الفصل التاسع

الثقافه اليونانية الرومانية

إذا نحن وصلنا إلى اليونان، فقد وضعنا أيدينا على كنز لا يفنى، وثروة لا تقدر، وغنى عظيم في كل ما ينتجه العقل والعاطفة والذوق؛ في الفلسفة، والرياضة، والفلك، في علوم الطبيعة والحياة والطب، في الأدب، في التاريخ، في السياسة، في الفنون الجميلة. لقد نفخوا في كل ذلك من روحهم، وغذّوا العقول بآرائهم، وأمدوا العالم بأفكارهم وآدابهم، وعِلمِهم وأساطيرهم، وربوا الذوق بفنهم، ونحتهم وتصويرهم.

فأقليدس ظل إمامًا في الهندسة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن التاسع عشر الميلادي. والطب ظل قائمًا في العصور القديمة والقرون الوسطى على أساس ما دَوَّنَ بقراط وجالينوس. والفلاسفة إلى اليوم عيال على تعاليم سقراط وأفلاطون، وسياسة أرسطو، ومن إليهم من فلاسفة اليونان، وجمهورية أفلاطون وأرسطو منبع لما جد من نظريات في السياسة، وهكذا في كل فرع من فروع العلم والفلسفة والفن، فلسفة المسلمين أسست على فلسفتهم، والمدينة الحديثة بما فيها من علم وأدب نهضت على أكتافهم، وأول شرارة للنهضة الأوروبية الحديثة إنما انبعثت من كتبهم، تمتاز علومهم وفلسفتهم بميزة يكاد مؤرخو الفلسفة يجمعون عليها وهي أن اليونان كانوا يبحثون وراء الحق للحق، على حين أن كثيرًا من الأمم كانت تتفلسف لما يتبع الفلسفة من فوائد مادية، أو لتأييد قضايا دينية، ومن ثم لم يشاءوا أن يعدوا الآراء الهندية أو المصرية أو الصينية الآشورية والبابلية فلسفة؛ لأنهم شرطوا في الفلسفة البحث وراء الحقيقة المجردة في حرية تامة، وسمو عن المادة، ولا عدوا الرومانيين أمثال «ماركوس أورِيليوس» و«سنيكا» و«شيشيرون» فلاسفة؛ لأنهم لم يقدموا للعالم آراء فلسفية جديدة، تزيد في ثروة الفلسفة اليونانية.

وليس من غرضنا أن نلم بما وصل إليه اليونان في بحثهم في كل فرع من فروع العلم والفلسفة والفن؛ فذلك ما لا يحتمله فصل في كتاب.١ وإنما غرضنا أن نعرض لبيان ما اقتبس المسلمون من الثقافة اليونانية الرومانية، ونبحث في إيجاز عن أي طريق وصلت هذه الثقافة للمسلمين.
كانت فتوح الإسكندر المقدوني لكثير من بلاد آسيا وأفريقيا سببًا كبيرًا من أسباب انتشار الثقافة اليونانية في الشرق؛ فقد كانت مملكته بلاد اليونان ومقدونية في أوروبا، ومصر وليبيا في أفريقيا، وسوريا وفلسطين والعراق وما إليه، وبلاد الفرس، وتركستان وأفغانستان وبلوخستان، وقسمًا من بلاد الهند في آسيا. وكان من سياسته التقريب بين هذه البلاد المفتوحة وبلاد الإغريق، ومزج الجنس الإغريقي بأجناس آسيا وأفريقيا في الحضارة والعمارة، ونظم الحكم والثقافة، ولهذا كان يحث اليونانيين على سكنى هذه البلاد، ومخالطة أهلها، وينظم مدنها تنظيمًا يونانيًّا، ويشجع الأدباء والكتاب والعلماء على نشر أدبهم وعلمهم؛ فكان مِن ذلك ومن الولاة اليونانيين الذين ورِثوا الحكم من الإسكندر في الممالك الشرقية أن انتشرت الحضارة اليونانية والثقافة اليونانية من عهد الإسكندر. وكانت البلاد التي بين دجلة والفرات تَغْلِب عليها الثقافة الإغريقية، حتى ليروون أنه لما وصل موت كراسوس Crassus إلى أوروديس Orodes الملك البرثي٢ كان يطالع مأساة من روايات يوريبيدس Euripides. وظلت هذه الثقافة تنمو وتأتي ثمرها، حتى بعد أن انسحب الجيش اليوناني من هذه الأقطار، واشتهرت في الشرق قبل الإسلام إلى ما بعده مدن كثيرة كانت منبعًا للثقافة اليونانية؛ من أشهرها جنديسابور، وحران، والإسكندرية.
فجنديسابور: مدينة في خوزستان أسسها سابور الأول وإليه تنسب، واتخذها موطًنا لأسرى الروم. ولعل هذا من الأسباب التي جعلتها فيما بعد منبعا للثقافة اليونانية، وأسس فيها كسرى أنوشروان مدرسة الطب المشهورة. وكانت تُعلَّم فيها العلوم اليونانية باللغة الآرامية، وقد فتحها المسلمون فيما فتحوا من بلاد الفرس، وظلت المدرسة قائمة إلى العصر العباسي، ولم يبق من البلد في عهد ياقوت إلا أطلالها، وقد زالت هذه الأطلال، ولم يبق منها الآن أثر. وموقعها اليوم. أطلال «شاه أباد»٣
كان الذي أنشأه كسرى في جنديسابور بيمارستانًا يعالج فيه المرضى، ويدرس فيه الطب وما إليه. يحكي القِفْطي: أن المدينة بنيت على شكل القسطنطينية، وأن أول من علّم الطب بها أطباء من الروم: «ولما أقاموا بها بدءوا يعلِّمون أحداثًا من أهلها، ولم يزل أمرهم يقوى في العلم، ويتزايدون فيه، ويرتبون قوانين العلاج على مقتضى أمزجة بلدانهم، حتى «برزوا في الفضائل».٤ وفي سنة عشرين من ملك كسرى، اجتمع أطباء جنديسابور بأمر الملك، وجرى بينهم مسائل وأجوبتها، وأُثبتت عنهم، وكان أمرًا مشهورًا، وهذه المسائل والتعريفات إذا تأملها القارئ استدل على فضلهم، وغزارة علمهم.»٥ وكان أطباء جنديسابور يعتقدون أنهم أهلُ هذا العلم، ولا يخرجونه عنهم، وعن أولادهم وجنسهم. وقد رووا أن الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب تعلّم قبيل الإسلام في مدرسة جنديسابور، وعالج بفارس، وطَبب بعض أجلاء الفرس، فأعطاه مالًا وجارية، سماها الحارث سمية، وهي أم زياد بن أبيه. ومات الحارث في أول الإسلام ولم يصح إسلامه.٦

وقد كانت تدرس في مدرسة جنديسابور الثقافة الهندية بجانب الثقافة اليونانية، وكان يشترك بعض الهنود في التدريس باللغة الفهلوية.

وظلت مدرسة جُنْديسابور تؤدي عملها في الإسلام كما كان في عهد الفرس، وازداد اتصالها بالمسلمين في العهد العباسي، فإن أبا جعفر المنصور عندما بنى بغداد أصيب بمرض في معدته، لم يستطع أطباؤه معالجته، فدلوه على جورجيس بن بختيشوع رئيس أطباء جنديسابور.٧ ومن ذلك الحين اتصلت قصور الخلفاء بمدرسة جنديسابور، حتى إن الرشيد أمر جبريل بن بخَتيشوع أن يعمل ببغداد بيمارستانًا على نمط بيمارستان جنديسابور، وتقلد رياسته أطباء جنديسابور وتلاميذهم.٨

وقد اشتهر من مدرسة جنديسابور في العصر العباسي جورجيس بن بختيشوع طبيب المنصور، وابنه بختيشوع طبيب الرشيد، وجبريل بن بختيشوع طبيب المأمون … إلخ، وكانوا كلهم نصارى نساطرة.

حران: وأما حران فمدينة في الجزيرة شمالي العراق، تقع بين الرها (أودسا) ورأس العين. وهي مدينة قديمة، عاصرت اليونان والرومان، والنصرانية والإسلام، وفي عهد الإسكندر سكن كثير من المقدونيين هذا الجزء الشمالي للعراق، وكان من أثر ذلك في حران أن الآلهة المعبودة عند الحرانيين اتخذت أسماء يونانية. وفي أول عهد النصرانيين كان شمالي العراق (ومنه حران) يسكنه أهله الأصليون، وهم السريانيون، وكثير من المقدونيين والإغريقيين والأرمن والعرب. ولما قويت النصرانية، وأصبحت دين الرومانيين الرسمي حاولوا أن يضغطوا على الحرانيين ليتنصروا فلم ينجحوا. ومن أجل ذلك كان رجال الكنيسة يطلقون على حران مدينة الوثنيين، «هيلينوبوليس» Hellenopolis،٩ وظلت حران (مدينة الوثنيين) يهرب إليها الذين لم يشاءوا أن يدخلوا في النصرانية من اليونانيين وغيرهم، ويظهر أن دينهم كان مزيجًا من الديانة البابلية، واليونانية القديمة، والأفلاطونية الحديثة، حتى كان شأنهم كذلك في العصر الإسلامي، إلى عهد المأمون، فتسموا — إذ ذاك — بالصابئة؛ احتماء بما يفهم من القرآن الكريم من عد الصابئين من أهل الكتاب، ولم يكن ذلك الاسم يطلق عليهم من قبل، إنما كان يطلق على قوم لهم ديانة مزيج من اليهودية والنصرانية، كانوا يسكنون «البطيحة» كما ذكر القفطي (وهي أرض واسعة بين واسط والبصرة).١٠
روى ابن النديم أن المأمون اجتاز في آخر أيامه ديار مصر، يريد بلاد الروم للغزو، فتلقاه الناس يدعون له، وفيهم جماعة من الحرانيين (الحرنانيين). وكان زيهم إذ ذاك لبس الأقبية، وشعورهم طويلة بوفرات، فأنكر المأمون زيهم! وقال لهم: من أنتم من الذمة؟ قالوا: لا، قال: فمجوس أنتم؟ قالوا: لا، قال لهم: أفلكم كتاب أم نبي؟ فجمجموا في القول. فقال لهم: فأنتم إذن الزنادقة عبدة الأوثان، وأصحاب الرأس في أيام الرشيد والدي، وأنتم حلال دماؤكم، لا ذمة لكم. فقالوا: نحن نؤدي الجزية! فقال لهم: إنما تؤخذ الجزية ممن خالف الإسلام من أهل الأديان الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه ولهم كتاب، فاختاروا أحد أمرين؛ إما أن تنتحلوا دين الإسلام، أو دينًا من الأديان التي ذكره االله في كتابه، وإلا قتلتكم عن آخركم، فإني قد أنظرتكم إلى أن أرجع من سفرتي هذه. ورحل المأمون يريد بلد الروم، فغيروا زيهم، وحلقوا شعورهم، وتركوا لبس الأقبية، وتنصر كثير منهم، ولبسوا زنانير، وأسلم منهم طائفة، وبقي منهم شرذمة بحالهم، وجعلوا يحتالون ويضطربون، حتى انتدب لهم شيخ من أهل حران فقيه، فقال لهم: قد وجدت شيئًا تنجون به، وتسلمون من القتل. فحملوا إليه مالا عظيما، فقال لهم: إذا رجع المأمون من سفره فقولوا له نحن الصابئون! فهذا اسم دين قد ذكره الله جل اسمه في القرآن، فانتحِلوه فأنتم تنجون به، وقضى أن المأمون توفي في سفرته، وانتحلوا ذلك الاسم من ذلك الوقت؛ لأنه لم يكن بحران ونواحيها قوم يسمون بالصابئة، فلما اتصل بهم وفاة المأمون ارتد أكثر من كان تنصر منهم وطولوا شعورهم، إلخ،١١ وأُطلق عليهم الصابئة منذ ذلك الحين.

