله في كل من الآيتين الأخيرتين عن شخص معين أنه لا يؤمن قط، ومع هذا كلفه الإيمان. ومن ناحية أخرى ملئ القرآن بالآيات الدالة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى، وقال تعالى: رُّسُلًا مُّبَشَّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ كيف التوفيق بين هذه الآيات جميعًا؟ وهل الإنسان مجبر أو مختار؟ وهكذا جمعوا الآيات التي ظاهرها الخلاف، وأخذوا يبحثونها البحث العلمي الفلسفي، ويوازنون بينها، فأدّاهم ذلك إلى اختلاف طويل وجدال عميق سنعرض له بعد. وكل ما نريد الآن أن نبينه هو كيف أدى البحث العلمي في المسألة إلى الاختلاف في الحجج والاختلاف في المذاهب مما كان أساسًا من أسس علم الكلام؟
  • (٣)

    المسائل السياسية — ولعل أوضح مثل لذلك مسألة الخلافة، فقد توفي رسول الله ولم يعين من يخلفه، ولم ينص على نظام يتبع في اختيار الخليفة، بدليل أن المهاجرين والأنصار اختلفوا، فقالت الأنصار: منَّا أمير ومنكم أمير، ورد عليهم المهاجرون.

وأسرع عمر فبايع أبا بكر وتبعه الناس، وعدّت هذه غلطة وقى الله المسلمين شرها، لأن المسلمين لم يستشاروا فيمن يكون خليفة واتبع أبو بكر طريقة أخرى، فعهد بالخلافة إلى عمر، واتبعه عمر طريقة ثالثة.

ولو نظرنا إلى المسألة بعقلنا اليوم لقلنا إنها مسألة سياسية بحتة، فالدين لم يقيد المسلمين فيها بشكل خاص ولا بشكل معين، وكل ما قيدهم به أن ينظروا إلى الصالح العام، فأولوا الرأي في الأمة يضعون القوانين التي تكفل حسن الاختيار، وتحسم أسباب النزاع، ويختارون من يحقق المصلحة العامة، ويعزلون من لم يحققها، وينظرون في كل زمن بما يناسبه، ويتقدمون في فهم ذلك يتقدم الناس في فهم الحقوق والواجبات؛ فإذا حدث خلاف بين أولى الرأي فيما يتبع وفيمن يختار فالخلاف سياسي، كالذي يكون بين الأحزاب السياسية اليوم؛ فإذا رأى قوم استخلاف أبي بكر فلهم رأيهم السياسي وحججهم السياسية، وإذا رأى قوم استخلاف عليّ فكذلك، وإذا رأى قوم أن لا هذا ولا ذاك أدلوا برأيهم، فإذا استطاعوا أن يقنع بعضهم بعضًا فيها، وإن حكّموا السيف وانتصر الأقوى فشأنهم شأن الأحزاب يختلفون فيتقاتلون، ويفوز أحدهم بالحكم فيظل فيه حتى يغلبه آخر بالرأي العام أو السيف.

ولكن لم يكن الأمر على هذا النحو في ذلك العصر الذي نؤرخه، فلم تتخذ الأحزاب هذا الشكل السياسي البحت، بل اصطبغت صبغة دينية قوية، وصار كل حزب سياسي فرقة دينية، وصار الذين يقتتلون سياسيّا يقتتلون دينيًا، وبدل أن يسمى الحزب اسمًا سياسيًا يدل على المبدأ السياسي الذي يدعو إليه تسمى اسمًا يدل على المذهب الديني: كشيعة وخوارج ومرجئة، وبدل أن يتحاجوا بما ينتج عن أعمالهم من مصالح ومفاسد تحاجوا بالكفر والإيمان والجنة والنار؛ فقد اختلف المسلمون بعد مقتل عثمان وانقسموا أحزابًا، وهي في الواقع أحزاب سياسية قد يرى كل حزب أن الحق بجانبه، وأن خير الأمة يتحقق باستخلاف من يدعو إليه؛ فحزب يرى أن عليَّا أولى الناس بأن يكون خليفة المسلمين، وحزب يرى أن معاوية هو الذي يحقق هذا الغرض، وحزب يرى أن لا هذا ولا ذاك بل لا حاجة إلى الخلافة. فإن كان ولابد فأصلح الناس للناس ولو كان عبدًا حبشيًا، وحزب محايد لم يكوّن رأيًا أو لم يشأ أن يدخل في الخلاف فيزيده قوة. فهو كما ترى خلاف كالذي يحصل بين الأمم اليوم؛ فيرى قوم أن مصلحة الأمة أن تكون ملكية يحكمها فلان، أو تكون جمهورية تحكم بشكل خاص، وحججهم في ذلك ما يذكرونه من الأدلة العقلية على هذا النوع أو ذاك؛ وقد لا يجدي العقل واللسان فيحكّم الحديد والنار ولا يكون بينهم خلاف ديني في هذا. ولكن رأينا في العصر أن الحزب الأول تسمَّى الشيعة، والثاني الأمويِّين، والثالث الخوارج، والرابع المرجئة. ورأينا الخلاف خلافًا دينيًا، ورأينا كل حزب له أدلته الدينية. ورأينا خلافًا في هذه الحروب حول الكفر والإيمان. ورأينا أن تسجيل هذه الحوادث والحروب والنزاع لم يكن محلها فقط كتب التاريخ، وهي التي تسجل الحوادث السياسية، بل عني بتسجيلها أيضًا كتب الفِرَق الدينية والملل والنحل.

