الفصل الرابع

الحديث والتفسير١

أهم مظهر للحديث — في العصر العباسي وقبله بقليل — مظهر التدوين، فقد اختلفت الآراء حينًا بين الصحابة بعضهم وبعض، وبين التابعين، هل من المصلحة جمع الحديث وتدوينه أولًا؟ ثم ذهب هذا الخلاف واستقر الرأي على تدوينه — ولعل أول مَنْ خطا في ذلك خطوة فعلية عمر بن عبد العزيز، «ففي الموطأ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنته فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء؛ وأوصاه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية والقاسم بن محمد بن أبي بكر».٢ وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل الآفاق: «انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه».٣

وأبو بكر بن محمد هذا كان أنصاريًا مدنيًا، ولي القضاء على المدينة لسليمان ابن عبد الملك ولعمر بن عبد العزيز، الذي بين أيدينا من رواية يحيى بن يحيى الليثي. وتوفي سنة ١٢٠، وكانت ولاية عمر بن عبد العزيز من سنة ٩٩ إلى سنة ١٠١؛ فعلى هذه الرواية يكون قد أمرَ أبو بكر ابن محمد بالجمع حول سنة ١٠٠. ولكن هل نُفِّذ هذا الأمر؟ كما نعلمه أنه لم تصل إلينا هذه المجموعة؛ ولم يشر إليها — فيما نعلم — جامعو الحديث بعدُ، ومن أجل هذا شك بعض الباحثين من المستشرقين في هذا الخبر، إذ لو جمع شيء من هذا القبيل لكان من أهم المراجع لجامعي الحديث؛ ولكن لا داعي إلى هذا الشك، فالخبر يروي لنا أن عمر أمر، ولم يروِ لنا أن الجمع تمَّ؛ فلعل موت عمر سريعًا عدل بأبي بكر عن أن ينفذ ما أمر به.

فلمَّا جاء العصر العباسي، وانتصف القرن الثاني، بدأ التأليف في الحديث، كما بدأ في العلوم الأخرى، ووْجِدتَ هذه النزعة إلى تدوين الحديث في أمصار مختلفة وفي عصور متقاربة، ففي مكة جمع الحديثَ ابن جُريَج المتوفى نحو سنة ١٥٠ (الرومي الأصل)، ولم يوثقه البخاري وقال: «إنه لا يُتَابع في حديثه»، وفي المدينة محمد بن إسحق (١٥١)، ومالك بن أنس (١٧٩)، وبالبصرة الربيع ابن صَبِيح (١٦٠)، وسعيد بن أبي عَرُوبَة (١٥٦)، وحماد بن سَلَمة (١٧٦)، وبالكوفة سفيان الثوري (١٦١)، وبالشام الأوزاعي (١٥٦)، وباليمن مَعْمَر (١٤٣)، وبخراسان ابن المبارك (١٨١)، وبمصر الليث بن سعد (١٧٥).

فنرى من هذا أن الجمع بدأ في أوائل النصف الثاني من القرن الثاني — غالبًا — وأن الفكرة فشت في الأمصار المختلفة، ومن الصعب تحديد أي مصر كان له السبق، إلا إذا اعتبرنا أن ابن جريج في مكة كان أسبق هؤلاء العلماء موتًا؛ فقد مات سنة ١٥٠، فيكون أسبقهم تأليفًا، وربما قُلِّد في ذلك، وعمت الفكرة الأمصار من طريق الحج، فالعلماء الذين رحلوا إلى مكة أخذوا من الحديث، كما جمع ابن جريج أحاديث مصره.

ولم يصل إلينا من هذه المجموعات إلا موطأ مالك، ووصفٌ لبعض المجموعات الأخرى، ويدل الموطأ وهذا الوصف على أن جمع الأحاديث كان الغرضُ الأول منه خدمة التشريع بتسهيل استنباط الأحكام منها، فالموطأ مُرتَّب ترتيبًا فقهيًا، وقد ذكروا أن الكتب الأخرى كالموطأ قد جمعت أيضًا أقوال الصحابة وفتاوى التابعين.

فيظهر لي أن كثيرًا من هؤلاء الجامعين للحديث كان عملهم ردًّا على حركة فقهاء العراق القياسيين، وأن أمثال مالك بن أنس والأوزاعي وسفيان الثوري، والليث بن سعد كانوا فقهاء من مدرسة الحديث، يؤثِرون الحديث، ولو كان خبر آحاد على القياس، فجمعوا الحديث ليكون مصدرًا منظمًا لاستنباط الأحكام منه كما سيأتي — ومن أجل هذا نرجئ وصف موطأ مالك إلى حين الأحكام الفقهية، فهو به أليق، وكل ما نريد أن نقوله هنا إن أحاديث الموطأ ليست كلها مسندة، أعني أنها ليست كلها متصلة السند، يرويها مالك عن فلان عن فلان إلى النبي ، بل بعضها مرسل (أي سقط من سنده الصحابي، فرواه التابعي عن رسول الله، من غير ذكر للصحابي الذي روى عنه التابعي)، وبعضها منقطع (وهو الذي سقط من سنده راوٍ أو أكثر)، لذلك لم ترو الكتب الصحيحة التي أُلِّفت بعدُ كالبخاري ومسلم كل أحاديث الموطأ؛ إذ لم يصح عندهم بعضها. وقال ابن حزم: «إن فيه أحاديث ضعيفة وهَّاها الجمهور» — وقد ألَّف ابن عبد البر كتابًا في وصل الأحاديث المرسلة والمنقطعة والبلاغات، (وهي التي قال فيها بلغني أو عن الثقة)، إلا أحاديث أربعة لم تُعْرََف مسندة.

•••

وحدثت خطوة أخرى في تدوين الحديث على رأس المائتين. قال ابن حجر في شرحه على البخاري بعد أن شرح حالة التأليف الأولى، وهي مراعاة الأبواب ومزج حديث رسول الله بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين: «إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي خاصة — وذلك على رأس المائتين — فصنَّف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندًا، وصنَّف. مُسَدَّد بن مُسَرْهَد البصري سندًا، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندًا، وصنَّف نعيم بن حماد الخُزاعيّ نزيل مصر مسندًا؛ ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلَّ إمام من الحفاظ إلا وصنَّف حديثه على المسانيد». وطريقة تأليف المسانيد تخالف طريقة التأليف على الأبواب، فالثانية هي التي شرحناها قبل، كأن يقول كتاب الطهارة ثم يذكر الأحاديث الواردة فيها؛ وأمَّا المسانيد فطريقتها أن يرتب الأحاديث على النبي مهما اختلفت موضوعاتها من صلاة أو زكاة أو ميراث؛ فأساس التقسيم في الطريقة السابقة وحدة الموضوع، وأساس التقسيم في هذه الطريقة وحدة الصحابي الراوي — وقد جرى أحمد بن حنبل بعدُ على هذه الطريقة، ولذلك سمَّى كتابه الجامع للحديث «مسند أحمد».

وهذه خطوة جديدة من مزاياها نوع من استقلال الحديث عن الفقه؛ فقد أفردت أحاديث رسول الله بالذكر، وجرَّدت الكتب من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وروعي فيها الحديث بقطع النظر عن موضوعه وما يستنبط منه من أحكام، إلا أنها جُمِعتَ من الصحيح وغيره؛ فهم يجمعون في مسند كل صحابي ما رُوِي من حديثه صحيحًا كان أو سقيمًا؛ ولذلك كانت كتب المسانيد ليست كتب الدرجة الأولى في الحديث.

حتى إذا كان القرن الثالث نشطت حركة الجمع والنقد، وتمييز الصحيح من الضعيف، وتشريح الرجال والحكم لهم أو عليهم؛ فكان بذلك خير العصور، وفيه أُلِّفت أهم كتب الحديث؛ وكانت الكتب المؤلفة بعده مستمدة منه ومبنية عليه. وشأن الحديث في ذلك شأن كثير غيره من العلوم كالفقه والنحو واللغة وغيرها.

ففيه ألَّف البخاري المتوفى سنة ٢٥٦ الجامع الصحيح، وألَّف مسلم المتوفى سنة ٢٦١ صحيحه، وفيه أُلِّفت سنن ابن ماجه المتوفى سنة ٢٧٣، وسنن أبي داود المتوفى سنة ٢٧٥، وجامع التِرِّمِذِي المتوفى سنة ٢٧٩، وسنن النسَائي المتوفى سنة ٣٠٣؛ وهي التي تسمى — عادة — الكتب الستة، والتي عُدّتَ أصح كتب الحديث.

ويلحق بها مسند أحمد المتوفى سنة ٢٤١، والمحدِّثون يضعون صحيح البخاري ومسلم في الدرجة الأولى من الصحة، ثم ما بعدها؛ ونحن نذكر كلمة عن صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد لأنها أكثر اتصالًا بعصرنا الذي نؤرخه.

البخاري: هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه، كانت أجداده فرسًا على دين المجوس، وأول مَنْ أسلم من أجداده المغيرة، أسلم على يد اليمان الجُعْفِيّ والي بخارى، فكان ولاؤه له، وتنقل الولاء في أولاده، فلذلك يقال في البخاري إنه محمد بن إسماعيل أبو عبد الله الجُعفِيّ؛ فهو من بخارى، وُلِدَ بها سنة ١٩٤، وكان أبوه محدِّثًا أيضًا، مات وهو صغير، وترك له مالًا جليلًا، فنشأ في حجر أمه، وأُسْلِم إلى الكُتَّابَ، فلمَّا بلغ عشر سنين بدأ في حفظ الحديث، فلمَّا بلغ ست عشرة سنة حفظ كتب ابن المبارك ووكيع، وهما محدَّثان مشهوران.

وقد خطا في جمع الحديث خطوة جديدة؛ فقد كان كثير من المحدِّثين الأولين يقتصرون في حديثهم على ما يجمعون من أحاديث مصرهم، فمالك بن أنس يجمع أحاديث الحجاز وخاصة أهل المدينة، وابن جريج أحاديث الحجازيين وخاصة أهل مكة؛ نعم وُجِدَ من المحدثين الأولين مَنْ رحل إلى غير مصره، ولكن البخاري وسَّع هذه الدائرة وسنَّ سنة لمن بعده من المحدِّثين في الإمعان في الرحلة لطلب العلم، وبعبارة أخرى لطلب الحديث؛ فبعد أن سمع حديث بلده ذهب إلى بلخ وسمع محدِّثيها، ورحل إلى مرو ونيسابور والري وبغداد والبصرة والكوفة ومكة والمدينة ومصر ودمشق وقيسارية وعسقلان وحمص — فهو بهذا وضع له خطةً أن يجمع ما تفرق من الحديث في الأمصار، وأقام في هذه الرحلات نحو ستة عشر عامًا، لقي فيها عناءً شديدًا لا يحتمله إلا الصابرون، وأخيرًا عاد إلى موطنه، ومات سنة ٢٥٦.

كما أنه خطا بالحديث خطوة أخرى في جِدِّه في التمييز بين الحديث الصحيح وغيره، وقد كانت الكتب قبله لايُعْنَى فيها بهذا الموضوع عنايته، فكان المحِّدث يجمع ما وصل إليه تاركًا البحث عن رواته ومقدار الثقة به إلى القارئين أو السامعين، حتى الموطأ نقده كثير من المحدِّثين من هذه الناحية.

وهذا العمل — أعني تعرُّف صحيح الحديث من ضعيفه — كان يحتاج البدء فيه إلى عناء لايُقدَّر، فهو يحتاج إلى معرفة واسعة بتاريخ رجال الحديث، وتاريخ حياتهم ووفاتهم ليعرف هل التقى الراوي بمَنْ روى عنه أوْلا، ويحتاج إلى معرفة دقيقة برجال الحديث من زمن البخاري إلى زمن الصحابي ما مقدار صدقهم، والثقة بهم، وحفظهم، ومَنْ منهم صادق أمين، ومَنْ منهم مستور الحال، ومَنْ منهم كاذب، ومَنْ منهم صادق لكنه مغفل كما يقولون «تُقْبَلُ دعوته ولا تُقْبَلُ روايته»، كما يحتاج إلى مقارنة الأحاديث التي ترويها الأمصار المختلفة، وما بينها من فرق وموافقات، وما فيها من علل، كما يحتاج إلى معرفة مذاهب الرجال من خارجي ومعتزلي ومرجيء وشيعي وغير ذلك؛ ليتبين منها مقدار ما قد يحمله مذهبه على القول بحديث غير صحيح أو تأويل له غير راجح — إلى غير ذلك، وهي مهمة — كما ترى — في غاية العسر والمشقة؛ لأن كثيرًا منها يتصل بالنيات والضمائر، وخفايا السرائر، فكم من باطن لا يتفق والظاهر، وكم من أعمال وأقوال ظاهرها طيب جميل، وباطنها سيء قبيح، وكم من متصنع تقوى وصلاحًا، وقد اتخذ ذلك سلاحًا، وكم من مضمر عقيدة يتظاهر بغيرها خوفًا من العامة أو ذوي الجاه والسلطان، أو ليخدع بظاهره الناس فيتمكن مما رسم من خطة سوء، وهكذا.