•••

على كل حال كان هؤلاء الحرانيون منبعًا كبيرًا من منابع الثقافة اليونانية في العهد الإسلامي، وقد اتصلت مدرستهم بالخلفاء العباسيين بعد اتصال مدرسة جنديسابور، وبعد العصر الذي نؤرخه. فأول من اتصل منهم ثابت بن قرة ٢٣٢١–٢٨٨هـ) أوصله بالمعتضد بنو موسى بن شاكر) الذين رباهم المأمون. ومن ذلك الحين قرب الحرانيون من الخلفاء، ثم من بني بويه، واشتهر منهم ثابت بن قرة هذا الرياضي الفلكي، وابن سِنان الطبيب العالم بالظواهر الجوية وقد أسلم، وحفيده إبراهيم بن سنان، كما اشتهر منهم أسرة هلال، ومنهم هلال بن إبراهيم، وكان طبيبًا، وابنه الأديب المشهور إبراهيم أبو إسحاق الصابئ، صاحب الرسائل، وكان بليغًا وله اليد الطُّولى في الرياضة والهندسة والهيئة. كما كان من الحرانيين «البتَّاني» أحد المشهورين برصد الكواكب، والمتقدمين في علم الهندسة، وصاحب الزيج المنسوب إليه. ومنهم أبو جعفر الخازن الرياضي، وابن وحشية المنسوب إليه الفلاحة النَّبطية … إلخ. ولئن كانت مدرسة جندياسبور لها الأثر الكبير في نشر الثقافة اليونانية في الطب، وما إليه من فلسفة، فمدرسة حران كان أثرها الأكبر في الرياضيات، وخاصة الهيئة. ولعل ما في ديانتهم من تعظيم الكواكب، وإقامة الهياكل لها كان باعثًا على نبوغهم في العلوم الرياضية والفلكية.

•••

وأما الإسكندرية: فعاصمة مصر اليونانية، وبها ولد مذهب من أكبر المذاهب الفلسفية هو مذهب الإسكندرانيين، أو الأفلاطونية الحديثة. مؤسسه مصري هو «أفلوطين» (٢٠٥–٢٦٩م)، وهذا المذهب مدِين بأهم أفكاره لفلاسفة اليونان، فعناصره الأولى مستمدة من آراء أفلاطون، وأرسطو، والرواقيين.١٢ وقد امتاز بروحانيته ونقده للمذهب المادي، حتى لقد حكى أفلوطين أنه وصل في روحانيته إلى الاستغراق في الوحدانية، أو إلى التعبير الصوفي «الفناء في الألوهية» بضع مرات في حياته، ووصل إلى ذلك تلميذه مرة واحدة. وقد ظل مذهبه هو فورفوريوس Porphyry المذهب الفلسفي السائد في المملكة الرومانية نحو قرنين ونصف قرن بعد وفاة مؤسسه، حتى أتى الإمبراطور جوستنيان فأمر سنة ٥٢٩م بإغلاق مدارس أثينا الفلسفية، وصادر أملاك الفلاسفة، وغلَّ عقولهم وقيد ألسنتهم.

بجانب هذه الحركة الفلسفية كانت حركة واسعة في الأدب والعلم والفن، وأطلق على هذه الحركات كلها مدرسة الإسكندرية، وقد عاشت من سنة ٣٠٦ق.م إلى ٦٤٢ب.م. وكان يغذي هذه الحركة متحف الإسكندرية، ومكتبتها المشهورة.

ويقسم مؤرخو هذه المدرسة تاريخها إلى عصرين؛ العصر الأول: من قيام دولة البطالسة إلى غلبة الرومان (أعني من سنة ٣٠٦ق.م، إلى سنة ٣٠م) وقد عدت الإسكندرية في هذا العصر في مقدمة بلاد العالم في الأدب. والعصر الثاني: من سنة ٣٠م إلى سنة ٦٤٢م، وهي سنة فتح العرب للإسكندرية، وتمتاز في هذا العصر بالمذهب الفلسفي الذي أشرنا إليه، وكانت المدرسة في عصريها متصلة بالعالم حولها تمده بنورها.

انتشرت الديانة النصرانية في الإسكندرية، في العهد الروماني، كما انتشرت في غيرها، وقامت النصرانية فيها بجانب الفلسفة اليونانية، واختلفت النصارى فيما بينهم طوائف وشيعًا، وتجادلوا في طبيعة المسيح، وناسوته، ولاهوته وعلاقة المسيح بالله، فلجئوا إلى الفلسفة يستعينون بما لها من منطق وترتيب في الجدل، وبما لها من أبحاث وراء المادة، ومن ثَم اتصلت النصرانية بالفلسفة اليونانية، وكانت أول حركة للاتصال في الإسكندرية، كما اتَّصلت اليهودية بالفلسفة في الإسكندرية أيضًا من قبل على يد فيلون. وكان من أوائل النصارى في ذلك «كليمان الإسكندري» Clement١٣ فمزج النصرانية بالأفلاطونية، ثم من بعده (١٨٥–٢٥٤م) تلميذ أفلوطين «أوريجين» Origen، واضْطُهِد أوريجين ففر من الإسكندرية، وأنشأ مدرسة على النمط الإسكندري في قيصرية في فلسطين. ثم أُسست بعد مدرسة على هذا النمط في نصِيبين، وأغلقت مدرسة نصيبين، فانتقلت إلى الرها. وهكذا انتشر النَّمط الإسكندري في مزج النصرانية بالفلسفة في أنحاء الشرق، وأصبح كثير من رجال الكنيسة يعلمون النصرانية مفلسفة أو الفلسفة منصرة، وجدوا في التوفيق بين ما يتعارض بينهما، فمثلا قالت النصارى: «إن المسيح ابن الله»، والأبوة مقدمة على البُنوة، تَقدم السبب على المسبب، وإذن كان الله قبل المسيح. وترى الفلسفة أن العلة الأولى، أو بعبارة أخرى «الله» لا يلحقه تغير، فكيف يكون أبًا، وكان قبلُ غير أب، فيجب أن يفسر الابن تفسيرًا يتفق والفلسفة، وهكذا.
وكان أغلب القائمين بهذه الحركة النصارى النَّساطِرة، فبثوا مدارسهم وتعاليمهم في الشرق، وكانوا يعلِّمون باللغة السريانية، وينقلون الكتب اليونانية إلى السريانية. وكانت الحرب في ذلك العهد قائمة بين الفرس واليونان في آسيا، فكان كثير من البلاد يقع حينًا في يد الرومان، وحينًا في يد الفرس. وأقنع «برسوما» ملك الفرس «فيروز» بأن النساطرة يكرهون الرومانيين؛ بما لقوا منهم من عَنت، وأنهم يوالون الفرس، فقبل منهم فيروز ذلك، وظلوا هم قائمين بما وعدوا Oleary, Arabie Thought.

•••

ولعل هذا الذي ذكرنا يلقي ضوءًا على كثير من المسائل الغامضة التي تعترض الباحث: كيف اتصل الفرس بالفلسفة اليونانية، وكيف عرفوا «إيساغوجي» وأمثاله من كتب اليونان؟ وكيف كانت الأديار المبثوثة في الشرق مصدرًا للفلسفة اليونانية؟ وكيف اتصل المسلمون بالفلسفة اليونانية؟ فظهرت في المجادلات الدينية وغيرها، وفي مناقشات المعتزلة وغيرهم، قبل أن تُنْقَل الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية نقْلًا منظمًا في عهد المأمون ومن بعده. ولم كان المترجمون الأولون (من السريانية أو اليونانية إلى العربية) أكثرهم نصارى أو وثنيون؟ لعل القارئ يجد طرفًا من الإجابة عن هذه الأسئلة فيما حكينا.

كانت الكنيسة الإسكندرانية والمصرية في الغالب على مذهب اليعاقبة، وكانت لغتها السريانية والقبطية، وكان إنتاج النساطرة في آسيا في الفلسفة باللغة السريانية أكثر من إنتاج اليعاقبة في مصر؛ لأن الجدل الديني في آسيا (وخاصة في العراق) بين النصارى بعضهم وبعض، وبين النصارى وغيرهم من أهل الديانات الأخرى؛ كان أكثر منه في مصر، وقد اشتهرت مدرسة الإسكندرية بالطب والكيمياء والعلوم الطبيعية، وكانت كذلك عند الفتح العربي، ولكن أبحاثها إذ ذاك كانت ممزوجة بالسحر والطلاسم والتنجيم. غلب على اليعاقبة في مصر مذهب الأفلاطونية الحديثة، والميل إلى التصوف، وحب معيشة الأديار والرهبنة، على حين غلب على النساطرة في آسيا الميل إلى التفكير الفلسفي، وحب المنطق من غير إغراق في الروحانية والرهبنة، وإن كانت لهم أديار.

