الفصل الخامس

التشريع

تركنا التشريع في العصر الأموي، وأظهر مميزاته انقسامه إلى قسمين: أهل الرأي، وأهل الحديث؛ وقد تجلَّى ذلك أكبر جلاء في آخر العهد الأموي، وأول العهد العباسي، وزاد الخلف بين الطائفتين، وتميزتا على مرور الزمان، وأصبحت أعلام كل مدرسة من المدرستين جلية واضحة مغايرة لأعلام الأخرى في الشارة واللون، وما إلى ذلك، ويحمل أعلام مدرسة الحديث الحجازيون، وخاصة المدنيين، وعلى رأسهم مالك بن أنس وتلاميذه، ويحمل أعلام مدرسة الرأي العراقيون خاصة الكوفيين، وعلى رأسهم أبو حنيفة النعمان.

وفخر العراقيون بأنه قد نزل بين أظهرهم أعلامٌ من الصحابة، كعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقَّاص، وعمَّار بن ياسر، وأبي موسى الأشعري وغيرهم، وقال الحجازيون إن مَنْ تفرق من الصحابة في الأمصار أقل عددًا ممَنْ بقي في الحجاز، فإن النبي بعد رجوعه من حُنين ترك بالمدينة نحو اثني عشر ألف صحابي، مات بها نحو عشر آلاف، وتفرّق في سائر الأقطار نحو ألفين.

وفي الواقع إذا حصرنا نظرنا في الحديث، وجدنا الأولوية للحجازيين؛ فأكثر الصحابة كانوا بالمدينة، وهم أعرف الناس بحديث رسول الله ، وأخبر بقوله وعمله، وحتى مَنْ رحل منهم إلى العراق وسائر الأمصار فإنما كانوا عارية من الحجاز، وقد خلَّف هؤلاء — كعلي بن أبي طالب — وعبد الله بن مسعود — الحديث في المدينة كما خلَّفوه في العراق، ففضل الحجازيين في هذا لا ينكر؛ ولهذا إذا تجادل الحجازيون والعراقيون في هذا الباب كان الحجازيون أقوى وأقهر، بل عابوا على العراقيين أنهم يتزيدون في الحديث الصحيح، ويكثرون من الحديث الموضوع، قال مالك: «إذا جاوز الحديث الحَرّتَين ضعفت شجاعته»، وكان مالك يُسمِّي الكوفة «دار الضرب»، يعني أنها تصنع الأحاديث وتضعها، كما تخرج دار الضرب الدراهم والدنانير، وقال ابن شهاب: «يخرج الحديث من عندنا شبرًا فيعود في العراق ذراعًا».

وسبب ذلك أن حديث رسول الله بدأ وَخُتم في الحجاز، والمستمعون لرسول الله كثيرون، ومن العسير الكذب في حادثة شاهدها الكثير، أو في قول سمعه الجمُّ الغفير، وليس الشأن كذلك في العراق؛ فبعده عن الحجاز يجعل اصطناع القول ممكنًا — هذا إلى أن أخلاط المسلمين من الأمم المختلفة كانوا في العراق أكثر منهم في الحجاز، وفيهم مَنْ لم يصل الإيمان إلى أعماق نفسه، فلا يتحرج من اختلاق حديث أو رواية خبر غير صحيح، ما دام ذلك يعلي شأنه ويؤيد دعواه؛ وعامل آخر هو ظهور المذاهب المختلفة في العراق، من معتزلة ومرجئة وأصناف من المتكلمين، وليس يجاريهم في ذلك أهل الحجاز؛ لبساطة أهله في الحياة والعقيدة، وفي كل صنف من هؤلاء مَنْ رأى أن يؤيد حجته ورأيه بتأويل آيات القرآن واختلاق الحديث كما أسلفنا.

على أن الحجازيين وإن بزُّوا العراقيين في الحديث، فقد بزَّهم العراقيون في الرأي، وهو ما يُسَّمى «القياس»، وكان ذلك طبيعيًا أيضًا؛ لأن الأحداث تتبع في كثرتها وقلتها المدنية، فإذا كانت معيشة قوم ساذجة بسيطة، كما هو الشأن في الحجاز، كانت مسائلها الاقتصادية والجنائية وأحوال الأسرة ساذجة بسيطة، وإن تعقدت الحياة وعظمت المدنية كما هو الشأن في العراق، تعقدت الأحداث الاقتصادية والجنائية والاجتماعية وتنوعت، وكل هذه الأحداث تحتاج إلى تشريع، وأحاديث رسول الله التي كانت معروفة بالحجاز تكفي بنصها على وجه التقريب للإفتاء بما يقع في الحجاز من أحداث؛ للشبه الكبير بين عهد مالك وعهد النبي ، وليس كذلك الشأن في أحداث العراق، فهي كثيرة معقدة متنوعة. بالعراق دجلة والفرات وما يتطلب ذلك من ريٍّ وخراج ليس مثلهما في الحجاز، وفي العراق مال وفير يصب صبًا، والمال يتبعه الترف والنعيم، واللهو والإجرام، وخَلْق مشاكل تحتاج إلى فتاوى ليس مثلها في الحجاز، وبالعراق أخلاط من فرس وروم ونبط وغير ذلك لهم عادات اقتصادية واجتماعية ليس مثلها في الحجاز، فلئن كفى الحديث في الحجاز وحاجاتهم قليلة وحديثهم كثير، فليس يكفي في العراق وحاجتهم كثيرة وحديثهم قليل — لذلك اضطروا إلى إعمال الرأي فيما لم يرد فيه نصٌ، والتوسع في النصِّ بالوضع — ورأينا النزاع يشتد حول القياس وجوازه وعدم جوازه، وكانت معركة كبيرة نجمل أمرها فيما يلي: لعب القياس دورًا كبيرًا في العصر العباسي، وشغل حيزًا كبيرًا من العلوم؛ فالقياس في أصول الفقه، وفي الفقه، وفي اللغة، وفي النحو، وفي المنطق؛ والذي يهمنا الآن منه أثره في التشريع.

أصل القياس أن يُعْلَم حكمٌ في الشريعة لشيء فيقاس عليه أمر آخر لاتحاد العلِّة فيهما، ولكنهم توسعوا في معناه أحيانًا فأطلقوه على النظر والبحث عن الدليل في حكم مسألة عرضت لم يرد فيها نصٌّ، وأحيانًا يطلقونه على الاجتهاد فيما لا نصَّ فيه، وبعبارة أخرى جعلوه مرادفًا للرأي، ويعنون بالرأي وبالقياس بهذا المعنى أن الفقيه من طول ممارسته للأحكام الشرعية تنطبع في نفسه وجهة الشريعة في النظر إلى الأشياء؛ وتمرن ملكاته على تعرُّف العلل والأسباب، فيستطيع إذا عرض عليه أمر لم يرد فيه نصٌّ أن يرى فيه رأيًا قانونيًا متأثرًا بجو الشريعة التي ينتمي إليها، وبأصولها وقواعدها التي انطبعت فيه من طول مزاولتها، ومن أجل هذا ذمُّوا الرأي الذي يصدر ممَنْ ليس أهلًا للاجتهاد، والرأي الذي لا تسنده أصول الدين، وهذا الرأي أو القياس كان مثارًا للنزاع بين العلماء منذ العصر الأموي كما أبنَّا ذلك في فجر الإسلام حتى بين الصحابة، فمنهم مَنْ كان يتشدد فلا يفتي إلا بما ورد فيه نصٌّ من كتاب أو حديث كعبد الله بن عمر، ومنهم مَنْ كان يبدي الرأي فيما يعرض من الحوادث التي لم يَرِدْ فيها نص، كعمر وعبد الله ابن مسعود وغيرهما، ورُوِي في ذلك الشيء الكثير؛ واستمر النزاع بين النزعتين يقوى ويشتد إلى العصر العباسي، وأصبحت رياسة أهل الرأي لفقهاء الكوفة، وأهل الحديث لأهل المدينة؛ وفي الواقع لم يخلُ إمام من الأئمة — سواءً كان من أهل الرأي أم الحديث — من القول بالرأي، وهو مضطر إلى ذلك؛ لأن التقدم في المدنية يخلق كل يوم حوادث جديدة تحتاج لفتوى الفقهاء، ولا يُعدُّ فقيهًا حتى يفتي فيها، ولكن الفقهاء اختلفوا درجات متفاوتة في مقدار الأخذ بالرأي والاعتماد عليه، فمنهم مَنْ ضيَّق أمره، ومنهم مَنْ توسَّع، ومنهم مَنْ توسط كما سيأتي بيانه، وكان هذا من أهم الأصول التي خالفت بين الأئمة في التشريع.

وبينا نرى الخلاف بين الأئمة في الرأي على هذا النحو، نرى مسألة أخرى تَُثار، لها اتصال كبير على ما يظهر لي بمسألة الرأي والقياس، وهي «مسألة التحسين والتقبيح العقليين»، وهي مسألة أثارها المعتزلة، ومدارها هو: هل في الأفعال صفات من حسن أو قبح جعلت الشارع يأمر بها، أو ينهى عنها؟ فلولا ما في الصدق من صفة لما أمر به، ولولا ما في الكذب من صفة لما نهى عنه؟ أو أن الشارع بأمره الصدق جعله حسنًا، وبنهيه عن الكذب جعله قبيحًا؟ ولو شاء لعكس؛ هذه مسألة عاصرت القياس والرأي، وفي نظري أنهما مسألتان متساندتان، فمَن كان يرى أن الأفعال صفات من أجلها أمر بها الشارع أو نهى، قال: إن هذه الصفات يمكن إدراكها بالعقل؛ ولذلك يكون الرأي في إمكانه كشف هذه الصفات وتعرفها وإصدار حكم فيها، وذلك يجعل له حرية كبيرة في التشريع، ومَنْ قال بعدم الصفات الذاتية، وأن أمر الشارع هو الذي يحسِّن ويقبِّح، كان من الطبيعي أن يقف في اجتهاده على النص، وكل ما يستطيع في الاجتهاد أن يلحق الشبيه بشبيهه، وطبيعي أن يذهب الحنفية إلى الرأي الأول، وأن العقل يستطيع إدراك ما في الشيء من صفات حسن أو قبح، وأن الإنسان لو لم تبلغه دعوة فلا عذر له في الجهل بخالقه لدلالة العقل عليه، وهو ملزم بفعل الحسنات وترك السيئات؛ لأن العقل يرشد إلى ذلك، وأصبحت هذه المسألة من مسائل أصول الفقه.١

وأخذت المسألة دورًا كبيرًا في الجدل بين أصحاب الرأيين، فيقول — مثلًا — أحد الفريقين، وهو المنكر للتحسين والتقبيح العقليَّيْن: إنا نرى الشريعة قد فرَّقت بين المتماثَِلين وجمعت بين المختَلِفَيْن، ولو كان الأمر بالعقل لجمع بين المتماثلين وفرَّق بين المختلفين، فالشارع أوجب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، مع أن الصلاة أوْلى بالمحافظة عليها، وحرَّم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة النظر إذا كانت حرة، وجوَّزه إلى الشابة البارعة الجمال إذا كانت أمَة، واكتفى في القتل بشاهدين دون الزنا، وحَّرم المطلقة ثلاثًا على الزوج المطِّلق، ثم أباحها له إذا تزوجت بغيره، وحالها في الموضعين واحدة، وأباح للرجل أن يتزوج أربعًا، ولم يبح للمرأة إلا رجلًا واحدًا، مع قوة الدواعي من الجانبين، وقطع يد السارق لكونها آلة المعصية، فأذهب العضو الذي تعدَّى به على الناس، ولم يقطع اللسان الذي يقذف المحصنات، ولا العضو الذي يزني به، وأوجب الزكاة في خمس من الإبل، وأسقطها عن عدة آلاف من الخيل إلخ. إلخ … فلو كان الأمر بالعقل لكان الحكم غير هذا؛ فكيف نترك الحكم للرأي؟ وكيف نقول بالحسن والقبح العقليين؟

وقد ردَ عليهم الآخرون ردودًا طويلة مجملة ومفصَّلة، وأُبْدِيت فيها آراء مختلفة في عصور مختلفة، ومن هؤلاء مَنْ توسط فجعل للعقل سلطانًا ومقدرة على المعرفة في غير العبادات، أمَّا العبادات فما لا دخل للعقل فيها.٢

على كل حال لو رسمنا دوائر تمثل مقدار المذاهب في استعمال الرأي لكان أصغرها دائرة الظاهرية، ثم الحنابلة، ثم المالكية، ثم الشافعية، ثم الحنفية.

وقد اتخذ بعض أنواع الرأي أسماء خاصة، كالاستحسان، والمصالح المرسلة، فالاستحسان قد عرَّفوه تعريفات مختلفة، أقربها إلى الفهم أن يكون في المسألة شَبَهٌ بمسألة أخرى ورد فيها نصٌّ، وكان من مقتضى ذلك أن يقيس الفقيه هذه المسألة على المسألة التي ورد فيها النصُّ، ولكنه لا يفعل ذلك ويترك هذا القياس إلى تقدير المسألة بمقتضى العدالة، فهو يبحث عن العدالة المطلقة في المسألة ويصدر بمراعاتها حكمها؛ وهذا — كما ترى — أوغل في باب الرأي، وقد قال بالاستحسان الحنفية، وأنكره الشافعية؛ وروي عن الشافعي في ذمِّه أنه قال: «مَنْ استحسن فقد شَرَّع».٣
وقريب من هذا ما يسمى «الاستصلاح» أو «المصالح المرسلة»، وذلك أن الشارع — كما قالوا — يدور في تشريعه على حفظ أمور خمسة وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال؛ ولو استقرينا أوامر الشرع ونواهيه لوجدناها لا تتعدى هذه الأمور، ولو دققنا في معرفة ما حلله الشرع أو حرمه لوجدنا علته كذلك، فإذا عرضت مسألة من المسائل لم يرد فيها نصٌّ نظرنا فيما يترتب على الأمر من المصالح والمضار، وقدرنا ذلك كله، وأصدرنا حكمنا بحلِّه أو حرمته، وقد مثَّلوا لذلك بكفار تترَّسوا بجماعة من أسرى المسلمين، فلو كففنا عنهم لقاتلونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا المسلمين؛ ولو رمينا الترس لقتلنا مسلمًا معصومًا لم يذنب ذنبًا، فقالوا إن المصلحة تقتضي القتال ولو قُتل الترس؛ لأن مقصود الشرع تقليل القتل، أو منعه عند الإمكان، وفي مقاتلته الكفار تحقيق لهذا؛ لأنه إذا لم يُفْعل قتلوا المسلمين ثم قتلوا الأسرى، فالأسير مقتول على كل حال، وأقرب الطرق إلى تقليل القتلى هو مقاتلة الأعداء ولو تترَّسوا بالمسلمين؛ فترى من هذا أنهم يعنون بالاستصلاح أو بالمصالح وزن ما يعرض من مسائل بميزان المصلحة العامة، أو بأغراض الشارع العامة، أو بالقواعد الأساسية التي جاءت من أجلها الشرائع، وهو ضرب من الرأي أو مراعاة العدالة يدعو إلى نوع من الحرية في التشريع.٤

•••

والآن نستعرض في إيجاز المسلك الذي سلكه أهل الحديث، والمسلك الذي سلكه أهل الرأي.

توفي رسول الله وخلَّف كتاب الله، وأحاديث حدَّث بها، وأفعالًا فعلها، وقد شاهد ذلك كله أصحابه وسمعوا منه، ومن الصحابة مَنْ سمع بعض قوله دون البعض، ومَنْ رأى بعض أفعاله دون البعض، ثم تفرقوا في الأمصار عند الفتح، فمنهم مَنْ نزل العراق، ومنهم مَنْ نزل الشام، ومنهم مَنْ نزل مصر، وكان كل جمع من الصحابة ينزل مصرًا يروي ما سمع وما رأى من رسول الله، ولم يكن ذلك كله مدوَّنا إنما كانوا يقولونه شفاهًا، وقليل منهم مَنْ يكتب، وظهر بعد ذلك مصدر آخر، وهو أن كبار الصحابة وعلماءهم كانت تعرض عليهم بعض الأحداث ممَنْ لم يعرفوا فيها نصًا من كتاب ولا حديث، فيجتهد برأيه ويقول فيها قولًا، وكان هذا القول فيما بعدُ يُعدُّ مستندًا من مستندات التشريع؛ لأنه صدر عن صحابي كبير، عاشر النبي زمنًا طويلًا، وعرف مناحي الشريعة ومجراها، وأحيانًا يتبين أن هذا الرأي قد صدر فيه حكم من النبي، ولكن هذا الصحابي لم يعلمه؛ كالذي رُوِي أن عبد الله بن مسعود سُئِلَ عن امرأة مات عنها زوجها، وكان لم يعَّين لها مهرًا، فقال: لم أرَ رسول الله يقضي في ذلك، فألحُّوا عليه فاجتهد رأيه، وقضى بأن لها مهرًا كالذي يعرض لمثلها، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فشهد بأن رسول الله قضى في مثل هذه المرأة بمثل هذا الرأي، ففرح ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها بعد الإسلام.٥ وأحيانًا يظهر حديث يخالف رأي الصحابي فيعدل عنه، كالذي رُوِي أن أبا هريرة كان يرى أن مَنْ أصبح جُنُبًا فلا صوم له، حتى أخبرته بعض نساء النبي بغير ذلك فعدل عن قوله.

على كل حال زادت مراجع التشريع مرجعًا وهو فتاوى الصحابة، وليس ما خلفه الصحابة قاصرًا على ما ذكرت، بل هناك أمر آخر وهو أن الحديث قد يكون قد ثبت عن الرسول، ولكن اختلفت أنظار الصحابة في توجيهه وتفسيره وتأويله، أو أن الحديث قد نُسِخَ بحديث آخر بلغ بعضهم ولم يبلغ البعض؛ مثال الأول ما رُوِي أن رسول الله أسرع في الطواف مرة، فذهب كثير إلى أن الرَّمَل في الطواف سُنَّة، وقال ابن عباس ليس بسنَّة، إنما فعله النبي لسبب عارض، وهو أنه قد بلغه قول المشركين: حَطَّمتهم حُمَّى يَثْرب، فأراد أن يظهر لهم بالإسراع القوة والنشاط، وليس بسُنَّة؟ ومثال الثاني أن النبي رخَّص في نكاح المتعة عام خيبر وعام أوطاس، ثم نهى عنه، فاختلفت الصحابة في ذلك وفي نسخه، وقد يثبت الحديث أيضًا ولكن يختلفون في علّتَه، كالذي رُوِي أن رسول الله قام للجنازة، فاختلفوا في تعليل ذلك، فقال قوم: ذلك لتعظيم الملائكة تحف بالميت، أو لهول الموت، فيعم الوقوف للميت والكافر، وقال قوم: إنها كانت ليهودي، فكره أن تعلو فوق رأسه، فالقيام يخصُّ الكافر إلخ.

فلمَّا جاء عصر التابعين زادت المصادر مصدرًا على النحو الماضي، فكان من كبار التابعين من له فتاوى في حوادث لم تكن في عهد النبي ولا الصحابة، وكان لكل كبير من كبارهم آراء في تفسير بعض الآيات القرآنية، وآراء في تأويل الحديث، وآراء في فتاوى الصحابة، كما كان لهم آراء في تقدير الصحابة وتقويمهم من الناحية الفقهية، فمن التابعين مَنْ يفضل أقوال عبد الله بن مسعود على غيره، ومنهم مَنْ يفضل آراء عليّ وابن عباس، إلى غير ذلك؛ ويغلب أن هذا الترجيح يرجع إلى البلد الذي فيه الصحابي والتابعي وتابعي التابعي، فهو يتتلمذ للصحابة الذين كانوا في بلده، ويأخذ بقولهم، ويفضل روايتهم.

وجاء بعد التابعين طبقة أخرى تعمل عمل التابعين وهكذا، فعمر وعثمان وعبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس وزيد بن ثابت كانوا أئمة المدينة، وجاء بعدهم تلاميذهم، ومن أشهرهم سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عمر، ومن بعدهما الزهري، ويحيى بن سعيد، وربيعُة الرَّأْي، ومن بعدهم مالك؛ لذلك كان مالك أعلم الناس بقضايا عمر، وأقوال عبد الله بن عمر، وعائشة، ومَنْ ذكرنا. وكان عبد الله بن مسعود وعليّ في الكوفة، ثم شريح والشّعبي، ثم علقمة وإبراهيم النخعي، وتمت السلسلة إلى أبي حنيفة، وتعصَّب كل قوم لسلسلتهم، فكان مالك ينهج منهج مَنْ ذكرنا من أعلام مدرسته، وأبو حنيفة كذلك؛ قال أبو حنيفة مرة لمناظره: «إبراهيم أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لُقلت علقمة أفضل من ابن عمر». وكما كان مالك أعلم الناس بأحاديث المدينة، وقضايا علماء الصحابة المدنيين وتابعيهم وفتاواهم وآرائهم، كان أبو حنيفة أعلم الناس بقضايا عبد الله ابن مسعود وعليّ بن أبي طالب، وغيرهما من صحابة العراق وفتاواهم، وآراء التابعين من الكوفيين. ولمَّا جاء دور التدوين في العصر العباسي رأينا مالكًا يجمع هذا الذي ذكرنا في كتابه الموطأ، والعلماء العراقيين يجمعون فتاوى أئمتهم ومشايخهم في الكتب.

ووُجِدَ كثير من علماء المدينة، كسعيد بن المسيب والزهري يكرهون الرأي والقول به، ويهابون الفتيا، ويعدُّونها محنة، وساعدهم على تحقيق نزعتهم ما أشرنا إليه قبل من كثرة الحديث عندهم، وقلة الأحداث التي تعرض لهم، وحملتهم هذه النزعة أيضًا على أن يرحلوا إلى البلاد يجمعون الأحاديث التي لم يروِها رجال المدينة، فمنهم مَنْ رحل إلى العراق، ومنهم مَنْ رحل إلى الشام ومصر، فإذا اسُتفُْتوا رجعوا إلى الكتاب، فإن وجدوا فيه نصًا عملوا به، وإلا رجعوا إلى الحديث، فكذلك، وإن وجدوا أحاديث مختلفة فاضلوا بينها بالراوي من حيث العلم والصدق، فإن لم يجدوا حديثًا رجعوا إلى أقوال الصحابة والتابعين، فأخذوا بقولهم، فإن اختلف الصحابة والتابعين فاضلوا بين أقوالهم وخاصة أقوال أئمة بلادهم، فإن لم يكن شيء من ذلك رجعوا إلى أصول الكتاب والسنة، فنظروا إلى إشاراتها ومقتضياتها لعلهم يجدون مُشْبهًا لما عرض، أو يقع في نفسهم حكمة للأمر أو النهي أو الحِلِّ والحرمة تنطبق على هذه المسألة.

بجانب هؤلاء كان قوم من أهل الرأي وخاصة في العراق، يتهيبون الحديث كما يتهيب الأولون الرأي، ويستعظمون «قال رسول الله» كما يستعظم الأولون «أجتهد رأيي» ولعل ذلك سببه إدراك ما في الأمر من صعوبة في إثبات نسبة الحديث إلى الرسول والاستيثاق من صحته. قال إبراهيم النخعي، وهو من علماء الكوفة: «أقول قال عبد الله (يعني ابن مسعود) وقال علقمة أحب إلينا» من أجل ذلك قلَّ الحديث عندهم، وكانوا أجرأ على الرأي، بل لم يقتصروا في الإفتاء على ما يقع من أحداث، وما أكثرها في العراق، بل تعدوا إلى فرض الفروض، فلو قال رجل لامرأته أنت طالق نصف تطليقة أو ربع تطليقة فماذا يكون الحكم؟ ولو قال أنت طالق واحدة بعدها واحدة ونحو ذلك، كأن الأمر أصبح مرانًا عقليًا كمسائل الحساب والجبر والهندسة، ومرنوا على ذلك مرانًا عجيبًا، وخاصة أبا حنيفة كما سيأتي، فكان لهم قدرة فائقة على قياس الأمر بأشباهه، واستخراج العلل والأسباب، ووجوه الفروق الموافقات، وقد اشتركوا مع المدرسة الأولى في العمل بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين، ولكنهم اختلفوا عنهم في أمور:

منها ما ذكرنا من قلة الحديث والمبالغة في اشتراط صحته، وعدم التحرج من الرأي كالذي أسلفنا، ومنها: أن أهل العراق لهم مشايخهم وصحابتهم، ولأهل المدينة مشايخهم وصحابتهم، ومنها أن أهل العراق فلسفوا الفقه بمسايرة المنطق، والتوسع في التعليل العقلي والتوسع في الاستنباط، والدقة في استخراج وجوه الشبه ووجوه الفروق؛ وكانت طريقتهم حمع ما رُوَي عن جُلَّة الصحابة والتابعين الذين نزلوا في العراق من الحديث والفتوى والاستنباط، ثم يحفظون ذلك فإذا عرضت لهم مسألة فإن ورد فيها شيء من الكتاب والسنة أفتوا به، وإن لم يكن وكان فيها رأي من آراء مشيختهم نظروا فيه، وإلا استنبطوا الحكم من علة لهذه الفتاوى أو إشارة أو إيماء، أو بحثوا عن حكمة الحُكْم ثم عمموا الحكمة في المسألة التي عرضت، أو ألفوا علتين أو حكمتين واستنبطوا الحكم منها، أو جدُّوا في طلب شبه لهذه الحادثة وقاسوها عليه، فإن لم يكن شيء من ذلك رجعوا إلى ما يكتسبه المجتهد من طول المزاولة وإدمان النظر، مما يصح أن نسميه «الذوق القانوني» يرى به وجه الحكم، وأي الأحكام أقرب إلى العدل، وأكثر تحقيقًا للمصلحة؛ وقد سمُّوا هذه الطرق في استخراج الأحكام «تخريجًا».٦
وقد كان في كل مدرسة غلاة متطرفون، كما كان فيها معتدلون؛ فمن مدرسة الحديث مَنْ غلا فمنع القياس والقول بالرأي، وقصر نفسه على الفتوى فيما ورد فيه من كتاب أو سنة، وهرب من المسائل التي لم يجد فيها نصًا؛ ومنهم مَنْ اعتدل فأجاز العمل بالرأي في حدود معينة. ومن مدرسة الرأي مَنْ غلا حتى لم يرَ العمل بالحديث؛ لأن الأحاديث يعتورها الشك، فليس يسلم راوٍ من غلظ أو نسيان أو خطأ في حديثه؛٧ ومنهم مَنْ اعتدل فعمل به في حدود معينة، فإذا لم يستوفِ الشروط لجأ إلى الرأي. وقد رأينا قبل أن ابن المقفع نقد حال المشرِّعين في زمانه، وقال إن منهم مَنْ زعم أنه التزم السنة، وقد غلا فيما سماه سنة، ومنهم مَنْ غلا في استعمال الرأي حتى بلغ الاعتداد به أن يقول في الأمر الجسيم قولًا لا يوافقه عليه أحد، وتخلص من ذلك إلى وجوب وضع قانون يضعه أولو الأمر يلزم به القضاة ويعمل به في الأمصار.٨