وقد رُزِقَ البخاري خصلتين بارزتين مكنتاه من أن يقرب من غرضه:
  • (١)
    حافظة قوية لاقطة، وخاصة فيما يتعلق بالحديث وقد بالغ الرواة في كثرة ما كان يحفظه عن ظهر قلبه من أحاديث بسندها، فرُوِي عنه أنه كان في صباه يحفظ سبعين ألف حديث وأكثر، ولا يجيء بحديث عن الصحابة والتابعين إلا ويعرف مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم٤ وأوصلها بعضهم إلى مائتي ألف حديث، ورورا عنه كثيرًا مثل ذلك، ولكنها مبالغات تدلَّنا — مهما كانت — على قدرته في الحفظ. وكان يستعين على حفظه بالتقييد وكثرة الفكر، فقد رووا عنه أنه كان يقول: «ما تركت حديثًا في البصرة إلا كتبته» روَوَى عنه وَرَّاقه أنه قال: عددت ما أدخلت في تصانيفي من الحديث فإذا نحو مائتي ألف حديث. وذكِرَ عنه أنه كان يقوم في الليل مرارا يأخذ القداحة فيوري نارًا ويسرج، ثم يخرج أحاديث فيعلِّم عليها ثم يضع رأسه.
  • (٢)
    مهارته في تعريف الرجال ونقدهم. وفي ذلك وضع كتابه التاريخ لتمييز الرجال، ورووا عنه أن قال «قلّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة»؛ ورُوِي أمامه حديث فيه اسم راوٍ وهو عطاء الكَيْخَارَانِيّ، فسُئِلَ عن كَيْخَارَانِ، فقال البخاري: قرية باليمن كان معاوية بن أبي سفيان بعث هذا الرجل من أصحاب النبي إلى اليمن فسمع منه عطاء (هذا) حديثين.٥ وهو مع معرفته الدقيقة بالرجال مؤدب التعبير جدًا، فهو يقول في الرجل الذي لا يرتضيه والذي يعرف كذبه «فيه نظر»، أو يقول «سكتوا عنه»، وقلّ أن يقول كذَّاب أو وضَّاع وإنما يقول كذَّبه فلان ورماه فلان، يعني بالكذب، وأصرح ما قال في رجل: «هو مُنْكَر الحديث» إلا في النادر.
كتابه «الجامع الصحيح»: أراد البخاري في كتابه أن يقتصر على جمع الأحاديث الصحيحة، والحديث الصحيح في اصطلاح المحدَّثين هو الحديث المسنْد الذي يتصل إسناده — من الراوي إلى النبي — ويكون كل راوٍ من رواته عدلًا ضابطًا — وقد أنفق البخاري في جمع كتابه هذا ستة عشر عامًا وسمَّاه «الجامع الصحيح المسند من حديث رسول » وقد جمع فيه — على ما ذكره ابن حجر — ٧٣٩٧ حديثًا؛ وهذا العدد تدخل فيه الأحاديث المكررة ولا تدخل فيه المعلقات والمتابعات والموقوفات والمقطوعات.٦

فإذا أضيفت إليه المعلقات والمتابعات بلغت ٩٠٨٢ حديثًا غير الموقوف والمقطوع، وإذا حذف المكرر واقتصر على عد الأحاديث الموصولة السند غير المكررة كانت ٢٧٦٢ حديثًا.

وقد ذكر المحدَّثون أن البخاري اشترط في جمعه للأحاديث التي يصححها شروطًا تسمى عادة «شروط البخاري»، كما اشترط «مسلم» شروطًا تخالف بعض الشيء شروط البخاري، ويسمونها «شروط مسلم»؛ فكلاهما اشترط في الحديث أن يكون إسناده متصلًا، وأن يكون كل راوٍ من رواته مسلمًا صادقًا غير مدلِّس ولا مختِلط، متصفًا بصفات العدالة، ضابطًا متحفظًا، سليم الذهن، قليل الوهم، سليم الاعتقاد؛ وكان البخاري يرى أن المحدّث إذا كان من أساطين المحدَّثين وهم المكثرون من جمع الحديث وروايته كالزهري ونافع، فإن أصحابه الذين يروون عنه درجاتٌ تختلف في مقدار الصلة به وفي الحفظ والإتقان؛ فالدرجة الأولى مَنْ كان يزامله في السفر ويلازمه في الحضر؛ والدرجة الثانية مَنْ لم يلازمه إلا مدة قصيرة، وكلا النوعين عُرِفَ بالتثبت. ويلي ذلك درجات، فالبخاري يشترط في الرواة أن يكونوا من الدرجة الأولى عادة، وقد يروي عن رجال الدرجة الثانية، ولكنه في الغالب يرويه تعليقا ًعلى حديث، ويُسمَّى ذلك أيضًا شرطًا من شروط البخاري؛ و«مسلم» يقبل رجال الدرجة الثانية كما يقبل الأولى، ولا يقتصر في الدرجة الثانية على التعليق. وأمَّا غير المكثرين فاكْتُفِي فيهم عند البخاري ومسلم بشرط الثقة والعدالة وقلة الخطأ إلخ.٧

ولكنا رأينا عند عدِّ أحاديث البخاري أنه لم يقتصر على الأحاديث الصحيحة بهذا المعنى، بل ذكر أحاديث موقوفة ومقطوعة، وقد قالوا إنه إنما ذكرها للاستئناس لا لتكون أساسًا للباب. ثم إن البخاري كان — مع قدرته الفائقة في الحديث — فقيهًا، ويعده السبكي شافعيًا في كتابه طبقات الشافعية، ولكن هذا محل شك، بل الظاهر أنه كان مجتهدًا مستقلًا وله استنباطات تفرَّد بها، وآراء توافق أحيانًا مذهب أبي حنيفة، وأحيانًا مذهب الشافعي، وأحيانًا تخالفهما، وأحيانًا يختار مذهب ابن عباس، وأحيانًا مذهب مجاهد وعطاء إلخ؛ فقد اختار أن الجُنُبَ لا بأس بقراءته القرآن، وأنه إذا خاف المرض من الماء البارد يتيمم، ورأى جواز الصلاة بالنعال، ورأى أن يحتكم في البيوع إلى عُرْفِِ الناس، ورأى جواز تعليم أهل الكتاب القرآن إلخ. فظاهر هذا كله أنه لم يتقيد بمذهب.

هذه الناحية الفقهية كان لها أثر كبير في كتابه «الجامع الصحيح»؛ فقد رتبه ترتيبًا فقهيًا كما فعل مالك في الموطأ، فبعد أن بدأ «ببدء الوحي» وثنَّاه بكتاب الإيمان والعلوم ذكر كتاب الطهارة، ثم كتاب الصلاة، ثم كتاب الزكاة، واختلفت النسخ في الصوم والحج؛ أيهما قبل الآخر؟ ثم كتاب البيوع إلخ، حتى إذا انتهى من المعاملات ذكر المرافعات، فقال كتاب الشهادات وكتاب الصلح، ثم كتاب الوصية والوقف، ثم أعقب ذلك بكتاب الجهاد، وطفر بعد ذلك على أبواب غير فقهية، فذكر الكلام في بدء الخلق، والجنة والنار، وتراجم الأنبياء ثم مناقب قريش، وفضائل الصحابة والمهاجرين والأنصار، ثم ذكر السيرة النبوية والمغازي وما إليها، ثم كتاب التفسير، ثم عاد إلى الفقه من نكاح وطلاق، ثم كتاب الأطعمة والأشربة، ثم خرج من ذلك إلى كتاب الطب، ثم كتاب الأدب والبر والصلة والاستئذان، ثم كتاب النذور والكفارة، ثم الحدود والإكراه، ثم كتاب تعبير الرؤيا، ثم كتاب الفتن، وكتاب الأحكام وذكر فيه الأمراء والقضاة، ثم ذكر أشياء يتكلم فيها عادة في أصول الفقه، كأخبار الآحاد وأحكام الاجتهاد، والاستنباط من الكتاب والسنة، وختم ذلك كله بكتاب التوحيد.

وقسَّم كل كتاب من هذه الكتب إلى أبواب، وعدة الكتب ٩٧ كتابًا، فيها ٣٤٥٠ بابًا؛ وهذا الترتيب كما ترى فيه شيء من الغرابة، وقد أتعب الشارحون أنفسهم في تعرُّف الأساس المنطقي الذي بنى عليه هذا الترتيب — بل فيه ما هو أصعب من ذلك، فبعض الأبواب فيه أحاديث كثيرة، وبعضها فيه حديث واحد وبعضها فيه آية من كتاب الله، وبعضها عنوان لا شيء تحته من كتاب أو حديث، وبعض الأبواب يصعب على الناظر فهم الرابطة بين العنوان وما ُذكِرَ فيه — وقد اختلفوا في تعليل هذا، أوضحها أنه أحيانًا قد يذكر الباب ولا يذكر فيه حديثًا؛ لأنه لم يصح عنده حديث في هذا الباب، وقد ترك الباب مفتوحًا حتى يتحرى ويصح عنده حديث؛ وأن المؤلف — وهو البخاري — لم يكن قد وضع كتابه في صيغته النهائية؛ فبعض الناسخين ضم بابًا لم يذكر فيه حديثًا، إلى حديث لم يذكر له بابًا. قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي: «انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه (أي صاحب البخاري) محمد بن يوسف الفِرَبْري، فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيضة، منها تراجم لم يُثْبِت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض».٨ وقال الباجي: «ومما يدل على صحة هذا القول أن الروايات مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد، وإنما ذلك بحسب ما قدَّر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس فيها أحاديث».٩

وأيًا ما كان فقد عُدَّ كتاب البخاري بحق أصح كتب الحديث، ولم ينازع أحد في أفضليته وعدَّه أصح كتب الحديث، إلا ما كان من قوم من تفضيل صحيح مسلم عليه كما سيأتي بيانه.

ولكن ليس معنى هذا خلوُّه من مواضع نقد، فالحُفَّاظ والنقدة من كبار المحدِّثين تناولوه بالنقد في صراحة وحرية من وجوه متعددة أهمها:
  • (١)

    ترتيب الكتاب والعلاقة بين الترجمة وما تحتها، وقد سبق ذلك.

  • (٢)

    أنه يقطع الحديث فيذكر بعض الحديث في باب وبعضه الآخر في باب آخر وهكذا، وقد تختلف الرواة في الأجزاء المختلفة، وقد يذكر بعضها متصل السند وبعضها منقطعه؛ ويظهر أن الذي دعاه إلى تقطيع الحديث نظرته الفقهية، فإذا كان جزء من الحديث — مثلًا — يتعلق بالصلاة ذكره في كتاب الصلاة وإذا كان جزؤه الآخر يتعلق بالبيع ذكره في البيع، وقد يختلف رواة الحديث فيذكر في كل باب رواية من رواياته، وأحيانًا يكتفي بما ذكر من الإسناد قبل فيرويه غير مسند وهكذا، وقد أُخِذَ عليه في هذا الباب بعض مآخذ لم يستطع المنتصرون له أن يجيبوا عنها.