وقد اتصل المسلمون بمدرسة الإسكندرية في العهد الأموي، فنرى أن خالد بن يزيد بن معاوية يترجم له بعض كتب «اصطفن» ويلقبه القفطي اصطفن الإسكندراني، ونرى بن أبجر (وهو طبيب سكندري) يسلم على يد عمر بن عبد العزيز، ويصحبه ويستطبه عمر، ويعتمد عليه في صناعة الطب.١٤
وفي العصر العباسي، نرى ذكرًا لبعض تلاميذ المدرسة الإسكندرانية؛ فابن أبي أصيبعة يروي أن «بليطيان» كان طبيبًا نصرانيًّا مشهورًا بديار مصر، وكان بطريركًا على الإسكندرية في أيام المنصور، فلما ولي الرشيد مرضت له جارية مصرية فطلب لها طبيبًا مصريًّا؛ لأنه أبصر بعلاجها، فأرسل إليه «بليطيان». وبعده كان سعيد بن توفيل طبيب أحمد بن طولون، وهكذا.١٥ ولكن مما نلاحظ أن مدرسة الإسكندرية لم تتصل بالخلفاء العباسيين اتصال مدرسة جنديسابور وحران وأمثالهما، ولم يكن لها أثر كأثرهما، ولعل السبب في ذلك بعد مصر عن العراق، وقرب حران وجنديسابور، وأن مدرسة الإسكندرية كما أشرنا انغمست في العزائم والرهبنة والمكاشفة، على العكس من مدارس العراق؛ فقد كانت أعلم بشئون الدنيا، وأكثر اهتمامًا بعلومها، وهذا أنسب لدولة ناهضة كالدولة العباسية، أما نزعة الإسكندرية هذه فتناسب التصوف، وسنعرض لذلك عند الكلام في التصوف إن شاء الله. وسبب آخر، وهو ضعف مدرسة الإسكندرية قبيل الإسلام، واضطهاد أهلها، وإحراق كتبها، حتى اضطر كثير من معتنقيها إلى التنصر، أو الفرار من البلاد.

على كل حال فسر النّساطرة واليعاقِبة كثيرًا من كتب اليونان، نقلوها من هذه اللغة إلى اللغة السريانية، فلما اتصلوا بالعرب كانوا هم أيضًا البادئين بنقل هذه الكتب من السريانية إلى العربية وشرحها، وتاريخ هذه الحركة التي قام بها هؤلاء النساطرة واليعاقبة يدلنا على عيبين كبيرين فيها:

  • الأول: قلة الابتكار، فلم يزيدوا على ما نقلوا علمًا جديدًا، ولا نظريات جديدة، ولا كثيرًا من الآراء الجديدة.
  • والثاني: أنهم حتى في كثير مما نقلوا لم ينقلوا في دقة ما كان عند اليونان، بل غيروا فيه، وحرفوا، وكثير من الأخطاء التي وقع فيها العرب علميًّا كان منشؤه هذا الخطأ السرياني. والحق إن العرب في هذا كانوا أكثر ابتكارًا وأدق نظرًا. ويكاد مؤرخو علم المسلمين من طب وجبر وهندسة وكيمياء وفلسفة يقسمون ما وصل إليه المسلمون قسمين؛ قسم أخذوه عن اليونان، وقسم ابتكروه بأنفسهم.
نقل إلى العربية في هذا العصر أهم تآليف أرسطو، وشروح الإسكندرانيين عليها، وبعض مؤلفات أفلاطون، وأهم كتب جالينوس في الطب. وعلى الجملة أهم ما وصل إليه العقل اليوناني في العلم والفلسفة، ولسنا نريد أن نفصل الكتب التي ترجموها، ولكن يمكننا هنا أن نجمل القول بأنه يمكن تقسيم الترجمة إلى أدوار ثلاثة:
  • الدور الأول: من خلافة المنصور إلى آخر عهد الرشيد؛ أي من سنة ١٣٦ إلى سنة ١٩٣هـ. وفي هذا الدور ترجم كليلة ودمنة من الفارسية، والسِّند هِند من الهندية، وترجمت بعض كتب أرسططاليس في المنطق وغيره، وتُرجم كتاب المجِسطي في الفلك. ومن أشهر المترجمين في هذا الدور ابن المقفع وقد تقدمت ترجمته، وجورجيس بن جبرائيل، ويوحنا بن ماسويه، وكلاهما كان طبيبًا نصرانيًّا، وفي هذا الدور اتصلت المعتزلة بالكتب التي ُترجمت؛ فنجد الأولين منهم (كالنظَّام) عرفوا أرسطو، وعرفوا بعض كتبه في الفلسفة، وتأثرت أبحاثهم بالمنطق، وتكلموا في الطفرة والجوهر والعرض، وما إلى ذلك كما سيأتي بيانه، وكان كلامهم في هذا قبل المأمون؛ مما يدل على اتصالهم بالفلسفة من أول عهد الترجمة.
  • الدور الثاني: من عهد المأمون من سنة ١٩٨ إلى سنة ٣٠٠هـ. وأشهر المترجمين في هذا الدور يوحنَّا أو يحيى البطريق (مولى المأمون)، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب، وَترجم كثيرا من كتب أرسطو. والحجاج بن يوسف بن مطر الوراق الكوفي عاش سنة ٢١٤، وَقسط ابن لوقا البعلبكي عاش سنة ٢٢٠هـ، وعبد المسيح بن َناعِمة الحِمصِي عاش سنة ٢٢٠، وحنين بن إسحاق توفي نحو سنة ٢٦٠، وابنه إسحاق بن حنين توفي سنة ٢٩٨، وعني بكتب الفلسفة عناية أبيه بالطب، وثابت بن قرة توفي سنة ٢٨٨، وحبيش الأعسم بن أخت حنين، وغيرهم. وقد ترجم في هذا الدور أهم الكتب اليونانية في كل فن؛ فأعيدت ترجمة المجسطي، والحكم الذهبية لفيثاغورس، وجملة مصنفات لبقراط وجالينوس، وكتاب طيماوس لأفلاطون وكتاب السياسة المدنية لأفلاطون، وكتاب النواميس له أيضًا، وكتاب المقولات لأرسطو. كل ذلك على يد حنين بن إسحاق ومدرسته، وترجمت أغلب كتب أرسطو على يد إسحاق بن حنين.
  • الدور الثالث: من أتى بعد هؤلاء، ومن أشهر المترجمين فيه متَّى بن يونس، كان في بغداد سنة ٣٢٠، وسنان بن ثابت بن قرة مات سنة ٣٦٠، ويحيى بن عدي سنة ٣٦٤، وابن زرعة سنة ٣٩٨، وأهم ما ترجموا الكتب المنطقية والطبيعية لأرسطو، وتفسيرها.١٦

•••

وقد كان الباعث على هذه الترجمة، ونشاطها في الدولة العباسية أمورًا:
  • الأول: أن العهد الأموي كان عهدًا بدويًّا في الجملة، ظهرت فيه سيادة العرب على غيرهم من الأمم أوضح ظهور، والعرب في ذلك العصر لم يتأصل فيهم ميل إلى فلسفة؛ إنما كان يعجبهم الأدب العربي، والتحدث بأيام العرب، ولذة خلفائهم إنما هي في الإصغاء إلى قصيدة عربية، والاستفسار عن لفظ غامض، وما إلى ذلك. فلما جاء العصر العباسي، وأمعن المسلمون في الحضارة، وسادت العناصر غير العربية؛ رأوا أن حياة الحضارة لا بد أن تستَنِد إلى العِلم، فمالية الدولة تحتاج إلى حساب دقيق، وعيشة الحضارة المركبة تحتاج إلى أدوية مركبة، وعلاج مركب. ومتى لجأ الناس إلى نوعين من العلوم، وأخذوا يعالجونه عن الأمم الأخرى؛ دعاهم الشغف إلى تعرف ما عند الأمم المختلفة من العلوم جميعها، ولو لم يكن لهم بها حاجة ماسة مباشرة.
  • الثاني: أن الحركة الدينية كانت قد بلغت في آخر الدولة الأموية شأوًا بعيدًا كما ذكرنا في فجر الإسلام، وجرهم البحث إلى أن يتكلموا في القضاء والقدر ونحوه، ورجحت عند قوم عقيدة الجبر، وعند آخرين عقيدة الاختيار، وتجادل المسلمون فيما بينهم، ثم تجادل المسلمون والنصارى واليهود: أي الأديان خير؟ وأي آراء الأديان في المسائل الجزئية أصح؟ وكان المعتزلة يحملون لواء الدفاع عن الإسلام، ومقارعة خصومه، وكان كل من اليهودية والنصرانية تسلح من قبل بالمنطق اليوناني، والفلسفة اليونانية يستخدمها في الجدل، فأحس المسلمون أنه لا بد من محاربتهم بآلاتهم، فعكفوا على المنطق والفلسفة يستخدمونهما في أغراضهم، وفيما هم كذلك شعروا بلذة عقلية من دراسة الفلسفة؛ فبعد أن كانت تطلب على أنها وسيلة للدفاع عن الدين أصبحت غاية في نفسها تُطْلَب لذاتها.
  • وسبب ثالث: حكاه الأستاذ نيللنو، وهو أنه «في أواخر مدة الدولة الأموية ثبتت سلطة الإسلام على جميع الأمصار والأقطار التي دخلتها أَلوِيته عنوة أو صلحًا أثناء المغازي المتواصلة والفتوح، من أقصى بلاد ما راء النهر في تركستان، إلى منتهى المغرب والأندلس؛ فعمت اللغة العربية الشريفة أهلَ تلك الولايات والبلدان، وغلبت على ألسنتهم الأصلية، فأخذ المسلمون كلهم من أي جنس أو أمة لا يستخدمون في الإنشاء والتأليف إلا لغة العرب، فابتدأت وحدة الدين تستوجب أيضًا وحدة اللسان والحضارة والعمران، فصار الفرس وأهل العراق والشام ومصر يدخلون علومهم القديمة في التمدن الإسلامي الجديد.»١٧
  • وسبب رابع: وهو ميل أفراد من الخلفاء في العصر العباسي إلى العلوم الفلسفية، والخلفاء عادة أقدر الناس على التغريب فيما أحبوا، والناس أسرع ما يكون إلى تحقيق أغراضهم، والولوع بما أولعوا به، وأكثر الخلفاء العباسيين ميلًا إلى ذلك في عصرنا كان المنصور والرشيد والمأمون. ويظهر أنه قد كان لكل منهم أسباب خاصة حملته على ذلك؛ فالمنصور كان ممعودًا، ويظهر أن ذلك حمله على العناية بالطب والأطباء، جاء في الطبري عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه، أنه كان يقول: «كان المنصور لا يستمرِئ طعامه، ويشكو ذلك إلى المتطببين، ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنَات. فكانوا يكرهون ذلك، ويأمرونه أن يقلّ من الطعام، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم في الحال، وتحدث من العلة ما هو أشد منها عليه، حتى قدم عليه طبيب من أطباء الهند، فقال له كما قال له غيره، فكان يأخذ له سُفوفًا جوارشنًا يابسًا، فيه الأفاويه والأدوية الحارة، فكان يأخذه فيهضم طعامه، فأحمده.. إلخ.١٨ وكذلك كان يعتقد في التنجيم — كما سيأتي بيانه — فقرب إليه المنجمين. والرشيد رباه البرامكة على حب العلم، والمأمون رباه الرشيد والبرامكة، وقد حذا حذو الخلفاء كثير من أفراد الشعب كبني موسى بن شاكر.
إذا علمت ذلك؛ علمت فساد رأي من ينسب ترجمة الكتب اليونانية إلى رؤيا رآها المأمون أو نحو ذلك؛ فقد ذكر صاحب الفهرست «أن أحد الأسباب التي من أجلها كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة أن المأمون رأى في منامه كأن رجلًا أبيض اللون مشربًا حمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس أشهل العينين حسن الشمائل، جالس على سريره. قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملِئْتُ له هيبة، فقلت: من أنت؟ قال: أنا أرسطاليس. فسررت به وقلت: أيها الحكيم، أسألك؟ قال: سل. قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور، قلت: ثم ماذا؟ قال: لا ثم. وفي رواية أخرى؛ قلت: زدني، قال: من نصحك في الذهب فليكن عندك كالذهب، وعليك بالتوحيد. فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب.»١٩

