الفصل الأول

المعتزلة

وقد بدأنا بها لأنها أهم فرقة يدين لها علم الكلام مما أثارت من مسائل، وبسطت من شرح، ووضعت من أصول؛ ولنقسم الكلام فيها إلى قسمين: قسم يتضمن أهم تعاليمهم، وقسم يتضمن تاريخهم السياسي؛ فإذا ذكرنا تعاليمهم فصلنا بعض التفصيل آراءهم وأدلتهم ووجهة نظرهم، وألممنا إلمامة خفيفة بموقف خصومهم منهم؛ وإذا ذكرنا تاريخهم السياسي عرضنا لأشهر رجالهم، والمسائل الفرعية التي قال بها كل منهم، ولموقفهم من الدولة وموقف الدولة منهم، وموقفهم من الرأي العام وموقف الرأي العام منهم، وأهم الأحداث التي حدثت منهم ولهم، وهكذا.

(١) تعاليمهم

للمعتزلة مبادئ يكادون يشتركون فيها جميعًا، ومبادئ خاصة ببعض رؤسائهم؛ فالأولى هي التي نذكرها الآن، والأخرى نرجئها — غالبًا — إلى ترجمة أصحابها؛ فأما المبادئ العامة للمعتزلة فيكاد المؤرخون يجمعون على أنها خمسة أصول:

  • (١)

    القول بالتوحيد.

  • (٢)

    القول بالعدل.

  • (٣)

    القول بالوعد والوعيد.

  • (٤)

    القول بالمنزلة بين المنزلتين.

  • (٥)

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال الخيّاط (أحد زعماء المعتزلة في القرن الثالث): «وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإذا كملت فيه هذه الخصال فهو معتزلي».١ ومثل ذلك ما قاله المسعودي في «مروج الذهب»: «كان يزيد الناقص يذهب إلى قوله المعتزلة وما يذهبون إليه في الأصول الخمسة من التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والأسماء والأحكام — وهو القول بالمنزلة بين المنزلتين — والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».٢ ولنوضح الآن نظرهم في كل أصل من هذه الأصول:

(١-١) التوحيد

وقد عدّ هذا المبدأ من أهم مبادئ المعتزلة، لأنهم ذهبوا في تفسيره تفسيرًا خاصًا، وبلغوا في تحليله وفلسفته أقصى حد، فمن ثم نسب إليهم خاصة، وإن كان المسلمون جميعًا يمتازون بالتوحيد، وباعتقاد أن «لا إله إلا الله وحده لا شريك له».

ذلك أن المعتزلة رأوا أن في القرآن آيات كثيرة تدل على التنزيه من مثل قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وآيات ظاهرها يدل على التجسيم من مثل قوله تعالى: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ورأوا آيات تدل على أنه تعالى ليس في جهة معينة مثل قوله: وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، وآيات ظاهرها الجهة مثل قوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وأَأَمِنْتُم مَّن فِي السَّمَاءِ.

وكان كثير من علماء المسلمين في ذلك العصر يؤمنون بالتنزيه إيمانًا إجماليًا، ويمسكون عن الكلام في الآيات الأخرى كآية الاستواء على العرش، والوجه، واليدين، والجهة، ويقولون إننا نؤمن بوجود الله ووحدانيته، ولا نذهب وراء ذلك، لأنه لا يجب علينا أن نعرفه، وإنما يجب علينا أن نؤمن به كما ورد، وإننا إن دخلنا في تفصيل ذلك وتأويله كان تأويلنا قولنا لا قول الله، وهو عرضة للخطأ، فيجب أن نتحرز منه. وقد نقل عن السلف كثير من هذه الأقوال التي يتحرجون فيها من إبداء آرائهم، نقلنا بعضها قبل.

أما المعتزلة فكانوا أجرأ من هؤلاء، فقالوا: إننا نستمسك بآيات التنزيه ونشرحها ونوضحها ونحللها، ونتعرض للآيات الأخرى من مثل الاستواء، والوجه واليدين، ونتأوّلها تأويلًا يتفق والتنزيه، ولا نعكس، لأن الإسلام دين توحيد وتنزيه، ويكاد المسلمون يجمعون على هذا التنزيه، فيجب أن نحمل ما ظاهره يخالف ذلك على ما هو صريح ومجمع عليه، ولا نكتفي بالإيمان الغامض بالآيات المتشابهة، لأن العقل لا يقنع بالغموض، وله حق الشرح والتأويل والتوفيق بين الآيات، فهذا بالعلماء أشبه؛ ومن ثم بسطوا الرأي في التوحيد والتنزيه، فقالوا: «إن الله واحد ليس كمثله شيء، وليس بجسم ولا شبح، ولا جثة ولا صورة، ولا لحم ولا دم، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض، ولا بذي لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا مجسة، ولا بذي حرارة، ولا برودة، ولا رطوبة، ولا يبوسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق، ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعَّض، وليس بذي أبعاض وأجزاء، وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين وشمال، وأمام وخلف، وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الجلوس في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه، ولا تجري عليه الآفات، ولا تحل به العاهات، وكل ما يخطر بالبال وتُصوَّر بالوهم فغير مُشبه له، لم يزل أوّلًا سابقًا متقدمًا للمحدثات، موجودًا قبل المخلوقات، ولم يزل عالمًا قادرًا حيًا ولا يزال كذلك، لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأوهام، ولا يُسمع بالأسماع، شيء لا كالأشياء، عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء، وأنه القديم وحده ولا قديم غيره، ولا إله سواه ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه، ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق، ولم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه، ولا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار، ولا يناله السرور واللذات، ولا يصل إليه الأذى والآلام» إلخ.٣
فترى من هذا أنهم حللوا التنزيه تحليلًا فلسفيًا بما أبانوا من صفات الأ سلوب، وأوضحوا معنى التوحيد في جلاء كما يدل عليه العقل، وشرحوا قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أقصى شرح وأعمقه. وكان طبيعيًا بعد ذلك أن يقفوا عند الآيات الأخرى ويؤولونها؛ فقالوا في قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ أن معنى قول اليهود يد الله مغلولة وصفه بالبخل، وقوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ تعبير مجازي «يدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له من نفسه أن يعطي بيديه جميعًا، فبني المجاز على ذلك».٤ وقالوا في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى: «لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك جعلوه كناية عن المُلك؛ فقالوا فلان على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضًا لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤداه، وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر».٥ ويقولون في قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ: «وجه الله ذاته، والوجه يعبر به عن الجملة والذات، ومساكين مكة يقولون أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان».٦ ويقولون في قوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ: «إن علّقت من فوقهم بيخافون. فمعناه يخافونه أن يرسل عليهم عذابًا من فوقهم، وإن علقته بربهم — حالًا منه — فمعناه يخافون ربهم عاليًا لهم قاهرًا؛ كقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ.٧ وقالوا في قوله: وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ معناه المعبود فيها كقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ، أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها، أو هو الذي يقال له الله فيها لا يشرك به في هذا الاسم».٨

وهكذا لما خلص لهم دليل التنزيه على النحو الذي فسروه به أوَّلوا كل الآيات الدالة على الجهة، وعلى الأعضاء، وعلى مشابهة المخلوقات، وفعلوا ذلك في جميع الآيات والأحاديث التي قد يخالف ظاهرها أصل التوحيد بالمعنى الذي شرحوه؛ فقالوا بنفي الجهة، لأن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية، فكل ما ورد مما ظاهره هذه الجهة يجب أن يؤول، مثل: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ، ومثل: يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلىَ الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مَّمَّا تَعُدُّونَ، وقوله: تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ، وقوله: أَأَمِنْتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. وكذلك فعلوا في الآيات التي تدل على الجسمية كإثبات الوجه واليدين، فقالوا: إن الدليل على أنه تعالى ليس بجسم أن كل جسم محدث، لحاجة الجسم إلى الأعراض، كالطول والعرض والجهة وما إلى ذلك، وما لا يتعرى عن الحوادث حادث، ولذلك وجب تأويل الآيات التي تشعرنا بالجسمية. وفي تفسير الكشاف للزمخشري — وهو من أكبرعلماء المعتزلة — أوضح مثل لما ذهبوا إليه في التأويل؛ فقد وفي ذلك كله في الآيات التي من هذا القبيل.

وقد كانوا منطقيين مع أنفسهم، وساروا في تطبيق نظرياتهم إلى آخر حدود التطبيق، ولنذكر لك مثلين من أهم ما سلكوه في الاستنتاج:

(المثل الأول) ما أثاروه من مسألة رؤية الله بالأبصار — فقد رأوا أنه إذا انتفت الجسمية انتفت الجهة، وإذا انتفت الجهة انتفت رؤية الناس له تعالى؛ إذ كل مرئي في جهة من الرائي، ولا بد للرؤية من شروط: كالضوء، وكون المبصر ذا لون إلخ، وذلك كله محال في جانب الله.

وبجانب هذه الأدلة العقلية استدلوا بأدلة نقلية مثل قوله تعالى: لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ومثل قوله: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلىَ الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أوَّلُ المُؤْمِنِيَن، فقوله لن تراني يثبت نفي الرؤية مع تأكيده.

وقد ثار الجدل بين المعتزلة وخصومهم حول هذه الآية فقال خصومهم: إن الآية تدل على إمكان الرؤية لأن موسى سألها، ولو كانت مستحيلة لم يسألها، لأنه ليس أقل من المعتزلة معرفة — وأجاب المعتزلة إجابات كثيرة عن هذا السؤال، منها أن قوم موسى كانوا طلبوا أن يروا الله جهرة، فأنكر موسى عليهم وأعلمهم خطأهم، ونبههم على الحق فألحوا، فأراد أن يسمعوا النص من كلام الله فطلبه للرؤية ترجمة عن مقترحهم، وحكاية لقولهم، إلى آخر ما قالوا.

ومن أدلتهم أن الله عاقب قوم موسى الذين سألوه أن يريهم الله، فقال: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ، قالوا: «لو طلبوا جائزًا لما سُمُّوا ظالمين، ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالمًا ولا رماه بالصاعقة».٩

فلما خلصت لهم هذه العقيدة — عقيدة عدم إمكان الرؤية — وصح عندهم الدليل العقلي والنقلي على ذلك أوَّلوا كل ما يظهر منه خلاف هذا من الآيات، وأنكروا كثيرًا من الأحاديث التي تدل على الرؤية، فقالوا إنها أخبار آحاد، وأخبار الآحاد لا توجب العلم إذا عارضها ظاهر القرآن، مثل قوله تعالى: لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ.

وتأولوا قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلىَ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ بأنه «من قول الناس أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، يريد معنى التوقع والرجاء؛ وسمعت مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، ويأوون إلى مقائلهم تقول: «عُيينتي نويظرة إلى الله وإليكم»، والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا لا يخشون ولا يرجون إلى إياه.١٠
قالوا فرؤية الله بالأبصار محال، إنما يراه المؤمنون ويعلمونه بقلوبهم.١١

(المثل الثاني) مسألة صفات الله — ذلك أن المعتزلة قالوا — مثل كل المسلمين — بإله واحد، ولكنهم فلسفوا الوحدانية، فقالوا إن معنى وحدانيته أن ليست ذاته تعالى مركبة من اجتماع أمور كثيرة، لأنه لو كان مركبًا لافتقر تحققه إلى تحقق كل جزء من أجزائه، وكل جزء من أجزائه غيره، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، والله منزه عن الافتقار إلى الغير، فحقيقته تعالى أحدية فردية لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، فليست له كثرة مقدارية كالتي للأجسام، ولا كثرة معنوية كما لأشخاصنا المركبة من ماهية وتشخص، إنما هو واحد تام الأحادية، ليس ذا أجزاء مقدارية ولا أجزاء معنوية.

فلما فسروا التوحيد بهذا المعنى الدقيق ثارت أمامهم مشكلة أو أثاروها هم، وهي مسألة «صفات الله» هل هي عين ذاته أو غير ذاته، لما يتصل من ذلك بمعنى التوحيد الذي قرروه.

وهي مسألة لم تُثر في الإسلام من قبلهم، فلم يذكر في القرآن ولا الحديث الصحيح كلمة (صفات الله) ولم يعرف ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين، إنما ورد قوله تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ونحوه، حتى جاء المعتزلة فوضعوا مسألة (صفات الله) هذا الوضع، وشغلت حيزًا كبيرًا في علم الكلام، وأثير حولها من الجدل ما جعلها في الصف الأول من المسائل الكلامية.

ذلك أن القرآن صرح بأوصاف الله في مواضع متفرقة؛ وهذه الأوصاف تنحصر في سبع: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. فتساءل المعتزلة بعد تقريرهم التوحيد بالمعنى الذي شرحناه: هل هذه الصفات هي الذات نفسها أم هي زائدة عن الذات؟ وبعبارة أخرى: هل هذه الصفات لا توجب معنى جديدًا خلاف الذات، أو توجب معنى جديدًا غير الذات؟ فهناك صفات سلبية لفظاًَ ومعنى لا تثبت شيئًا إيجابيًا مثل: (ليس كمثله شيء)؛ وهناك صفات إيجابية لفظًا سلبية معنى، وهي كذلك لا تثبت شيئًا إيجابيًا، كالوحدانية والقدم، فمعنى الوحدانية عدم الشريك، ومعنى القدم انعدام الأوَّلية، وليست هذه هي محل نظر المعتزلة؛ وهناك صفات إيجابية لفظاًَ ومعنى؛ كالإرادة والقدرة والعلم، فهل هي تثبت شيئًا زائدًا عن الذات؟ وهل الله عالم بعلم زائد عن الذات، وقادر بقدرة زائدة عن الذات، وحيّ بحياة زائدة عن الذات؟ وهكذا.

فلما فسر المعتزلة التوحيد بالمعنى الذي ذكرنا كانوا مضطرين أن يقولوا إن ذات الله وصفاته شيء واحد، فالله حي عالم قادر بذاته لا بعلم وقدرة وحياة زائدة على ذاته، لأنه لو كان عالمًا بعلم زائد على ذاته، وحيًّا بحياة زائدة على ذاته كما هو الحال في الإنسان، للزم أن يكون هناك صفة وموصوف، وحامل ومحمول، وهذه هي حالة الأجسام، والله منزه عن الجسمية. ولو قلنا إن كل صفة قائمة بنفسها لتعددت القدماء، وبعبارة أخرى لتعددت الآلهة.

ثم اختلفت المعتزلة فيما بينهم في تفسير هذا الأصل، فكان أبو الهذيل العلّاف يقول: إنه عالم بعلم هو هو، وقادر بقدرة هي هو، وحيُّ بحياة هي هو؛ فالعلم والقدرة والحياة هي نفس ذاته، وإنما اختلف التعبير لغرض، فإذا قلت «عالم» أثبت لله علمًا هو ذاته ونفيت عن ذاته الجهل، ودللت على أن هناك معلومات منكشفة لذاته، وإذا قلت «قادر» أثبت لله قدرة هي ذاته ونفيت عن ذاته العجز، ودللت على أن هناك مقدورات له، وهكذا.

ويفهم من قول النظام، أن صفات الله من حياة وقدرة وعلم وإرادة إلخ، إنما هي كذلك صفات سلبية لا تقتضي للذات شيئًا زائدًا عليها؛ فالعلم معناه نفي الجهل عن ذاته، ومعنى «عالم» أن ذاته ليست بجاهلة، ومعنى «قادر» نفي العجز، ومعنى «الحياة» نفي الموت وهكذا؛ وتعددت الصفات لاختلاف ما ينفي عن الذات، أما الذات نفسها فواحدة لا تعدد فيها، ولا تلحقها صفات وجودية.

وقال بعض المعتزلة: إن هذه الأسماء والصفات: كقادر وعالم وحي ومريد، ليس القصد منها إثبات صفة لله زائدة على ذاته، ولكن القصد إفادة الناس معاني تدل عليها؛ فإذا قلنا عالم أفدناك علمًا بناحية أنه لا يجهل، وأكذبنا من زعم أنه تعالى جاهل؛ وإذا قلنا إنه قادر أفدناك علمًا بناحية أنه لا يجوز أن يكون عاجزا، وأكذبنا من زعم أنه عاجز، وهكذا.١٢

وهذه التفسيرات كما ترى، تفسيرات متقاربة تختلف شكلًا وتتحد جوهرًا، وتلتقي في إثبات أن لا شيء غير الذات، وأن الصفات تختلف باختلاف إدراكاتنا نحن لمعاني ذاته.

ولما وصل المعتزلة إلى هذا الحد من قولهم أثاروا مسائل حول الصفات لا حصر لها كان يسلم بعضها إلى بعض.

فأثاروا حول قدرة الله هذا السؤال: هل يقدر الله على الظلم؟ وهل يقدر أن يُفني الجنة والنار وأهلهما أو يميتهم بعد ما أخبر عن بقائهم وحياتهم؟ وهل يقدر الله أن يترك ما يعلم أن فعله أصلح لخلقه من تركه؟ فكان النظام وأتباعه يقولون إن ذلك محال، فهو لا يقدر على الظلم «لأن الظلم لا يقع إلا من ذي حاجة حاملة على ارتكابه، أو جاهل بقبحه وعاقبته» وتعالى الله عن ذلك، و«وصف الله جل وعلا بأنه يقدر أن يُفني الجنة والنار وأهلهما أو يميتهم بعد ما أخبر عن بقائهم وحياتهم محال لا وجه له».١٣ وكان يقول: «إن الظلم والكذب لا يقعان إلا من جسم ذي آفة، فالواصف لله تعالى بقدرته عليهما قد وصفه بأنه جسم ذو آفة، لأن القادر على شيء غير محال وقوعه منه، فلو وقعا منه لدل وقوعهما منه على أنه جسم ذو آفة».١٤

وكذلك أثاروا مسألة من أهم المسائل وأعقدها، كان الفلاسفة اليونانيون قبلهم تكلموا فيها، فأثارها المعتزلة على نمطهم، وأجابوا عنها في حدود إيمانهم.

تلك هي أنهم قالوا: إذ ثبت أن الله قادر، عالم، محيط، وأن ذات الله وصفاته لا يلحقهما تغير، لأن التغير صفة المحدثات، والله منزه عن ذلك، فإذا كان الشيء يوجد وقد كان غير موجود، ويعدم وقد كان موجودًا، وقدرة الله وإرادته هما اللتان تولّتا ذلك فأوجدتا الشيء بعد أن لم يكن، وأعدمتاه بعد أن كانت؛ فكيف تتعلق القدرة الإلهية القديمة بالشيء الحادث فتوجده، ولِمَ أوجدته في هذه اللحظة دون غيرها وليس زمن أولى من زمن؟ فمباشرة القدرة لشيء بعد أن كانت لا تباشره تغير في القدرة، وقد ثبت أن الله لا يلحقه تغير ما، إذ ذلك — بلا شك — شأن القديم، وكذلك القول في الإرادة. ومثل ذلك يقال في العلم؛ فالعلم هو انكشاف المعلوم على ما هو عليه، والمعلوم يتغير من حين لآخر؟ فورقة الشجرة تسقط بعد أن كانت غير ساقطة، والرطب يتحول يابسًا، والحي ميتًا؛ والله يقول: وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ؛ وعلم الله تعالى ينكشف به الشيء على ما هو عليه، فهو عالم بالشيء قبل أن يكون على أنه سيكون، وعالم بالشيء إذا كان على أنه كان، وعالم بالشيء إذا عدم على أنه عدم؛ فكيف يتغير علم الله بتغير الموجودات، والعلم المغير بتغير الحوادث علم محدث، والله تعالى لا يقوم به محدث، لأن ما يتعلق به المحدث محدث؟

وقد سلك المعتزلة هم ومن بعدهم مسالك مختلفة للإجابة على هذا السؤال العسير الذي حير العقول، وكان للمتكلمين مناحٍ في الإجابة، وللفلاسفة من المسلمين مناحٍ أخرى.

فمن المتكلمين من قال: إن من المسلم به أن علمنا بأن زيدا سيقدم، غير علمنا بأنه قدم فعلًا، وتلك التفرقة ترجع إلى تجدد العلم، ولكن ذلك في حق الإنسان، فهو الذي يتجدد علمه لأن مصدر العلم وهو الإحساس والإدراك متجدد، أما في حق الله فلا تفرقة عنده بين مقدّر سيكون، ومحقق قد كان، ومنجَّز حدث، ومتوقع سيحدث؛ بل المعلومات كلها بالنسبة له على حال واحدة.

ومن المعتزلة من قال: إن الله تعالى عالم بذاته بكل ما كان وما سيكون، وكل المعلومات معلومات عنده بعلم واحد، والاختلاف بين ما سيكون وما كان يرجع إلى الاختلاف في الأشياء نفسها لا في علم الله.

وقال بعض المتكلمين: إن الذي أوجب اختلاف علمنا بما سيكون وما كان يرجع إلى تغيير الأزمنة والأمكنة، فلما لم يكن الله مكانيًا كانت نسبته إلى جميع الممكنات على السواء، فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد، كذلك لما لم يكن الله زمانيًا لم يتصف الزمان — بالقياس إليه — بمضي ولا استقبال ولا حضور، بل كانت نسبته إلى جميع الأزمنة سواء، فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له. كل في وقته، وليس في علمه كان وكائن وسيكون، بل هو عالم لا من حيث دخول الزمان فيها، ومثل هذا العلم يكون ثابتًا مستمرًا لا يتغير أصلًا؛ فعلم الله بالأشياء إذا تجرد عن الزمان والمكان لم يكن فيه تقدم ولا تأخر ولا تغير، بل هو علم شامل واسع، وإنما لم تحصل في ذهننا كذلك لقصور علمنا وعدم إحاطته وحدوده بالزمان والمكان. ومثل ذلك مثل شيء ملوّن بألوان مختلفة وقد سارت عليه نملة، فما واجه حدقتها من الألوان تحسبه قد حدث من عدم، ومازال عن مواجهتها تظنه قد عدم، وما لم يواجه حدقتها تظنه لم يوجد، مع أن الألوان بأسرها موجودة بالفعل، والإنسان المشرف عليه يبصر جميع تلك الألوان دفعة واحدة من غير ترتيب، فنسبة الزمان — وما قارنه — إلينا كنسبة ذلك الملوّن إلى النملة.١٥ ولسنا نريد أن نبين هنا الآراء المختلفة في هذا الموضوع، فهي مستوفاة في كتب علم الكلام، وإنما سقنا هذا القدر لندل به على ما أثار المعتزلة من مسائل، وكيف اتجهوا في حلها، وكيف شغلت العقول من بعدهم.

•••

وكان طبيعيًا بعد ما أثيرت هذه المسائل أن تثار مسألة تتصل بها أشد الاتصال، وهي مسألة كلام الله وخلق القرآن، وهي أبرز شيء كان في تاريخ المعتزلة لما اتصل بها من أحداث تاريخية واجتماعية وسياسية.

والآن نبدأ بشرح وجهة نظر المعتزلة في هذه المسألة من الوجهة العلمية ونترك تاريخها وأحداثها عند الكلام في تاريخها السياسي:

قالوا إنه ثبت بالبرهان أن الله — ذاته وصفاته — وحدة لا تقبل التجزئة بحال من الأحوال، وثبت بالبرهان أن ذات الله وصفاته لا يلحقها تغير ولا تقوم بها المحدثات — (وقد تقدم برهانهم على هذين الأصلين) — وقد رأينا الله يسند إلى نفسه الكلام فقال: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، وسمي القرآن كلام الله في قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِيَن اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ، فما معنى وصف الله بالمتكلم، ووصف القرآن بأنه كلام الله؟

قالت المعتزلة: إذا كان الله وصفاته وحدة لا تقبل التغيير فمحال أن يكون القرآن كلام الله على معنى أنه صفة من صفاته، لأنه لو كان كذلك لكان هو وذاته وبقية صفاته شيئًا واحدًا، ونحن نرى أن في القرآن أمرًا ونهيًا وخبرًا واستخبارًا ووعدًا ووعيدًا، فهذه حقائق مختلفة، وخصائص متباينة، ومن المحال أن يكون «الواحد» متنوعًا إلى خواص مختلفة، وهذه الخواص قد تتضاد كالذي بين الأمر والنهي.

ثم، إذا كان القرآن كلامًا أزليًا هو صفة من صفات الله ترتب على ذلك جملة استحالات: أولها: أن الأمر لا قيمة له ما لم يصادف مأمورًا، فلا يصح أن تصدر «أقيموا الصلاة» إلا إذا كان هناك مأمورون بالصلاة، ولم يكن في الأزل مأمورون مخاطبون، ومحال أن يكون المعدوم مأمورًا، والأمر من غير مأمور، بل والكلام كله من غير مُكلَّم «من أمحل ما ينسب إلى الحكيم».

ثانيها — أن الخطاب مع موسى عليه السلام غير الخطاب مع محمد عليه السلام، ومناهج الكلامين مع الرسولين مختلفة، ويستحيل أن يكون معنى واحد هو في نفسه كلام مع شخص على معان ومناهج، وكلام مع شخص آخر على معان ومناهج أخرى، ثم يكون الكلامان شيئًا واحدًا ومعنًى واحدًا؛ أضف إلى ذلك أن الخبرين عن أحوال الأمتين مختلفان لاختلاف حال الأمتين، فكيف يتصور أن تكون حالتان مختلفتان يخبر عنهما بخبر واحد؟! والقصة التي جرت ليوسف وأخوته غير القصة التي جرت لآدم ونوح وإبراهيم؛ وإذا اختلفت هذه الاختلافات استحال أن يكون الكلام صفة لله، وهو الواحد في ذاته وصفاته الذي لا يختلف ولا يطرأ عليه اختلاف.

ثالثها — أن المسلمين أجمعوا قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله، واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منتظمة، وكلمات مجموعة وهي مقروءة مسموعة، ولها مفتتح ومختتم، وهو معجزة رسول الله، وأجمعت الأمة على أنه بين أيدينا نقرؤه بألسنتنا ونحسه بأيدينا، ونبصره بأعيننا ونسمعه بآذاننا، ومحال أن يكون هذا كله وصفًا لصفة الله. فالكلام الأولى الذي هو صفة الله لا يوصف بمثل هذه الأوصاف.

هذه أدلتهم العقلية. ولهم بعد ذلك أدلة نقلية منها:

  • (١)
    أن الله تعالى يقول: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ، وإذ ظرف زمان ماض، فيكون قوله الواقع في هذا الظرف مختصًا بزمان معين، والمختص بزمان محدث.
  • (٢)
    يقول الله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصَّلَتْ، وهذا يدل على أن القرآن مركب من الآيات التي هي أجزاء متعاقبة فيكون حادثًا.
  • (٣)
    قوله تعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ، والمسموع حادث لأنه لا يكون إلا حرفًا وصوتًا.
  • (٤)
    أنه تعالى عبر عن القرآن بقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ولا شك أنه لا إنزال في الأزل.
  • (٥)
    أن القرآن نص على نسخ بعض الآيات بقوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَو نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا، ولا يتصور النسخ إلا في الحادث، لأن القديم ليس عرضة لذلك … إلخ.
فقالوا إذ ا استحال أن يكون القرآن وكل الكتب المنزلة قديمة وجب أن نقول إنها مخلوقة لله، فكلام الله تعالى عبارة عن أصوات وحروف يخلقها الله في غيره فتصل إلى النبي عن طريق ملك ونحوه، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ؛ فهذه ثلاث طرق في الكلام، أولاها: طريقة الوحي وهو الإلهام، والقذف في القلب كما أوحى إلى أم موسى؛ وثانيتها: أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه، كما كلم موسى، وكما كلم الملائكة؛ وثالثتها: أن يرسل الأنبياء والرسل يكلمون أممهم عن الله.١٦ قالوا والقرآن نوع من الكلام الذي يخلقه الله، وإنما سمي كلام الله لأنه خلق الله من غير واسطة، وهذا هو الفرق بينه وبين كلامنا، فكلامنا وألفاظنا تنسب إلينا، وأما القرآن فخلق الله مباشرة، والحروف التي نكتبها في المصحف أو ننطق بها من صنعنا، وإنما وجب لها التعظيم لأنها دالة على المخلوق لله — وإذًا معنى كون الله متكلمًا أنه خالق الكلام وفاعله، فإن الكلام ليس شيئًا أكثر من أن يفعل المتكلم فعلًا يدل به المخاطب على العلم الذي في نفسه؛ فالله بهذا المعنى متكلم، أي فاعل ما يدل به المخاطب على ما يريد، والمفعول والمجعول مخلوق.

وكأن الزمخشري أراد أن يجعل كل هذه الأدلة ويشير إليها في خطبة تفسيره «للكشاف» إذ يقول: «الحمد لله الذي أنزل القرآن كلامًا مؤلفًا منظمًا، ونزّله بحسب المصالح منجمًا، وجعله بالتحميد مفتتحًا، وبالاستعاذة مختتمًا، وأوحاه على قسمين متشابهًا ومحكمًا، وفصّله سورًا، وسوَّره آيات، وميّز بينهن بفصول وغايات. وما هي إلا صفاتُ مبتدع، وسمات منشأ مخترع؛ فسبحان من استأثر بالأولية والقدم، ووسم كل شيء سواه بالحدوث عن العدم، أنشأه كتابًا ساطعًا تبيانه، قاطعًا برهانه، وحيًا ناطقًا ببينات وحجج، قرآنًا عربيًا غير ذي عوج» إلخ.

•••

وكان يناهض المعتزلة في صفة الكلام وخلق القرآن وغيرها من الصفات فريقان:

فريق يسَّمون «السلف» يرون أن الله وصف نفسه بصفات: من قدرة، وإرادة، وعلم، وكلام، وسمع، وبصر؛ ووصف نفسه أنه على العرش، وقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فيجب أن نؤمن بها كما جاءت، ولا نتعرض لتأويلها وشرحها، فنجري ظواهر النصوص على مواردها، ونكف عن تأويلها، ونفوّض معانيها إلى الله قالوا: وقد درج أصحاب رسول الله على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدًا في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها؛ فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغًا أو محتومًا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع؛ فحقٌ على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين، ولا نخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الله، فليُجر آية الاستواء والمجيء وقوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ويَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ وقوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا، وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه.١٧
وهم «ينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون من دينهم، ويسلمون للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي جاءت بها الثقات عدلًا عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله لا يقولون كيف ولا لِم لأن ذلك بدعة».١٨

فهم — كما ترى — يرون الوقوف عند النص، ولا يسمحون لأنفسهم بتأويلها، وكأنهم يرون أن معرفة صفات الله وذاته فوق العقل البشري. وليس من القدرة ما يستطيع بها أن يدرك كنهها ولا كيفيتها، فتحاشوا أن يسألوا بما وبكيف، وقالوا نؤمن بما جاء كما جاء، ولا نتكلم فيما لم يجيء. وقالوا: إذا عجزنا في أنفسنا عن «ما» دائمًا، وعن «كيف» كثيرًا، فكيف نستطيع أن نجيب عن «ما» و«كيف» في ذات الله وصفاته؟! وإذا كان ذلك كذلك فلنؤمن بما جاء، ولنقف عند ما جاء، فلا نبحث فيما إذا كانت صفات الله عين ذاته ولا غير ذاته، ولا نبحث في كيف تصدر المحدثات عن القديم، ولا كيف يتصل علم الله القديم بالمعلومات المحدثة، ولا نحو ذلك، لأنها فوق عقولنا، وإذ ذاك تكون مجالًا للزلل؛ فجوهر الخلاف إذًا بين هؤلاء والمعتزلة هو سلطة العقل ومداها وحدودها؛ رأي المعتزلة أن العقل البشري قد منح من السلطة والسعة ما يمكنه من إقامة البرهان حتى على ما يتعلق بالله، فلا حدود للعقل إلا براهينه، ولا زلل ولا خطأ متى صلح البرهان، فلنستعمل البراهين في أدق الأمور وأصعبها وأعقدها، ففي استطاعة العقل الوصول إلى الحق فيها. وهكذا كانت نزعة المعتزلة هذه متجلية في كل أبحاثهم، يسيرون وراء البرهان إلى نهايته، ويثيرون أصعب المشاكل وأعقدها، ويتعرضون لحلها، فإذا تم لهم حلها أو — على الأقل — اعتقدوا بحلها، تأولوا آيات القرآن على مقتضاها. وعلى العكس من ذلك الآخرون: رأوا أن العقل أضعف من ذلك، وأن استطاعته محدودة بإدراك ما يتعلق بشأنه هو أو أقل من ذلك، وأنه منح القدرة على أن يدرك البرهان على وجود الله، والنبوة العامة، ونبوة محمد خاصة؛ ولم يمنح القدرة على كنه الله وصفاته، فلنؤمن بما جاء به أنبياؤه، ولنقف عند ما قالوه، ولا نُثر مشاكل لم يأت بها الأنبياء، ولنسد الطرق على من يثيرونها، فإن جادلناهم في شيء ففي بيان خطئهم وفساد طريقتهم؛ فلما أثار المعتزلة القول بخلق القرآن قالوا هم: «القرآن كلام الله لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق»، فإثارة هذه المسألة بدعة لم يقلها النبي ولا صحابته، فلا نتابعكم في السير فيها، ولا نتابعكم في الجدال والخصومة، ونقف عند قولنا: القرآن كلام الله، وهذا فقط هو ما قال الله في قرآنه الكريم.