وأحيانًا يُحكى القول من أقوال الفِرَق المختلفة على أنه مذهب ديني بحت ومسألة عقيدة صرفة، مع أنا لو دققنا النظر في أصلها لوجدناه سياسيًا: كمسألة مرتكب الكبيرة أكافر أم مؤمن، فالظاهر أن بحثها لم يكن بحثًا لاهوتيًا بحتًا، وإنما منشؤها حكم الأحزاب السياسية بعضها على بعض. فالخوارج أثاروا المسألة من ناحية من اتبع عليَّا أكافر أم مؤمن، ومن اتبع معاوية أكافر أم مؤمن؟ كما نتساءل نحن اليوم: ما حكم من اتبع مذهب كذا السياسي أخائن لوطنه أم غير خائن؟ ولكن طبيعة الزمن صبغت المسألة هذه الصبغة الدينية، ثم تنوسي أصلها على مر الزمان ووُضعت على أنها مسألة إيمانية مجردة من السياسة.

والسبب في هذا أن الدين الإسلامي كان في عنفوانه، وقد امتلأت نفوس الناس به وكان سبب سعادتهم الروحية والدينية والدنيوية وهم قريبو عهد بالنبوة، فنظرهم إلى المسائل — وخاصة الهامة منها — لابد أن يصطبغ اصطباغًا قويًا بالدين بحكم البيئة والجو. أضف إلى ذلك أنه كان في كل حرب مكرة مهرة، رأوا أن الناس في ذلك العصر لا يستهويهم القول بالصالح العام كما يستهويهم القول بأنهم في دفاعهم إنما يدافعون عن الدين، ويجردون السيف باسم الدين، فغرقت الأحزاب كلها في هذا البحر، واستعملت هذا السيف، وأثارت العواطف من هذا الباب، واستغلت عقول العلماء ليمدوها بما لديهم من علم في هذه السبل، وانضم إليهم من لا يخافون الله، فإذا لم يجدوا في الدين شيئًا وضعوا له الحديث والأخبار الدينية — وبذلك كله كان الخلاف السياسي سببًا كبيرًا من أسباب الخلاف الديني، وسببًا في العقائد والفرق؛ وإذا بنا نرى حزب عليّ فرقة دينية هي حزب الشيعة يرون أن الدين نص على عليّ وذريته، ونرى حزب الأمويين حزبًا دينيًا يرون أن إمامة معاوية وأولاده ثبتت بإتقان أهل الحل والعقد في الأمة؛ ونرى حزب الذين لا يرضون عن هؤلاء جميعًا حزبًا دينيًا يسمى الخوارج، له عقائده وتعاليمه؛ ونرى حزب المحايدين حزبًا دينيًا يسمى المرجئة له خلافاته وآراؤه، وساقهم هذا الخلاف السياسي الذي اصطبغ بالدين إلى الخلاف في تعريف الإيمان والكفر والكبائر والصغائر وحكم مرتكب الكبيرة ونحو ذلك، وانساقوا بعدُ إلى الخلاف في الفروع حتى تكونت من كل منهم فرقة لها خلاف في الأصول والفروع على مر الزمان.