•••

ونحن إذا أردنا أن نسجل التغيرات التي طرأت على التشريع في العهد العباسي استطعنا أن نسجل الظواهر الآتية:
  • (١)
    أول ما نلاحظه أن الأمويين — إذا استثنينا عمر بن عبد العزيز — لم يكونوا يتصلون برجال التشريع ورجال الدين على العموم اتصالًا وثيقًا، إلا في أحوال نادرة، كاتصال الزهري بهم، بل قصر الخلفاء أنفسهم على النواحي السياسية من قمع الثورات الداخلية والفتوحات الخارجية، وتنظيم شئون الدولة المالية، وما إلى ذلك، وتركوا العلماء يدرسون ويفتون، وعيَّنوا القضاة وتركوهم يقضون بما يرون، كأن السياسة منفصلة عن الدين، وكأن وظيفتهم سياسية بحتة؛ فلمَّا ثارت الثورة على الأمويين واستقر الأمر في يد العباسيين، كان من أثرها صبغ الدولة صبغة دينية، ورأينا النزعة الدينية عند الخلفاء العباسيين الأولين واضحة جلية، ورأينا اتصال الخلفاء بالعلماء ورجال الدين أقوى وأبين؛ فأبو جعفر المنصور يقرِّب العلماء ويصلهم، والمهدي يشتد على الزنادقة وينشئ «إدارة» للبحث عنهم وتعذيبهم، والرشيد وأبو يوسف القاضي متلازمان، والمأمون يصدر «مرسومًا» بخلق القرآن، ويقضي شطرًا من خلافته في مناقشة العلماء في ذلك وتعذيب مَنْ أنكره، ويناقش في نكاح المتعة ويريد أن يصدر أمرًا في شأنه، وهكذا مما لا نجد له مثيلًا في العهد الأموي. وعلى العموم فقد أراد العباسيون ألا يكونوا سياسيين فحسب، بل سياسيين ودينيين معًا.٩ وكان من أثر ذلك أن جماعة من العلماء عذبهم العباسيون؛ لأنهم أبوا أن يخضعوا لوجهة نظرهم، والخضوع لسلطانهم، كمالك وأبي وحنيفة وسفيان الثوري، على حين أنَّا نرى الحسن البصري في العهد الأموي يجلس في المسجد الجامع ويتكلم في السياسة، ويُسْتَفْتَى في الخلفاء والأمراء فينقدهم في شدة، ثم لا يصيبه أذى. والذي يهمنا هنا هو الناحية التشريعية، فقد كان لاتجاه العباسيين هذا الاتجاه أثر بيَّنٌ في التشريع، وهو صبغ أعمال الدولة كلها صبغة دينية، فنظام الري، ونظام الضرائب، وحفر الترع وجباية الأموال، ونظام الدواوين، كلها مسائل دينية يؤلف فيها أبو يوسف القاضي كتابه الخراج، ويُستفتَى فيها الفقهاء، ويجتهدون فيها اجتهادًا دينيًا، وهكذا كل ما دق من الأمور وعظم مرجعه فتوى المفتين وقضاء رجال الدين؛ وهذا — من غير شك — يجعل مهمة الفقهاء شاقة واسعة النطاق.
  • (٢)

    ويتصل بهذا الأمر أن الفقه في العصر العباسي تضخَّم ونما نموًا كبيرًا، وسبب هذا أمور؛ منها: ما أشرنا إليه قبل من عمل العباسيين في صبغ الأمور كلها صبغة دينية، ومنها: أن طبيعة النظام الذي جرى عليه الفقهاء تجعل المأثور يتزايد مع الزمن، فبعد أن كان في عهد الصحابة المأثور هو حديث رسول الله، أصبح في عهد التابعين المأثور أقوال الرسول وكبار الصحابة، وفي عهد تابعي التابعين المأثور هذا وقول كبار التابعين وهكذا، فكلمَّا جاء جيل ورث عمن قبله آراء المجتهدين، وفتوى المفتين، وقضاء القضاة؛ وسبب ثالث: وهو أن مدرسة الرأي لم تكتفِ بما يحدث من أحداث بل كأنها فرحت بما لديها من وسائل الاجتهاد وأدوات القياس، والقدرة على «التخريج»، فأباحت إثارة المسائل الفرْضية، تبدي فيها رأيها، وتستعمل قياسها حتى فرضوا المستحيل والبعيد الوقوع، وأكثروا الفروض في أبواب الرقيق والطلاق والأيمان والنذور كثرة لا حد لها، وبدأ بذلك العراقيون، ثم تبعهم فيما بعد الشافعية والمالكية. ومن أسباب التضخم أن المملكة الإسلامية أصبحت في صدر الدولة العباسية بعيدة الأطراف، تضم بين جوانبها أممًا مختلفة، لكل أمة عادات اجتماعية، وعادات قانونية، وطرق في المعاملات، ولكل أمة دين له تقاليده، فلمَّا دخلت هذه الأمم في الإسلام استقرت الأمور في العهد العباسي، وصُبِِغتَ الأمور كلها صبغة دينية، وتفرق الأئمة في الأمصار وعُرضت هذه العادات والتقاليد على الأئمة، فعُرِضت أمور العراق على أبي حنيفة وأمثاله، وفيها العادات الفارسية والعادات النبطية وغيرها، وعُرِضت أمور الشام على الأوزاعي وأضرابه، وفيها العادات الرومانية وغيرها، وفيها نظم القضاء الروماني، وما كان يجري في المعاملات وطريقة التقاضي، وعُرِضت أمور مصر على الليث بن سعد والشافعي وأقرانهما، وفيها العادات المصرية والرومانية كذلك، ونحو هذا؛ فكان من عمل هؤلاء الأئمة «تسليم» هذه العوائد والتقاليد، أعني النظر إليها بالقواعد العامة للإسلام وإقرار بعضها وإنكار بعضها وتعديل بعضها، وهذا — بلا شك — باب واسع من الأبواب التيتُضخِّم التشريع وتغذيه، وهذا أيضًا قد جعل كلَّ مصر يغذي التشريع غذاءً خاصًا، قد لا يكون في غيره، وقديمًا كانت مكة تغذي الفقهاء بمناسك الحج وبشئون التجارة كما كانت المدينة تغذي الفقهاء أكثر من مكة في شئون الزراعة، وبأعمال رسول الله في المدينة، فلمَّا فُتِحت الأمصار ظل الأمر على هذا الحال، فدجلة والفرات ونظامهما قد غذيا أبا يوسف في آرائه في كتاب الخراج، ومعاملة العراقيين في المزارعة والمساقاة والاستصناع غذت فقه العراق، ونظام النيل وعوائد المصريين غذت الشافعي في مذهبه الجديد — كما سيأتي — وعلى الجملة فكانت هناك عوائد عربية في جزيرة العرب، وعوائد فارسية في العراق، وعوائد رومانية في الشام، وعوائد رومانية وإغريقية ومصرية في مصر، كلها عُرِضتَ على الأئمة و«سُلِّمت».

فلمَّا كثرت الرحلات بين العلماء — كما أشرنا قبل — وأصبح من واجبات طالب العلم الأولية أن يرحل إلى الأمصار المختلفة ويأخذ من علمائها، زالت الحدود والفواصل التي تميَّز كل طائفة من المشرعين في مصر، فاستفاد العالمُ العراقي من الحجازي، والمصري منهما، وكمَّل كل منهم نقصه، واستفاد فيما هو مقصر فيه، وأفاد فيما هو غنيٍّ به؛ وهكذا عملت الرحلات في تطعيم كل شجرة من أشجار العلم، كما عملت في تقريب ألوانها وطعومها، ومن ذلك التشريع؛ فنرى ربيعة الرأي المدني يرحل إلى العراق ثم يعود إلى المدينة، ومحمد بن الحسن العراقي صاحب أبي حنيفة يرحل إلى المدينة ويقرأ موطأ مالك ويعود إلى العراق، والشافعي يرحل إلى المدينة وإلى العراق وإلى مصر وهكذا؛ ومن أجل هذا أصبحنا نرى الفروق على توالي الأزمان تقل بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي بما يأخذ الأولون من رأي الآخرين، وما يأخذ الآخرون من حديث الأولين، وأصبحنا نرى كتب المذاهب تتشابه والفروض في كل المذاهب تكثر، وعلى الجملة يتأثر كل بما امتاز به كل.

  • (٣)
    من مميزات هذا العصر كذلك، كثرة اختلاف الفقهاء ونشاطهم في الجدال والمناظرة؛ فقد اختلفوا وتعددت أسباب اختلافهم، من ذلك اختلافهم في تفسير الألفاظ الواردة في الكتاب أو السُنَّة كاختلافهم في معنى القروء الواردة في قوله تعالى:وَالْمُطَلََّقَاتُ يتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ َثلاَثَة قُرُوءٍ، هل القرء الطهر أو الحيض؟ فذهب الحجازيون من الفقهاء إلى أنه الطهر، وذهب العراقيون إلى أنه الحيض، وكان اختلاف الحجازيين والعراقيين تبعًا لاختلاف الصحابة في هذا أيضًا، فقد روي عن عمر وعثمان وعائشة وزيد بن ثابت أنهم قالوا الأقراء الأطهار، كما رُوِي عن عبد الله بن مسعود أنها الحيض، وفي هذا ما يدل على ما سبق من انحياز العراقيين لابن مسعود، والحجازيين إلى علماء الصحابة في المدينة؛ وقد يكون الاختلاف سببه تركيب الكلام وتأليف الجمل، وقد يكون سببه حمل الكلام على الحقيقة أو المجاز، وقد يكون سببه ما ورد من جملة آيات أو أحاديث إذا أُلِّف بعضها من بعض اختلفت المدارك فيما يُسْتَنْتَجُ منها وما لا يُستَنتَجُ، وقد يكون سببه اختلاف الأحاديث الواردة في الموضوع، وأن كل مجتهد وصل إليه بعض دون بعض، أو صح عنده بعض دون بعض. كالذي رُوِي عن عبد الوارث بن سعيد أنه قال: قدمت مكة فألفيت بها أبا حنيفة، فقلت: ما تقول في رجل باع بيعًا، وشرط شرطًا؟ فقال البيع باطل والشرط باطل، فأتيت ابن أبي لَيْلى فسألته عن ذلك فقال: البيع جائز والشرط باطل، فأتيت ابن شُبْرُمة فسألته عن ذلك فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت في نفسي سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة، فعدت إلى أبي حنيفة، فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله عن بيع وشرط. فعدت إلى ابن أبي ليلى فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني هشام بن عُرْوَة عن أبيه عن عائشة قالت: أمرني رسول الله أن أشتري بَرِيرة فأعتقها، فاشترط أهلها بالولاء لأنفسهم، فقال رسول الله: ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، البيع جائز والشرط باطل. قال فعدت إلى ابن شُبرمة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني مِسْعَر بن كِدام عن محارب بن دِثار عن جابر قال: بعْت النبي بعيرًا، وشرط لي حملانه إلى المدينة، البيع جائز والشرط جائز. وقد يكون سبب الخلاف ما ورد من الحديث يصح عند قوم ولا يصح عند آخرين، ويشترط قوم لصحة الحديث شروطًا كثيرة إن لم تتحقق فُضَّل عليه القياس، ولا يشترط قوم هذه الشروط ويفضلون الحديث — ولو لم يستوفها — على القياس. وقد يكون الخلاف سببه اختلاف مقدرة الفقهاء على القياس والاستنباط، أو اختلافهم في المقدرة اللغوية والعلم بأساليب العرب ودلالة الكلام. وقد يكون سببه الاختلاف في وجهات النظر، وتأثر كل إمام بما يحيط به من بيئة طبيعية واجتماعية١٠ إلخ.

على كل حال كان الاختلاف بين الفقهاء كثيرًا وقديمًا، كان هذا الاختلاف بين الصحابة فقد اختلف أبو بكر وعمر في قتال مانعي الزكاة، واختلف عثمان وزيد بن ثابت وعلي في عبد تزوج حرة هل يُعْتَبَرُ حال الزوج فيكون أقصى طلاقها طلقتين؟ بهذا قال الأولان، أو يُعْتَبَرُ حال الزوجة فيكون أقصى طلاقها ثلاثًا؟ بذلك قال علي؛ وكاختلافهم في توريث الإخوة مع الجد، إلى كثير من أمثال ذلك. وكانت كلما أتت طبقة زاد الخلاف لكثرة المسائل المعروضة ولكثرة المفتين، حتى إذا تبلورت مدرسة الحديث وتركَّزت في مالك وأصحابه في الحجاز، وتبلورت مدرسة الرأي وتركَّزت في أبي حنيفة وأصحابه في العراق، زاد الخلاف وكثر الجدل، واستمر النزاع، وكان أكبر الفضل في شدة المناظر راجعًا إلى مدرسة أبي حنيفة، فإن كثرة مسائلهم التي فرَّعوها، وعدم تحرجهم في إبداء الرأي فيما لم يصح فيه نص عندهم، جعل فقهاء الحديث يردون عليهم في شدة بأنهم أهملوا الحديث إلى الرأي فأخطأوا، كما أن استعمال العراقيين للقياس وهو ضرب من المنطق سمح للمنطق أن يتسرب للفقه، وجعل الجدل يتشكل بالشكل المنطقي، وفي هذا تكثير للجدل والمناظرة، وفي رأيي أن هذا الجدل هو الذي ألجأ كبار الأئمة كالشافعي إلى وضع أصول الفقه؛ فإن المناظرة كانت تدور حول الكلمات وتحديد معانيها، والجمل وتأليفها، وموقف السنة من الكتاب، والكتاب من السنة، وعمل الصحابي هل هو حجة أو لا، والقياس ومدى استعماله ومتى يصح ومتى لا يصح؛ فجرَّد الشافعي وأمثاله هذه المسائل التي يكثر فيها الخلاف، واجتهدوا أن يرجعوا المسائل الجزئية التي يتجادلون فيها إلى أصول فكان من ذلك أصول الفقه.

على كل حال كان الخلاف كثيرًا، وكان أكثر ما يكون في العصر العباسي حيث تركَّزت مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، فرأيناهم يتناظرون في المساجد، وفي حلقات الدرس، وفي المنازل، وحين اجتماعهم للحج، ويرحلون فيتناظرون، ويلتقون اتفاقًا فيتجادلون، ومُلِئتَ الكتب بهذه المناظرات والمجادلات. ولنمثل لك بشيء منها؛ فقد روى الفخر الرازي: «أن محمد بن الحسن (صاحب أبي حنيفة) قال للشافعي يومًا: بلغني أنك تخالفنا في مسائل الغصب،١١ قال الشافعي: أصلحك الله، إنما هو شيء أتكلم به في المناظرة، قال: فناظرني … قال محمد: ما تقول في رجل غصب ساحة وبنى عليها جدارًا، وأنفق عليها ألف دينار، فجاء صاحب الساحة وأقام شاهدين على أنها ملكه؟ فقال الشافعي: أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضي وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه؛ قال محمد ابن الحسن: فما تقول في رجل غصب لوحًا من خشب فأدخله في سفينة ووصلت السفينة إلى لجة البحر، فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين، أكنت تنزع اللوح من السفينة؟ قلت لا، قال: الله أكبر، تركت قولك؛ ثم قال: ما تقول في رجل غصب خيطًا من ابريسم، فمُزق بطنه، فخاط بذلك الابريسم تلك الجراحة، فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب، أكنت تنزع الخيط من بطنه؟ قال لا، قال: الله أكبر، تركت قولك؛ وقال أصحابه أيضًا: تركت قولك. قال الشافعي فقلت: لا تعجلوا، أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه، ثم أراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونها في لجة البحر، أمباح له ذلك أم يحرم عليه؟ قال: يحرم عليه، قلت: أرأيت لو كان الخيط خيط نفسه وأراد أن ينزعه من بطنه ويقتل نفسه، أمباحُ له ذلك أم محرَّم؟ قال: بل محرَّم، قلت: أرأيت لو جاء مالك الساحة، وأراد أن يهدم البناء، أيحرم عليه ذلك أم يباح؟ قال: بل يباح، قال الشافعي: فكيف تقيس مباحًا على محرم؟ فقال محمد: فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ قلت: آمره أن يسيرها إلى أقرب السواحل، ثم أقول له انزع اللوح وادفعه إليه، فقال محمد بن الحسن: قال النبي : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، فقال الشافعي: مَنْ ضره؟ هو ضر نفسه، ثم قال الشافعي: ما تقول في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة، ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادة أشراف خطباء، فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية التي هي أم هؤلاء الأولاد مملوكة لي، ماذا تعمل؟ قال محمد: أحكم بأن أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل، قال الشافعي: أنشدك الله أي هذين أعظم ضررًا: أن تقلع الساحة وتردها إلى مالكها، أو تحكم برق هؤلاء الأولاد؟ فانقطع محمد بن الحسن».١٢ وأمثال هذه المناظرة كثيرة بين الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم.

هذه المناظرات — وإن حكاها كل جماعة بما يتفق وعصبيته المذهبية — وسَّعت دائرة الحركة الفقهية، وكوَّنت آراء قانونية لها قيمتها، وحملت الكثيرين من الفقهاء على أن يتسلحوا بأسلحة مناظريهم، فالقياسيون يتسلحون بالحديث، والمحدِّثون يتسلحون بالرأي، وقرَّبت كثيرًا من أوجه النظر المتباعدة، وربما كان أقرب مثال لذلك الشافعي ومحمد بن الحسن الحنفي، فكلاهما اطلع على الناحيتين، وتسلَّح بالسلاحين.

ولم يقتصر الأمر على المناظرة الشفوية، بل تعدَّى ذلك إلى المناظرة بالمكاتبة، فنرى الليث بن سعد يكتب من مصر إلى مالك في المدينة يجادله في حجية إجماع المدينة، ويردُّ عليه مالك.١٣

وقد أثرت هذه المناظرات أيضًا في الكتب المؤلفة في ذلك العصر وما بعده أثرًا كبيرًا، فلو قارنت بين كتاب الأم للشافعي، وكتاب النحو لسيبويه، رأيت فرقًا كبيرًا بين التأليفين، فالأم يغلب عليه الحوار، قال كذا فقلت: أرأيت إن زعم كذا؟ فإن قال قائل كذا رددت عليه بكذا، قال لي بعضهم كذا فقلت له، إلى نحو ذلك مما يغلب عليه الجدل والمناظرة والحوار، وكثيرًا ما يعرض لآراء المخالفين ويذكر حجتهم ثم يفنِّدها بحججه، ويذكر فصلًا يعنونه «كتاب الردَّ على محمد بن الحسن»، وفصلًا يعنونه «كتاب اختلاف العراقيين» إلخ؛ وهكذا الحنفية في التأليف، ولا ترى هذا واضحًا جليًا في كتاب سيبويه، فهو أميل إلى تقرير القواعد وتفريعها والاستشهاد عليها؛ وسبب ذلك الثورة الكبيرة التي كانت في هذا العصر في الآراء الفقهية، والحرية التي أبداها الحنفية في استعمال الرأي، وجدُّ مناظريهم في إفحامهم، ونحو ذلك مما لا يقاس به الخلاف النحوي والمناظرات النحوية؛ لأن الأمر فيه أغلب ما يكون على النقل والسماع واستخراج القاعدة العامة من الجزئيات.

  • (٤)

    ومن مميزات العصر العباسي في التشريع «التدوين»؛ فقد ظهرت حركة التدوين في هذا العصر في كل فروع العلم ومنها الفقه، نعم كان في العصر الأموي نواة التدوين، ولكنها نمت واتسعت في العصر العباسي، وكانت كل مدرسة تتبع منحاها، فقد كان فقهاء المدينة يجمعون فتاوى عبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس ومَنْ جاء بعدهم من كبار التابعين في المدينة، وينظرون فيها ويستنبطونه منها ويفرِّعون عليها، كما كان العراقيون يجمعون فتاوى عبد الله بن مسعود وقضايا عليّ وفتاواه، وقضايا شريح وغيره من قضايا الكوفة، ثم يستخرجون منها ويستبنطون؛ وقد بدأ الفقه في العصر الأموي الحديث، لأنه يُعَدُّ مادة الفقه، وخاصة عند مدرسة الحديث، ثم بدءوا يبوبون الحديث أبوابًا حسب الفقه؛ فأحاديث الوضوء ثم أحاديث الصلاة، ثم أحاديث الزكاة وهكذا، ثم بدءوا يفرِّعون المسائل من الحديث، فيروي الذهبي أن عبد الله بن المبارك «دوّن العلم في الأبواب والفقه»، ويقول في أبي ثور: «إنه صنَّف الكتب وفرَّع السنن»، ويريد أنه جمع الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد في باب واحد؛ وأوسع ما ورد إلينا في هذا الباب كتاب الموطأ للإمام مالك، وقد خطا فيه خطوة جديدة في تقنين الحديث.

هذا في المدينة، وأمَّا في العراق فقد كانوا أميل إلى الرأي كما رأينا، وقد كان من أظهر علمائهم إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وقد رووا أن إبراهيم جمع فتاوى الشيوخ وآراءهم ومبادئهم القانونية في كتاب، وأن حمادًا كان له مجموعة منها، وقد وصل إلينا كتاب الآثار لمحمد بن الحسن جمع فيه آثار هؤلاء العلماء وآراءهم؛ ومن أقدم ما وصل إلينا في الفقه العراقي كتاب الخراج لأبي يوسف، ثم كتب محمد بن الحسن، كما وصل إلينا كتاب الأم للشافعي، وفيه ينحو منحى جديدًا متأثرًا بمدرسة الحديث في الحجاز ومدرسة الرأي في العراق، وسنتكلم عن هذه الكتب فيما بعد.

وعلى الجملة فقد دُوِّنت في هذا العصر كتب الفقه واصطبغت صبغة قانونية، بعد أن كانت صبغتها قبلُ صبغة حديث، وظهر فيها أثر الخلاف في المذاهب وأثر الجدال، واصطبغت الكتب وخاصة كتب العراق بالمنطق.

  • (٥)

    كان هذا العصر عصر حرية في الاجتهاد كالذي قبله، فميدان العلم والبحث مفتوح لكل راغب والوسط العلمي يرفع من شأن قوم لكفايتهم وجدهم ويضع من شأن آخرين لعكس ذلك، وكل مَنْ استكمل أدوات الاجتهاد فله أن يجتهد، ومَنْ لم يستكمل ذلك فله أن يتبع أي فقيه وأيّ مفتٍ فيما يفتيه، فإذا حدثت حادثة فالقاضي يقضي باجتهاده لا بمذهب معين، وإذا عرض سؤال لرجل استفتى فيه مَنْ شاء من العلماء، والمفتي يفتي بما أَدَّى إليه اجتهاده، فالقضاء والفتوى غير مقيدَين بأي قيد إلا القيد العرفي، وهو أن يكون القاضي أو المفتي في مستوى لائق في وسط العلماء، ومن أجل هذا كانت الحادثة يقضي فيها قاضٍ في بلد برأي، وقاضٍ آخر برأي آخر؛ إذ لا قانون قد اعترفت به الدولة، وكذلك الشأن في الفتاوى، وكذلك في التعبُّد، فالمجتهد يتعبد في الصلاة والزكاة حسب ما أداه إليه اجتهاده، وغير المجتهد يتعبَّد حسب ما يتلقاه من العلماء. ولم تكن إلى العصر العباسي مذاهب معينة يقلِّدها الناس إنما كان علماء مجتهدون كثيرو العدد في كل مصر، فلمَّا جاء العصر العباسي بدأت المذاهب تتحدد؛ كان العلماء فيما قبل يجتهدون في مسائل متفرقة، فأخذنا نرى العلماء يوسعون دائرة بحثهم حتى يشمل أبواب الفقه كلها، وساير هذا وضع الكتب في الأبواب المختلفة، فعُرِفتَ كل آراء المجتهد في هذه الأبواب كلها، وساير هذا أيضًا كثرة الجدل والمناظرات بين الفقهاء على النحو الذي بيَّنا، فأدََّى ذلك إلى أن كل إمام أصبحت له أصول ومناحٍ وأساليب يجري عليها في الاستنباط. كل هذا جعل المذاهب تتبلور ويستقل كل مذهب عن غيره، ويتجمع حول كل إمام تلاميذ وأتباع يأخذون عنه وينحون منحاه، فظهور المذاهب وتكوُّنها والتعصب لها وشمولها لأبواب الفقه والتأليف فيها واستقلالها ونحو ذلك، كله ظاهرة من ظواهر العصر العباسي.

ومع هذا فلا تظن أن الأمر في عصرنا الذي نؤرخه قد استقر على النحو الدقيق الذي عندنا من انقسام المسلمين إلى مذاهب أربعة، بل كان عصرنا بدء هذه الحركة، ولم يتم هذا التكوين إلا في القرن الرابع. قال أبو طالب المكي في قوت القلوب: «إن الكتب والمجموعات مُحْدَثة والقول بمقالات الناس، والفتيا بمذهب الواحد من الناس واتخاذ قوله، والحكاية له من كل شيء، والتفقه على مذهبه، لم يكن الناس قديمًا على ذلك في القرنين الأول والثاني». فهذه العملية — عملية تكوُّن المذاهب — بدأت في العصر العباسي، ولم يكن الأمر قاصرًا على المذاهب الأربعة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، بل كانت في ذلك العصر مذاهب كثيرة غير هذه، لم يقلّ بعضها في القيمة والقوة عنها، فكان مذهب الحسن البصري، ومذهب أبي حنيفة، ومذهب الأوزاعي، ومذهب سفيان الثوري، ومذهب الليث بن سعد، ومذهب مالك، ومذهب سفيان بن عيينة، ومذهب الشافعي؛ ثم من بعدهم مذهب إسحاق بن راهَوَيْه، ومذهب أبي ثور، ومذهب أحمد بن حنبل، ومذهب داود الظاهري، ومذهب ابن جرير الطبري وغير ذلك. وكان لكل مذهب من هذه المذاهب آراء وطرق في الاجتهاد، ولكلٍّ أتباع متفرقون في الأمصار، ولكن حدث أن بعض هذه المذاهب مات لظروف خارجية؛ كعدم التلاميذ الأقوياء الذين ينصرون المذهب وينشرونه ويدافعون عنه، وكعدم مَنْ يعتنقه من ذوي الجاه والسلطان ومَنْ إليهم، إلى غير ذلك من أسباب، وأحيانًا لأسباب داخلية كمذهب الظاهري؛ فقد قضى عليه تشدده في عدم الأخذ بالرأي ووقوفه الشديد عند النص إلخ. وكان الذي كُتِبَ له البقاء من هذه المذاهب هي المذاهب الأربعة، ولكن هذا الانحصار لم يتم إلا في القرن الرابع وما بعده كما ذكرنا؛ أمَّا في القرن الثاني والثالث فكل هذه المذاهب الثلاثة عشر التي عددنا وغيرها كانت موجودة ولها أنصار، وكان الاجتهاد حرًا طليقًا. ومن العلماء مَنْ كان لا يتقيد بشيء من هذه المذاهب، بل يجتهد لنفسه فإن صحَّ عنده حديث عمل به، وإن وجد قولين للعلماء تخَّير لنفسه،تارة يتبع مذهب المدينة، وتارة مذهب العراق، حتى فيمن ينتسبون إلى إمام معين، كمحمد بن الحسن، لم يمنعه انتسابه إلى أبي حنيفة من اختياره من مذهب مالك وهكذا؛ وكان لهذه الحرية في الاجتهاد أثر صالح في نمو الفقه نموًا يدعو إلى الإعجاب، وظهور الآراء القانونية بمظهر جليل، وتحليل المسائل تحليلًا دقيقًا، ومراعاة كل فقيه حال قومه وبلده، ومقتضيات الأحوال، حتى لا تكاد تخلو مسألة من المسالة من آراء متعددة، لكلٍ دليله ووجهة نظره، إن ضعف نظر بعضهم فبجانبه النظر القوي والاتجاه السديد.