  • (٣)
    انتقده حُفَّاظ الحديث في بعض أحاديث بلغت ١١٠، منها ٣٢ حديثًا اتفق فيها هو ومسلم، و٧٨ انفرد بها البخاري، ووجه الانتقاد أن فيها عللًا كما يعبر عن ذلك المحدِّثون، مثال ذلك أن البخاري ومسلمًا رويا حديثًا عن مالك عن الزُّهْرِي عن أنس قال: كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب منا إلى قَباء فيأتيهم والشمس ومرتفعة، وقد انتقد المحدَّثون مالكًا في ذلك؛ لأن الروايات الصحيحة كلها: «ثم يذهب الذاهب منا إلى العَوَالي» لا إلى قباء، وفرق بين قباء والعوالي،١٠ وهكذا وقد أجيب عن بعض هذه الأحاديث إجابات مقبولة، وبعضها إجابات غير معقولة.
  • (٤)

    إن بعض الرجال الذين روى لهم غير ثقات، وقد ضعَّف الحُفَّاظ من رجال البخاري نحو الثمانين، وفي الواقع هذه مشكلة المشاكل؛ فالوقوف على أسرار الرجال محال، نعم إن مَنْ زلَّ زلة واضحة سهل الحكم عليه، ولكن ماذا يُصْنََعُ بمستور الحال؟ ثم إن أحكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف، فبعض يوّثق رجلًا وآخر يكذِّبه، والبواعث النفسية على ذلك لا حصر لها؛ ثم كان المحدِّثون أنفسهم يختلفون في قواعد التجريح والتعديل، فبعضهم يرفض حديث المبتدع مطلقًا كالخارجي والمعتزلي، وبعضهم يقبل روايته في الأحاديث التي لا تتصل ببدعته، وبعضهم يقول إن كان داعيًا لها لا تقبل روايته وإن كان غيْر داعٍ قُبِلتَ، وبعض المحدِّثين يتشدد فلا يروي حديث مَنْ اتصلوا بالولاة، ودخلوا في أمر الدنيا مهما كان صدقهم وضبطهم، وبعضهم لا يرى في ذلك بأسًا متى كان عدلًا صادقًا، وبعضهم يتزمّتَ فيأخذ على المحدِّث مزحة مزحها، كالذي رُوِي أن بعض مُجَّان البصرة كانوا يضعون صرر نقود في الطريق ويختفون، فإذا انحنى المار لأخذها صاحوا به فتركها خجلًا وضحكوا منه، فأفتى بعض المحدِّثين أن يملأ صرة من زجاج مكسر، فإذا صاحوا به وضع صرة الزجاج وأخذ صرة الدراهم عقابًا وتأديبًا، فجرَّحه بعض المحدثين من أجل ذلك، وعدَّله بعضهم إذ لم ير به بأسًا، إلى غير ذلك من أسباب يطول شرحها؛ ومن أجل هذا اختلفوا اختلافًا كبيرًا في الحكم على الأشخاص، وتبع ذلك اختلافهم في صحة روايته والأخذ عنه، ولعل من أوضح المُثُل في ذكر عِكْرِمة مولى ابن عباس، وقد ملأ الدنيا حديثًا وتفسيرًا، فقد رماه بعضهم بالكذب، وبأنه يرى رأي الخوارج، وبأنه كان يقبل جوائز الأمراء، ورووا عن كذبه شيئًا كثيرًا، فرووا أن سعيد بن المسيب قال لمولاه «بُرْد»: «لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس»، وأكذبه سعيد بن المسيب في أحاديث كثيرة، وقال القاسم: «إن عكرمة كذَّاب يحدِّث غدوة بحديث يخالفه عشية»، وقال ابن سعد: «كان عكرمة بحرًا من البحور وتكلَّم الناس فيه، وليس يحتج بحديثه»، هذا على حين أن آخرين يوثِّقونه ويعدِّلونه، فابن جرير الطبري يثق به كل الثقة ويملأ تفسيره وتاريخه بأقواله والرواية عنه، وقد وثَّقه أحمد بن حنبل وإسحق بن راهُويَه ويحيى بن مَعِين وغيرهم من كبار المحدِّثين. من أجل هذا كله وقف جامعو الصحيح منه مواقف مختلفة، فالبخاري ترجح عنده صدقه، فهو يروي له في صحيحه كثيرًا، ومسلم ترجح عنده كذبه، فلم يروِ له إلا حديثًا واحدًا في الحج، ولم يعتمد فيه عليه وحده، وإنما ذكره تقوية لحديث سعيد بن جبير في الموضوع نفسه.

من هذا نرى صعوبة الحكم على مستوري الحال، ولم يسلم جامع كتاب حديث من ذلك لاختلاف الناس في الحكم على الرجال.

وعلى كل حال فمهما نُقِدَ البخاري، ومهما كان عرضة للخطأ أحيانًا، فقد تحرَّى في جمعه ما أمكنه التحري، وبذل في ذلك أقصى الجهد، والقارئ يشعر بدقته المتناهية، فهو ينصُّ على الخلاف في رواية الحديث، ولو كان خلافًا قليلًا، وكثيرًا ما يتبع الحديث بتعليقاته الدقيقة متبدئًا بقوله: «قال أبو عبد الله»، وقد يكون تعليقه استنباطًا من الحديث أو شرحًا لغريب أو نحو ذلك، فإذا أضيف إلى ذلك أنه أول من فتح للناس هذا الباب من شدة التدقيق في الرواية والاقتصار على الصحيح في نظره، وهذا المنحى في التأليف، عرفنا فضله على الحديث والمحدّثين.

•••

مسلم: مسلم بن الحجاج عربي الأصل من قُشَير ومسكن أهله نيسابور، بدأ كذلك في طلب الحديث، ورحل في طلبه من نيسابور إلى العراق والحجاز والشام ومصر، وذهب إلى بغداد مرارًا وحدَث بها، وقد استفاد كثيرًا من البخاري حينما استوطن البخاري نيسابور، وأخذ عنه وتعلَّم منه وتأثر به، وقد مات بنيسابور سنة ٢٦١، وقد ألَّف كتبًا كثيرة أهمها صحيحه.
صحيح مسلم: ويُقْرَنْ دائمًا بصحيح البخاري لرفعة درجتهما والوثوق بهما، وقد ذكر في أول كتابه هذا «أنه يقسِّم الحديث ثلاثة أقسام، الأول: ما رواه الحُفَّاظ المتقِنون، والثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان، والثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون؛ وأنه إذا فرغ من القسم الأول أتبعه الثاني، وأمَّا الثالث فلا يُعرِّج عليه».
والناس يختلفون في تقديم صحيح البخاري أو مسلم، والجمهور على تقديم البخاري لأسباب أهمها:
  • (١)

    أن الذين عُدُّوا ضعفاء من الرجال الذي روى لهم مسلم أكثر ممن عُدُّوا ضعفاء من رجال البخاري؛ فقد تُكُلِّم في ثمانين رجلًا ممن انفرد بالتخريج لهم البخاري، وتُكُلِّم في مائة وستين رجلًا ممن انفرد بالتخريج لهم مسلم.

  • (٢)

    وأن البخاري لايُكْثِِرُ من الرواية عن هؤلاء الضعفاء، وإنما لم يذكر لهم الحديث والحديثين إلا نادرًا، وأمَّا مسلم فيُكْثِرُ من الرواية لهم.

  • (٣)

    اشتراط البخاري الدرجة الأولى في المحدِّثين المكثرين، وقد تقدَّم ذلك.

  • (٤)
    أن مسلمًا يجعل للعنعنة حكم الاتصال إذا تعاصر المُعَنْعَن عنه،١١ والبخاري لا يجعل ذلك في حكم الحديث المتصل السند إلا إذا ثبت تاريخيًا اجتماعهما ولو مرة؛ وهي كلها شروط ترجِّح البخاري وإن كان لم يلتزمها دائمًا.
على أن لصحيح مسلم مزايا فضَّله من أجلها بعض العلماء كأبي عليِّ النيسابوري، وبعض علماء المغرب، أهمها:
  • (١)

    ما ذكره ابن حجر من أن مسلمًا «ألَّف كتابه في بلده، بحضور أصوله، في حياة كثيرة من مشايخه؛ فكان يتحرز في الألفاظ، ويتحرى في السياق، ولا يتصدَّى لِمَا تصدى له البخاري من استنباط الأحكام ليبُّوب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه (أي البخاري) للحديث في أبوابه، بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل الندرة تبعًا لا مقصودًا».

ومثل ذلك ما روي عن ابن حزم من أنه كان يفضِّل مسلمًا «لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث السرد» ففي الواقع من ناحية الحديث البحتة صحيح مسلم أفضل؛ لأنه لا يقطع الحديث كما يفعل البخاري، بل يسوق الحديث تامًا بأسانيده المختلفة في موضع واحد؛ أمَّا البخاري فيروي جزءًا من الحديث بسند، وقد يروي جزءًا آخر بسند آخر في مكان آخر؛ فيصعب على المحدِّث معرفة الحديث كاملًا بأسانيده المختلفة؛ والذي حمل البخاري على هذا غلبة النظرة الفقهية على البخاري، وغلبة النظرة إلى الحديث على مسلم؛ فكان غرض البخاري تجريد الأحاديث الصحيحة من غيرها واستنباط الفقه منها، واستنباط سيرة النبي والصحابة منها، واستنباط التفسير؛ وكان غرض مسلم تجريد الأحاديث الصحيحة أيضًا، وتقريبها إلى الأذهان، وجمع طرق كل حديث في موضع واحد؛ ليسهل معرفة ما بين متون الحديث، وما بين أسانيده من فرق.

  • (٢)
    ويقول بعضهم إن مسلمًا يَفْضُل البخاري؛ لأن «البخاري قد يقع له الغلط في أهل الشام، وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها، فربما ذكر الواحد منهم بكنيته، ويذكره في موضع آخر باسمه، ويتَوهم أنهما اثنان، فأمَّا مسلم فقلمَّا يقع له الغلط».١٢

وأيَّا ما كان فصحيح مسلم — كذلك — دقيق غاية في الدقة؛ فهو يشير إلى الفروق الدقيقة في الحديث ولو كان حرفًا، ويبين في كثير من الأحيان صفة الراوي ونسبه، كما يدل كتابه على أنه كان أيضًا فقهيًا ماهرًا في الفقه، هذا مع إيجاز العبارة وحسنها.

وقد رووا أن عدد أحاديثه ٧٢٧٥ حديثًا بالمكرر، ومن غير المكرر نحو أربعة آلاف، وقد مال إلى ترتيبه أيضًا ترتيبًا فقيهًا، وإن لم يبالغ في ذلك مبالغة البخاري.

أحمد بن حنبل ومسنده: أمَّا ترجمته فسنذكرها في التشريع، وأمَّا مسنده فقد أبتا قبلُ أن كتب المسانيد ترتب عادة حسب الصحابي الذي روى الحديث فيجمع في موضع واحد كل الأحاديث الذي رواها ذلك الصحابي، ثم تُتْبَع بالأحاديث التي رواها صحابي آخر وهكذا، ومن هذا القبيل مسند أحمد، فيقول — مثلًا — مسند عمر بن الخطاب، ويروي كل الأحاديث التي نُقِلتَ عنه، فيقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن عمر، ويجمع كذلك كل الأحاديث التي رُوِيتَ عن سعد بن أبي وقاص حتى يفرغ منها، وقد يجوز أن يكون حديث من مسند عمر في الصلاة وحديث في الحج وحديث في الإيمان، فأساس التقسيم ليس الموضوع، ولكن الصحابي الذي روى عن النبي، فهو يفيد من ناحية أنه يعرِّف عدد ما يُروْىَ عن كل صحابي ونوع ما يرويه، وقد ذكروا أن مسند أحمد يشتمل على أربعين ألف حديث منها نحو عشرة آلاف مكررة.

ولم تبلغ أحاديثه في الصحة مبلغ البخاري ومسلم، بل ذكر المحدِّثون أن فيه كثيرًا من الأحاديث الضعيفة.

وقد لاحظ بعض المستشرقين أن مسند أحمد تتجلى فيه الشجاعة وعدم الخوف من العباسيين، بذكره أحاديث في مناقب بني أمية مما كانت منتشرًا بين الشاميين وكان على العكس من ذلك البخاري ومسلم، فإنهما لم يذاكرها مداراة للعباسيين. كما أن مسند أحمد لم يتحرج من ذكر أحاديث كثيرة في مناقب علي وشيعته.

وهذا حكم قاسٍ على البخاري ومسلم. نعم إن كثيرًا من الأحاديث في مناقب بني أمية والشيعة رويت في مسند أحمد ولم ترد في البخاري، ولكنا نجد في البخاري ومسلم بعض الأحاديث فيها بعض رد على هذا الرأي مثل «ما رُوِي أن رسول الله قال لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» رواه البخاري ومسلم؛ وروى مسلم حديث «لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله فتطاول الناس لها فقال ادعوا لي عليًا»، وروى مسلم أيضًا حديث أن عليًا قال: «والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إليَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق»؛ وروى البخاري ومسلم عن البراء قال: رأيت رسول الله والحسن على عاتقه يقول: اللهم إني أحبه فأحبه. أمَّا الأحاديث في البخاري ومسلم في بني أمية فنادرة جدًا، مثل ما أخرجه مسلم عن ابن عباس قال: ما سال أبو سفيان رسول الله شيئًا إلا قال نعم. كما أنها قليلة جدًا — والحق يقال — في مناقب العباس وابنه عبد الله ابن عباس وهما جدًا العباسيين، فلعل الأحاديث في مناقب الأمويين لم تصح عند البخاري ومسلم فلم يخرَّجاها؛ وإذ كان أحمد لا يشترط في أحاديثه شروطهما تسامح مع هذه الأحاديث فذكرها في مسنده، فلم يكن الأمر على ما يظهر أمر شجاعة وجبن، وصراحة وملق، بل أمر شروط للحديث تشترط أو لا تشترط؛ نعم كان هناك ملق من بعض المحدِّثين فوضعوا أحاديث في مناقب العباس وأبنائه وفي مذمة الأمويين، ولكن ذلك يلتمس عند غير البخاري ومسلم.