وكلا الفريقين — كما ترى — له وجهة نظر تستحق التبجيل والاحترام. وفريق آخر، من بعض الحنابلة، رغم أن «القرآن بحروفه وأصواته قديم، وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلًا: الجلد والغلاف قديمان فضلًا عن المصحف»،١٩ وقالوا: «قد تقرر الاتفاق على أن ما بين الدفتين كلام الله، وأن ما نقرؤه ونسمعه ونكتبه كلام الله، فيجب أن تكون الكلمات والحروف هي بعينها كلام الله — ولما تقرر الاتفاق على أن كلام الله غير مخلوق فيجب أن تكون الكلمات أزلية فيه غير مخلوقة».٢٠

وهو قول ظاهر البطلان صادر من عقل ضيق ونظر سقيم.

هذان هما الفريقان اللذان ناهضا المعتزلة في قولهم بخلق القرآن، فكان الخلاف دائرًا حول القرآن، أعني حروفه وألفاظه وكلماته؛ يقول المعتزلة بحدوثها، ويقول بعض الحنابلة بقدمها، ويقول آخرون لا نتكلم في هذا الموضوع.

وظل النزاع محصورًا في هذه الدائرة أيام محنة القول بخلق القرآن، أعني أيام المأمون والمعتصم والواثق.

حتى جاء أبو الحسن الأشعري المتوفى نحو سنة ٣٣٠، ونقل موضوع النزاع إلى نقطة أخرى، فقال: إن «كلام الله يطلق أطلاقين كما هو الشأن في الإنسان، فالإنسان يسمى متكلمًا باعتبارين: أحدهما بالصوت، والآخر بكلام النفس الذي ليس بصوت ولا حرف، وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ، فإذا انتقلنا من الإنسان إلى الله رأينا أن كلامه تعالى يطلق بهذين الإطلاقين: المعنى النفسي وهو القائم بذاته، وهو الأزلي القديم، وهو لا يتغير بتغير العبارات، ولا يختلف باختلاف الدلالات، وهذا هو الذي نريده إذا وصفنا كلام الله بالقدم، وهو الذي يطلق عليه كلام الله حقيقية؛ أما القرآن — بمعنى المقروء المكتوب — فهو بلا شك كما يقول المعتزلة حادث مخلوق، فإن كل كلمة تُقرأ تنقضي بالنطق بما بعدها، فكل كلمة حادثة، فكذا المجموع المركب منها، ويطلق على هذا المقروء المكتوب «كلام الله» مجازًا.

وهذا — كما ترى — تسليم منهم بكل ما يقوله المعتزلة في القرآن بمعنى المتلو المقروء، ثم انتقل النزاع في مسألة جديدة، هي ما ابتدعه الأشعري من الكلام النفسي، فالمعتزلة أنكروه والأشعرية أثبتوه، وبدأوا الجدل في الإنسان لأنه أقرب منالًا، حتى إذا فرغوا من ذلك تكلموا بنفس هذه المعاني في الله تعالى.

قال الأشعري والأشاعرة: إن هناك كلامًا نفسيًا قائمًا بالنفس الإنسانية وبذات المتكلم ليس بحروف ولا أصوات، يجده العاقل في نفسه، ويدور في خلده، تارة إخبارًا عن أمور رآها أو سمعها، وتارة حديثًا مع نفسه بأمر أو نهي، ووعد ووعيد، وتارة حكمًا عقليًا بأن الحق في هذه المسألة كذا، والباطل كذا؛ ثم أحيانًا يتحوّل هذا الكلام النفسي إلى كلام لفظي، وأحيانًا لا يتحول، وهذا هو ما يسمى بالنجوى، وهو الذي قال فيه الله تعالى: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ؛ وفي الحديث عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله وقد سأله رجل فقال: إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يَلْقَى ذلك الكلام إلا مؤمن إلخ. ومن أنكر هذه المعاني فقد جحد الضرورة وباهت العقل، وأنكر البديهيات. ومن العجب أن الإنسان قد يجوز أن يخلو ذهنه عن كل معنى، ولكنه لا يخلو أبدًا من حديث النفس حتى في النوم، فإنه في الحقيقة يرى في منامه أشياء، وتحدثه نفسه بأشياء، وربما يطاوعه لسانه وهو نائم، فيتكلم متابعة لنفسه.

وقالت المعتزلة: نحن لا ننكر الخواطر التي تطرأ على نفس الإنسان، وربما نسميها أحاديث النفس، إلا أنها في الحقيقة تقديرات للعبارات التي ينطق بها اللسان؛ ألا ترى أن من لا يعرف كلمة بالعربية لا يخطر بباله كلام العرب، ومن لا يعرف الفارسية لا يخطر بباله كلام الفرس، ومن عرف اللسانين تارة تتحدث نفسه بلسان العرب وتارة بلسان الفرس، فعُلم على الحقيقة أن أحاديث النفس تابعة للعبارات اللفظية. فالكلام في الحقيقة هو الحروف التي يعبر عنها اللسان، ومن قدر عليها فهو المتكلم، ومن لم يقدر عليها فهو الأبكم؛ فليس الكلام حقيقة عقلية كسائر المعاني، بل هو عبارات وألفاظ ونحوها تختلف بالمواضعة والاصطلاح والتواطؤ، حتى لو تواطأ قوم على نقرات وإشارات ورموز يحصل التفاهم بها كما يحصل التفاهم بالعبارات.٢١ فما يسميه الناس كلام النفس ليس إلا معلومات وإدراكات أدركها الإنسان وزوّرها في نفسه بعبارات وألفاظ، وليس هناك شيء وراء ذلك.
وهذا هو عين ما يثيره علماء النفس والمنطق حتى الآن من (البحث فيما إذا كان الإدراك يمكن أن يقوم بنفسه من غير ألفاظ أو لا؟ وإذا كان فإلى أي حد يكون ذلك؟ ويذهبون في ذلك مذهبين: فمنهم من يقول إن من الممكن التفكير بدون الاستعانة باللغة؛ ومنهم من يذهب إلى أن ذلك غير ممكن، وأن التفكير من غير ألفاظ ضرب من الوهم الكاذب. وقد قال «مكُس ملر»: «إن الفكر واللغة شيء واحد، وشبَّه ذلك بالنقد (أحد النقود) فقال ليس ما نسميه بالفكر إلا وجهًا من وجهي النقد، والوجه الآخر هو الصوت المسموع، والنقد شيء واحد لا يقسم؛ فليس ثَمَّ فكر وصوت ولكن كلمات»).٢٢

أثار الأشاعرة والمعتزلة هذا الكلام ليطبقوه على كلام الله، فلما أنكر المعتزلة الكلام النفسي قالوا ليس كلام الله إلا ما نقرؤه ونسمعه من القرآن والكتب الدينية وهي مخلوقة ولا شك، ولا شيء وراءها إلا ذات الله القادرة على خلق الكلام المريدة للخلق. وقال الأشاعرة: إن لله كلامًا نفسيًا غير القدرة والإرادة والعلم، وهو قديم لا يتغير، والقرآن مظهر لهذه الصفة وأثر من آثارها وهو مخلوق.

قال صاحب المواقف (وهو يعبر عن رأي الأشعرية) بعد كلام طويل: «إذ عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة في كلام الله تعالى، وهو خلق الأصوات والحروف الدالة على المعاني المقصودة وكونها حادثة قائمة بغير ذاته تعالى نحن نقول به، ولا نزاع بيننا وبينهم فيه، وما نقوله نحن كلام النفس المغاير لسائر الصفات فهم ينكرون ثبوته، ولو سلموه لم ينفوا قدمه، فصار كل النزاع نفي المعنى النفسي أو إثباته».٢٣

وقد يعجب القارئ من شدة الاختلاف بين الناس في مثل هذا الأمر حتى احتكموا فيه إلى السيف كما سيأتي بيانه، لكن يجب أن ننبه هنا إلى أن تحديد وجوه الخلاف وحصر نقط النزاع بالشكل الذي أوضحناه لم يكن بيّنا في أكثر عقول الناس إذ ذاك؛ بل كانت هناك معان غامضة زاد غموضها هياج الناس وتبلبل الأفكار، وأخذ الناس فيها بالشدة — فقد رأوا أن هناك قضيتين واضحتين وهما:

  • (١)

    أن كلام الله صفة له، وكل ما هو صفة فهو قديم؛ فكلام الله قديم.

  • (٢)

    أن القرآن كلام الله وهو مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما هو كذلك حادث؛ فالقرآن حادث ومخلوق — فهاتان القضيتان شتتا أفكار الناس وأدخلتاهم في منازعات جدلية شديدة، ودخلت العامة في النزاع فزادوا المسائل غموضًا وشتاتًا، ولو حددت مواضع النزاع بالشكل الذي شرحنا لا نحسم كثير من الخلاف، ولكن هذا لم يصل إليه العلماء إلا بعد أن أغمد السيف وهدأت الأفكار وتكلم العلماء وحدهم.

•••

هذا هو ملخص قول المعتزلة في التوحيد: توحيد لله فلا شريك له، وتوحيد لله ذاته وصفاته فليست متعددة بحال، وتنزيه له عن الجسمية وصفات الحوادث؛ وقد فرعوا على هذا الأصل كل الفروع التي ذكرناها، وفروعًا أخرى أقل منها أهمية لم نذكرها، وكانت كل مسألة يثيرونها تستتبع مسائل غيرها وهكذا، فملأوا العالم الإسلامي ببحوثهم من هذا القبيل.

(١-٢) العدل

الأصل الثاني من أصولهم العدل، والعدل والتوحيد أهم أصول المعتزلة، وكانوا يفخرون بأنهم أهل العدل والتوحيد.

والمؤمنون جميعًا يعتقدون بعدل الله، ولكن المعتزلة — كعادتهم — تعمقوا في معنى العدل وحدوده، وأثاروا حول ذلك مسائل كثيرة أهمها:

(قالوا: وجدنا من فعل الجور في الشاهد (أي في الإنسان المشاهدة أعماله) كان جائرًا، ومن فعل الظلم كان ظالمًا، ومن أعان فاعلًا على فعله ثم عاقبه عليه كان جائرًا عابثًا، والعدل من صفات الله، والظلم والجور منفيان عنه قال تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ وقال تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، وقال: فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وقال تعالى: لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ.٢٤

وقد ساروا في هذا الطريق إلى نهايته ووصلوا ببحثهم إلى مسائل كثيرة أهمها ثلاث:

  • (١)

    أن الله يسير بالخلق إلى غاية، وأن الله يريد خير ما يكون لخلقه.

  • (٢)

    وأن الله لا يريد الشر ولا يأمر به.

  • (٣)

    وأن الله لم يخلق أفعال العباد لا خيرًا ولا شرًا، وأن إرادة الإنسان حرة، والإنسان خالق أفعاله، ومن أجل هذا كان مثابًا على الخير معاقبًا على الشر.

ولنشرح الآن في إيجاز وجهة نظرهم في هذه المسائل:

أما في المسألة الأولى فقالوا: «إن الحكيم لا يفعل فعلًا إلا لحكمة وغرض، والفعل من غير غرض سفه وعبث، والحكيم إما أن ينتفع أو ينفع غيره، ولما تقدس الله تعالى عن الانتفاع تعين أنه إنما يفعل لينفع غيره».٢٥ فهم بذلك يرون أن العالم يسيرّه الله إلى غاية وإلى غرض، وليس العالم يسير سبهللا، ولا يخبط خبط عشواء؛ فحركات النجوم والبحار والأنهار، وثوران البراكين وكل حوادث الكون إنما تسير وتحدث لتحقيق غرض، وهذا الغرض هو نفع من في العالم. وقد أداهم هذا النظر إلى نظريتين مشهورتين، وهما نظرية الصلاح والأصلح، ونظرية الحسن والقبح العقليين.

فنظرية الصلاح والأصلح، أن الله لما كانت أعماله معللة، ويقصد منها إلى غاية وهي نفع العباد، فالله يقصد في أفعاله إلى صلاح العباد؛ ومن المعتزلة من قال بأنه يجب على الله أن يعمل ما فيه صلاح لعباده، ومنهم من لم يكتف بذلك بل قال يجب رعاية ما هو الأصلح. فكل عمل من أعمال الله على رأيهم لابد أن يقصد به إلى خير العباد وصلاحهم، وجمهور المعتزلة يقولون إنه لابد أن يقصد إلى ما هو الأصلح لهم.

وقد رأى بعض من غير المعتزلة رأيهم ووافقوهم في جوهر قولهم، ولكن عابوهم في تعبيرهم بقولهم: «يجب على الله»، فلو أنهم قالوا هذا هو النظام أو القانون الذي يقصد الله إليه في عمله أو نحو ذلك من التعبير لكانوا أقرب إلى الأدب، وهذا خلاف في التعبير فقط؛ إنما الفريق الكبير الذي كان يخالفهم في هذا الرأي قوم يرون أن أفعال الله ليست معالة بغرض، يعنون بذلك أن ليس الباعث لله على العمل هو الغاية. وقد اعترض بعضهم على وجهة نظر المعتزلة بما في العالم من شرور، كان يكون العالم خيرًا منه لو لم تحدث، «فقد منع الأموال قومًا، وأعطاها آخرين، وأعطى قومًا مالًا ورياسة فبطروا وهلكوا، وكانوا مع القلة والخمول صالحين، وأمرض أقوامًا فملوا وضجروا ونطقوا بالكفر وكانوا في صحتهم شاكرين، وأي صلاح في خلق إبليس والشياطين، وإعطائهم القوة على إضلال الناس؟؟ ثم وجدناه تعالى أمات سريعًا من ولي أمور المسلمين بالحق والعدل، وولىّ عليهم زيادًا والحجاج وبغاة الخوارج، فأي مصلحة في هذا لزياد والحجاج وقطري أو لسائر المسلمين؟ إلى آخر ما في العالم من شرور لأحد لها، ولا يمكن تفسير ما فيها من المصلحة؛ ولهم على ذلك أمثلة كثيرة، ومجادلات مع المعتزلة طويلة، فلم خلق من يفسد الحرث والنسل، ويثير الظلم، ويميت الحق؟ ولم أنظر إبليس إلى يوم القيامة، وأمات النبي ، فهل ذلك أصلح للخلق؟» إلى آخره.٢٦

وقد استطاع المعتزلة أن يجيبوا عن بعض هذه الاعتراضات وعجزوا عن بعضها، وقالوا ليس عجزنا يضر بنظريتنا، فإنا لم ندع الإحاطة بأغراض الله، ولم تبلغ عقولنا بعد من السعة ما نستطيع بها أن ندرك كل علة وكل غرض.

على كل حال فخلاصة قول الآخرين أن المعتزلة أخطأوا في قياس الله على الإنسان؛ فرأوا أن الإنسان لا يفعل إلا لغاية، وأن الناس يتفاوتون في الغايات، وكلما كان الإنسان أعدل وأحكم كان أصح غاية، وكان أصح توجيهًا لأعماله إلى هذه الغاية، فالله لابد أن تكون له غاية، وأن يوجه أعماله إليها؛ وفاتهم أن هذا القياس ليس بصحيح أو على الأقل ليس بلازم، فلسنا نعلم عن الله ما يمكننا من هذا الحكم؛ ولو كانت له غاية كما يقولون فكيف نجرؤ على القول بأن غايته من أفعاله هي الغايات التي تخضع لها عقولنا، ثم نفسر غاياته من أعماله بهذا التفسير الإنساني؟

أما نظرية المعتزلة في الحسن والقبح، فإنهم لما قرروا أن الله عادل حكيم، وأن أعماله لغاية، وأنه يتبع العدل في أعماله للوصول إلى هذه الغاية، كان من الطبيعي أن يثيروا مسألة الحسن والقبح في الأعمال، فرأوا أن الحسن والقبح في الأعمال ذاتيان، فالكذب فيه قبح ذاتي، والصدق فيه حسن ذاتي، ومن أجل هذا لا نجوز على الله الكذب لما في الكذب من قبح، ونقول إنه لابد أن يقول الصدق لما في الصدق من حسن ذاتي؛ فجميع الأعمال الحسنة من عدل وصدق وشجاعة وكرم فيها نفسها صفة جعلتها حسنة، وجعلتنا نحكم عليها بالحسن إذا رأيناها، وجميع الأعمال القبيحة من ظلم وكذب وجبن وبخل فيها ذاتها صفة جعلتها قبيحة وجعلتنا نحكم عليها بالقبح — والشرع بأمره بأشياء ونهيه عن أشياء، إنما يتبع في ذلك ما في الأشياء من حسن وقبح، فأمره بالمحافظة على الأنفس والأموال إنما هو لما فيها من حسن، ونهيه عن القتل والسرقة لما فيهما من قبح، ومحال أن يعكس فيأمر بالقتل والسرقة، وينهى عن الأمانة، لأنه ليس مستقلًا في أمره ونهيه، بل هو تابع فيهما للحسن والقبح الذاتيين — وكذلك العقل يستحسن أشياء لإدراكه ما في الأشياء ذاتها من حسن، ويستقبح أشياء لإدراكه ما في الأشياء ذاتها من قبح؛ فالشرع في تحسينه وتقبيحه للأشياء مخبر عنها لا مثبت لها، والعقل مدرك لها لا منشئ — وكل ما في الأمر أن العقل قد يدرك الحسن والقبح بالضرورة، أي من غير إعمال نظر، كحسن إنقاذ الغريق، وحسن الصدق النافع، وقبح كفران النعمة؛ وقد يدركه بعد إعمال النظر، كحسن الصدق الضار، وقبح الكذب النافع.

واستدلوا على هذه النظرية بأدلة أهمها:

  • (١)

    أن الناس قبل ورود الشرائع كانت تتحاكم إلى العقل، وتتجادل بالعقل، ويلزم الفريق خصومه بما يدل عليه العقل، وليسوا يرجعون في ذلك إلا إلى ما في الأشياء من حسن وقبح ذاتيين، ونرى العقلاء قبل الشرائع يستحسنون إنقاذ الغرقى، وتخليص الهلكى، ويستقبحون الظلم والعدوان، بل إنه يستحسن ويستقبح من أنكر الأديان والشرائع.

  • (٢)

    لو لم يكن في الأشياء حسن وقبح ذاتيان، لأفحمت الرسل وما استطاعوا الدعوة، لأنهم يطلبون النظر إلى الأشياء بعقولهم، ومنها إمكان إرسال الرسل والمعجزة وما إلى ذلك، فلو لم تكن هذه الأشياء حسنة في ذاتها يدركها العقل من نفسه من غير توقف على الشرع لقال هؤلاء لا يجب علينا النظر في معجزاتكم ونبوتكم إلا بالشرع، ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في نبوتكم ومعجزاتكم فيفحمون.

  • (٣)

    لو لم يكن في الأفعال ذاتها حسن وقبح، بل هي من عمل الشرع، لما أمكن الفقهاء أن يعملوا عقولهم في المسائل التي لم يرد فيها نص، ولا ستحال تعليل الأحكام، ولبطل القول بلم ولأنه؛ لأن التعليل كله مبناه صفات الأفعال.

ورتب المعتزلة على هذا الرأي أن الإنسان مكلف قبل ورود الشرائع — أو إذا لم تبلغه دعوة الرسل — بما يدل عليه العقل؛ فهو مكلف بشكر المنعم، ومكلف بمكارم الأخلاق، ولو لم يصل إليه شرع في ذلك.

وكان خصومهم يرون غير هذه النظرية، فيرون أن الحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله، والقبيح ما ورد الشرع بذم فاعله؛ وليس الشرع يمدح ويذم، ويوجب وينهى، تبعًا لما في الشيء من حسن وقبح ذاتيين، بل الحسن والقبح تابعان لأمر الشرع ونهيه، فالشرع في أمره ونهيه مثبت لا مخبر، ولا شيء حسن لذاته، ولا قبيح لذاته، ولو عكس الشارع فأمر بالكذب ونهى عن الصدق، لكان الكذب حسنًا والصدق قبيحًا. ولهم على ذلك أدلة أهمها أن الحسن والقبح لو كانا ذاتيين لم يتخلفا، ولم يتوقفا على شروط، فإن ما بالذات لا يتخلف؛ ونحن نرى أن القتل قد يكون قبيحًا إذا توافرت فيه شروط، وقد يكون حسنًا في مواضع، فهو قبيح إذا لم يصدر من المقتول ما يستوجب القتل، وهو حسن إذا كان قصاصًا، ولو كان ذاتيًا لم يتبدل بالإضافة إلى الأحوال؛ ونرى الشيء قد يكون حسنًا في زمن ولا يكون حسنًا في آخر، والشرائع نفسها تشرع أشياء لقوم، وتشرع غيرها لآخرين، فلو كان هناك حسن وقبح ذاتيان لم تتغير الشرائع بتغير الزمان والمكان والناس.

وقال هؤلاء: إن الناس يستحسنون ويستقبحون تبعًا لشرائع سابقة أو مواضعات أو نحو ذلك، «فلو خلق إنسان تام الفطرة كامل العقل، من غير أن يتخلق بأخلاق قوم، ويتأدب بآداب الأبوين، ولا تربى تربية الشرع، ولا تعلّم من معلم، ثم عرض عليه أمران: أحدهما أن الاثنين أكبر من الواحد، والثاني أن الكذب قبيح … لم يتوقف في الأول وتوقف في الثاني» مما يدل على أن الأمر أمر مواضعات. «فلم يبق إلا عادات الناس، من تسمية ما يضرهم قبيحًا، وما ينفعهم حسنًا، ونحن لا ننكر أمثال تلك الأسامي، على أنها تختلف بعادة قوم دون قوم، وزمان وزمان، ومكان ومكان، وإضافة وإضافة، وما يختلف بتلك النسب والإضافات لا حقيقة له في الذات؛ فربما يستحسن قوم ذبح حيوان، ويستقبحه قوم، وربما يكون بالنسبة إلى قوم وزمان ومكان حسنًا، وربما يكون قبيحًا»، «والعقلاء يستحسنون إنقاذ الغرقى، ويستقبحون العدوان لطلب الثناء وخوف الذم».٢٧ وقد يظهر في بعض المسائل صعوبة تطبيق ذلك، ونتوهم أن الشخص يفعل الحسن لذاته، ويتجنب القبيح لذاته، ولكن بتدقيق النظر يتجلى لنا وجه الحق، وأنه إنما يفعله طلبًا للثناء أو لارتباط المعاني، أو نحو ذلك من الأسباب النفسية.٢٨
ولما تقدم الزمان رأينا نقطة النزاع تتخذ شكلًا أدق وأضبط، فقالوا: لا خلاف بيننا وبين المعتزلة في أن كلمتي الحسن والقبح قد تطلقان ويراد بهما ما في الشيء من كمال ونقص، كأن يقال: العلم حسن والجهل قبيح، ونحن جميعًا لا ننازع في أن هذه الأمور يدركها العقل؛ وقد تطلق كلمتا الحسن والقبح على ما يلائم الغرض وما لا يلائمه، وقد يعبرون عن المعنى بالمصلحة والمفسدة؛ فما وافق الغرض أو بعبارة أخرى ما كانت فيه مصلحة فحسن، وما لم يوافق الغرض أو ما كان فيه مفسدة فقبيح؛ وهذا أيضًا لا نزاع في إدراكه بالعقل، وإن كان إضافيًا، فقد يكون حسنًا لقوم قبيحًا لآخرين بهذا المعنى — إنما النزاع في الحكم على الأعمال بأن فاعلها يستحق المدح والثواب، أو الذم والعقاب. فالمعتزلة يقولون: إن هذا مما يدرك أيضًا بالعقل، فنستطيع أن نحكم على بعض الأعمال بالحسن، بمعنى أن فاعلها يستحق مدحًا وثوابًا، وعلى بعض الأعمال بالقبح، فيستحق فاعلها ذمًا وعقابًا، ومخالفوهم يقولون إن هذا لا يدرك إلا بالشرع.٢٩
والخلاف بين المعتزلة وغيرهم في الحسن والقبح الذاتيين يذكرنا بالخلاف بين الفلاسفة الحديثين فيما يسمى «نظرية القيم»: «هل قيم الأشياء من جمال وخير وشر وحق وباطل صفات عينية في الأشياء، أي هل لها وجود مستقل عن عقولنا؟ أم هي من وضع العقل؟ فطائفة من الفلاسفة تقول إن للقيم وجودًا مستقلًا عن العقل، ووظيفة العقل هو إدراكها، فالعقل يتبينها ولا يثبتها؛ وطائفة تقول إن القيم مجرد معان قائمة بالعقل يصف بها الناس الأشياء إذا كانت لها في نظرهم قيمة، ولهم فيها غرض أو غاية، ولا توجد إلا حيث توجد هذه الغاية»٣٠ إلخ.

أما مسألة الإرادة — أعني علاقة إرادة الله بالكائنات، فوجهة نظر المعتزلة فيها أنا نرى أن مريد الخير خير، ومريد الشر شرير، ومريد العدل عادل، ومريد الظلم ظالم؛ فلو كانت إرادة الله تتعلق بكل ما في العالم من خير وشر لكان الخير والشر مرادين لله، فيكون المريد موصوفًا بالخيرية والشرية والعدل والظلم، وذلك محال على الله، فهو يقول: وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ.

وإذًا فقد قالوا: إن الله أراد ما كان من الأعمال خيرًا أن يكون، وما كان شرًا ألا يكون، وما لم يكن خيرًا ولا شرًا فهو تعالى لا يريده ولا يكرهه. وبعبارة أخرى: إن الله مريد لما أمر به من الطاعات أن يكون، فهو يريد منا أن نأتي بالصلاة والزكاة، وأن نوحد الله ونؤمن برسله، ولا يريد منا المعاصي، فلا يريد الكفر والفسوق والعصيان؛ أما المباحات فلا يريدها ولا يكرهها.

وكان خصومهم يرون في هذه المسألة أن الله مريد لجميع ما كان، غير مريد لما لم يكن، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فالمعتزلة يقولون إن كفر الكافرين وعصيان العاصين لم يردها الله، وخصومهم يقولون أرادهما.

يستدل المعتزلة بأن الله لو كان مريدًا لكفر الكافر، ومعاصي العاصي، ما نهاه عن الكفر والعصيان، وكيف يتصور أن يريد الله من أبي لهب أن يكفر ثم يأمره بالإيمان وينهاه عن الكفر، ولو فعل هذا أحد من الخلق لكان سفيهًا، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا؛ ولو كان كفر الكافر وعصيان العاصي مرادين لله ما استحقا عقوبة، ولكان عملهما طاعة لإرادته — قالوا — هذا إلى ما في القرآن من آيات كثيرة تدل على أنه لا يريد ما نهى عنه، قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِيِنَ مِن قَبْلِهِم، وقال تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، وقال تعالى: وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ، وقال تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرِ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرِ.

وحجة خصومهم أن كل ما في الكون من خير وشر محتاج إلى إرادة تريد حصوله، فكل حادث مراد، والشر والكفر والمعاصي حوادث موجودة واقعة، فهي مرادة.

والظاهر أن الخلاف راجع إلى تصور العدل وتصور الحسن والقبح، فلما قاس المعتزلة الغائب على الشاهد في تعرف العدل، وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من الحسن والقبح، كان ضروريًا أن يذهبوا في الإرادة هذا المذهب الذي شرحنا. ولما كان خصومهم لم يعترفوا بقياس الغائب على الشاهد، ولم يعترفوا بأن أعمال الله موجهة لغاية وغرض، ولم يعترفوا بأن ما يوصف من أعمالنا بالحسن والقبح هو عين ما يوصف من أعمال الله بذلك، رجحوا الجانب الآخر وهو شمول إرادة الله.

والواقع أن كل فرقة كانت أمام مشكلة عويصة حاولت أن تحلها من جانب فتعقدت من جانب؛ فإذا قلنا إن إرادة الله ومشيئته شاملة لكل ما يحدث فكيف يشاء الشر؟ وإذا قلنا إن إرادته لا تتوجه إلا إلى الخير فكيف يقع في ملكه ما لا يريد؟

ومثل هذا الخلاف في إرادة الله، الخلاف في قدرته تعالى؛ وبعبارة أخرى في العلاقة بين قدرة الله وأعمال العباد: هل أعمال العباد مخلوقة لله، أو هي مخلوقة للعبد؟ وهذه هي المسألة التي تُعنون عادة بخلق الأفعال. فأكثر المعتزلة يقولون إن أفعال العباد مخلوقة لهم. ومن عملهم هم لا من عمل الله، وباختيارهم المحض؛ ففي قدرتهم أن يفعلوا وأن يتركوها من غير دخل لإرادة الله وقدرته، ودليل ذلك ما يشعر به الإنسان من التفرقة بين الحركة الاختيارية والاضطرارية كحركة من أراد أن يحرك يده وحركة المرتعش، وكالفرق بين الصاعد إلى منارة والساقط منها؛ فالحركة الاختيارية مرادة من الإنسان مقدورة له، بخلاف الحركة الاضطرارية فلا دخل له فيها — وثانيًا لو لم يكن الإنسان خالق أفعاله لبطل التكليف، إذ لو لم يكن قادرًا على أن يفعل وألا يفعل ما صح عقلًا أن يقال له افعل ولا تفعل، ولما كان هناك محل للمدح والذم والثواب والعقاب، بل ما كان لنبوة النبي وإصلاح المصلح فائدة؛ كما استدلوا على مذهبهم بكثير من آيات القرآن؛ فهناك آيات تضيف الفعل إلى الناس، كقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله، إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، مَن يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ. وآيات تمدح المؤمن على الإيمان، وتذم الكافر على الكفر، كقوله: الْيَومَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ. وآيات تدل على أن أفعال الله ليست كأفعال المخلوقين من التفاوت والاختلاف، كقوله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا. وآيات فيها إنكار وتوبيخ على الكفر والعصيان، كقوله: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى … الآية، فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. وآيات أثبت فيها المشيئة للعبد: فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ. وآيات أمر بها العباد بالإسراع إلى الطاعة قبل فواتها: وَسَارِعُوا إِلىَ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ. وآيات حكى فيها التحسر يوم القيامة على الكفر والمعصية: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمِلُ صَالِحًا، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِيَن.٣١

وقالوا ثالثًا: إن كان الله خلق أعمال الناس فهو إذًا لا يرضى عما فعل، ويغضب مما خلق، ويكره ما دبر.