وكان الذي يؤخذ عليهم في هذا العصر أنهم لم يضعوا قانونًا عامًا للدولة تسير عليه، وقد كانت الفكرة لديهم ولم يحققوها، فالمنصور يعرض على مالك أن يجعل الموطأ قانونًا، وفي رواية أن الرشيد كذلك؛ وابن المقفع يطلب في تقريره الذي رفعه إلى المنصور أن يسن قانونًا عامًا للمسلمين يرجع فيه إلى النصوص المجمع عليها وإلى العدالة.١٤ ولكن شيئًا من ذلك لم يكن بل تُرِكتَ الحرية للقضاة وللمفتين كماتُرِكتَ للمؤلفين والشراح؛ وكان خيرًا أن يُقيَّد القضاة بقانون يعلمه الناس قبل أن يتقاضوا، ويعلمه القضاة قبل أن يقضوا، ويكون هذا القانون مجالًا للتعديل والتغيير على مر الزمان وعلى مقتضيات الأحوال، ثم يُتْرَك العلماء والفقهاء أحرارًا في كتبهم وشروحهم وجدالهم، وهذه الآراء التي يدونونها، والحوار الذي يقومون به، والنقد الذي ينتقدونه، تكون غذاءً للقانون العام، ومصدرًا للتغيير والتعديل، ولو فعلوا لكان لذلك أثر بعيد في حياة المسلمين القضائية.

كذلك من ظواهر الفقه الإسلامي سعة دائرته التي يبحث فيها؛ فهو يشمل القانون التجاري، والقانون المدني، وقانون العقوبات، كما يشمل العبادات، وفيه ما تنفِّذه السلطة التنفيذية، وفيه ما تترك العقوبة فيه لله — كل أعمال الإنسان داخلة في دائرته من الوضوء إلى الميراث — وسبب هذا بناء القانون الإسلامي على الكتاب والسنة، وهما قد تعرَّضا لجميع هذه الأبواب، ففي القرآن والسنة نصوص في الطهارة، كما فيهما نصوص في الدَّين، كما فيهما نصوص في عقوبة السرقة إلخ. وهذا — من غير شك — قد جعل مهمة الفقيه المجتهد أشق وأدق؛ فهو لابد أن يحيط بكل هذه الفروع، ولابد أن يعلم مبادئها والأصول التي استندت عليها حتى يستطيع أن يستنبط أحكامًا للمسائل التي تجِدُّ. وكان الأمر يكون أسهل لو تخصص قوم للعبادات، وآخرون للأمور المالية وغيرهم للمسائل الجنائية، ولكن لم يصل العالمَ إلى التخصص إلا في العصور الحديثة، فكان الفقيه فقيه كل شيء، كما كان الطبيب طبيب كل شيء.

•••

والذي يستعرض ما كُتِبَ في الفقه في هذه العصور وما بعدها يرى أن الفقهاء والمؤلفين قد جمعوا المسائل التي تتعلق بموضوع واحد في باب بعينه، ولكنهم في عرضهم قد عرضوا الجزئيات دون القواعد غالبًا، فإذا عرضوا للبيع استعرضوا الجزئيات من مثل «مَنْ باع صُبْرة طعام كل قفيز بدرهم جاز البيع، ومَنْ باع قطيع غنم كل شاة بدرهم فسد البيع، ومَنْ اشترى ثوبًا على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم فوجده أقل فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه بكل الثمن وإن شاء ترك» إلخ. وهذه الفروع — من غير شك — ترجع في أساسها إلى مبادئ، لكن هذه المبادئ قلَّما تُذْكََرُ وإن كانت في نفس المجتهد، وقد كان من الممكن أن يكون بجانب هذه الفروع أصول الفقه، فتذكر في كل باب النظريات العامة التي انبنت عليها الفروع، ولكن الأصول التيدُوِّنت في ذلك العصر ليست من هذا القبيل، إنما عُرِضَ فيها لأدوات الاجتهاد لا للنظريات العامة في البيع والإجارة ونحوها؛ لأن أساسها — كما أشرنا — هو ما كان بين الفقهاء من المناظرة والجدال. وقد حاول قوم بعد عصرنا أن يتجهوا هذا الاتجاه فيذكروا في كل باب المبادئ العامة للأبواب المختلفة، ولكنهم لم يسيروا في هذا الطريق إلى آخره.

وسبب سير الفقه هذا السير في النظر إلى الجزئيات أن الفقه والتدوين فيه بدأ يجمع ما نُقِلَ من الحديث عن رسول الله، وفتاوى الصحابة والتابعين؛ ثم تبويب كل جمع من الجزئيات في باب، فكان طبيعيًا أن يكون الباب الفقهي حكاية عن فروع وردت، ثم كانت عبارة عما يراه المجتهد في هذه المسائل حسب أصوله، وحسب مشايخه، وحسب مسلكه في الاجتهاد.

والآن نعرض للمذاهب المشهورة وكبار رجالها ومسلكها في التشريع:

(١) أبو حنيفه ومدرسته

أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت بن زُوطَى فارسي الأصل، قد وُلِدَ جده زُوطَى بكابل، وأُخْتُلِف في ولادة أبيه فقيل بالأنبار، وقيل بَنسًا، وُولِدَ أبو حنيفة بالكوفة،١٥ وكان ثابت مملوكًا لرجل من ربيعة من بني تيم الله بن ثعلبة من فخذ يقال لهم بنو قفل، فكان أبو حنيفة مولى لبني تيم الله١٦ فلذلك يقال أبو حنيفة التَّيْمي — يعنون أنه تيمي بالولاء — وقد شعر بعض الحنفية بغضاضة هذا الولاء، فرووا أنه من أحرار فارس ولم يجرِ عليه رق قط؛ ما دروا أن أمر العلم والدين بعيد عن الاعتزاز بالنسب والمعرة بالولاء وما إليه، وأن العلم لا يقوِّم أحدًا بقبيلته ولا ماله ولا جاهه، إنما يقوِّمه بقيمته الذاتية ومزاياه العقلية، وقبل أبي حنيفة كان كثير من سادة الفقهاء من الموالي كنافع مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رباح فقيه مكة، وطاوس بن كيسان فقيه اليمن، والحسن البصري، وابن سيرين فقيهي العراق وغيرهم. كما أن العصبية المذهبية حملت بعض الأتباع لكل مذهب أن يضعوا الأخبار لإعلاء شأن إمامهم، ومن هذا الباب ما رووا من الأحاديث بتبشير النبي لكل إمام، من مثل ما رُوِي أن النبي قال في أهل العراق: «إن الله وضع خزائن علمه فيهم»، ومثل: «يكون في أمتي رجل يقال له النعمان بن ثابت، ويكنى بأبي حنيفة يحيي الله على يديه سنتي في الإسلام» إلخ، حتى لقد زعموا أن أبا حنيفة بَشَّرت به التوراة، وكذلك فعل بعض الشافعية في الشافعي، والمالكية في مالك؛ وما كان أغناهم عن ذلك؛ ومن أجل هذا صعب على الباحث معرفة التاريخ الصحيح لكل إمام، فقد كان كلَّما أتى جيل تزيد في فضائل إمامه، كأن الفضل لا يُقوَّم إلا بالمبالغة فيه، ولذلك نرى أن ترجمة الأئمة كلَّما قاربت عصرهم، كانت أقرب إلى الصدق وأبعد عن الغلو.

أغلب المؤرخين على أن أبا حنيفة وُلِدَ بالكوفة سنة ٨٠هـ ومات ببغداد سنة ١٥٠هـ، فيكون قد عاش نحو سبعين سنة، منها نحو ٥٢ سنة في العصر الأموي ونحو ١٨ في العصر العباسي؛ إذن فقد وُلِدَ في عهد عبد الملك بن مروان، ولمَّا مات عبد الملك كان أبو حنيفة في السادسة من عمره، ونشأ في ولاية الحجاج على العراق، فقد مات الحجاج وعمر أبي حنيفة خمسة عشر عامًا، فرأى قسوة الحجاج ومعاملته للثائرين، وحروبه وسطوته وسلطانه في العراق، وكان شابًا أيام عمر بن عبد العزيز، سمع بعدله وشاهد آثاره، ورأى تدهور الأمويين، وشاهد بدء الدعوة العباسية، وسايرها حتى تمت للعباسيين، والعراقُ وما إليه كان مهدًا لهذه الدعوة، وكان مساهمًا في حرب الأمويين؛ وشاهد بعد الحجاج يزيد بن المهلب أميرًا على العراق يحكم الناس حكمًا عربيًا عصبيًا، كما شاهد إمارة خالد بن عبد الله القَسْري، ونصر بن سَيَّار، وما كان فيهما من فتن، ورأى انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين على يد قومه من الفرس، ورأى خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب على المنصور، وقالوا إنه عطف على محمد، وكان ميله معه، وأخيرًا رأى استقرار الأمر في يد العباسيين، وبناء المنصور لبغداد، وتحوُّل أبهة الدنيا وحضارتها وجمالها إليها؛ ثم مات في خلافة المنصور. كل هذه الأحداث مرّتَ على أبي حنيفة وأعمل فيها فكره، وأثرت في نفسه آثارها المختلفة، وساهم في بعضها، وكان خِرِّيجها الناشئ في أحضانها، والمتكوِّن من ذراتها، والناضج على نيرانها.

نشأ أبو حنيفة في الكوفة، وكان في زمانه بعض الصحابة وكبار التابعين، نعلم كثيرًا عن نشأته الأولى وكيفية تعلمه، وقد رووا أنه في السادسة عشرة من عمره حجَّ مع أبيه، وشهد عبد الله بن الحارث أحد الصحابة يحدِّث بما سمع عن رسول الله، وقد اجتمع عليه الناس في المسجد الحرام، فسمع أبو حنيفة منه حديثًا، كما رووا أنه سمع أنس بن مالك وأربعة غيرهما من الصحابة، وبعض العلماء يشك في ذلك. ثم رأيناه بعد نشأته الأولى في التعلُّم يجلس في حلقة المتكلمين بمسجد الكوفة، وكانت لهم حلقة بل حلقات — بجانب حلقات الفقه وحلقات الشعر وحلقات النحو — يتكلمون فيها في القضاء والقدر، والكفر والإيمان، ويستعرضون أعمال الصحابة في الحروب وغيرها، إلى غير ذلك من مسائل علم الكلام، فلمَّا بلغ في ذلك مبلغًا كبيرًا تحوَّل إلى الفقه؛ روى زفر بن الهذيل قال: «سمعت أبا حنيفة يقول: كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغًا يشار إليَّ فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يومًا فقالت: رجل له امرأة يريد أن يطلقها للسُّنَّة كم يطلقها؟ فأمرتها أن تسال حمادًا ثم ترجع فتخبرني … فرجعتَ فأخبرتني، فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد».١٧
ويروى عنه أنه قال: «كنت رجلًا أُعْطِِيت جدلًا في الكلام فمضى دهر فيه أتردد وبه أخاصم، وعنه أناضل، وكان أصحاب الخصومات والجدل أكثرها بالبصرة، فدخلت البصرة نيفًا وعشرين مرة، منها ما أقيمُ سنة وأقل وأكثر، وكنت قد نازعت طبقات الخوارج من الأباضِيَّة والصُّفرية وغيرهم … وكنت أعد الكلام أفضل العلوم، ثم علمت أنه لو كان فيه خير لتعاطاه السلف الصالح، فهجرته».١٨

وعلم الكلام قد طُعِّم بالفلسفة قبل أي علم آخر، وتأثر بها كما تأثر بآراء الأديان الأخرى للاحتكاك بها في المناظرة والدعوة إلى الدين — وقد أبنا ذلك قبل — فكان عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما في البصرة يدعون إلى الإسلام، ويردون طعن الطاعنين، ويبحثون في صفات الله، وفي العاصي: أكافر أم مؤمن؟ إلخ؛ ويطَّلعون على أقوال أهل الديانات ويفندونها بمثل حججهم الفلسفية. فالظاهر أن أبا حنيفة بدراسته لبرنامج الكلام، وبلوغه فيه مبلغًا يشار إليه بالأصابع، أكسبه قوة في المناظرة، وقدرة في المنطق، ومرانًا على الأسلوب العقلي في التفكير غير أسلوب المحدِّثين، فإن كان المحدِّثون يكتفون في الحديث ببحث الرواة، فالمتكلمون يتجاوزون ذلك أيضًا إلى النقد الخارجي، وهو موافقة الحديث لمبادئ الإسلام العامة وأصوله، ونحو ذلك كما رأيت. وقد عُرِف عن المعتزلة رؤساء المتكلمين نقد بعض الصحابة في جرأة لم يُقْدِم عليها غيرهم، ونقد بعض ما روي من الحديث في صراحة، ونجد لذلك كله أثرًا في أبي حنيفة كما سيأتي.

كذلك كان أبو حنيفة بجانب حياته العلمية يحترف التجارة، فكان خزازًا يبيع الخزَّ ويجلس في السوق، ويسمونه النعمان بن ثابت الخزازً؛ قال الأعمش وقد سُئِلَ عن مسالة: «إنما يحسن الجواب في هذا ومثله النعمان بن ثابت الخزِّاز، أراه بورك له في علمه»؛١٩ وقد أكسبه هذا أيضًا فائدة كبرى؛ إذ جعله يتصل بالحياة المالية العلمية، فيعرف حقيقة ما يجري في الأسواق، ومعاملات الناس في البيع والشراء، والنقود، والصرف، والسلم والدَّيْن وما إلى ذلك، فإذا تكلم تكلم عن علم وخبرة، ونظر وممارسة ومران.

درس أبو حنيفة الفقه في مدرسة الكوفة، وكانت مدرسة لها رجالها، ولها طابعها الخاص؛ ولتصوير أشهر رجالها نضع هذا الجدول البسيط:

figure

هؤلاء أشهر رجال مدرسة العراق، وكان لكلٍّ منهم يد في تلوينها وتشكيلها: فابن مسعود فقيه جليل يتأثر عمر بن الخطاب في دقة نظره وحريته، وعليّ بن أبي طالب خلَّف مجموعة من القضايا والفتاوى لأهل العراق حُفِظتَ عنه وعُدَّتَ دستورًا، وعلقمة كان خير تلاميذ ابن مسعود وحامل علمه وفقهه، ومسروق خلَّف لأهل العراق فتاوى كثيرة كان يُسْتَفْتَى فيها، وشريح مارس القضاء نحو ستين سنة في العصر الأموي، فلابس الحياة العملية، وقد دعم مذهب الرأي بدعائم قوية وكان له أكبر الأثر في تلوينه وتميُّزه، والشعبي — على العكس من ذلك — كان يغذي العراقيين بالحديث والآثار، فكأنه هو شريح تعاونا على تدعيم المذهب بعنصريه، كان الشعبي ينقبض للفتوى ويتهيبها شأن صاحب الآثار، وكان النخعي يتهلل لها وينبسط شأن صاحب الرأي، وكان ذلك على خلاف حياتهما العلمية؛ فقد كان الشعبي ظريفًا مبتسطًا فكهًا، فإذا جاءت الفتوى انقبض، وكان النخعي منقبضًا جادًا، فإذا جاء الرأي انشرح، ثم جاء حماد بن أبي سليمان فجمع ذلك كله في صدره وأسلمه لأبي حنيفة فصاغه مذهبًا، ولعلك لاحظت معي كثرة النَّخَعيين في هذه المدرسة، فعلقمة نخعي، والأسود نخعي، وإبراهيم نخعي، ثم مسروق بن الأجدع هَمْدَاني، ثم عامر الشعبي نسبة إلى شَعْب وهو بطن من هَمْدَان، والنَّخَع وهَمْدَان قبيلتان يمنيتان، وشريح كندي، وكندة من اليمن، وحماد بن أبي سليمان أشعري بالولاء، وأشْعَر قبيلة من اليمن. ونحن نعلم أن معاذ بن جبل أرسله النبي قاضيًا على الجند باليمن يعلِّم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن؛ كان معاذ من أعلم الصحابة بالحلال والحرام، وهو صاحب الحديث المشهور الذي هو دعامة أهل الرأي، وهو أن رسول الله قال لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن: بِمَ تقضي؟ قال: بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بما في سنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال اجتهد رأيي — فلعل هؤلاء اليمنيين كانوا متأثرين بمبدأ معاذ وتعاليمه وفقهه — وبالفعل نجد بعض أعلام هذه المدرسة كالأسود بن يزيد النخعي من تلاميذ معاذ بن جبل.

•••

أخذ أبو حنيفة الفقه عن كثير: فسمع من عطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة، ونافع مولى ابن عمر، ولكن أستاذه الذي أخذه عنه أكثر علمه حمَّاد بن أبي سليمان الأشعري، وقد كان حمَّاد واسع العلم فقيهًا، قال فيه النسائي: إنه «ثقة مرجئ»، وكان غنيًا سمحًا كريمًا، مات سنة ١٢٠؛ كانت له حلقة كبيرة في مسجد الكوفة، يجلس إليه فيها المتعلمون يعلِّمهم ويسألونه، ويأتي إليه أصحاب الحاجات في المسائل التي تَعْرِض لهم فيستفتونه، وقد لزمه أبو حنيفة نحو ثمانية عشر عامًا لِمَا رأى من علمه، فقد كان يقول: «حمَّاد أعلم مَنْ رأيت»، جالسه أولًا نحو عشر سنوات ثم حدثته نفسه أن يستقل ويكوِّن لنفسه حلقة خاصة، ثم خجل من شيخه، وأتيحت له فرصة ذهاب حمَّاد إلى البصرة، فجلس مكانه يعلِّم ويفتي، وعُرِضت عليه نحو ستين مسالة جديدة لم يسمع فيها رأي شيخه، فلمَّا عاد سأله فيها فأقره على أربعين منها، وخالفه في عشرين، فلزمه حتى مات.٢٠ وإذ قد علمنا أن حمَّادًا مات سنة ١٢٠ فيكون أبو حنيفة قد لازمه إلى أن بلغ سنه نحو الأربعين، وقد كان يجادل شيخه ويناقشه ويلازمه، حتى رُوِي عنه أنه قال: «لزمت حمادًا لزومًا ما أعلم أحدًا لزم أحدًا مثل ما لزمته، وكنت أكثر السؤال فربما تبرَّم مني ويقول: يا أبا حنيفة قد انتفخ جنبي وضاق صدري»؛ وحتى رُوِي أنه قال له يومًا: «أنزْفتَني»، أي أخذت كل ما عندي، وهي عبارة قيلت قبلُ من سعيد بن المسيب لقتَادة. ولمَّا مات حماد نظر أصحابه في مَنْ يجلس مجلسه، ويترأس حلقته، فاختاروا ابنه إسماعيل بن حماد، ولكنه كان أميل إلى الأدب من شعر ومعرفة بأيام العرب، فتنحى عن الحلقة فترأسها موسى بن أبي كثير، ولم يكن بارعًا في الفقه ولكنه لقي المشايخ الكبار وجالسهم، ثم خرج حاجًا فجلس مكانه أبو حنيفة وملأ مكان حماد، واستمر في هذه الحلقة يعلِّم الناس ويفتي نحو ثلاثين سنة إلى أن مات سنة ١٥٠.
كل الأخبار تدل على أنه كان في سعة من العيش، ولعل ذلك كان من تجارته، فقد علمنا أنه كان بزازًا، وله دكان في دار عمرو بن حُرَيث، وكان طويلًا تعلوه سمرة، لَبّاسًا، حسن الهيئة، كثير التعطر؛ يعرف بريح الطِّيب إذا أقبل وإذا خرج من منزله قبل أن تراه».٢١
وقد رُوِي أنه أُرِيدَ على القضاء مرتين فامتنع، إحداهما في العهد الأموي، أراده ابن هبيرة — عامل مروان بن محمد آخر بني آميَّة على العراق — فأبى، فضربه بالسوط، وفي رواية أنه أراده ليكون على بيت المال فأبى فضربه؛ والأخرى في العهد العباسي: أشخصه أبو جعفر من الكوفة على بغداد، ثم أراده على القضاء فأبى حبسه فمات في الحبس، والروايات في هذه الحادثة مختلفة، فبعضهم يرويها على هذا الوجه، وآخرون يروون أن المنصور هدده بالضرب فَقبِلَ القضاء على كره، ثم مات بعد أيام، وغيرهم يروون أن المنصور هدده بالضرب فَقبِلَ القضاءَ على كره، ثم مات بعد أيام، وغيرهم يروي أن المنصور إنما استقدمه من الكوفة لأنه اتُّهم بالتشيع لإبراهيم العلوي، فعاش خمسة عشر يومًا ثم سمَّه فمات. فالروايات مجمعة على استدعاء المنصور له، ومجمعة على أنه مات بعد استدعائه بقليل، وأنه مات في بغداد وقبره إلى الآن في بغداد شاهد على ذلك. ونحن نستبعد سمََّ المنصور له؛ فقد كان للمنصور من القوة إذ ذاك ما يخوِّل له القتل علنًا إن شاء، وقد سبق أن قتل أبا مسلم الخرساني، وهو ما هو في قوته وتعلُّق الجند به، كما قتل غير أبي مسلم من ذوي الوجاهة والعزة، ونرجح الرواية الأولى من إرادته على القضاء وامتناعه وسجنه وتعذيبه؛ ويظهر أن هذا التعذيب والسجن ليس عقوبة على إبائه القضاء؛ لأن أمام المنصور كثير من العلماء يرغبون في هذا المنصب، وقد أراد الليث بن سعد على القضاء فأبى فتركه من غير أن يعذبه كما مَّر، ولكنه استدل من إباء أبي حنيفة على صحة ماأُتُّهم به من التشيع وعدم رضائه عن دولتهم؛ وقد رُوِي عن أبي حنيفة أشياء من ذلك، فقد رُوِى زفر بن الهذيل أن أبا حنيفة كان يجهر بالكلام (يعني ضد المنصور) أيام إبراهيم (يعني أخا النفس الزكية، وكان قد خرج على المنصور) جهارًا شديدًا، فقلت له: والله ما أنت بمنتهٍ حتى توضع الحبال في أعناقنا.٢٢ كما رُوِي أن المنصور كتب كتابين للأعمش وأبي حنيفة على لسان إبراهيم بن عبد الله ابن حسن، وبعث بهما مع مَنْ يثق به، فقرأ الكتابَ الأعمش وأطعمه الشاة، وأمَّا أبو حنيفة فقبَّل الكتاب وأجاب عنه فلم يزل في نفس أبي جعفر منه شيء حتى فعل به ما فعل.٢٣
فالغالب أن أبا حنيفة كان أميل — في الفتنة التي قامت بين العلويين والعباسيين — إلى محمد بن عبد الله النفس الزكية وأخيه إبراهيم، وكان يرى أن محمدًا أحق بالخلافة، وكان ناقمًا على العباسيين سطوتهم وشدتهم، وكثير من العلماء في هذا العصر كانوا على هذا الرأي، وكان امتحان العباسيين لهم ولميولهم مظهره عرض الوظائف عليهم، والاستدلال بإبائهم أو قبولهم على ميولهم، كما لا ننكر أنه كانت هناك نزعة عند بعض العلماء ترى أن في تولِّي الوظائف السلطانية تعريض الدين للخطر، حتى أن كثيرًا من المحدّثين لا يروون حديث مَنْ تقرب إلي السلطان وأن كثيرًا عابوا أبو يوسف من أجل تولِّيه القضاء؛ والحكايات من هذا القبيل كثيرة، قال محمد بن جرير الطبري: «إنه قد تحامى حديث أبي يوسف قوم من أهل الحديث، من أجل غلبة الرأي عليه وتَفريعه الفروع والأحكام، مع صحبة السلطان وتقلُّده القضاء».٢٤ ولعل السببين معًا كانا هما الباعثين لأبي حنيفة على امتناعه من تولِّي القضاء في العهد الأموي، وهو يرى الدولة قاسية شديدة مضطربة وقومه الفرس يخرجون عليها ويبثون الدعوة ضدها، وفي الدولة العباسية ظلم وعسف واغتصاب الخلافة من العلويين، هذا إلى ما في القضاء من تعرُّض لغضب السلطان إن أرضى الله، وغضب الله إن أرضى السلطان؛ وفي بعض الروايات أنه قال للمنصور: «لو هددتني أن تغرقني في الفرات أو أن أَلِي الحكم لاخترت أن أغرق فلك حاشية يحتاجون إلى مَنْ يكرمهم لك، فلا أصلح لذلك».٢٥

وقد روى بعضهم أن أبا حنيفة تولَّى للمنصور عدَّ اللبِن في بناء بغداد، ويقول الخطيب إن العامة هي التي تدعي ذلك.