•••

ويسوقنا هذا إلى أن نذكر هنا أن الأمويين — فعلًا — قد وضعوا أو وضُعِتَ لهم أحاديث تخدم سياستهم من نواحٍ متعددة، منها أحاديث في زيادة مناقب عثمان، إذ كان هو الخليفةَ الأموي من الخلفاء الراشدين، وهم به أكثر اتصالًا، مثل حديث أن عثمان تصدَّق بثلثمائة بعير بأحْلاسها وأْقتَابها في جيش العُسْرة، فنزل رسول الله من على المنبر، وهو يقول: «ما عَلى عثمان ما عمل بعد هذه — ما على عثمان ما عمل بعد هذه»؛ وروى الطبري أن معاوية بن أبي سفيان لمَّا وَلَّى المغيرة بن شُعبة الكوفة في جمادى سنة ٤١، دعاه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال … أردت إيصاءك بأشياء كثيرة، فأنا تاركها اعتمادًا على بصرك بما يرضيني، ويسعد سلطاني ويصلح به رعيتي، ولست تاركًا إيصاءك بخصلة، لا تتَحَمّ١٣ عن شتم عليّ وذمه، والترّحم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب عليّ والإقصاء لهم، وترك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان والإدناء لهم، والاستماع منهم … فأقام المغيرة على الكوفة عاملًا لمعاوية سبع سنين وأشهر وهو من أحسن شيء سيرة، وأشّد حبًا للعافية، غير أنه لا يدع ذم عليّ والوقوع فيه والعيب لقتَلة عثمان واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزكية لأصحابه.١٤

ومنها: استغلال الفتن من مقتل عثمان، ووقعة الجمل، وفتن الخوارج، وفتنة ابن الزبير، ووضع الأحاديث الكثيرة في ذلك تخدم الأمويين. ومنها: تعظيم الشام ومدحها؛ لأنها مركز الأمويين، كحديث قال رسول الله : طوبى للشام، فقلت لِمَ ذاك يا رسول الله؟ فقال: لأن الملائكة عليهم السلام باسطة أجنحتها عليهم. وكالأحاديث الكثيرة في مدح بيت المقدس، والصخرة وما إليها؛ ولا يخفى الباعث على ذلك من تعظيم مركز الخلافة وتعظيم مَنْ يسكنها، وكالأحاديث في تفضيل أهل الشام على غيرهم، كالحديث الذي أخرجه أبو داود أن ابن حَوَاَلة قال لرسول الله خِرْ لي، قال رسول الله: «عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبى إليها خيرته من عباده». ومثل هذا كثير يطول شرحه، وقد انتشرت هذه الأحاديث في الشام في العهد الأموي؛ لأنها صُنِعتَ فيها ثم انتشرت منها، فلمَّا أتى العباسيون انعكس الأمر، فاضطهد الأمويون، واضطهدت الأحاديث التي ترفع من شأنهم، بل وُضِعتَ الأحاديث في ذمهم، والتعلية لشأن العباسيين أنفسهم، فنرى في كتاب الخلفاء للسيوطي فصلًا عنوانه: «الأحاديث المنذرة بخلافة بني أمية» وبعده فصل عنوانه: «الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس»، والعنوان نفسه يدل على الوضع وتاريخه، وأنه عُمِلَ في عهد العباسيين، وقد مليء كلا الفصلين بالأحاديث الموضوعة: الأول للحطِّ من شأن الأمويين، والثاني لإعلاء شأن العباسيين، وقد تقدَّم ذكر شيء من ذلك عند الكلام في أثر العباسيين في العلم.

كذلك اشتد الخلاف بين العباسيين والعلويين، وأثيرت مسألة الخلافة، ومَنْ أحق بها، وكثر الشعر في ذلك العصر يتقرب به بعض الشعراء إلى العباسيين وبعضهم إلى العلويين.

وكان أكبر وسيلة يتقرب بها الشعراء إلى الخلفاء التوقيع على نغمة أنهم أحق بالملك من العلويين. فقد روى الصُّولي: «أن أَبَانًا عاتب البرامكة في إعطاء الرشيد الأموال للشعراء وفقره، مع خدمته لهم، وموضعه منهم، فقال له الفضل: إن سلكتَ مذهب مروان أوصلت شعرك (يعني مروان بن أبي حفصة ومسلكه هو هجاء آل أبي طالب)، قال: والله ما أستحل ذلك، فقال له الفضل: كلنا يفعل ما لا يحل، ولك بنا وبسائر الناس أسوة، فقال أبان قصيدته المشهورة:

نَشَدْتُ بحق الله مَنْ كان مسلمًا
أعُمُّ بما قد قلته العجْمَ والعَربْ
أعَمُّ نبيّ الله أقربُ زُلفة
إليه أم ابن العمِ في رْتبَةِ الّنسَبْ
وأيُّهما أولى به وبعهدِهِ
ومَنْ ذا لهُ حقُّ التُّراثِ بما وجَبْ
فإن كانَ عباسٌ أحقُّ بتلكمو
وكان عليٌّ بعد ذاك عَلَى سبَبْ
فأبناء عبَّاسٍ هُمو يرِثونَهُ
كما العمُّ لابنِ العم في الإرثِ قد حَجَبْ
إلى آخر الأبيات، فأنشدها للرشيد، فأعطاه عشرين ألف درهم، واتصل به بعد ذلك».١٥
وكان شأن الحديث في ذلك شأن الأدب، فالخلافة أصبحت مجالًا لضعفاء المحدِّثين من كل جانب، يضعون فيها ما يوافق مذهبهم، فالسّنيون يرون أن النبي لم يعهد بالخلافة لأحد، وأن النبوة والخلافة لا تورثان، كما لا يورث مال الأنبياء لحديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نُورَث، ما تركناه صدقة». والشيعة لا يرون ذلك، ويرون النصَّ على عليٍّ وولده؛ والسنيون يرون أن الأئمة من قريش، والخوارج يرون أنها في كل المسلمين، يُخْتار منهم أصلحهم ولو كان عبدا ًحبشيًا كان رأسه زبيبة، وكل ناحية من هذه النواحي انتسب لها شعراء، وانتسب لها محدِّثون، وكما وُضِعتَ القصائد في تأييد المذهب المختلفة، وُضِعتَ الأحاديث في تأييد المذاهب المختلفة أيضًا، ومن هؤلاء العباسيون، وكانوا أكثر مالًا وأعظم جاهًا والسلطة في أيديهم، فالملق لهم أكثر، والطمع فيهم أنجح، فكان الوضع لهم أوفر، مثل الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس قال:

«قال رسول الله للعباس: إذا كان غداة الاثنين فأتني أنت وولدك حتى أدعو لك دعوة ينفعك الله بها وولدَك، فغدا وغدونا معًا، وألبَسنا كساء، ثم قال: اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبًا، اللهم احفظه في ولده».

وما رواه الطبراني قال رسول الله: «الخلافة في ولد عمِّي وصِْنو أبي حتى يسلموها إلى المسيح» وهكذا. ومثل هذا الوضعُ عند العلويين، والكتب مملوءة به.

بل وُضِعتَ الأحاديث لإظهار رغبات الناس فيمَنْ يُعْهَدُ إليه الحكم، فيَرْوِي نعيم بن حماد المروزي (شيخ البخاري ومسلم) في كتابه «الفتن»،١٦ عن ابن لَهِيعَة أن عليًا قال: «سلطان أمة محمد بعد وفاته مائة سنة وسبع وستون سنة وأحد وثلاثون يومًا، حتى يسلِّط الله عليهم الوهن». وإذا كان رسول الله مات سنة ١١ فتكون السنة التي توافق هذا التاريخ سنة ١٧٨.

وقد لاحظ بعض المستشرقين أن هذه السنة هي التي أُعْطِيتَ فيها السلطة التامة للبرامكة، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة ١٧٨ أنه «في هذه السنة فوَّض الرشيد أموره كلها إلى يحيى بن خالد البرمكي»، فوُضِعَ الحديث لخدمة سياسة معينة؛ هي كراهية البرامكة.

هذه ناحية واحدة من أسباب الوضع، وهناك نواحٍ أخرى كثيرة، فانقسام المذاهب الكلامية إلى معتزلة ومرجئة، وشيعة، خوارج، وأهل سنة حملت كثيرين على تأييد مُدَّعاهم بأحاديث لم تصح.

كما أن خلاف الفقهاء بين أهل حديث وأهل رأي حملت بعض الفقهاء من أهل الحديث على وضع أحاديث لملء الفراغ الذي لم يرد فيه حديث، وذلك قد يكون في حكمه موافقًا لأهل الرأي، ولكنهم يتسترون به، جريًا على مذهبهم من اتباع الحديث، وقد يكون مخالفًا في حكمه لمذاهب أهل الرأي، فيكون الحديث سلاحًا لهم يستعملونه لمهاجمة أهل الرأي، والدليل على ذلك أن كثيرًا من أحاديث الفقه لم تصح عند ثقاة المحدِّثين، ووضعوا الكتب في بيان عللها، وسيأتي تتمة لذلك عند الكلام في التشريع.

ومنها تساهل الناس في أحاديث الترغيب والترهيب، واستساغة بعضهم الوضع فيها؛ لأنه يُقْصَدُ بها الحثُّ على الخير، والبعد عن الشر، كأحاديث كثيرة مما ورد في كتاب الإحياء.١٧
ومن هذا القبيل أحاديث القُصَّاص، والمحدِّثون يقولون:

«إنه لا تحلُّ رواية الحديث الموضوع في أي معنى كان إلا مقرونًا ببيان وضعه، بخلاف الحديث الضعيف فإنه تجوز روايته في غير الأحكام والعقائد».

وقديمًا أكثر القُصَّاص من الأحاديث التي ليس لها أصل، وكان ثقات المحدِّثين يتعرضون لتكذيبها فيتعرضون لسخط العامة والإيقاع بهم، فابن الجوزي في كتابه «القُصَّاص والمَذكِّرين» يذكر أن الشعبي في أيام عبد الملك نزل «تَدْمُر» فسمع شيخًا عظيم اللحية يقول إن الله خلق صُورَين في كل صُور نفختان نفخة الصَّعَق ونفخة القيامة. قال الشعبي: فرددت عليه وقلت: إن الله لم يخلق إلا صورًا واحدًا، وإنما هي نفختان. فقال لي: يا فاجر إنما يحدثني فلان عن فلان وتردُّ عليّ! ثم رفع نعله وضربني بها، وتتابع القوم عليَّ ضربًا، فما أقلعوا حتى قلت لهم إن الله خلق ثلاثين صورًا.

وقال ابن الجوزي في كتابه الموضوعات: «معظم البلاء في الحديث من الُقصَّاص؛ لأنهم يريدون أحاديث تُرقِّق وتَنُفق، والصحاح تقل في هذا».

وروى الخطيب البغدادي عن محمد بن يونس قال: كنت بالأهواز فسمعت شيخًا يقصُّ لمَّا زَوَّج النبي عليا فاطمة أمر شجرة طوبى أن تنثر اللؤلؤ الرطب يتهاداه أهل الجنة بينهم في الأطباق. فقلت له: يا شيخ هذا كذب على رسول الله. فقال لي ويحك اسكت حدثنيه الناس. قلت: مَنْ حدثك؟ فروى لنا إسنادًا عن ابن عباس.

ورُوِي عن الليث بن سعد أنه قال: قَدِمَ علينا شيخ بالإسكندرية يروي لنافع، ونافع يومئذ حي، فكتبنا عنه قُنْدَاقَين١٨ عن نافع، فلمَّا خرج الشيخ أرسْلنا بالقنداقين إلى فما عَرَفَ منهما حديثًا واحدًا.
وقد كره قوم من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم، كعمر بن الخطاب وعبد الله ابن عمر ومالك بن أنس هذا الضرب من القصص، وعلله ابن الجوزي بعلل منها: «أن القصص لأخبار المتقدمين يندر صحته خصوصًا ما يُنْقَلُ عن بني إسرائيل، ومنها: أن أقوامًا ما قصُّوا فأدخلوا في قصصهم ما يفسد قلوب العوام، ومنها: أن القُصَّاص لا يتحرون الصواب، ولا يحترزون من الخطأ لقلة علمهم وتقواهم».١٩
كل هذا وأمثاله يدلنا على ما لاقى مثل البخاري، ومسلم من عناء في تنقية الأحاديث ونقدها وتمييز الجيد والزائف منها، ومن الغريب أننا لو اتخذنا رسميا ًبيانيًا للحديث لكان شكل هرم طرفه المدبب في عهد الرسول ثم يأخذ في السعة على مرَّ الزمان حتى نصل إلى القاعدة أبعد ما نكون من عهد الرسول، مع أن المعقول كان العكس، فصحابة رسول الله أعرف الناس بحديثه، ثم يقلُّ الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا. ولكنا نرى أن أحاديث العهد الأموي أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين، وأحاديث العصر العباسي أكثر من أحاديث العهد الأموي. قد يكون من ضمن الأسباب الصحيحة أن الهجرة لطلب الحديث في العصر العباسي وجمعه من مختلف الأمصار كانت أتم وأنشط، ولكن ليس هذا كل السبب بل من أكبر الأسباب في تضخيم الحديثِ الوضعُ، فاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أهل الديانات الأخرى، أدخلوا في الأحاديث أشياء كثيرة من دياناتهم وأخبارهم، فمُلِئتَ الأحاديث بما في التوراة وحواشيها، وببعض أخبار النصرانية، كما رأيت عند الكلام في الثقافة اليهودية والنصرانية، وببعض تعاليم الشعوبية كالأحاديث التي تدل على فضل الفرس والروم.٢٠