وروى ابن أبي أصيبعة هذه القصة بشكل آخر، فقال إن المأمون رأى في منامه كأن شيخًا بهي الشكل جالس على منبر وهو يخطب، ويقول: «أنا أرسططاليس.» فانتبه من منامه، وسأل عن أرسططاليس، فقيل له رجل حكيم من اليونانيين، فأحضر حنين بن إسحاق؛ إذ لم يجد من يضاهيه في نقله، وسأله نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى اللغة العربية، وبذل له من الأموال والعطايا شيئًا كثيرًا.

فهذه القصص وأمثالها لا يصح أن تكون سببًا، وإنما كانت الترجمة لأسباب طبيعية، هي التي ذكرنا. ورواية ابن أبي أصيبعة أبعد عن الحقيقة؛ فمن المستحيل ألا يسمع المأمون باسم أرسطو حتى يأتيه في المنام ويقول له أنا أرسطو! وحكاية ابن النديم إن صحت دلتنا عل أن الْحُلم كان انعكاس صورة طبيعية لما كان يفكر فيه المأمون في اليقظة.

•••

قال في طبقات الأمم لصاعد الأندلسي: «كانت العرب في صدر الإسلام لا تُعنى بشيء من العلم إلا بلغتها، ومعرفة أحكام شريعتها، حاشا صناعة الطب، فإنها كانت موجودة عند أفراد من العرب، غير منكرة عند جماهيرهم، لحاجة الناس طُرًّا إليها، ولما كان عندهم من الأثر عن النبي في الحث عليها حيث يقول: «يا عباد الله تداووا فإن الله (عز وجل) لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا واحدًا وهو الهرم.» فهذه كانت حالة العرب في الدولة الأموية، فلما أدال الله تعالى للهاشمية، وصرف الملك إليهم ثابتِ الهِمم من غفلتها، وهبت الفِطن من سِنتها، فكان أول من عُني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور، فكان رحمه الله مع براعته في الفقه مقدمًا في علم الفلسفة، خاصة في علم صناعة النجوم، كلِفًا بها وبأهلها.
ثم لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبد الله المأمون بن الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور؛ تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، واستخرجه من معادنه بفضل همته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة، فداخَل ملوك الروم وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسططاليس وأبقراط، وجالينوس وإقليدس، وبطليموس، وغيرهم من الفلاسفة؛ فاستجاد لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حض الناس على قراءتها، ورغّبهم في تعلّمها، فنفقت سوق العلم في زمانه، وقامت دولة الحكمة في عصره، وتنافس أولو النباهة في العلوم لِما كانوا يرون من إحظائه لمنتحليها، واختصاصه لمتقلديها؛ فكان يخلو بهم، ويأنس بمناظرتهم، ويلتذ بمذاكرتهم، فينالون عنده المنازل الرفيعة والمراتب السنية، وكذلك كانت سيرته مع سائر العلماء والفقهاء المحدثين والمتكلمين، وأهل اللغة والأخبار والمعرفة بالشعر والنسب، فأتقن جماعة من ذوي الفنون والتعلم في أيامه كثيرًا من أجزاء الفلسفة، وسنّوا لمن بعدهم منهاج الطلب، ومهدوا أصول الأدب، حتى كادت الدولة العباسية تضاهي الدولة الرومية أيام اكتمالها، وزمان اجتماع شملها.»٢٠

وقال في موضع آخر: «إن أول علم اعتُني به من علوم الفلسفة؛ علم المنطق والنجوم، فأما المنطق فأول من اشتهر به في هذه الدولة عبد الله بن المقفع الخطيب الفارسي، كاتب أبي جعفر المنصور، فإنه ترجم كتب أرسططاليس المنطقية الثلاثة التي في صورة المنطق، وهي كتاب «قاطغاورياس»، وكتاب «باري أرمنياس»، وكتاب «أنولوطيقا»، وذكر أنه لم يكن ترجم منه إلى وقته إلا الكتاب الأول فقط، وترجم مع ذلك المدخل المعروف «بايساغوجي لفورفوريوس الصوري»، وعبر عما ترجم من ذلك عبارة سهلة قريبة المأخذ، وترجم مع ذلك الكتاب الهندي المعروف بكليلة ودمنة، وهو أول من ترجم من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية …

وأما علم النجوم؛ فأول من عُنِيَ به في هذه الدولة محمد بن إبراهيم الفزاري، وذلك أن الحسن بن محمد بن حميد المعروف بابن الآدمي ذكر في زيجه الكبير المعروف ب«نظم العقد» أنه قدم على الخليفة المنصور في سنة ١٥٦ رجل من الهند عالم بالحساب، المعروف بالسند هند في حركات النجوم، فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية، وأن يؤلف منه كتابًا تتخذه العرب أصلًا في حركات الكواكب، فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الفزاري، فكان أهل ذلك الزمان يعملون به إلى أيام الخليفة المأمون.٢١
ونحن إذا استعرضنا ما حكي عن الترجمة ونشأتها أمكننا أن نستنتج منها النتائج الآتية:
  • (١)
    أن أول نقل حدث في الإسلام كان بفضل خالد بن يزيد بن معاوية، والذي نقل له هو «اصطفن»، وهو من الإسكندرية، وكان هذا النقل من اللغة اليونانية والقبطية إلى العربية. وإن خالدًا إنما كان أهم ما يعنى به الصنعة أو الكيمياء، والغرض بها تحويل المعادن إلى ذهب، ويظهر أن الذي دعاه إلى ذلك أنه كان شابًّا يطمع في الخلافة؛ إذ كان أبوه (يزيد بن معاوية) خليفة، وأخوه (معاوية بن يزيد) خليفة، ثم نحي عن الخلافة، وغلبه عليها مروان بن الحكم، فصدم من ذلك صدمة قوية، فتحول إلى ملهى شريف يلهو به ويناسب أرستقراطيته، فكان ذلك هو «الصنعة» رأى أنه إذا استطاع أن يحول المعادن إلى ذهب استطاع أن يحول الناس إليه، أو على أقل تقدير كان له من المنزلة ما يحسده عليها الخلفاء. قال ابن النديم: «كان خالد جوادًا، يقال إنه قيل له: لقد فعلت أكثر شغلك في طلب الصنعة! فقال خالد: ما أطلب بذاك إلا أن أغني أصحابي وإخواني، إني طمعت في الخلافة فاخْتُزلَتْ دوني، فلم أجد منها عوضًا إلا أن أبغي آخر هذه الصناعة، فلا أُحوج أحدًا عرفني يومًا أو عرفته إلى أن يقف بباب سلطان، رغبة أو رهبة.»٢٢ وقد اشتغل بالنجوم على أنها قد تكون وسيلة تساعد على الوصول إلى «الصنعة»؛ إذ كان علم النجوم ممزوجًا بعلم أحكامها، وتأثيرها في العالَم السفلي، فلعله أمل فيه عونًا إلى الوصول إلى بغيته.
  • (٢)

    أنه عُنِيَ في الدولة الأموية بالطب بعض عناية؛ لأن الناس في حاجة مادية إليه، ولأنه أبعد العلوم الأجنبية عن أن يؤثّر في الدين، ولهذا لم يتحرج من إجازة الترجمة فيه أتقى بني أمية عمر بن عبد العزيز.

  • (٣)

    أن محاولة الترجمة في العهد الأموي كانت محاولات فردية، تموت بموت الأفراد القائمين بها، أما في الدولة العباسية فكانت الترجمة عملَ أمة لا عمل أفراد، وإن شئت فقل: كان في الدولة العباسية مدرسة كبيرة للترجمة، لا يضيرها موت فرد أو أفراد منها.

  • (٤)

    كانت الترجمة في العهد الأموي مقصورة على العلوم العملية كالصنعة والطب والنجوم (بالمعنى الذي فسرناه)، ولم يتعد ذلك إلى العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة والهندسة، وما إلى ذلك؛ فهذه لم تكن إلا في الدولة العباسية.

  • (٥)

    نرى أن المسلمين اتصلوا بالفلسفة اليونانية أول الأمر من طريق الفرس؛ فقد ترجم ابن المقفع كتبًا من منطق اليونان، والظاهر أنه نقلها من الفارسية؛ إذ لم يعرف عنه أنه يعرف اليونانية، ثم تولى الترجمة بعد النصارى من النساطرة واليعاقبة من السريانية إلى العربية.