أما الأسباب الخارجية فأهمها:

  • (١)
    أن كثيرًا ممن دخلوا في الإسلام بعد الفتح كانوا من ديانات مختلفة: يهودية ونصرانية ومانوية وزرادشتية وبراهمة وصابئة ودهريين إلخ. وكانوا قد نشأوا على تعاليم هذه الديانات وشبوا عليها، وكان ممن أسلم علماء في هذه الديانات، فلما اطمأنوا وهدأت نفوسهم، واستقرت على الدين الجديد وهو الإسلام، أخذوا يفكرون في تعاليم دينهم القديم، ويثيرون مسائل من مسائله، ويلبسونها لباس الإسلام، وهذا ما يعلل ما نرى في كتب الفرق من أقوال بعيدة كل البعد عن الإسلام؛ فنرى أحمد بن حائط يقول في التناسخ شبه ما يقول البراهمة، ويقول في المسيح (عليه السلام) قولًا يشبه قول النصارى١ إلى كثير من أمثال ذلك.
  • (٢)

    وسبب آخر وهو أن الفرق الإسلامية الأولى وخاصة المعتزلة جعلت من أهم أغراضها الدعوة إلى الإسلام والرد على المخالفين كما سترى، وما كان يتسنى لهم الرد إلا بعد الاطلاع على أقوالهم وأدلتهم، فدفعهم ذلك إلى الإحاطة بالفرق الأجنبية وأقوالها وحججها؛ فأصبحت البلاد الإسلامية ساحة تعرض فيها كل الآراء وكل الديانات ويتجادل فيها، ولاشك أن الجدل يستدعي النظر والتفكير، ويثير مسائل تستدعي التأمل، وتحمل كل فريق على الأخذ بما صح عنده من قول مخالفه.

    وكانت بعض الأديان، وخاصة اليهودية والنصرانية، قد تسلحت بالفلسفة اليونانية، ففيلون اليهودي (٢٥ق.م–٥٠ب.م) كان من أوائل من فلسف اليهودية في الإسكندرية؛ وكليمان الإسكندري (ولد نحو سنة ١٥٠م)، وأوريجين (سنة ١٨٥–٢٥٤م) من أوائل من مزجوا النصرانية. بالأفلاطونية الحديثة، وتبعهم كثير من النصارى النساطرة.٢ وقد أدى هذا إلى أن يلجأ المعتزلة إلى مثل السلاح الذي لجأ إليه خصومهم — ومن هذا الاحتكاك بين المعتزلة وأمثالهم وبين الملل الأخرى نشأت بين المسلمين أقوال مختلفة، مثَّلنا لها من قبل،٣ فكان ذلك سببًا من أسباب تضخم علم الكلام.
  • (٣)

    وسبب ثالث نتج من السبب الثاني، وهو أن حاجة المتكلمين إلى الفلسفة لوقوفهم أمام خصومهم يجادلونهم بمثل حججهم، اضطرتهم إلى أن يقرأوا الفلسفة اليونانية وينتفعوا بالمنطق وباللاهوت اليونانيين؛ فنرى «النَّظَّام» يقرأ أرسطو ويرد عليه، وأبا الهُذيل العلاف كذلك؛ ونرى كثيرًا عن المعتزلة يتكلمون في الطَّفرة والتوالد والجوهر والعرض والجوهر الفرد، ونحو ذلك من المسائل التي تعد من صميم الفلسفة اليونانية وتدخل في بحوث المتكلمين.

فهذه الأسباب كلها من داخلية وخارجية هي التي كونت علم الكلام وجعلته فنًا قائمًا بنفسه؛ فمن قال: إنه علم إسلامي بحت لم يتأثر أي أثر بفلسفة اليونان وسائر الأديان فقد أخطأ، واستعراض بسيط لموضوعات هذا العلم يكفي للرد عليه؛ ومن قال: إنه وليد الفلسفة اليونانية وحدها فقد أخطأ كذلك؛ لأن الإسلام هو أساسه، وهو محوره الذي يدور عليه، وكان استشهادهم بآيات القرآن والتعويل عليها فوق استشهادهم بالفلسفة اليونانية والتعويل عليها؛ فالحق أنه مزيج منهما، وشخصية المسلمين فيه أقوى من شخصيتهم في دراسة الفلسفة.

•••

سمي هذا العلم الذي يبحث في العقائد بالأدلة العقلية والرد على المخالفين بعلم الكلام، وسمي المشتغلون به بالمتكلمين. وقد اختلفوا في سبب هذه التسمية؟ فقال بعضهم: إنه سمي علم الكلام، لأن أهم مسألة وقع فيها الخلاف في العصور الأولى مسألة كلام الله وخلق القرآن، فسمي العلم كله بأهم مسألة فيه، أو لأن مبناه كلام صِرْف في المناظرات على العقائد، وليس يرجع إلى عمل، أو لأنهم تكلموا حيث كان السلف يسكت عما تكلموا فيه، أو لأنه في طرق استدلاله على أصول الدين أشبه بالمنطق في تبيينه مسالك الحجة في الفلسفة، فوضع للأول اسم مرادف للثاني، فسمي كلامًا مقابلة لكلمة «منطق»٤ إلى آخر ما قالوا.
والظاهر أن إطلاق هذا الاسم على هذا العلم كان في العصر العباسي، وعلى الأرجح في عصر المأمون، فقد رأينا أنه قبل ذلك كان يسمى البحث في مثل هذه الموضوع «الفقه في الدين» نظير «الفقه في العلم» وهو علم القانون، فقالوا «الفقه في الدين أفضل من الفقه في العلم»، وسمى أبو حنيفة كتابه في العقيدة «الفقه الأكبر». ويقول الشهرستاني: «ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسرت أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنًا من فنون العلم، وسمتها باسم الكلام»،٥ فعلى قوله يكون المعتزلة هم الذين سموا هذا العلم علم الكلام، وأن ذلك كان بعد أن نقلت إلى العربية كتب الفلسفة اليونانية أيام المأمون.