منحاه في الاجتهاد: مسلك أبي حنيفة في القرآن الكريم مسلك كل الأئمة، إن اختلفوا في شيء فيه فاختلاف في فهم مدلوله وإشارته وطرق الاستنباط منه. أمَّا في الحديث فكان له مسلك خاص، وهو التشدد في قبول الحديث، والتحري عنه وعن رجاله حتى يصح، وكان لا يقبل الخبر عن رسول الله إلا إذا رواه جماعة في جماعة، أو كما يعبرون هم إذا كان خبر عامة عن عامة، أو كان خبرًا اتفق فقهاء الأمصار على العمل به، أو روى واحد من الصحابة الحديث عن رسول الله في جمع منهم، فلم يخالفه أحد؛ لأن هذا يدل على إقرارهم له، ولو كانوا يخالفونه لردوا عليه، فكان هذا بمثابة الحديث يرويه جماعة؛ قال أبو يوسف: فعليك من الحديث بما تعرف العامة،٢٦ وإياك والشاذ منه؛ فإنه حدثنا ابن أبي كريمة عن أبي جعفر أن رسول الله دعا اليهود فحدثوه حتى كذبوا علي عيسى (عليه السلام)، فصعد النبى المنبر فخطب الناس فقال: إن الحديث سيفشو عليّ فما آتاكم عني يوافق القرآن فهو مني، وما آتاكم عني يخالف القرآن فليس مني.. وكان عمر فيما بلغنا لا يقبل الحديث عن رسول الله إلا بشاهدين، وكان عليّ بن أبي طالب لا يقبل الحديث عن رسول الله، والرواية تزداد كثرة، ويخرج منها ما لا يُعْرَف ولا يَعرفه أهل الفقه، ولا يوافق الكتاب ولا السنة، فإياك وشاذ الحديث، وعليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه الفقهاء، فقسْ الأشياء على ذلك، فما خالف القرآن فليس عن رسول الله وإن جاءت به الرواية.. فاجعل القرآن والسنة المعروفة لك إمامًا وقائدًا، واتبع ذلك وقسْ عليه ما يرد عليك مما لم يوضح لك في القرآن والسنة».٢٧
فأبو يوسف رسم في هذا القول الخطة التي كان يسير عليها هو وشيخه أبو حنيفة نحو الحديث، وخلاصتها تضييق دائرة ما يُعْمَلُ به من الحديث والاقتصار منه على المعروف المشهور الذي عرفه عامة الفقهاء، وعدم الأخذ بالأحاديث التي لم تستوفِ هذه الشروط. رُوِي عن يحيى بن نصر أنه قال: «سمعت أبا حنيفة يقول: عندي صناديق من الحديث ما أخرجت منها إلا اليسير الذي ينتفع به».٢٨
ورُوِي عن أبي يوسف أنه قال: «كان أبا حنيفة لا يرى أن يروي من الحديث إلا ما حفظه عن الذي سمعه منه»٢٩ وقال: «رَدِّي على كل رجل يحدِّث عن النبي بخلاف القرآن ليس ردًا على النبي ولا تكذيبًا له ولكنه ردٌّ على مَنْ يحدِّث عنه بالباطل، والتهمة دخلت عليه ليس على نبي الله، وكل شيء تكلَّم به النبي فعلى الرأس والعين قد آمنا به، وشهدنا أنه كما قال، ونشهد أيضًا أنه لم يأمر بشيء يخالف أمر الله، ولم يبتدع، ولم يتقوَّل غير ما قال الله، ولا كان المتكلِّفين».٣٠ وعلى الجملة فقد كان يشدد في الأخذ بالحديث، وهذا — من غير شك — يضطره إلى التوسع في القياس والاستحسان فما لم يكن فيه أثر كتاب ولا أثر صحيح، فليس فيه أمام المجتهد إلا القياس والاستحسان.
كذلك كان من مبدئه إعمالُ عقله فيما إذا رُوِي في المسألة ٣١٩ قولان أو أكثر للصحابة فيختار منها أعدلها أو أقربها إلى الأصول العامة، وعدم الاعتداد بأقوال التابعين إلا أن يوافق اجتهاده، فقد رُوِي عنه أنه قال: «إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله والآثار الصحاح عن التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه مَنْ شئت، وأدع قول مَنْ شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين، وسعيد بن المسيب؛ فلي أن أجتهد كما اجتهدوا»،٣١ وهذا المنهج يُسلم إلى عدم التزام العمل بالمأثور عن التابعين، ثم يسلم بعد إلى القياس والاستحسان.

فهذا التشدد في قبول الحديث، وهذه الحرية في وزن أقوال الصحابة والتابعين مضافًا إليهما ما ذكرنا قبل من أسباب، جعلت القياس أساسًا كبيرًا من أسس التشريع في فقه أبي حنيفة.

وفي الواقع كان أبو حنيفة قيَّاسًا، سلك في القياس مسلكًا فاق فيه كل مَنْ سبقه، وأعانه على ذلك ملكاته الخْلقية، فكان دقيق النظر، سريع الخاطر في إدراك ما بين الأشياء من فروق وموافقات، قوي الحجة حتى كان — كما قالوا — لو أراد أن يقيم الحجة على أن هذه السارية ذهبٌ لفعل. وزاده ظهورًا في ذلك أنه لم يكن يتحرج من الُفْتَيا تََحُّرج أهل الحديث، فليس يهمه أوَقع الأمر أم لم يقع، وكان حقيقيًا أم فَرْضيا، بل يقول كما قال لقتادة: «إن العلماء يستعدون للبلاء ويتحرزون من قبل نزوله»؛ وُذكِرَ عنده مرة قولُ مَنْ قال: لا أدري نصف العلم، قال أبو حنيفة: فليقل «لا أدري» مرتين ليستكمل العلم؛ ولذلك كان كثيرًا ما سُئِلَ وكثيرًا ما أجاب، حتى رُوِي أنه قال ستين ألف مسألة، وقال بعضهم ثلاثة وثمانين ألفًا، ثمانية وثلاثين ألفًا في العبادات، وخمسة وأربعين ألفًا في المعاملات؛٣٢ ومهما كان العدد مبالغًا فيه فإنه يدلنا على كثرة ما سُئِلَ وما أجاب، وما فرَّع وما علَّم، وهذا لا يتأتى مع الصحة والضبط ودقة النظر إلا من عقل قانوني كبير مرن، حتى كأن أصول الفقه الأربعة هي قواعد الحساب الأربع، تعرض فيها المسائل فيطبِّقَها على هذه القواعد، ويحلُّها في سهولة على مقتضاها، ثم هو يجادل ويعارض فيما يفتي فيقيم الحجج القوية على ما رأى وما أفتى، وقد حُكِي عنه من هذا الشيءُ الكثير في كتب المناقب إن بولغ في بعضه فالأصل صحيح.

وقد نازله فقهاء عصره ونازلهم فانتصف منهم في الأغلب، ونسوق لك أمثلة قليلة مما رُوِي، سُئِلَ عن رجلين اشتركا في ثلاثة دراهم دفع أحدهم درهمين والآخر واحدًا واختلطت الدراهم، ثم ضاع درهمان من الثلاثة، فقال أبو حنيفة: الدرهم الباقي بينهما أثلاثًا، ثلث لذي الدرهم، والثلثان لذي الدرهمين؛ و سُئِلَ فيهما ابن ُ شُبْرُمة فقال: إن الدرهم الباقي بينهما أنصافًا، لكل نصف. حجة ابن شبرمة أن درهمًا من الدرهمين الضائعين هو من مال دافع الدرهمين بيقين، والدرهم الثاني من الدرهمين الضائعين هو من مال دافع الدرهمين بيقين، والدرهم الثاني من الدرهمين الضائعين مشكوك فيه فيكون منهما، فيكون الدرهم الثاني مناصفة؛ وحجة أبي حنيفة أن الدراهم الثلاثة لمَّا خُلِطتَ أصبح كل درهم مشتركًا، لصاحب الدرهم ثلثه، ولصاحب الدرهمين ثلثاه، فأي درهم ذهب فهذا حكمه، والدرهم الباقي هذا حكمه أيضًا، ثلثه لذي الدرهم وثلثاه لذي الدرهمين. وفي هذا مثل من أمثلة الرأي الذي كان يستعمل؛ وسُئِلَ: ما قولك في الشرب في قدح أو كأس في بعض جوانبها فضة؟ فقال: لا بأس به، فقيل له أليس قد ورد النهي عن الشرب في إناء الفضة والذهب؟ فقال أبو حنيفة: ما تقول في رجل مرَّ على نهر، وقد أصابه عطش، وليس معه إناء فاغترف الماء من النهر فشربه بكفه وفي أصبعه خاتم؟ فقال مناظره: لا بأس بذلك، قال أبو حنيفة: فهذا كذلك.

وجاءه جماعة من أهل المدينة ليناظروه في القراءة خلف الإمام (وأبو حنيفة يقول بعدم القراءة)، فقال لهم لا يمكنني مناظرة الجميع، فولُّوا الكلام أعلمكم، فأشاروا إلى واحد، فقال: هذا أعلمكم؟ والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا: نعم، قال: والحجة عليه كالحجة عليكم؟ قالوا: نعم، قال: إن ناظرته لزمتكم الحجة؛ لأنكم اخترتموه فجعلتم كلامه كلامكم، وكذا نحن اخترنا الإمام فقراءته قراءتنا.

ومثل هذه مئات من المسائل استعمل فيها الرأي أو القياس أو الاستحسان، ذُكِرتَ في كتب الفقه وكتب المناقب، يطول بنا القول لو أكثرنا منها، حتى ذكروا أنه كان مولعًا بالقياس أيضًا في حياته العادية، فقد رووا أنه أمر حَجَّامه أن يلقط الشعر الأبيض من رأسه أو لحيته، قال: إن لقطتها كثرت، قال: إذن القط السود حتى تكثر. وتنادروا عليه في استعمال القياس بأنه كان في مبدأ أمره يشتغل بالنحو، ويريد أن يجري القياس فيه، فجَمَع كلبًا على كلوب قياسًا على قلب وقلوب.٣٣
وروى الجاحظ عن حماد بن سلمة قال: كان رجل في الجاهلية معه محجن يتناول به متاع الحاج سرقة، فإذا قيل له سرقت، قال لم أسرق إنما سرق محجني، فقال حماد لو كان هذا اليوم حيَّا لكان من أصحاب أبي حنيفة.٣٤

وعلى الجملة فقد مَهَرَ في القياس، وطبَّقه تطبيقًا واسعًا أثَّر في الفقه أثرًا كبيرًا من كثرة الفروع وتحديد وجوه المشابهات، وتسليح المجتهد سلاحًا قويا في الإفتاء. وقد لا تدرك كبير فرق فيما لدينا من كتب الفقه في المذاهب المختلفة، كمذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة، ومن أجل هذا قال بعض المستشرقين إن الفروق بين المذاهب قليلة؛ ولكن في رأيي أن هذه القلة إنما كانت في كتب تلاميذ الأئمة؛ لأن تلاميذ أبي حنيفة أخذوا ما احتاجوا إليه من الحديث، وتلاميذ مالك توسعَّوا في اقتباس ما هم في حاجة إليه من القياس فتقاربت المذاهب، أمَّا في عصر أبي حنيفة ومالك نفسيهما فالفرق كان كبيرًا.

كذلك عُرِفَ أبو حنيفة بالمهارة في فقه الحديث، أعني أنه كان يسمع الحديث ويصحُّ عنده، فيستطيع أن يفرغ منه الفروع ويستخرج منه الأحكام الفقهية في مهارة. سأله الأعمش (وهو من كبار المحدِّثين) عن مسائل فأفتاه، فقال له الأعمش: من أين لك هذا؟ قال: أنت حدثتني عن إبراهيم بكذا، وحدثتني عن الشعبي بكذا، فقال الأعمش: يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة.٣٥

ومن أجل هذا فرََّقوا بين المحدِّث والفقيه، فقد يكون الرجل محدِّثًا لا فقهيًا وقد يكون قليل الحديث وهو فقيه.

•••

ومن الأمور الظاهرة في فقه أبي حنيفة الحيل الشرعية، وقد أصبحت فيما بعد بابًا واسعًا من أبواب الفقه في مذهب أبي حنيفة وغيره في المذاهب، وإن كانت في مذهب الحنفية أظهر، وأُلِّفت فيها الكتب الخاصة، حتى لقد وضعت فيما بعد حيل للهروب من كل الالتزام، فحيل لإسقاط الشفعة، وحيل لتخصيص بعض الورثة بالوصية، وحيل في إسقاط حد السرقة وهكذا،٣٦ وقد خصّص ابن القيم جزءًا كبيرًا من كتابه إعلام الموقعين في الكلام في الحيل، وفي قيمتها والتشنيع على مَنْ توسَّع فيها.٣٧ وقد قال إن تجويز الحيل يضر بالشرائع؛ لأن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيله، وقال: «إن المتأخرين أحدثوا حيلًا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ونسبوها إلى الأئمة وهم مخطئون في نسبتها إليهم.. ومَنْ عرف سيرة الشافعي وفضله ومكانه من الإسلام، علم أنه لم يكن معروفًا بفعل الحيل ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشير على مسلم بها، وأكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون إلى مذهبه من تصرفاتهم، تلقوها عن المشرقيين وأدخلوها في مذهبه».٣٨ وقد أطال في أقسام الحيل وما يجوز منها وما لا يجوز، فما كان من الحيل لأخذ أموال الناس وظلمهم في نفوسهم وسفك دمائهم، وإبطال حقوقهم، وإفساد ذات بينهم، فهي محرمة … ولا يختلف المسلمون أن تعليم هذه الحيل حرام والإفتاء بها حرام، والشهادة على مضمونها حرام، والحكم بها مع العلم بحالها حرام … وهناك حيل للتوصل إلى الحق أو لدفع الظلم بطريق مباحةٍ، وهذا جائز إلى آخر ما قال٣٩ وقد ضرب أمثلة كثيرة لذلك.
وقد رُوِيتَ عن أبي حنيفة مسائل في هذا الباب، أكثرها من باب الأيمان والطلاق، ومنها يظهر أن سكان العراق تفننوا في الأيمان والطلاق تفننًا عجيبًا، وكانوا يستفتون الأئمة في هذه الأيمان العجيبة التي يوقعونها، فيحلف «الأعمش» بطلاق امرأته إن أخبرته بفناء الدقيق أو كتبت به أو راسلته، أو ذكرت لأحد ليذكره له، أو أومأت في ذلك، فتسأل امرأته أبا حنيفة، فيحتال لمخرج لهذا، فيقول لها: إذا انتهى الدقيق فشدي جراب الدقيق على إزاره أو ثوبه وهو نائم، فإذا أصبح أو قام من الليل علم خلاء الجراب وفناء الدقيق.٤٠ ويحلف آخر ليقربن امرأته نهارًا في رمضان. فيفتيه أبو حنيفة أن يسافر بها فيقربها نهارًا في رمضان. ويحلف رجل وقد رأى امرأته على السلُّم فيقول: أنت طالق ثلاثًا إن صعدت وطالق ثلاثًا إن نزلت، فيفتيه أبو حنيفة أن تقف المرأة على السلم ولا تصعد ولا تنزل، ويحتال جماعة يحملون السلم بالمرأة فيضعونها على الأرض٤١ ويسأله رجل فيقول: لي ولد ليس لي غيره فإن زوَّجته طَلَّق، وإن سَرَّيته أعتق، وقد عجزت عن هذا فهل من حيلة؟ فقال له أبو حنيفة: اشترِ الجارية — التي يرضاها هو — لنفسك، ثم زوِّجْها منه فإن طَّلق رجعت مملوكتك إليك وإن أعتق أعتق ما لا يملك،٤٢ إلى أمثال ذلك. فنرى من مجموع هذا أن الحيل التي أفتى بها أبو حنيفة ليست من نوع التحايل على إبطال الحق أو أكل الأموال بالباطل ونحو ذلك، إنما هي استخراج فقهي للخروج من مأزق، مع عدم التعدي على أحد في ماله ونفسه.
ويظهر أن هذا الباب أُسْتُغِلَ بعد من ناحيتين:
  • (١)

    فبعد أن وقعت حوادث قليلة من هذا القبيل، تُوُسِّع فيها من طريق الفرض، وسبَحَ الخيال يستخرج فروضًا عديدة، خصوصًا في الأيمان والطلاق، لم تحدث ولن تحدث، ولكن الخيال يتوهمها، والفقيه الفرضي يتمرن على حلها.

  • (٢)

    والأمر الثاني ما أشار إليه ابن القيم من أن المتأخرين ارتكنوا على هذه المسائل القليلة الواردة عن الأئمة وتوسَّعوا فيها حتى جعلوا في كل باب من أبواب الفقه، ولم يقفوا عند الحدود التي وقفت فيها الأئمة، بل جعلوا منها ما يحتال به على إضاعة الحقوق وإفساد الالتزامات.

•••

مما لا شك فيه أن أبا حنيفة خرج على الناس بمذهب جديد، فيه حرية للعقل بكثرة استعمال الرأي والقياس، وبما استتبع ذلك من كثرة الفروع ورجوعها إلى أصول، وبمقدرة فائقة في الاستنباط، وبشجاعة في مواجهة المسائل حتى الفرضية منها والإفتاء فيها، وبتعرف وجوه الحيل في المسائل، في الحدود التي ذكرناها، وبتقريب الفقه إلى الأذهان، حتى قال الجاحظ: «وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن، ويجالس الفقهاء خمسين عامًا، وهو لايعُدُّ فقيهًا ولا يجعل قاضيًا، فما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة، ويحفظ كتب الشروط في مقدار سنة أو سنتين، حتى تمرَّ ببابه فتظن أنه من بعض العمال وبالحري ألا يمر عليه من الأيام إلا اليسير حتى يصير حاكمًا على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان».٤٣

وطبيعي أنتُحدِثَ هذه المبادئ ثورة فكرية عنيفة، وتقسم الناس إلى قسمين: مؤيد لها وناصر، وهاجٍ لها وقادح، وكذلك كان؛ فقد وقف العراق في أمر أبي حنيفة معسكرين يتنازعان، ووقف المؤيدون لمذهب أبي حنيفة من العراقيين أمام المدنيين كذلك يتنازعون، ويترامون بالأقوال، هؤلاء ينصرون أبا حنيفة ويبينون فضله ومزاياه، ووجوه تفضيل مذهبه على غيره، وهؤلاء يضعون من شأنه ويرون أنه خطر على الدين، وأن طريقته تخالف طريقة المتقدمين، وخلَّف لنا كل معسكر تراثًا من آرائه وأقواله؛ وقد عقد الخطيب البغدادي فصلًا طويلًا نقل فيه أكثر ما قاله الفريقان، وكذلك فعل ابن عبد البر في كتابه الانتقاء.

وكان أكثر الذين عادَوه من أصحاب الحديث، وطبيعي أن يكون ذلك لأن منهجه غير منهجهم، فهم يروون الحديث ويكتفون في تصحيحه بأن الراوي غير مجرَّح، وهو يشتدد في روايته على النحو الذي ذكرناه، فإذا رد آثارًا ولم يعمل بها هاجوا عليه وقدحوا فيه. وكذلك عاداه الفقهاء من مدرسة الحديث؛ لأنه كان يستعمل القياس مع وجود الحديث في نظرهم، مع أن الحديث لم يصح عنده فتركه إلى القياس، فإذا رد الحديث ونطق بما يفيد أنه لم يثبت عنده شنَّعوا عليه بأنه أكذب الحديثَ؛ فقد سأله رجل عن شيء، فأجاب فيه، فقال له الرجل: إنه يروي فيه عن النبي كذا، فقال أبو حنيفة: دعنا من هذا؛ وحدثه أبو إسحق الفزاري حديثًا، فقال أبو حنيفة: هذا حديثًا خرافة؛ وحدُّثه أحدهم حديث «البَيَّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فقال أبو حنيفة: أرأيت إن كانا في سفينة؟ أرأيت إن كانا في سجن؟ أرأيت إن كانا في سفر؟».

ورُوِي له أن يهوديًا رضخ رأس جارية بين حجرين، فرضخ النبي رأسه بين حجرين، فقال أبو حنيفة: هذا هذيان. رووا هذا وأمثاله، والظاهر منها أن أبا حنيفة كان ينكر هذه الأحاديث؛ لأنها لم تصح عنده، فشنَّع المحدِّثون عليه، وقالوا: إنه ينكر قول الرسول ويقدِّم عليه رأيه، ويقولون: ما رأينا أجرأ على الله من أبي حنيفة، كان يضرب الأمثال لحديث رسول الله، وأحصوا عليه أنه أفتى بنحو مائتي مسألة خالف فيها الحديث؛ قال رسول الله: «للفرس سهمان وللرجل سهم» فقال أبو حنيفة؛ أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن؛ وقال : «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا» وقال أبو حنيفة: إذا وجب البيع فلا خيار؛ وكان النبي يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، وقال أبو حنيفة: القرعة قمار إلخ. ووضح في هذا كله أن الشروط الدقيقة التي اشترطها في الأخذ بالحديث خالفت بين أنظاره وأنظارهم، وجعلت الحديث يصح عندهم ولا يصح عنده، فإذا استعمل القياس لأن الحديث لم يصح عنده اتهموه بأنه يقدِّم رأيه على الحديث، وقالوا: إنه استقبل الآثار واستدبرها برأيه، إلى كثير من أمثال هذا التشنيع. وما من أحد من الأئمة إلا كان له مثل هذا الموقف حين لا يصح عنده حديث صح عند غيره فلا يأخذ به، وإن كان أبو حنيفة في ذلك أكثر، للأسباب التي أبنَّاها.

نقم عليه المحدِّثون والفقهاء كثرة استعماله للرأي والقياس، وشنَّعوا عليه بأن ذلك من قبيل اتباع الهوى. وفرق كبير بين اتباع الهوى واستعمال الرأي بعد ذلك الجهد، فاتباع الهوى الميل إلى الرأي لتحصيل مصلحة خاصة من مال أو جاه، أمَّا الرأي بمعنى بذل الجهد ثم الوصول بعد ذلك إلى ما يعتقده الحق فليس من الهوى في شيء؛ وقد رُوِي عن كثير من هؤلاء أقوال في تجريح أبي حنيفة، كمالك بن أنس والأوزاعي وسفيان الثوري، ومن الغريب أن يُنْقَلَ إلينا عن بعضهم كسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أقوال متناقضة بعضها في مدحه والاعتراف بفقهه وفضله، وبعضها في نقده من هذه النواحي أيضًا.٤٤ فإمَّا أن يكون لهم رأي فيه قد عدلوا عنه إلى غيره، وإما أن تكون الأقوال في إحدى الناحيتين موضوعة مختلفة، والوقوف على أصحها عسير. ويقول ابن عبد البر: إن ممَنْ جرح أبا حنيفة أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وعدَّه في الضعفاء والمتروكين.٤٥ ولم يُرْوَ عنه ولا حديث واحد في صحيح البخاري ومسلم، ولكن رُوِى له النسائي والترمذي، كما تعصَّب له آخرون من العلماء مثل شعبة بن الحجاج وابن جريج، ويحيى بن مَعين وغيرهم.
كذلك نقده بعضهم في مسألة الحيل التي ألممنا بها قبل، وعقد لذلك البخاري بابًا في كتابه الجامع الصحيح، وعناه بقوله: «وقال بعض الناس إن أحكام الله شُرِعتَ لجلب مصالح إلينا أو دفع مضار، ومن أمحل المحال أن يشرع من الحيل ما يُسْقط شيئًا أوجبه أو يُحِل شيئًا حرَّمه إلخ».٤٦ وقد رأيت أن أبا حنيفة نفسه لم يتوسع في الحيل توسُّع من بعده، ولم يستجز إلا ضروبًا محدودة منها. ونقدوه كذلك لقوله بالإرجاء، وسنعرض لذلك بعد.
نرى من كل هذا كيف كان أبو حنيفة وفقهه مبعثًا لحركة فكرية عنيفة أقامها حوله رجال الحديث حينًا، وأقامها مَنْ ليسوا على مذهبه في منهج التشريع، وأقامها أعداء له وخصوم، كابن أبي لَيْلَى، وكان قاضي الكوفة للأمويين والعباسيين، وكان معاصرًا لأبي حنيفة، وكان أبو حنيفة يفتي أحيانًا بغير رأيه، ويُجَهِّله في بعض قضاياه ويبين خطأه، فاستعدى عليه الولاة. وخير ما قيل في هذا الباب ما قاله ابن عبد البر: «إن كثيرًا من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لردِّه كثيرًا من أخبار الآحاد العدول؛ لأنَّه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجْتُمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذَّ عن ذلك ردَّه وسمَّاه شاذًا، وكان مع ذلك أيضًا يقول الطاعات من الصلاة وغيرها لا تُسمى إيمانًا (أي لأن الإيمان اعتقاد بالقلب)، وكل مَنْ قال من أهل السنة والإيمان قول وعمل ينكرون قوله، ويُبدِّعوَنه بذلك. وكان مع ذلك محسودًا لفهمه وفطنته»٤٧ وتدخَّل الشعراء في النزاع، روى ابن قتيبة عن شقيق البلخي أّنه أطرى أبا حنيفة بمرو، فقال له علي بن إسحاق لا تطره بمرو فإنهم لا يحتملون ذلك، فقال شقيق: قد مدحه مُسَاور الشاعر فقال:
إذا ما الناس يومًا قَايَسُونا
بآبِدةٍ من الفُتْيَا َ ظَريَفةْ
أتيناهُمْ بمقياسٍ صحيحٍ
تِلادٍ من طِرازِ أبي حنيفَهْ
إذا سمعَ الفقيهُ بها دَعاهَا
وأثبتها بحِبْرٍ في صحيَفهْ

فقال له قد أجابه بعض أصحابنا:

إذا ذوي الرأي خَاصَمَ في قياسٍ
وجاء بِبدعةٍ هَنَةٍ سخِفْهَ
أتيناهُمُ بقول الله فيها
وآثارٍ مبرَّزة شريفَهْ
فكم من فَرْجِ مُحْصَنَةٍ عَفِيفٍ
أُحِلَّ حَرَامُهُ بأبِي حنيَفْه٤٨

وفضَّل شاعرٌ أهل الكوفة على أهل المدينة في الفقه فقال:

وليس يعرفُ هذا الدِّينَ نُعَلمُهُ
إلا حَنِيفيَّةٌ كُوَفِِيَّةُ الدُّورِ
لا تسألنَّ مدِينيًا فتَخْرِجَهُ
إلا عَنِ البَمِّ والمثَناةِ والزَّيرِ

فأجابه رجل من أهل المدينة:

لقد عجبتُ لغِاوٍٍ سَاقَهُ قَدَرٌ
وكل أمرٍ إذا ما حُمَّ مقدُروُ
قال المدينة أرضٌ لا يكونُ بها
إلا الغِناء وإلا البَمُّ والزيِّرُ
لقد كذبتَ لعمرُ الله إنَّ بها
قبرَ الرسولِ، وخيْرُ النَّاسِ مقبورُ

ومهما قيل فإن هذه الحركة القوية، وهذا النزاع الشديد بين أصحاب الرأي والحديث، رقَّى الفقه في هذا العصر رقيًا عظيمًا، وفتق الأذهان واستخرج منها أحكامًا ونظريات هي خير نتاج العصور الإسلامية.

•••

لم يصل إلينا أي كتاب في الققه لأبي حنيفة، ويظهر أنه لم يؤلف في ذلك، وكل ما رواه ابن النديم عن كتبه هي كتاب الفقه الأكبر، ورسالته إلى البستي، وكتاب العالم والمتعلم، وكتاب الردُّ على القدرية؛٤٩ فيظهر أنه لم يدوِّن في الفقه، ولكن تلاميذه كانوا يحفظون أقواله ويكتبونها عنه، فنقلوا إلينا أقواله في كل باب من أبواب الفقه.
أمَّا كتابه في الفقه الأكبر الذي ذكره ابن النديم فمختلفون فيه؛ ذلك أنه وصل إلينا كتاب صغير في العقائد اسمه الفقه الأكبر في ورقات، رُوِي بروايات مختلفة، وطُبِِعَ في الهند مع شروحه، وبعض هذه الروايات غير صحيح؛ لأنه يحتج على الأشعرية ولهم، والأشعريُّ كان بعد أبي حنيفة بنحو قرنين، وبعضهم يروي أن الفقه الأكبر ليس ما بين أيدينا، وإنما هو كتاب في الفقه كبير حوى نحو ستين ألف مسألة٥٠ والأرجح عندي أنه لم يدوِّن في الفقه؛ لأن حركة التدوين في العصر العباسي أدركته وهو متقدِّم في السن، وأن الفقه الأكبر كان في العقيدة، ولا يعُدُّ هذا تدوينًا لأنه رسالة كالرسائل التي يرسلها العلماء بعضهم إلى بعض، وأن الفقه الأكبر الذي بين أيدينا أساسه صحيح النسبة لأبي حنيفة وإن زيِِد عليه بعد، كما سنبحث ذلك عند الكلام في العقائد ومنها الإرجاء إن شاء الله.