  • (٦)
    كانت أول عناية الخلفاء العباسيين موجهة إلى الطب والتنجيم، والسبب في ذلك الحاجة الماسة إلى ذلك، فالمنصور احتاج إلى الطب لمرضه كما بينا، واحتاج إلى التنجيم؛ لأنه كان يعتقد أن هناك ارتباطًا بين حركات النجوم وأوضاعها، وبين ما يحدث في عالَمِنا من نحس أو سعد. ومن ذلك الحين صار الطب والتنجيم عمَلين رسميين يتولاهما رجال رسميون؛ فجورجيس بن جبريل بن بختيشوع الجنديسابوري صار طبيبًا للمنصور، ثم لما تقدمت به السن عين المنصور مكانه تلميذه عيسى بن شهلانا. واتخذ نوبخت الفارسي منجمًا له، فلما ضعف عين المنصور مكانه ابنه أبا سهل بن نوبخت. ولما تولى اتخذ المهدي طبيبه عيسى الصيدلاني الملقب بأبي قريش، واتخذ توفيل بن توما النصراني الرهاوي رئيسًا لمنجميه. فلما تولى الرشيد اتخذ طبيبه بختيشوع بن جورجيس، ويوحنا بن ماسويه النصراني. ولما استخلف المأمون كثر في بلاطه الأطباء والمنجمون؛ فمن منجميه حبش الحاسب، وعبد الله بن سهل بن نوبخت، ومحمد بن موسى الخوارزمي، وما شاء الله اليهودي، ومن أطبائه سهل بن سابور، ويوحنا بن ماسويه، وجورجيس بن بختيسشوع، وعيسى بن الحكم، وزكريا الطيفوري، فلما آلت الخلافة للمعتصم كان طبيبه سلمويه، ثم يوحنا بن ماسويه.٢٣ … إلخ.
فترى من هذا أن الطب والتنجيم أصبحا صناعتين تحميهما الخلفاء، وكانت حاجتهم إليهما حاجة عملية، فأمر الطب ظاهر، والتاريخ مملوء بالحكايات التي هرع فيها الخلفاء إلى المنجمين، فالمنصور استشار المنجمين في اختيار الوقت الذي يبدأ فيه ببناء بغداد، والمهدي لما هم بالخروج، على «ماسبذان» استشار توفيل بن توما النصراني المنجم،٢٤ والمعتصم نصحه المنجمون ألا يغزو «عمورية» إلا في أيام نضج التين والعنب فلم يصغ لقولهم وغزاها وفتحها. وقال أبو تمام في ذلك بائيته المشهورة: «السيف أصدق أنْباء مِن الكتبِ». والواثق لما اشتد مرضه، أحضر المنجمين، منهم الحسن بن سهل بن توبخت، فنظروا في مولده فقدروا له أن يعيش خمسين سنة مستأنَفة من ذلك اليوم، فلم يعِش بعد قولهم إلا عشرة أيام٢٥ … إلخ.

ولسنا ندعي أن الخلفاء لم يشجعوا من علم النجوم إلا هذا الضرب، فقد كان علم النجوم يشمل ما نطلق عليه علم الهيئة الآن، ويشمل كذلك البحث عن التغيرات التي تحدث في الأرض بسبب مواقع النجوم وتأثيرها. وكلا الأمرين كان عند اليونان، وكلا الأمرين عُنِيَ به العباسيون، فرصدت الكواكب في عهد المأمون، وأصلحت آلات الرصد، وإنما الذي نريد أن نذكره أن الشغف بمعرفة أحكام النجوم هو الذي جذب الخلفاء أولًا إلى تشجيع هذا العلم، ثم تدرجوا منه إلى تشجيع الفلك الرياضي البحت.

ويظهر لي أن هذين العلمين (الطب والنجوم) هما العلمان اللذان أوصلا المسلمين إلى ساحة العلوم الفلسفية، والسبب في ذلك أن التخصص الذي نفهمه الآن، ونراه في دراسة الطب والهيئة لم يكن معروفًا في هذا العصر العباسي؛ فكان الطبيب والمنجم يلمان بكثير من المسائل الفلسفية. وتكاد تعد الفلسفة كوِحدة، فروعها؛ الطب، والإلهيات، والحساب، والمنطق، والموسيقى، والهندسة، والهيئة، فالطبيب والمنجم يلمان غالبًا بكل ذلك، ثم يتبحران في الطب أو التنجيم، وكانت رغبة الأطباء والمنجمين في إتقان فنونهم تحملهم على معرفة اللغات الأجنبية، وخاصة اليونانية، فإذا حذَفوها أقبلوا على الكتب المؤلفة فيها من جميع فروع الفلسفة. وقد نقلَ إلينا ابن النديم ثبتًا بأسماء الكتب التي كان يدرسها المتطببون، فإذا فيها طب وتشريح، وما إلى ذلك، ثم فيها منطق وأخلاق، وبحث فيما وراء المادة، وكان مما يقرءون كتاب موضوعه «أن الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفا».٢٦ واستمر هذا الحال حتى في من نبغ بعد من الفلاسفة المسلمين؛ فيعقوب الكِندِي مثلا «كان عالمًا بالطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق، وتأليف اللحون والهندسة، وطبائع الأعداد والهيئة»،٢٧ وكذلك كان ابن سينا منطقيًّا طبيبًا رياضيًّا طبيعيًّا فلكيًّا … إلخ.
من أجل هذا نرى أن كثيرًا من هؤلاء الأطباء والمنجمين الذين كان الخلفاء يمِدونهم بالمال عنوا بترجمة كتب غير طبية ولا فلكية، أو أشرفوا على ترجمتها؛ فابن العبري يذكر «أن يوحنا بن ماسويه النصراني السرياني الطبيب ولاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة، وكان له تصانيف جميلة، وكان يعقد مجلسًا للنظر، ويجري فيه من كل نوع من العلوم القديمة بأحسن عبارة.»٢٨ ويقول: «إن يوحنا بن البطريق (الطبيب) الترجمان مولى المأمون كان أمينًا على ترجمة الكتب الحِكْمِية، حسن التأدية للمعاني، ألكن اللسان في العربية، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب.»٢٩ … إلخ.

•••

كان لهذه الثقافة اليونانية أثر كبير في المسلمين، ومما زاد في أثرها أن اتصال المسلمين بها صاحب عصر تدوين العلوم العربية، فتسربت الثقافة اليونانية إليها، وصبغتها صِبغة خاصة، كان لها تأثير كبير في الشكل، وفي الموضوع.

أما الشكل فيرجع إلى تأثير المنطق اليوناني، وقد صبغ العلوم العربية صبغة جديدة صبت في قالبه، ووضعت على منهاجه؛ إذ كان المنطق كما قال ابن سينا «خادم العلوم»، عني به المسلمون من أول عهدهم بالفلسفة، وقد رأينا أن ابن المقفع ترجم كتب المنطق لأرسطو، وتتابع المترجمون بعده يترجمون الكتب المنطقية، وكان المنطق الذي وصل إلى العرب هو منطق أرسطو معدلًا ومضافًا إليه، ومشروحًا بمنطق الرواقيين والإسكندرانيين، ولم يزد العرب فيه شيئًا يذكر؛ فكل المنطق الذي بين أيدينا هو منطق اليونان، لم يزد عليه الا بعض الشروح. وقد نقل نقلًا صحيحًا لم يدخله نقص ولا تهويش، كالذي كان في الإلهيات اليونانية. وقد كان منطق أرسطو وشروحه العربية أوسع وأعمق مما بين أيدينا من كتب المنطق اليوم؛ فكان القياس يشغل فيه حيزًا كبيرًا، وفيه كتاب واسع في البرهان، وآخر في الجدل وكيف يكون، وكيف تسلك في إفحام الخصم، وكان فيه باب للسفسطة، وباب في الخطابة، وباب في الشعر، وكانت الأبواب الخمسة الأخيرة، وهي: البرهان، والجدل، ولخطابة، والشعر، والسفسطة تُبْحَث فيه بحثًا وافيًا.٣٠ ولكن المتأخرين حذفوا هذه الأبواب، أو ألموا بها إلمامًا يسيرًا، واقتصروا على الكلام في الكليات الخمس والقضايا والقياس، مع أن الذي حذفوا أهم من الذي أثبتوا؛٣١ وبذلك أفقدوا المنطق روحه.

على كل حال كان للمنطق سلطان كبير على العقول في العصر العباسي، وكان من جراء ذلك أن اصطبغت طريقة الجدل والبحث والتعبير والتدليل صبغة غير التي كانت تعرف من قبل، فإن أنت قارنت بين أسلوب القرآن الكريم، وأسلوب المتكلمين وجدت فرقًا كبيرا يمكنك أن تلخصه في أن أساليب المتكلمين جارية على أساليب منطق أرسطو، وليس كذلك أسلوب القرآن.

وبحق وضع محمد بن إبراهيم الحسني اليمني الصنعاني كتابه المسمى «ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان»٣٢ فأسلوب القرآن في إثبات وجود الله تعالى: قُلْ من يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِج الْحَيَّ مِنَ الْمَيتَ ويُخْرِجُ الْمَيتَ مِنَ الْحَي وَمَن يُّدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ. وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ إلى كثير من أمثال ذلك. أما أسلوب المتكلمين فمثل: «العالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، فالعالَم لا بد له من محدِث.» إلى أمثال ذلك، وما يستتبعه من الجوهر والعرض، والكيفية والكمية، والعلم الضروري والنظري، وغير ذلك مما هو من تعبيرات الفلسفة اليونانية.

وكذلك الشأن إذا أنت قارنت بين تعبيرات الفقهاء في عصر الخلفاء الراشدين، والعصر الأموي، وبين تعبيرات الفقهاء في العصر العباسي بعد أن عرفوا المنطق؛ فإنك تجد التعبير الأول عربيًّا بَحْتًا، وتجد الثاني أرسططاليسيًّا بحتًا، فمثلًا تقرأ الباب في موطأ الإمام مالك فتجده يذكر الحكم، ثم يحكي ما يدل عليه من حديث أو أثر، ثم لا تجد فيه أثرًا لعلم المنطق، وتقرأ في كتاب الهداية مثلًا التدليل الفقهي، وخاصة في المسائل الخلافية بين أبي حنيفة والشافعي؛ فترى أن قواعد الجدل التي وضعها أرسطو، وقواعد البرهان مطبقة في دقة تامة، فمقدمة صغرى، ومقدمة كبرى، والنتيجة، وأشكال القياس مستوفاة شروطها.