•••

هؤلاء المتكلمون من معتزلة ومرجئة وشيعة وخوارج وغيرهم سبقوا فلاسفة الإسلام في الزمان، فأول فيلسوف إسلامي عرف هو الكِنِديّ (المتوفى نحو سنة ٢٦٠هـ)؛ وقبل ذلك بعشرات السنين كان المتكلمون أمثال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلّاف، والنظّام، يبحثون في مسائل الكلام، ويقررون قواعده، ويضعون مبادئه — وقبل ذلك كان الحسن البصري في العهد الأموي، وغيلان الدمشقي، وجهم بن صفوان، يتعرضون لمسائل كلامية.

نعم إن الفلسفة اليونانية وجدت قبل الكندي، فقد عرف منطق أرسطو بين المسلمين من عهد ابن المقفع، وتسربت مسائل فلسفية لاهوتية من نصارى النساطرة وأمثالهم، واطلع بعض متقدمي المعتزلة كالنَّظَّام والعلّاف على بعض كتب الفلسفة، وترجمت كتب كثيرة في عهد المأمون وبعده، ولكن أول من اشتغل من المسلمين بالفلسفة كنظام كلِّي، وهضم قدرًا صالحًا من الفلسفة، واستحق أن يلقب فيلسوفًا في الإسلام هو هذا الكندي؛ على حين أن الكلام كان قد نضج قبل ذلك وتكوّن، واستحق كثير لقب «المتكلمين» سواء أطلق عليهم هذا الاسم أم لا.

•••

وهذا يسلمنا إلى التعرض لمسألة هامة، وهي أن للمتكلمين منهجًا خاصًا في البحث والتقرير والتدليل يخالف من جهةٍ منهج القرآن الكريم والحديث وأقوال الصحابة، ويخالف من جهة أخرى منهج الفلاسفة في بحثهم وتقريرهم وتدليلهم، فمنهجهم يخالف منهج مَن قبلهم ومنهج مَن بعدهم؛ ولنشرح ذلك في إيجاز:

فأما مخالفتهم لمنهج القرآن، فذلك أن القرآن اعتمد في الدعوة على أساس فطري، فيكاد يكون كل إنسان مفطورًا على الاعتقاد بوجود إله خلق العالم ودبَّره، ويكاد الناس بفطرتهم يجمعون على ذلك مهما اختلفت أسماء الله عندهم واختلفت صفاته؛ يستوي في ذلك الممعن في البداوة، والمغرق في الحضارة. وهذا ما يعجب له الباحث الاجتماعي، إذ يرى إجماع القبائل — حتى التي لم تتصل بغيرها أي اتصال، والتي لا تعرف من العالم إلا رقعتها من الأرض، وغطاءها من السماء — على إله خالق، إن اختلفوا فيه فخلاف في الأسماء أو الاختصاص؛ فالقرآن اعتمد على هذه الفطرة، وخاطب الناس بما يحيي هذه العاطفة وينميها ويقويها، ويصلح ما اعتورها من فساد الإشراك وما إليه، وأدار الدعوة على هذا الأساس؛ فالله تعالى خلق الإنسان وعني به وأحاطه ببيئته، ينتفع بها في تسيير شئونه من أرض وسماء، وليل ونهار، وماء وهواء، وشمس وقمر، وحيوان ونبات؛ وهو الذي خلق الإنسان، وخلق هذه الأشياء كلها، مما ندرك وما لا ندرك، وما نعلم وما لا نعلم، وهو واهب الوجود لها كلها، وواهب الحياة لما حيي منها، وواضع نظامها الذي لا تحيد عنه، وغيرهُ لا يستطيع أن يخلق ولو ذبابًا إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ؛ ثم غذَّى هذه العاطفة الفطرية بطلب النظر في كل ما حولنا؛ فذلك يسلم إلى قوة في دين، وإيمان في يقين فَلْيَنظُرِ الإِنْسَانُ إِلَي طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلىَ الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وإِلىَ السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلىَ الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلىَ الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا.