أتى بعد أبي حنيفة تلاميذه، فجدُّوا في المحافظة على مذهبه بتدوينه والاستدلال له، وترتيب مسائله وتوسيعها، كما أتيح لبعضهم فرصة رياسة القضاة فقوَّى مذهبه وبثَّه وأيَّده، وكان من أشهر هؤلاء التلاميذ أبو يوسف ومحمد وزفر، ويطول بنا القول لو استقصينا أخبارهم وآراءهم، فنكتفي في ذلك بلمحة يسيرة.

أبو يوسف: عربي الأصل، جده سعد بن حَبْتَة أحد الصحابة من الأنصار، وأخذ الفقه فيمَنْ أخذ على أبي حنيفة، وكان من أقرب تلاميذه إليه، وُلِدَ سنة ١١٣ وتوفي سنة ١٨٢، نشأ فقيرًا، وكان أبو حنيفة يمدُّه بالمال ثم تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي، ثم الهادي، ثم هارون الرشيد، وكان في أيام الرشيد قاضي القضاة، وكان عند الرشيد حظِيًا مكينًا؛ وكان موقفه هذا دقيقًا محرجًا، فحول الخلفاء إذ ذاك قادة ورؤساء يحتاجون إلى مداراة، وهم الذين قال فيهم أبو حنيفة للمنصور: «فلك حاشية يحتاجون إلى مَنْ يكرمهم لك»، فبقاء أبي يوسف في هذا المنصب هذا العهد الطويل يدل على لباقة ومرونة فائقتين، خصوصًا إذا أراد أن يجمع بين الدين والمنصب والجاه، ولعل ما يمثِّل أبا يوسف خير تمثيل قوله: «رءوس النِّعم ثلاثة: أولها نعمة الإسلام التي لا تتم النعمة إلا بها، ونعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها، ونعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها». فقد أراد أن يجمع بين الإسلام والعافية والغنى، وما أدق ذلك وأشقه؛ لذلك نراه في خطبة كتاب الخراج يقف موقفًا من أحسن المواقف وأشرفها، يعظ الخليفة هارون الرشيد في قوة وحزم، وبجانب ذلك تُرْوىَ عنه الأخبار الكثيرة في ابتداع الحيل للخروج من المآزق يقع فيها الخلفاء والقواد، إن بولغ في بعضها فالأساس صحيح، والجمع بين ذلك كله لا يستطيعه إلا أمثال أبي يوسف إن استطاعوا.
أفاد أبو يوسف فقه أبي حنيفة من وجوه:
  • (١)

    أنه تولَّى القضاء عهدًا طويلًا، وفي هذا فائدة للفقه كبيرة؛ ففي القضاء امتحان للنظريات العلمية وصهر لها في بوتقة العمل، ومواجهة لمشاكل عملية لا يدركها مَنْ اقتصر على النظر، ومقابلة الصعاب في طرق المرافعات، ممَنْ له البينة، ومَنْ عليه اليمين ونحو ذلك، لا يفكر فيها كثيرًا مَنْ يُسْتَفْتَى أو يؤلف الكتب. فلهذا كان أبو يوسف منظمًا لمذهب أبي حنيفة ومغذيًا له بالطرق العلمية، ومن أجل هذا قال الحنفية: إنه يُعْمَل بقول أبي يوسف في باب القضاء، أضف إلى هذا أن أبا يوسف في مثل مركزه يستطيع أن يعرف شئون الدولة ومناحيها في التفكير والعمل، وما يعرض لها من مشاكل وكيفتُحل ما لا يعرفه غيره، وكل هذا يكسبه نظرًا جديدًا ورأيًا في مسائل لا يراها مَنْ يقيس أو يستحسن بين جدران أربعة أو حلقة المسجد.

  • (٢)

    تولَّى قضاء بغداد وكان من يتولاه يكون قاضي القضاة، فله نوع إشراف على سائر القضاة، وفي هذا تمكين لمذهب أبي حنيفة ونشر له ولمبادئه.

  • (٣)
    كان أبو يوسف أوسع اتصالًا بالمحدِّثين وأكثر رواية للحديث عنهم؛ قال ابن جرير الطبري: (كان أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي فقيهًا عالمًا حافظًا، ُذكِرَ أنه كان يُعْرَفُ بحفظ الحديث، وأنه كان يحضر المحدِّث فيحفظ خمسين أو ستين حديثًا ثم يقوم ويمليها على الناس، وكان كثير الحديث، وكان قد جالس محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثم جالس أبا حنيفة، وكان الغالب عليه مذهب أبي حنيفة، وكان ربما خالفه أحيانًا في المسألة بعد المسألة».٥١ وقد رحل إلى المدينة ولقي مالكا وناظره وأخذ عنه، ورجع عن بعض آرائه إلى قول مالك وأقوال الحجازيين؛ ومع هذا فقد رضي عنه بعض المحدِّثين كابن مَعِين وابن حنبل، ولم يرضَ عنه أكثرهم، فلم يروِ عنه شيئًا أحد من أصحاب كتب الحديث الستة؛ قال ابن عبد البر: «كان ابن معين يثني عليه ويوثِّقه، وأمَّا سائر الحديث فهم كأعداء لأبي حنيفة وأصحابه».٥٢ على كل حال سهَّل له اتصاله بالمحدِّثين سبيل تقوية مذهب أبي حنيفة بالحديث أيضًا، وتطعيم المذهب ببعض آراء الحجازيين، وبمخالفة أبي حنيفة إلى ما صحَّ عنده من حديث أحيانًا.
  • (٤)
    بما ألَّف في الفقه، فقد روى ابن النديم أنه ألَّف كتاب الصلاة — كتاب الزكاة — كتاب الصيام — كتاب الفرائض — كتاب البيوع — كتاب الحدود — كتاب الوكالة — كتاب الوصايا — كتاب الصيد والذبائح — كتاب الغصب والاستبراء — كتاب اختلاف الأمصار — كتاب الرد على مالك بن أنس — كتاب رسالة في الخراج إلى الرشيد — كتاب الجوامع، ألَّفه ليحيى بن خالد (البرمكي)، يحتوي على أربعين كتابًا، ذكر فيه اختلاف الناس والرأي المأخوذ به، أمالٍ أملاها، رواها بشر بن الوليد القاضي، يحتوي على ستة وثلاثين كتابًا ممَّا فرَّعه أبو يوسف.٥٣

والذي بقي لنا من ذلك كله كتاب الخراج، وأقوال نقلها عنه الفقهاء من بعده، وأبواب نقلها عنه الشافعي في الأم.

كتاب الخراج: اسمه الخراج ولكنه يبحث في الواقع في أهم أبواب مالية الدولة، يقول في أوله: «إن أمير المؤمنين أيَّده الله تعالى سألني أن أضع له كتابًا جامعًا يعمل به في جباية الخراج والعشور والصدقات والجوالي، وغير ذلك مما يجب عليه النظر فيه والعمل به»، ويعني بالخراج ضريبة الأرض، فقد تركت الأرض المفتوحة على ملك أصحابها، وفرض عليهم دفع ضريبة هي الخراج، ويعني بالعشور ما يُحصَّل من الأراضي التي أسلم أهلها كأرض المدينة واليمن، ويعني بالصدقات الزكاة المفروضة على المسلمين في مالهم، وبالجوالي الجزية على رءوس الذميين وأمثالهم؛ لذلك هو يتعرَّض لضرائب الأرض، وضرائب الرءوس، ويضطره ذلك إلى البحث في الأراضي الإسلامية أيها ُفتِحَ عنوة وأيها فُتِحَ صلحًا؛ ويتوسع في هذا الباب فيبحث في قسمة الغنائم التي يحرزها جيش المسلمين وفي الأرض المَوَات، وفيما يخرج من البحر، وفي شئون الري وما يعرض له، وفي معاملته أهل الذمة من حيث الضرائب، وبناء الكنائس والبِيَع والصلبان إلخ.

ونجد في كتاب الخراج مصداق كل ما ذكرناه عن أبي يوسف، فهو يتعرض لأمور من أهم شئون الدولة المالية، لا يستطيع الإلمام بها والوقوف على دقائقها إلا مَنْ كان في مثل منصبه واتصاله بالخلفاء ومهام الدولة؛ وهو واسع الاطلاع في الحديث، كثير الأخذ عن الشيوخ في مختلف الأمصار، ومختلف الاتجاهات؛ فهو يروي عن «بعض أشياخنا الكوفيين» و«عن بعض أشياخنا من أهل المدينة»، وعن أبي حنيفة، وعن مالك بن أنس، وعن الليث بن سعد، وعن عشرات غيرهم؛ وهو واسع الاطلاع على أقوال الصحابة وأعمالهم، ويتجلى في كتاب الخراج وقوفه على تصرفات عمر بن الخطاب؛ لأنه كان العُمْدَة في هذا الباب؛ إذ إن عمر واجه هذه المشاكل المالية عند فتحه لبلاد الفرس والروم، وسنَّ لمَنْ بعده ما يحتذونه، وقد ورد اسمه في كتاب الخراج نحو ١٢٣ مرة.

ويظهر في الكتاب أثر النقل والعقل معًا، فهو كتاب النقل عن النبي والصحابة والتابعين وغيرهم؛ وهو مع هذا يخالف عمر بن الخطاب فيما قدُّر على الأراضي، ويردُّ على اعتراض على ذلك فيقول: لِمَ لم تردُّ الناس إلى ما كان عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) وضعه على أرضهم ونخلهم وشجرهم، وقد كانوا بذلك راضين، وله محتملين، قال أبو يوسف: إن عمر (رضى الله عنه) رأى الأرض في ذلك الوقت محتملة لما وُضِع عليها، ولم يقل حين وضع عليها ما وضع من الخراج إن هذا الخراج لازمٌ لأهل الخراج، وحتم عليهم، ولا يجوز لي ول مَنْ بعدي من الخلفاء أن ينقص منه ولا يزيد فيه، بل كان فيما قال لحذيفة وعثمان حين أتياه بخبر ما كان استعملهما عليه من أرض العراق: «لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق» دليل على أنهما لو أخبراه أنها لا تطيق ذلك الذي حملته من أهلها لنقص مما كان جعله عليهم من الخراج. فلمَّا رأينا ما كان جعله (عمر) على أرضهم من الخراج يصعب عليهم، ورأينا أخذهم بذلك داعيًا إلى جلائهم عن أرضهم وتركهم لها، لم نحملهم ما لا يطيقون، ولم نأخذ من الخراج إلا بما تحتمله أرضهم».٥٤
ونراه يفاضل بين الأحاديث ويختار أشهرها وأعمها، فيقول: «واتبعنا الأحاديث التي جاءت عن رسول الله في مساقاة خيبر لأنها أوثق عندنا وأكثر وأعم مما جاء في خلافها».٥٥ ويخالف أبا حنيفة في بعض أقواله، ويرجع إلى الأثر فيقول: «وسألت يا أمير المؤمنين عما يخرج من البحر من حلية وعنبر. وقد كان أبو حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله يقولان: ليس في شيء من ذلك شيء لأنه بمنزلة السمك، وأمَّا أنا فإني أرى في ذلك الخمس، وأربعة أخماسه لمن أخرجه لأنا قد روينا فيه حديثًا عن عمر (رضى الله عنه)، ووافقه عليه عبد الله بن عباس فاتبعنا الأثر ولم نر َ خلافه»٥٦ إلخ.
محمد بن الحسن الشيباني: قال بعضهم إن أصله من قرية في ضاحية دمشق تُسمَّى «حَرَسْتا» وقال بعضهم إن أصله من الجزيرة (شمال العراق) وإن أباه كان في جند الشام،٥٧ واتفقوا على أنه من الموالي ونسبته إلى شيبان بالولاء، وأنه وُلِدَ بواسط ونشأ بالكوفة، وُلِدَ سنة ١٣٢ وأخذ العلم عن أبي حنيفة، ولكن الظاهر أنه لم يصاحبه طويلًا، فقد مات أبو حنيف وعمر محمد نحو ثماني عشرة سنة وتتلمذ أيضًا لأبي يوسف، ورحل إلى المدينة وسمع من مالك وسمع من الأوزاعي وغيرهما، فهو كأبي يوسف تفقَّه بفقه أهل الرأي في الكوفة، وبفقه أهل الحديث في المدينة وغيرها، وقد جمع في دراسته أيضًا — كأبي يوسف — بين دراسة أدبية من نحو ولغة وشعر، ودراسة دينية من قرآن وحديث وفقه، وقد أقام بالمدينة ثلاث سنين وبعض سنة يأخذ عن مالك وشيوخ المدينة، ومن أجل هذا كان جيد اللغة، واسع الاطلاع في نواحي التشريع المختلفة، ويظهر أنه نشأ في سعة من العيش لا كأبي يوسف، فقد رُوِي أنه أنفق على تعلمه النحو والشعر والحديث والفقه ثلاثين ألف درهم كما رُوِي أنه أعان الشافعي بماله، وقد كان جميل المنظر حسن الملبس، فصيح القول، جيد الفقه، قال فيه الشافعي: «كان محمد بن الحسن يملأ العين والقلب». وقد ولي القضاء للرشيد، ولاَّه قضاء الرقة، ورويت عنه أخبار تدل على أنه لم يكن يداري ويجامل كما كان أبو يوسف. روى الخطيب البغدادي أن الرشيد أقبل يومًا، فقام الناس كلهم إلا محمد بن الحسن فإنه لم يقم، فخرج الآذن ونادى محمد بن الحسن، فجزع أصحابه له، فلمَّا خرج سُئِلَ عما كان قال: سألني مَالكَ لم تقم مع الناس؟ قلت: كرهت أن أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها، إنك أهلتني للعلم، فكرهت أن أخرج إلى طبقة الخَدَمَة٥٨ إلخ. كما روي أن الرشيد سأله في أمانٍ أعطاه لأحد الطالبيين، وأراد الرشيد أن يتحلل منه فقال محمد: هذا أمان صحيح ودمه حرام، وقد تقدَّم الخبر بذلك، وقد عزله الرشيد عن قضاء الرقة ثم استدناه، وقد مات. محمد وهو مع الرشيد في خَرْجته إلى الري سنة ١٨٩ وقد كانت بينه وبين شيخه أبي يوسف وحشة استمرت بينهما إلى الوفاة، ولعل السبب اختلاف النزعتين.
وقد أفاد محمد فقه أبي حنيفة من ناحيتين: ناحية اشترك فيها مع أبي يوسف من سماع المحدِّثين وسماع فقه المدينة وتطعيم فقه أبي حنيفة بذلك؛ وناحية أخرى هامة جدًا، وهي تفريع المسائل من الأصول، وقد عُرِفَ محمد بذلك وبمهارته في الحساب مما يحتاج إليه المواريث ونحوها، ثم تدوين الفقه في كتب كثيرة هي عماد مَنْ أتى بعدُ في فقه أبي حنيفة؛ فمن أشهر كتبه الكتب الستة: المبسوط، والزيادات، والجامع الصغير، والسَّير الصغير، والجامع الكبير، والسَّير الكبير؛ ويُسمَّي الحنفية هذه الكتب كتب ظاهر الرواية؛ لأنها رُوِيت عن محمد برواية الثقات، وقد جمع الحاكم الشهيد هذه الكتب الستة في كتاب سماه الكافي، وشرحه جماعة منهم السَّرخَسِي في كتابه المشهور «المبسوط»، وقد وصل إلينا وطُبِعَ في ثلاثين مجلدًا، كما وصل إلينا كتاب الجامع الصغير لمحمد،٥٩ يذكر في صدر كل باب: «محمد عن يعقوب (أبي يوسف) عن أبي حنيفة». وعلى الجملة فقد كان محمد حلقة اتصال بين فقهاء الحديث وفقهاء الرأي، كما كان حلقة اتصال بين مذهب أبي حنيفة والشافعي، وكما كان له أكبر الفضل في تدوين مذهب أبي حنيفة وحفظه في الكتب، واغتراف الناس منه بعدُ، وتأثُّرِ المؤلفين به وبكتبه.
زفر: وأمَّا زفر فعربي من تميم، كان من أشهر أصحاب أبي حنيفة، وكان أمهرهم في القياس وأكثرهم التزامًا لمسلكه في الرأي؛ كان أبوه هذيل واليًا على البصرة،٦٠ وكانت أمه أَمَة فارسية؛ فورث وجهه من أمَّه ولسانه من أبيه، وكان قوي الحجة، مقدَُّمًا عند أصحاب أبي حنيفة، قياسًا، وُلِدَ سنة ١١٠ وتوفي سنة ١٥٨.
ويعجبني في المقارنة بين الثلاثة ما رُوِي عن المزني صاحب الشافعي أنه جاءه رجل فسأله عن أهل العراق، قال: ما تقول في أبي حنيفة؟ قال: سيدهم؛ قال: فأبو يوسف؟ قال: أتبعهم للحديث؛ قال: فمحمد بن الحسن؟ قال: أكثرهم تفريعًا؛ قال: فزفر؟ قال: أحدُّهم قياسًا.٦١

•••

وعلى الجملة فقد انتشر فقه أبي حنيفة في العراق، وكان طبيعيًا أن يسود في العراق، ففيه نشأ، ومذهب البلد أدرى بما يعرض من المسائل وأقدر على حلها، وهو باعتماده على الرأي والقياس — حيث لا نص يصح — أكثر إسعافًا للفتوى فيما يجدِّ من أحداث تتطلب سرعة في البت، ثم قُدِّر لأبي يوسف أن يكون في منصب رئيس يستطيع أن يخدم فيه هذا الفقه بسلطانه، كما حظي الفقه بمحمد يدونه ويسجله؛ ويذكر ابن النديم أنه رُزِقَ كذلك بمحمد بن شجاع الثلجي (المتوفى سنة ٢٥٦)، وكان معتزليا «ففتق فقه أبي حنيفة واحتج له، وأظهر علله، وقوَّاه بالحديث، وحلاَّه في الصدور».٦٢ كما يصح أن نستنتج أن فقه أبي حنيفة تغير بعض الشيء على يد أبي يوسف ومحمد والثلجي وأضرابهم عما كان عليه في زمن أبي حنيفة نفسه، فرجعوا عن آراء له إلى الحديث الذي صَّح عندهم، وضيَّقوا حدود الرأي والقياس عما كانت عليه زمن الإمام، باتصالهم بأهل الحديث وفقهاء الحديث، وبالحملات الشديدة التي شنَّع بها هؤلاء على أهل العراق؛ وتلاقت هذه النزعة بنزعة أخرى تشبهها، وهي نزعة بعض فقهاء الحديث إلى الاستفادة من أصحاب الرأي، وتجلّتَ هذه النزعة في الشافعي — كما سيأتي — وبذلك قلّتَ مسافة الخُلْفَ التي كان يراها الرائي بين أبي حنيفة ومالك.

(٢) مالك ومدرسته

وهو مالك بن أنس الأصبحي المدني، والأصْبَحِي نسبة إلى ذي أصبح قبيلة يمنية، والأشهر أنه عربي الأصل، وأن نسبه إلى ذي أصبح نسب عربي صحيح، وبذلك قال الواقدي، ولكن محمد بن إسحق خالفه في ذلك، وزعم أن مالكًا وجده وأعمامه موالي لبني تيم بن مرة، وهذا هو السبب في تكذيب مالك لمحمد ابن إسحق والطعن عليه٦٣ وُلِدَ سنة ٩٣ أو ٩٧، وتوفي سنة ١٧٩، وعاش حياته بالمدينة، ولم أعرف أنه رحل عنها إلا إلى مكة حاجًا.

وقد تزيَّدَ بعضهم في أخباره، كما فعل الحنفية وغيرهم، فزعموا أن أمه حملت به ثلاث سنين (ولا أدري قيمة هذا في فضل الرجل)، ورووا أن النبي قال: «يخرج الناس المشرق والمغرب فلا يجدون عالمًا أعلم من أهل المدينة». إلخ.

ولسنا نعرف كثيرًا عن نشأته الأولى، ودراسته العلمية في صباه، وقد ذكروا أنه أخذ القراءة عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الحديث من كثير من شيوخ المدينة أشهرهم ابن شهاب الزهري، ونافع مولى ابن عمر، فابن شهاب الزهري أحد الفقهاء والمحدِّثين، وكان من أعلم الناس في زمنه بالسٌنَّة؛ وقد روى عنه مالك في الموطأ (في بعض نسخ الموطأ) مائة واثنين وثلاثين حديثًا، ونافع مولى عبد الله بن عمر أصله من الديلم، أصابه عبد الله بن عمر في غزوة غزاها فأسلم وأخذ عن ابن عمر حديثه، وكان من أشهر علماء المدينة. وقد روى عنه مالك في الموطأ ثمانين حديثًا كما أخذ عن هشام بن عروة بن الزبير، وقد روى عنه في الموطأ ستة وخمسين حديثًا، وهكذا لقي شيوخًا كثيرين وخاصة شيوخ المدينة، وأخذ عنهم.

ومن أشهر ما حدث له محنته أيام المنصور حين خرج محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه إبراهيم علي المنصور، وقد رُوِي ت في هذه الحادثة روايتان: إحداهما أن مالكًا كان يفتي الناس أنه لا يقع طلاق الْمُكْرَه، ويحدِّث الناس بحديث «ليس على مستكره طلاق» ولم تكن هذه الفتوى تعجب العباسيين؛ لأن هذا يستتبع أن مَنْ بايع العباسيين مكرهًا فله أن يتحلل من بيعته، وله أن يبايع محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة، فرووا أن المنصور نهى مالكًا عن التحدث بهذا الحديث، ثم دس إليه مَنْ يسأله، فحدَّث به على رءوس الناس فضربه بالسياط؛ والرواية الأخرى أن مالكا لمَّا علا شأنه بالمدينة سعى حساده إلى والي المدينة جعفر بن سليمان، وقالوا إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث ثابت بن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز؛ فغضب جعفر ثم جرده ومده فضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه؛ قالوا: فما زال مالك بعد هذا الضرب في رفعة من الناس، وعلو من أمره حتى كأنما كانت تلك السياط حليًا حُلِّي بها.٦٤

كما رُوِي عنه أنه سُئِلَ عن البغاة (يعني العصاة الخارجين على الخلفاء) أيجوز قتالهم؟ فقال: إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز، فقال: فإن لم يكن مثله؟ فقال: دعهم ينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم من كليهما، فكانت هذه الكلمة من أسباب محنته.

على كل حال تتفق الروايتان في ضربه، وفي الأصل السبب، وتختلف في التفاصيل. وقد روينا قبل عن أبي حنيفة مثل هذا الموقف، وزيد عليه طلبه للقضاء وإباؤه؛ فلعل رأي أبي حنيفة ومالك كان متفقًا، وسياسة المنصور في الحالين واحدة.

•••

تركَّزت مدرسة المدينة في مالك كما تركَّزت مدرسة الكوفة في أبي حنيفة، فإن أردنا تصوير مدرسة المدينة كما فعلنا بمدرسة الكوفة فليكن هكذا:

figure

بعضهم يعدُّ من الفقهاء السبعة أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المتوفى سنة ٩٤، ويضعه بدل سالم بن عبد الله بن عمر.

وأكثر رجال هذه المدرسة عُرِفُوا بالحديث والفقه فيه، فبعد عصر الصحابة كان رأس المدرسة من التابعين سعيد بن المسيب، وقد كان يعد وارث عمر في علمه في المدينة؛ وتصدر سعيد للفتوى، وكان لا يهابها، فأُثِرَ عنه كثير من الفتاوى والآراء، وكان يقول: «ما قضى رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا عليّ قضاء إلا وقد علمته». وجاء في الطبقة التي بعده الزهري ونافع. فكانا أعلم أهل المدينة حديثًا وفقهًا. كل هؤلاء كانوا يحفظون الحديث عن رسول الله، وطبيعي أن تكون المدينة أغنى من أي مصر آخر في هذا، فالنبي كان فيها أكثر أيام التشريع، كما كان بها من الخلفاء الراشدين أبو بكر وعمر وعثمان، وكانت حاضرةَ الخلافة في أيامهم، ومنها تصدر الآراء في المسائل الدينية والسياسية، كما كان المدنيون أقدر على مشاهدة التشريع العملي، فهم أعرف بما كان النبي يفعله في وضوئه وصلاته وزكاته، وما كان يفعله كبار الصحابة. فكما كان كل جيل من العلماء يتلقى الأحاديث المروية ع مَنْ قبله كذلك كان يتلقى الأعمال وهيئاتها من الجيل الذي قبله، فكان طبيعيًا أن تكون المدينة مقر مدرسة الحديث — ولكن الذي قد يلفت النظر أن يكون بين كبار رجال المدينة ربيعة الرَّأْي، وهو كما يدل عليه اسمه من أهل الرأي، ومن شيوخ مالك، وقد روى عنه في الموطأ اثنى عشر حديثًا، وهو فارسي الأصل؛ وقد رُوِي عنه أنه جادل سعيد بن المسيب في دية الأصابع، وسعيد يتمسك بالسنة، وربيعة يعترض بالرأي، فقال له سعيد: أعِرَاقيُّ أنت؟ قال لا، بل عالم متثبت أو جاهل متعلم، قال سعيد: هي السنة، وقد رُوِي في ترجمته أنه كان في العراق أيام السفاح وأنه قرَّبه واستعمله، فهل أخذ الرأي عن العراقيين أيام كان بينهم؟ ظن بعضهم ذلك، ولكن يظهر أنه غير صحيح، فقد رأينا هذه النزعة عنده قبل أن يكون في العراق؛ لأنه بهذه النزعة جادل سعيد بن المسيب المتوفى سنة ٩٣ قبل ولاية السفاح بزمن طويل، ولأنه قد روى الرواة أن ربيعة كان يكره العراق وأَهله، واستعفى أبا العباس من أجل ذلك وعاد إلى المدينة، فقيل له: كيف رأيت العراق وأهلها؟ قال: «رأيت قومًا حلالنا حرامهم، وحرامنا حلالهم، وتركت بها أكثر من أربعين ألفًا يكيدون هذه الدين» فالظاهر أن نزعة الرأي عنده وليدة المدينة نفسها، فالصحابة الذين كانوا بالمدينة منهم مَنْ كان يُعِمل العقل حيث لا نص، كما تقدم في سيرة عمر بن الخطاب، ومنهم مَنْ لا يميل إلى ذلك كابنه عبد الله بن عمر، ولا شك أن النزعتين بقيتا، وتأثر بهذه قوم، وهذه آخرون، ولكن كان لون الحديث أبَين وأوضح، وكان وجود ربيعة الرأي بينهم علمًا على اللون الآخر، وسنرى أثر ذلك حتى في فقه مالك:٦٥

وكان طبيعيًا كذلك أن تكون المسائل التي تعرض لفقهاء المدينة أقل عددًا؛ لتحرج المدنيين من الفتوى إذا قيسوا بالعراقيين، ولأن المشاكل القانونية والمسائل الفقهية تدور مع المدنية، ولأن المدينة كانت أقرب إلى بساطة العيش وأبعد عن تعقيدات الحضارة، وكان ما أُثِرَ عندهم من حديث كثير كافيًا في أغلب الأحيان كل ما يعرض من إشكال.