وفي الحق أن ثقات المحدِّثين بذلوا من الجهد في التمحيص ما لا يوصف، ونحوا في ذلك مناحي مختلفة، فاجتهدوا في وضع رواة الحديث من التابعين ومن بعدهم في موازين دقيقة بقدر الإمكان، وشَّرحوا كل راوٍ وعرَّفوا تاريخه وسيرته، ووضعوا في ذلك قواعد «للجرح والتعديل». وقد اشتهر في هذا الباب يحيى بن سعيد الَقطَّان المتوفى سنة ١٨٩، وقد وثق الناس بهما وقبلوا حكمهما غالبًا، فمَنْ عَدَّلاه عُدِّل ومَنْ جرَّحاه جُرِّح، وجاء بعدهما يحيى بن مَعين المتوفى سنة ٢٣٣، وأحمد بن حنبل، (سنة ٢٤١)، ومحمد بن سعد في طبقاته سنة (٢٣٠) فأكثروا كذلك من نقد الرجال وبيان صحيحهم وعليلهم — وسار مَنْ بعدهم على آثارهم — وألَّف البخاري في هذا الباب ثلاثة كتب سُمِّي كل منها «تاريخ البخاري»: كبير، وهو مرتَّب على حروف المعجم، غير أنه صدَّره بمَنْ اسمه محمد، ثم عاد إلى ترتيب حروف الهجاء؛ وأوسط، وقد رَّتَبه على السنين؛ وصغير. ومن المؤلفين مَنْ أفردوا للثقات كتبًا خاصة وللضعفاء كتبًا، وللمدلسين كتبًا، كما وضعوا في هذا العصر أيضًا قواعد للحديث: أيُّ الأحاديث أعلى رتبة؟ وأيُّها أحط؟ وأيُّها في الوسط؟ وميَّزوا أنواعها، ووضعوا لكل نوع اسمًا، وسُمِّي ذلك «مصطلح الحديث»، كما عُنُوا بالحديث من حيث تفسير غريبه، وألَّفوا في ذلك «غريب الحديث»، واتجه قوم إلى بحث الأحاديث المتعارضة والتوفيق بينها، وسمُّوا ذلك «مختلف الحديث» وهكذا.

فكما أنهم بذلوا الجهد في الجمع، بذلوا الجهد في النقد؛ والنقد عادة نوعان: نوع يُسْتَنَدُ فيه على الرواية وصحتها، والرجال ومقدار الثقة بهم، ونوع يُعْتَمَدُ فيه على الحديث نفسه: هل معناه مما يصح أو لا يصح؟ وهل الظروف الاجتماعية التي قيل فيها الحديث تؤيد أنه صحيح أو موضوع؟ وهل هناك احتمال الوضع لأسباب سياسية أو مذهبية أو شخصية؟ وهل الحديث يتفق وقواعد الإسلام أو لا يتفق؟ والفرنج يُسمُّون النوع الأول نقدًا خارجيًا؛ لأنه خارج عن النص نفسه وحوله، ويُسمُّون النوع الثاني نقدًا داخليًا؛ أي أن منشأه النص نفسه.

وفي الحق إن المحدِّثين عُنُوا عناية بالنقد الخارجي، ولم يعنوا هذه العناية بالنقد الداخلي، فقد بلغوا الغاية في نقد الحديث من ناحية رواته جرحًا وتعديلًا، فنقدوا رواة الحديث في أنهم ثقات أو غير ثقات، وبينوا مقدار درجتهم في الثقة، وبحثوا: هل تلاقى الراوي والمروي عنه أو لم يتلاقيا؟ وقسَّموا الحديث باعتبار ذلك ونحوه إلى حديث صحيح وحسن وضعيف، وإلى مرسل ومنقطع، وإلى شاذ وغريب وغير ذلك.

ولكنهم لم يتوسعوا كثيرًا في النقد الداخلي، فلم يعرضوا لمتن الحديث هل ينطبق على الواقع أولًا؟ مثال ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: «الكَمْأة من المَنّ، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم». فهل اتجهوا في نقد الحديث إلى امتحان الكمأة؟ وهل فيها مادة تشفي العين؟ أو العجوة، وهل فيها ترياق؟ نعم إنهم رووا أن أبا هريرة قال: «أخذت ثلاث أكمؤ أو خمسًا أو سبعًا فعصرتهن في قارورة وكحلت به جارية لي عمشاء فبرأت». ولكن هذا لا يكفي لصحة الحكم، فتجربة جزئية نَفَعَ فيها شيء مرة لا تكفي منطقيًا لإثبات الشيء في ثبت الأدوية، إنما الطريقة أن تجرب مرارًا، وخير من ذلك أن تُحلِّل لُتْعْرَفَ عناصرها، فإذا لم يكن التحليل في ذلك العصر ممكنًا فلتكن التجربة مع الاستقراء؛ فكان مثل هذا طريقًا لمعرفة صحة الحديث أو وضعه. كذلك لم يتعرضوا كثيرًا لبحث الأسباب السياسية التي قد تحمل على الوضع، فلم أرهم شكُّوا كثيرًا في أحاديث لأنها تدعم الدولة الأموية أو العباسية أو العلوية، ولا درسوا دراسة وافية البيئة الاجتماعية في عهد النبي والخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، وما طرأ عليها من خلاف، ليعرفوا هل الحديث يتمشَّى مع البيئة التي حُكِي أنه قيل فيها أولا؟ ولم يدرسوا كثيرًا بيئة الراوي الشخصية، وما قد يحمله منها على الوضع، وهكذا.

نعم رُوِيت أشياء من هذا القبيل: فابن خلدون — مثلًا — يقول أسباب قلة رواية أبي حنيفة للحديث: «إنه ضَعَّفَ رواية الحديث اليقيني إذا عارضَها الفعل النفسي»،٢١ وهي عبارة وإن كانت موجزة وغامضة بعض الغموض، إلا أنها تدلنا على هذا الاتجاه، وهو عدم الاكتفاء بالرواة، بل عرضها على الطبائع النفسية والبيئة الاجتماعية.
ومن هذا القبيل ما يروى عن ابن عمر أن رسول الله قال: «مّنْ اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية انتِقص من أجره في كل يوم قيرطان». قالوا كان أبو هريرة يروي الحديث هكذا: «إلا كلب صيد أو ماشية أو كلب زرع»، فيزيدُ كلب الزرع، «فقيل لابن عمر إن أبا هريرة يقول: «أو كلب زرع»، فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعًا».٢٢ وهو نقد من ابن عمر لطيف في الباعث النفسي. وهناك أشياء منثورة من هذا القبيل، ولكنها لم تبلغ من الكثرة والعناية مبلغ النقد الخارجي. ولو اتجهوا هذا الاتجاه كثيرًا وأوغلوا فيه إيغالهم في النوع الأول لانكشفت أحاديث كثيرة وتبيَّن وضعها، مثل كثير من أحاديث الفضائل، وهي أحاديث رُوِيت في مدح الأشخاص والقبائل والأمم والأماكن، تسابَقَ المنتسبون لها إلى الوضع فيها، وشغلت حيزًا كبيرًا من كتب الحديث؛ ومن خير ما قيل في ذلك قول ابن خلدون: «وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل الْمَغَالِطُ في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًا أو سمينًا؛ لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار؛ فضلُّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط».٢٣
وربما كان الذين اتجهوا هذا الاتجاه، وهو إخضاع الحديث لحكم العقل وطبائع الكائنات هم المتكلمون، فإنا نرى أمثلة كثيرة من ذلك في كتاب الحيوان للجاحظ، فبعد أن يذكر أحاديث كثيرة في الوزغ يقول: «وهذه الأحاديث كلها يحتجُ بها أصحاب الجهالات، ومَنْ زعم أن الأشياء كانت كلها ناطقة، وأنها أمم مجراها مجرى الناس».٢٤
ويروي حديث: «مَنْ اقتنى كلبًا ليس بكلب زرع ولا ضرع ولا صيد٢٥ فهو آثم»، ثم يناقشه مناقشة طويلة، ويستعمل عقله فيروي أن كلب الضرع إنما أُبِيحَ لحراسة الماشية، وهناك أشياء أخرى من الأموال وغير الأموال محتاجة إلى حراسة الكلب، فإذا أجيز في الضرع يجب أن يجاز في غيرها مما يحتاج إلى حراسة، ويختم هذه المناقشة بقوله: «وبعد، فلعل النبي قال هذا القول على الحكاية لأقاويل قوم، أو لعل ذلك كان على معنى كان يومئذ معلولًا،٢٦ فترك الناس العلة ورووا٢٧ الخبر سالمًا من العلل مجردًا غير مميز، أو لعل مَنْ سمع هذا الحديث شهد آخر الكلام ولم يشهد أوله، أو لعله قصد بهذا الكلام إلى ناس من أصحابه قد كان دار بينهم وبينه فيه شيء، وكل ذلك ممكن سائغ غير مستنكر ولا مدفوع».٢٨

فترى من هذا كيف عرض الحديث على العقل واستعمل فيه العلل الكلامية وغلا في نقد الحديث.

•••

وقد كان بعض الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم يرون جواز رواية الحديث بالمعنى، لا يتقيدون فيه بألفاظ الرسول ، وفي طبقات ابن سعد أخبار كثيرة من هذا القبيل؛ كما فيه أخبار عن أشخاص تقيدوا برواية اللفظ، فجاءت أحاديث كثيرة مختلفة الألفاظ، فرُوِي الحديث: «زوجتكها بما معك من القرآن» و«ملكتكها بما معك من القرآن» و«خذها بما معك من القرآن» وما ذاك إلا لأن رواة الحديث الأولين حافظوا على المعنى، وعبَّروا بما يدل عليه من عندهم.

ومن أجل هذا لم ير النحاة الأولون الاستشهاد على قواعد النحو بالحديث. قال ابن الصبائغ: «تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب، ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي لأنه أفصح العرب».

وقال عبد القادر البغدادي: «إن الرواة جوَّزوا النقل بالمعنى فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه لم تُقلْ بتلك الألفاظ جميعها … بل لا يُجْزَم بأنه قال بعضها؛ إذ يحتمل أنه قال لفظًا مرادفًا لهذه الألفاظ فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأتِ بلفظه إذ المعنى هو المطلوب، ولا سيما تقادم السماع وعدم ضبطها بالكتابة والاتكال على الحفظ، والضابط منهم مَنْ ضبط المعنى، وأمَّا مَنْ ضبط اللفظ فبعيد جدا لا سيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: «إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني؛ إنما هو المعني»، ومَنْ نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم يروون بالمعنى … وقد وقع اللحن كثيرًا فيما رُوِي من الحديث؛ لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ويتعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون، ودخل في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، ونعلم قطعًا من غير شك أن رسول الله كان أفصح، فلم يكن يتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب».٢٩

•••

وكانت هناك خصومة بين المحدِّثين والفقهاء من أصحاب الرأي، والذي أثار هذه الخصومة هم المحِّدثون، وشنَّعوا على أصحاب الرأي؛ لأنهم يستنبطون الأحكام بناءً على رأي أو قياس، ولأنهم يُقِلّون من رواية الحديث، وكان مظهر هذه الخصومة على أتمها بين الحجازيين والعراقيين في عهد مالك وأبي حنيفة، فأهل الحجاز — غالبًا — أهل حديث، وأهل العراق — غالبًا — أهل رأي، واستمر ذلك في العصور التي بعدهما، حتى نرى المحدِّثين لا يروون كثيرًا للحنفية.