وسلك في الدعوة إلى التوحيد هذا المسلك، فاستدل على ذلك بالمألوف من تنازع ذوي السلطة، وما يؤدي إليه النزاع من فساد لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا، مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كما استدل على ذلك بوحدة النظام ووحدة الخلق، وخضوع المخلوقات جميعًا لنظام واحد تُسَبَّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا. وهكذا سار أسلوب القرآن على هذا المنهج في إثبات قدرته وعلمه.

وهذا الأسلوب — كما ذكرنا — يساير الفطرة ويغذيها، ويشعر كل إنسان في أعماق نفسه بالاستجابة له والإصغاء إليه، حتى الملحد بعقله؛ وهو منهج يوافق العامة، وهم السواد الأعظم في كل أمة وكل جيل، كما يناسب الخاصة، وهم الأقلون دائمًا.

فنظرة العامِّي إلى قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ تثير إيمانًا ساذجًا بعجيب القدرة، كما أن نظرة «البيولوجي» (عالم الحياة) إلى منشأ الإنسان وخلقه تثير عجبه وإعجابه وحيرته دائمًا وإيمانه العميق إلا قليلًا؛ ونظرة العامي إلى السماء وتلألؤ نجومها، وسطوع شموسها وأقمارها، تبعث عنده الإيمان بمدبر هذا الكون وعظمته؛ والفلكي بمعرفته الواسعة لحركات النجوم وسيرها ونظامها وخلقها وأبعادها أقدر على معرفة العظمة، وأشد إعجابًا بخالقها ومدبرها. وهكذا الشأن في العامي والفسيولوجي، والعامي والسيكولوجي، والعامي والفيلسوف — كلهم صالح لأن يتأثر بهذا المنهج على اختلاف في استعدادهم ومداركهم، وحياة عواطفهم وحياة عقولهم.

فالقرآن لا يؤلف برهانه تأليف المنطقي من مقدمة صغرى وكبرى ونتيجة، ولا يتعرض لألفاظ الفلسفة من جوهر وعرض ونحوهما، ولا يحددهما ولا يثير المشاكل العقلية ويفصلها ويبني عليها، لأن الدين لم يأت للفلاسفة وحدهم ولا للعلماء وحدهم، فالفلسفة والعلم حظ أقل عدد من الناس؛ إنما اعتمد — كما أسلفنا — على الفطرة والعاطفة، وهما قدر مشترك بين الناس جميعًا، فمن ثم كان ممن آمن علماء وجهلاء وفلاسفة وغيرهم، ولو اتبع الدين سبيل «علم المنطق» ما آمن إلا القليل.

ولكن جاء في القرآن آيات فيها غموض على الباحث؛ فآيات تدل على الجبر، وآيات تدل على الاختيار، فكيف التوفيق بينها؟ وما الرأي الحق الذي ترمي إليه هذه الآيات؟ وجاءت تثبت لله تعالى وجهًا ويدًا، وتعبر عنه بأنه السماوات والأرض وتقول إنه في السماء أَأَمِنْتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ، وتذكر أن له تعالى عرشًا وتقول: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا فكيف يتفق هذا وما ورد في القرآن من التنزيه؛ ومن قوله: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَي مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا إلى غير ذلك. وإذا كان العقل يثبت أنه تعالى ليس بجسم فكيف يمكن أن تفهم هذه الآيات؟ وهكذا وردت في القرآن آيات سميت «متشابهاتٍ» كانت مجال البحث والنظر.

أما الأولون من المسلمين فآمنوا بها وصدقوها من غير بحث كثير ولا جدال طويل، وفهموا هذه الآيات فهمًا مجملًا واكتفوا بهذا الفهم. وكان كثير من ذوي العقول الراجحة في العصر الأول يرى أن الدخول في تفصيل هذه المتشابهات والجدال فيها ليس من مصلحة المسلمين، ولا يستطيع فهمه جمهورهم، فأولى أن يكتفي فيها بالمعنى الإجمالي وإن غمض، وأن يكتفي العالم واسع النظر عميق الفكر بما يرشده إليه عقله لنفسه لا للجمهور، فقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الجارية التي كانت تعتقد أن الله في السماء، لأن عقلها لا يقوى على أكثر من ذلك. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: «حدِّثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذِّب الله ورسوله؟!». وجاء بعدهم قوم ساروا على هذا النحو؛ فقد رُوي عن الوليد بن مسلم أنه قال: «سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن الأخبار التي جاءت في الصفات (يعني صفات الله) فقالوا: «أمرُّوها كما جاءت بلا كيف»؛ وسئل ربيعة الرأي من قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كيف استوى فقال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق»؛ ورُوي عن مالك بن أنس أنه سئل: كيف استوى؟ فأطرق برأسه ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة».