منحى مالك في الاجتهاد: كان مالك لا يشترط في الحديث ما اشترطه أبو حنيفة من الشهرة وغيرها، بل يعمل بخبر الواحد إذا صح أو حسن؟ وهذا المبدأ يجعل الأحاديث التي يبني عليها مذهبه أكثر عددًا، فلا يتطلب في الحديث شهرة، وإنما يتطلب صحة السند ونحوها، ولا يفهم من هذا تساهله في قبول الحديث من غير تحرٍّ أو تدقيق، بل هو شديد التحري ولكن لا يشترط شهرة الحديث وعمومه؛ ورُوِي عنه أنه قال: «لقد أدركت سبعين ممَنْ يقول قال رسول الله عند هذه الأساطين، (وأشار إلى مسجد رسول الله) فما أخذت عنهم شيئًا، وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان أمينًا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن»؛ وكان يقول: «لا يؤخذ العلم من أربعة، ويؤخذ م مَنْ سواهم: لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو إلى بدعته، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يُتَّهم على حديث رسول الله ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف، ما يحمل وما يحدِّث به».٦٦ وقد جمع الموطأ وظل سنين يحرره، ويحذف منه الحديث يتبين له عدم صحته، ولكن مع هذا كله كانت دائرة الصحة عنده أوسع من دائرة أبي حنيفة.
ومسألة أخرى هي عنده أساس للتشريع، وهي عمل أهل المدينة: كان مالك يُدِلُّ بعمل أهل المدينة، ويرى أنهم أدرى بالسنة وبالناسخ والمنسوخ، ويقول في كتابه لليث بن سعد: «إن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن»؛ وخلاصة رأيه في هذا الموضوع أن أهل المدينة إذا اتفقوا على عمل مسألة واتفق مع العمل علماؤها فهذا العمل حجة يُقدَّم على القياس، بل ويُقدَّم على الحديث الصحيح؛ أمَّا إذا لم يكن عملًا إجماعيًا، بل عِمَله أكثرهم، فهذا العمل أيضًا حجة يُقدَّم على خبر الواحد لأن العمل بمنزلة الرواية، فعمل الأكثر بمنزلة رواية الأكثر، فإذا جاء خبرُ واحدٍ يخالفهم كان الراجح أنه منسوخ، على أنه ينبغي التفرقة بين إجماعهم على العمل النقلي والاجتهادي، فالنقل كنقلهم تعيين محل منبر النبي وقبره ومحل وقوفه للصلاة، وكتعيينهم مقدار الْمُدّ والصاع والأوقية في عهد رسول الله ، ونقلهم كيفية الأذان، والإقامة هل كانت مثنى أو فرادى، والاجتهادي كاجتهاد المدنيين في بطلان خيار المجلس ونحوه، فالأول لا خلاف في حجيته عند مفسري مذهب مالك، والثاني مختلف فيه عندهم؛ وهذه التفرقة معقولة، فالأعمال التي يجمع عليها أهل المدينة كتحديد المكاييل، والموازين وأشكال الأعمال التي عملها الرسول ، الأرجح فيها أن الجيل التالي من سكان المدينة نقلها عن الجيل الأول كما هي، خصوصًا إذا قرب العهد، كما رجحوا عند الخلاف أعمال المكيين في مناسك الحج لأنهم بها أدرى؛ أمَّا المسائل الاجتهادية فالأمر فيها سواءٌ بين مجتهدي الصحابة والتابعين من المدنيين والكوفيين والشاميين والمصريين. وقد نقل مالك إجماع أهل المدينة في موطئه على نيف وأربعين مسألة،٦٧ وقد خالف مالكًا في حجية عمل أهل المدينة الليُث بن سعد في رسالته إلى مالك، والشافعي في الأم، وناقشاه مناقشة قيمة ممتعة.
ومن مسلك مالك في التشريع، العمل بقول الصحابي إن صح نسبته إليه، وكان من أعلام الصحابة — كالخلفاء الراشدين، ومعاذ بن جبل، وابن عمر — وكان لم يرد في المسألة عينها حديث عن النبي صحيح، وقد رُد عليه في ذلك بأن الصحابة ليسوا محل العصمة، ويجوز عليهم الغلط، وبأن قول الصحابة لو كان حجة لزم التناقض؛ لأن كثيرًا ما صح في المسألة الواحدة آراء مختلفة للصحابة٦٨ وقد رأينا قبلُ مسلك أبو حنيفة في أقوال الصحابة إلخ.

ومن هذا نرى أن هذين الأصلين، أعني عمل أهل المدينة وقول الصحابي، قد غذَّيا مالك بآثار كثيرة كان من شأنها تضييق دائرة الرأي؛ ومع هذا فلم ينكر مالك الرأي بتاتًا، فمن أصول مذهبه القول بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح، وقد تقدَّم الكلام فيه، ومن هذا القبيل ما قاله من الضرب عند التهمة للاعتراف بالسرقة، ورويت عنه أقوال دليلها الاستحسان، كتضمين الصُناع وثبوت الشفعة في بيع الثمار. فمن هذا نرى أن مسالك الأئمة من أصحاب الرأي وأصحاب الحديث، تكاد تكون واحدة في العدد، ولكن الاختلاف إنما هو في سعة الدوائر وضيقها، فإن ضاقت دائرة الحديث واتسعت دائرة الرأي عند الأولين كان الأمر على العكس عند الآخرين، أمَّا عدد الدوائر نفسها فتكاد تكون واحدة.

•••

أكبر آثار مالك التي نُقِلتَ إلينا «الموَطّأ» و«المدونَّة».

الموطأ:٦٩ فأمَّا الموطأ فكتاب ألَّفه مالك، فيه مظهر للحديث ومظهر للفقه، فمظهر الحديث أن أغلب ما فيه حديث عن رسول الله أو الصحابة أو التابعين، أخذ هذه الأحاديث عن رجال عديدين بلغوا نحو خمسة وتسعين رجلًا كلهم مدنيون إلا ستة: اثنان بصريان، ومكي واحد، وخراساني وجزري وشامي. والأحاديث التي يرويها عن هؤلاء الستة قليلة جدًا، فمنهم مَنْ يروي له الحديث ومنهم مَنْ يروي له الحديثين، وقد لقيهم مالك أمَّا في المدينة أو في مكة٧٠ أمَّا مَنْ عدا هؤلاء الستة فمدنيون يروي عنهم مالك، بعضهم يروي له كثيرًا كابن شهاب الزهري، ونافع، ويحيى بن سعيد، وبعضهم يروي له الحديث الواحد أو الاثنين أو الثلاثة، وحتى الصحابة الذين يروى لهم أكثرهم م مَنْ أقام بالمدينة طويلًا — حتى رُوِي أن الرشيد قال لمالك: لِمَ لَمْ نر في كتابك ذكرًا لعلي وابن عباس، فقال: لم يكونا ببلدي، ولم ألقَ رجالهما. وهذا الخبر مشكوك فيه، ولكن مما لا شك فيه أن روايته عنهما في الموطأ قليلة؛٧١ وبعض الأحاديث في الموطأ مسندة وبعضها مرسلة، ومتصلة ومنقطعة، وبعضها مما يُسمَّى بلاغات، وهو ما يقول فيها مالك بلغني أو نحوه من غير أن يعين مَنْ روى عنه فيقول: بلغني عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله إلخ. أو يقول عن الثقة عندي عن، عمر بن شعيب إلخ. وقد جمع مالك أحاديث كثيرة، ثم كان يختار منها على مرَّ السنين؛ فقد رووا أن مالكا «جمع في الموطأ أربعة آلاف حديث أو أكثر، ومات وهي ألف ونيف يخلِّصها عامًا عامًا بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين»؛٧٢ وقد رووا أنه شُغِلَ به نحو أربعين عامًا. وأمَّا ناحية الفقه فيه فإنه رتبه ترتيب الفقه، فكتاب الطهارة، ثم كتاب الصلاة، ثم كتاب الزكاة، ثم الصيام وهكذا، وفي كل كتاب من هذه فصول، كل فصل يجمع المسائل المتشابهة كصلاة الجماعة، وصلاة المسافر إلخ؛ وأيضًا يزيد على الحديث أحيانًا استنتاجه الفقهي منه.

وطريقته في التأليف أن يذكر الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد، وقد يعقب الحديث بتفسير كلمة لغوية فيه، وأحيانًا يعقبه بأنه سُئِلَ في كذا فأجاب بكذا استنادًا إلى آية أو حديث أو قياس؛ «سُئِلَ مالك عن الحائض تطهر فلا تجد ماءً، هل تتيمم؟ قال: نعم، لتتيمم فإن مثلها الجنب إذا لم يجد ماءً تيمم». وأحيانًا يعقبه بتفريع مسائل وذكر حكمها، كأن يقول بعد أحاديث السرقة: «وليس على الأجير ولا على الرجل يكونان مع القوم (السارقين) قَطع؛ لأن حالهما ليست بحال السارق، وإنما حالهما حال الخائن، وليس على الخائن قطع …» «والأمر عندنا في السارق يوجد في البيت قد جمع المتاع ولم يخرج به أنه ليس عليه قَطْع، وإنما مَثل ذلك كمثل رجل وضع بين يديه خمرًا ليشربها فلم يفعل فليس عليه حَدّ»، وأحيانًا لا يبدأ بالحديث، بل يذكر المسألة ويذكر حكمها ودليله على هذا الحكم، وأحيانًا يذكر في المسألة حكم علماء المدينة، فيقول: «الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا كذا»، إلخ، إلخ.. فهو لهذا كله كتاب حديث وفقه معًا.

وقد رُوِي في الموطأ روايات مختلفة تختلف في ترتيب الأبواب، وتختلف في عدد الأحاديث حتى عدَّها بعضهم عشرين نسخة، وبعضهم ثلاثين،٧٣ واختلافها باختلاف رواياتها عن مالك، وسبب الاختلاف — على ما يظهر — أن مالكًا لم ينتهِ من نسخة يؤلفها ويقف عندها، بل قد كان دائم التغيير فيها لِمَا روينا قبل من أنه كان دائم المراجعة للأحاديث وحذف ما لم تثبت صحته منها، فألذين سمعوا الموطأ سمعوه من مالك في أزمان مختلفة، فكان من ذلك الاختلاف في النسخ. وقد بقي من هذا النسخ بين أيدينا رواية يحيى بن يحيى الليثي، وهي التي شرحها الزرقاني، ورواية محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، وفيها أشياء كثيرة ليست في رواية يحيى، وهو يمزج ما رَوَى عن مالك بآرائه، فكثيرًا ما يقول: «قال محمد».
وقد رُوِي أن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون سبق مالكًا فعمل كتابًا ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة، (يعني آراءهم وفقههم)، عمل ذلك من غير حديث، ورآه مالك فقال: ما أحسن ما عمل، ولو كنت أنا الذي عملت ابتدأت بالآثار، ثم سددت ذلك بالكلام.٧٤ ويظهر أنه أنفذ فكرته بعدُ فألَّف الموطأ على هذا المنهج الذي رسمه: بدءٌ بالحديث غالبًا، ثم تثنية بعمل أهل المدينة، أو تفريع الفروع واستنتاج حكمها.

وعلى كل حال فكتاب الموطأ يُعَدّ من أوائل الكتب التي أُلِّفت في الحديث والفقه، وقد نشره الآخذون عن مالك في الأمصار، فمحمد بن الحسن في العراق، ويحيى بن يحيى الليثي في الأندلس، وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم، وعبد الله بن عبد الحكم وأشهب في مصر، وأسد بن الفرات في القيروان إلخ وكان له أثر كبير في الحركة العلمية الدينية على اختلاف العصور.

المدونة: أمَّا المدونة فهي مجموعة رسائل تبلغ نحو ستة وثلاثين ألف مسألة، جمعها أَسَد بن الُفرات النيسابوري الأصل التونسي الدار، وكان تلميذًا لمالك سمع منه الموطأ ثم رحل إلى العراق، وفعل في العراق كما فعل محمد بن الحسن في المدينة كلاهما مزج الفقهين، وقرَّب بين المدرستين، فقد لقي أسد بن الفرات صاحبي أبي حنيفة أبا يوسف ومحمدًا، وسمع منهما الفروع على الطريق العراقية، ثم ذهب إلى مصر ولقي أصحاب مالك بها، ولا سيما ابن القاسم، وعرض عليهم هذه الفروع ونحوها، وسمع منهم حكمها على مذهب مالك، أمَّا حسب ما سمعوا من مالك، وأمَّا اجتهادًا على أصوله ومنحاه وجمع أسد بن الفرات ذلك كله في كتاب سُمَّي المدونة، ثم رحل بها أسد إلى القيروان فأخذها عنه سَحْنون الفقيه المغربي، وعاد بها إلى مصر سنة ١٨٨ فعرضها علي ابن القاسم، وأصلح فيها مسائل، وكانت لمَّا جمعها أسد بن الفرات غير مرتبة ولا مبوبة، فرتَّبها سحنون وبوبها، واحتج لبعض مسائلها بالآثار،٧٥ وعاد إلى القيروان، وانتشرت منها إلى الأندلس، وكان لها الفضل في نشر مذهب مالك في قطري المغرب والأندلس.

فالمدونة كما ترى متأثرة بالعراقيين في تفريع المسائل وتوليدها، وبالحجازيين في تطبيق مذهب مالك عليها، ومن هذا ترى كيف كان الزمن والرجال والرحلات تعمل على استفادة كل مذهب بما للآخر، فالمدونة ليست إذن من تأليف مالك، وإنما هي جمع لفتاوى مالك في مسائل، واجتهاد من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه في وضع أحكام لمسائل على قواعده ومبادئه.

وقد كان لمالك أصحاب أكثر عظمائهم مصريون كعبد الله بن وهب وابن القاسم وأشهب وعبد الله بن الحكم، ومن عظمائهم أندلسي كبير، وهو يحيى بن يحيى الليثي.

فالأربعة الأوَّلون كانوا عماد المدرسة الدينية في مصر لعهدهم، وكانوا مع أخذهم عن مالك يجتهدون ويخالفون أحيانًا، كما خالف أبو يوسف ومحمد أبا حنيفة، وكما خالف المزني والبويطي الشافعي. وأمَّا يحيى بن يحيى الليثي فأصله من قبيلة بربرية يقال لها مصمودة، ونُسِبَ إلى بني ليث بالولاء، رحل إلى المدينة وسمع من مالك، ورحل إلى مكة، وسمع بمصر من الليث بن سعد وابن وهب وابن القاسم، ورجع إلى الأندلس بعد ما كمل علمه، فكان عالم الأندلس وعظيمها ووجيهها، وإليه الفضل في نشر مذهب مالك في الأندلس، فقد كان — كما قال ابن حزم —: «مكينًا عند السلطان مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاضٍ في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومَنْ كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى ابن يحيى لم يلِ قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدًا في جلالته عندهم، وداعيًا إلى قبول رأيه لديهم»،٧٦ وهو صاحب الفتوى المشهورة لأمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم، فقد وقع على جارية له في رمضان، فأفتى أن يكفِّر بصوم شهرين متتابعين. وسُئِلَ لِمَ لَمْ تفته بمذهب مالك، فعنده أنه مخيَّر بين عتق رقبة وإطعام ستين مسكينًا وصوم شهرين؟ فقال: لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه هذا العمل، ويعتق فيه رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود — وتُعدُّ روايته للموطأ أصح رواية، وهي التي بين أيدينا — وقد خالف مالكًا في مسائل ذهب فيها إلى مذهب الليث بن سعد، فلم يرَ القضاء بالشاهد مع اليمين كما رأى مالك، وقال لابد من شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين اتباعًا لليث، وكان يرى جواز كراء الأرض بجزء مما يخرج منها كما يرى الليث.٧٧

•••

وعلى الجملة فإن كانت مدرسة أبي حنيفة قد وسَّعت الفقه بكثرة الفروع، وبما يستلزمه ذلك من رأي وقياس واستحسان، وبمواجهة المشاكل المعقَّدة التي قدَّمتها لها المدنية الضخمة، والتي قدَّمتها لها بقايا الأمم الممدنة في العراق من آشوريين وكلدانيين وفرس وغيرهم، فإن مدرسة مالك قد أثرت في الفقه بما نقلت من أحاديث كانت وافرة فيها بحكم قيام الرسالة فيها، وكثرة الصحابة بها، وبما قدَّمت من أشكال أوضاع تداولها سكان المدينة جيلًا عن جيل، وأهل المدينة في ذلك أوثق؛ فقد شهد الأولون منهم النبي يتوضأ على نحو خاص، ويصلي على نحو خاص، وعرفوا مقدار المكاييل والموازين التي كانت تُستَعَمَلُ لعهده، فنقلوا ذلك كله إلى مَنْ بعدهم من طريق الأخبار أحيانًا، ومن طريق التوريث أحيانًا أخرى، وتسلسل ذلك إلى مالك ومدرسته؛ ثم كان من أصحاب الذهبيين مَنْ ينتفع بمزايا كل، فيرحل محمد بن الحسن الحنفي إلى المدينة يمكث فيها ثلاث سنين ويروي الموطأ، ويعود إلى العراق مزودًا بالآثار، ويذهب أسد ابن الفرات ويمكث في العراق طويلًا، ويعود إلى مصر والقيروان مزودًا بكثرة الفروع، وبذلك وأمثاله تأثرت المدرستان، وتقارب المذهبان.

(٣) الشافعى ومدرسته

الشافعي هو محمد بن إدريس، قرشي من جهة الأب، يلتقي مع النبي في عبد مناف؛ وقد روى الجرحاني (وهو من الحنفية) عن أصحاب مالك أن شافعًا جد الشافعي والذي يُنْسَبُ إليه لم يكن قرشي الأصل، وإنما كان مولى لأبي لهب، وعلى ذلك يكون الشافعي مولى، ولكن قوله هذا لم يقره عليه علماء الأنساب، والظاهر أنه حمله على ذلك العصبية المذهبية فالصحيح أنه قرشي، والراجح أن أمه أزدية، والأرذ من اليمن؛ وكان أبوه خرج في حاجة، إلى الشام فولدت له الشافعي بغزة أو عسقلان سنة ١٥٠ ثم مات أبوه فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، وقد نشأ فقيرًا كما حدَّث هو عن نفسه. رُوِي عنه أنه قال: «كنت يتيمًا في حجر أمي ولم يكن لها مال، وكان المعلم يرضى من أمي أن أخلفه إذا قام، فلمَّا جمعت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث أو المسألة، وكانت دارنا في شعب الخيف، فكنت أكتب في العظم، فإذا كثر طرحته في جرِّة عظيمة»، وفي رواية: «لم يكن لي مال فكنت أطلب العلم في الحداثة، فأذهب إلى الديوان فأستوهب منهم الظهور فأكتب فيها»؛٧٨ قال: «وخرجت من مكة فلزمت هذيلًا بالبادية أتعلَّم كلامها وآخذ اللغة، وكانت أفصح العرب»:٧٩ وقد أفادته الإقامة في البادية مع قرشيته معرفة واسعة باللغة والشعر، أعانته على فهم معاني القرآن والسنة، فنراه يستشهد على أن السعي معناه العمل في قوله تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ َفَاسْعَوْا إَِلى ذِكْرِ اللهِ يقول زهير:
سَعَى بعدَهُمْ قومٌ لكَي يدْرِكُوهُمُوا
فلم يفْعلُوا وَلمْ يُليمُوا ولم يأْلُوا٨٠
وبأن السِّرَّ معناه الجماع في قوله تعالى: ولَكِن لاَّ تواعِدوهن سِرا بأبيات لامرئ القيس وجرير إلخ٨١ كما أفادته قوة في التعبير وعربية رصينة في الأسلوب وذوقًا دقيقًا، حتى لقد قرأ عليه رجل فلحن، فقال له الشافعي «أضرستَني»؛ وقد رُوِي أن الأصمعي أخذ عنه شعر الهُذَليين وشعر الشْنْفَري؛ ثم اتجه إلى الحديث والفقه، فأخذ في مكة عن سفيان بن عُيَيْنة ومسلم بن خالد الزنجي، وحفظ الموطأ ثم رحل إلى مالك في المدينة وسمع منه الموطأ، وأخذ عنه فقهه، ولازمه إلى أن مات مالك سنة ١٧٩ ثم خرج إلى اليمن، وقد ذكر في رحلته إليها أسباب كثيرة أقربها أن والي اليمن جاء مكة فكلَّمه بعض القرشيين أن يأخذ الشافعي ويوليه بعض الأعمال، ففعل وولاه بعض الأعمال، ثم اتهم بالتشيع وامتحن؛ والروايات كذلك مختلفة: هل اتهم هذه التهمة وهو باليمن أو بعد أن عاد إلى الحجاز؛ فإن ابن عبد البر يروي أنه اتهم بالتشيع والميل إلى مبايعة عَلويّ وهو بالحجاز؛ وابن حجر يروي روايات مختلفة كلها متفقة على أنه اتهم بذلك وهو في اليمن، والكل متفقون على النتيجة، وهي أنه حمل في هذه التهمة إلى هارون الرشيد، فنفى الشافعي التهمة وعفا عنه الرشيد؛٨٢ وكان ذلك نحو سنة ١٨٤، وسن الشافعي نحو أربع وثلاثين سنة، ثم قدم بغداد سنة ١٩٥ وأقام بها سنتين، ثم رجع إلى مكة، ثم قدم بغداد سنة ١٩٨ فأقام فيها أشهرًا، ثم خرج منها إلى مصر سنة ١٩٩، وظل بها إلى أن مات سنة ٢٠٤. وفي أثناء إقامته بالعراق اتصل بمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وأخذ عنه فقه العراقيين، قال ابن حجر: «انتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس، رحل إليه (الشافعي) ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة، فأخذ (الشافعي) عن صاحبه محمد بن الحسن جملًا ليس فيها شيء إلا وقد سمعه عليه فاجتمع له علم أهل الرأي، وعلم أهل الحديث، فتصرَّف في ذلك حتى أصَّل الأصول، وقعَّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره وعلاه ذكره، وارتفع قدره حتى صار منه ما صار».
وقد خلَّف لنا الشافعي في كتاب الأم وصيته التي أوصى بها قبل أن يموت بسنة، فتاريخها صفر سنة ٢٠٣، يقول فيها: «هذا كتاب كتبه محمد بن إدريس ابن العباس الشافعي في صحة منه وجواز من أمره، أن الله رزق أبا الحسن (ابن الشافعي) مالًا فأخذ منه محمد بن إدريس لابنه»، وفي هذه الوصية تصدَّق على ابنه بثلاثة أعبد كان يملكها الشافعي، ووصيف أشقر خصي يقال له صالح، ووصيف نوبي خبَّاز يقال له بلال، وعبد فراني، وتصدَّق بأمة شقراء كانت له — وفي هذه الوصية أيضًا تصدَّق بحلية، وقد عددها في الوصية — وتصدق بمنزلين له في مكة وقفهما على ابنه، ثم من بعده لأولاد ابنه الذكور والإناث إلخ.٨٣
وله وصية أخرى في شعبان من هذه السنة، أوصى فيها بماله وقسمه أسهمًا، وبيَّن ما يفعل بعبيده وجواريه، وما يعطون من ماله، وما يُعْطَى لفقراء آل شافع.٨٤

وهذه الوصايا تدل على أن حالته المالية في مصر كانت لا بأس بها، وإن لم تبلغ درجة الغنى.

وأما صفاته العقلية واللسانية فيكاد المؤرخون يجمعون على عذوبة منطقه، وحسن بيانه وذكائه، وقدرته الفائقة على الجدل، وقوته في التفكير، ومهارته في الاستنباط.

إذن ثقافته ثقافة في اللغة والأدب واسعة، وثقافة في الحديث، رحل في طلبه إلى بلاد كثيرة، وثقافة في الفقه على نمط مدرسة الحجاز، وثقافة في الرأي على نمط مدرسة العراق، وثقافة اجتماعية من مشاهدته لحياة البدو في البادية، والحضارة الأولية في الحجاز واليمن، والحضارة المعقدة المركبة في العراق ومصر، وحياة الفقراء من البدو والزُهَّاد من المحدِّثين، ومَنْ أخذوا بحظهم من الدنيا كمحمد بن الحسن الشيباني في العراق، وابن عبد الحكم في مصر، ورؤية لأنماط من الحياة الاجتماعية والاقتصادية مختلفة، تتطلب أنواعًا من التشريع مختلفة، فالمصريون يتعاملون أنواعًا من المعاملات لا يتعاملها أهل العراق، والمصريون والعراقيون يشتركون أحيانًا فيما لا يشترك معهم فيه الحجازيون، ونظام الري للنيل في مصر غير نظام دجلة والفرات في العراق، وذلك يستتبع اختلافًا في الخراج وما إليه، وكلاهما يختلف في ذلك عن بلاد لا تعرف أنهارًا كالحجاز؛ كل هذا وأمثاله كان له أثر كبير في تكوين مذهب الشافعي، فإن نحن أردنا أن نخطط رسمًا بيانيًا لمدرسته كما فعلنا من قبل كان هذا يسيرًا سهلًا:

figure

وكان الشافعي في أول أمره يَعُدُ نفسه تلميذًا لمالك، ومتبعًا لمذهبه وتعاليمه وأحد رجاله مدرسته، وما زال كذلك إلى سنة ١٩٥ حيث قدم بغداد قدمته الثانية، فهناك بلغ مبلغ مؤسس مذهب يدعو إليه، والظاهر أن أقوى ما أثر فيه اتصاله في قدمته الأولى بأصحاب أبي حنيفة واستفادته من كتب محمد وعلمه بطريقة أهل العراق، فقد رأى من غير شك أن طريقتهم لا يحسن أخذها كلها، ولا تركها كلها، فعندهم القياس وهو منهج صحيح، ولكنه في نظره ليس على إطلاقه بل لابد أن يتأخر عن الأحاديث الصحيحة حتى ما كان منها خبر آحاد، وعندهم طريقة التفريع، وتوليد المسائل الكثيرة من أصولها، وهي طريقة جيدة، وعندهم الجدل والاستدلال بالعدالة والمصلحة، وإلحاق الشبيه بالشبيه، وما بين الأشياء من فروق وموافقات، والمناظرة في ذلك وتأليف الحجج، وقد رأى ذلك حسنًا، ورأى نفسه في استعداد جيد للدخول في هذا الباب والتفوق فيه، فاقتبس من ذلك أحسنه وأضافه إلى ثروته الحجازية من اللغة والأدب أولًا، والحديث وإجماع أهل المدينة وطريقة الحجازيين في الاستنباط ثانيًا.