وكان لهم خصوم مختلفون، فأشد خصومهم من كان يذهب إلى الجبر المحصن؛ ويرون أن أفعال الناس واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرة الناس تأثير فيها، وليس الإنسان إلا محلًا لما يجريه الله على يديه، فهو مجبر جبرًا مطلقًا، وهو والجماد سواء لا يختلفان إلا في المظهر، فمظهر الإنسان أنه مختار وحقيقته أن لا اختيار، والجماد مجبرًا مظهرًا وحقيقة، وتنسب الأفعال إلى الإنسان مجازًا، فضرب فلان وكتب وأساء وأحسن كلها مجازات، كما يقال أثمرت الشجرة، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس، وأمطر السحاب. والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال جبر، والتكليف جبر، ولهم — كذلك — على قولهم أدلة كثيرة؛ قالوا: إن الإنسان إن كان موجدًا لأفعاله وخالقًا لها وجب أن تكون هناك أفعال لا تجري على مشيئة الله واختياره، ويكون هناك خالق غير الله؛ هذا إلى ما ورد في القرآن دالًا على ذلك من مثل قوله تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا، وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ إلخ.

والواقع أن هذه هي مشكلة المشاكل، سميت بالجبر والاختيار، وبحرية الإرادة، وبالقضاء والقدر، وحار فيها الفلاسفة قديمًا وحديثًا فأثارها الفلاسفة اليونانيون قبل المعتزلة، وكان بعضهم يرى أن الإرادة حرة في الاختيار كالأبيقوريين، وبعضهم كان يرى أنها مجبورة على السير في طريق لا يمكنها أن تتعداه كالرواقيين.

ولما جاء الإسلام وجاء دور البحث أثاروا هذه المسألة، فقال الجبريون وعلى رأسهم «جهم بن صفوان»: إن الإنسان مجبور، وليست له إرادة حرة ولا قدرة على خلق أفعاله، وهو كالريشة في مهب الريح أو كالخشبة بين يدي الأمواج، وإنما يخلق الله الأعمال على يديه، وقالت المعتزلة: إن إرادة الإنسان حرة، وقدرته تخلق ما يعمل، وفي استطاعته أن يفعل وألا يفعل، وهو يفعل ما يختار.

والذي دعا إلى هذا الاختلاف بين المسلمين أن الأدلة العقلية متباينة، وظواهر النصوص مختلفة.

فمن ناحية نرى أن الله يطالب الناس بالعمل ويدعوهم إليه، ويأمر وينهى؛ ويثيب على فعل ما أمر، ويعاقب على الإتيان بما نهى، ووضع الحدود والعقوبات، ووعد و أوعد، وساءل العصاة لِمَ تعديتم ولِمَ عصيتم ولِمَ كفرتم، وقد أفسحت لكم مجال العمل، وأرسلت لكم الرسل، وأبنتُ الحجة! ثم ملئت نصوص الكتاب بذلك، فكيف يعقل بعد أن نقول إنه لا أثر لقدرة الإنسان أصلًا، ولو لم تكن له قدرة لما كان معنى للطلب، ولما كان معنى للثواب والعقاب، ولكان التكليف تكليفًا بالمجال، ولحق اعتراض المعترض بأنه لم يفعل ما فعل حتى يستحق لومًا أو عقابًا.

ومن ناحية أخرى، إذا قلنا إن العبد خالق أعماله ترتب عليه تحديد قدرة الله وأنها لم تشمل كل شيء، وأن العبد شريك لله تعالى في إيجاد ما في هذا العالم، والشيء الواحد لا يمكن أن تتعاون عليه قدرتان، فإن كانت قدرة الله هي التي خلقته فلا شأن للإنسان فيه، وإن كانت قدرة الإنسان هي التي خلقته فلا شأن فيه لقدرة الله، ولا يمكن أن يكون بعضه بقدرة الله وبعضه بقدرة العبد، لأن الشيء الواحد لا بعض له — هذا إلى النصوص القرآنية الكثيرة الدالة على شمول إرادة الله وقدرته.

ففريق المعتزلة رجحوا الجانب الأول، ووقفوا، وقف الدفاع عنه، وتأولوا النصوص التي ظاهرها مخالفته، وبذلوا في ذلك عناء كثيرًا ومجهودًا شاقًا، وألجأهم إلى ذلك ما تصوروه من معنى العدل عند الله كما بينا. وفريق الجبرية رجحوا الجانب الآخر، إذ كان شنيعًا لديهم أن يحدوا من إرادة الله وقدرته، وتأولوا الآيات الدالة على قدرة العبد، وقالوا في مسألة التكليف والثواب والعقاب. إنها ليست خاضعة لتصورنا في العدل والظلم، فالعدل والظلم ونحوهما كلمات تطبق على الناس لا على الله، إذ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وحار قوم بين أدلة هؤلاء وهؤلاء، فأرادوا أن يسلكوا سبيلًا وسطًا، ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري؛ فاخترع ما سماه «الكَسب». وقد فسره بعض أتباعه بأنه «الاقتران العادي بين القدرة المحدثة (أي قدرة الإنسان) والفعل، فالله تعالى أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بقدرة العبد وإرادته، فهذا الاقتران هو الكسب».

وهو — كما ترى — لا يقدم في الموضوع ولا يؤخر، فهو شكل جديد في التعبير عن الجبر، فهو يرى أن القدرة الحادثة لا تؤثر في المقدور، ولم ينكر أن هذا الذي سماه كسبًا من خلق الله؛ فلم هذا الدوران والنتيجة القول بالجبر؟ وقال آخرون: إن الله خلق للعبد قدرة يصرف بها الأمور؛ فأعمال العباد تضاف إلى الله باعتباره أنه أقدرهم عليها، وخلق القدرة فيهم، وتضاف إلى العبد باعتبار أنه هو المصرف لأعماله بالقدرة الحرة التي خلقها الله فيه. وهذا رجوع في الحقيقة إلى قول المعتزلة، مع الخلاف في التعبير فقط.

فنحن في الواقع بين فرقتين لا غير: فرقة الجبر وفرقة الاختيار.

وقد نحا بعض المفكرين من المسلمين نحوًا آخر، فقالوا: إن العالم كله مبني على أسباب ومسببات، وإرادة الإنسان خاضعة لأسباب، فإذا أرادت ما أرادت فذلك لأسباب، وإذا لم ترده فلأسباب أيضًا؛ فإذا رأى إنسان طعامًا شهيًا وهو جائع اشتهاه من غير اختيار؛ وإذا رأى شيئًا يؤلمه ويؤذيه كرهه وهرب منه. فالعمل الذي نعمله نتيجة أمرين: أسباب خارجية وإرادة منا، ولما كانت هذه الأسباب الخارجية تجري على نظام محدود، وترتيب منضود، لا تختل أبدًا، وكانت إرادتنا الداخلية معلولة لهذه الأسباب، كانت إرادتنا كذلك جارية على نظام محدود، «والنظام المحدود الذي في الأسباب الخارجية والداخلية هو القضاء والقدر الذي كتبه الله على عباده».

فإذا نحن نظرنا إلى الأسباب الخارجية قلنا إن الإنسان مجبور، وإذا نظرنا إلى الإرادة وحدها فالإنسان مختار؛ وبهذا يمكن الجمع بين الآيات المختلفة، وقد قرر هذا الرأي الفيلسوف ابن رشد في كتابه «مناهج الأدلة».٣٢

وهذا القول في حقيقة أمره قول بالجبر الفلسفي.

على كل حال قرر المعتزلة حرية إرادة الإنسان وقدرته بأجلى مظاهرها، وتأولوا الآيات الواردة على خلاف ذلك، فتأولوا ما ورد من الختم والطبع مثل: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وبَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ بتأويلات مختلفة؛ من ذلك ما ذكره الزمخشري أنه من قبيل الاستعارة أو التمثيل، فلا ختم ولا طبع في الحقيقة، ولكن لما كان الحق لا ينفذ إلى قلوبهم، ولا يخلص إلى ضمائرهم من قبل إعراضهم واستكبارهم، جعل قلوبهم كأنها مستوثق منها بالختم أو الطبع، أو أن حالتهم في أن قلوبهم لا ينتفعون بها فيما كلفوا به وخُلقوا من أجله تشبه حالة من ختم على قلبه وطبع عليه، واستشهدوا على ذلك بقول بعض المازنيين، وقد جعله الحبسة في اللسان والعي ختمًا عليه فقال:

خَتَم الإلهُ عَلَي لِسَانِ «عُذَافرٍ»
خَتْمًا فليْسَ عَلَي الكلامِ بقَادِرِ
وإذا أرادَ النطقَ خِلْتَ لِسانَهُ
لَحمًا تُحَرَّكُهُ لِصَقْرٍ نَاقِرِ
وقد أسند الختم والطبع إلى الله لينبه على أن هذه الصفة في فرط تمكنها كالشيء الخلقي غير العرضي إلخ. ومثل ذلك آية وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِِمْ أَكِنَّةً ونحوها.٣٣

وقد أثارت مسألة خَلق الأفعال عند المعتزلة وخصومهم مسائل كثيرة متفرعة عنها؛ فمن ذلك مسألة التولُّد:

فلما قرر المعتزلة أن أفعال الإنسان مخلوقة له استوجب ذلك التساؤل: ما الرأي في الأعمال التي تتولد عن عمله؟ أهي كذلك من خلقه؟ فإذا ضرب إنسان آخر فالضرب لاشك من خلق الضارب، ولكن ما القول في الألم الذي يحسه المضروب وهو المتولد من الضرب؟ أهو كذلك من خلقه؟ وإذا رمى الإنسان سهمًا فقتل المرمي، فما القول في القتل؟ أهو من خلق الرامي؟ وهكذا تساءلوا في كل المتولدات؛ فإذا أضفنا نشا وسكر وأنضجناهما تولد من ذلك فالوذج، فهل طعم الفالوذج ولونه من خلقنا؟ وهل خروج الروح عند الذبح وذهاب الحجر عند الدفعة، والإدراك الحسي إذا فتحنا أبصارنا، وكسر الرجل عند السقوط، وصحتها إذا جبرت، ونحو ذلك، من خلقنا؟ هذه هي ما يسمونها (مسألة التولد).

فقال قوم من المعتزلة وعلى رأسهم «بشرُ بن المُعْتَمر» رئيس معتزلة بغداد: كل ما تولد من فعلنا مخلوق لنا، فإذا فتحتُ عين إنسان فأدرك الشيء فإدراكه فعلي، وإدراك جميع الحواس فعل الإنسان؛ ومن فعله أيضًا لون ما يصنع من المأكولات — مثلًا — طعومها ورائحتها، ومن فعله الألم واللذة والصحة والزمان والشهوة إلخ.

وفرّق أبو الهُذيل العلاف أحد شيوخ المعتزلة بين المتولِّدات فقال: إن كل ما تولد من فعله مما يعلم كيفيته فهو من فعله، وما لا فلا؛ فالألم الحادث عن الضرب، وذهاب الحجر صعدًا إذا رماه إلى أعلى، وسفلًا إذا رماه إلى أسفل ونحو ذلك من فعله؛ أما الألوان والطعوم والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والجبن والشجاعة والجوع والشبع فكلها من فعل الله.

وكان النَّظَّام يرى أن الإنسان لا يفعل إلا الحركة، فما ليس بحركة فليس من صنعه، ولا يفعل الإنسان الحركة إلا في نفسه، فأما في غيره فلا؛ فإذا حرك يده فذلك فعله، وأما إذا رمى حجرًا فتحرك الحجر إلى فوق أو إلى تحت، فتحرك الحجر ليس من فعل الإنسان، وإنما هو من فعل الله، بمعنى أن الله طبع الحجر أن يتحرك إذا دفعه دافع وهكذا؛ فصلاة الإنسان وصيامه، وحبه وكرهه وعلمه وجهله، وصدقه وكذبه، كلها حركاته، فكلها أفعاله، بل سكونه كذلك فعله، لأن السكون حركة، فمعنى سكون الإنسان في المكان أنه كائن فيه وقتين، أي تحرك فيه وقتين؛ وعلى ذلك فالألوان والطعوم والأراييح والآلام واللذائذ ليست من فعله لأنها ليست حركات.

ولغير هؤلاء أقوال في التوليد يطول ذكرها — وعلى اختلافهم في النظر إلى التولد اختلفوا في تعريفه؛ فقال بعضهم: الفعل المتولد هو الفعل الذي يكون بسبب منِّي، ويحل في غيري؛ وبعضهم يقول: «هو الفعل الذي أوجبت سببه فخرج من أن يمكنني تركه». وقال بعضهم: كل فعل يتهيأ وقوعه على الخطأ دون القصد إليه، والإرادة له، فهو «متولد»، وكل فعل لا يتهيأ إلا بقصد، ويحتاج كل جزء منه إلى تجديد وعزم وقصد إليه، وإرادة له، فهو خارج عن حد التولد إلى آخر الأقوال.

وتولد من قولهم في التولد مسائل أخرى، فقالوا — مثلًا — إذا بعد الشيء عن السبب، فهل يعزى إلى السبب الأول أولًا؛ فلو رمى أحد سهمًا فأمسك آخر بطفل وعرضه للسهم حتى أصابه، فإلى من ينسب الفعل؟ أإلى مطلق السهم، أم ممسك الطفل؟ كما بحثوا في علاقته السبب بالمتسبب: هل السبب موجود قبل المسبب، أو موجود معه؟ وهل السبب موجب للمسبب أولًا؛ كما أثار ذلك مسألة علاقة الإرادة بالفعل: هل إذا وجدت الإرادة يتبعها بالفعل حتمًا،٣٤ إلخ، مما يخرج بنا عن القصد لو حكيناه.

ويظهر أن هذه المباحث حول التولد وما توّلد منه لم تكن مباحث ميتافيزيقية بحتة، بل كان يراد منها أيضًا بحث في المسئولية القانونية والأخلاقية فإنا نراهم في هذه المسألة يبحثون في القتل وتحديده، وما هو عمل القاتل وعمل المقتول؛ وماذا إذا فعل القاتل ما يسبب القتل، ولكن لم يتولد من فعله القتل إلخ. وإن كان كلامهم في المسئولية لم يصل إلينا منه إلا القليل؛ كما أن من مقتضى قولهم في التولد، والإيمان بارتباط الأسباب بالمسببات، وأن الإنسان مكلف بالأسباب لحصول مسبباتها، كالتكليف ببناء المعاقل والحصون لدفع العدو، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ لأن ذلك سبب لابد منه، ينتج عنه صد المغيرين؛ وكبناء القناطر لضبط المياه وتنظيم الري؛ وكإقامة الحدود حتى لا تكثر الجرائم. قالوا: وقد رأينا الشارع كلف بها، فلولا أن الأسباب مربوطة بالمسببة، ولولا أن هذه الأفعال في قدرتنا ما كلفنا بها، ولما كان هناك محل للمدح والذم من أجلها إلخ.

(١-٣) الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين

وهما الأصلان الثالث والرابع من أصول المعتزلة، وقد جمعناهما معًا للارتباط الشديد بينهما.

وقول المعتزلة في ذلك ينبني على تصورهم للإيمان، وتصورهم للعدل الإلهي كما شرحوه، وعلى قولهم في أن العالم سائر لغرض يرمي إلى تحقيقه، على النحو الذي حكيناه عنهم.

فعند أكثر المعتزلة الإيمان ليس هو التصديق والاعتقاد القلبي وحده، بل هو كذلك أداء الواجبات؛ فمن صدق بأن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله من غير أن يؤدي الأعمال الواجبة لم يكن مؤمنًا، «فالإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح؛ وأن كل عمل فرضًا كان أو نفلًا إيمان، وكلما ازداد الإنسان خيرًا ازداد إيمانًا، وكلما عصى نقص إيمانه».٣٥

واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي صلاتكم إلى بيت المقدس، لأن الآية نزلت بعد تحويل القبلة، وقد توهم بعض الناس أن الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس قد ضاعت، فسمى الصلاة إيمانًا وهي عمل؛ ومن ذلك ما ورد في الحديث من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني وهو مؤمن»، ومثل «لا إيمان لمن لا أمانة له» إلخ.

وقد كان لهم معارضون كثيرون في تحديدهم للإيمان هذا التحديد، فمنهم من رأى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب فقط؛ ومنهم من ذهب إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان. وشغل هذا الموضوع حيزًا كبيرًا من كتب الكلام يذكرون فيه حجج الفرق المختلفة، وانبنى على اختلافهم في تصور الإيمان اختلافهم في هل يزيد الإيمان أو ينقص، أو لا يزيد ولا ينقص؟ إلخ.

والذي يهمنا هنا حكاية رأي المعتزلة، فبعد تعريفهم للإيمان هذا التعريف قالوا: إن المعاصي التي يرتكبها الناس تنقسم إلى صغائر وإلى كبائر، واختلفوا في تعريف الصغيرة والكبيرة؛ وأشهر أقوالهم أن الكبيرة ما أتى فيها الوعيد، والصغيرة ما لم يأت فيها الوعيد، ولهم بعد أبحاث في هل يصح أن تكون مجموعة من الصغائر تساوي كبيرة أو لا؟ وهل تغتفر الصغائر لمن لم يرتكب الكبائر؟ ونحو ذلك. ثم قالوا إن الكبائر بعضها يصل من كبره إلى حد الكفر؛ فمن شبه الله بخلقه، أو جوره في حكمه، أو كذّبه في خبره فقد كفر. وهناك كبائر أقل منها منزلة، وهذه الكبائر يسمى مرتكبها فاسقًا، والفسق منزلة بين المنزلتين، لا كفر ولا إيمان؛ فالفاسق ليس مؤمنًا ولا كافرًا: بل هو في منزلته بين المنزلتين.

ثم ربطوا الثواب والعقاب بالأعمال ربطًا حتمًا، وغلا بعضهم في التعبير فقال: «يجب على الله أن يثبت المطيع ويعاقب مرتكب الكبيرة؛ فصاحب الكبيرة إذا مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو الله عنه، لأنه أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده ولأن الطاعات والأمر بها، والمعاصي والنهي عنها، وضعت لتحقيق غايات، فمن لم يطع فقد أخل بهذه الغايات فاستوجب العقاب، وهذا هو معنى أصلهم الذي وضعوه وعنونوه بالقول بالوعد والوعيد، يعنون بذلك أن الثواب على الطاعات والعقاب على المعاصي قانون حتى التزم الله تعالى به».

كما قالوا: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ولو صدق بوحدانية الله وآمن برسله لقوله تعالى: بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وقوله: وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا إلخ.

وكان مخالفوهم يرون أن ثواب الله فضل وعد به، خُلفُ الوعد نقص تعالى الله عنه؛ والعقاب عدل وله العفو عنه، وليس في خُلْف الوعيد نقص، ومرتكبو الكبيرة من المؤمنين لا يخلدون في النار، لقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ؛ ومرتكب الكبيرة قد عمل خيرًا وهو إيمانه، وشرًا وهو كبيرته، فيعاقب على كبيرته، ثم يثاب على إيمانه.

والبحث في هذا أثار مسألة موقف المعصية من الطاعة هل تحبطها؟ فتشدد كثير من المعتزلة في ذلك حتى ذهبوا إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط جميع الطاعات، وبعضهم يذهب إلى المعادلة، فمن زادت معاصيه على طاعاته أحبطتها، ومن زادت طاعاته أحبطت عقاب زلاته.

(١-٤) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وهذا الأصل يشترك فيه المسلمون عامة عملًا بقوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلىَ الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ولكن من عهد الصحابة إلى هذا العصر الذي نؤرخه والمسلمون مختلفون في مدى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمنهم من رأى هذا الوجوب يكفي فيه القلب واللسان إن قدر عليه، ولا يصح أن يلجأ في ذلك إلى استعمال القوة باليد أو السيف. وكان يرى هذا الرأي سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، ومن أجل هذا تراهم قد اعتزلوا ولم يشتركوا في القتال مع عليّ ومعاوية، سيرًا على مبدئهم هذا، وتبعهم في هذا أكثر المحدثين وعلى رأسهم أحمد بن حنبل.

ويرى غيرهم أن سلّ السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك، فمن اعتقد الحق في جانب وجبت عليه نصرته، فإن أدى اللين واللسان إلى تحقيق هذا الغرض كفى ذلك وإلا فالسيف. وعلى هذا المبدأ سار عليّ ومن قاتل معه، وعائشة ومن قاتل معها، ومعاوية ومن قاتل معه، وعلى هذا المبدأ أيضًا جرى المعتزلة والخوارج، فهم يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب إن كفى، وباللسان إن لم يكف القلب، وباليد إذا لم يغنيا، وبالسيف إن لم تكف اليد، لقوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلىَ أَمْرِ اللهِ، وفي الحديث «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنَّكم الله بعذاب من عنده». ولم تتوسع كتب الفرق في شرح هذا الأصل للمعتزلة كما توسعت في الأصول الأربعة الأولى، ولعل مساسه بالسياسة هو الذي منعهم من ذلك، فهذا الأصل يحدد موقف الناس من الحكومة إذا ظلمت، ومن الخليفة أو الوالي إذا تعدى حدوده. وربما كان أوضح ما يبين وجهة نظر المعتزلة في هذا الأصل ما ذكره الزمخشري عند تفسير قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ وملخص ما قال: «إن هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، لأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف ونهى عن المنكر، وعلِم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيد إنكاره إلا تماديًا أو على من الإنكار عليه عبث … وقد روي عن رسول الله أنه سئل وهو على المنبر: من خير الناس؟ قال: «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم». وعن عليّ: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شَنيء الفاسقين وغضب لله غضب الله له … والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبًا فواجب، وإن كان ندبًا فندب. وأما النهي عن المنكر فواجب كله، لأن جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح؛ وشرط الوجوب أن يغلب على ظنه وقوع المعصية، نحو أن يرى الشارب قد تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلاته، وألا يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة — ويبتدئ في إنكاره بالسهل، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب، لأن الغرض كف المنكر. قال تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ثم قال: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي. ويباشره كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه.. فهناك القبائح الظاهرة المعروفة، وهذه يتولى النهي عنها كل إنسان؛ فمن رأى غيره تاركًا للصلاة وجب عليه الإنكار لأنه معلوم قبحه لكل إنسان. وأما ما يحتاج إلى قتال فإنما يقوم به من في استطاعته القتال كالإمام وخلفائه لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عُدتها.٣٦
وفي مقالات الإسلاميين «أن المعتزلة قالوا إذا كنا جماعة وكان الغالب عندنا أننا نكفي مخالفينا عقدنا للإمام، ونهضنا فقتلنا السلطان وأزلناه، وأخذنا الناس بالانقياد لقولنا؛ فإن دخلوا في قولنا الذي هو التوحيد، وفي قولنا في القدر وإلا قتلناهم. وأوجبوا على الناس الخروج على السلطان على الإمكان والقدرة إذا أمكنهم ذلك وقدروا عليه».٣٧
وهذا المبدأ هو الذي جعل للمعتزلة موقفًا فعالًا في الدولة، وجعل لهم سلطانًا على الناس يوم يتاح لهم ذلك، فترى — مثلًا — عمرو بن عُبيد — شيخ المعتزلة — يقول لعبد الكريم بن أبي العوجاء — وكان يتهم بالزندقة والإلحاد وإفساد الشباب — قد بلغني أنك تخلو بالحدث من أحداثنا فتفسده وتستزله وتدخله في دينك، فإن خرجت من مصرنا (يزيد البصرة) وإلا قمت فيك مقامًا آتي فيه على نفسك».٣٨ ونرى واصل بن عطاء — شيخ المعتزلة أيضًا — بالبصرة، لما ثبت له ما يشهد على إلحاد بشار يخطب فيقول: «أما لهذا الأعمى الملحد، أما لهذا المشنف المكَّنى بأبي معاذ من يقتله؛ أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لدسست إليه من يبعج بطنه في جوف منزله أو في حفله.٣٩ وتعاون واصل وعمرو بن عبيد على الهتف به حتى نُفي من البصرة، فذهب إلى حران؛ فلما مات واصل سنة ١٣١ رجع بشار إلى البصرة، فلم يتركه عمرو بن عبيد حتى نفي ثانية، وظل ينتقل في البلاد إلى أن مات عمرو سنة ١٤٣، فعاد إلى البصرة وأقام بها.

وفي ذلك يقول صفوان الأنصاري لبشار:

رجعتَ إلى الأمصار من بعدِ واصِلٍ
وكنتَ شريدًا في التَّهائمِ والنُّجْدِ

هذه ناحية تمثل ناحية من عملهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل الحركة العنيفة القوية في خلق القرآن ومحنته مظهر آخر من مظاهر ما اعتقدوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سيأتي.

وكان الخوارج في هذا الباب (باب استعمال السيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أشد وأقسى وأعنف، فمتى اعتقدوا الحق في شيء نفذوه بالسيف، ولهذا كان تاريخهم سلسلة حروب وخروج على الخليفة، لأنهم يرونه غير حائز للشروط التي يشترطونها، وغير سائر على المنهج الذي يرسمونه، وكأنهم يرون ذلك فرض عين، لا فرض كفاية، كما يحكي الزمخشري عن المعتزلة، وكأنهم يرون أن القتال دين حتم على كل فرد متى رأى منكرًا، ولم يحكموا العقل في هل هذا القتال يوصل إلى الغاية المنشودة أو لا يوصل كما فعل المعتزلة، فالواجب في نظر الخوارج يجب أن يفعل، ثم لتكن النتيجة ما تكون، وظلوا مخلصين لهذا المبدأ طوال العهد الأموي وصدر الدولة العباسية حتى أبيدوا.

(٢) نقد وتحليل لأصول المعتزلة

لعل التاريخ الإسلامي لم يشهد قبل المعتزلة هذا القول الشامل الفلسفي في الله وصفاته وأفعاله، مع البراهين العقلية، والحجج النقلية، كما شهده في المعتزلة؛ فقد أطلقوا للعقل العنان في البحث في جميع المسائل من غير أن يحدوه أي أحد، فجعلوا له الحق أن يبحث في السماء وفي الأرض، وفي الله والإنسان، وفيما دق وجلَّ، فليس له دائرة معينة له الحق أن يسبح فيها، ودائرة ليس له حق ذلك، بل خُلق العقل ليعلم، وفي مكنته أن يعلم كل شيء حتى ما وراء الطبيعة أو ما وراء المادة، بل كانت أبحاثهم فيما وراء الطبيعة أوسع وأعمق من أبحاثهم الطبيعية بحكم أنهم مصلحون دينيون، ودعاة عقيدة.

وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة، فطبقوا قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أبدع تطبيق، وفصلوه خير تفصيل، وحاربوا الأنظار الوضعية من مثل أنظار المجسمة الذين جعلوا الله تعالى جسمًا، له وجه ويدان وعينان، ولحم ودم، وغاية ما قاله أعقلهم أنه جسم لا كالأجسام، وله وجه لا كالوجوه، ويد لا كالأيدي، وقالوا بأن له جهة هي الفوقية، وأنه يرى بالأبصار وأن له عرشًا يستوي عليه، وأنه خلق آدم بيده، إلى آخر ما قالوا مما ينطبق على الجسمية. فأتى المعتزلة وسموا على هذه الأنظار، وفهموا من روح القرآن تجريد الله عن المادية، فساروا في تفسيرها تفسيرًا دقيقًا واسعًا، وأولوا ما يخالف هذا المبدأ، وسلسلوا عقائدهم تسلسلًا منطقيًا؛ فإذا كان الله تعالى ليس مادة، ولا مركبًا من مادة، فليس له يدان ولا وجه ولا عينان، لأن ذلك يدل على جزء من كل، والله تعالى ليس كُلا مركَّبًا من أجزاء، وإلا لكان مادة، وإذا كان كذلك فليست تدركه عيوننا التي خلقت، وليس في قدرتها إلا أن ترى ما هو مادة، وما هو في وجهة؛ وليس كلامه تعالى بلسان وأصوات، وإلا لكان جسمًا، وإنما يخلق الكلام والأصوات كما يخلق سائر الأشياء، ومن ذلك القرآن — وهكذا كانت كل نقطة تسلم إلى التي تليها، فيسيرون فيها من غير خوف من النتائج مهما كانت، متى اطمأنوا إلى أنهم يسايرون العقل؛ فهم من الناحية العقلية جريئون، يقررون ما يرشد إليه في شجاعة وإقدام وهم أمام النقل يسلّمون ما يوافق منها البرهان العقلي، ويؤولون ما يخالفه، فالعقل هو الحكم بين الآيات المتشابهة، وهو الحكم على الحديث ليقرر عدم صحته إن لم يوافق العقل ويحتمل التأويل.

كذلك كان نظرهم إلى عدل الله، فقد وقفوا أمام مشكلة المثوبة والعقوبة، فرأوا أن ذلك لا يكون له معنى إلا بتقرير حرية الإرادة في الإنسان، وأنه خلق أعمال نفسه، وأن في إمكانه أن يفعل الشيء وألا يفعل، فإذا فعل بإرادته وترك بإرادته، كانت مثوبته أو عقوبته معقولة عادلة؛ أما إن كان الله يخلق الإنسان ويضطره إلى العمل على نحو خاص، فيضطر المطيع إلى الطاعة، والعاصي إلى العصيان ثم يعاقب هذا ويثيب ذاك فليس من العدالة في شيء. ولعل نقطة الضعف فيهم أنهم أفرطوا في قياس الغائب على الشاهد، أعني في قياس الله على الإنسان، وإخضاع الله تعالى لقوانين هذا العالم؛ فقد ألزموا الله — مثلًا — بالعدل كما يتصوره الإنسان وكما هو نظام دنيوي، وفاتهم أن معنى العدل — حتى في الدنيا — معنى نسبي يتغير تصوره بتغير الزمان، وأن ما كان عدلًا في القرون الوسطى يعد ظلمًا الآن، فكيف إذا انتقلنا من عالم الدنيا إلى عالم الله، وكذلك الشأن في قولهم في الحسن والقبح والصلاح والأصلح. إنا نرى أن الإنسان إذا ضاق نظره حكم على الأشياء حكمًا، فإذا اتسع نظره تغير حكمه؛ فمن نظر فقط إلى أسرته كانت بعض أحكامه خطأ بالنسبة لمن اتسعت نظرته إلى أمه أو إلى الإنسان عامة؛ ونحن في أعمالنا ننظر إلى عالمنا، والله تعالى رب العالمين قد ينظر في أعماله إلى جميع العالم، ما نعلم منها وما لا نعلم، فكيف نخُضع الله لتصور العدل الذي نتصوره نحن في عالمنا هذا. وكذلك قولهم في أن صفات الله هي عين الله أو غير الله، كل براهينهم مبنية على قياس الغائب على الشاهد ولكن الشبه معدوم؛ وقد فرضوا أن العينية والغيرية والزمانية والمكانية والسببية والمسببية ونحوها قوانين لازمة لكل موجود، وهذا — في نظري — خطأ محض، فهي قوانين إنسانية وإن تسامحنا قليلًا قلنا إنها قوانين عالمنا هذا، ولسنا نستطيع القول بأنها تنطبق على غير عالمنا أو لا تنطبق — فإصدار حكمان على الله على اعتقاد أنها قوانين شاملة للإنسان والله، جرأة لا يرتضيها العقل الذي يعرف قدره ولا يعدو طوره. وليس هذا عيب المعتزلة وحدهم، بل هو عيب من أتى بعدهم من علماء الكلام كذلك.