فهؤلاء رأوا الوقوف عند ما جاء في الدين من غير تفسير، لأحد سببين: إما لأن هذه البحوث مما لا تصلح للعامة،أو لأن ما يتعلق بالله وصفاته شيء وراء العقل لا يمكن أن يصل إليه الإنسان إلا بأن يقيس الله على نفسه، وذلك خطأ كبير؛ فالأولى أن نقف على ما ورد فيه النص من غير سؤال بكيف وأين؛ وقد استمرت هذه المدرسة إلى العصر العباسي وبعده، فكان زعيمهم في عهد العباسيين أحمد بن حنبل، وفي العصور بعده ابن تيمية، وهكذا.

أما طريقة المتكلمين وشيوخهم فتغاير هذين الأصلين؛ فهم آمنوا بالله وما جاء به رسوله، ثم أرادوا أن يبرهنوا على ذلك بالأدلة العقلية المنطقية، فنقلوا الوضع من فطرة وعاطفة ومخاطبة لهما بالنظر في آيات الله إلى دائرة العقل والنظر، ومن فن جميل إلى علم ومنطق، ومن قلب إلى رأس؛ فبدلًا من أسلوب القرآن في نحو قوله: أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ؟ وضعوا طريقتهم في حدوث العالم، واضطر بعضهم ذلك إلى القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ وإقامة الدليل على عدم حدوثها بنفسها إلى أن يصلوا إلى إثبات الله. وهكذا سلكوا هذا السبيل في إثبات وحدانيته وسائر صفاته تعالى، وكانت كل خطوة من هذه الخطوات تثير أسئلة وجدلًا، وتفتح موضوعات جديدة، فساروا فيها إلى نهايتها.

هذه ناحية، والناحية الأخرى أنهم لم يقنعوا — كما قنع غيرهم — بالإيمان بالمتشابهات جملة من غير تفصيل؛ فجمعوا الآيات التي قد يظهر بينها خلاف كالجبر والاختيار، وكالآيات التي قد يظهر منها جسمية الله تعالى وسلطوا عليهاعقولهم، وجرؤوا على ما لم يجرؤ عليه غيرهم، فأدّاهم النظر في كل مسألة إلى رأي، فإذا وصلوا إليه عمدوا إلى الآيات التي يظهر أنها تخالف الأولى فأوّلُوها، فكان التأويل من أهم مظاهر المتكلمين فإذا أدّاهم البحث إلى أن الإنسان مختار أوَّلوا آيات الجبر؛ وإن أداهم البحث إلى أن الله منزه عن الجهة والمكان أوَّلوا الآيات التي تشعر بأنه تعالى في السماء، وأوَّلو الاستواء على العرش. وإذا أدّاهم البحث إلى أن نفي الجهة عن الله يستلزم أن أعين الناس لا يمكن أن تراه تعالى، لأنها ركبت تركيبًا بحيث لا ترى إلا ما كان في وجهه، أولوا الأخبار الواردة في رؤية الناس لله، وهكذا؛ فالتأويل عنصر من أهم عناصر، وأكبر مميز لهم عن السلف.

وطبيعي أن هذا المنحى في التأويل، وإعطاء العقل حريته في البحث والنظر، واتجاهه إلى أية جهة يراها، يستلزم اختلافًا كبيرًا؛ فإن أدى النظر قومًا إلى الاختيار، وتأويل آيات الجبر، قد يؤدي النظر غيرهم إلى إثبات الجبر وتأويل آيات الاختيار.

وهذان الأمران — أعني الاعتماد في البراهين على العقليات والتأويل — هما اللذان يعللان ما استفاض في عصور المتكلمين من خلاف ومن أقوال لا عداد لها، ومن براهين لا حصر لها، مما لم يكن معروفًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصدر الأول.٦