هاتان الناحيتان قد استفاد منهما الشافعي، وألَّف بينهما بشخصيته، فأخرج مذهبًا جديدًا دعا إليه في العراق سنة ١٩٥، وتبعه عليه بعض أصحابه البغداديين مثل أبي عليّ الحسين بن علي الكرابيسي، وكان من مشاهير علماء العراق، وله مصنفات كثيرة مات سنة ٢٥٦؛ ومثل أبي ثور الكلبي، وقد صحب الشافعي في بغداد وأخذ عنه، وألَّف في مسائل الاختلاف بين مالك والشافعي، وكان أميل إلى الشافعي في كتبه؛ وكأبي علي الزعفراني، كان يقرأ كتب الشافعي التي ألَّفها قبل قدومه مصر. ولكن يظهر أن الشافعي لم يجد لمذهبه في العراق نجاحًا كبيرًا لمزاحمة الحنفية له، ولِمَا لهم من جاه وسلطان وقوة، فتحوَّل إلى مصر. قال الزعفراني: لمَّا أراد الشافعي الخروج إلى مصر أنشد لنفسه:

أُخَيًّ أرى نَفْسِي تتَوقُ إلَى مِصْرِ
ومِنْ دُونهاَ أرض الْمَهَامِهِ والقفْرِِ
فوالله ما أَدْرِي أللِفْوز والغِنَى
أُسَاقُ إليهَا أم أُساقُ إلى قَبْرِي
قال الزعفراني: فوالله لقد سيق إليهما جميعًا؛٨٥ وسأل الشافعي الربيع عن أهل مصر قبل أن يرحل إليهم، فقال له الربيع: هما فرقتان: فرقة مالت إلى قول مالك وناضلت عنه، وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة وناضلت عنه، فقال الشافعي: أرجو أن أقدم مصر إن شاء الله فآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعًا؛ قال الربيع: ففعل ذلك والله حين دخل مصر.٨٦ وقد أقام بمصر نحو أربع سنوات أملى فيها كثيرًا من كتبه.
منحاه في الاجتهاد: لعل خير ما يلخِّص مسلكه ما ذكره هو إذ قال: «الأصل قرآن وسنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله وصح الإسناد منه فهو سنة، والإجماع أكبر من الخبر المفرد، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل معاني فما أشبه منها ظاهره أوْلاها به، وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادًا أولاها، وليس المنقطع بشيءٍ ما عدا منقطع ابن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل، ولا يقال للأصل لِمَ وكيف، وإنما يقال للفرع لِم، فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة».

أظهر مزايا الشافعي أنه على أثر ما رأى من صور مختلفة للتشريع، وتباين بين نمط الحجازيين والعراقيين، وما كان له من الجدل ومناظرات بين هؤلاء وهؤلاء، عمد إلى أن يحدد موقفه تحديدًا دقيقًا أمام هؤلاء وهؤلاء، رأى موقف الحجازيين إزاء الحديث غير موقف العراقيين، فسأل نفسه: ما موقفه، ورأى موقف الحجازيين إزاء القياس والاستحسان غير موقف العراقيين، فأراد أن يتعرف موقفه في ذلك؛ ورأى مثل هذا في إجماع أهل المدينة وإجماع العلماء عامة، فحاول أن يضبط ذلك؛ كل هذا نقله من الفروع إلى الأصول، وهذه من غير شك خطوة جديدة في التفكير، فإذا فرغ من وضع خطة في أصل هاجم مخالفها، لا فرق عنده بين أن يكون مخالفه حجازيًا أو عراقيًا، ولا فرق بين أن يكون أستاذه الذي أخذ عنه العلم، أو إنسانًا لا يعرفه.

ولنسق لذلك بعض الأمثلة، فقد فكر في الحديث ورأى نفسه أمام جماعة ينكرون الأخذ بالحديث بتاتًا، وجماعة يعملون به بشروط طويلة، وجماعة يعملون به في سهولة، فوضع له خطة خلاصتها: أنه إذا حدَّث ثقة عن ثقة عن رسول الله ولم يكن هناك حديث يخالفه عُمِلَ به، فإذا كانت هناك أحاديث مختلفة نظر: هل فيها ناسخ ومنسوخ، كأن يتأخر أحدها في الزمن، ويثبت بدليلٍ أن الحديث الأخير نسخ ما قبله فيُعْمَلُ بالناسخ، فإن لم يكن ناسخ ولا منسوخ نظر في أوثق الروايات وأمعنها في الصحة فعمل بها، فإن تكافأت عرضها على أصول القرآن والسنة الثابتة وعمل بما كان من الأحاديث أقرب إلى ذلك؛ وإذا ثبت الحديث عن رسول الله لا يترك هذا الحديث لأي قياس ولا لأي رأي، ولا لأي أثر يُروى عن صحابي كائنًا مَنْ كان، أو تابعي كائنًا مَنْ كان.

فلمَّا وصل إلى هذا الأصل استعرض موقف الحجازيين والعراقيين فرأى في كليهما مخالفة له فهاجمها، هاجم مالكًا وانتقده؛ لأنه ترك أحيانًا حديثًا صحيحًا لقول واحد من الصحابة أو التابعين أو لرأي نفسه، وكان أشد نقد موجه منه لمالك أنه ترك قول ابن عباس في مسألة إلى قول عكرمة، مع أن مالكًا يسيء القول في عكرمة، ولا يرى لأحد أن يقبل حديثه، قال الشافعي: «والعجب أن يقول في عكرمة ما يقول، ثم يحتاج إلى شيء من علمه يوافق قوله فيسميه مرة ويسكت عنه أخرى».٨٧
وهاجم بهذا المبدأ أيضًا العراقيين؛ لأنهم يشترطون في الحديث أن يكون مشهورًا، ويقدِّمون القياس على خبر الآحاد وإن صح سنده، وأنكر عليهم تركهم لبعض السنن لأنها غير مشهورة، وعملهم بأحاديث لم تصح عند علماء الحديث بدعوى أنها مشهورة؛ ومن أمثلة ذلك أيضًا أنه وقف في القياس موقفًا وسطًا لم يتشدد فيه تشدد مالك، ولم يتوسع فيه توسع أبي حنيفة، فهو يقول: «إن جهة العلم الكتاب والسنة والإجماع والآثار، ثم القياس عليها … ولا يقيس إلا مَنْ جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله عزَّ وجلَّ، فرضه وأدبه وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه … ولا يجوز لأحد أن يقيس حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب، ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول به دون التثبت، ولا يمتنع من الاستماع ممَنْ خالفه؛ لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبتًا فيما اعتقد من الصواب، وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده والإنصاف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك».٨٨

وهو على هذا الأساس قد أنكر الاستحسان وهاجم القائلين به، ويظهر من مجموع قوله أنه يعني بالاستحسان مجرد الرأي من غير أن يكون مستندًا إلى أصل شرعي، وشبَّه المُسْتَحْسِن في أثناء كلامه بالتاجر يقدر للشيء ثمنًا من غير أن يدخل السوق ويعرف أسعار اليوم. فتقديره لا ينبني على أساس، كذلك الفقيه يستحسن من غير أن يرجع في استحسانه إلى أصول الشريعة، ولذلك هاجم مالكًا في قوله بالمصالح المرسلة، وهاجم الحنفية في قولهم بالاستحسان.

وهكذا سار الشافعي على هذا المنوال، حدد موقفه بقواعد، وهو عمل فيما نعلم لم يُسبق إليه؛ وقد كان رحلته إلى المدينة ومكة واليمن والعراق مرارًا ومصر أثر في اتساع ثروته في الحديث، فلم يقتصر على الحديث الشائع في الحجاز كما فعل مالك، بل ضم إليه كثيرًا من الحديث الشائع في هذه البلدان الأخرى، وهذه الرحلات كذلك جعلته لا يتعصب لأهل المدينة، ولا يعترف بالحجة التي جعلها مالك أصلًا من أصول مذهبه، وهي إجماع أهل المدينة، فنقد مالكًا في هذا نقدًا قويًا، وذَكرَ أن مالكًا كان يقول بالإجماع، على حين أنه نفسه يروي أحاديث ضد الإجماع، فيقول مالك:
«إن الناس أجمعوا على أن لا سجدة في سورة الحج إلا مرة واحدة، مع أنه يروي عن عمر وابن عمر أنهما سجدا في سورة الحج مرتين إلخ».٨٩
ولم يسلم الشافعي من تهجم بعض العلماء عليه في حديثه كابن مَعِين، فقد أكثر فيه القول، وقال فيه ابن عبد الحكم: إنه كان يروي عن الكذَّابين والبدعيين، فروى عن إبراهيم بن يحيى مع أنه كان قدريًا، وروى عن إسماعيل بن علية مع أنه طعن فيه، وقالوا: إن البخاري ومسلمًا لم يرويا عنه شيئًا في صحيحهما، ولولا أنه كان ضعيفًا في الرواية لرويا عنه، وأن مذهبه أن المراسيل ليست بحجة، وقد ملأ كتبه من قوله أخبر الثقة، أخبرني من لا أتَّهمه إلخ.٩٠ وقد دافع أصحاب الشافعي عن هذه الأقوال دفاعًا شديدًا، ومع هذا كله فقد كان الشافعي أقرب إلى المحدِّثين وهم إليه أمْيل، ولئن فاقه بعضهم في معرفة الحديث وأسانيده ورجاله فقد فاقهم بفقهه في الحديث، حتى رُوِي عنه أنه قال لأحمد بن حنبل: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه.٩١ كان المحدِّثون أميل إلى الشافعي؛ لأنه توسَّع في استعمال الحديث والاستدلال به أكثر مما فعل مالك وأبو حنيفة، وحدَّ من الرأي والقياس وضيَّق سلطتهما، ولذلك كان من أنصاره أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وغيرهما من كبار المحدِّثين، كما أنه كان أقرب إلى نفوس الحنفية من المحدِّثين وفقهائهم؛ لأنه لم ينكر القياس جملة، بل قال به وقعَّد له القواعد، حتى لقد عدل بعض فقهاء العراق عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهبه؛ ولعل هذا الموقف — وهو تقريبه وجهة النظر بين المدرستين: مدرسة الحجاز ومدرسة العراق، وانتخابه ما رأى الحق في كلتيهما — هو أوضح ظاهرة في مدرسة الشافعي. قال الرازي: «إن الناس كانوا قبل الشافعي فريقان: أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، أمَّا أصحاب الحديث فكانوا عاجزين عن المناظرة والمجادلة، عاجزين عن تزييف طريق أصحاب الرأي، فما كان يحصل بسببهم قوة في الدين ونصرة الكتاب والسنة؛ وأمَّا أصحاب الرأي فكان سعيهم وجهدهم مصروفًا إلى تقرير ما استنبطوه برأيهم ورتبوه بفكرهم … (فجاء الشافعي) وكان عارفًا بالنصوص من القرآن والأخبار، وكان عارفًا بأصول الفقه وشرائط الاستدلال … وكان قويًا في المناظرة والجدل.. فرجع عن قول أصحاب الرأي أكثر أنصارهم وأتباعهم».٩٢
آثار الشافعي: من أهم ما وصل إلينا من عمل الشافعي رسالته في أصول الفقه، رواها عنه تلميذه المصري الربيع بن سليمان المرادي، وقد تكلَّم فيها فيما يحتاج إليه المجتهد إزاء القرآن من العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، وتكلَّم في موقف المجتهد من الحديث، وناسخه ومنسوخه، وما كان فيه من اختلاف وما يقبل منه وما لا يقبل، ثم تكلَّم في الإجماع، وإن «مَنْ قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومَنْ خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم»، ثم تكلم في إثبات القياس والاجتهاد، وحيث يجب القياس وحيث لا يجب، ومَنْ له أن يقيس، ومَنْ ليس له، وَنَقد الاستحسان وردَّ على القائلين به؛ وهو بهذا أول مَنْ وضع خطة في البحث في أصول الفقه جرى عليه كل مَنْ أتى بعده من علماء المذاهب الأخرى؛ قال الرازي: «واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسططاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض، وذلك لأن الناس كانوا قبل أرسططاليس يستدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة، لكن (ما) كان عندهم قانون مخلِّص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين، فلا جرم كانت كلماتهم مشوشة ومضطربة، فإن مجرد الطبع إذا لم يستعن٩٣ بالقانون الكلي قلَّما أفلح، فلمَّا رأى أرسططاليس ذلك اعتزل عن الناس مدة مديدة واستخرج علم المنطق، ووضع للخلق بسببه قانونًا كلياًّ يُرْجَعُ إليه في معرفة ترتيب الحدود والبراهين؛ وكذلك الشعراء كانوا قبل الخليل بن أحمد ينظمون أشعارًا، وكان اعتمادهم على مجرد الطبع، فاستخرج الخليل علم العروض فكان ذلك قانونًا كليًا في معرفة مصالح الشعر ومفاسده، فكذلك — هاهنا — الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي رحمه الله أصول الفقه، ووضع للخلق قانونًا كليًا يُرْجَعُ إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسططاليس إلى علم العقل … واعلم أن الشافعي صَّنف كتاب الرسالة ببغداد، ولمَّا رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة، وفي كل واحد منهما علم كثير، والناس وإن أطنبوا بعد ذلك في علم أصول الفقه إلا أن كلهم عيال الشافعي فيه؛ لأنه هو الذي فتح هذا الباب، والسبق لمَنْ سبق».٩٤
نعم روى ابن النديم أن محمد بن الحسن ألَّف كتابًا في أصول الفقه،٩٥ ولكن لم يصل إلينا هذا الكتاب حتى نستطيع أن نقارن بينه وبين رسالة الشافعي، ونعلم ماذا استفاد الشافعي من أصول محمد وماذا اخترع من نفسه؛ وقد كان هناك طريقان أمام مخترع أصول الفقه: الأول أن يضع القواعد التي تعين المجتهد على استنباط الأحكام من مصادر التشريع، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ والثاني استخراج القواعد العامة الفقهية لكل باب من أبواب الفقه، ومناقشتها وتطبيق الفروع عليها، — فيستنتج — مثلًا — قواعد البيع العامة، أو قواعد الإيجار، ويحددها ويبين مسلك التطبيق عليها، وكلا الطريقين يصح أن يُسمَّى أصول الفقه، وقد سلك الثاني الفرنج على النحو الذي تراه في أصول الشرائع لبنتام ومَنْ حذا حذوه؛ وقد اختار الشافعي الطريق الأول، وألهمه ذلك ما كان من الجدل القوي بين المحدِّثين والفقهاء من جانب، وفقهاء العراق وفقهاء الحجاز من جانب آخر. فاضطره هذا الخلاف أن يضع القواعد التي رأى أنها تحسمه؛ أضف إلى ذلك أن الطريق الثاني أكثر ما ينمو في التشريع الوضعي الذي يعتمد على النظريات العقلية الطليقة وتعديلها وفق ما يجدُّ من نظريات فلسفية وآراء مدنية، على أن هذا الضرب قد اتجه إليه بعض المسلمين بعد كما ترى في الأشباه والنظائر لابن نجيم وإن لم يسر طويلًا.
وليس تعرَُّضه لأصول الفقه مقتصرًا على رسالته في الأصول، بل تعرَّض له أيضًا في مواضع كثيرة من كتاب الأم، فتعرَّض — مثلًا — لمناقشة الفرقة التي تنكر العمل بالأحاديث بتاتًا،٩٦ وكتب فصلًا في إبطال الاستحسان،٩٧ فيظهر أن كثيرًا من المسائل الفرعية كانت تعرض له فتثير في ذهنه أصولًا متفرقة يفكر فيها ويطيل التفكير، ثم يضع لها القواعد، ثم جرَّد هذه القواعد وأكملها ورتَّبها وأخرجها في كتابه الرسالة؛ وله الفضل خاصة في تنظيم الإجماع والعمل به وما يصلح منه وما لا يصلح، وتنظيم القياس الذي جرى عليه الحنفية، ووضع قواعد له، وتقسيمه أقسامًا وتوضيح علله وبيان ما يجوز منه وما لا يجوز.

وقد خطا بكتابه خطوات في الفقه من حيث وضع القواعد للمجتهد وإلزامه الأخذ بها أو بنظائرها، حتى لا يأتي اجتهاده متناقضًا، يومًا يستدل بالعام ويومًا يقول إن دلالته ظنية، ويومًا يستدل بالخاص ويومًا يقول يحتمل أنه خصوصية إلخ، ولا يخفى ما يترتب على وضع هذه المبادئ من انتظام سير الفقه وتوحيد مجاريه، وعدم الاضطراب في التفريع.

الأم: هو أكبر أثر للشافعي بين أيدينا، وقد ثار الخلاف حديثًا في مصر هل الأم كتاب ألَّفه الشافعي أو ألَّفه البويطي؟ وأظن أنه لو حدد موضع النزاع في دقة لكان الأمر أسهل حلًا، فليس يستطيع أحد أن يقول إن ما بين دفتي الكتاب الذي بين أيدينا هو من تأليف الشافعي، وأنه عكف على كتابته وتأليفه في هذا الوضع النهائي، وأهم دليل على ذلك أن مطلع كثير من الفصول العبارة الآتية: «أخبرنا الربيع قال قال الشافعي»، وهي عبارة لا يمكن أن يكتبها الشافعي وهو يؤلِّف الكتاب، وفي ثنايا الكتاب نجد أخبارًا بعدول الشافعي عن هذا الرأي كأن يجيء في سير الكلام: «قال الربيع قد رجع الشافعي عن خيار الرؤية وقال لا يجوز خيار الرؤية»؛٩٨ ومحال أن تصدر من الشافعي هذه العبارة وأمثالها؛ كما لا يستطيع أحد أن ينكر أن في الأم مذهب الشافعي بقوله وعبارته، فالظاهر أنها أمالٍ أملاها الشافعي في حلقته كتبها عنه تلاميذه وأدخلوا عليها تعليقات من عندهم، واختلف روايتهم بعض الاختلاف، والذي بين أيدينا منها رواية الربيع المرادي عن الشافعي.

على كل حال بين أيدينا مجموعة في سبعة أجزاء أغلبها من كلام الشافعي رواها عنه تلميذه وأدخل فيها بعض تعليقات أفردَها وبيَّنها حتى لا تلتبس بكلام الشافعي، ومجموع ذلك هو الذي أطلق عليه «كتاب الأم»؛ وقد بُوِّب على أبواب الفقه كما فعل مالك في الموطأ، ولكن فيه فصول في أصول الفقه كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

وقد أُمْلِيتَ هذه الأبواب في مصر، والعلماء يقسَّمون فقه الشافعي إلى مذهبين: قديم وجديد. فأمَّا القديم فهو ما كتبه وقال به في العراق، وأمَّا الجديد فهو ما كتبه وقال به في مصر؛ ذلك أنه لمَّا جاء مصر عدل عن بعض أقواله له كان قالها من قبل، وسببه أنه خالط علماء مصر، وسمع ما صح عندهم من حديث وسمع تلاميذ الليث بن سعد ينقلون عنه آراءه وفقهه، ورأى بعض حالات اجتماعية تخالف تلك التي رآها في الحجاز والعراق؛ فغيَّر ذلك من فقه الشافعي في بعض أقواله، وأطلق عليه المذهب الجديد.

وفي «الأم» مصداق لجميع ما ذكرنا عن الشافعي، فهو فيه فصيح العبارة، قوي الأداء، تشوب عبارته بلاغة البادية وفصاحتها، وقوة القرشية وإيجازها، أخذ عليه بعض المتعقبين له أشياء عدوها غلطًا كقوله: ماء عذب، وماء مالح بدل ملح، وقول: الطهور هو المطِّهر، مع أن الطهور هو الطاهر على سبيل المبالغة، وقوله: وليست الأذنان من الوجه فيغسلان بدل فيغسلا، إلى أمثال ذلك؛ وهي في الحقيقة ليست أخطاء بل أجازها اللغويون والنحويون. وعلى كل حال فليس يستطيع أن ينكر أحد ما في عبارة الشافعي من دقة وقوة وبلاغة.

وفي الكتاب تظهر قوة الشافعي في الجدل، فأسلوب الكتاب كله تقريبًا أسلوب جدلي، حتى ليفترض مجادلًا يجادله فيردُّ عليه، ثم يعترض فيجيب: فإن قال قائل كذا رددنا عليه بكذا، «قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا في الكلام، قلت: فالذي ذهبتَ إليه محال، لا يجوز في اللسان. قال: وما إحالته وكيف لا يحتمله اللسان؟ قلت إلخ»، وهكذا يسير في كثير من المواضع على هذا الحوار السُّقْراطي، مما كان متأثرًا فيه بنمط العراقيين وحجاجهم وإكثارهم من «أرأيت».٩٩
ثم هو في الكتاب محدِّث يكثر من الاستدلالات بالحديث، وهو قَيَّاس يكثر من استعمال القياس، فيقول: «وبهذا نأخذ وهو قول الأكثر من أهل الحجاز والأكثر من أهل الآثار بالبلدان»،١٠٠ ويقول: «وقلنا في الكلب بما أمر به رسول الله وكان الخنزير إن لم يكن في شر من حاله لم يكن في خير منها، فقلنا به قياسًا عليه»،١٠١ إلى كثير من أمثال ذلك.
ثم هو متأثر بالمصرية أحيانًا فإذا أراد أن يمثِّل بصيغة لوقفية مثَّل لذلك بوقف بيت المال في الفسطاط من مصر،١٠٢ ويتكلم في الطين الذي يُعْرَفُ بالطين الأرمني والطين الذي يُقَال له طين البحيرة، وهما مما يدخلان في الأدوية، ويقارن بين الطين الأرمني وطين رآه في الحجاز،١٠٣ ويتكلم في القراطيس (وهي مصرية) ويبين متى يجوز أن تسلف ومتى لا يجوز،١٠٤ ويتكلم في شهادة الشعراء، ومَنْ يجوز شهادته منهم ومَنْ لا يجوز، فيستملي فيما يظهر من حال الشعراء في مصر١٠٥ إلى أمثال ذلك.

وعلى الجملة فالكتاب ثروة كبيرة من حيث دلالته على مناحي الشافعي في الاجتهاد، وعلى فقهه وعلى ما كان من أثر مصر في القول بالمذهب الجديد.. إلخ.

•••

وكان للشافعي أصحاب أخذوا عنه وتتلمذوا له، وحفظوا مذهبه، ونشروه، بعضهم في العراق وبعضهم في مصر؛ ومن أشهرهم في مصر البويطي والمزني والربيع المرادي. فالبويطي هو يوسف بن يحيى، والبويطي نسبة إلى بويط قرية من قرى صعيد مصر،١٠٦ وكان أكبَر أصحاب الشافعي وأعلمهم، وقد خَلفَ الشافعيَّ في رياسة حلقته، وكان في حياته يفتي على مذهبه وتتلمذ له كثيرون نشروا مذهب الشافعي، وألَّف كتابه المختصر اختصر فيه كلام الشافعي.
قال ابن عبد البر: «وكان ابن أبي الليث الحنفي قاضي مصر يحسده ويعاديه، فأخرجه في وقت المحنة في القرآن في مَنْ أخرج من أهل مصر إلى بغداد، ولم يخرج من أصحاب الشافعي غيره، وحُمِلَ إلى بغداد وحُبِسَ فلم يجب إلى مادُعِي إليه في القرآن، وقال هو كلام الله غير مخلوق، وحُبِسَ ومات في السجن يوم الجمعة قبل الصلاة سنة ٢٣١».١٠٧
وأمَّا المزني فهو إسماعيل بن يحيى، كان أقدر أصحاب الشافعي على المناظرة والجدل والغوص على المعاني الدقيقة، وقد كان يخالف الشافعي في بعض أقواله، فيقول بعد أن يحكي كلام الشافعي في مسألة: «ليس هذا عندي بشيء».١٠٨

ويظهر أنه امْتُحِنَ في مسألة خلق القرآن فقال كلامًا نجا به من الاضطهاد، فشنَّع عليه أعداؤه من المصريين حتى قلَّ الناس في حلقته، ثم زال ما في نفوسهم منه وعظمت حلقته حتى أخذت أكثر الجامع، وهو أكثر مَنْ دوَّن فقه الشافعي، وألَّف فيه الكتب الكثيرة، منها المختصر المطبوع على هامش الأم، وانتشرت كتبه ومختصراته في الأقطار فخدمت مذهب الشافعي، مات سنة ٢٦٤.

وأمَّا الربيع المرادي مولى قبيلة مراد، فكان مؤذنًا بمجسد عمرو بالفسطاط، وربما كان أبطأ تلاميذ الشافعي فهمًا، وقيل كانت فيه سلامة صدر وغفلة١٠٩ ولكنه ثقة صادق فيما يرويه، حتى لو تعارضت روايته مع رواية المزني فأصحاب الشافعي يقدمون روايته، وقد حمل عن الشافعي الكثير من علمه، والنسخة المطبوعة من الأم روايته، مات ٢٧٠.

وعلى الجملة فقد كان البويطي أفقه، والمزني أفصح وأمهر وأذكى، والمرادي أروى ولكلٍ فضل.

ومما يلاحظ أن أصحاب الشافعي لم يكونوا يخالفونه كثيرًا، كما كان أصحاب أبي حنيفة يخالفونه، فالمسائل التي خالف فيها أصحاب الشافعي إمامهم تكاد تكون معدودة وكثير منها تخرج على أصوله، وهذا بخلاف أصحاب أبي حنيفة، فقد خالفه أبو يوسف ومحمد وزفر في الأصول والفروع، وهذا يرجع — فيما أرى — إلى سببين: الأول أن مذهب أبي حنيفة لم يقيده أبو حنيفة، وإنما قيَّده ورتَّبه أصحابه، وله العذر في ذلك فقد أزهر أبو حنيفة قبيل عصر التدوين، وكان السابق والمبتكر في صبغ الفقه صبغته الجديدة، وترك لتلاميذه تدوينه، وهذا يجعل أصحابه في حل المخالفة عند مقارنة المسائل بعضها ببعض، وتطبيقها على الأصول، والسبب الثاني أن مذهب أبي حنيفة — كما علمنا — أميل إلى الرأي من مذهب الشافعي، والرأي يمنح أصحابه حرية لا تكون لأصحاب الحديث ومَنْ نحا منحاهم ومَنْ قرب منهم.

•••

ويطول بنا القول على هذا النمط في ترجمة أصحاب المذاهب الثلاثة عشر الذين عددناهم قبل، ويحتاج ذلك إلى كتاب مستقل، فنكتفي بهؤلاء الذين ذكرنا إذ كانوا يمثلون المناحي المختلفة في التشريع، ولكن لا بأس من أن نلم إلمامًا خفيفًا ببعض مَنْ كان لهم أثر كبير أو لون مختلف في الفقه فمنهم

أحمد بن حنبل: وهو أحمد بن محمد بن حنبل؛ عربي الأصل من شيبان وأصله من مرو، وُلِدَ ونشأ ببغداد سنة ١٦٤، ورحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة والشام واليمن والجزيرة في جمع الحديث؛ وقد صحب الشافعي وأخذ عنه، والشافعية يعدونه شافعيًا، ولكنه في الواقع يستقل عنه. وقد امْتُحِنَ في مسألة خلق القرآن فضُرِبَ وحُبِسَ، وظل على قوله بأن القرآن غير مخلوق، وصبر على ما لحقه من أذى، فكان ذلك مما زاده رفعة في نظر الناس، وكان ضربه وجبسه سنة ٢٢٠ في خلافة الواثق، فلمَّا جاء المتوكل أُفْرِجَ عنه لمَّا أُلغِي القول بخلق القرآن كما سيجيء الكلام في هذه المسألة تفصيلًا إن شاء الله، وتوفي بغداد سنة ٢٤١.