ولكن على كل حال كان مسلك المعتزلة مسلكًا لابد منه، لأنه أشبه برد فعل لحالة بعض العقائد في زمنهم. لقد قرروا سلطان العقل وبالغوا فيه أمام من لا يقر للعقل بسلطان، بل يقول نقف عند النص، فما كان محكمًا واضحًا عملنا به، وما كان متشابهًا غامضًا تركنا علمه إلى الله. وقال المعتزلة بحرية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته، حتى جعلوه كالريشة في مهب الريح، أو كالخشبة في اليم. وعندي أن الخطأ في القول بسلطان العقل وحرية الإرادة والعلو فيهما خير من الغلو في أضدادهما، وفي رأيي أنه لو سادت تعاليم المعتزلة في هذين الأمرين — أعني سلطان العقل وحرية الإرادة — بين المسلمين من عهد المعتزلة إلى اليوم، لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم التسليم وشلهم الجبر، وقعد بهم التواكل.

لقد قال المعتزلة بسلطان العقل في معرفة الخير والشر؛ فليس الخير يفرض من الله فرضًا على الأشياء، ولا الشر كذلك. وبعبارة أخرى ليس أمر الله بالشيء هو الذي يجعله خيرًا، ولا نهيه عنه هو الذي يجعله شرًا، بل الله يأمر بالشيء لأنه خير في ذاته، وينهى عنه لأنه شر في ذاته، وفي طبيعة الأشياء صفات تجعلها خيرًا، وصفات تجعلها شرًا، وفي وسع العقل أن يتعرف هذه الطبائع لمعرفة الخير والشر — وفي هذا المبدأ من غير شك تحرير للعقل من الجمود والوقوف عند النصوص، فالمشرع يستطيع أن يعمل عقله فيما لم يرد فيه نص ليدرك الخير فيه من الشر، ويقرر حلاله من حرامه، وليس الأمر في ذلك مقصورًا على القياس، بل في إمكانه البحث، ولو لم يكن هناك أصل يقيس عليه ليزن خيره من شره، وليعرف طبيعة الشيء. وإن شئت فقل أنه يقيسه بمقياس العدالة ثم يحكم عليه بأنه يجب أن يعمل أو يجب أن يترك، فالمعتزلي إذا كان فقهيًا جعله هذا المبدأ أكثر حرية؛ بل لعلّ فشو الاعتزال في الحنفية كان من الأسباب التي جعلتهم يركنون إلى استعمال الرأي في مذهبهم، فإن القول بالتحسين والتقبيح العقليين يحل على حرية الرأي واستعمال العقل في الحكم. و«الصَّفدي» في كتابه «الغيث المسجم» يقول: «إن الغالب في الحنفية معتزلة، والغالب في الشافعية أشاعرة، والغالب في المالكية قدريَّة (لعله يعني جبرية)، والغالب في الحنابلة حشوية».٤٠

وإن كان المعتزلي أخلاقيًا، فكذلك يستطيع ألا يقف عند حدود الأوامر والنواهي، بل يزن الفضائل والرذائل بمقياس الزمان والبيئة ونحوهما، ويجتهد في تقرير الأخلاق كما يجتهد صاحبه في الفقه.

وقالوا بسلطان عقل الإنسان وإرادته وتحررهما من سلطان القدر؛ فالعقل حر في التفكير لم يقيده قدر سابق، والإرادة حرة في التنفيذ لم نقيدها إرادة سابقة، ومن أجل هذا تحددت مسئولية الإنسان وتعينت تبعته، فهو إذا كان حرًا كان مسئولًا، وإذا فقد حريته زالت تبعته، وكان كالصغير والمجنون، بل والحيوان والجماد.

ووسعوا دائرة التفكير هذه فقالوا: إن الله والعالم سائران على قوانين العدل ألزم الله بها الإنسان والتزم هو بها، أو بعبارة أخرى كتبها على نفسه، فليس يعذب مطيعًا، وليس يثيب عاصيًا، لأنه تقيد بقوانين العدل، وليس يدخل الجنة والنار حسبما اتفق ولا لمجرد الرغبة، بل قد كتب على نفسه أن يفعل وفق قوانين العدل؛ فالله تعالى ليس حاكمًا مستبدًا، ولكنه حاكم التزم السير على قانون، وأوجب على نفسه العدل.

ومن مظاهر تمجيدهم للعقل تفسيرهم للقرآن بالمعقول أكثر من اعتمادهم على المنقول، وبنوا تفسيرهم على أسسهم من التنزيه المطلق، وحرية الإرادة، والعدل، وفعل الأصلح ونحو ذلك؛ ووضعهم أسسًا للآيات التي ظاهرها التعارض، فحكموا بذلك العقل ليكون الفيصل بين المتشابهات، وقد كان من قبلهم يكتفون بمجرد النقل عن الصحابة والتابعين؛ فإذا جاءوا إلى المتشابهات سكتوا وفوضوا العلم إلى الله — وجرهم القول بسلطان العقل هذا إلى إنكار أحاديث تناقض أسسهم، وأخبار لا تتفق ومذهبهم، وكان هذا أحد الأسباب التي أثارت الخصومة بينهم وبين المحدثين.

وربما أخذ عليهم أنهم في سيرهم هذا وراء سلطان العقل قد نقلوا الدين إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية، وهذا النهج إذا صح أن يقتصر عليه في الفلسفة فلا يصح أن يقتصر عليه في الدين، لأن الدين يتطلب شعورًا حيًا أكثر مما يتطلب قواعد منطقية؛ فالدين ليس كالمسائل الرياضية ولا كالنظريات الهندسية تتطلب من العقل حلها، وفي ذلك كل الغناء. بل الدين أكثر من ذلك يتطلب شعورًا يدعو إلى العمل، وحرارة إيمان تبعث على التقوى. ونظام المعتزلة — وهو الذي جرى عليه المتكلمون بعدهم — نظام جيد التفكير ضعيف الروح، غلا في تقدير العقل، وقصر في قيمة العاطفة. يتجلى ذلك لك إذا أنت وازنته — مثلًا — بمنهج الصوفية؛ فهو على العكس من المعتزلة، شعور وعاطفة ولا منطق. والنظام العقلي في الدين يقف الإنسان — في العادة — موقفًا سلبيًا أكثر منه إيجابيًا، فالأسس الخمسة التي قال بها المعتزلة منها الأربعة الأولى لا تتطلب عملًا، بل هي تنزيه لله تعالى وتحديد لموقفه مع الناس من أطاع منهم ومن عصى، وليس يتطلب العمل الإيجابي إلا المبدأ الخامس وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا نفسه ليس يتطلب من الإنسان عملًا بصفته إنسانًا متدينًا، وإنما هو نوع من الإشراف على أعمال الغير.

وإذا وصلنا إلى هذه النقطة أمكننا أن ننقد هذا المبدأ (مبدأ الأمر بالمعروف) عندهم، فهم يرون تنفيذ ما يعتقدون وإنكار ما ينكرون ولو بالسيف، وساروا على ذلك فعلًا كما روينا من تهديدهم بعض من اعتقدوا الزندقة بالقتل. وهذا من أخطر المبادئ لأنه يجعل في الأمة حكومة داخل حكومة، ويهدد الحرية العامة، فيجعل للفرد سلطانًا أن يحمل السيف ليستعمله ضد مخالفه في الرأي والعقيدة. وكنت أفهم أن يقرروا أن يكون أولوا الرأي منهم مشرفين على الحكومة مراقبين لها، فإذا سارت على المنهج القويم أيدوها، وإذ ا رأوا من أحد منكرًا استعدوا عليه الحكومة العادلة لتنتصف منه، وإذا لم تكن الحكومة عادلة استنكروا أعمالها وثاروا عليها إذا كان في قدرتهم الثورة. أما أن يقروا الحكومة ويعترفوا بشرعيتها وصحة بقائها، ثم يجعل كل فرد من نفسه حكومة، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولو بالسيف، فمسلك يدعو إلى الفوضى والاضطراب.

ويظهر أن بعض المعتزلة شعر بهذا الخطر فقرر مبدأ عادلًا، وهو أنه لا يجوز الخروج على الإمام الجائر إلا لجماعة لهم من القوة والمنعة ما يغلب على ظنهم معها أنها تكفي للنهوض وإزالة الجور، ولا يصح الخروج إلا مع إمام عادل، ولا يتولى إنفاذ الأحكام وقطع يد السارق والقود إلا الإمام العادل، أو من يأمره الإمام العادل، لا يجوز غير ذلك.

ومن ناحية أخرى، لم يفرقوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين شيء أجمع على إنكاره كالسرقة والقتل والزنا ونحو ذلك، وبين شيء مختلف فيه كالاعتقاد بوحدة الله ذاتًا وصفات، والقول بالعدل وخلق القرآن؛ فكان يجب أن يفرقوا بينهما، ويقرروا أن الأشياء المختلف فيها يجب أن يكون الأمر بالمعروف فيها والنهي عن المنكر مقصورًا على المناظرة والدعوة إلى الرأي فيها بالحسنى. ولكنا نرى أن المعتزلة في أيام دولتهم عكسوا الأمر وجعلوا المسائل المختلف فيها في العقائد في الدرجة الأولى، واشتركوا مع الحكومة في فرض رأيهم بالسيف، وجعلوا المسائل الأولى في المنزلة الثانية، وهو عكس للوضع الطبيعي؛ فمسألة الاختلاف في العقائد داخل حدود الإسلام كان يجب أن تترك حرة، ولو اعتقدوا فيها أنهم على صواب وغيرهم على خطأ. أما أن يقيموا الدولة ويقعدوها ويقدموا القول بخلق القرآن على كل أمر عداه، ويجعلوا البلاد كلها موضوع محاكمة، فسوء تقدير للأمور وخطل في تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد كان من أثر ذلك أن خصومهم يوم دولتهم عاملوا المعتزلة بنفس السلاح الذي استعملوه أيام سلطانهم، فضيقوا عليهم وشردوهم وصادروا كتبهم، وطبقوا عليهم مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا المعنى المضطرب المفكك.

وأيًا ما كان، فلسنا ننكر ما كان للمعتزلة من فضل في ترقية العقل ورفع مستواه في المملكة الإسلامية، وأنهم كانوا السابقين الأولين الذين شقوا الطريق لمن أتى بعدهم من أمثال «إخوان الصفا»، وفلاسفة المسلمين كالكندي والفارابي وابن سينا؛ وأنهم كانوا أول من فلسف الدين، وقرر سلطان العقل في أن يبحث مسائل الدين.

•••

وللمعتزلة بعد ذلك آراء سياسية في الإمامة وفي أحداث التاريخ الإسلامي، وإن لم يتفقوا عليها اتفاقهم على الأصول الخمسة السابقة؛ وهم — وإن اختلفوا فيما بينهم في آرائهم — فعلى قولهم جميعًا مسحة من حرية الرأي، وتشريح المسائل، ووضعها موضع النقد؛ وفي كلامهم ما يدل دلالة واضحة على أنهم وضعوا الصحابة والتابعين موضع الناس، يخطئون ويصيبون، ويصدر منهم ما يمدح وما يذم، ولم يتحرجوا من ذلك كما تحرج غيرهم؛ فوضعوا الصحابة وكبار التابعين في دائرة لا يستباح مهاجمتها. بل قالوا: «إنا رأينا الصحابة أنفسهم ينقد بعضهم بعضًا، بل ويلعن بعضهم بعضًا، ولو كانت الصحابة عند نفسها بالمنزلة التي لا يصح فيها نقد ولا لعن لعلمت ذلك من حال نفسها، لأنهم أعرف بمحلهم من عوام أهل دهرنا، وهذا طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن علي؛ وهذا معاوية وعمرو بن العاص لم يقصروا دون ضربه وضرب أصحابه بالسيف، وكالذي روي عن عمر من أنه طعن في رواية أبي هريرة، وشتم خالد بن الوليد وحكم بفسقه، وخّون عمرو بن العاص ومعاوية ونسبهما إلى سرقة مال الفيء واقتطاعه، وقل أن يكون في الصحابة من سلم من لسانه أو يده، إلى كثير من أمثال ذلك ما رواه التاريخ». قالوا: «وكان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك، ويقولون في العصاة منهم هذا القول، وإنما اتخذهم العامة أربابًا بعد ذلك. والصحابة قوم من الناس، لهم ما للناس وعليهم ما عليهم، من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه، وليس لهم على غيرهم كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم، لأنهم شاهدوا الأعلام والمعجزات فمعاصينا أخف لأننا أعذر».٤١
يرى أكثر المعتزلة كأكثر الفرق الإسلامية أنه لابد للمسلمين من إمام «ينفذ أحكامهم، ويقيم حدودهم، ويحفظ بيضتهم، ويحرس حوزتهم، ويعبئ جيوشهم، ويقسم غنائمهم وصدقاتهم، وينصف المظلوم، وينتصف من الظالم، ويُنصِّب القضاة والولاة في كل ناحية، ويبعث القراء والدعاة إلى كل طرف»؛ وقد خالف من المعتزلة في ذلك أبو بكر الأصم، وهشام الفوطي، فرأيا كما رأى بعض الخوارج «أن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوبًا لو امتنعت الأمة عنه استحقت اللوم، بل هي مبنية على معاملات الناس، فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى، واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه، استغنوا عن الإمام».٤٢
واختلفت المعتزلة بينهم في اشتراط أن يكون الإمام من قريش، فاشترطها بعضهم ولم يشترطها قوم منهم، وقالوا: إن حديث «الأئمة من قريش» لم يكن متواترًا، إذا لو تواتر لما ادعت الأنصار مشاركة المهاجرين في الخلافة، بل إن عمر كان يحوز إمامة المولى، فقد قال: «لو كان سالم — مولى حذيفة — حيا لوليته»، وبالغ «صرار» من المعتزلة فقال: «إذا استوى الحال في القرشي والأعجمي فالأعجمي أولى بها، والمولى أولى بها من الصميم».٤٣ ولعله كان يرى أن الخليفة إن لم تكن له عصبية تحميه كان خلعه أيسر إذا جار وظلم.
وتعرض المعتزلة لمسألة أبي بكر وعمر وعليّ، هل خلافتهم صحيحة؟ وأيهم أفضل؟ وقد حكى ابن أبي الحديد رأي المعتزلة في ذلك فقال:٤٤ «اتفق شيوخنا كافة، المتقدمون منهم والمتأخرون، والبصريون والبغداديون، على أن بيعة أبي بكر الصديق بيعة صحيحة شرعية، وأنها لم تكن عن نص، وإنما كانت بالاختيار … واختلفوا في التفصيل، فقال قدماء البصريين كعمرو بن عبيد، والنظام، والجاحظ، وُثمامة بن الأشرس، وهشام الفوطي، وأبي يعقوب الشحام، وجماعة غيرهم: إن أبا بكر أفضل من عليّ، وهؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وقال البغداديون قاطبة، قدماؤهم ومتأخروهم؛ كبشر بن المعتمر، وابن صبيح، وجعفر بن مبشر، وأبي جعفر الإسكافي، وأبي الحسين الخياط، وأبي القاسم البلخي، وتلامذته: إن عليَّا أفضل من أبي بكر … وذهب كثير من الشيوخ إلى التوقف فيهما، وهو قول واصل ابن عطاء، وأبي الهذيل العلاف. وهما — وإن ذهبا إلى الوقف بين عليّ وبين أبي بكر وعمر — قاطعان على تفضيله على عثمان».٤٥

والذي دعا إلى اتفاق المعتزلة على صحة خلافة أبي بكر، حتى من قال منهم بأفضلية عليّ على أبي بكر، أنهم رأوا عليَّا بايع أبا بكر غير مكره، فلابد أن تكون بيعته صحيحة، ولا يصح أن يكونوا علويين أكثر من عليّ.

فإذا وصلنا إلى عثمان وقتلته وجدنا كثيرًا من المعتزلة يقفون في ذلك؛ فواصل بن عطاء يقف في الحكم على عثمان لتعارض الأدلة عنده، فلعثمان مقام محمود في الجهاد بماله، وله هجرتان وسابقة إلى الإسلام، ولم يحضر بدرًا فألحقه رسول الله بمن حضرها؛ ثم كانت فتوحات في الإسلام عظيمة، وسيرة في الإسلام هادية، ولم يتسبب في سفك دم، ولكنه في السنين الست الأواخر من حكمه حدثت منه أحداث، فتعارضت عنده الأدلة، فترك أمره لله.

قال الخياط المعتزلي: إن واصل بن عطاء وقف في عثمان وفي خاذليه وقاتليه وترك البراءة من واحد منهم، «وهذه هي سبيل أهل الورع من العلماء أن يقفوا عند الشبهات، وذاك أنه قد صحت عنده لعثمان أحداث في الست الأواخر، فأشكل عليه أمره فأرجأه إلى عالمه»،٤٦ ومثل ذلك قول أبي الهذيل العلاف. قال: لا ندري أقُتل عثمان ظالمًا أو مظلومًا.٤٧
قد أخذ المعتزلة على عثمان، كما أخذ عليه غيرهم، «أنه أوطأ بني أمية رقاب الناس وولاهم الولايات وأقطعهم القطائع. وفتحت أرمينية في أيامه فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان … وحمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال»٤٨ إلخ.
فهذه هي الأحداث التي أشار إليها واصل أنه أحدثها في السنين الست الأخيرة من خلافته. وللمعتزلة كلام واسع مفصل في تحليل أعمال عثمان والاجتهاد في تمحيصها، وبعضهم قد دافع عنه في إسهاب، وبعضهم حمله تبعات ما فعل في إسهاب؛ وقد حكاها ابن أبي الحديد في نحو ثلاثين صفحة من القطع الكبير والخط الدقيق، فارجع إليها إن شئت؛٤٩ ومحل الجودة فيها أن عليها طابع المعتزلة من الحرية في الرأي وتحكيم العقل.
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الحروب التي كانت مع عليّ وخصومه، رأينا أن واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وقفا في الحرب بين عليّ وطلحة والزبير وعائشة يوم الجمل، كالموقف السابق الذي حكيناه عن واصل في عثمان وقتلته، «كان عليّ وطلحة والزبير وعائشة عندهم (واصل وعمرو) أبرارًا أتقياء مؤمنين، قد تقدمت لهم سوابق حسنة مع رسول الله وهجرة وجهاد وأعمال جميلة، ثم وجداهم قد تحاربوا وتجالدوا بالسيوف، فقالا: قد علمنا أنهم ليسوا بمحقين جميعًا، وجائز أن تكون إحدى الطائفتين محقة والأخرى مبطلة، ولم يتبين لنا من المحق منهم من المبطل فوكلنا أمر القوم إلى عالمه، وتولينا القوم على أصل ما كانوا عليه قبل القتال، فإذا اجتمعت الطائفتان قلنا: قد علمنا أن إحداكما عاصية لا ندري أيكما هي»٥٠ وذهب جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب والإسكافي (وكلهم من المعتزلة) إلى أن الحق في هذه الحرب كان مع عليّ، وأن طلحة والزبير وعائشة قد تابوا من خروجهم على عليّ، فهم لذلك يتولونهم جميعًا.٥١ وأما في الحرب بين عليّ ومعاوية فهؤلاء جميعًا (واصل وعمرو وجعفر بن مبشر) يؤيدون وجهة نظر عليّ، «ويتبرأون من معاوية وعمرو بن العاص ومن كان في شقهما»،٥٢ بل إن البلخي وهو أحد شيوخ المعتزلة رمى عمرو بن العاص ومعاوية بالإلحاد، لما روي أن معاوية قال لعمرو — وقد طلب منه أن يوليه مصر — إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا، فقال عمرو: دعني منك. وقد بالغ البلخي في تفسير هذه الجملة، وقال إن عمرًا يعني «دع هذا الكلام لا أصل له، فإن اعتقاد الآخرة وأنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات»، وهذا تحميل للكلام أكثر ما يحتمل؛ ثم قال البلخي: «وكان معاوية مثله في الإلحاد والزندقة».٥٣ وقال الجاحظ: «كانت مصر في نفس عمرو بن العاص، لأنه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر، فكان لعظمها في نفسه، وجلالتها في صدره، وما قد عرفه من أموالها لا يستعظم أن يجعلها ثمنًا من دينه».٥٤ وإذا كان معاوية غير محق فخلافته غير صحيحة، وكذلك من ولي بعده. ولكنهم يقولون: إن الصحابة والتابعين الذين كانوا في زمن معاوية ويزيد وبني أمية معذورون في جلوسهم عنه لعجزهم عن إزالتهم ولقهر بني أمية لهم بطعام أهل الشام، ولاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.٥٥

وبناء على ذلك تكون نظرتهم إلى بني أمية أنهم خلفاء لا عن حق، وقد طبقوا مذهبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصحابة والتابعين الذين كانوا في عهد الأمويين؛ فمذهبهم أنه لا يصح الخروج إلا عند غلبة الظن بنجاح الثورة. أما الخوارج الذين يجعلون الثورة واجبًا فرديًا مهما تكن النتيجة، فكان تاريخها ثورة مستمرة.

ولعل هذا هو السبب في أن المأمون أيام سلطة المعتزلة قد هم بلعن معاوية على المنبر بتأثير ثمامة بن الأشرس المعتزلي.٥٦
وكذلك لم يرضوا عن أبي موسى الأشعري وموقفه في التحكيم، فقد ذكر ابن أبي الحديد «أن أبا موسى عند المعتزلة من أرباب الكبائر، وحكمه حكم أمثاله ممن واقع كبيرة ومات عليها».٥٧

وعلى الجملة فيظهر أن المعتزلة كان موقفهم من الدولة الأموية موقف كراهية وإن لم يثوروا ثورة الخوارج، ولعلهم نهجوا في هذا منهج شيوخهم وأسلافهم؛ فقد رأينا قبل أن رجلًا سأل الحسن البصري عن رأيه في الفتن فقال له: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. فقال الرجل: ولا مع أمير المؤمنين؟ فقال الحسن: ولا مع أمير المؤمنين. وكان القائلون بحرية الإرادة — وهم الذين يسمون القدرية — قبل تأسيس فرقة المعتزلة من أعداء الدولة الأموية؛ فمعبد الجهني — وهو من أوائل من تكلم في القدر — خرج مع ابن الأشعث على الدولة الأموية فقتله الحجاج؛ وغيلان الدمشقي — من أوائل القدرية كذلك — قتله هشام بن عبد الملك، وجهم بن صفوان — وإن كان جبريًا إلا أنه يعد من شيوخ المعتزلة لقوله بنفي الصفات كما تقول المعتزلة، وقال بخلق القرآن، وقد خرج مع الحارث بن سريج على بني أمية فقتل.

فلعل المعتزلة ورثوا أيضًا كراهية بني أمية من شيوخهم هؤلاء، وبنو أمية — كما يظهر — كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة، لا دينيًا فقط، ولكن سياسيًا كذلك، لأن الجبر يخدم سياستهم. فالنتيجة للجبر أن الله الذي يسير الأمور قد فرض على الناس بني أمية كما فرض كل شيء، ودولتهم بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع للقضاء والقدر. وجهم وإن كان جبريًا إلا أنه قد ثار مع الخارجين على بني أمية، وقال بأقوال أحفظت عليه الناس، فاستغلت السياسة كراهية عامة الناس له وقتلته …

ولما أسرف الوليد بن يزيد بن عبد الملك في الشراب واللهو والطرب وسماع الغناء، وكان متهتكًا ماجنًا خليعًا، كان المعتزلة من أشد الناقمين عليه، والعاملين على قتله، وإحلال يزيد بن الوليد محله في الخلافة. فيقول المسعودي: «وكان خروج يزيد بن الوليد بدمشق مع سابقة من المعتزلة وغيرهم من أهل دارايَّا والمزَّة من غوطة دمشق على الوليد بن يزيد لما ظهر من فسقه وشمل الناس من جوره».٥٨
وإنما نصر المعتزلة يزيد لأنه كان دينًا تقيًا، وكان يعتقد مذهب المعتزلة. قال المسعودي: «وكان (يزيد) يذهب إلى قول المعتزلة وما يذهبون إليه»،٥٩ بل دفعت المعتزلة العصبية المذهبية على أن يفضلوا يزيد بن الوليد على عمر بن عبد العزيز، فقال المسعودي: «والمعتزلة تفضل في الديانة يزيد بن الوليد على عمر بن عبد العزيز لما ذكرنا من الديانة».٦٠ وقال ابن عبد الحكيم: «سمعت الشافعي يقول: لما ولي يزيد بن الوليد دعا الناس إلى القدر وحملهم عليه، وقرب أصحاب غيلان».٦١ ولما قُتل الوليد قام يزيد فقال: «إني والله ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا طمعًا ولا حرصًا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي، ولكني خرجت غضبًا لله ولدينه، وداعيًا إلى كتابه وسّنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حين درست معالم الهدى، وطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار المستحل الحرمة، والراكب البدعة؛ فلما رأيت ذلك أشفقت إذ غشيتكم ظلمة لا تقلع عنكم، على كثرة من ذنوبكم، وقسوة من قلوبكم» إلخ.

فهم في نصرة يزيد جروا على مبدئهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فخرجوا مع إمام اعتقدوا فيه العدل، ولم يخرجوا إلا بعد أن غلب على ظنهم الفوز، وقد فازوا فعلًا.

فإذا نحن وصلنا إلى العصر العباسي وجدنا عمرو بن عبيد رأس المعتزلة لا يميل إلى العباسيين ويجتهد في الهرب من أبي جعفر المنصور، وهو ينقد أبا جعفر ويعدد مظالمه. فيقول له أبو جعفر: فماذا أصنع؟ قد قلت لك خاتمي في يدك، فتعال أنت وأصحابك فاكتفي. فيقول عمرو: «ادعنا بعدلك تسخُ أنفسنا بعونك، ببابك ألف مظلمة، أردد منها شيئًا نعلم أنك صادق».٦٢
وروى البغدادي «أن المنصور قال لعمرو بن عبيد: بلغني أن محمد بن عبد الله بن الحسن كتب إليك كتابًا. قال (عمرو) قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه. قال: فيم أجبته؟ قال: أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا؛ إني لا أراه. قال (المنصور): أجل، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي. قال (عمرو). لئن كذبتك تقية لأحلفن لك تقية، قال (المنصور): والله والله أنت الصادق البر».٦٣

وهذه الحكاية لها مغزاها؛ فمحمد بن عبد الله بن الحسن هذا هو زعيم الشيعة الذي خرج هو وأخوه إبراهيم على المنصور؛ وهذه القصة تدل على أن محمدًا أراد أن يستعين على المنصور بعمرو بن عبيد وأتباعه من المعتزلة، فيخرج المعتزلة لقتال المنصور بالسيف؛ فلما أجاب عمرو لم يجب بأن هواه مع المنصور، ولم يتبرأ من أن هواه مع محمد، وكل ما قاله أنه لم ير استعمال السيف. فكأن عمرًا يرى أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصح أن يصل إلى حد السيف؛ فهو ينكر على المنصور مظالمه بلسانه، ويعظه ويؤنبه، فأما السيف فلا. وقد اكتفى منه المنصور بذلك، ولكن فهم منه من غير شك ميله النفسي لمحمد بن عبد الله بن الحسن، ولم يعبأ كثيرًا بهذا الميل متى لم يستعمل السيف؛ فمبدأ استعمال السيف في الأمر بالمعروف لم يكن رأي عمرو، وإن كان رأي غيره من بعض المعتزلة.

فإذا استنتجنا من هذه الحكاية أن عمرو بن عبيد كان أميل لمحمد بن عبد الله بن الحسن منه للمنصور لم نبعد.

وقال الجهشياري: «إن المنصور عرض على عمرو معونته فأبى وخرج من حضرته، فلقيه أبو أيوب (المورياني وزير المنصور) فقال له: يا أبا عثمان (كنية عمرو) أظنك قد ردعت هذا الرجل (يعني المنصور) قال: نعم … فإن استطعت أن تعين بخير فافعل، وكفى بأمةٍ شرًا أن تكون أنت المدبر لأمرها».٦٤
ويظهر أن الرشيد كان يكره الاعتزال والمعتزلة؛ فالجهشياري يروي أن العتابي (الكاتب الشاعر) كان يقول بالاعتزال، فاتصل ذلك بالرشيد، وكُثِّر عليه في أمره، فأمر فيه بأمر عظيم، فهرب إلى اليمين، فكان مقيمًا بها حتى احتال له يحيي بن خالد البرمكي فأعاده.٦٥
ويقول المرتضى: «إن الرشيد منع من الجدال في الدين، وحبس أهل علم الكلام».٦٦
إنما حسن مركز المعتزلة وناصروا الدولة يوم اعتنق الخلفاء مبادئهم أمثال المأمون، فقد كان معتزليًا في مبادئه وتصرفاته، وكذلك في أيام المعتصم والواثق. قال المسعودي: «وسلك الواثق في المذاهب (يعني مذهب الاعتزال) مذهب أبيه (يعني المعتصم) وعمه (يعني المأمون) من القول بالعدل (أي الاعتزال)»٦٧ فلما جاء المتوكل انصرف عن المعتزلة فانصرفوا عنه، وكاد لهم وكادوا له.

•••

ثم للمعتزلة أيضًا ناحية أخرى جاءتهم من تقديرهم لسلطان العقل، وهي أنهم بعد أن قرروا أصولهم، وآمنوا بها إيمانًا تامًا، كان ما يعارضها من آيات يؤولونها كما رأيت من قبل، وما يعارضها من أحاديث ينكرونها — وكل ذلك في جرأة وصراحة — ولذلك كان موقفهم في الحديث كثيرًا ما يكون موقف المتشكك في صحته، وأحيانًا موقف المنكر له، لأنهم يحكمون العقل في الحديث لا الحديث في العقل، ولنضرب لذلك بعض أمثلة:

كان عمرو بن عبيد يقول: «لا يُعفى عن السارق دون السلطان» أي لا يصح لأحد ولا للمسروق منه أن يعفو عن السارق إلا السلطان (كأنه ينظر في ذلك إلى أن السرقة وقد تمت ليست جريمة على المسروق منه وحده، بل هي جريمة على الأمة، فمن حق السلطان وحده أن ينظر فيها، لأنه الذي بيده حق الأمة)، فروى له بكر بن حمدان حديث صفوان بن أمية (وهو أن صفوان توسد رداء في المسجد ونام، فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به أن تقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة، فقال رسول الله: فهلا قبل أن تأتيني به؟»، ومعنى هذا أن صفوان كان يحق له أن يعفو عنه قبل أن يأتي به لرسول الله، وهذا مناقض لقول عمرو بن عبيد؛ فقال عمرو لبكر بن حمدان: أتحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن النبي قاله؟ فقال بكر لعمرو: أتحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن النبي لم يقله؟ فحلف عمرو».٦٨
واستهزأ الجاحظ بما روي أن الحجر الأسود كان أبيض فسوده المشركون، فقال: كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا.٦٩
وأنكروا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته،٧٠ لأنه ينافي قوله تعالى: لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ.