ويظهر أن الذي دعا إلى هذا التحول أمران: الأول ما أشرنا إليه قبل من أن أوائل المتكلمين قد دخلوا في حوار عميق مع أقوام من الملل الأخرى من يهودية ونصرانية ووثنية، وكانت قد تفلسفت عقولهم، وهؤلاء لم يكفهم في الإقناع أن تذكر لهم آية من القرآن أو الحديث، بل يريدون الرجوع على قضايا تستند على القدر المشترك من العقل، فاضطر ذلك المتكلمين أن يدخلوا في منهجهم ويسلكوا سبيلهم، ويؤلفوا الأدلة العقلية على وجود الله، ويؤلفوا — كمافعل الجاحظ — الكتب في إثبات النبوة على العموم، وفي إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على الخصوص، مما يدل على وجود قوم بينهم كانوا ينكرون الألوهية يسمَّون الطبيعيين أو الدهريين، وقوم لا يعترفون بنبوة ما، وقوم يعترفون بالنبوة ولكن يجحدون نبوة محمد ؛ فدخلوا معهم في جدال حاد، وفلسفوا أدلتهم كما فلسف المخالفون أدلتهم.

والسبب الثاني: ما في طبيعة كل أمة تتمدين من انقسام إلى محافظين وأحرار، في السياسة والعلم والفلسفة والدين؛ فالمحافظون في الدين رأوا الوقوف عند النص وعدم الخروج قيد شعرة عما صرح به الدين، والنطق بما نطق به في حدود ألفاظه، والسكوت عما سكت عنه؛ والأحرار لا يريدون أن يقفوا عند النصوص، بل يُعملون فيها عقلهم، ويصرحون بما يؤديهم إليه رأيهم، ويؤولون ما يخالفه؛ فكان الانقسام بينهم في أصول الدين شبيهًا بالخلاف بينهم في الفروع من أهل الحديث وهم يمثلون المحافظين، وأهل الرأي ويمثلون الأحرار.

هذا — في إجمال — وجه الخلاف بين منهج الأدلة عند المتكلمين، ومنهج الأدلة في القرآن الكريم.

أما الخلاف بين منهج الفلاسفة في الإلهيات ومنهج المتكلمين، فيرجع إلى أمور أهمها:

  • (١)

    أن المتكلمين اعتقدوا قواعد الإيمان، وأقروا بصحتها، وآمنوا بها، ثم اتخذوا أدلتهم العقلية للبرهنة عليها، فهم يبرهنون عليها عقليًا كما برهن القرآن عليها وجدانيًا؛ أما الفلاسفة فهم يبحثون المسائل بحثًا مجردًا، ويفرضون أن عقولهم خالية من مؤثرات ومن اعتقادات، ثم يبدأون النظر منتظرين ما يؤدي إليه البرهان، سائرين خطوة خطوة حتى يصلوا إلى النتيجة كائنة ما كانت فيعتقدونها؛ هذا هو الغرض من الفلسفة والعمدة فيها. نعم إن التجرد من الإلف والعادة والنشأة والبيئة لا يمكن أن يحصل على أتمه، وقد حدث فعلًا أن تأثر فلاسفة اليونان بالوثنية، وفلاسفة النصارى واليهود بالنصرانية واليهودية، وفلاسفة المسلمين بالإسلام؛ ولكن — على كل حال — منهج بحثهم وعماده هو هذا النظر في المسائل كما يدل عليه البرهان، ومنهج المتكلمين إقامة البرهان بعد أن آمنوا بالقواعد الأساسية للإسلام. فموقف المتكلمين موقف «محام» مخلص اعتقد صحة قضية وتولى الدفاع عنها، يصوغ لها من الحجج والأدلة ما يؤديها ويثبت ما اعتقد من صحتها؛ وموقف الفيلسوف موقف قاض عادل تعرض عليه قضية لا يكوّن فيها رأيًا حتى يسمع حجج هؤلاء وهؤلاء، ويزنها كلها بميزان دقيق من غير تحيز، ثم يكوّن فيها رأيه، ويصدر حكمه.

ولعل هذا هو ما يقصده ابن خلدون من قوله: «إن نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد. وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية».٧

هذا هو الأصل، وإن كان المتكلمون بعد أن شاعت الفلسفة في المملكة الإسلامية تأثروا بالفلاسفة في بحوثهم ومناهجهم، ونقلوا في علم الكلام بعض أقوال الفلاسفة، وأخذوا يردّون عليهم كأنهم من أرباب العقائد كما فعل الغزالي في كتابه «الاقتصاد».