ولكن كانت هناك خصومة أشد وأعنف بين المحدِّثين والمتكلمين، وسبب ذلك أن منحى المتكلمين منحى عقلي، ومنحى المحدِّثين منحىً نقلي، وشتان بين المنهجين؛ وكان أشدهم في ذلك المعتزلة. ويقول ابن قتيبة في صدر كتابه «تأويل مختلف الحديث»: «أمَّا بعد: فإنك كتبتَ إليَّ تعْلمِني ما وقفت عليه من ثَلْبِ أهلِ الكلام أهلَ الحديث وامتهانهم، وإسهابهم في الكتب بذمهم، ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض، حتى وقع الاختلاف وكثرت النِّحَل، وتقطعت العصم وتعادى المسلمون، وأكفر بعضهم بعضًا، وتعلَّق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث؛ ثم عدَّ الفِرَق من خوارج ومرجئة وقدرية وجبرية ورافضة وغيرهم، وقال: إن كل طائفة من هذه الطوائف المختلفة في المبادئ تروي الأحاديث المختلفة كذلك، يؤيدها بها كل فريق مدعاه، وغير ذلك يجد مُفَضلِّ الغني حديثًا في تفضيل الغنى، ومُفَضلَّ الفقر حديثًا في تفضيل الفقر، ويجد كل من الحجازيين والعراقيين أحاديث لتأييد مذاهبهم الفقهية مع اختلافها، وروايتهم أحاديث سخيفة تزيد في شكوك المرتابين، كمْنَ قرأ سورة كذا أُسْكِِن من الجنة سبعين ألف قصر، وكحديث الفأرة أنها يهودية؛ أنها لا تشرب ألبان الإبل كما أن اليهود لا تشربها، وحديث السِّنَّوْر أنها عطسة الأسد … إلخ. واعترضوا باحتجاج المحدِّثين «بأحاديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة، وقد أكذبه عمر وعثمان وعائشة». ورموهم بأنهم «أجهل الناس بما يحملون، وأبخس الناس حظًا فيما يطلبون»، «رضوا أن يقولوا فلان عارف بالطريق، وراوية للحديث، وزهدوا في أن يقال عالم بما كتب، أو عامل بما علم»، وشنَّعوا على بعض المحِّدثين في وقائع حدثت منهم. إلخ.

هذه خلاصة ما حكاه ابن قتيبة في مطاعن المتكلمين على المحِّدثين، وقد ألَّف كتابه هذا في الرد على مطاعنهم، فكان من ردِّه على رمي المحِّدثين بالاختلاف أن المتكلمين أنفسهم أشد اختلافًا فيما بينهم، وقد كان يجب ألا يختلفوا، فمعولِّهم القياس والعقل لا النقل، وقوانين المنطق واحدة، فما بالهم أكثر الناس اختلافًا لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين؟ فأبو الهَذيل العَلاِّف يخالف النَّظّام، والنجَّارُ يخالفهما، وهشام بن الحكم يخالفهم؛ ولو اختلفوا في الفروع لكان لهم العذر، ولكنهم يختلفون في الأصول، فهم يختلفون في التوحيد، وفي صفات الله وقدرته. ثم أخذ يتناول كل رئيس من رؤساء المتكلمين بالطعن، ويذكر معايبه، فيذكر النَّظّام ويذكر تعرضه للصحابة ونقدهم، ووضعهم موضع غيرهم من الرجال، ويذكر أبا الهذيل العلاَّف ويرد على قوله في الاستطاعة إلخ؛ ثم تعرِّض لأصحاب الرأي من الفقهاء، فردَّ عليهم كذلك وتعرَّض لرئيسهم أبي حنيفة وناقشه في بعض آرائه، وسبَّ الجاحظ ورماه بأنه «كان يستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم، كذكره كبد الحوت وقرْن الشيطان، وذكر الحجر الأسود، وأنه كان أبيض فسوَّده المشركون، وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا إلخ». ثم قال: «فأمَّا أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من وجهته، وتتبعوه من مَظاّنه، وتقربوا من الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله وطلبهم لآثاره وأخباره … ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، وعرفوا مَنْ خالفها من الفقهاء إلى الرأي، فنبهوا على ذلك حتى نجم الحق بعد أن عافيًا، وبسق بعد أن كان دارسًا، وإنقاد للسنن مْنَ كان عنها معرضًا، وتنبَّه لها مَنْ كان عنها غافلًا، وحُكِمَ بقول رسول الله بعد أن كان يحكم بقول فلان وفلان»، ودافع عن جمع المحدِّثين للحديث كائنًا ما كان، بأنهم إمَّا يجمعون الأحاديث ما اتفقت لهم ليبينوا صحيحها من ضعيفها، ثم ذكر الأحاديث التي ظاهرها التناقض وتأوَّل لها.

هذه صور صغيرة للنزاع الحادِّ الذي كان بين المتكلمين والمحدِّثين، وقد كانت الغلبة للمتكلمين في عصر المأمون والمعتصم والواثق، وكانت محنة خلق القرآن أكبر مظهر من مظاهر العداء بين المحدِّثين والمتكلمين، فالمحِّدثون أصرُّوا على الامتناع بأن القرآن غير مخلوق، وكادوا يجمعون على ذلك، ومَنْ قال منهم بالخلق كالبخاري ومسلم فقد قيَّده بألفاظنا التي ننطق بها، وبعكس ذلك يكاد المعتزلة يُجمعون على القول بخلق القرآن، فالنزاع في ذلك كان بين المتكلمين والمحدِّثين في أغلب الأحيان، وظل المعتزلة منتصرين لأن السلطة بجانبهم، حتى أتى المتوكل فأزال سلطتهم، ومن ذلك الحين عادت إلى المحدِّثين سطوتهم وعلى رأسهم الحنابلة. قال في زهر الآداب: «كان المتوكل أول مَنْ أظهر من خلفاء بني العباس الانهماك على شهوته، وكان أصحابه يسخُفون ويستخفون بحضرته، وكان يهاتر الجلساء ويفاخر الرؤساء؛ وهو مع ذلك من قلوب الناس محبَّب، وإليهم مقرَّب؛ إذ أمات ما أحياه الواثق من إظهار الاعتزال، وإقامة سوق الجدال».٣٠

التفسير

ذكرنا التفسير عقب الحديث؛ لأن التفسير في أول أمره إلى عصرنا الذي نؤرخه قد اتخذ شكل الحديث بل كان جزءًا منه، وبابًا من أبوابه، وقد كان الحديث هو المادة الواسعة التي تشمل جميع المعارف الدينية تقريبًا؛ فهو يشمل التفسير، ويشمل التشريع، ويشمل التاريخ، وكانت كلها ممتزجة بعضها ببعض تمام الامتزاج؛ فراوي الحديث يروي حديثًا فيه تفسير لآية من القرآن، وحديثًا فيه حكم فقهي، و حديثًا فيه غزوة من غزوات النبي وحديثًا فيه شرح حالة اجتماعية زمن النبي أو الصحابة أو التابعين — ثم أخذ المؤلفون في آخر العصر الأموي، وأول العصر العباسي يجمعون الأحاديث المتشابهة المتعلِّقة بموضوع واحد ويفضلونها عن غيرها، ويرتِّبون أبوابها كما فعل مالك في الموطأ؛ فقد جمع أحاديث الأحكام ورتَّبها، وكما فعل محمد بن إسحاق فقد جرَّد الأحاديث المتعلقة بالسيرة، وزاد عليها غيرها من أشعار قيلت وأخبار رُوِيت، وكوَّن من ذلك كله السيرة النبوة وهكذا — فمنزلة الحديث بالنسبة للعلوم الدينية كمنزلة الفلسفة للعلوم العقلية، كانت الفلسفة شاملة لكل فروع البحث العقلي، ثم أخذ ينفصل عنها علم النفس وعلم الطبيعة وعلم الاجتماع، ونحو ذلك.

فاستقلت العلوم عن الحديث، ولكن ظل الحديث عن المحدِّثين — كما هو — شاملًا لجميع الفروع، ومنها التفسير؛ فنجد في البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث أبوابًا في التفسير.

إذن نشأ التفسير فرعًا من فروع الحديث يُروْىَ فيه عن النبي ما يتعلق بالقرآن من ذكر فضائله وتفسير بعض آياته. مثال ذلك ما رَوَى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزِنُ عند الله تعالى جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم: فَلاَ نُقِيُم لَهُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ومثل ما روى الزبير في قوله تعالى:ثُمَّ لتَسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عنِ النَّعِيمِ، قال الزبير: قلت يا رسول الله، وأيّ نعيم نُسأل عنه؟ وإنما هو الأسودان التمر والماء. قال أمَّا إنه سيكون.

وما روي عن رسول الله في ذلك قليل، حتى روي عن عائشة أنها قالت: «لم يكن النبي يفسر شيئًا من القرآن إلا آيات تُعَدّ، علمهن إياه جبريل»٣١ فلمَّا جاء الصحابة فسروا آيات من القرآن، وخاصة علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، إمَّا اجتهادًا منهم أو سماعًا من رسول الله، وشرحوا في كثير من الأحيان أسباب نزول الآية وفي مَنْ نزلت. مثال ذلك ما رُوِي عن ابن عباس في قوله تعالى:لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قال إلى مكة، وعن أبي هريرة في قوله تعالى:إِنَّك َ لا تُهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ قال نزلت في رسول الله حيث يراود عمه أبا طالب على الإسلام.

فجاء التابعون فرووا كل ما ذكره الصحابة من هذا القبيل — وكان من التابعين أنفسهم مَنْ فسر بعض آيات القرآن، أو ذكر سببًا لنزولها، إمَّا اجتهادًا منه أو سماعًا، فجاءت الطبقة التي تليهم وروت عنهم ما قالوا. مثال ذلك: ما رُوِي عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: ألمَنْ قتَلَ مؤمنًا مُتَعمِّدا من توبة؟ قال: لا، فتلوت عليه الآية التي في الفرقان، فقال هذه آية مكية نسختها آية مدينة:وَمَن يَقُتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا.

وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة، وتروي الطبقة التالية ما كان من الطبقات قبلها، وتزيد عليه ما عرض لها، وفي كل طبقة يتصل أفرادها بكثير من مسلمة اليهود والنصارى والمجوس، فاتصل بعض الصحابة بوهب بن مُنَبِّه، وكعب الأحبار، وعبد الله بن سلام، واتصل التابعون بابن جريج، وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإنجيل وشروحها وحواشيها، فلم يرَ المسلمون بأسًا من أن يَقُصُّوها بجانب آيات القرآن، فكانت منبعًا من منابع التضخم، كما أسلفنا الكلام على ذلك في «فجر الإسلام».

لكن هذه التفسيرات جميعها، لم تتخذ في أول أمرها شكلًا منظمًا بأن تذكر آيات القرآن مرتبة كترتيب المصحف ثم تتبع بتفسيرها، بل كانت هذه الأحاديث تروى منثورة تفسيرًا لآيات متفرقة، كما هو الشأن في الحديث، فحديث صلاة بجانبه حديث ميراث، بجانبه حديث زواج، بجانبه حديث تفسير آية وهكذا، ولا يُعتَرض علينا بكتاب تفسير ابن عباس، فإنه لم يصح عند الثقات نسبته إليه.

وجاءت الخطوة الثانية، وهي تجريد ما ورد في الحديث المرفوع والموقوف من التفسير، وقد عُنِي بذلك قوم من التابعين، اختص كل جماعة بجمع تفسيرِ عالمِ مصرهم فعُنِي المكيون برواية ما ورد من التفسير عن ابن عباس المكي، كمجاهد وعِكرِمة وسعيد بن جبير؛ وعُنِي التابعون من الكوفيين برواية ما ورد عن ابن مسعود الكوفي، كعَلْقَمة بن قيس، والأسوَد بن يزيد، وإبراهيم الّنخعي، والشّعْبي وهكذا.

ثم جاءت طبقة جمعت كل أقوال الصحابة والتابعين في الأمصار المختلفة، وشأنهم في ذلك شأن المحدِّثين، فقد بدأ أولًا أهل كل مصر يجمعون حديث مصرهم، ثم وُجِدتَ طبقة رحلت إلى الأمصار المختلفة تجمع أحاديثها، فكذلك في التفسير وهو فرع من الحديث، وُجدت طبقة تجمع بجانب الحديث ما رُوِي في الأمصار من تفسير، ومن هؤلاء سفيان بن عيينة (مات سنة ١٩٨)، ووَكيع بن الجرَّاح (سنة ١٩٦)، وشُعبْة بن الحجاج (سنة ١٦٠)، وإسحاق بن راهويه (سنة ٢٣٨) وهؤلاء جميعًا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعًا لباب من أبوابه.

وكانت الخطوة الثالثة انفصال التفسير من الحديث، وعدَّه علمًا قائمًا بنفسه، وَوَضْع التفسير لكل آية من القرآن أو جزء من أية مرتبة حسب ترتيب المصحف، كما فعل ابن جرير الطبري في تفسيره.

ويذكر ابن النديم «أن عمر بن بكير كتب إلى الفرَّاء أن الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن، فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيتَ أن تجمع لي أصولًا أو تجعل في ذلك كتابًا أرجعُ إليه فعلتَ. فقال الفرَّاء لأصحابه اجتمعوا حتى أُمِلَّ عليكم كتابًا في القرآن، وجعل لهم يومًا، فلمَّا حضروا خرج إليهم، وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفرَّاء فقال له: اقرأ بفاتحة الكتاب نفسرها ثم نوفي الكتاب كله، فقرأ الرجل وفسَّر الفرَّاء. فقال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أن أحدًا يزيد عليه».

فهل نستطيع أن نفهم من هذا النصِّ أن الفرَّاء (المتوفى سنة ٢٠٧) أول مَنْ تعرض لآية آية حسب ترتيب المصحف وفسَّرها على التتابع، وكان مَنْ قبله يقتصرون على تفسير المُشْكِل، وأن التفاسير السابقة عليه، كالذي رُوِي عن ابن عباس وكتفسير السُّدِّي وغيره كانت من هذا القبيل؟ هذا هو الذي أميل إليه، وإن كانت عبارة ابن النديم ليست قاطعة في هذا.