وأنكروا حديث: «لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن» وقالوا: ينبغي إذا أن تكون الريح عندكم غير مخلوقة، لأن كل شيء في الله قديم غير مخلوق.

وعاب المعتزلة بعض الصحابة في روايتهم أخبارًا غير صحيحة، بل رموهم بالكذب أحيانًا كما فعل النظام، فقد قال: «زعم ابن مسعود أن القمر انشق وأنه رآه، وهذا من الكذب الذي لا خفاء به، لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده ولا لآخر معه، وإنما يشقه ليكون آية للعالمين، وحجة للمرسلين، ومزجرة للعباد، وبرهانًا في جميع البلاد، فكيف لم تعرف بذلك العامة، لم يؤرخ الناس بذلك العام، ولم يذكره شاعر، ولم يسلم عنده كافر، ولم يحتج به مسلم على ملحد».٧١ وإنما قال النَّظام ذلك لما روي له أن ابن مسعود، قال: «رأيت حراء بين فلقتي القمر»، وكان النَّظَّام يرى أن انشقاق القمر الوارد في الآية إنما يكون يوم القيامة. فترى كيف كان النَّظام جريئًا في تحكيم المنطق في رواية ابن مسعود.

وكذلك فعل النظام فيما روي عن ابن مسعود أيضًا من أنه رأى قومًا من الزط فقال: «هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن»، وذلك أن المعتزلة ينكرون قدرة الناس على رؤية الجن لقوله تعالى: يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ. يقول الزمخشري: وفي ذلك دليل بَيَّن أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة».

وقد ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان كلامًا ممتعًا على الجن وعدم إمكان رؤيتهم فقال: وللناس في هذا الضرب ضروب من الدعاوى، وعلماء السوء يظهرون تجويزها وتحقيقها، كالذي يُدعون من أولاد السعالي من الناس، وكما يروي أبو زيد النحوي عن السعالاة التي أقامت في بني تميم حتى ولدت فيهم؛ فلما رأت برقًا يلمع من شق بلاد السعالي حنت وطارت إليهم، وأنشدني أن الجن طرقوا بعضهم فقال:

أتَوْا نَاري فَقُلْتُ مَنُونَ أَنتم؟
فقالوا الجنُّ، قلت عُموا ظَلاَمَا
فقلت: إلَى الطَّعام، فقال مِنهُمْ
زَعيم نَحُْد الإنْسَ الطّعامَاَ
ولم أعب الرواية، وإنما عبت الإيمان بها والتوكيد لمعانيها، وقد أفاض في ذلك بما يدعو إلى الإعجاب.٧٢ وتأول أحاديث ورد فيها رؤية الشياطين، واستهزأ بمن يعتقدها على ظاهرها.٧٣
وقد حكى التنوخي أن نساء المعتزلة لم يكن يخشين الجن والأرواح وكذلك صبيانهم، لأنهم لم يكونوا يسمعون أحاديث الجن من آبائهم، بل كانوا يسمعون إنكار رؤيتهم. قال: «سمعت جماعة من أصحابنا يقولون: من بركة المعتزلة أن صبيانهم لا يخافون الجن».٧٤
وروي أن عجوزًا صالحة كانت معتزلية جلدة نزل عليها لص وكانت وحدها في البيت فشعرت به، فقالت: من هذا؟ قال: أنا رسول رب العالمين أرسلني إلى ابنك الفاسق لأعظه وأعامله بما يمنعه من ارتكاب المعاصي. فقالت: يا جبريل، سألتك بالله إلا رفقت به فإنه واحدي. وغافلته وجذبت الباب بحمية، وجعلت الحلقة في الرزّة، وجاءت بقفل فأقفلته؛ فقال لها افتحي الباب لأخرج فقالت: يا جبريل، أخاف أن أفتح الباب فتذهب عيني من ملاحظتي لنورك، فقال: إني أطفئ نوري. فقالت: يا جبريل، إنك رسول رب العالمين لا يعوزك أن تخرج من السقف، أو تخرق الحائط بريشة من جناحك وتخرج. وتركته يهذي حتى جاء ابنها فمضى وأحضر صاحب الشرطة وفتح الباب وقبض على اللص.٧٥

وحُكي أن لصًا دخل دار معتزلي فأحس به فتبعه، فنزل إلى البئر فأخذ المعتزلي حجرًا عظيمًا ليدليه عليه، فخاف اللص فقال: «الليل لنا والنهار لكم» يوهمه أنه من الجن، فهزئ المعتزلي بذلك ورمى بالحجر فهشمه.

ولنعد إلى ما كنا فيه فنقول: إن المعتزلة نقدوا الصحابة والتابعين بحرية، ورموهم بالتناقض أحيانًا، فنقد النَّظام أبا بكر في قوله حين سئل عن آية من كتاب الله فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا أنا قلت في آية من كتاب الله برأيي؛ ثم سئل عن الكلام فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني. قال النَّظَّام: والقول الثاني خلاف القول الأول. وعاب حذيفة بن اليمان إذ جعل يحلف لعثمان على أشياء بالله تعالى ما قالها، وقد سمعوه قالها، فقيل له في ذلك. فقال: إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله. إلى كثير من أمثال ذلك مما نقله ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، وألف كتابه هذا للرد عليه والتوفيق بين ما ظاهره التناقض في الحديث.

وعلى الجملة فقد كان هذا وأمثاله من أكبر مظاهر المعتزلة في الإيمان بسلطان العقل وتحكيمه في كل الأمور، فلا عجب بعد أن يطلق عليهم المستشرقون اسم «العقليين». وقد استخدموا ما وصل إليه العلم والترجمة والفلسفة في عصرهم في بحوثهم الدينية، وهاجموا بذلك كله المحافظين والمتشددين، وقد أدرك ذلك الناس وعبروا عنه تعبيرًا ظريفًا؛ فقالوا: «النرد أشعري والشطرنج معتزلي»، لأن لاعب النرد يعتمد على القضاء والقدر، ولاعب الشطرنج يعتمد على الكد وإعمال الفكر. وفي ذلك يقول بعضهم في النرد:

وفي الفُصُوص لعْبنا
مُنَّقَّل كالمَثَلِ
تَلُوح في أكفّنا
كالجوهر المُفَصَّل
تفعل فيما بيننا
فعل القضا في الدّوَلِ

ويقول آخر في الشطرنج:

والصغيرُ الحقيرُ يسمو بِه السيْرُ
فيَعْنو له الكبيرُ الجليلُ
فَرْزَنَ البيدق التنقل حتى انحَطَّ عنه
في قيمة الدَّسْتِ فِيلُ.٧٦

(٣) تاريخ المعتزلة ومشهورو رجالهم

كان أهم عصر في تاريخ المعتزلة من سنة ١٠٠ إلى سنة ٢٥٥هـ، ففي هذا العصر تكونوا ونموا وبلغت دولتهم أوجها، وقد رأينا قبل أنهم نشأوا في أواخر العهد الأموي، وكانوا يكرهون الأمويين ويكرههم الأمويون، وأن هشام بن عبد الملك كان يكره هذه النزعة منهم، ونكل ببعض من يرى رأي القدرية، وأنهم لم يرضوا عن أحد من بني أُمية كما رضوا عن يزيد بن الوليد لاعتناقه مذهبهم.

وأنهم في أول العهد العباسي كان زعيمهم عمرو بن عبيد مهادنًا للمنصور لا يخرج عليه، ولكن لا يعاونه.

وفي بدء العصر العباسي نشطت دعوتهم، وبعثوا الدعاة إلى أقصى الأمصار ينشرون مبادئهم، وقد وصف ذلك شاعر المعتزلة صفوان الأنصاري أصدق وصف، إذ يقول في قصيدته التي تعد وثيقة من أهم الوثائق في أعمال المعتزلة:

له٧٧ خلْفَ شعب الصين في كلِّ ثَغْرَةٍ
إلى سوسِها الأقصى وخَلْفَ البرَابرِ٧٨
رجالُ دُعاةُ لا يَقُلُّ عَزيمَهُم
تهكمُ جَبَّارٍ ولا كيدُ ماكِر
إذا قال: مُرُّوا في الشتاء تَطاوَعُوا
وإن كان صيفًا لم يَخَفْ شهر ناخِر٧٩
بهجْرَةِ أوْطانٍ وبَذْلٍ وكُلْفةٍ
وشدّةِ أخطارٍ وَكدِّ المسافر
فأَنَجحَ مَسْعَاهُمْ وأثْقَبَ زَنْدَهُمْ
وأوْرَى بِفَلْجٍ للْمُخَاصمِ قاهِرِ
وأَوْتَادُ أرْض اللهِ في كلِّ بَلْدَةٍ
وموضعَ فُتياها وعِلْمِ التَّشاجرِ٨٠
وما كان سبحانُ يُشقُّ غبارَهم
ولا الشُّدْقُ من حيَّيْ هلال بن عامر
تَلَقَّبَ بالغَزَّال٨١ واحدُ عَصْرِهِ
فمنْ لليتامى والقَبيل المكاثر
ومن لحُرورِيّ٨٢ وآخرَ رافض
وآخَرَ مُرْجىٍ وآخَرَ حَائرِ
وأمْرٍ بمعروفٍ وإنكار مُنْكَرٍ
وتحصين دينِ اللهِ من كلِّ كافر
يصيبون فصل القول في كل منطِقٍ
كما طَبَّقَتْ في العظم مُدْيَهُ جازرِ
تراهم كأن الطيرَ فوق رُءوسهم
على عتمةٍ معروفةٍ في المعاشر
وسيماهمُوا معروفة في وُجُوهِهِم
وفي المشي حُجَّاجا وفوق الأباعز
وفي ركعةٍ تأتي على الليل كله
وظاهر قولٍ في مثال الضمائِرِ
وفي قص هُدّاب وإعفاء شاربٍ
وكورٍ عَلَى شيب يضيء لناظر
فتلك علامات تحيط بوصفهم
وليس جهول القومٍ في جِرْم خابر

ففي هذه القصيدة وصف المعتزلة بأن لهم دعاة بلغوا أقصى الصين وخلفها، وبلغوا المغرب الأقصى، وأن لهم من إيمانهم في دعوتهم ما يستسهلون معه الصعاب، فلا يثنيهم البرد القارس، ولا الحر القائظ، ولا تعوقهم مشقة السفر، ولا احتمال الخطر، وهم في كل بلد أوتادها كأنهم الجبال الرواسي في الثبات ومتانة العقيدة، وهم من سعة النظر ومعرفة الدين بحيث كانوا موضع الفتيا، ثم وصفهم بأنهم أهل الجدل والمناظرة، يثيرون المسائل ويبرهنون عليها، ويحركون العقول للبحث والتفكير وتقليب الآراء على وجوهها المختلفة، إلى طلاقة في اللسان، يعجز عن بلوغ شأوها سحبان، وهم حرب على أهل العقائد المختلفة يلزمونهم الحجة، ويدعونهم إلى المحجة، ينازلون الخوارج، وينازلون الروافض، ويجادلون المرجئة، ويزيلون شك الشكاك، ثم لهم سيمًا خُلُقية، فهم في سمت حسن، ورزانة وهدوء، كأن على رؤوسهم الطير، وهم الحُجَّاج لا يعبأون بمشاق الأسفار، وهم المتعبدون تطول صلاتهم، وتطول فيها تلاوتهم، إلى صدق في القول، وصراحة في الكلام، ولهم شعار في ملابسهم وشكلهم، فهم يعتمون عمامة خاصة يعرفون بها، ويقصون أطراف الثوب (وهو كناية عن تقصيرها)، يَعْفون شاربهم (وهو المبالغة في قصها والأخذ منها).

وهذا يقدم لنا صورة واضحة بعض الوضوح عن انتشار المعتزلة في البلدان وأعمالهم فيها، وحياتهم النشيطة في الدعوة، وما يمتازون به من الناحية العقلية والخلقية، فيذكر المرتضى أن واصل بن عطاء بعث من أتباعه عبد الله بن الحارث إلى المغرب فأجابه خلق كثير، وبعث إلى خراسان حفص بن سالم فدخل ترمذ وناظر جهم بن صفوان حتى قطعه … وبعث القاسم إلى اليمن، وبعث أيوب إلى الجزيرة، وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة، وعثمان الطويل إلى أرمينية.٨٣

فنرى من هذا أن واصلا كون حوله رجالا كثيرين، وبعث بهم إلى البلدان دعاة يدعون إلى الاعتزال وينشرونه بين الناس، وكان ناجحًا في تأسيس جمعيته وتنظيمها ووضع خططها.

ويذكر ياقوت في مادة «تاهرت» وهي «مدينة بالمغرب قرب تلمسان» «أن مجمع الواصلية (أصحاب واصل بن عطاء) كان قريبًا من تاهرت، وكان عددهم نحو ثلاثين ألفًا في بيوت كبيوت الأعراب يحملونها».

ويقول الصفدي: «ومن وقف على طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار علِم قدر ما كانوا عليه من العَدد والعُدد».٨٤
وقد اعتنق هذا المذهب كثير من الناس على اختلاف طبقاتهم من الخلفاء، أمثال: المأمون، والمعتصم، والواثق، إلى العجائز في البيوت كالذي روينا قبل عن التنوخي. ويقول الجاحظ: «سألت بعض العطارين من أصحاب المعتزلة عن فارة المسك فقال: ليس بالفارة وهو بالخِشف أشبه. ثم قص عليَّ شأن المسك وكيف يصطنع».٨٥
ويقول الأغاني: إن عبد الصمد بن المعّذل كان شاعرًا فصيحًا من شعراء الدولة العباسية بصري المولد والمنشأ، وكان هجاَّء، خبيث اللسان، شديد العارضة؛ وكان أخوه أحمد أيضًا شاعرًا إلا أنه كان عفيفًا، ذا مروءة ودين وتقدم في المعتزلة، وله جاه واسع في بلده وعند سلطانه لا يقاربه فيه عبد الصمد.٨٦
وكان بين المعتزلة صلة متينة، وعطف، وتعاون، حتى كان التآلف بينهم مضرب الأمثال؛ فقد كتب أبو محمد العلوي إلى أبو بكر الخوارزمي يقول: «إن اعتداده به اعتداد العلوي بالشيعي والمعتزلي بالمعتزلي».٨٧

وفي أيام المأمون والمعتصم والواثق زاد عددهم، لأن الدولة كانت دولتهم، وقد بلغوا في أيامهم أوجهم.

هذا من ناحية العدد والعُدد. وقد كانوا في البلدان جاعلين لأنفسهم حق الإشراف، يستعملون حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد رأينا قبلُ ماذا فعل واصل وعمرو بن عبيد في بشار. ويروي الأغاني في ترجمة ابن منذر أنه كان في أول أمره يتألَّه، ثم عدل عن ذلك فهجا الناس، وتهتك، وخلع، وقذف أعراض أهل البصرة، وكان يهوى عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي، فضايقه المعتزلة فخاف منهم، فاستنجد ببني رياح، ثم نفي من البصرة إلى الحجاز فمات هناك.٨٨

ثم أثاروا الفكر وحملوه على البحث ووجهوا نظره إلى مسائل لم تثر قبلهم، فأثاروا مسائل كثيرة في الإلهيات كالذي رأينا، وفي الطبيعيات، وفي السياسيات.

يقول صاحب الانتصار: «إنهم أرباب النظر دون جميع الناس، وإن الكلام لهم دون سواهم».٨٩ ثم هم يعقدون المجالس للمناظرات فيناظر بعضهم بعضًا، ويناظرون غيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى، والأديان الأخرى فيحكي صاحب الانتصار عن مجلس كان بين أبي الهذيل المعتزلي، وهشام بن الحكم الشيعي بمكة وإفحام أبي الهذيل له.٩٠ ويقول: «هل على الأرض أحد رد على الدهريين سوى المعتزلة، كإبراهيم النَّظَّام، وأبي الهذيل، ومعمر، والأسواري وأشباههم؟! وهل يعرف أحد صحح التوحيد، واحتج لذلك بالحجج الواضحة، وألف فيه الكتب، ورد فيه على أصناف الملحدين من الدهرية والثنوية سواهم؟!».٩١ ويقول إن إبراهيم النَّظام وأشباهه حاطوا التوحيد ونشروه وذبوا عنه، وشغلوا أنفسهم بجوابات الملحدين ووضع الكتب عليهم، إذ شغل أهل الدنيا بلذاتها وجمع حطامها.٩٢ ومناظرات في خلق القرآن أيام المأمون ومن بعده ترينا جدهم في البحث والمناظرة.
وقد أنجحهم في المناظرة ما رزقه كثير منهم من رجاحة العقل وفصاحة اللسان، والقدرة على الخطابة، حتى يروي الجاحظ أن بشر بن المعتمر المعتزلي هو واضع أصول الخطابة في اللغة العربية برسالة له قيّمة، وسيأتي ذكرها بعد.٩٣
وقد نقل الجاحظ: «أن كبار المتكلمين ورؤساء النَّظَّارين (وعلى رأسهم المعتزلة) كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلًفا لكل خلف، وقدوة لكل تابع».٩٤
كما أن المتكلمين وقوامهم المعتزلة، قد وضعوا في العربية الأسس التي بني عليها بعد «علم البحث والمناظرة». روى الراغب الأصفهاني قال: «اجتمع متكلمان فقال أحدهما: هل لك في المناظرة؟ فقال: على شرائط، ألا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تًُقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلًا، ولا تجّوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوّزت لي تأويل مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلا منا يبغي مناظرته على أن الحق ضالته، والرشد غايته».٩٥

فللمعتزلة الفضل الأول في وضع الأسس الأولى لعلم الكلام، وعلم البلاغة، وعلم الجدل والمناظرة، كما أنهم كانوا المنفذ الأول الذي دخل منه فلاسفة المسلمين إلى الفلسفة اليونانية، لأن المعتزلة أول من استعان بالفلسفة اليونانية، واستقوا منها في تأييد نزعاتهم، فأقوال كثيرة من أقوال النظام وأبي الهذيل والجاحظ وغيرهم، بعضها نقلٌ بحت من أقوال فلاسفة اليونان، وبعضها دخله شيء من التعديل كما سيأتي بيانه في مواضع متفرقة.

•••

ومدرسة المعتزلة تنقسم إلى فرعين كبيرين: فرع البصرة، وفرع بغداد، وفرع البصرة أسبق في الوجود، وله الفضل الأكبر في تأسيس المذهب، وأكثر استقلالًا في رأيه، ويتلوه في كل ذلك فرع بغداد. ولنرسم بيانًا مجملًا لأشهر رجال كل فرع، ونترجم لأعلامهم:

(٣-١) فرع البصرة

figure

فأهم رجال هذا الفرع:

واصل وعمرو بن عبيد

وقد سبق القول فيهما،٩٦ غير أنه يصح أن نقول إنا إذا وازنا بينهما وجدنا «واصلا» أوسع عقلًا وأغزر علًما، وكان له الفضل الأكبر في تأسيس الاعتزال على أسس علمية، ووضع الخطط في نشره، بإرسال الدعاة في الآفاق يبشرون به ويلفون الناس حوله. وكان أقدر على الجدل والمناظرة، سريع البديهة في استحضار آيات القرآن التي تؤيد مذهبه، وفي تأويل ما لا يتفق ظاهرها مع مبادئه؛ وكان أوسع معرفة للمذاهب المختلفة في عصره، ماهرًا في معرفة المسالك في الرد عليها. قال بعض أصحابه: «ليس أحد أعلم بكلام غالية الشيعة ومارقة الخوارج وكلام الزنادقة والدهرية والمرجئة وسائر المخالفين والرد عليهم منه».٩٧ أما عمرو بن عبيد فيظهر أنه مع علمه كان أقل من واصل بمراحل، وقد قالت أخت عمرو وكانت زوجة لواصل: «إن بينهما كما بين السماء والأرض»؛ وكان كثير التأليف، فقد ألف كتابًا فيه ألف مسألة للرد على المانوية، ويقال: إنه وصل إلى أبي الهذيل العلاف قمطران من كتبه ربما كانا منبعًا لعلمه.٩٨

ولهذا كان أكثر رجال المعتزلة تلاميذ لواصل أو تلاميذ لتلاميذه. وميزة عمرو بن عبيد كانت أبين في أنه حي القلب، يعظ فيجيد الوعظ، ثم لا يخشى في وعظه خليفة وأميرًا، يحتقر عطاياهم ويعلو بنفسه على نفوسهم، وينفذ بموعظته إلى قلوبهم فيبكيهم، ثم يلحون عليه في أن يغشى مجالسهم ويتردد عليهم، فيأبى ويفر منهم. وكان إذا جادل واصلا هزمه واصل، فهو من ناحيته العقلية أقل منه، مع أنه من ذلك في منزلة رفيعة، ولكنه من ناحية قلبه وإيمانه لا يقل عن واصل إن لم يزد عليه زهدًا وورعًا.

وقد وصفه النَّظَّام فقال: كان عمرو بن عبيد عالمًا عاقلًا عابدًا، وكان ذا بيان وحلم وصاحب قرآن.

أبو الهُذَيْل العَلاَّف

ومن أقوى الشخصيات في مدرسة البصرة «أبو الهذيل العلاف»، كان رئيس الاعتزال في عصره، وإليه يرجع الفضل في تطعيم مبادئ الاعتزال بمبادئ الفلسفة. وهو محمد بن الهذيل العلاف من موالي عبد القيس، ولذلك يقال له العبدي، وقد عمر نحو مائة سنة، كانت تقريبًا هي المائة الأولى للدولة العباسية؛ فقد ولد سنة ١٣٥ أي بعد ثلاث سنوات من قيام الدولة العباسية، ومات سنة ٢٣٥ في أول خلافة المتوكل،٩٩ وبلغ ذروته في أيام المأمون، فقال الديَنوري: «وعقد (المأمون) المجالس في خلافته للمناظرة في الأديان والمقالات، وكان أستاذه فيها أبا الهذيل محمد بن الهذيل العلاف». ولقب بالعلاف لأن داره بالبصرة كانت في العلافين. وقد كان واسع الاطلاع، كثير الحفظ للشعر العربي، كثير الاستشهاد به، فصيح القول، جيد المناظرة. قال المبرد: ما رأيت أفصح من أبي الهذيل والجاحظ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة، شهدته في مجلس وقد استشهد في جملة كلامه بثلاثمائة بيت»؛١٠٠ ويقول فيه الخياط: «وهو نسيج وحده، وواحد دهره في البيان ومعرفة جيد الكلام».١٠١ وقد ناظر صالح بن عبد القدوس فأفحمه فقال فيه صالح:
أبا الهُذَيْلِ جَزاكَ الله منْ رَجُلٍ
فأنْتَ حَقَّا لَعْمرِي مِفْصَلُ جَدِلُ
كما أنه اتصل بالفلسفة اليونانية وقرأ فيها. يقول النظام إنه (أي النظام) نظر في كتب الفلاسفة وهو بالكوفة، فلما ورد البصرة كان يظن أنه علِم من لطيف الكلام ما لم يعلمه أبو الهذيل، قال النظام: فلما ناظرته خيل إليَّ أنه لم يكن متشاغلًا قط إلا بها.١٠٢

ولعل اتصاله هذا بالفلسفة اليونانية هو الذي مكنه من تنظيم مبادئ المعتزلة؛ وفتح له جهات نظر لم تكن تُعرف من قبل.

وقد امتلأت حياته بالمناظرة والجدل مع الزنادقة، والشكاك، والمجوس، والثنوية، ورووا أنه أسلم على يده أكثر من ثلاثة آلاف رجل.

وصوره الجاحظ في كتاب البخلاء صورة ظريفة، فعده أبخل المعتزلة،١٠٣ وقال: إن أبا الهذيل كان أسلم الناس صدرًا، وأوسعهم خلقًا، وأسهلهم سهولة، أهدى إلى مويس بن عمران دجاجة، فجعلها مثلًا لكل شيء؛ فيسأل مويسًا كيف رأيت الدجاجة يا أبا عمران؟ فيقول كانت عجبًا من العجب، فيقول: وتدري ما جنسها وتدري ما سنها؟ وتدري بأي شيء كنا نسمنها؟ فلا يزال في هذا وأبو عمران يضحك ضحكًا نعرفه ولا يعرفه أبو الهذيل، لما كان به من سلامة الصدر؛ وكانت إذا ذكرت بطة أو جزور أو بقر قال: فأين كانت هذه الجزور في الجزر من تلك الدجاجة في الدجاج؛ وإذا ذكروا ميلاد شيء أو قدوم إنسان قال: كان ذلك بعد أن أهديتها لك بسنة، وما كان بين قدوم فلان وبين البعثة بتلك الدجاجة إلا يوم. ومع هذا البخل فكان أبو الهذيل يقول: أنا رجل منخرق الكف لا أليق درهما،١٠٤ ويدي هذه صناع في الكسب، ولكنها في الإنفاق خرقاء، كم من مائة ألف درهم قسمتها على الإخوان في مجلس!!

فهو في هذا يصوره بخيلًا، ويبالغ في تصويره كعادته، كما يصوره على شيء من الغفلة؛ إذ يضحك الناس من قوله عن الدجاجة، وهو يظن أنهم معجبون لا مستهزئون، وهو مع بخله يفتخر بالكرم ويدعي التبذير والإسراف. وليس عجيبا أن يكون مع علمه الواسع بخيلًا وفيه غفلة، فمن السهل اجتماع ذلك في شخص، والشواهد الواقعية عليه كثيرة. وكلام الجاحظ في شيخه مقبول مصدق، وعلى العكس من ذلك ما اتهمه به بعض المحدثين من الفجور وذكره الخطيب البغدادي، فقد جد المحدثون في وضع الأخبار لانتقاص المعتزلة لما بينهم من عداء.

ويرميه «بشر بن المعتمر» — شيخ معتزلة بغداد — بالنفاق وحب الظهور، ويقول فيه هذه الكلمة البليغة: «لأن يكون أبو الهذيل لا يعلم وهو عند الناس يعلم أحب إليه من أن يعلم وهو عند الناس لا يعلم؛ ولأن يكون من السفلة وهو عند الناس من العلية أحب إليه من أن يكون من العلية وهو عند الناس من السفلة؛ ولأن يكون نبيل المنظر سخيف المخبر أحب إليه من أن يكون نبيل المخبر سخيف المنظر، وهو بالنفاق أشد عجبًا منه بالإخلاص، ولباطلٌ مقبول أحب إليه من حق مدفوع».

وعلى الجملة فيظهر من مجموع ما نقل عنه أنه كان من ناحيته العلمية كبير العقل واسع المعرفة، ومن ناحيته اللسانية قوي الجدل فصيح المنطق، ومن ناحيته الخلقية فيه مغمز: فهو بخيل يدعي الكرم، يهمه المظهر أكثر مما يهمه المخبر، وهو إلى الغفلة أقرب منه إلى المكر والدهاء.

نموذج من جدل:

  • (١)

    قالوا إنه مات لصالح بن عبد القدوس ابنٌ فمضى إليه أبو الهذيل فرآه حزينًا فقال: لا أعرف لجزعك وجهًا إلا إذا كان الإنسان عندك كالزرع (يعني أن لا حياة له بعد هذه الحياة). فقال: إنما أجزع لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك. قال أبو الهذيل: وما كتاب الشكوك؟ قال: كتاب وضعته، من قرأ فيه شك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه كان. قال أبو الهذيل فشك أنت في موت ابنك وافرض أنه لم يمت وإن كان قد مات، وشك أيضًا في أنه قرأ ذلك الكتاب وإن كان لم يقرأ.

  • (٢)

    وجاءه رجل فقال: أشكلت عليَّ آيات من القرآن توهمني أنها ملحونة، فقال أبو الهذيل: أأجيبك بالجملة، أو تسألني عن آية آية؟ قال: بل تجيبني بالجملة. فقال أبو الهذيل: هل تعلم أن محمدًا كان من أوسط العرب، وأن العرب كانوا أهل جدل؟ قال: نعم. قال: فهل تعلم أن العرب اجتهدوا في تكذيبه؟ قال: نعم. قال فهل تعلم أنهم عابوه باللحن؟ قال: لا. قال أبو الهذيل: فتدع قولهم مع علمهم باللغة، وتأخذ بقول رجل من الأوساط؟

وقد اشتهر أبو الهذيل بالجدل والإقناع من أقرب طريق، حتى يروي الخطيب البغدادي أن لصًا لقيه فأمسك بمجامع جيبه (الجيب فتحة الرقبة) وقال له: انزع ثيابك. فقال أبو الهذيل: استحالت المسألة. قال: وكيف؟ قال تمسك بموضع النزع وتقول لي انزع، أأنزعه من ذيله أم من جيبه؟ قال: أنت أبو الهذيل؟ قال: نعم. فتركه.

ودخل على الحسن بن سهل فلقي عنده رجلا يدعي التنجيم، فقال له أبو الهذيل: إنه عملٌ باطل. فسأله البرهان، وكان في المجلس تفاح؛ فقال: آكل هذه التفاحة أم لا؟ قال المنجم: تأكلها. فوضعها أبو الهذيل وقال: لست آكِلها. قال المنجم. فتعيدها إلى يدك وأعيد النظر. فوضعها وأخذ غيرها. فقال له الحسن: لم أخذت غيرها! قال: لئلا يقول لي لا تأكُلها فآكلها خلافًا عليه فيقول. قد أصبت في المسألة الأولى.

آراءه وتعاليمه: كان لأبي الهذيل آراء يتميز بها عن سائر المعتزلة، وكان أتباعه في هذه الآراء يسمون «الهذيلية»؛ من ذلك ما أسلفنا الإشارة إليه من إنكاره لصفات الله في الحقيقة، فهو يقول: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته، وقادر بقدرة هي ذاته، وهكذا يريد أن ليس شيء في الحقيقة غير الذات، وصفة العلم والقدرة ونحوهما ليست إلا مظاهر لذاته؛ فمظاهر الخلق في نظرنا تدل على قدرته، فنقول إذ ذاك إنه قادر، وتدل على العلم، فنقول إنه عالم، وفي الحقيقة لا شيء غير ذاته. وقد قال الأشعري: «إن أبا الهذيل أخذ قوله من أرسطو، فإن أرسطو قال في بعض كتبه: إن البارئ علم كله، قدرة كله، حياة كله، سمع كله، بصر كله؛ فحسن أبو الهذيل لفظة أرسطو وقال: علمه هو هو، وقدرته هي هو».١٠٥

كان يرى أن للعالم كُلاًّ وجميعًا، ونهاية، وغاية، لأنه محدث، والمحدث مخالف للقديم؛ فإذا كان القديم ليست له غاية ولا نهاية، وجب أن يكون للمحدث غاية ونهاية، ولأن المحدثات ذات أبعاض، وما كان كذلك فواجب أن يكون له كل ونهاية. فلما اعُترض عليه — في قوله هذا — بنعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وأنهما لا نهاية لهما، لم ير هذا الرأي، وقال: إني لا أفهم حركات لا تنتهي، ولذلك يجب أن نقول إن حركات أهل الجنة وأهل النار تنقطع، وأنهم يصيرون إلى سكون دائم خمودًا، وتجتمع اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار.