وتقرأ كتاب سيبويه فتجد ترتيبًا وتبويبًا منطقيًّا، يبدأ بتقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، ثم يعرف كل قسم، ويأتي بأمثلته ويذكر أحكامه، وهكذا. ومن ذلك أن أرسطو قال: «إن الزمان والمكان كالوعاء للأشياء؛ إذ لا بد لكل شيء مخلوق أن يكون واقعًا في زمان من الأزمنة، وفي مكان من الأمكنة فهما كالوعاء له. وهذا أصل تسمية النحويين للمفعول فيه ظرفًا؛ أي وعاء.»٣٣ وكما ألف إيساغوجي المقدمة أو المدخل في المنطق ألَّف ابن فارس «مقدمة في النحو».
وهذا القياس الذي شغل جزءًا كبيرًا من منطق أرسطو طُبِّقَ تطبيقًا دقيقًا، ورُوعِيَ في كثير من العلوم؛ فالقياس في الفقه وأصوله، والقياس في النحو واللغة، والقياس في الفلسفة، وكان لهذا القياس أثر كبير في تفريع المسائل وتنويعها، ووضع المسائل المتشابهة تحت قاعدة واحدة، وطرد أحكامنا على ما لم يرد فيه حكم مأثور، سواء في ذلك الفقه والنحو واللغة، وكان لهذا كله أثر في تضخيم العلم وترتيبه وتبويبه.٣٤

هذا في الشكل، وأما في الموضوع؛ فقد كان للفلسفة اليونانية أثر كبير في تعاليم المتكلمين، نعرض له عند الكلام في المعتزلة. وكان للأفلاطونية الحديثة بعض الأثر في التصوف، نوضحه عند الكلام فيه. وكان لهما معًا أثر كبير في الفلسفة الإسلامية، وهذا بتاريخ الفلسفة الإسلامية أشبه وأليق، وكان للبلاغة اليونانية أثر في علم البلاغة العربي، ولكنه دُوِّنَ بعد عصرنا الذي نؤرخه فلا نتعرض له الآن.

ولكن مما لا شك فيه أن العرب أو المسلمين استخدموا ما أخذوا من الثقافة اليونانية استخدامًا صالحًا، وأخذوا منها ما أخذوا، ثم بنوا عليه، وزادوا فيه وابتكروا، ولم يكن موقفهم موقف الناقل فحسب. وكان كثير منهم ينظر بإحدى عينيه على الثقافة اليونانية، وبالعين الأخرى على التعاليم الإسلامية والثقافة العربية، فيختار من الأولى ما يتفق والثانيةَ، ويؤلّف منها مزيجًا لا هو يوناني بحت، ولا إسلامي بحت؛ إنما أظهر ما كان ذلك في العصر الذي يلي عصرنا هذا هو العصر العباسي الثاني؛ فقد كانت الترجمة قد تمت وركزت، فأعقبها الأخذ بها والبناء عليها، وظهر أمثال إخوان الصفاء، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وأمثالهم.

•••

وهناك نوع آخر خفيف من الثقافة اليونانية الرومانية، وأعني به الثقافة التي تنشأ من امتزاج الجنسين؛ أعني الجنس العربي، والجنس اليوناني الروماني في الحياة الاجتماعية، فقد كان هؤلاء الرومان يعيشون بين سمع العرب وبصرهم، ولهم عادات وتقاليد، وأفكار وآراء في نظم الحكم، ولهم فنون من غناء وتصوير وما إلى ذلك، فكان العرب يقتبسون من ذلك ما تيسر لهم، لا عن طريق الدراسة المنظمة، ولا عن طريق البحث العلمي، وإنما عن طريق المشاهدة والنظر، وعن طريق الحديث والمشافهة. ولئن كان العراق أهم منبع للثقافة اليونانية العلمية فقد كان الشام على ما يظهر أهم منبع لهذا النوع من الثقافة الاجتماعية، وسبب ذلك: أن الشام كان محكومًا بالرومان وقت الفتح الإسلامي، وكانت سلطة الرومان عليه أكبر من سلطتهم على العراق لقرب العراق من الدولة الأخرى القوية (وهي الفرس)، ووقوعه تحت سيطرتها في أغلب الأحيان، وكان في الشام عرب كثيرون، ورومان كثيرون، اختلطوا اختلاطًا تامًّا. وترك الرومان عند خروجهم عادات وتقاليد وفنونًا ونظمًا اقتبس منها العرب.

من الأمثلة على ذلك الغناء؛ فيحدثنا الأغاني أن المسلمين اقتبسوا من الروم بعض غنائهم، وكان موضع الاقتباس هو الشام، فيقول في «ابن محرِز»: إنه «سقط إلى فارس فأخذ غناء الفرس، وإلى الشام فأخذ غناء الروم، فتخير من نغمتهم ما تغنى به غِناءه.»٣٥ ويقول ابن مِسجحٍ «إنه رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم.»٣٦
وقد رأينا عند الكلام في الرقيق أن كثيرًا منه كان من الروم، وكان هذا الرقيق من غلمانٍ وجوارٍ في قصور الخلفاء والأغنياء والشعراء والعلماء، فكان للمأمون جوارٍ روميات، يلبسن لِبسهن الرومي من زنّار وما إليه، وكان لأبي تمام الشاعر غلام رومي،٣٧ وهكذا.
ويحكي ابن أبي أُصيبِعة: أن الرشيد كانت له جارية رومية اسمها خرشى، وكان لها من قرابتها أخت أو بنت أخت، فتفقّدها الرشيد فلم يجدها، فسأل خرشى عنها فأعلمته أنها زوجتْها من قريب لها، فغضب من ذلك، وقال: كيف أقدمت على ذلك بغير إذني، وأنتِ إنما اشتريتِها من مالي! وأمر سلامًا الأبرش بتأديب زوجها على عمله، فما زال سلام يتعرف خبره، حتى وجده فخصاه، وكانت الجارية الرومية قد علِقت منه بغلام، فلما ولدت الجارية (وكان الرشيد قد توفي) تبنَّت خرشى الغلام، وأدبته بآداب الروم وقراءة كتبهم، فتعلم اللسان اليوناني علمًا كانت له فيه رياسة، وكان يعرف بإسحاق ابن الخصي، وكان يتصل به كثير من أهل العلم والأدب.٣٨
وكانت الحروب بين المسلمين والروم متواصلة في عصرنا هذا، وتقع الأسرى من كل من الجانبين في يد الآخرين؛ فأسرى المسلمين قد يذهبون إلى القسطنطينية، وأسرى الروم إلى العراق. والحكايات كثيرة في التاريخ عن النوعين من الأسارى، وخاصة في عهد الرشيد، فكان هذا سببًا من أسباب امتزاج الحياة الاجتماعية، واقتباس كلٍّ من كلٍّ. وليس من المعقول أن يمر هذا الاتصال (بحكم الروم لكثير من البلاد الإسلامية أولًا، ثم بالرق والأسر، ثم بالرق والأسر، ثم بالاحتكاك الدائم السلمي أحيانًا، والحربي أحيانًا) من غير أن يترك بعضًا من المسلمين يتكلمون الرومية، وبعضًا من الرومانيين يتكلمون العربية؛ فالرقيق الرومي مثلًا في البيوت كان يتكلم الرومية أولًا بالضرورة، ثم يتكلم العربية محرفة، ثم العربية القريبة من الصحيحة، وهكذا الشأن في أسرى المسلمين في الروم إن استقروا، وهذا يحمل بعض الأفراد الراقين من الجانبين على أن يتبادلوا الآراء والأفكار والكلام في اللغة والأدب. ويروي الأغاني في ذلك خبرًا طريًفا؛ فيقول: قدم رسول لملك الروم إلى الرشيد فسأل عن أبي العتاهية، وأنشده شيئًا من شعره. وكان (أي الرسول) يحسن العربية، فمضى الرسول إلى ملك الروم وذكره له، فكتب ملك الروم إليه، ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية، ويأخذ فيه رهائن من أراد، وألح في ذلك، فكلم الرشيد أبا العتاهية في ذلك فاستعفى منه وأباه.٣٩

•••

وهذا يسلمنا إلى مسألة تستوقف النظر، وهو ضعف تأثير الأدب اليوناني إذا قيس بتأثير العلم والفلسفة اليونانية، فإنك تقرأ أسماء الكتب التي ترجمت من اليونانية إلى العربية فتجد الكثير في كل فرع من فروع العلوم الرياضية والطبية والفلسفة، ولا تكاد تعثر على كتاب أدبي يوناني تُرْجِمَ إلى العربية مع وفرة ما لليونان والرومان من كتب أدبية، وقد ألمحنا بشيء من أسباب ذلك فيما مضى.٤٠ ونزيد هنا سببًا آخر، وهو: أن الفلسفة والعلوم عالمية، والأدب قومي؛ ذلك أن الفلسفة والعلم نتاج العقل، والعقل قدر مشترك بين الأفراد والأمم، وإن اختلفوا في أنصبائهم منه، والمنطق الذي يضبط هذه العلوم يسيغه عقل الناس جميعًا، وقواعد الهندسة والطب تُطَبَّق على الناس جميعًا؛ أما الأدب فلغة العواطف، وليس للعواطف منطق يضبطها، والأدب ظل الحياة الاجتماعية، ولكل أمة حياة اجتماعية خاصة بها تمتاز عن حياة الأمم الأخرى في أشكالها ومراميها. من أجل ذلك تذوق العرب منطق أرسطو، وطب جالينوس، ولم يتذوقوا إلياذة هوميروس. ألا ترانا اليوم حتى في عصرنا الذي اتصل فيه الناس والأمم اتصالًا أوثق مما كان في القديم لا يتذوق العربي منا الإلياذة، إلا أن يكون قد وقف على الحياة الاجتماعية اليونانية وأدرك كنهها، ومرن ذوقه طويلًا على أن يستسيغها.