ولست أعني بهذا الترتيب أن كل خطوة كانت تمحو ما قبلها وتلغي العمل بها، بل أعني بذلك تُّدرج خطوات التفسير وإسلام بعضها إلى بعض، وأنه حتى بعد ظهور الدرجة الثالثة ظل المحدِّثون يسيرون على الخطة الثانية من رواية المنقول في التفسير في باب خاص من أبواب الحديث، مقتصرين فيه على ما ورد عن رسول الله والصحابة والتابعين في تفسير بعض الآيات.

•••

وكما كان في الحديث صحيح وحسن وضعيف، وكان في الرواة موثوق به ومشكوك فيه ووَضّاع، كان كذلك فيما رُوِي من تفسير وفي مَنْ روى من المفسرين، فقد رُوِي عن الإمام أحمد بن حنبل: «ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم والمغازي».٣٢ وظاهر هذه الجملة أن الأحاديث التي وردت في التفسير لا أصل لها وليست بصحيحة، والظاهر — كما قال بعضهم — أنه يريد الأحاديث المرفوعة إلى النبي في التفسير، أمَّا الأحاديث المنقولة عن الصحابة والتابعين فلا وجه لإنكارها، وقد اعترف هو نفسه ببعضها؛ وأكثر ما كان الوضع في التفسير كان فيما أسند إلى ابن عباس وعلي بن أبي طالب، وكان ذلك لأسباب شرحناها في «فجر الإسلام».

فابن عباس قد رُوِيتَ عنه روايات كثيرة في التفسير، وجَدَّ في بحث طرقها وتعديل الرواة عنه وتجريحهم، وقالوا إن أعدل الرواة عنه علي بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة ١٤٣. قال ابن حجر: وهذه النسخة (يعني ما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس) كانت عند أبي صالح كاتب الليث (ابن سعد في مصر)، رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس … وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه كثيرًا فيما يعلقه عن ابن عباس. وقال أحمد حنبل: «بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرا»؛ وعلي بن أبي طلحة هذا لم يسمع هذه الصحيفة من ابن عباس، ولكنه كان ثقة فيما يرويه. وبجانب هذه الرواية عن ابن عباس روايات أخرى كثيرة موضوعة مكذوبة، فقد ذكروا أن لمحمد بن إسحاق المؤرخ المشهور المتصل بالعباسيين رواية عن ابن عباس هي أوهى الطرق، وكذلك رواية الكلبي ومقاتل بن سليمان.

وكذلك رُوِي عن علي بن أبي طالب الشيء الكثير مما نقده رجال الحديث.

•••

وقد اشتهر جملة من التفاسير قبل تفسير ابن جرير، منها هذه التفاسير التي ذكرنا أنها رويت عن ابن عباس، بعضها صحيح وبعضها غير صحيح، ومنها تفسير ابن جُريج، وقد كان شأنه شأن المحدِّثين الأولين يجمعون ما وصل إليهم من صحيح وغير صحيح. وقد ذكروا: «أن ابن جريج لم يقصد الصحة وإنما روى ما ذُكِرَ في كل آية من الصحيح والسقيم»،٣٣ ومنها تفسير السُّدِّي (المتوفى سنة ١٢٧)، وقد أورد فيه ما نُسِبَ إلى ابن مسعود وابن عباس وأناس من الصحابة، والسُدِّي نفسه كان مختلفًا في الثقة به، والذي يروي تفسيره أسباط بن نصر، وقد اختلفوا فيه أيضًا؛ ولذلك أبى أن يروي عنهما كثير من ثقات المحدِّثين.٣٤ ومنها تفسير مقاتل ابن سليمان (مات سنة ١٥٠). «وقد كان يأخذ عن اليهود علم الكتاب»، واتهمه أبو حنيفة بأنه مُشَبِّه كذَّاب؛ وقال ابن المبارك فيه: «ما أحسن تفسيره لو كان ثقة». ومنها تفسير محمد بن إسحق ذكر فيه أقوالًا لوهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهما من الرواة عن اليهودية والنصرانية، وهذا التفاسير لم تصل إلينا، ولكن ابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ جاء فجمع أكثرها وأدخلها في كتابه.

ولابد أن ننبه هنا إلى أمر هام، وهو أنه مهما كثر الوضع في التفسير والحديث فإن الوضع ينصبُّ على الرواية نفسها، فقد يروون عن ابن عباس أو عليّ أو ابن مسعود شيئًا لم يقله، ولكن الشيء المروي نفسه لم يفقد قيمته العلمية، فإن الذي نُسِِبَ إلى ابن عباس ليس أمرًا خياليًا بعيدًا عن تفسير الآية مثلًا، وإنما هو رأي محترم نتيجة اجتهاد، والشيء الذي لا قيمة فيه هو نسبته إلى ابن عباس أو ابن مسعود، أمَّا القول في ذاته فمحل للتقدير من حيث هو رأي أو اجتهاد في تفسير الآية، بُنِي على تفكير كثيرًا ما يكون صحيحًا، بل وكذلك ما وضع حول الآية مما روي عن أهل الكتاب، قد تكون نسبته إلى أحد الصحابة غير صحيحة، ولكن له دلالته العلمية من حيث ما كان يتداوله أهل الكتاب في ذلك العصر من أخبار، ومن حيث مقدار اتصال المسلمين بأهل الكتاب، ومن حيث دلالته على ما كان يفعله مَنْ أسلم من يهود ونصارى من إدخال ما كان يشغل رءوسهم قبل إسلامهم — في الحديث والتفسير — فلم يكن الموضوع مجرد خيال أو وهم خُلِِقَ خلقًا، بل له أساسٌ ما، يهم العالم والباحث درسه، وله قيمته الذاتية، وإن لم تكن له قيمته الإسنادية.

•••

ونوع آخر من الترِّقي في التفسير، وهو أن ما نُقِلَ عن رسول الله والصحابة من تفسير لم يكن يشتمل على تفسير آيات القرآن جميعها، إنما ورد عنهم تفسير لبعض ما غَمُضَ؛ وهذا الغموض كان يزيد كلمَّا بعد الناس عن عصر النبي والصحابة؛ لأن العربية لم تعد سليقة لكثير من الناس وخاصة أهل الحضر، فاحتاج المشتغلون بالتفسير أن يكملوا هذا النقص بشرح ما لم يرد فيه شرح، فاجتهد التابعون في تكميل بعض هذا النقص، وجَّد مَنْ بعدهم في ذلك حتى أكملوا تفسير الآيات جميعها، معتمدين على ما عُرِفَ من لغة العرب وأساليبهم، وما ورد في التاريخ من الأحداث التي حدثت في عصر النبي ، وهكذا.

وقد وقف الناس في ذلك موقفين، كالموقف الذي وقفوه في التشريع من انقسام إلى أهل الحديث، وأهل الرأي، فقوم تشددوا في التفسير فلم يروا أن يجرءوا على تفسير شيء من القرآن ما لم يرد فيه قول للنبي أو للصحابة (رضى الله عنهم) كالذي، رُوِي عن عبيد الله بن عمر أنه قال: «لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع، وقال الشعبي: ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت، القرآن والروح والرأي»،٣٥ بل تحرَّج بعضهم أن يذكر شيئًا يتعلق بآية من القرآن. ومن أمثلة ذلك في عصرنا: «الأصمعي» فهو مع علمه الواسع باللغة «كان شديد الاحتراز في تفسير الكتاب والسنة، فإذا سُئِلَ عن شيء ما يقول: العرب تقول معنى هذا كذا، ولا أعلم المراد منه في الكتاب والسنة أي شيء هو»٣٦ وقال أبو الطيب: «كان الأصمعي شديد التأله، فكان لا يفسر شيئًا من القرآن، ولا شيئًا من اللغة له نظير واشتقاق في القرآن، وكذلك الحديث».٣٧ وأمثال هؤلاء حَمَلوا على المفسّرين بالرأي، كما حمل فقهاء الحديث على فقهاء الرأي ورووا حديثَ: «مَنْ تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».

وعلى العكس من ذلك قوم لم يروا بأسًا أن يفسروا القرآن حسب اجتهادهم. قال الماوردي: «قد حمل بعض المتورعين هذا الحديث على ظاهره، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، ولو صحبها الشواهد، ولم يعارض شواهدها نصٌ صريح، وهذا عدول عما تُعُبِّدنا بمعرفته من النظر في القرآن، واستنباط الأحكام، كما قال تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ، ولو صح ما ذهب إليه لم يُعلم شيء من استنباط، ولما فهم الأكثر من كتاب الله؛ وإن صح الحديث فتأويله: «إن مَنْ تكلم في القرآن بمجرد رأيه فقد أخطأ». وعلى هذا الرأي جرى كثير من المفسرين، فاجتهدوا وعرضوا آراءهم، وكل ما أوجبوه ألا يبدوا الرأي قبل أن يستكملوا أدواته من علم باللغة وأساليب العرب، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ وما إلى ذلك، فأقبلوا على القرآن يفسرونه، وكان أكثر مَنْ قام بهذا علماء العراق، موطن أصحاب مدرسة الرأي في التشريع؛ ومن هذا وُجِدَ القول بالتفرقة بين التفسير والتأويل، فقد عَنَوْا بالتفسير ما أُعْتُمِدَ فيه على النقل مما ورد عن الرسول والصدر الأول، وخاصة في الأمور التوقيفية التي ليس للعقل فيها كبير مجال، كتفسير الحروف المقطَّعة: الم وحم ويس، وكأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وعنوا بالتأويل ما يُعْتَمَدُ فيه على الاجتهاد، ويُتَوَصَّلُ إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب، واستعمالها بحسب السياق، ومعرفة الأساليب العربية، واستنباط المعاني من كل ذلك.

وقد انقسمت كتب التفاسير إلى هذين النوعين، تبعًا لهذا وتبعًا للمنهجين اللذين ذكرناهما في أول هذا الكتاب، فمن العلماء مَنْ غلب عليه منهج المحدِّثين فاقتصر على ذكر المنقول، ومنهم مَنْ غلب عليه منهج العقليين فشرح باجتهاده.

•••

ولمَّا دُوِّنت علوم اللغة والنحو والفقه، وأثيرت مسائل الكلام وبُحَِثت في العصر العباسي، أثَّرت في علم التفسير أثرًا كبيرًا، فالنحويون أخذوا القرآن الكريم مادة من موادهم لاشتقاق قواعدهم وتطبيقها، فأعربوا القرآن إعرابًا أعان على التفسير، واللغويون وضعوا الكتب في غريب القرآن، كما فعل أبو عبيدة، وكان لذلك دخل في إيضاح بعض الآيات، وقد عُنِي النحويون واللغويون بوضع كتب كثيرة تسمى «معاني القرآن»، فمعاني القرآن للكسائي وليونس ابن حبيب، ولُقطرب، وللفرَّاء، وللمفضل الضبي، ولخلف النحوي، ولأبي عبيدة، وقد نحوا في تآليفهم مناحي مختلفة، فمنهم مَنْ عنِي بمشكلات القرآن، وما يوهم الاختلاف فيه، والتعرُّض للآيات التي ظاهرها التعارض كما فعل قْطُرب، مثل قوله تعالى:فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يتَسَاءَلُونَ؛ ومنهم مَنْ عنِي ببيان مجازات القرآن، مثل قوله تعالى:حتَى تَضَعَ الحَْرْبُ أَوْزَارَهَا، وقوله تعالى فَلْيَدْعُ نَاديَِهُ، وقوله:فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إلخ؛ ومنهم مَنْ تعرَّض للمشكلات النحوية، مثل قوله تعالى: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، وقوله: وَالْمُقِِيِمِينَ الصَّلاَةَ والْمُؤْتُونَ الَّزكَاةَ، وقوله تعالى:إِنَّ الَّذِيِنَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ، إلى آخر ما سلكوا من مناحٍ مختلفة.

وعُنِي الفقهاء بآيات الأحكام يستنبطون منها، وألَّفوا في ذلك الكتب، فكتاب أحكام القرآن (على مذهب مالك)، وكتاب أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (على مذهب أهل العراق)، وكتاب أحكام القرآن للإمام الشافعي، وأحكام القرآن لداود بن علي الظاهري٣٨ إلخ.

كل هذا غذَّى التفسير بأنواع من الغذاء مختلفة؛ يضاف إلى ذلك ما فعله المؤرخون من جمع تواريخ الأمم، من يهود ونصارى وفرس وغيرهم، وإمداد تفسير الآيات التاريخية بما وصل إليه علمهم من التاريخ.