ومن المسائل التي اشتهر بها أبو الهذيل رأيه في «إرادة الله»، وهي مسألة من المسائل المشكلة في الصفات أشرنا إليها فيما قبل؛ ذلك أن الإرادة التي نفهمها في الإنسان صفة من وظيفتها ترجيح أحد طرفي المقدور، فإذا أردت القراءة في كتاب، فقد رجحت القراءة على عدم القراءة، وكانت القراءة وعدمها مقدورين لي. وقد رجحت القراءة لحكمي بأن المصلحة في القراءة تفوق المصلحة في عدمها. فما معنى الإرادة إذا نسبت إلى الله، وقد وردت النصوص بنسبتها؛ كقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؛ ولو فسرت الإرادة في الله كما فسرت في الإنسان لاستحال ذلك، لأن ترجيح الشيء وترتيب الفعل عليه طارئ بعد أن لم يكن، وطروء شيء على الله بعد أن لم يكن محال؛ وهذا بعينه هو الإشكال الذي أثير في مسألة العلم والقدرة، وقد مر الكلام فيهما، فكان أبو الهذيل يرى في إرادة الله أنها ضرب من ضروب العلم، وله على ذلك شرح طويل.

وكان يرى أن الإنسان مكلف بالأشياء التي يستطيع العقل التمييز فيها بين الخير والشر ولو لم تصل إليه أوامر الشرع، وإن قصر في ذلك استوجب العقوبة؛ فيجب عليه الصدق والعدل والإعراض عن الكذب والجور ولو لم يصله شرع في ذلك، لأن العقل يستطيع أن يدرك حسنها وقبحها لما فيها من صفات تجعلها حسنة أو قبيحة.

وقد اقتبس أبو الهذيل مسائل كثيرة من الفلسفة اليونانية، طبيعية وإلهية، وربما كان هو أول من أثارها في الإسلام، وتبعه الناس بعد، ينظرون فيها ويوسعونها ويبدون فيها آراءهم المختلفة؛ فقد أثار الكلام في الجسم ما هو؟ فكان أبو الهذيل يقول: إن الجسم ما له يمين وشمال، وظهر وبطن، وأعلى وأسفل، وأقل ما يكون الجسم ستة أجزاء؛ فتكلم في الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ ما هو؟ وهل له جميع صفات الجسم؟ فكان يرى أنه يتحرك ويسكن ويماس، ولكن لا يحتمل اللون والطعم والرائحة ولا شيئًا من الأعراض غير ما ذكرنا، فإذا اجتمعت ستة جواهر وكونت جسمًا استطاعت إذا أن تتحمل بقية الأعراض.

وبحث في أن جوهر العالم واحد (يعني العنصر الذي ينبني منه العالم) أو جواهر مختلفة — وبحث في حركة الجسم هل تنقسم على عدد أجزائه، وكذلك اللون، فكان يرى أن الحركة تنقسم، فما حل في جزء الجسم من الحركة غير ما حل في جزء آخر، وكذلك اللون، وأن الحركة تنقسم بالزمان، فما وجد منها في زمان غير ما وجد منها في زمان آخر، إلخ. وبحث في رؤية الأجسام والأعراض، فكان يذهب إلى أنهما يريان، فالإنسان يرى الجسم ويرى الحركة والسكون والألوان والقيام والقعود، كما كان يذهب إلى أن الإنسان يلمس الحركة والسكون بلمسه للشيء المتحرك والساكن.

وبحث في الكمون، فكان يرى أن الزيت كامن في الزيتون، والدهن كامن في السمسم، والنار كامنة في الحجر ونحو ذلك.

وبحث في علة الخلق، فقال: إنما خلق الخلق لمنفعتهم، ولولا ذلك لكان لا داعي لخلقهم، لأن من خلق ما لا ينتفع به، ولا يزيل بخلقه ضررًا، ولا ينتفع به غيره فهو عابث.

وبحث في حواس الإنسان وإدراكه وإرادته وغير ذلك مما تطول حكايته.

فترى من هذا أنه كان من أسبق الناس في الإسلام في تفتيح موضوعات لم تُثر بينهم من قبل. وهذه الموضوعات قد بحثت في الفلسفة اليونانية، فأخذها وكون له فيها رأيًا عرضه على المسلمين.

وكثير من هذه الموضوعات لا شأن لها بالاعتزال، ولا بالمسائل الدينية، لأنها مسائل طبيعية بحتة؛ ولكن كأن أبا الهذيل وأمثاله أرادوا أن يستعينوا بالفلسفة فعكفوا على ما وصل إلى أيديهم ليستخرجوا منها ما يثبت مذهبهم، ثم إذا هم يشتاقون إلى الفلسفة للفلسفة — على أنهم في كثير من الأحيان أدخلوا هذه المسائل الطبيعية في الدين، وولدوا منها مسائل دينية؛ كالذي رأيت في بحث أبي الهذيل في الحركة، فقد قاده إنكار أن الحركة لا تتناهى، إلى القول بأن حركات أهل الجنة وأهل النار تنقطع، فصدم بذلك بعض التعاليم الدينية.

كما يصح أن نستنتج من هذا أن هذه المسائل كانت أبحاثًا مفرقة لا يؤلف بينها نظام. ويظهر أن مسلك العالم في ذلك الزمان لم يكن تفكيرًا منظمًا يرتب به أصول المسائل، وينتقل من أصل إلى أصل، يربط بينهما رباط منطقي، ثم يستنتج الفروع من الأصول على نظام ثابت؛ بل كانت هناك آراء مبعثرة يتلقفها هؤلاء المعتزلة، ويضعون كل مسألة تحت البحث والجدل، أو بعبارة أخرى يثيرون حولها «الكلام»، وهذا الكلام يجري من شيء إلى شيء. وكثيرًا ما يثير الجدل مسائل ليس يربط بعضها ببعض رباط — ومن أجل ذلك حاولت في أبي الهذيل العلاف أن أنقل كل ما روي عنه فيما بين يدي من كتب الكلام، وفكرت في أن أؤلف منها نظامًا مسلسلًا، وأصولًا أساسية وضعها وفرع منها فلم أستطع، وكذلك كان شأني مع غيره من المعتزلة، وهذا يرجع إلى أحد سببين: إما أنهم وضعوا كتبًا منظمة فلما ضاعت لم يبق لدينا منها إلا المسائل المبعثرة التي رويت لنا، وهذا عندي بعيد، لأن عناوين الكتب التي روي لنا أنهم ألفوها لا تدل على نظام في البحث، وإنما أكثرها جدل لأهل الديانات الأخرى والمذاهب المختلفة. والسبب الثاني الذي أرجحه هو أن المسائل التي كانوا يثيرونها كانت تخضع للفرص والاتفاق وتشعب الجدل أكثر من خضوعها للنظام ووضع الأصول، وكان هذا طبيعيًا؛ فالمعتزلة أول من تعرض لهذا الضرب من البحث. وكل بحث في فرع من فروع العلم يأتي أولًا مبعثرًا ثم يدخله النظام والترتيب، فكان عملهم إرهاصًا لعمل فلسفي منظم يأتي بعد، يقوم به أمثال الكندي والفارابي وابن سينا.

النَّظَّام

كان «النَّظَّام» آية في النبوغ: حدة ذهن، وصفاء قريحة، واستقلال في التفكير، وسعة اطلاع، وغوص على المعاني الدقيقة، وصياغة لها في أحسن لفظ وأجمل بيان.

وكان في ذلك كله أقدر من أستاذه العلاف، حتى لقد حكموا أن العلاف يذوب أمامه كما يذوب الثلج في الحرارة. روى الجاحظ أنه «قيل لأبي الهذيل: إنك إذا راوغت واعتللت وأنت تكلِّم النظام فأحسن حالاتك أن يشك الناس فيك وفيه. وقال: خمسون شكا خير من يقين واحد».١٠٦

وهو إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري (وكان من الموالي)، تتلمذ للعلاف في الاعتزال، ثم انفرد عنه وكون له مذهبًا خاصًا وعاش في بغداد حينًا، ومات وهو شاب في نحو السادسة والثلاثين من عمره سنة ٢٢١، وكان أستاذ الجاحظ.

وكان له ناحيتان بارزتان: ناحية أدبية، وناحية كلامية أو لاهوتية؛ فهو من ناحيته الأدبية قد عرف بالغوص على المعاني الرقيقة الدقيقة، وصوغها في قالب ظريف. روى الأغاني «أن المأمون هجر عريب، ثم اعتّلت فعادها. فقال لها: كيف وجدت طعم الهجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومن ذم بدء الغضب حمد عاقبة الرضا. فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم بالقصة، ثم قال: أترى هذا لو كان من كلام النظام ألم يكن كبيرًا!».١٠٧ وروي أنه دخل وهو صغير على الخليل بن أحمد، وفي يد الخليل قدح زجاج، فقال له الخليل: صف هذه الزجاجة. قال: أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح. قال: تريك القذى، ولا تقبل الأذى، ولا تستر ما وراءها. قال: فذمها. قال: يسرع إليها الكسر ولا تقبل الجبر. قال: فصف إليَّ هذه النخلة، وأومأ إلى نخلة في داره. قال: بمدح أم بذم؟ قال: بمدح. قال: حلو جناها، باسق منتهاها، ناضر أعلاها. قال: فذمها. قال: صعبة المرتقى، بعيدة المجتنى، محفوفة بالأذى. فقال الخليل: «يا بني نحن إلى التعلم منك أحوج».١٠٨ وأثرت عنه الجمل القصيرة اللطيفة، كقوله — وقد ذُكر عنده عبد الوهاب الثقفي —: «هو أحلى من أمنٍ بعد خوف، وبرء بعد سقم، ومن خصب بعد جدب، وغنى بعد فقر، ومن طاعة المحبوب، وفرج المكروب، ومن الوصال الدائم، والشباب الناعم».١٠٩ وقال: «الذهب لئيم، لأن الشكل يصير إلى شكله، وهو عند اللئام أكثر منه عند الكرام». «وكان النَّظَّام (على عكس أستاذه أبي الهذيل) له بصر بوجوه الإنفاق، وكان السلطان يصله بالكثير، فإذا اجتمع له مال حبس لنفسه بلغة، وفرق الباقي في أبواب المعروف. قيل له في ذلك فقال: من حق المال عليَّ أن أطلبه من معدنه، وأصيب به الفرصة عند أهله، ومن حقي عليه أن يقيني السوء بنفسه، ويصون عرضي بابتذاله، ولا يفعل ذلك إلا بأن أسمح به. ألا ترى ذا الغنى ما أدوم نصبه، وأقل راحته، وأخسَّ — مِنْ ماله — حظه، وأشد — من الأيام — حذرَه؛ وأغرى الدهر بثلبه ونقصه، ثم هو بين سلطان يرعاه، وذوي حقوق يسبونه، وأكفاء ينافسونه، وولد يريدون فراقه، قد بعث عليه الغني من سلطانه العناء، ومن أكفائه الحسد، ومن أعدائه البغي، ومن ذوي الحقوق الذم، ومن الولد الملال؛ وذو البلغة قنع فدام له السرور، ورفض الدنيا فسلم من المحذور، ورضي بالكفاف فتنكبته الحقوق».١١٠

ومن كلامه: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر». وسمع وقع الصواعق ودوىّ الريح فقال: اللهم إن كان عذابًا فاصرفه، وإن كان صلاحًا فزد فيه، وهب لنا الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء؛ اللهم إن كانت منحة فمنَّ علينا بالعصمة، وإن كان عقابا فمنَّ علينا بالمغفرة. وكان يقول: ثلاثة أشياء تخلق العقل وتفسد الذهن: طول النظر في المرآة، والاستغراق في الضحك، وطول النظر إلى البحر. ومن ظرفه أنه كان يقول: «لا أقول متُّ قبلك، لأني إذا مت قبله مات هو بعدي، ولكني أقول مت بدلك». وسئل: أي أمور الدنيا أعجب؟ فقال: «الروح». وله تعليقات لطيفة على بعض ما يروى له من أحداث، فقد روي له أن عبد الملك بن مروان توعد الناس فقال: والله ما أنا بالخليفة المستضعف (يعني عثمان)، ولا أنا بالخليفة المداهن (يعني معاوية)، ولا أنا الخليفة المأمون (يعني يزيد بن معاوية)، فقال النظام: والله لولا نسبك من هذا المستضعف، وسببك من هذا المداهن لكنت منها أبعد من العَيُّوق. إلخ.

ثم له شعر رقيق نحا فيه نحوًا خاصًا في دقة المعنى وحسن السبك كقوله:

ذُكَرْتُكَ وَالرَّاحُ في رَاحَتيِ
فَشُبْتُ المُدَامَ بدَمْعٍ َغَزيرْ
فإنْ يُنْفِدِ الدَّمْعَ فَرطُ الأسَى
بَكَتْكَ الحَشَى بِدُمُوعِ الضَّمِير

وقوله:

يَا تَارِكِي جَسَدا بِغَيْرِ فُؤَادِ
أسْرَفْتَ فيِ الهِجْرَان وَالإبْعَادِ
إنْ كَانَ يَمْنعُكَ الزيارةَ أَعْيُنٌ
فادْخلْ إليَّ بِعلةِ العُوَّادِ
إنَّ الْعُيُونَ عَلَى الْقُلوبِ إذَا جَنَتْ
كَانَتْ بِليَّتهَا عَلَى الأجْسَادِ

وقوله:

أريدُ الفراقَ وأشْتَاقكُمْ
كأنَّا اُفْترَقْنَا وَلَمْ نَفْتَرِقْ
أسْتَغْنمُ الوَصلَ كَيْ أَشْتَفي
وهل يَشتفيِ أبَدا مَنْ عَشقَّ؟!

وقوله:

وشَادنٍ ينطبقُ بالظَّرْفِ
يَقْصُرُ عَنْهُ مُنْتَهَى الوَصْفِ
رَقَّ فلو بزتْ سرابيلهُ
عَلَقه الجوُّ من اللطفِ
يَجْرَحُهُ اللحظُ بَتكْرارهِ
وَيَشْتَكيِ الإيماءَ بالظّرْفِ
أفْدِيه مِنْ مُغْرى بما سَاءني
كأنَّهُ يَعْلَمُ مَا أُخْفيِ

ويقول:

تَوَهَّمَهُ طَرْفي فآَلمَ خدَّه
فصار مَكانَ الوَهمِ مِنْ نَظري أُثْرُ
وصَافَحَهُ قَلبي فآَلمَ كفَّه
فَمنْ صَفْح قَلبي في أنامله عُقْرُ
وَمَرَّ بقَلْبي خاطرًا فَخرجتُه
وَلمَ أرَ جسمًا قَطُّ يَجْرَحُهُ الفِكْرُ
يَمُرُّ فمِنْ لِينٍ وَحُسْن تَعَطفٍ
يُقالُ بِهِ سُكرُ وَلَيْسَ بِهِ سُكْر

وقال:

هُوَ البَدْرُ إلا أنّ فيهِ رَقائِقًا
مِنَ الحُسْنِ لَيْسَتْ فيِ هِلاَل وَلاَ بدرِ
ويْنظُرُ في الوُجهِ القَبِيح بحُسْنِهِ
فيَكْسُوهُ حسْنًا باقيًا آخِرَ الدَّهْر

وقال:

ونشكو بالعيون إذا التَقَيْنَا
فنفهمه ويعلمُ ما أردْت
أقول بمقلتي أنْ مِتُّ شوقًا
فيوحِي طَرفُه أن قد عَلِمتُ

وقال:

أُفْرغَ من نور سمائيِّ
مصوِّرٌ في جسم إنْسِيِّ
وافتقرَ الحُسْنُ إلى حُسِنه
فجَلَّ من تحديد كَيْفيِّ
أبدعه الخالق واختارَهُ
من مازج الأنوار عُلْوِيِّ
فكل من أغرقَ في وصفِهِ
أصبحَ منسوبًا إلى الْعِيِّ

ولما مرض قيل له وفي يده قدح دواء. ما حالك؟ فقال:

أصبحْتُ في دَارِ بليِّاتِ
أَدْفَعُ آفاتٍ بآفاتِ

فتراه في نثره وشعره يتفلسف فتعزز معانيه، وتجود ألفاظه.

وكان يعجبه أبو نواس للطف معانيه ورقة طبعه، وتفلسفه أحيانًا وقربه إلى نفسه. قال الجاحظ: «سمعت النَّظَّام يقول — وقد أنشد شعر لأبي نواس في الخمر — كأن هذا الفتى جمِع له الكلام فاختار أحسنه».

ولما قال أبو نواس:

تركتَ مني قليلًا
من القليل أقلاّ
يكاد لا يتجزَّأ
أقل في اللفظ من لا

سأل النظام عن بيت أبي نواس حتى دّلوه عليه فقال له: «أنت أشعر الناس في هذا المعنى، والجزء الذي لا يتجزأ منذ دهرنا الأطول نخوض فيه، ما خرج فيه لنا من القول ما جمعته أنت فيه في بيت واحد».

وفي أقواله نواة لما نراه بعد في تلميذه الجاحظ.

ووصفه الجاحظ بقوة الحجة فقال: كان أبو شمر إذا نازع لم يحرك يديه ولا منكبيه، ولم يقلب عينيه، ولم يحرك رأسه، حتى كأن كلامه إنما يخرج من صدع صخرة. وكان يقول ليس من المنطق أن تستعين عليه بغيره؛ حتى كلمه النظام فاضطره بالحجة وبالزيادة في المسألة، حتى حرك يديه وحل حبوته، وحبا إليه حتى أخذ بيديه، ففي ذلك اليوم انتقل أيوب من قول أبي شمر إلى قول النظام.١١١
وقد صور الجاحظ نفسية النظام وعقليته تصويرًا حسنًا، وقد كان أعرف الناس به وأكثر خلطة له، وذلك في مواضع منتشرة من كتاب الحيوان؛ فضممنا بعضها إلى بعض لنستخرج منها صورة كاملة بقدر الإمكان، فقد وصفه بالصدق التام فيما يقول، قال: «كان إبراهيم مأمون اللسان قليل الزلل والزيغ في باب الصدق»؛ ثم فسر قوله قليل الزلل والزيغ بأنه استعمل كلمة «قليل» في موضع «ليس» كما يقال قليل الحياء (أي لا حياء عنده)، فمعنى قوله قليل الزلل أن ليس يزل ولا يزيغ في باب الصدق لشدة تحريه للحق. ثم عابه عيبًا دقيقًا فقال: إنه كان جيد القياس، جيد الاستنباط، ولكنه لا يتحرى الدقة فيما يقيس عليه؛ «فهو يظن الظن ثم يقيس عليه وينسى أن بدء أمره كان ظنًا، فلو كان بدل تصحيحه القياس يلتمس تصحيح الأصل لكان ذلك أولى؛ فكان يحكي حكاية المستبصر المتيقن، ولكنه كان لا يقول سمعت ولا رأيت، والسامع لا يشك أنه امتحنه بنفسه مع أنه لم يسمعه ولم يمتحنه».١١٢ فالجاحظ يعيبه بسرعة الجزم في المسائل الأصلية قبل التثبت منها. فإذا أعمل عقله في القياس والاستنباط أتى بالعجب العجاب — وهذا من غير شك تحليل دقيق جدًا لعقلية النظام — ويؤكد هذا المعنى في موضع آخر فيقول: «أخبرني النظام وكنا لا نرتاب بحديثه إذا حكى عن سماع أو عيان»،١١٣ ولكنه يتهمه بأنه مع صدقه «كان أضيق الناس صدرًا بحمل سِر، وكان شر ما يكون إذا لم يؤكد عليه صاحب السر، وكان إذا لم يؤكد عليه ربما نسي القصة فيسلم صاحب السر»، وكان إذا عيب في ذلك صير الذنب كله لصاحبه الذي حمله السر.١١٤
هذه ناحيته الخلقية. أما ناحيته العقلية. فهي عقلية قوية سابقة لزمنها، فيها الركنان الأساسيان اللذان سببا النهضة الحديثة في أوروبا، وهما الشك والتجربة، أما الشك فقد كان يعتبره النظام أساسًا للبحث، فكان يقول: «الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتى صار فيه شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقادٍ غيره يكون بينهما حال شك».١١٥
وبني على ذلك الجاحظ فقال: «تعّلم الشك في المشكوك فيه تعلمًا، فلو لم يكن ذلك إلا تعرّف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه. والعوام أقل شكوكًا من الخواص، لأنهم لا يتوقفون في التصديق، ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق المجرد، أو على التكذيب المجرد، وألغوا الحالة الثالثة من حال الشك».١١٦
وأما التجربة فقد استخدمها كما يستخدمها الطبيعي أو الكيماوي اليوم في معمله. ومن طريف ذلك أنه اتصل بمحمد بن عليّ بن سليمان وكان أميرًا من أمراء البيت العباسي، فشاركه النظام في عملية لطيفة، وهي أن يسقي الخمر للحيوانات ليرصد نتائج ذلك، فجربوها على كل عظيم الجثة، كالإبل والجواميس والبقر، ثم على الخيل العتاق والبراذين، ثم على الظباء والشاء، ثم على النسور والكلب وابن عرس، ثم أتوا بحاوٍ فكان يحتال على الأفاعي حتى يصب في حلقها بالأقماع، وشاهدوا فعل الخمر في هذه الأجناس المختلفة، وساعد على ذلك مال الأمير وجاهه، حتى احتالوا على أسد مقلم الأظفار فسقوه ليعرفوا مقداره في الاحتمال. قال «النظام». «إني لم أجد في جميع الحيوان أملح سكرًا من الظبي، ولولا أنه من الترفه لكنت لا يزال عندي الظبي حتى أسكِره وأرى طرائف ما يكون منه».١١٧
وتجربة أخرى قالها؛ فقد ذكر أنه «شهد محمد بن عبد الله يلقي الحجر في النار، فإذا عاد كالجمر قذف به قدام الظليم، فإذا هو يبتلعه كما يبتلع الجمر. وكنت قلت له: إن الجمر سخيف سريع الانطفاء إذا لقي الرطوبات، ومتى أطبق عليه شيء يحول بينه وبين النسيم خمد، والحجر أشد إمساكًا لما يتداخله من الحرارة، وأثقل ثقلًا وألزق لزوقًا، وأبطأ انطفاء، فلو أحميت الحجارة؛ فأحماها ثم قذف بها إليه فابتلع الأولى، فارتبت به، فلما ثنَّى وثلَّث اشتد تعجبي له؛ فقلت: لو أحميت أواقي الحديد ما كان منه ربع رطل ونصف رطل، ففعل فابتلعه، فقلت: هذا أعجب من الأول والثاني، وقد بقيت علينا واحدة، وهو أن ننظر أيستمرئ الحديد كما يستمرئ الحجارة؟ ولم يتركنا بعض السفهاء أن نتعرف ذلك على الأيام، وكنت عزمت على ذبحه وتفتيش جوفه وقانصته، فلعل الحديد يكون قد بقي هناك لا ذائبًا ولا خارجًا، فعمد بعض ندمائه إلى سكين فأحمي ثم ألقاه إليه فابتلعه، فلم يجاوز أعلى حلقه حتى طلع طرف السكين مع موضع مذبحه، ثم خر ميتًا، فمنعنا بخرقه من استقصاء ما أردنا».١١٨

وفي هذا مثل أعلى من أمثلة البحث العلمي والتجربة الصحيحة الدقيقة، واستعمال المنطق السليم في البحث عن الحقائق.

ثم هو أبعد ما يكون عن الخرافات، يبحث الأمور بعقله في هدوء وطمأنينة، ويحارب أوهام العوام، ويقيم على ذلك الأدلة؛ فتراه — مثلًا — يحارب التطير والتشاؤم، فيقص لذلك قصة لطيفة فيقول: «جعت حتى أكلت الطين، وكان عليَّ جبة وقميصان، فنزعت القميص الأسفل فبعته بدريهمات (لأقتات بثمنه) ثم قصدت فرضة الأهواز فوافيت الفرضة فلم أصب فيها سفينة؛ فتطيرت من ذلك، ثم رأيت سفينة في صدرها خرق وهشم، فتطيرت من ذلك أيضًا، فسألت الملاح عن اسمه، فإذا اسمه بالفارسية معناه الشيطان، فتطيرت من ذلك، ثم ركبت معه تَصُبُّ الشّمال وجهي، وينُثر الليلُ الصقيع على رأسي، فلما قربنا من الفرضة ناديت، يا حمّال، فكان أول حمال أجابني أعور، فناديت بقَّارًا فليحمل متاعي فأحضر ثورًا أعضب القرن، فازددت طِيرة إلى طيرة؛ فلما صرت في الخان وجلست فيه سمعت قرع الباب، قلت: من هذا؟ قال: رجل يريدك. قلت: ومن أنا؟ قال: أنت إبراهيم. فظننته عدوًا أو رسول سلطان؛ ثم إني تحاملت وفتحت الباب، فقال: أرسلني إليك إبراهيم بن عبد العزيز، وهو يقول: نحن وإن كنا اختلفنا في بعض القالة فإنا قد نرجع بعد ذلك إلى حقوق الأخلاق، وقد رأيتك على حال كرهتها، وما عرفتك حتى خبرني عنك بعض من كان معي، وقال: ينبغي أن يكون قد نزعته حاجة؛ فإن شئت فأقم في مكانك عسى أن نبعث إليك ما يكفيك زمنًا من دهرك، وإن اشتهيت الرجوع فهذه ثلاثون مثقالًا، فخذها وانصرف وأنت أحق مَنْ عذر. فتبين لي أن الطيرة باطلة؛ ثم قال: وعلى مثل هذا يعمل الذين يعبرون الرؤيا».١١٩
فهو في هذا لا يؤمن بطيرة ولا أحلام، وهو يعرض لما روي في الشعر العربي من أحاديث عن الجن والغيلان وأن بعض الأعراب سمعوهم وحدثوهم، فيحلل ذلك تحليلًا نفسيًا فلسفيًا دقيقًا فيقول: «أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد عن الناس استوحش، ولا سيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين والوحدة، ولا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة، وقد ابتلي بذلك غير حاسب … وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألة فأنكر أهله عقله حتى حموه وداووه، وقد عرض ذلك لكثير من الهند؛ وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير. وارتاب وتفرق ذهنه وانتقضت أخلاطه، فيرى ما لا يرى، ويسمع ما لا يسمع، ويتوهم الشيء الصغير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعرًا تناشدوه وأحاديث توارثوها، فازدادوا بذلك إيمانًا، ونشأ عليه الناشئ، وربى به الطفل، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس، وعند أول وحشة أو فزعة، وعند صياح بوم ومجاوبة صدى يرى كل باطل ويتوهم كل زور. وربما كان في الجنس والطبيعة تفاحًا كذابًا وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان وكلمت السعلاة، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: قتلتها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول رافقتها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجتها … ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به، ومد لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابيًا مثلهم، وإلا غبيًا لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يوجب التكذيب والتصديق أو الشك، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط. وإما أن يلقوا راوية شعر أو صاحب خبر، فالرواة عندهم كلما كان الأعرابي أكذب في شعره كان أظرف عندهم، وصارت روايته أغلب، ومضاحيك حديثه أكثر؛ فلذلك صار بعضهم يدعي رؤية الغول أو قتلها أو مرافقتها أو تزويجها».١٢٠

وهذا تحليل يدل على عقل راجح ونظر دقيق وتفكير حر، ولعل النظام علل هذا تدعيمًا لرأي المعتزلة الذي سبق من أن الجن لا يراهم الإنس؛ وأن طبيعة تكوين الجن لا تمكن الإنس من رؤيتهم.

ثم هو واسع الحرية في التفكير شديد الجرأة على المحدثين، قليل الإيمان بصحة الحديث، وهو شديد الإيمان بالقرآن، قليل التصديق بما يرويه المفسرون حول الآيات من أخبار، كالذي يرويه في التفسير عكرمة، والكلبي، والسدي، ومقاتل.

وقد ضربنا أمثلة من قبل في بيان مهاجمته للمحدثين وبيان ما في الأحاديث التي رووها من تناقض،١٢١ ثم هو يحكم العقل في الأحاديث، فإن كان عقله لا يقر الحقيقة التي رواها الحديث أنكر الحديث في شدة غريبة. أسوق لذلك مثلًا، وهو أن الأحاديث كثيرة في مدح القط وذم الكلب، وتفضيل الأول على الثاني، فالهرة محبوبة في الإسلام وسؤرها طاهر، والكلب مكروه وسؤره نجس أشد النجاسة، ومع ذلك يقف النظام بجانب عقله ويقول مخاطبًا المحدثين: «لقد قدمتم السنَّور على الكلب. ورويتم أن النبي أمر بقتل الكلاب واستحياء السنانير وتقريبها، وتربيتها، وأنه قال: إنهن من الطوافات عليكم، مع أن كل منفعة السنور إنما هي أكل الفار فقط … وهو مع ذلك يأكل حمامكم وفراخكم، والعصافير التي يتلهى بها أولادكم، ويأكل الطائر الذي يُتَّخذ لحسنه وحسن صوته، فإن هو عف عن أموالكم لم يعف عن أموال جيرانكم — ومنافع الكلب لا تحصيها الطوامير — ثم السنور مع ذلك يأكل الأوزاغ، والعقارب، والخنافيس، والحيات، وكل خبيثة، وكل ذات سم، وكل شيء تعافه النفس؛ ثم قلتم في سؤر السنور وسؤر الكلب ما قلتم، ثم لم ترضوا به حتى أضفتموه إلى نبيكم١٢٢». فترى من هذا جرأته الصريحة العنيفة، حتى إن الجاحظ — وهو يجله إجلال التلميذ الوفي لأستاذه — لا يتمالك بعد أن حكى هذا القول أن يصرخ ويقول: «لا رحم الله النظام ولا من قال بقوله».
والنظام يسير في القول بسلطان العقل إلى آخر حدود السلطان، فهو يرى أيضًا في موقف طالب العلم من الكتب ألا يكون حاطب ليل، بل ينبغي أن يتخير مما فيها، ولا يسمح أن يدخل في نفسه إلا الجيد المنتقى، ويقول: «القليل والكثير للكتب، والقليل وحده للصدر — ويقول: إن الكتب لا تحيي الموتى، ولا تحول الأحمق عاقلًا ولا البليد ذكيًا، ولكن الطبيعة إذا كان فيها أدنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي؛ ومن أراد أن يعلم كل شيء فينبغي لأهله أن يداووه، فإن ذلك إنما تصور له بشيء اعتراه، فمن كان ذكيًا حافظًا فليقصد إلى شيئين أو إلى ثلاثة أشياء، ولا ينزع عن الدرس والمطارحة — ولا يدع أن يمر على سمعه وعلى بصره وعلى ذهنه ما قدر عليه من سائر الأصناف، فيكون عالمًا بخواص، ويكون غير غفل من سائر ما يجري فيه الناس»،١٢٣ فهو لهذا يضع منهجًا بديعًا للدرس، فينقد من يسير في تعلمه على طريقة حشو المعلومات في الذهن حشوا، ولا يعجبه قول ابن يسير:
أمَا لو أَعِي كُلَّ ما أسْمَعُ
وأحْفَظُ من ذاك ما أَجْمَعُ
ولم أستفد خَيْرَ ما قد جَمَعْـ
ـتُ لِقيلَ هو العالم المِصْقَعُ

فكان يقول: «كّلف ابن يسير الكتب ما ليس عليها»، فهي لا تصير البليد عالمًا، فالعلم ليس في جمع الكتب وحفظ ما فيها، وإنما هو بالتعقل. كما أن النظام أوضح فكرة في التعليم كان يظن أنها جديدة، فهو يرى أن العالم يجب أن تكون له ثقافتان: ثقافة عامة فيأخذ من كل شيء بطرف، وثقافة خاصة، وهي أن يتخصص في بعض الفروع ويتعمق فيها ويتبحر:

ومن أثر إيمانه بسلطان العقل جرأته كذلك في نقد الصحابة ووضعهم موضع سائر الناس وتشريح أعمالهم السياسية وآرائهم الفقهية، وقد أشرنا إلى طرف من ذلك قبل.١٢٤
وقد ذكر ابن أبي الحديد أن النظام ألف كتابًا اسمه كتاب النكت، انتصر فيه لكون الإجماع ليس بحجة. فاضطره ذلك إلى أن ذكر عيوب الصحابة، فذكر لكل منهم عيبا، ووجه إلى كل منهم طعنًا. وقال في عليّ إنه لما حارب الخوارج يوم النهروان كان يرفع رأسه إلى السماء تارة ينظر إليها، ثم يطرق إلى الأرض فينظرها تارة أخرى، يوهم أصحابه أنه يوحى إليه. ثم يستمر النظام في نقده على ذلك النهج — وقد رد عليه ابن أبي الحديد وأقر بصحة الخبر: أن عليًّا كان يرفع رأسه إلى السماء تارة ويطرق تارة، وفسر ذلك بأنه حيث كان يرفع رأسه كان يدعو ويتضرع إلى الله، وحيث يطرق كان يغلبه الهم والفكر إلخ١٢٥ وهذا مثل لجرأته النادرة في النقد.