وكذلك الفلاسفة المسلمون تأثروا بالكلام والمتكلمين، فاستعملوا بعض اصطلاحاتهم؛ وأكثر من ذلك أنهم سلموا بأشياء دينية سمعية لا يمكن إقامة البرهان العقلي على صحتها أو على بطلانها كما قال ابن سينا: «وأما المعاد الجسماني وأحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان … وقد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية فلينظر فيها، ولنرجع في أحواله إليها».٨
  • (٢)
    أن المتكلمين وقفوا أكثر ما وقفوا للدفاع عن عقيدتهم، ودحض حجج خصومهم، سواء كان هؤلاء الخصوم إسلاميين أم غير إسلاميين، فأكثروا من حكاية الأقوال والردعليها؛ والفلاسفة وخاصة الأولين منهم أكثر ما وقفوا عند تقرير الحقائق، أو على الأقل ما اعتقدوه حقائق، وبرهنوا عليها من غير دخول كثير في حكاية الأقوال المخالفة والرد عليها. ولهذا كان الفلاسفة يرمون المتكلمين بأنهم أهل سفسطة وجدل. قال أبو حيَّان التوحيدي: «قلت لأبي سليمان: ما الفرق بين طريقة المتكلمين والفلاسفة؟ فقال: ما هو ظاهر لكل تمييز وعقل وفهم، طريقتهم (يعني المتكلمين) مؤسسة على مكايلة اللفظ باللفظ، وموازنة الشيء بالشيء … والاعتماد على الجدل … وكل ذلك يتعلق بالمغالطة والتدافع وإسكات الخصم بما اتفق»٩ إلخ.

ولاختلاف المنهجين كان بين المتكلمين والفلاسفة في تاريخ الإسلام خصومة رغم ما استفاد بعض من بعض، كالخصومة بين ابن رشد والمتكلمين، وبين الغزالي والفلاسفة.

•••

ومما يتصل بهذا أن هناك فرقًا بين علم الكلام والفلسفة الإسلامية من حيث نشوؤهما؛ فالكلام في الإسلام نشأ تدريجيًا ونشأ مسائل متفرقة، تثير فرقة مسألة فيبدي فيها قوم رأيًا آخر، ويكوّنون فرقة وهكذا، كالذي حدث في مسألة مرتكب الكبيرة أكافر أم مؤمن؟ تقول الخوارج إنه كافر، فيأتي قوم ويقولون هو في منزلة بين المنزلتين، لا هو مؤمن ولا هو كافر، وتتكوّن حول هذا الرأي الأخير فرقة الاعتزال. وهكذا كانت المسائل المتفرقة تثار، ويتكوّن المذهب تدريجيًا، وكلما تقدم العصر أثيرت مسائل جديدة، ووضعت لها حلول جديدة، وهذا شأن كل العلوم الإسلامية من نحو وفقه وبلاغة. أما الفلسفة في الإسلام فلم تتدرج هذا التدرج لأنها قطعت شوط النشوء عند اليونان، ثم نقلت كاملة أو شبه كاملة، والجديد فيها إنما كان اشتغال المسلمين بها وتفهمها وشرحها والتعليق عليها، وإبداء بعض الآراء فيها، والتوفيق بين بعض قضاياها والقضايا الإسلامية. وهذا ماجعلنا نعدّ علم الكلام علمًا إسلاميًا، وإن كان فيه بعض المسائل الفلسفية اليونانية، على حين أنَّا لا نستطيع أن نسمي الفلسفة التي اشتغل بها الكندي والفارابي وابن سينا فلسفة إسلامية إلا بقدر من التجوّز.

•••

والآن نعرض لأهم الفرق الإسلامية في العصر العباسي، فنشرح ما حدث فيها بعد أن أبنَّا نشأتها في العصر الأموي في الجزء الأول من «فجر الإسلام»، ونبيّن أهم أقوالها، ونترجم لأشهر رجالها.

١  انظر حكاية قوله في الشهرستاني ١/ ٧٧ على هامش ابن حزم.
٢  انظر ضحى الإسلام ٢٦٠/١ وما بعدها.
٣  ضحى الإسلام٢٣٦/١ وانظر كذلك ص ٣٥٧ وما بعدها.
٤  في كتاب الانتصار ص ٧٢ كلام يصح أن يكون سببًا لتسمية علم الكلام، فقد قال: «الذي يدل على عظم قدر المعتزلة في الكلام، وأنهم أرباب النظر دون جميع الناس أنك عند ذكر مخالفة بعضهم لبعض لم تقدر أن تحكي لمخالف لهم حرفًا واحدًا، وإنما يسأل بعضهم بعضًا، فأما، كلمة واحدة لغيرهم فلا يقدر عليها لتعلم أن الكلام لهم دون سواهم».
٥  الملل ٣٢/١.
٦  انظر في هذا الكتابين القيمين لابن رشد، «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» و«الكشف عن مناهج الأدلة من عقائد الله».
٧  مقدمة ابن خلدون ص ٣٨٩.
٨  المقدمة ص ٤٥٧.
٩  المقابسات ص ٢٢٣ طبعة مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