ولا خلاف في عدَّه من كبار المحدِّثين، ولكن الخلاف في عدِّه من الفقهاء؛ فابن جرير الطبري لم يعدّ مذهبه في الخلاف بين الفقهاء، وكان يقول إنما هو رجل حديث لا رجل فقه، وثارت عليه الحنابلة من أجل ذلك، ولم يذكره ابن قتيبة في كتابه «المعارف» بين الفقهاء، وذكره المقدسي في المحدِّثين لا في الفقهاء، واقتصر ابن عبد البر في كتابه الانتقاء على الأئمة الثلاثة، أبي حنيفة ومالك والشافعي، وخالفهم في ذلك غيرهم وخاصة المتأخرين.

والواقع أن فقهه أكثر ما يُبْنَى على الحديث، فإذا وَجَد حديثًا صحيحًا لم يلتفت إلى غيره، وإذا وجد فتوى من الصحابة عمل بها، وإذا وجد فتاوى لهم تخير أقربها إلى الكتاب والسنة، وأحيانًا يختلف الصحابة في المسألة على قولين، فيُرْوَى عن ابن حنبل في المسألة روايتان، وإذا وجد حديثًا مرسلًا أو ضعيفًا رجَّحه على القياس، ولا يستعمل القياس إلا عند الضرورة القصوى، ويكره الفتوى في مسالة ليس فيها أثر،١١٠ ولم يضع ابن حنبل كتبًا في الفقه على نمط خاص به، وكل ما رُوِي له في الفقه مسائل سُئِلَ عنها فأفتى فيها، وإنما رتَّب المذهب وبوَّبه ودوَّنه أتباعه.

فإن نحن نظرنا من ناحية النظريات القانونية ونظمها ورقيها، وجدنا ابن حنبل أكبر أثرًا في الحديث منه في الفقه.

وممَنْ له لون خاص في التشريع داود بن علي الأصبهاني، المعروف بداود الظاهري؛ وُلِدَ بالكوفة نحو سنة ٢٠٠، ونشأ ببغداد وتوفي بها سنة ٢٧٠، درس مذهب الشافعي وتعصَّب له وألَّضف في مناقبه، ثم استقل بمذهب يُعْرَفُ بمذهب الظاهرية، وتبعه كثير من الناس خصوصًا في فارس والأندلس.

وموقفه في الفقه موقف النقيض من الحنفية، ينكر القياس، ويرى أن في القرآن والحديث وعموماتهما ما يكفي لبيان الأحكام؛ فهو يتمسك بظاهر الكتاب والسنة، ومن هذا اشتق اسم الظاهرية، ويرى أن القول بالقياس تشريع عقلي، والدين إلهي، ولو كان الدين بالعقل لجرت أحكام على خلاف ما أتى به الكتاب والسنة، فوجب أن تتقيد بهما بل بظاهرهما ولا نبيح القياس إذا ورد نص بتحريم أو تحليل وبُيِّن فيه علته، فحينئذ يجوز لنا أن نشرك في الحكم الأشياء التي لم ينص عليها ولكن تتحد في العلة؛ أمَّا إذا لم ينص على العلة، فليس للمجتهد أن يقول بها من عنده ثم يقيس عليها، فالله تعالى يقول:وما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إَِلى اللهِ ولم يقل إلى الرأي والقياس. وقد هاجم القياسيين، وبيَّن ما ألجأهم إليه القياس من خطأ في الأحكام، وأداء هذا المنحى إلى مخالفة المذاهب الأخرى في كثير من المسائل.

وعلى الجملة فقد كان مجال التشريع عندهم أضيق من غيرهم؛ لأن أكبر منحى للاجتهاد هو القياس وقد أنكروه.

كذلك مما لا يسعنا إغفاله ما للشيعة والخوارج من فقه، وسنتكلم في فقههما عند الكلام في عقائدهما إن شاء الله.

•••

وبعدُ، فنستطيع بعد هذا الاستعراض للتشريع ومناحيه المختلفة أن نسجل النتائج الآتية:
  • (١)

    كان هذا العصر الذي نؤرخه أكثر عصور الإسلام نشاطًا في التشريع وأكثر عددًا من الفقهاء المجتهدين، كل ما كان فيه من وئام وخصام سَّبَب صهر المسائل الفقهية، والجد في تجريدها وتصفيتها، وكان العلماء أحرارًا ولا تُحْجَرُ على حريتهم في الاجتهاد والتفكير ما داموا بعيدين عن مسائل الخلافة وما إليها، فلهم أن يجتهدوا في غيرها ما شاءوا، ولهم أن يستنتجوا الأحكام من الكتاب والسنة أو القياس ما شاءوا، لا تتعرض ل مَنْ وسَّع على نفسه فاستعمل الرأي إلى غاية مداه، كما لا تتعرض ل مَنْ ضيَّق على نفسه فالتزم الأحكام من الكتاب والسنة وحدهما؛ ولم تلتزم الحكومة قانونًا بعينه تفرضه على الدولة كلها، ولا مذهبًا معينًا تفرضه على الأمصار فرضًا، بل اختارت القضاة من مناحٍ مختلفة في الاجتهاد، وتركت لهم الحرية في الأحكام على حسب اجتهادهم، فربما حُكِمَ في المسألة بحكمين مختلفين في مصرين مختلفين، بل ربما حُكِمَ بحكمين مختلفين في بلد واحد إذا كان لهما قاضيان، كما ذكر ابن المقفع، ولم تتدخل الحكومة في حسم الخلاف وتوحيد القضاء ولا في عاصمتها نفسها، وأمَّا مَنْ عدا القضاة من الفقهاء المجتهدين فحريتهم في التشريع أظهر.

وكما كثر الفقهاء والمشرعون وكثر اجتهادهم، كثرت المسائل القانونية، وأحكام الجزئيات كثرة لا يقاس بها ما كانت عليه قبل هذا العصر، فُفرِّعت الفروع، وفُرِضت الفروض، ووضع لها الأحكام، وعرضت كل العادات والتقاليد والعرف في الأمصار المختلفة في عراق وحجاز وشام ومصر على الفقه، وواجهها الفقهاء وشرعوا لها الأحكام، أو أقروها على ما هي عليه إذا لم تصطدم بنص، وتوسعوا في بابي الإجماع والقياس، حتى دخلت منهما العادات العراقية والشامية والمصرية، وأقرّتَ على ما هي عليه أحيانًا، وعدِّلت إذا خالفت أصول الإسلام وأصبحت جزءًا من الفقه الإسلامي.

ذلك بأنهم جعلوا العرف أساسًا من أسس التشريع، واستندوا في ذلك على حديث «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»،١١١ وجاء في المبسوط: «الثابت بالعرف كالثابت بالنص». وقسَّموا العرف إلى قسمين: عرفٌ عملي كتعارف قوم صرف الفضة بالفضة، وعُرفٌ قولي كتعارفهم إطلاق لفظ على معنى بحيث لا يتبادر عند سماعه غيره، وكلا المعنيين أخذ به الفقهاء، فأجازوا كثيرًا من المعاملات لجريان العرف بها، وحملوا في كثير من الأحيان ألفاظ الوقف والطلاق والأيْمَان على ما جرى العرف في تفسيرها؛ فدخل الفقه من هذا الباب كثير من العادات المستعملة في الأمصار. مثال ذلك «الاستصناع» وهو أن يقول شخص لرجل من أهل الصنائع اصنع لي الشيء الفلاني، ويصفه، بثمن قدره كذا، فقد أجازه الحنفية لجريان العرف به مع ورود النص في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، فخصصوا النص بالعرف، وأجاز مشايخ بلخ أن يدفع الرجل للحائك غزلًا على أن ينسجه بالثلث، وقالوا إن هذه إجارة صحيحة لتعامل أهل بلدهم بها «والتعامل حجة يترك به القياس ويخُص به الأثر»،١١٢ إلى كثير من أمثال ذلك، وقد اشترطوا في المجتهد معرفة عادات الناس «لأن كثيرًا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير العرف» ومن ذلك ما روى الكَرْدَرِي في المناقب أن محمد بن الحسن «كان يذهب إلى الصباغين ويسأل عن معاملتهم وما يديرونها فيما بينهم». وكتب الفقه مملوءة بمسائل الخلاف بين الأئمة مما كان سببه اختلاف العرف في أمصار الأئمة أو زمانهم؛ وكل الذي أريد أن أذكره هنا أنه من هذا الطريق — طريق العرف والعادات — دخل كثير من عادات الأمم ودُوِّن في الفقه، وكان أئمة كل مصر يستعرضون ما عندهم من عادات فيعرضونها على قواعد الإسلام فما لم يخالف منها نصًا صريحًا أجازوه، بل أحيانًا يجيزونه ويخصصون النص كما رأيت. ومن أمثلة ذلك أيضًا إجازة بعضهم بيع ثمار البستان إذا كان بعضها قد خرج وبعضها لم يخرج؛ لأن العرف جرى بذلك، وقال شمس الأئمة: «أستحسن ذلك لتعامل الناس، فإنهم تعاملوا بيع ثمار الكَرْم بهذه الصفة، ولهم في ذلك عادة ظاهرة، وفي نزع الناس من عاداتهم حرج»،١١٣ مع أن هذا أيضًا ينطبق عليه أنه بيع الإنسان ما ليس عنده، وهو ما نُهِي عنه؛ لأن الثمار التي تتلاحق ليست موجودة كلها، فخصصوا النص أيضًا بالعرف. وأفتوا فيما يدخل في المبيع تبعًا وما لا يدخل بعرف كل بلد، فقالوا إن السّلم المنفصل يدخل في بعيد البيت في القاهرة لأن بيوتهم طبقات لا ينتفع بها إلا به، ولا يدخل البلاد التي بيوتها طبقة واحدة إلخ.

وقد كان لكل أمة عرف وعادات في بيعها وشرائها وفي لغتها، ودلالة ألفاظها على معانيها، وفي الزواج وما يكون جهازًا وما لا يكون، وفي الأراضي هل يدفع العشر المؤجر أو المستأجر إلخ، وكل هذه العادات عرضت على الأئمة فأدخلوها في الفقه وكانت من أكبر مصادره، لأن كثيرًا من عادات الأمم لم تعرف في عهد النبي فلم يرد فيها نص من كتاب ولا سنة، ورجوع الناس عن عاداتهم التي جروا عليها أجيالًا ليس بالأمر الهين؛ لذلك أجاز الفقهاء الكثير منها وأقروها وعدُّوها إسلامية، وكان هذا سببًا من أسباب تضخم الفقه.

  • (٢)

    كان المسلمون قبل هذا العصر، وفي أول العصر لا ينحازون إلى مذاهب، بل المسلم أحد رجلين، أمَّا عالم مجتهد فهو يدرس ويجتهد لنفسه في تعرُّف الأحكام ويعلِّم ذلك لتلاميذه، وأمَّا عامي أو شبه عامي إذا عرضت له مسالة استفتى فيها مَنْ صادفه من المجتهدين كائنًا مَنْ كان فيعمل بما يفتيه، والمجتهدون كثيرون مختلفون، فلمَّا تقدم الزمن في العصر العباسي رأينا المذاهب تتبلور، ولكنها مع تبلورها كثيرة، اشتهر منها ثلاثة عشر مذهبًا أو يزيد، ورأينا الكتب توضع في كل مذهب، ورأينا الناس ينحازون إلى هذه المذاهب، ثم رأينا بعض المذاهب يقدر لها الانقراض فيفنى أصحابها، أو يقل أتباعها، وبعضها يقدر له البقاء والنماء، حتى يصبح بعد عصرنا هذا والمذاهب أربعة فقط حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي، هذا عدا الشيعة والخوارج، وإذا بالناس ينحازون إلى هذه المذاهب لا إلى غيرها، وتنقسم البلاد هذه المذاهب، فيسود كل مذهب قطرًا، وتقل بجانبه المذاهب الأخرى (كما سيأتي بيانه في حينه)، وإذا عرض لعامي أمر استفتى فيه علماء مذهبه غالبًا، وتعبَّدَ عليه في الصلاة والزكاة والصيام والحج، وسار في الزواج والطلاق على مذهب إمامه.

  • (٣)
    إذا تتبعنا ما كان بين مدرسة الرأي ومدرسة القياس، ونظرنا إلى الفقهاء من حيث مقدار حريتهم في الرأي، وأردنا أن نضع لهم قائمة تبين درجتهم في ذلك، وجدنا أن أول القائمة طائفة رأت عدم العمل بالحديث والاكتفاء بالقرآن، قالوا: لأنكم تروون الحديث عن رجل آخر، وليس أحد إلا وهو عرضة للخطأ أو النسيان، فلسنا نقبل منها شيئًا إذ كانت عرضة للوهم، ولا نقبل إلا كتاب الله الذي لا يسع أحدًا الشك في حرف منه،١١٤ وقد حكى الشافعي في الأم عنهم أنهم انقسموا قسمين، قسم قالوا: ما لم يكن فيه كتاب الله فليس على أحد فيه فرض، وقسم قالوا: يقبل الحديث إذا كان فيه قرآن.١١٥

ومثل هؤلاء القوم يصح أن يوضعوا في أعلى قائمة الحرية إذا كان مذهبهم أن نلتزم فقط ما جاء في القرآن، أمَّا ما عداه فنعمل فيه بالرأي والعدالة، وهذا هو الأقرب من قولهم، كما يصح أن يوضعوا في أسفل القائمة حتى بعد الظاهرية إن قالوا لا نعمل إلا بما ورد في كتاب الله، ومما يؤسف له أنا لم نجد نصًا صريحًا يعين اتجاه مذهبهم فإن كانوا قد ذهبوا إلى الاتجاه الأول كانوا — من غير شك — أكثر الفقهاء حرية لأنهم لا يلتزمون إلا ما ورد في الكتاب من أحكام، أمَّا ما عدا ذلك فهم أحرار في استعمال الرأي فيه؛ كما أنه مما يؤسف له أنا لا نعلم لذلك زعيمًا دعا إلى هذا الرأي ووضع له قواعده وأصوله وفرَّع عليه، بل لم يسمَّ الشافعي في الأم اسم مَنْ ذهب هذا المذهب.

يلي هؤلاء — إن كان مذهبهم كما فسرنا — مذهب أبي حنيفة؛ فقد قيَّد الحديث الذي يُعْمَلُ به وضيَّق دائرته ووسَّع القياس، ثم الشافعي فقد وسَّع الحديث وقلَّل دائرة القياس، ثم مالك فلم يتوسع في القياس كما توسَّع الشافعي، ثم أحمد بن حنبل فقد أبى استعمال القياس إلا عند الضرورة القصوى، وفضَّل عليه الحديث الضعيف، ثم داود الظاهري فقد أنكر القياس إلا ما نص فيه على العلة.

والذي يستعرض هذه الآراء يرى أن دائرة الحرية التي كان يسبح فيها مذهب أبي حنيفة أخذت في الضيق، حتى أن تلاميذه أنفسهم كأبي يوسف ومحمد كانا من عوامل هذا التضييق؛ فقد أخذا من مدرسة الحجاز حديثًا كثيرًا عدَّلا به مذهب أبي حنيفة وخالفا به شيخهما، ولئن أثر مذهب أبي حنيفة في المذاهب الأخرى من ناحية الرأي والقياس، فقد كان تأثير مدرسة الحديث في مذهب أبي حنيفة أقوى وأكثر. ولو فكَّر مفكر في ذلك العصر ربما توقع غلبة مذهب أبي حنيفة وسيادته على مذهب الحديث لتأييد الحكومة العباسية له بعض الشيء، ولغلبة مذهب الاعتزال نحو خمسين عامًا ختمت ببدء خلافة المتوكل، ومذهب الاعتزال هو القائل بالتحسين والتقبيح العقليين، ولظهور الفلسفة في العراق وهي أدعى إلى الحرية الفكرية، ولكن مع كل هذا كانت الغلبة في الفقه لمدرسة الحديث، والسبب في هذا — على ما يظهر — أن قوة المحدِّثين كانت أكبر وجمهور المسلمين كان لهم أنصر، وأن حركة الاعتزال وحركة الفلسفة كانتا حركتين أرستقراطيتين يعتنقهما في الغالب أرستقراطية الشعب لا جمهوره؛ ولذلك هوجم القول بخلق القرآن الذي قال به المعتزلة هجومًا عنيفًا من الشعب، ورفع جمهور الناس الذين يقفون في وجهه ويتحرجون من القول به ويتحملون العذاب في سبيله إلى درجة عليا إلى أن قضى عليه، وكذلك هوجمت الفلسفة من الشعب، ولم ينفع كثيرًا تأييد الحكومة العباسية مذهب أبي حنيفة بعض الشيء؛ لأن أكبر هذا التأييد مصدره وجود أبي يوسف على رأس القضاة، وأبو يوسف نفسه كما رأينا كان من عوامل إدخال الحديث الكثير في فقه أبي حنيفة وتعديله. لهذا كله ضاقت دائرة الرأي والقياس واتسعت دائرة الحديث، يضاف إلى ذلك أيضًا أن المحدِّثين قد نشطوا نشاطًا كثيرًا في هذا العصر، فجمعوا الأحاديث المتفرقة في الأمصار المختلفة صحيحها وضعيفها، وكثير من هذه الأحاديث تتعلق بالأحكام؛ فاضطر الفقهاء أمام هذه الأحاديث وأمام قوة المحدِّثين أن يخضعوا أنفسهم للحديث، ولهذا نرى كتب الفقه حتى كتب الحنفية تستدل على أكثر الأحكام بالحديث، وإن كان بعضها ضعيفًا، ونرى أن الفروق بين المدارس المختلفة قلّتَ، فلم تعد بين تلاميذ أبي حنيفة والشافعي ومالك فروق كالتي كانت بين مالك وأبي حنيفة أنفسهما، حتى ليظن الظان لأوَّل وهلة أن منحى التشريع عند الجمهور واحد، ولم يكن ذلك صحيحًا عند تأسيس هذه المدارس، وإنما أظهره بهذا المظهر شيء واحد: هو «غلبة رجال الحديث».

١  انظر مسلم الثبوت ٢٥/١ وما بعدها.
٢  انظر الفصل الممتع في ذلك في كتاب إعلام الموقعين لابن القيم جزء ١٣/٢ وما بعدها.
٣  انظر المستصفى للغزالي ٣٧٤/١.
٤  انظر المستصفى للغزالي ٢٨٤/١.
٥  روى هذا الحديث عن النسائي.
٦  انظر حجة الله البالغة ١٥١/١ وما قبلها.
٧  انظر هذا الرأي في كتاب الأم ٢٥٠/٧.
٨  ضحى الإسلام ٢٠٩/١.
٩  انظر كذلك ضحى الإسلام ٣٥٥/١.
١٠  انظر موضوع سبب الخلاف كتاب الإنصاف للبطليوسي.
١١  خلاصة مذهب الحنفية في الغصب إذا غيره الغاصب بزيادة فيه كأن غصب ثوبًا فصبغه أن المالك يخيَّر فإن شاء ردَّ قيمة الزيادة واسترد العين المغصوبة، وإن شاء ضمن الغاصب قيمة الشيء المغصوب وتركه له، ومذهب الشافعي أن المالك إن رضى أن يأخذ قيمة الشيء المغصوب فيها وإلا أمر الغاصب بإزالة الزيادة ورد العين إليه، وهناك تفصيلات في هذا الموضوع لا محل لذكرها هنا.
١٢  مناقب الشافعي للفخر الرازي ص ١٨٥ وفيه ٢٣ مسألة من هذا القبيل.
١٣  انظر هذه المناظرة في أعلام الموقعين.
١٤  رسالة الصحابة لابن المقفع، وانظر ضحى الإسلام ٢٠٨/١ وما بعدها.
١٥  انظر الانتقاء لابن عبد البر ص ١٢٢، وترجمة أبي حنيفة لابن حجر (مخطوط).
١٦  تيم الله بن ثعلبة.
١٧  مناقب أبي حنيفة للمكي ص ٥٥.
١٨  المصدر نفسه ص ٥٩ وما بعدها.
١٩  الانتقاء لابن عبد البر ص ١٢٦.
٢٠  مناقب أبي حنيفة للمكي ٥٦، وانظر تاريخ بغداد للخطيب ٣٣٣/١٣.
٢١  الخطيب البغدادي ٣٣١/١٣.
٢٢  الخطيب ٣٢٩/١٣.
٢٣  ابن عبد البر ١٧٠.
٢٤  ابن خلكان ٤٥١/٢.
٢٥  الخطيب ٣٢٨/١٣.
٢٦  يريد بالعامة الجمهور، لا ما يقابل الخاصة.
٢٧  نقل هذا القول عن أبي يوسف الشافعيُ في الأم.
٢٨  وانظر تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ص ١٨٥ وما بعدها.
٢٩  مناقب أبي حنيفة للمكي ص ٩٥.
٣٠  مناقب أبي حنيفة للمكي ص ٩٩.
٣١  مناقب أبي حنيفة للمكي.
٣٢  مناقب أبي حنيفة للمكي ٩٦.
٣٣  الخطيب البغدادي.
٣٤  الحيوان ٦/٣.
٣٥  المناقب للمكي ١٦٣/١.
٣٦  وقد ألَّف محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كتاب المخارج في الحيل، نشره الأستاذ يوسف شخت سنة ١٩٣٠ فارجع إليه، وقد اختلفت العلماء في صحة نسبة الكتاب لمحمد، انظر ص ٧٨ منه.
٣٧  الجزء الثالث.
٣٨  ٢١٨/٣.
٣٩  ٢٥٤/٣.
٤٠  المكي ١٦٠/١.
٤١  ص ١٦٦.
٤٢  ابن عبد البر ١٥٣.
٤٣  الحيوان ٤٣/١.
٤٤  تجد هذه الأقوال المتناقضة في الخطيب البغدادي جزء ١٣.
٤٥  الانتقاء ٢٤٩.
٤٦  انظر تاريخ الفقه لمحمد بن الحسن الحجوي ١٤٢/٢.
٤٧  الانتقاء ١٤٩.
٤٨  عيون الأخبار ١٤٠/٢.
٤٩  ابن النديم ٢٠٢.
٥٠  تاريخ الفقه للحجوي.
٥١  ابن عبد البر في الانتقاء ١٧٢.
٥٢  فهرست ابن النديم ٢٠٣.
٥٣  ص ١٧٣.
٥٤  الخراج طبعة السلفية ١٠٠.
٥٥  ص ١٠٦.
٥٦  ص ٨٣.
٥٧  انظر ابن خلكان والخطيب البغدادي في ترجمته.
٥٨  ١٧٣/٢.
٥٩  طُبِعَ على هامش كتاب الخراج.
٦٠  يقول ابن النديم إنه كان واليًا على أصفهان.
٦١  الخطيب ١٧٦/٢.
٦٢  الفهرست ٢٠٦.
٦٣  الانتقاء لابن عبد البر ص ١١.
٦٤  الانتقاء ٤٣.
٦٥  بل في رسالة الليث بن سعد إلى مالك ما يفيد أن يحيى بن سعيد وعبد الله بن عمر وغيرهما من فقهاء المدينة كانوا من أهل الرأي.
٦٦  ابن عبد البر ١٦.
٦٧  انظر تاريخ الفقه لمحمد بن الحسن الحجوي ١٦٦/٢.
٦٨  انظر في هذا المستصفى للغزالي، ومسلم الثبوت ١٨٥/٢ وما بعدها.
٦٩  اختلف العلماء في سبب تسميته الموطأ، فبعضهم قال إنه شيء صنعه ووطأه للناس ومهد به العلم ويسره: فسُمَّي من أجل ذلك بالموطأ؛ وبعضهم قال إن مالكًا لمَّا ألفه عرضه على الشيوخ فواطؤوه عليه فسُمَّي الموطأ.
٧٠  وبعض نسخ الموطأ ليس فيها بعض هؤلاء الستة.
٧١  الزرقاني ٩/١.
٧٢  شرح الزرقاني على الموطأ ٨/١.
٧٣  الزرقاني ٧/١.
٧٤  المصدر نفسه ٨/١ وانظر مقالة دائرة المعارف الإسلامية في مادة مالك، والديباج المذهب، ومناقب مالك للسيوطي.
٧٥  انظر ابن خلكان ٤١٣/١، وانظر الانتقاء لابن عبد البر ص ٥١.
٧٦  ابن خلكان ٣٢١/٢.
٧٧  ابن عبد البر ٦٠.
٧٨  توالي التأسيس لابن حجر ص ٥.
٧٩  الأم ١٧٤/١.
٨٠  الأم ١١٨/٥.
٨١  انظر ابن عبد البر في الانتقاء ص ٩٥ وما بعدها، وابن حجر في توالي التأسيس ص ٦٩ وما بعدها.
٨٢  توالي التأسيس ص ٥٤.
٨٣  الأم ١٧٩/٦.
٨٤  انظر الوصية في الأم ٤٨/٤.
٨٥  ابن عبد البر ١٠٢.
٨٦  ابن حجر ٧٧.
٨٧  مناقب الشافعي للفخر الرازي ص ٢٨.
٨٨  رسالة الشافعي في الأصول ص ٧٠.
٨٩  الفخر الرازي ص ٢٧.
٩٠  الفخر الرازي ص ١٤٨.
٩١  الفخر الرازي ص ١٤٨.
٩٢  ٢٤٣.
٩٣  في الأصل (يستغني).
٩٤  الرازي ص ١٠٠ وما بعدها، وانظر كذلك البحث القيم الذي كتبه الأستاذ مصطفى عبد الرازق في «الشافعي واضع أصول الفقه».
٩٥  الفهرست ص ٢٠٤.
٩٦  ٢٥٠/٧.
٩٧  ٢٦٧/٧.
٩٨  ٣/٣.
٩٩  الأم ٥/٣.
١٠٠  ٣/٣.
١٠١  ٥/١.
١٠٢  ٢٨١/٣.
١٠٣  ١٠٣/٣.
١٠٤  ١٠٩/٣.
١٠٥  ٢١٢/٦.
١٠٦  في الصعيد قريتان باسم بويط: إحداهما في الصعيد الأوسط بمديرية أسيوط، والأخرى في الصعيد الأدنى بمديرية بني سويف، وإلى الأخيرة ينتسب عالمنا هذا.
١٠٧  الانتقاء ٦٤
١٠٨  طبقات الشافعية ٢٤٣/١.
١٠٩  الطبقات ٢٦٠/١ — وابن عبد البر ١١٢.
١١٠  انظر تاريخ الفقه للحجوي ٢٦/٣، وأعلام الموقعين ١٣٦/٣.
١١١  قال العلائي: «لم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود موقوفًا عليه، أخرجه الإمام أحمد في مسنده.
١١٢  رسائل ابن عابدين ١١٦/٢.
١١٣  الرسائل ١٤٠/٢.
١١٤  انظر حكاية هذا المذهب في الأم ٢٥٠/٧ وما بعدها.
١١٥  ٢٥٢/٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