هذا والمحدثون يكرهونه كرهًا عميقًا، وهذا طبيعي بعد الذي ذكرنا من مهاجمته لهم، وهم يصورونه فاسقًا سكيرًا. فيقول ابن قتيبة: «وجدنا النظام شاطرًا من الشطار يغدو على سكر ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات؛ وهو القائل:

ما زلتُ آخذُ روحَ الزِّق في لُطُف
وأستَبيحُ دمًا من غير مَجْرُوح
حتى انثنيتُ ولي رُوحانِ في جَسَدِي
والزِّق مُطّرَحٌ جِسْمٌ بِلاَ رُوحِ١٢٦

ومثل ذلك في الأنساب للسمعاني.

والأغاني يصوره محبًا لجمال الغلمان، فيروي أنه لقي غلامًا حسن الوجه فاستحسنه وأراد كلامه فعارضه، فقال له: يا غلام إنك لولا ما سبق من قول الحكماء مما جعلوا به السبيل إلى مثلك في قولهم: «لا ينبغي لأحد أن يكبر عن أن يسأل، كما أنه لا ينبغي لأحد أن يصغر عن أن يقول» لما أتيت لمخاطبتك ولا انشرح صدري لمحادثتك، لكنه سبب الإخاء وعقد المودة، ومحلك من قلبي محل الروح من جسد الجبان. فرد عليه الغلام بقول للنظام، وهو لا يعرفه. فقال له النظام: إنما كلمتك بما سمعت، وأنت عندي غلام مستحسن، ولو علمت أن محلك مثل محل «معمر» في الجدل لما تعرضت لك».١٢٧

وقال فيه أبو نواس يهجوه:

قُولا لإبراهيم فَولا هترا
غلبتني زندقة وكُفرَا
إن قلتُ ما تشرب؟ قال خمرا
… … … … …
أو قلت ما تترك؟ قال برَّا
أو قلتُ ما تَرْهَب؟ قالَ بَحْرَا
أو قلتُ ما تقول؟ قال شرَّا
أصْلاهُ رَبي لَهَبًا وَجَمْرَا

ولكن أبا نواس لا يعتد يهجوه فليس في هجائه مقياس الصدق، فقد هجا أبا عبيدة ورماه باللواط، وهجا قُطْرُبا النحوي كذلك. وابن الأعرابي وأبان اللاحقي إلخ؛ وهجا كل من كان يضايقه حتى هجا رمضان لأنه بالصوم يضايقه؛ وهجا المطر لأنه أفاته موعد حبيب. وقال الجاحظ في البخلاء: «كان أبو نواس يرتعي على خوان إسماعيل بن نوبخت كما ترتعي الإبل في الحمض بعد طول الخلة. ثم كان جزاؤه منه أنه قال:

خُبْزُ إسماعيلَ كَالوشى
إذا ما شقّ يُرفَا
والمعتزلة ينكرون هذا كله ويجعلونه من وضع المحدثين والمجان، ويحمدون للنظام دينه ومواقفه في الدفاع عن الإسلام، فقد رد على الدهرية والملحدين، وقضى حياته هو وأمثاله في حياطة التوحيد ونصرته، والذب عنه عند طعن الملحدين فيه، وشغلوا أنفسهم بالإجابة عن دعاوى الملحدين ووضع الكتب عليهم، إذ شغل أهل الدنيا بلذاتها وجمع حطامها.١٢٨ قال الخياط في الانتصار: «ولقد أخبرني عدة من أصحابنا أن إبراهيم «النظام» رحمه الله قال وهو يجود بنفسه: اللهم إن كنت تعلم أني لم أقصر في نصرة توحيدك، ولم أعتقد مذهبًا من المذاهب اللطيفة إلا لأشد به التوحيد، فما كان منها يخالف التوحيد فأنا منه بريء، اللهم فإن كنت تعلم أني كما وصفت فاغفر لي ذنوبي وسهل عليَّ سكرة الموت»،١٢٩ ثم قال الخياط: وهذه هي سبيل أهل الخوف لله والمعرفة به.

ولعله كان يشرب النبيذ على عادة أهل العراق، ويستحسن الجمال على عادة الأدباء، فاستغل المحدثون ذلك وشنعوا عليه.

وعلى الجملة فقد كان «النظام» آية دهره، يروون عن الجاحظ أنه قال: «كان الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحًا فهو النظام».١٣٠
كان ذا ثقافة واسعة، من ثقافة أدبية — فهو يحفظ كثيرًا من الأشعار والأخبار — وثقافة دينية، فقد روى المرتضى أنه قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وتفسيرها، إلى معرفة فقهية واسعة في الأحكام والفتيا، إلى ثقافة فلسفية، فقد قرأ بعض كتب أرسطو ورد عليه. قال المرتضى: «ذكر جعفر ابن يحيي البرمكي أرسططاليس، فقال النظام: قد نقضت عليه كتابه، فقال جعفر: كيف وأنت لا تحسن أن تقرأه؟ فاندفع (النظام) يذكر شيئًا فشيئًا وينقض عليه، فتعجب منه جعفر».١٣١

وقال الشهرستاني: «إن (النظام) قد طالع كثيرًا من كتب الفلسفة، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة». وقال في موضع آخر: «إن أكثر ميله أبدًا إلى تقرير ومذاهب الطبيعيين (من الفلاسفة) دون الإلهيين».

آراؤه الكلامية:

اهتم النظَّام بالدفاع عن الإسلام، والرد على الملحدين؛ وخصص جزءًا كبيرًا من زمنه في الرد على الدهريين، وهم فرقة كانت منتشرة في زمن النظَّام في العراق وغيره، لا تؤمن بدين ولا تقر بإله، ولا تؤمن إلا بالمحسوس، ولا تعتقد أن وراء هذا العالم المادي عالمًا، فلا معاد ولا ثواب ولا عقاب،١٣٢ ونسبتهم إلى الدهر أخذًا من حكاية الله عنهم قولهم: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ.
هم يقولون بقدم العالم وأبديته، وما يحدث في العالم فإنما يحدث بقوانينه الطبيعية، فهم أشبه بما نسميهم اليوم الماديين أو الطبيعيين؛ ويظهر أن تعاليمهم لم تكن في كل العصور ولا كل الفرق واحدة، ولذلك اختلف مؤرخو العقائد في حكاية أقوالهم. وقد استبدوا أكثر تعاليمهم من مذاهب فلسفية يونانية قديمة. وقد تسلسل هذا المذهب الطبيعي من فلاسفة اليونان إلى القرون الوسطى، ثم ترقى في العصور الحديثة على يد أصحاب مذهب النشوء والارتقاء وغيره من الطبيعيين، كما تسلسل الرد عليهم من اليونانيين أنفسهم إلى فلاسفة القرون الوسطى، ومنهم المعتزلة وعلى رأسهم النّظام إلى العصور الحديثة، وفي مقدمتهم جمال الدين الأفغاني في رسالته الرد على الدهريين.١٣٣
وقد بقيت لنا من ردود النَّظام عليهم بعض فقر حكاها عنه الجاحظ في كتاب الحيوان؛ فحكى عن النظام أنه قال: «إن الدهرية قالت في عالمنا هذا أقاويل؛ فمنهم من زعم أنه من أربعة أركان، حر وبرد ويبس وبلة، وسائر الأشياء نتائج وتركيب وتوليد، وجعلوا هذه الأربعة أجسامًا؛ ومنهم من زعم أن هذا العالم من أربعة أركان: أرض وهواء وماء ونار،١٣٤ وجعلوا الحر والبرد واليبس والبلة أعراضًا لهذه الجواهر، ثم قالوا إن سائر الأراييح والألوان والأصوات ثمار هذه الأربعة على قدر الأخلاط في القلة والكثرة والرقة والكثافة إلخ».١٣٥ ثم أطال في الرد عليهم، وكان رده من الناحية الطبيعية العقلية، لا من الناحية الدينية.١٣٦ كما رد على الديصانية في قولهم: «إن أصل العالم إنما هو من ضياء وظلام، وأن الحر والبرد واللون والطعم والصوت والرائحة إنما هي نتائج لهما على قدر امتزاجهما». وقد أدى هذا البحث مع هؤلاء وهؤلاء وغيرهم إلى إثارة مسائل طبيعية كثيرة — فإن سأل سائل: ما الذي دعا المعتزلة إلى ولوج هذه المسائل؟ فالجواب الآن واضح، وهو أن كثيرًا من الفرق الأخرى كالدهرية والديصانية كانت تشرح نشوء العالم شرحًا طبيعيًا وترجعه إلى عناصر أساسية، وتأخذ في شرح الظواهر الطبيعية المترتبة على هذا الأصل، فتعرض المعتزلة للرد عليهم في أصولهم وفروعهم؛ فإذا هم أمام أبحاث طبيعية صرفة — مثال ذلك ما أثاره النظام من نظرية «الظهور والكمون»: فالنار في العود قبل أن يحترق، هل هي موجودة؟ وإن كانت موجودة فهل هي على سبيل المجاورة أو المداخلة؟ فكان النظام يرى أن في الحجر والعود نارًا كامنة، ومن أنكر ذلك لزمه أن يقول: إنه ليس في السمسم دهن ولا في الزيتون زيت ولا في الإنسان دم قبل أن يشرط، وكان ليس بين من أنكر أن يكون الصبر مر الجوهر، والعسل حلو الجوهر قبل أن يذاقا، وبين السمسم والزيتون قبل أن يعصرا فرق، ويلزمه أن يقول إن حلاوة العسل، وحموضة الخل، وسواد القار، وبياض الثلج، وحمرة العصفر، وصفرة الذهب، وخضرة البقل، إنما تحدث عند الذوق وعند الرؤية، فإذا وصلوا إلى ذلك دخلوا في باب الجهالات، وكانوا كالذين زعموا أن القربة ليس فيها ماء وإن ثقلت، وإنما يخلق الماء عند حل رباطها، وكذلك فليقولوا في الشمس والقمر والكواكب والجبال إذا غابت عن أبصارهم — وفرع النظام القول بالكمون، وبالغ في التوليد منه والتأكيد عليه، حتى زعم أن التوحيد لا يصح مع إنكار الكمون؛ لأن إنكاره إنكار للطبائع ودفع للحقائق. وقد أطال الجاحظ في شرح مذهب النظام في الكمون وزاد هو على نظريته، وداخل بين كلامه وكلامه مما لا يسعه المقام، فليرجع إليه من شاء وقد سقنا ما ذكرنا مثلًا لبحث المعتزلة في الطبيعيات.١٣٧
ويحث النَّظام في مسألة الجزء الذي لا يتجزأ أو الذرة، وهي قضية دار حولها الجدل طويلًا في الفلسفة اليونانية، وألّف النظام في ذلك كتابًا سماه «الجزء» وأقام البراهين على إنكاره، فكان رأيه أن «لا جزء إلا وله جزء، ولا بعض إلا وله بعض، ولا نصف إلا وله نصف، وأن الجزء جائز تجزئته أبدًا ولا غاية له في باب التجزؤ»؛١٣٨ فإن كان قوله من ناحية الإمكان العقلي فهذا صحيح، وإن كان من ناحية الإمكان الفعلي فمحل نظر — وقد شغلت هذه المسألة أفكار كثير من المعتزلة، وسنعود إليها بعد.
كما بحث «النظام» في الطَفْرة والحركة والسكون، وفسر الطفرة بأن الجسم الواحد قد يكون في مكان ثم يصير إلى المكان الثالث من غير أن يمر بالثاني «على سبيل الطفرة» ومثّل لذلك بالدوامة،١٣٩ يتحرك أعلاها أكثر من حركة أسفلها، ويقطع الحز أكثر مما يقطع أسفلها وقطبها — وكل ذلك في زمان واحد، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بالطفرة. وكان يرى أن الأجسام متحركة دائمًا، وغاية الأمر أن الحركة حركتان: حركة اعتماد، وحركة نقلة، فهي كلها متحركة في الحقيقة، وساكنة في اللغة، وليس الكون إلا حركة، مناقضًا في ذلك قول أستاذه العلاف في أن الأجسام قد تسكن حقيقة وتتحرك حقيقة، وأن الحركة والسكون غير الكون.١٤٠ وخالفهما معمر المعتزلي أيضًا؛ فكان يرى أن الأجسام ساكنة دائمًا، وإنما الحركة في اللغة فقط.

وكان «النظام» يرى أن الجوهر مؤلف من أعراض اجتمعت وأن العالم خلق دفعة واحدة على ما هو عليه من معادن ونبات وحيوان، وكل ما في الأمر أن المتأخر منه في الزمان كامن في المتقدم، فالتقدم والتأخر إنما يقعان في ظهورها من كمونها دون حدوثها ووجودها.

وبحث في أشياء كثيرة طبيعية يطول شرحها؛ كبحثه في الأعراض ورؤيتها، وفي الإنسان هل هو الروح فقط أو الروح والجسم، وفي الأصوات، وفي الخواطر، وفي النار والنور، وفي العلل، وفي التولد إلخ. وإنما الذي يهمنا الآن آراؤه الكلامية والدينية.

فقد رقَّى النظام أصول المعتزلة وزاد فيها ونظمها؛ فوسع القول في توحيد الله على النحو الذي رأيت قبل، وقال: إن الله لا يوصف بالقدرة على الشر، لأن القبح إذا كان صفة ذاتية للقبح ففي تجويز وقوع القبح منه قبح. وزاد في القول بحرية الإرادة عند الإنسان وسيطرته على أعماله، وقد شرحنا قبلُ أصول المعتزلة، وجزء كبير منها من تنظيم النظام.

ثم له آراء دينية أخرى، كقوله بأن إعجاز القرآن إنما سببه ما فيه من إخبار عن الغيوب؛ كالإخبار عن عالم الغيب؛ وكالإخبار عن أحداث مستقبلة مثل قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنىَ الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِيَن. وقوله: قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلىَ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا؛ وإخباره بما في نفوس قوم وبما سيقولونه إلخ؛ «أما التأليف والنظم والأسلوب فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أن الله صرفهم عن الإتيان بمثله».١٤١ وأنكر الإجماع وقال إنه غير ممكن والعلماء متفرقون في الأمصار على النحو الذي نشاهده، حتى إذا أمكن فقد يجوز أن تجمع الأمة كلها على الضلال من جهة الرأي والقياس كما نقله عنه الجاحظ،١٤٢ فكان لا يؤمن بالإجماع، وكان قليل الإيمان بالقياس، وقليل الإيمان بصحة رواية الحديث، ويكاد لا يؤمن بأصل إلا القرآن والعقل.

وعلى الجملة فكان شخصية غريبة حقًا، يشعر هو بقوة شخصيته، وقوة عقليته، فلا يريد أن يقف أمامها شيء؛ فهو يفسر القرآن حسب ما يؤديه إليه عقله، ويخضع ما يرويه المحدثون لحكم عقله؛ ويطلق عقله في نقد ما روي من أعمال الصحابة، وما روي من آرائهم، ولا يرضى عن الفقهاء في كثير من أقوالهم، حتى ولا يرضى عن المعتزلة في مجموعهم، ويهجم على أكبر الفلاسفة فلا يعترف لهم بسلطان؛ فيخطّي أرسطو ويخطئ الذرّيين، ويخطئ الطبيعيين؛ وهكذا كان عقله فوق عواطفه، ورأيه وفكره فوق دينه. يريد أن يخضع كل شيء للمنطق، وفاته أن الدنيا منطق وفن، والإنسان عقل وشعور، والحياة رأي وعاطفة.

وقد كان المعتزلة بعده عيالًا عليه؛ قال الجاحظ: «لولا مكان المتكلمين لهلكت العوام من جميع الأمم، ولولا مكان المعتزلة لهلكت العوام من جميع النِّحل؛ فإن لم أقل ولولا أصحاب إبراهيم وإبراهيم (يعني النظام) لهلكت العوام من المعتزلة، فإني أقول إنه قد أنهج لهم سبلًا، وفتق لهم أمورًا، واختصر أبوابًا ظهرت فيها المنفعة، وشملتهم بها النعمة».١٤٣

الجاحظ

تكلمنا فيما سبق عن الجاحظ الأديب، ونريد أن نتكلم هنا كلمة في الجاحظ المعتزلي.

ولعلنا بعد أن ألقينا بعض الضوء على «النَّظام» وحياته ومنهجه في البحث، نستطيع أن نقول إن الجاحظ لم يكن أمة وحده، وإنه لم يكن بدعًا، ولم تتكون عقليته من عدم، إنما كان وليد النظام ونتاجًا له، وصورة من صوره في البلاغة وفي منهج البحث، وفي سعة الاطلاع، وفي تحرير العقل، وفي الشك والتجربة قبل الإيمان واليقين، وربما لم يكن يساوي النظام في حدة الذهن ولا في الجرأة، ولكن ربما فاقه في اطلاعه على كتب الثقافة اليونانية وغيرها أكثر مما اطلع النظام بحكم تقدم الزمان، وازدياد حركة الترجمة والتأليف؛ هذا إلى أن النظام مات شابًا في مقتبل حياته، أما الجاحظ فقد عمر طويلا، ولم يمت إلا بعد أن نيف على التسعين، واتصل بالأمراء والخلفاء والعامة، ورزق الحظوة عندهم، ورزقت كتبه الحظوة بما منح من أسلوب فضفاض جذاب طويل متعرج غير ممل.

وكان في حياته لسان المعتزلة المدافع عنها، المناصر لها، الموضح لمشاكلها، الذائد عن حياضها، ولكن — مع الأسف — أدى التعصب البغيض إلى أن يحتفظ الناس بكتبه الأدبية لا الدينية، فكتبه في الاعتزال لم تصل إلينا ولم يسلم من يد المتزمتين ضيقي النظر؛ فقد بقي لنا «البيان والتبيين» و«الحيوان» و«البخلاء» ونحوها من كتب الأدب، ولكن لم يبق لنا مثلًا كتابه «الاعتزال وفضله على الفضيلة»، ولا كتابه في «الاستطاعة وخلق الأفعال» و«خلق القرآن» وكتاب «فضيلة المعتزلة» إلى غير ذلك من كتبه الدينية. فالمترجم له من ناحية الاعتزال يحار فيه كما يحار في غيره من المعتزلة، ويحاول أن يجمع نتفا متفرقة هنا وهناك ليتعرف منها مذهبه في الاعتزال، مع أنه المؤلف المكثر والكاتب القدير.

لعل الجاحظ كان أكثر أهل زمانه اطلاعًا على أنواع المعارف المعروفة في زمنه، فهو في الأدب مطلع أتم الاطلاع على الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي وشعر المحدثين، ومطلع على أخبار العرب وخطبهم وفصيح قولهم، وفي العلوم الدينية عالم واسع العلم في القرآن والحديث والمذاهب الكلامية، وفي الثقافة اليونانية خبير بها مطلع على دقائقها، وأكبر ما يدل على ذلك كتابه «الحيوان»، فهو عالم بالطبيعيات والإلهيات اليونانية،١٤٤ يعرف ما كتب أرسطو في الحيوان ويكثر النقل عنه، ويسميه «صاحب المنطق» أحيانًا ويسميه باسمه أحيانًا، وهو عالم بما قاله اليونان في النفس والأخلاق،١٤٥ وينقل عن حنين وبختيشوع١٤٦ وينقل عن سلمويه.١٤٧

وعلى الجملة فقد جمع الجاحظ في عقله كل ثقافة عصره، وقلّ أن يكون له في ذلك نظير، فقد كان العلماء يبرزون في ناحية من النواحي، فاللغوي لا يعرف الفلسفة، والفيلسوف لا يعرف الأدب، ولكن هذه الإحاطة قل أن نجدها عند غير النظام أولًا، والجاحظ من بعده، وقد فاق الجاحظ في ذلك أستاذه. ومن أجل هذا كان للجاحظ فضل على الأدب والفلسفة جميعًا، ففي الأدب كان فضله أنه أغزر معانيه، وجعل له موضوعًا بعد أن كاد يكون شكلًا بحتًا؛ فتقرأ رسائله فتجدها ناصعة الأسلوب، غزيرة المعنى، لها موضوع ولها شكل، هذه رسالة في القيان، وهذه رسالة في المعلمين، وهذه رسالة في الغناء، حتى رسالته في الهجاء، وهي رسالة «التربيع والتدوير»، استطاع أن يجعل لها موضوعًا علميًا، بل لعلها أحسن رسائله لمن شاء أن يعرف أي المسائل العلمية والعقلية والأدبية والفلسفية كان يشغل الناس في عصر الجاحظ. وفضله على الفلسفة أنه صاغها صياغة أدبية قريبة إلى الأذهان، لا كما كان يفعل حنين وبختيشوع الأعجميان؛ فهو يمزج كلام أرسطو بأشعار الجاهليين، وقول الفلاسفة بأقوال الأدباء، ويخرج من ذلك كله إلى نتيجة تلذ القارئ وتغذي العقل.

وهو مع ذلك كله استفاد فائدة كبرى من أستاذه «النظام» ومن المعتزلة عامة في القول بسلطان العقل؛ فليس عبدًا للأدب يرويه فقط، بل يرويه وينقده، وليس عبدًا لأرسطو وفلاسفة اليونان كما يفعل حنين وبختيشوع وسلمويه، وليس عبدًا للحديث كما يفعل المحدثون، بل ينقده ولا يسلم بصحته شيء منه إلا ما استساغه العقل.

فهو يهزأ بروايات العرب عن السعالي وأولاد السعالي من الناس، ويهزأ بما روي من الشعر في رؤية الجن وأحاديث الجن، وينقد العلماء مثل أبي زيد الأنصاري في أنه يروي هذه الأخبار ولا ينقدها، ويرى أن أبا زيد أمين ثقة ولكن ينقصه النقد لأمثال هذه الأخبار،١٤٨ ويهزأ بالخرافات الشائعة في عصره.١٤٩
وينقل عن أرسطو كثيرًا من آرائه في الحيوان ثم ينقد بعضها، فيقول مثلًا: «وهذا غريب»، ويقول حينًا: «ولم أفهم هذا، ولم كان ذلك؟» إلخ١٥٠ بل يهزأ به أحيانًا فيقول: «وقد زعم صاحب المنطق أنه قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابيًا عن ذلك فزعم أن ذلك حق، فقلت له: فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال: فأما السعي فلا تسعى، ولكنها تسعى إلى حاجتها بالتقلب كما يتقلب الصبيان على الرمل؛ وأما الأكل فإنها تتعشى بفم وتتغدى بفم، وأما العض فإنها تعض برأسيها معًا — فإذا به أكذب البرية».١٥١ ثم هو يجرب بنفسه في الحيوان والنبات، ويفضل التجربة على كل نقل، فيصف معركة رآها بين جرذ وسنَّور.١٥٢ ووصف برْنيَّة زجاج فيها عشرون عقربًا وعشرون فارًا، ووصف ما فعلت العقارب بالفئران.١٥٣ ويقول إن الناس يقولون إن الأفاعي تكره ريح السَّذاب والشيخ، أما أنا فإني ألقيت على رأسها وأنفها من السذاب ما غمرها فلم أجد على ما قالوا دليلا.١٥٤
وهو يسأل الجزارين ويصحح منهم أخبارًا كاذبة شاعت عند الناس،١٥٥ ويسأل الحوائين فيما يتعلق بالحيات.١٥٦
ثم له الملاحظات الدقيقة والتوجيهات اللطيفة حتى في أدق الأمور، كأن يتساءل: لم يناغي الطفل المصباح؟ فيقول: «إن الطفل لا يناغي شيئًا كما يناغي المصباح، وتلك المناغاة نافعة له في تحريك النفس وتهييج الهمة، والبعث على الخواطر في فتق اللهاة وتشديد اللسان، والسرور الذي له في النفس أكرم الأثر».١٥٧
ويبحث في الألوان هل أصلها السواد أو البياض وتختلف الألوان بقدر المزاج أو لا، والعلاقة بين البياض والضياء، ويبحث في السبب الذي من أجله تختلف ألوان النيران وألوان السحاب.١٥٨ ويبحث في لغة الحيوان ونشوئها وترقيها من القط والكلب إلى القرد وعدد الحروف التي تنطق بها،١٥٩ إلى كثير من أمثال هذه المباحث الطريفة. ثم هو ينقد الآراء الشائعة بعقله العلمي، فلا يؤمن بأقوال الناس أن في حمص طِلسمًا يمنع العقارب من أن تعيش فيها، ويعلل ذلك باحتمال وجود حيوان مضاد للعقرب يمنعها من أن تعيش في هذا البلد. ويهزأ بوجود طلسم يمنع البعوضة إذا عضت أن تكون لها حرقة، فيكذِّب ذلك بأن بعوضة عضت ظهر قدمه بعيد المغرب فلم يزل منها في أُكال وحرقة إلى أن سمع أذان العشاء.١٦٠ ويبحث في العين وتأثيرها بحثًا علميًا.١٦١ ويبحث فيما شاع عند الناس من المسخ وما ورد في ذلك من الآثار، ويعرض لأقوال الطبيعيين والعلماء في ذلك مع الحجج العقلية.١٦٢

فلو قلنا إن الجاحظ كان أوسع أهل زمانه معرفة لم نبعد. ولو بقيت لنا كتبه كلها، وجمعنا ما فيها، ورتبناه ترتيبًا أبجديًا لخرج لنا منها «دائرة معارف» شاملة وافية دالة على معارف عصر الجاحظ.

ولنعد بعد ذلك إلى ناحية الجاحظ الاعتزالية.

قال المرتضى في المنية والأمل: «إن الجاحظ أُغْرىَ بشيئين: كون المعارف ضرورية، والكلام على الرافضة».١٦٣ فأما أن المعارف ضرورية، فهي عبارة غامضة، ما الذي يقصد بها الجاحظ؟ لعله مما يلقي ضوءًا على هذه العبارة النصوص الآتية:
قال الأشعري: قال الجاحظ: «ما بعد الإرادة فهو للإنسان بطبعه، وليس باختيار له، وليس يقع منه فعل باختيار سوى الإرادة».١٦٤
وقال الشهرستاني: قال الجاحظ: «إن المعارف كلها ضرورية طباع، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد، وليس للعباد كسب سوى الإرادة، ويحصِّل أفعاله طباعًا».١٦٥

وهذه المسألة جرى فيها الخلاف بين علماء الكلام في عصر الجاحظ وبعده: هل المعارف ضرورية أو نظرية؟ ويعنون بالضرورية أنها تحصل بلا اكتساب وبلا نظر، وبأنها نظرية أنها تحصل بالاكتساب والنظر؛ فكان الفخر الرازي يرى كالجاحظ أنها ضرورية، وكان إمام الحرمين والغزالي يريان أنها نظرية؛ ويرى غيرهم أن بعضها ضروري وبعضها نظري، وفي ضوء هذا يمكننا تفسير رأي الجاحظ.

وقد جر المعتزلة إلى البحث في هذا الموضوع مسألتان هما:

  • (١)

    هل الإنسان يخلق أفعال نفسه أو يخلقها الله فيه؟

  • (٢)
    والأفعال المتولدة من فعل؛ هل تنسب إلى الفاعل أو لا تنسب؛ فإذا رمى حجرًا في الماء فتولدت منه دائرة ودائرة ودائرة، هل تنسب إليه؟ وإذا أشعل عودًا فأحرق البيت، وتولد عن الإحراق موت أشخاص، وتولد من الموت أحداث، هل تنسب إلى من أشعل العود؟ وقد تقدم بحث هاتين المسألتين؛ فكان «ثُمامَةُ بن الأشْرَس» من أعلام المعتزلة يرى أن الأفعال المتولدة لا فاعل لها؛ فقد يفعل شخص فعلا، ويتولد بعد موته عنه أفعال، فلا يمكن نسبتها إلى الميت، وإذا كانت قبيحة فلا يمكن نسبتها إلى الله، لأنه لا يفعل القبيح، فهي أفعال لا فاعل لها، فيجب أن نقول ذلك في كل المتولدات.١٦٦

ويظهر أن الجاحظ كان يرى هذا الرأي فأداه إلى القول بأن المعارف ليست من فعل الإنسان، لأنها متولدة إما من اتجاه الحواس أو من اتجاه النظر. ولذلك قال إن الإنسان في تحصيل معارفه ليس له إلا توجيه الإرادة، وما يحدث بعد ذلك فاضطرار وطبيعة؛ فإذا أنت فتحت عينك فأدركت أن هذا الشيء أحمر، وهذا أصفر، وأن هذا أكبر من ذاك، ففتحك لعينك عمل إرادي اختياري كسبي، وأما المعارف التي تحصل منه، أو بعبارة أخرى تتولد منه، فاضطرارية؛ وكذلك الشأن في توجيه الفكر إلى البحث واستعراض البرهان، فتوجيه النظر عمل إرادي، ولكن اقتناع الناظر أو عدم اقتناعه وتحصيل العلم به عمل ضروري أو اضطراري لا كسبي.

ومعارف الإنسان معارف بطبعه؛ فهو يلتقم الثدي بطبعه، ويألم ويطرب بطبعه، فإذا نما عقله طبيعيًا نمت معارفه طبيعية، فبدأ يدرك أن الكل أكبر من الجزء، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين، وهو بطبعه يتطلب الفكر والنظر، وهو بطبعه يقبل ما صح لديه من برهان ويرفض ما لم يصح عنده.

ولعل توسع الجاحظ في هذا الباب أداه إلى تضييق دائرة الكافرين الذين يعاقبون على كفرهم؛ فمن لم تبلغه الدعوة فليس بآثم، ومن بلغته ولم يؤده النظر إلى الإيمان بها فليس بآثم؛ إنما يأثم من قام لديه البرهان على صحة الدعوة وعاند. وهذا ما حكاه الغزالي عنه في ذلك: «ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية إن كان معاندًا على خلاف اعتقاده فهو آثم، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضًا معذور؛ وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وقد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم خوفًا من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة».١٦٧ فهو بهذا يرى أن الأوربيين مثلًا وغير الأوربيين والعالم كله ناجون إلا فئة قليلة وصل بها بحثها إلى أن الإسلام حق، ثم عاندت في قبول الإسلام حرصًا على جاه أو رياسة دينية أو نحو ذلك من الأسباب. وقد رد عليه الغزالي بأن هذا الرأي ليس بمحال عقلًا، ولو ورد به الشرع لكان جائزًا، ولكن الشرع أتى بعقاب قوم لم ينظروا، وكان في مكنتهم أن ينظروا؛ بل إنا نرى الغزالي مضطربًا في هذا الموضوع، فأحيانًا يتشدد ويرد على الجاحظ في رأيه هذا كما في كتابه المستصفي، وأحيانًا يذهب مذهبًا قريبًا من مذهب الجاحظ كما في كتابه «فيصل التفرقة».