وسبب ثالث يصح أن يكون، وهو: أن الأدب اليوناني أدب وثني، فيه آلهة متعددة، وفيه عبادة أبطال، والذوق العربي حين ترجمت العلوم ذوق مسلم، لم يستسغ هذا النوع من الأدب الوثني.

ومع هذا فقد كان لليونان أثر في اللغة العربية والأدب العربي من وجوه:
  • (١)
    ألفاظ يونانية عُرِّبَت، ونلاحظ أنها أكثر ما تكون في أنواع ثياب يونانية أو رومانية لم يكن يعرفها العرب، ثم عرفوها ولبسوها، وأطلقوا عليها كلماتها الأصلية؛ مثل «البرجد» Paragauda (وهو كساء غليظ مخطط)، وأبو قَلمون (وهو ثوب رومي يتلون للعيون ألوانًا)، أو أسماء أشياء عرفها العرب بعد اتصالهم بالرومان، ولم تكن من نتاج جزيرة العرب؛ كالزبرجد والزمرد والياقوت، ومقاييس أو موازين رومانية؛ كالقيراط والأوقية، أو أسماء طبية أو نباتية؛ كالبلغم، والقولنج، والبرقوق، واللوبيا، والترمس، أو كلمات نصرانية كالجاثليق، والبطريق، أو نحو ذلك.٤١ ويظهر أن أكثر هذه الكلمات تسربت إلى العرب عن طريق الشام للسبب الذي أبنا قبل.
  • (٢)
    قصص يونانية نقلت إلى العربية، وقد نقل ابن النديم أسماء كتب للروم في الأسماء والتاريخ ترجمت إلى العربية.٤٢ وحكى الجاحظ في كتاب الحيوان، قال: «كان في اليونانيين ممرور له نوادر عجيبة، وكان يسمى ريسيموس، والحكماء يروون له أكثر من ثمانين نادرة، ما من نادر ة إلا وهي غرة، وعين من عيون النوادر؛ فمنها أنه كان كلما خرج من بيته مع الفجر إلى شاطئ الفرات (للغائط أو للطهور) ألقى في أصل باب داره وفي دورانه حجرًا؛ كي لا ينصفق الباب فيحتاج إلى معالجة فتحه، وإلى رفعه، وكان كلما رجع من حاجته لم يجد الحجر، ووجد الباب منصفقًا. فكمن في بعض الأيام ليرى هذا الباب من يصنع به ما يصنع، فبينا هو في انتظاره إذ أقبل رجل حتى تناول الحجر، فلما نحاه من مكانه انصفق الباب، فقال له: مالك ولهذا الحجر، ومالك تأخذه؟ فقال: لم أعلم أنه لك. قال: فقد علمت أنه ليس لك! وقال بعضهم: ما بال ريسيموس يعلِّم الناس الشعر ولا يقول الشعر! قال: ريسيموس كالْمِسَنّ الذي يشْحُذ ولا يقطع. ورآه رجل يأكل في السوق، فقال: أتأكل في السوق؟ فقال: إذا جاع ريسيموس في السوق أكل في السوق.»٤٣ … إلخ.
  • (٣)
    الحكم؛ فقد ترجمت حكم نسبت لفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون وأرسطو، وملئت بها كتب الأدب في ذلك العصر، مثل البيان والتبيين، وعيون الأخبار. وقال ابن النديم: إن علي بن ربن النصراني نقل كتابًا في الآداب والأمثال على مذاهب الفرس والروم والعرب.٤٤ … إلخ.

والظاهر أن ولوع العرب كان بهذين النوعين «القصص والأمثال» دون غيرهما.

ونقرأ ثبت الكتب التي ترجمها أو ألفها حنين، والتي ذكرها ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء؛ فنرى أنَّه تعرض لكثير من فروع العلم المختلفة، ففضلًا عن كتبه الكثيرة في الطب كانت له كتب في الفلسفة وغيرها، فله كتاب في الهواء والماء والمساكن، وكتاب في تولد الفروج، بين فيه أن تولد الفروج إنما هو من بياض البيضة، واغتذاؤه من الملح الذي فيها، ومقالة في المد والجزر، وكتاب في أفعال الشمس والقمر، وكتاب السماء والعالم، وكتاب في المنطق، وكتاب في خلق الإنسان، ومقالة في تولد النار بين الحجرين، وكتاب في أحكام الإعراب على مذهب اليونانيين، وكتاب نوادر الفلاسفة والحكماء وآداب المتعلمين، وكتاب في الفلاحة، ومقالة في قوس قزح، وكتاب تاريخ العالم والمبدأ والأنبياء والملوك والأمم والخلفاء والملوك في الإسلام، ومقدمة كتاب فرفوريوس في المنطق، وكتاب في الفِراسة، وكتاب في إدراك حقيقة الأديان.

ولو عددنا كل ما ترجمه وألفه، لخرج ذلك بنا عن القصد الذي قصدناه. ومن هذا نرى أنه هو ومدرسته نقلوا إلى العربية زبدة آثار اليونان، وتناولوها بالشرح والاختصار، وجعلوا الثقافة اليونانية في مختلف فروعها بين أعين العلماء من المسلمين والنصارى يقتبسون منها، وينتفعون بها. وكان عملهم هم وأمثالهم عزاء للمتكلمين في مذاهبهم، وفلاسفة المسلمين، الذي نبغوا في العصر الذي بعد عصرنا هذا.

وقد نقل حنين الترجمة نقلة جديدة لإتقانه اللغات المختلفة، فكان العلماء يدركون الفرق الكبير بين ما ترجمه حنين، وما ترجم قبله. قد كانت ترجمة حنين وافية دقيقة، وترجمة من قبله عليلة سقيمة، حتى إن ابن ماسويه لما قرأ قطعة من ترجمته أول أمره قال: «أُترى المسيح في دهرنا هذا أوحى إلى أحد!» إعجابًا بترجمته، واعترافًا بأنها خارجة عن المألوف في الترجمة لعهده. «… إلى السريانية سجيس الرأسعيني، وأيوب الرهاوي، وسواهما من الأطباء المتقدمين.»٤٥

ومع هذا فنجد له كتبًا كثيرة في غير الطب، فله كتب في المنطق، وفي الطبيعة والهيئة، في فلسفة أفلاطون وأرسطو. وقد أثبت البحث العلمي أن بعض الكتب التي نسبت إليه إنما هي من عمل تلاميذه ومدرسته لا من عمله.

وإذا نحن أدركنا أنه أخذ يترجم عن اليونانية — وقد اعترضته مئات الكلمات اليونانية التي لم يُعْرف لها نظير في اللغة السريانية والعربية من مصطلحات طبية وفلسفية، وأسماء للنبات والحيوان، والهيئة وغيرها، وأنه كان مضطرًّا أن يوجد لها ألفاظًا عربية تقابلها إن أمكن، وأن يصقل الكلمات الأجنبية صقلًا عربيًّا إن لم يمكن؛ علمنا أنه اضطلع بعبء ينوء بالعصبة أولي القوة، وأدركنا قدر عَنائه، ومبلغ نجاحه.

وقد عاب الأستاذ «سيمون» Simon (عند نشرة ترجمة حنين وحبيش لكتاب جالينوس) عليهما: «إن ترجمتها مملوءة بالفقرات الداخلية التي لم تكن في الأصل، وأن طريقتهما في التعبير حرفية، وليست دائما جميلة.» وقد رد عليه الأستاذ برجستراسر، ورأى أن حنينًا وتلميذه حبيشًا تجشما أكبر عناء في التعبير عن معنى أصول الكتب اليونانية بقدر ما يستطاع من الوضوح، وكانا يترجمان ترجمة حرفية حتى ولو ضحيا في ذلك بجمال اللغة وتنسيقها. لكن ترجمة حنين أفضل، ودقتها أعظم، ويخيل إلى الإنسان أنها ليست نتيجة مجهود صادق فقط، ولكنها نتيجة تمكن وثيق من اللغة، وحسن تصرف في مذاهبها، ويتجلى هذا في سلاسة التوفيق بين اليونانية والعربية، والدقة المتناهية في التعبير مع الإيجاز؛ تلك مميزات فصاحة حنين التي اشتهر بها.»٤٦

أهم ما امتاز به حنين الترجمة من اليونانية إلى العربية والسريانية، بدأ ذلك وهو في السابعة عشرة من عمره، ولكن كانت ترجمته ضعيفة لم ترضِه َلما أن نضج، فأعاد بعدُ بعض ما تَرجم وصحح بعضًا.

اتصل أول أمره بالمأمون، وعين في بيت الحكمة الذي كان يزخر بالكتب اليونانية التي نقلت من آسيا الصغرى، ومن القسطنطينية، فأخذ حنين يترجم منها إلى السريانية أولًا، ثم إلى العربية، ثم ترجم للمعتصم والواثق والمتوكل.

ولم يكتف بما جمع في بيت الحكمة، بل رحل في نواحي العراق، وسافر إلى الشام والإسكندرية وبلاد الروم؛ يجمع الكتب النادرة، ومات سنة ٢٦٤هـ بعد أن عمر نحو سبعين عامًا، بذل فيها من الجهد العلمي ما لا يستطيع غيره أن ينهض به في مئات السنين.

كان يترجم بنفسه، وكان يشرف على جماعات تعمل بإرشاده؛ فقد «جعل له المتوكل كتّابًا نحارير، عالمين بالترجمة. كانوا يترجمون، ويتصفح ما ترجموا، كاصطفن بن بسيل، وموسى بن خالد الترجماني، ويحيى بن هارون.»٤٧ كان يترجم كثيرًا، ويؤلف كثيرًا، وكان أحيانًا يضع الشرح لما ترجم، ويلخص المطولات، ويصحح تراجم السابقين. وعلى الجملة فقد كان حركة علمية دائمة، قلّ أن تُبارى، بل ظلت حركته التي أنشأها تعمل عمله بعد وفاته على يد ولديه وتلاميذه.٤٨

أكثر ما ترجمه حنين كتب طبية، وخاصة كتب جالينوس؛ فقد ذكروا «أنه ترجم إلى السريانية من كتب جالينوس خمسة وتسعين كتابًا، وترجم إلى العربية منها تسعة وثلاثين، وأصلح ما ترجمه تلاميذه — وهي ستة — إلى السريانية، ونحوًا من سبعين إلى العربية، وأصلح معظم الخمسين كتابًا التي كان قد ترجمها من أنواع الأدب كالإلياذة، وبقية الروايات، والأشعار، والخطب اليونانية؛ سببه ما قدمنا. فهذان النوعان من النوع العالمي، قد جردا مما يلابسهما من حياة اجتماعية خاصة، وليس فيهما أسماء يونانية ثقيلة على سمع العربي ولسانه، ليس فيهما أوزان شعرية لا تسيغها العربية، ولا فيهما وصف لحياة اجتماعية بعيدة عما يألفه العربي المسلم.