وجاء المتكلمون — وهم أظهر عنصر عقلي في هذه الحركة العلمية — وكانوا لا يميلون كثيرًا إلى المنقول، ولا يثقون بكل ما فيه ثِقَةُ المحدِّثين وغيرهم، وكانت لهم مذاهب مقررة في العدل والتوحيد وصفات الله وأفعال العباد ونحو ذلك، ثبتت لهم ببحثهم، فتعرَّضوا لتأويل القرآن بهذه العقلية وهذه العقيدة.

وكان من الطبيعي أن طريقتهم لا تُرضي الذين يعتمدون في التفسير على النقل، ولا ترضي أهل السنة، فكان نزاع بين الطريقتين، فهاجمهم ابن قتيبة في التفسير كما هاجمهم في الحديث، فقال: «وفسَّروا القرآن بأعجب تفسير يريدون أن يردّوه إلى مذاهبهم، ويحملوا التأويل على نِِحَلهم، فقال فريق منهم في قوله تعالى:وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ أي علمه، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف، وهو قول الشاعر: ولا يُكَرْسِئُ علم الله مخلوق — كأنه عندهم: ولا يعلم علم الله مخلوق — ويكرسئُ مهموز، يستوحشون أن يجعلوا لله تعالى كرسيًا، ويجعلون العرش شيئًا آخر، والعرب لا تعرف العرش إلا السرير وما عُرِِش من السقوف: والآبار … وقال فريق منهم في قوله تعالى:وَلَقدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا إنها همّتَ بالفاحشة، وهمَّ هو بالفرار منها أو الضرب لها، والله تعالى يقوللَوْلاَ أَن رَّأََى بُرْهَانَ رَبِّهِ، أفتراه أراد الفرار منها أو الضرب لها، فلمَّا رأى البرهان أقام عندها! … وقالوا في قوله تعالى: واتَّخََذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أي فقيرًا إلى رحمته، وجعلوه من الخَلة استيحاشًا من أن يكون الله تعالى خليلًا لأحد من خلقه، واحتجوا بقول زهير: «وإن أتاه خَلِيلٌ يَومَ مَسْغَبَةٍ»؛ فأي فضيلة في هذا لإبراهيم؟ أما تعلمون أن الناس كلهم فقراء إليه؟ وهل إبراهيم في خليل الله إلا كما قيل: «موسى كليم الله، وعيسى روح الله»؟. وهكذا استمر في الردِّ عليهم وعلى الشيعة في تفسير بعض آيات القرآن على مذهبهم.٣٩
وقابلهم المتكلمون بمثل هجومهم، فالجاحظ يميل في أغلب الأحيان إلى استعمال العقل في التفسير، كما صنع في قوله تعالى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فيقول: «ليس أن الناس رأوا شيطانًا قط على صورة، ولكن لمَّا كان الله قد جعل في طباع جميع الأمم استقباح جميع صور الشياطين واستسماجه وكراهته، وأجرى على ألسنة الناس جميعهم ضربَ المثل في ذلك، رجَع بالإيحاش والتنفير، وبالإخافة والتقريع، إلى ما قد جعله الله في طباع الأولين والآخرين وعند جميع الأمم … وهذا التأويل أشبه من قول مَنْ زعم من المفسرين أن رءوس الشياطين نبات ينبت باليمن»؛٤٠ ويذكر آية المسخ ويناقش هل يمكن أن تُقْلَب الناس قردة وخنازير؟ وعلى أي شكل كان؟ وهل المراد أن تكون خلقتهم أشبه شيء بالقردة والخنازير كما يُرَى في بعض الناس؟ ويعرض في ذلك لقول الدهريين وشيوخ المعتزلة وغيرهم؛٤١ ويذكر هدهد سليمان، ويذكر اعتراضات الخصوم على تهديد سليمان له بالذبح ويردها،٤٢ ويتكلم في الجن واستراق السمع ويطيل في ذلك٤٣ وعلى الجملة فنرى في كتاب الحيوان في مواضع متفرقة نوعًا آخر من التفسير، هو تفسير بالمعقول، نتبين منه حركة عنيفة كانت، وهي مهاجمة اليهود والنصارى والملحدين آيات في القرآن، والاعتراض عليها من ناحية العقل، ورد المعتزلة عليهم من نحو طريقهم، كما نرى فيه ردودًا واعتراضات وتشنيعات على بعض أقوال للمفسرين الذين اكتفوا في قولهم بالاعتماد على المنقول ولو خالف المعقول. وهذا النوع من التأويل هو الذي نما بعدُ فكان منه تفسير الكشَّاف للزمخشري، وتفسير الفخر الرازي ونحوهما.
وعلى كل فهذه النقول التي رُوِيتَ عن الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم، وهذه العلوم التي دُوِنت في العصر العباسي وابْتُكِرتَ، من نحو وصرف وبيان وفقه وحديث وتاريخ وكلام، كلها تعاونت على خدمة تفسير القرآن. ولعل أحسن مظهر لهذا كله — مما وصل إلينا — تفسير أبي جعفر الطبري؛ فقد جمع فيه كثيرًا من مجموعات التفاسير التي سبقته، وفاضل بين رواياتها واختار أمْثَلها؛ جمع فيه ما روته مدرسة ابن عباس ومدرسة عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وأُبَيّ بن كعب، واستفاد مما جمعه ابن جريج والسُّدِّي وابن إسحاق من التفاسير، ثم زاد على ذلك ما وصل إليه العلم في عصره من إعراب واستنباط؛ فنراه يجمع نقول الصحابة والتابعين في التفسير كما تقَدَّم، ونراه ينقل عن محمد بن إسحق حتى ما رواه عن مُسْلِمَة النصارى، فيقول: حدثني سَلَمة، عن محمد بن إسحق، عن أبي عتَّاب — رجل من تغْلب كان نصرانيًا عمرًا من دهره ثم أسلم بعد، فقرأ القرآن وفقِه الدين — وكان فيما ذكر أنه كان نصرانيا أربعين سنة، ثم عمَّر في الإسلام أربعين سنة؛ ثم يروي له خبرًا عن آخر بني إسرائيل،٤٤ وذلك في تفسير قوله تعالى:إِن أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسُِكم وإِن أَسَأْتُمْ َفَلهَا فإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيدْخُلُوا الْمَسْجِد كََمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّروُا مَا عَلَوْا تتَبِيرًا. وقد ملأ تفسير الآية بما ورد في الإسرائيليات من روايات عن أسباط عن السُّدِّي ِّوعن ابن جريج وغيرهما.

ويقول في موضع آخر: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سَلَمة قال: حدثنا محمد بن إسحق قال: حدثني مَنْ يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ممَنْ قد أسلم، ثم يسوق الحديث في ذلك عن ذي القرنين.

ويروي في الوضع نفسه عن محمد بن إسحق قال: حدثني مَنْ لا أتهم، عن وهب بن منبه اليماني، وكان له علم بأحاديث الأُوَل، ثم يروي عنه خبراَ عن ذي القرنين.٤٥
كذلك نجد في تفسير الطبري آثارًا كثيرة لمذاهب البصريين والكوفيين في النحو والصرف وتطبيقها على القرآن، فيقول: قال بعض نحويي الكوفة كذا، وقال بعض نحويي البصرة كذا، كما نجد آثارًا للأحكام الفقهية،٤٦ وآثارًا للمتكلمين من مناقشتهم في القَدَر وغيره — هذا إلى ما مُليء به الكتاب من معانٍ للألفاظ اللغوية والاستشهاد عليها بأشعار العرب — فهو على الجملة أكبر أثر يبين لنا آثار السلف الأُوَل الذين كانوا يقتصرون على النقل، وآثار علماء العصر العباسي بعد أن دوَّنوا العلوم وخدموا بها القرآن؛ وإن كان ينقصه شيء فهو أنه لم يتعرَّض كثيرًا لأقوال المتكلمين في عصره، وخاصة المعتزلة؛ لأن ثقافته كانت ثقافة دينية ولغوية وتاريخية، ولم ينغمر في تيار المتكلمين، وما جاء فيه من تعرُّض لمسائل القدر ونحوها، فقد أتاه على ما يظهر من طريق المحدِّثين، فقد تعرِّضوا للقدر وأبانوا مذهبهم، وردُّوا على الجهمية وأشباههم.
١  انظر — أولًا — ما كُتِب عنه في فجر الإسلام من ٢٤٩–٢٧٠.
٢  هذا النص في الموطأ رواية محمد بن الحسن لا في الموطأ.
٣  فجر الإسلام ص ٢٦٥.
٤  انظر طبقات الشافعية ٥/٣ والخطيب البغدادي ٢٤/٢.
٥  الخطيب البغدادي ٨/٢.
٦  المعلقات الأحاديث التي لم يذكر فيها السند من أوله كأن يقول البخاري عن ابن عمر عن النبي أنه قال إلخ، والموقوفات الأحاديث التي ينتهي سندها إلى الصحابة فلم يذكر فيها قول ولا فعل للنبي بل للصحابي، والمقطوعات ما انتهى السند فيها إلى مَنْ دون الصحابة كالتابعي، والمتابعات هي أن يروي الحديث من طرق أخرى؛ فمثلا إذا كان الحديث قد رواه، حماد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي فإذا أدعم هذا الحديث براوٍ آخر كأن يرويه راوٍ آخر عن أيوب غير حماد، أو عن ابن سيرين غير أيوب، أو عن أبي هريرة غير ابن سيرين، أو عن النبي غير أبي هريرة، يسمى كل هذا متابعة — ويتساهل المحدثِّون في المتابعات فيجيزون فيها رواية بعض الضعفاء؛ لأن المتابعة ليست إلا تدعي ما للحديث وتقوية له.
٧  انظر الجزء الأول من مقدمة فتح الباري.
٨  انظر هذه النقول وغيرها في هدي الساري لابن حجر جزء ١ ص ٥.
٩  المصدر نفسه.
١٠  قباء موضع قرب المدينة، والعوالي قرى بظاهر المدينة.
١١  الحديث المعنعن هو الذي ورد فيه فلان عن فلان من غير ذكر حدثني أو سمعت منه، وقد ناقش مسلم البخاري في هذا، وبيَّن وجه رأيه في العمل بهذا الحديث، وأطنب في الرد على مخالفيه.
١٢  الخطيب البغدادي ١٠٢/١٣.
١٣  يتحمى: يتجنب.
١٤  تاريخ الطبري ١٤١/٦.
١٥  الأوراق ص ١٤.
١٦  عُثِرَ على نسخة منه وهي محفوظة في المتحف البريطاني رقم ٩٤٤٩، وهو كتاب قيَّم من حيث دلالته على حال الحديث قبل البخاري ومسلم، وهو غير متأثر بالفقه تأثرهما، وقد كان نعيم يسكن مصر زمنًا وحُمِلَ في من حمِلَ إلى بغداد لامتناعه. عن القول بخلق القرآن، ومات في السجن سنة ٢٢٨.
١٧  انظر في ذلك أيضًا ما كُتِبَ في فجر الإسلام ص ٢٥٢ وما بعدها.
١٨  في اللسان القنداق: صحيفة الحساب.
١٩  أُلِّفت في ذلك الكتب الكثيرة، منها: الباعث على الخلاص من حوادث القُصَّاص للعراقي، ولابن الجوزي في ذلك تآليف كثيرة، ومنها: تحذير الخواص من أكاذيب القصاص للسيوطي، وقد طبع حديثًا ومنه نقلنا بعض هذه الأخبار.
٢٠  انظر في هذا أيضا جولدزيهير .Muhamm. Stud وكتاب guillaume ودائرة المعارف الإسلامية في مادة حديث.
٢١  مقدمة ابن خلدون ٣٧١.
٢٢  النووي على مسلم ٤٣/٤.
٢٣  المقدمة ص ٧.
٢٤  انظر كتاب الحيوان ٩٦/٤.
٢٥  في الأصل «قيض» ولا معنى له.
٢٦  في الأصل معلومًا.
٢٧  في الأصل ردوا.
٢٨  الحيوان ١٤٨/١.
٢٩  خزانة الأدب ٥/١ و٦.
٣٠  زهر الآداب على هامش العقد ٢٥٣/١.
٣١  تفسير الطبري ٢٩/١.
٣٢  الإتقان ٢١٠/٢.
٣٣  الإتقان ٢٢٤/٢.
٣٤  ابن حجر في تهذيب التهذيب.
٣٥  ابن جرير ٢٩/١.
٣٦  ابن خلكان ٤٠٩/١.
٣٧  المزهر ٢٠٤/٢.
٣٨  الفهرست ٣٨.
٣٩  انظر تأويل مختلف الحديث ص ٨٠ وما بعدها.
٤٠  الحيوان ١٣/٤.
٤١  الحيوان ٢٢/٤ وما بعدها.
٤٢  الحيوان ٢٩/٤.
٤٣  الحيوان ٨٣/٦ و١٦٩.
٤٤  ابن جرير ٣٣/١٥ و٣٤.
٤٥  ابن جرير ١٣/١٦.
٤٦  ابن جرير ٥٨/١٤ فيه مناقشة في تحريم لحم الفرس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