وبعد؛ فقد كان تأثير اليونان واسعًا عميقًا في الفلسفة والعلوم الرياضية والطبية، ضيقًا خفيفًا في الناحية الأدبية.

فإن شئنا أن نختار من يمثل هذه الثقافة اليونانية؛ اخترنا لذلك «حنين بن إسحاق».

حنين بن إسحاق

حنين بن إسحاق، ويلقب بأبي زيد، ولد سنة ١٩٤هـ من أبٍ عربي من قبيلة عِباد التي تسكن الحيرة، وكان أبوه إسحاق نصرانيا نسطوريا، فنشأ ابنه كذلك، وكان إسحاق صيدلانيا، فأعد ابَنه لدراسة الطب. بدأ حنين يدرس على يوحنا بن ماسويه. وكان حنين يكثر السؤال على أستاذه، ويلح في الأسئلة فأحرج صدر يوحنا فطرده، وقال: «ما لأهل الحيرة والطب، عليك ببيع الفلوس في الطريق!» وكان في يوحنا عصبية لأهل جنديسابور ومدرستها، يعتقد أن العلم لا يخرج عنهم.

فذهب حنين إلى بلاد الروم، وأجاد تعلم اليونانية، ثم عاد إلى البصرة، ولازم الخليل بن أحمد يأخذ عنه العربية، ويروون أنه حمل كتاب العين المنسوب للخليل إلى بغداد.

وكان يجيد أربع لغات؛ الفارسية، واليونانية، والعربية، والسريانية.

ولنسق الآن مثلًا من ترجمته، قال في أول كتاب الأسابيع لأبقراط، وشرحه لجالينوس، الذي ترجمه حنين:

قال جالينوس: إن أبقراط شبه الإنسان بالدنيا، وسماه الدنيا الصغيرة؛ لأن تدبيره على تدبير الدنيا، وهذا الكتاب هو لأصحاب القياس، أعني الصنف من الأطباء الذين يدعون «دغماطيقيين»، وهم ذوو الجدل والمحاورة، وقد ذكر ههنا جزأي الطب؛ الجزء الذي يسمى «فسيولوغيا» (وهو معرفة الطبائع والتوسم لها)، والجزء الذي يدعى «بطُلوغيا»، وهو معرفة العمل.٤٩
وقال في موضع آخر: «قال أبقراط إن الفرقدين يشبهان الحرارة التي في الإنسان.» «قال جالينوس قد وعد هذا الرجل الفائق أن يجزئ العالم على سبعة أجزاء، فأنجز وعده، وأحسن فيما قسم وجزأ، فإنه بدأ بالعالم الأقصى، وانتهى إلى الأرض، ثم قرن بعد ذلك كل جزء من أجزاء العالم بأجزاء الإنسان فألطف النظر، وأتقن القول، وأحسن النظم، فبدأ من الأرض حتى انتهى إلى النار. وفسرنا قوله هذا، والوجه الذي أراده في ذكره الأرض وابتدائه بها؛ فإنه أراد أن يقرن أجزاء الإنسان بأجزاء العالم، والإنسان أرضي، يسلك على ظهر الأرض، فابتدأ بالأرض، وجعلها أول قوله، وكرر القول هنا ليذكركم ما قاله آنفًا، فإن المعنى إذا ردد ذكره مرارا كان الفهم له أرسخ في القلب والحفظ.»٥٠

وقال في موضع ثالث: «واعلموا أن الغضب ينقاد للعقل، وإنا إذا تحركنا للغضب قدر العقل، وقوي على إمساك ذلك الغضب ولزومه، ومنه أن يفعل أفاعليه، فإن الغضب ربما هيج أفاعيل سيئة مكروهة، فيحول العقل بينه وبين أفاعيله، واعلموا أيضًا أن الشمس هي المدورة للفرقدين، وليست الفاعلة لذلك، لكنها تصعد وتنحدر فتظهر للفرقدين على نحو صعودها وانحطاطها؛ فقال لذلك هذا المرء الفاضل: إن الشمس تدبر الفرقدين، وليست المحركة لهما بالحقيقة، لكنها تظهرهما على وجه ما ذكرناه آنفًا ومعناه.

وقد ذكر ذلك «أُراطس» الشاعر، ووصفه فأحسن الصفة وأحكمها، فمن أراد أن يستقصي معرفة ذلك فلينظر في كتابه الذي وضع في الفلك ويتفهمه.»٥١

ومن هذا نستطيع أن نحكم أن عبارة «حنين» واضحة المعنى جيدة الأسلوب، وأنه إذا اضطر استعمل المصطلحات العلمية بألفاظها؛ مثل «دغماطيقيين»، و«فسيولوغيا»، و«بطلوغيا»، وأن يتبعها بشرح معناها إلى أن تؤلف الكلمة في العربية، ويتحدد مدلولها، وأنه يضع المتن بين قوسين، ويتبع ذلك مما عنده من شرح. وقد جرى على هذا النمط علماء المسلمين بعد في كتبهم.

وعلى الجملة؛ فقد كان حنين ومدرسته خير من يمثل الثقافة اليونانية، وخير من قدم إلى قراء العربية نتائج القرائح اليونانية.

١  اقرأ في هذا Legacy of Greece.
٢  والبرث أو الفرث هم الفرس الأول، تكونت مملكتهم من سنة ٣٢٥٥ق.م إلى ٢٦٦م.
٣  دائرة المعارف الإسلامية في مادة جنديسابور.
٤  أخبار الحكماء، ص ١٣٣.
٥  المصدر نفسه، ١٧٤.
٦  أخبار الحكماء، ١٦١ وما بعدها.
٧  القفطي، ١٥٨.
٨  ص ٤٨٣.
٩  انظر دائرة المعارف الإسلامية في مادتي حران وصابئة..
١٠  انظر القفطي، ص ٣١١.
١١  الفهرست، ٣٢٠.
١٢  انظر ما كتب عن هذا المذهب في فجر الإسلام، ص ١٥٣ وما بعدها. وانظر فيه كذلك: الكلام على السريانيين، ص ١٥٤ وما بعدها.
١٣  ولد كليمان حول سنة ١٥٠م من أبوين وثنيين في أثينا.
١٤  عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة.
١٥  عيون الأنباء ٢:٨٢.
١٦  انظر محاضرات الأستاذ سانتلا، وإذا أردت استيعاب الكتب المترجمة فراجع فهرست ابن النديم، وطبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وأخبار الحكماء للقفطي، وقد لخصها الأستاذ جورجي زيدان في كتابه التمدن الإسلامي.
١٧  تاريخ علم الفلك عند العرب، ١٤١.
١٨  جزء ٩، ص ٢٩٢.
١٩  الفهرست، ص ٢٤٣.
٢٠  طبقات الأمم، ص ٤٧ وما بعدها.
٢١  ص ٤٩، و٥٠.
٢٢  الفهرست، ص ٣٥٤.
٢٣  ابن العبري في مواقع متفرقة.
٢٤  ابن العبري، ص ٢١٩.
٢٥  ابن العبري، ص ٢٤٥.
٢٦  فهرست ٢٨٩، وما بعدها.
٢٧  القفطي، ص ٢٦٨.
٢٨  ص ٢٢٧.
٢٩  ص ٢٣٩.
٣٠  انظر في ذلك منطق أرسطو باللغة الإنجليزية، وقد اتبع العرب الأولون شراح أرسطو من اليونان بإضافة الخطابة والعشر.
٣١  انظر مقدمة ابن خلدون، ٤١٠.
٣٢  الكتاب طبع في مصر بمطبعة المعاهد.
٣٣  محاضرات الأستاذ جويدي، ٨٥.
٣٤  أما القياس في الفقه فسيأتي الكلام فيه، وأما القياس في النحو فقد عرفوه بأنه «حمل فرع على أصل لعلة مشتركة بينهما»، ويكاد يكون هو التعريف الفقهي، وقد طبقه النحاة كما طبقه الفقهاء، فيقولون مثلًا مفتوح والقياس الكسر. وكانوا إذا رووا مسألة عن عربي قاسوا عليها، ولذلك يقول ابن الأنباري: «اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس، فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو.» وكانوا يقسمون مصدر المسائل إلى سماع وقياس، ويعنون بالسماع ما سمعوه عن العرب، وبالقياس ما قاسوه على ما سمعوا. وقد ذكروا أن نحاة البصرة كانوا أصح قياسًا من نحاة الكوفة؛ لأن البصريين لا يلتفتون إلى كل مسموع، ولا يقيسون على الشاذ. ومعنى هذا أن الكوفيين كانوا يستعملون القياس بأوسع من البصريين؛ لأنهم كانوا يقيسون على الشاذ. وقال الأندلسي: «الكوفيون لو سمعوا بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا، وبوبوا عليه بخلاف البصريين.» (انظر مقدمة كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف).
٣٥  ١: ١٥١.
٣٦  ٨٤.
٣٧  الأغاني ١٥: ١٠٧.
٣٨  طبقات الأطباء ١: ١٨٥.
٣٩  الأغاني ٣: ١٧٩.
٤٠  فجر الإسلام: ١٦١.
٤١  انظر في هذا كتاب الفروق للأب لامانس.
٤٢  الفهرست ٣٠٥، ٣٠٦.
٤٣  الحيوان ١: ١٤٠. وقد أصلحنا في الحكاية بعض أغلاطها في الأصل.
٤٤  الفهرست، ٣١٦.
٤٥  الأستاذ إيرهوف.
٤٦  كتاب الأستاذ برجستراسر عن حنين بن إسحاق ومدرسته، وقد نقلنا تعريب هذه الجملة من مقدمة الأستاذ مايرهوف لكتاب العشر مقالات لحنين بن إسحاق.
٤٧  أخبار الحكماء ١٧١.
٤٨  انظر قائمة كتبه في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة.
٤٩  كتاب الأسابيع، ص ٤.
٥٠  ص ٦٨.
٥١  ص ٨٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