ووجه ما ذهبنا إليه من ربطنا قول الجاحظ في هذه المسألة بقوله إن المعارف ضرورية، أنه لما رأى أن المعارف ضرورية استتبع ذلك أن آراء الإنسان وعقائده ليست مكتسبة، بل هي مفروضة عليه فرضًا، وأنها نتيجة حتمية لكيفية تكوين عقله وما يعرض من الآراء، وأنها تفاعل طبيعي بين هذين العاملين، فمن عرض عليه دين فلم يستحسنه عقله فهو مضطر إلى عدم الاستحسان، وليس في الإمكان أن يستحسن؛ فمن أسلم عن نظر فإسلامه ضروري غير مكتسب، ومن كفر فكفره ضروري غير مكتسب؛ وليس للإنسان من الأعمال المكتسبة إلا توجيه الإرادة، فإذا وجهها فما بعد ذلك من كفر وإيمان لا دخل له فيه. وحينئذ لا يكون مسئولًا عن اعتقاده، إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها؛ فمن أصيب بعمى اللون فرأى الأحمر أسود فلا لوم عليه في ذلك، إذ ليس في استطاعته إلا أن يفتح عينه أو يقفلها، أما أن يرى هذا أسود أو أحمر فلا دخل له فيه، وكذلك الشأن في المعقولات.

هذا ما استطعت أن أفهمه من قول الجاحظ: «إن المعارف ضرورية»، ومن قول المرتضى، إنه أغرى بذلك. ولست أرى في هذا الرأي تناقضًا بينه وبين مبدأ المعتزلة العام، وهو أن الإنسان يخلق أفعال نفسه، لأنه إذا قال بسيطرة الإنسان على إرادته لم يخالف المبدأ العام، وإن قال إن ما تولد بعد ذلك طبع وضرورة.

بل يظهر أن الجاحظ توسع في نظرية «الطباع» هذه إلى أقصى حد، ونظر إليها نظرة واسعة تشمل العالم حتى الأخرى. ومن الأسف أنه لم ينقل إلينا من ذلك إلا رموز لا تكفي كفاية تامة لشرح النظرية؛ فالشهرستاني يقول: إن الجاحظ «كان يقول بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من الفلاسفة وأثبت لها أفعالًا مخصوصة بها؛ وقال باستحالة عدم الجواهر، فالأعراض تتبدل والجوهر لا يجوز أن يفنى. وقال في أهل النار إنهم لا يخلدون فيها عذابًا، بل يصيرون إلى طبيعة النار. وكان يقول: النار (أي نار الآخرة) تجذب أهلها إلى نفسها دون أن يدخل أحد فيها».١٦٨

وهي عبارة — على إيجازها — تدل على معان عديدة، فهو يقرر فيها القوانين الطبيعية للأشياء؛ فللماء وللنار ولأشياء هذا العالم كلها قوانين طبيعية لا تتخلف، وهو يقرر المبدأ الهام الحديث وهو أن المادة لا تنعدم، فهو يقول: «الجوهر لا يجوز أن يفنى» وإنما تتغير الأعراض؛ فجوهر المادة ثابت لا ينعدم وإنما يتحول ويتغير فيكون مرة ماء، ومرة زرعًا، ومرة معدنًا، ومرة خشبًا، وهذه كلها أعراض طارئة على المادة، وإن شئت فقل: إنها طارئة على العناصر الأولية التي تتكون منها المواد.

بل يذهب في ذلك إلى رأي غريب حتى في الآخرة؛ يرى أن طبيعة أهل النار وفاق للنار، وعلى هذا النمط طبيعة أهل الجنة وفاق للجنة؛ فأهل النار بطبيعتهم يعلنون النار عن أنفسهم، فهي تجذبهم إليها بطبيعتها وطبيعتهم.

وأما المسألة الثانية التي ذكرها المرتضى، وذكر أن الجاحظ أغرم بها، وهي الكلام على الرافضة؛ فقد بقي لنا مما كتبه الجاحظ فيها نتف قصيرة من رسالته في «استحقاق الإمامة» — والرافضة فرقة من الشيعة سميت بذلك لأنه لما خرج زيد بن عليّ بن الحسين سئل عن رأيه في أبي بكر وعمر فأحسن القول فيهما وترحم عليهما، فرفضه قوم من الشيعة من أجل توليه لهما فسموا رافضة، وانقسم الشيعة إذ ذاك إلى فريقين: رافضة وزيدية، وكلاهما يفضل عليا على أبي بكر وعمر، ولكن الزيدية أقل طعنًا عليهما وأعدل حكمًا فيهما كما سيأتي.

وقد وقف الجاحظ في هذه الرسالة موقف المدافع عن أبي بكر وعمر، واستحقاقهما الإمامة بعد أن ذكر — في أقوى بيان — الحجج التي لجأ إليها الزيدية والرافضة في تفضيل عليّ عليهما، ثم أخذ يرد عليهما حجة حجة. وخلاصة رأيه، كما تدل عليه هذه الشذور المتفرقة والمقتطفات المنتثرة: أن رسول الله لم ينص على خليفة، ولم يعين من يتولى بعده، بدليل حديث السقيفة، وأن القرابة لا تصح أن تكون سبب التفضيل، وأن أبا بكر وعمر أولى من عليّ. وتعرض في ثنايا ذلك إلى البحث في هل يصح أن يكون للمسلمين أكثر من إمام واحد في زمن واحد، فرأى أن هذا لا يصح لما يترتب عليه من المفاسد والمنازعات والخصومات مما يسبب العجز عن درء المفاسد، وتحصيل المصالح على الوجه الأكمل. وأشار في كلامه في هذه الرسالة إلى أن له كتابًا خاصًا في الرد على الرافضة.١٦٩
ولعله مما يكمل رأيه في استحقاق الإمامة رأيه في بني أمية الذي ذكره في رسالته المعنونة بذلك،١٧٠ فهو يمدح عصر أبي بكر وعمر، وست السنين الأولى من عصر عثمان، فقد كانت أيام ألفة واجتماع كلمة؛ ثم تتابعت الأحداث، وتلاحقت الفتن إلى أن قتل عليّ، فأسعده الله بالشهادة، وأوجب لقاتله النار واللعنة؛ ثم ذكر معاوية وأنه حول فيه الإمامة ملكًا كسرويًا، والخلافة غصبًا قيصريًا، وعدد ما ارتكب من أخطاء، وأكفره من أجل أعماله، ونعى على من ترك إكفاره من أهل عصر معاوية، ومن أهل عصر الجاحظ، فقال: «على أن كثيرًا من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره، وقد أربت عليهم نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا، فقالوا لا تسبوه فإن له صحبة، وسب معاوية بدعة، ومن يبغضه فقد خالف السنة، فزعمت أن من السنة ترك البراءة مما جحد السنة». واستمر يعدد فظائع يزيد، من قتل الحسين، ورمي الكعبة، وإباحة المدينة، حتى أتى إلى عبد الملك بن مروان فنعى عليه أنه خنق البقية الباقية من الحرية في نقد الخلفاء والولاة، فقال: «وقد كان بعض الصالحين ربما وعظ الجبابرة، وخوفهم العواقب، وأراهم أن في الناس بقية ينهون عن الفساد في الأرض، حتى قام عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف، فزجرا عن ذلك وعاقبا عليه وقتلا فيه، فصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه».

ونقد النابتة من أهل عصره الذين يزعمون «أن سب ولاة السوء فتنة ولعن الجورة بدعة» وعجب من أنهم مجمعون على لعن من قتل مؤمنًا متعمدًا أو متأولًا؛ ثم إذا كان القاتل سلطانًا جائرًا، أو أميرًا عاصيًا لم يستحلُّوا سبه ولا خلعه ولا نفيه ولا عيبه، وإن أخاف الصلحاء، وقتل الفقهاء، وأجاع الفقير، وظلم الضعيف؛ وإنما يتسكعون مرة، ويداهنونهم مرة، ويقاربونهم مرة، ويشاركونهم مرة، إلا بقية ممن عصمه الله.

ومما خلفه الجاحظ في المسائل الدينية بعض نتف من رسالة كتبها يصف فيها أنواع الشراب في عصره، ويحتج فيها لتحليل النبيذ وتحريم الخمر؛ ويظهر من رسالته أنه مع تقريره حل النبيذ لم يكن يشربه.١٧١ وقد وضع الجاحظ على لسان سائله مزايا النبيذ، واستعمل في ذلك أسلوبه الأدبي، فبالغ في دقة وصفه وأثره في الجسم والنفس بأكثر مما فعل أبو نواس، ورد ردًا شديدًا جريئًا على فقهاء المدينة لتحريمهم النبيذ، منتصرًا لرأي العراقيين فيقول: «لعل قائلا يقول: أهل مدينة الرسول ودار هجرته أبصر بالحلال والحرام والمسكر والخمر وما أباحه الرسول وما حظره … وكلهم مجمع على تحريم الأنبذة المنكرة وأنها كالخمر … وإنا نقول في ذلك إن عظم حق البلدة لا يحل شيئًا ولا يحرمه، وإنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق والسنة المجمع عليها والعقول الصحيحة والمقاييس المعينة». وعاب على أهل المدينة أنهم جلدوا حتى من يحمل الزق الفارغ، «لأنهم زعموا أنه آلة الخمر، وكان يجب على هذا المثال أن يحكم بمثل ذلك على حامل السيف والسكين والسم القاتل، لأن هذه كلها آلات القتل». وختم ذلك بأن أهل المدينة لم يخرجوا من طبائع الإنس إلى طبائع الملائكة، وليس كل ما يقولونه حقًا وصوابًا.

وقد أفادتنا هذه الرسالة أيضًا أن الجاحظ لا يرى العمل بالحديث إلا ما كان مجمعًا عليه، كما يدل عليه نصه المتقدم؛ فإذا اختلف الناس في الحديث كأن يصححه قوم ويضعفه آخرون، أو كأن يروي حديث آخر ينقصه فالحكم للعقل؛ ولذلك ترك الأحاديث الواردة في النبيذ، لأن بعضها يفيد الحل، وبعضها يفيد الحرمة، ورجع إلى عقله يحكمه. كما أبان بصراحة أن العقل الصحيح أساس من أسس التشريع، ووضعه في شكل غير الشكل الذي يوضع عادة، وهو القياس المقيد في كتب الفقهاء.

وهاجم في هذه الرسالة رجال الحديث، ورماهم بالقصور في البحث والتنقيب والميل عن التنقير، والانحراف عن الإنصاف، وهذا دأب المعتزلة والمحدثين دائمًا، متنافرين متباغضين متخاصمين خصومة عنيفة، للاختلاف بينهم في العقلية ومنهج البحث، وبلغ ذلك أشده في فتنة خلق القرآن كما سيأتي.

والجاحظ ينقدهم لأنهم جماعون، لا يعملون عقولهم فيما يروون، يقول: «ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهاناتها خفَّت المئونة، ولكن أكثر الروايات مجردة، وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دون حكاية العلة، ودون الإخبار عن البرهان».١٧٢ وينقدهم هم والمفسرين لأنهم يميلون إلى الغريب من الألفاظ، والغريب من الأخبار والروايات من غير تمحيص؛ ولذلك تراه فيما يعرض له من الحديث ومن التفسير في كتاب «الحيوان» يحكِّم العقل في الروايات، ويقف لتفهم العلل، ويفسر تفسيره حسب المعقول وطبائع الأشياء.
ثم كان زعيم المعتزلة في زمنه في الدفاع عن مبادئها، والمتوسع في مسائلها، والمقرر لها، ويقف في وجه من يتعرض لها، يدافع عن نظرية الحسن والقبح، والتعديل والتحوير؛ ويدافع عن نظرية خلق القرآن فيقول: «ثم زعم أكثرهم أن كلام الله حسن … وأن الإنجيل غير القرآن، والبقرة غير آل عمران، وأن الله تولى تأليفه، وجعله برهانه على صدق رسوله، وأنه لو شاء أن يزيد فيه زاد، ولو شاء أن ينقص منه نقص … ولو شاء أن ينسخه كله بغيره نسخه، وأنه أنزله تنزيلا، وأنه فصله تفصيلًا وأنه بالله كان دون غيره، ولا يقدر عليه إلا هو، غير أن الله مع ذلك كله لم يخلقه! فأعطوا جميع صفات الخلق، ومنعوا اسم الخلق … والعجب أن الذي منعه — بزعمه — أن يزعم أنه مخلوق، أنه لم يسمع ذلك من سلفه، وهو يعلم أنه لم يسمع أيضًا من سلفه أنه ليس بمخلوق»١٧٣ إلخ.

وعلى الجملة فقد كان الجاحظ من الرجال القليلين الذين لهم أثر واسع في الأدب وفي الكلام وفي الدين، ورزق الحظوة في أسلوبه، فكان أسلوبًا سهلًا، عذبًا، واسعًا، فكهًا، يتتبع المعنى ويقلبه على وجوهه المختلفة، ولا يزال يولده حتى لا يترك فيه قولًا لقائل؛ فلما استعمل أسلوبه هذا في الاعتزال وفي المسائل الدينية قرَّبها إلى الأذهان، وكانت قبله مركَّزة غامضة لا يدركها إلا الخاصة، فجلا بأسلوبه غامضها، وأوسع ضيقها وقربها إلى كل ذهن يفهم، فاتسعت دائرة المعارف، ووصلت به إلى أذهان لم تكن تسيغ أقوال الفلاسفة والمتكلمين، وأقنع عقول قوم لم يكن يقنعهم القول الموجز، والتعبير المجمل؛ فأي إنسان من قرَّاء العربية بعده لم يكن مدينًا له؟

(٣-٢) فرع بغداد

figure

بشر بن المعْتَمر

هو أبو سهل الهلال مؤسس فرع الاعتزال في بغداد، وقد اتصل بالفضل ابن يحيي البرمكي، وكان مقرّبًا إليه، وأزهر في أيام هارون الرشيد، وهو شخصية قوية، وله ناحيتان بارزتان: ناحيته الأدبية، وناحيته الاعتزالية.

ففي الأدب: يظهر لي أنه أول مؤسس لعلم البلاغة العربية، وذلك بالصحيفة القيمة التي نقلها الجاحظ عنه في البيان والتبيين؛١٧٤ فقد تعرض فيها لأمور أساسية في البلاغة لم أرها لأحد من قبله، فقد نصح فيها للكاتب:
  • (١)

    بأن يتخير أوقات الكتابة فليس كل وقت صالحًا لها، فليعمد إلى أوقات الفراغ، وخلو البال، ومواتاة الطبع، فإن ذلك أحرى أن يخرج الكلام عنده سهلًا سائغًا لا متكلفًا ولا معقدًا.

  • (٢)

    ورسم المثل الأعلى للكلام البليغ، وهو أن يكون اللفظ رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، والمعنى ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا.

  • (٣)

    وأبان أساس البلاغة، وهو أن يكون الكلام مطابقا لمقتضى الحال «فليس يشرف المعنى بأن يكون من معاني الخاصة، وليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، إنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال»، فإذا أمكن الأديب أن يفهم العامة معاني الخاصة ويكسوها الألفاظ التي تقربها إليهم «فهو البليغ التام».

  • (٤)

    وعرض للألفاظ وأماكنها في الكلام، وأنه يجب أن تقع موقعها، وتحل في مراكزها ونصابها، وتتصل بشكلها، ولا تكون نافرة من موضعها، ولا مكرهة على النزول في غير أوطانها.

فمن لم يجد نفسه أهلا لذلك، وتعصّى فكره، فإن كان لعارض عرض، فليترك الكتابة إلى أن تواتيه طبيعته، أما إن تخلف ذهنه وذوقه لا لعلة عارضة، ولكن لعدم استعداد وجمود قريحة، فخير أن يترك الأدب والبلاغة، ويتحول إلى صناعة أخرى هو لها أكثر استعدادًا وأشد مشاكلة.

وهذه كما ترى أسس البلاغة. وقد كتبها قبل أن يؤلف الجاحظ كتابه البيان والتبيين، لأن الجاحظ نقلها عنه، ولأن بشرًا نضج قبل نضج الجاحظ، ومات قبله بنحو خمس وأربعين سنة — فإن بشرًا مات نحو سنة ٢١٠ ومات الجاحظ سنة ٢٥٥، ولا نعلم قبل بشر من تعرض لوضع هذه الأسس في اللغة العربية، فلو أسميناه «مؤسس علم البلاغة» لم نبعد.

ثم كانت له قدرة فائقة في نوعي المخمس والمزدوج من الشعر. قال الجاحظ: «لم أرَ أحدًا أقوى على المخمس والمزدوج مما قوي عليه بشر، وقد كان في ذلك أقدر من أبّان اللاحقي».

وقد نبغ في نوع من الشعر يذكر فيه حكمة الله في خلقه وعلى الأخص الحيوان، وقد ذكر له الجاحظ في الحيوان قصيدتين طويلتين في هذا الباب وقال: «أول ما نبدأ قبل ذكر الحشرات وأصناف الحيوان والوحش بشعري بشر بن المعتمر، فإن له في هذا الباب قصيدتين قد جمع فيهما كثيرًا من هذه الغرائب والفوائد، ونبه بهذا على وجوه كثيرة من الحكمة العجيبة والموعظة البليغة». ثم ذكر القصيدتين وأخذ في شرحهما؛١٧٥ ونحن نسوق مثلًا من شعره في ذلك، قال في أول إحدى القصيدتين:
الناسُ دَأبا في طِلاب الغنى
وكلهم من شأنه الخَتْرُ
كأذؤب تنهشها أذؤب
لها عواء ولها زَفْرُ١٧٦
تراهم فَوْضَى وأيِدي سبا
كلُّ له في نَفْثِهِ سِحْرُ
تبارك الله وسبحانه
من بيديه النَّفْعُ وَالضَّرُّ
مَنْ خُلْقُهُ في رِزْقِه كلُّهُمْ
الذِّيخُ والتَّيْتلُ والغُفْرُ١٧٧
وساكِنُ الجوِّ إذا ما عَلاَ
فيه وَمَنْ مَسْكَنُهُ القَفْرُ
والصَّدَعُ الأَعْصَمُ في شَاهِقٍ
وَجأْبةُ مَسْكَنُهَا َ الوَعْرُ١٧٨
والحيّة الصَّماء في جُحْرِها
والتّنْفُلُ الرائغ والذرُّ١٧٩
وَهِقْلةُ تَرْتَاعُ مِنْ ظِلِّها
لها عِرارٌ ولها زَمرُ١٨٠
تَلْتَهمُ المَرْوَ عَلَى شَهْوةٍ
وحبُّ شيء عندها الجَمْرُ١٨١
وَظَبْية تخَضِمُ في حَنْظَلٍ
وعقرب يعجبها التمر
وَإلْقَةُ تُرْغثُ رَباَّحَهَا
والسَّهْلُ والنَّوْفَلُ والنَّضْرُ١٨٢

ولعل قصيدتي بشر بن المعتمر في عجائب صنع الله في الحيوان هما اللتان أوحتا للجاحظ تأليف كتابه «الحيوان».

وله شعر مزاوج، مثل قوله في تفضيل عليّ على الخوارج:

ما كان من أسلافهم أبو الحسنْ
ولا ابن عباس ولا أهل السُّنن
غر مصابيح الدجى مناجبُ
أولئك الأعلامُ لا الأعاربُ
كمثل حُرْ قُوصِ ومَنْ حُرْ قوص
بَقعة قاع حولها قصيص١٨٣
لَيسَ مِنَ الحَنْظَلِ يُشْتَارُ العَسَلْ
وَلاَ مِنَ البُخُور يُصْطادُ الوَرَل
هَيْهَاتَ مَا سَافِلةُ كَعَاليِه
مَا مَعْدِن الحِكْمةِ أَهْل البَادِية

فشعره أكثره شعر تعليمي تتعلق بالديانات والمذاهب، والعظة بالنظر في مخلوقات الله، وهكذا. وقد ذكر المرتضى أن له قصيدة أربعين ألف بيت رد فيها على جميع المخالفين.

•••

وأما مذهبه في الاعتزال فلم يبق من أقواله إلا نتف قليلة، ويظهر أن أهم ما يحثه مسألة «المسئولية» أو التَّبعة، فكثير من كلامه يدور في الحقيقة حولها، فقد ذكروا أنه «هو الذي أحدث القول بالتوّلد وأفرط فيه».١٨٤ وقد سبقت الإشارة إلى معنى التولد. والظاهر أن بحثه في التولد كان الغرض منه تحديد المسئولية، فالعمل يصدر من الإنسان قد تتولد منه أعمال أخرى كالحجر يرمي فيكسر زجاجة، وتتطاير من الزجاجة شظية تصيب إنسانًا وهكذا، فإلى أي حد يسأل الإنسان عما يتولد من أعماله. ولم ينقلوا إلينا — مع الأسف — تفصيلًا شافيًا لرأي «بشر» في هذا.

ومما يدور حول المسئولية أيضًا بحثه في أعمال الطفل، هل هو مسئول عنها وهل يعاقبه الله عليها؟ فرأى «بشر» أنه ليس بمسئول وأن الله تعالى قادر على أن يعذبه، ولكنه لو فعل ذلك لكان ظالما إياه، ولكنه رأى أن هذا تعبير غير مستحسن في جانب الله؛ فيحسن أن يعبر عن هذا المعنى تعبيرًا ألطف.

ومما يتصل بالمسئولية أيضًا قوله: إن من تاب عن كبيرة ثم عاد إليها استحق العقوبة على الجريمة الأولى التي تاب عنها، فإن توبته إنما تمحو المسئولية بشرط ألا يعود.

•••

وقد تتلمذ له كثيرو كان من أظهرهم شخصية وأبعدهم أثرًا في نشر الاعتزال في بغداد ثلاثة:

  • (١)

    أبو موسى المُردار.

  • (٢)

    وثُمَامَةُ بن الأشْرَس.

  • (٣)

    وأحمد ابن أبي داود.

أبي موسى المْردار

فأما أبو موسى فاسمه عيسى بن صبيح، وإليه يرجع الفضل في انتشار الاعتزال ببغداد، بشخصيته الزاهدة الورعة الناسكة، وبقوة لسانه وفصاحته، وقدرته على الوعظ وحسن القصص. حضر مجلسه يومًا أبو الهذيل العلاف، فسمع قصصه بالعدل وحسن ثنائه على الله، ووصفه له بالإحسان إلى خلقه، والتفضل على عبيده، وإساءتهم إلى أنفسهم، وتقصيرهم فيما يجب لله عليهم، فبكى وقال: «هكذا شهدت مجالس أشياخنا الماضيين من أصحاب أبي حذيفة وأبي عثمان رضوان الله عليهم»؛١٨٥ ومن أجل هذا سمي «راهب المعتزلة». ولما حضرته الوفاة أوصى ألا يورث ورثتُه من تركته، وأن يفَّرق ما خلَّف على المساكين، فقيل له: فلم ذلك؟ فذكر أن ماله لم يكن له، وأنه كان للفقراء، فخانهم إياه، ولم يزل. ينتفع به طول حياته».١٨٦ فهو في هذا اشتراكي عملي متطرف.

والناس يؤثر فيهم هذا المنظر الورع الزاهد، فلا عجب إذا انتشر الاعتزال في بغداد بسلوكه.

وناحيته الاعتزالية من جنس شخصيته؛ فهو غال في الاعتزال؛ شديد الغلو؛ يمعن في تكفير الناس، فلا يسلم من تكفيره إلا القليل، حتى بعض المعتزلة لم يسلم من تكفيره؛ فمن قال إن الله يرى بالأبصار فهو كافر؛ ومن قال إن أعمال العباد مخلوقة لله فهو كافر؛ ومن لابس السلطان فهو كافر لا يرث ولا يورث،١٨٧ حتى سأله إبراهيم بن السِّنْدي مرة عن أهل الأرض جميعًا فأكفرهم، فقال له إبراهيم: «هل الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك»؟! وكفّر المشبهة والمجبرة، وألف كتابًا في ذلك كفّر فيه أكثر أهل الأرض. ولعله أول من أشعل النار في بغداد في فتنة خلق القرآن، فقد أثار المسألة بشكل يلفت الأنظار، ويغري بالجدال، فزعم أن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة وبلاغة ونظمًا.١٨٨ ولعله كان يرى كبعض المعتزلة أن الإعجاز أتى من ناحية معانيه الدينية وإخباره بالمغيبات، ثم بالغ (كعادته) في القول بخلق القرآن، وكفّر من قال بقدمه، وقال: من قال بذلك فقد أثبت قديمين.١٨٩

وطبيعي أن هذا القول من أبي موسى يثير الناس للجدل والرد عليه، ويجعلهم يقابلون الغلو بالغلو، وكذلك كان، فقد اتسع الموضوع في هذا الحديث حتى كانت المحنة فيما بعد.

ووقف من الصحابة والأحداث السياسية موقف كثير من المعتزلة، فكان يتبرأ من عمرو بن العاص ومعاوية ومن كان في صفهما، وتوقف في الحكم على عثمان، فلم يحكم عليه بخير ولا شر، لأنه خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، ولكنه تبرأ من قاتليه؛ وشهد لهم بأنهم من أهل النار.

وكان قول المعتزلة هذا في معاوية وعمرو وحزبهما يوافق هوى العباسيين، لأنهم يكرهون دولتهم، ويحبون كل ما يشوه سمعتهم، فإذا كان من رجال الدين — أمثال المعتزلة — من يتبرأ منهم صادف ذلك هوى في نفوسهم. ولكن هل تأثر المعتزلة في هذا الرأي بالسياسة العباسية؟ أظن أن بعضهم من رجال الدنيا والدين معًا تأثروا بذلك، وبعضهم هداه إلى ذلك التفكير الحر، وأظن أن من هؤلاء الأخيرين أبا موسى المردار، فقد كان ورعًا زاهدًا، ومن كان يُكِّر بالقرب من السلطان لا يبيع رأيه له.

الجعفران

وكان من حسنات «المردار» تلميذاه الجعفران، جعفر بن مُبشِّر وجعفر ابن حرب، سيدا معتزلة بغداد في عصرهما، ومضربا المثل في العلم والعمل. وكان جعفر بن مبشر الثقفي مقدمًا في الكلام والفقه والحديث والقرآن والنسك والاجتهاد، وألف الكتب الكثيرة في الكلام والفقه، وكان يرى ما يشبه قول أهل الظاهر، فيرى إتباع ظاهر القرآن والسنة والإجماع، ويكره الرأي والقياس، وألف في ذلك كتابًا في الرد على أصحاب الرأي والقياس. وكان يناظر بشرا المريسي فيفر بشر منه لقوة حجته. وكان خليفة المردار في الزهد والورع وحسن القصص؛ وقد نقل أهل «عانات» كلهم إلى الاعتزال بحسن تأّتيه ورقة قصصه.١٩٠ وقد سأل الواثق أحمد بن أبي داود — وكلاهما معتزلي — لم لا تولي القضاء أصحابنا (من المعتزلة)؟ فقال يا أمير المؤمنين: إنهم يمتنعون عن ذلك، وهذا جعفر بن مبشر وجهت إليه بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها، فذهبت إليه بنفسي واستأذنت فأبى أن يأذن لي.. فكيف أوّلي القضاء مثله؟١٩١ ومات جعفر بن مبشر سنة ٢٣٤.
وجعفر بن حرب الهمداني كان كذلك عالمًا متكلمًا زاهدًا، درس الكلام في البصرة على أبي الهذيل العلاف، ثم درس في بغداد على أبي موسى المردار، وقد عني بالرد على شيخه العلاف، ووضع فيه كتابًا سماه «توبيخ أبي الهذيل». وحكى عنه المرتضى أن أباه كان من أصحاب السلطان خلف له ثروة من ضياع ومال فتجرد جعفر عنها، كما حكى أن جعفرًا هذا كان يحضر مجلس الواثق للمناظرة، فحضر مرة وحضر وقت الصلاة فقاموا لها، وتقدم الواثق وصلى بهم، وتنحى جعفر فنزع خفيه وصلى وحده؛١٩٢ فقال له أحمد بن أبي داود: إن هذا (يشير إلى الواثق) لا يحتملك على هذا الفعل، فإن عزمت عليه فلا تحضر مجلسه. فقال جعفر: ما أريد الحضور لولا أنك تحملني عليه، ثم انقطع ومات سنة ٢٣٦.

وعلى الجملة فإن المردار وتلميذيه الجعفرين قد أظهروا في بغداد نوعًا من الاعتزال، ورعًا زاهدًا، فكانوا أشبه شيء بعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء؛ وكانت سيرتهم سببًا في انتشار الاعتزال ببغداد، وضرب المثل بالجعفرين، فكان يقال عِلم الجعفرين، وزهد الجعفرين، كما يقال عدل العمرين.

ثمامة بن الأشرس

أما ثُمَامة بن الأشرس — أبو مَعن النميري — فلوْن آخر من ألوان الاعتزال؛ ليس بالزاهد، ولكنه المعتزلي المغامر في شئون الدنيا، المتردد على قصور الخلفاء، المنادم لهم، والذي يزين مجالسهم بالكلام العذب في الأدب، والمناظرة في مسائل الاعتزال وغير الاعتزال؛ فقد ملئت كتب الأدب بأحاديثه الممتعة، ونوادره الطريفة. يقول الشهرستاني: «إنه كان جامعًا بين سخافة الدين، وخلاعة النفس، مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار على فسقه في غير توبة». أما سخافة الدين فلعله أراد به مذهبه في الاعتزال، ولم يكن سخيفًا؛ والمرتضى يصفه بأنه «كان واحد دهره في العلم والأدب، وكان جدالًا حاذقًا»؛ والجاحظ ينقل عنه كثيرًا في إجلال واحترام. وأما خلاعة النفس فيظهر أنه كان يعطي لنفسه حظها في الحياة فينعم بالطيبات، ولا يتورع، ولا يتزهد. اتصل أول أمره بهارون الرشيد، ورمي بالزندقة لحرية رأيه فحبسه الرشيد ثم عفا عنه، وأعجبه عقله فاتخذه نديمًا؛ ثم علا شأنه في أيام المأمون فكان عنده فوق الوزراء. أراده المأمون ليكون وزيرًا له بعد قتل الفضل بن سهل فأبى وقال: «إني لم أر أحدًا تعرض للخدمة والوزارة إلا لم يكن لتسلم حاله ولا تدوم منزلته» فقبل المأمون منه ذلك، وقال له: فأشر عليَّ برجل صالح لما أريد، فأشار عليه بأحمد بن أبي خالد الأحول.١٩٣ ومع أن ثمامة هو الذي رشح أحمد بن أبي خالد، فلم يعرف أحمد لثمامة يده، وقال له يومًا بحضرة المأمون: يا ثمامة، كل أحد في الدار فله معنى غيرك، فإنه لا معنى لك في دار أمير المؤمنين، فقال له ثمامة: إن معناي في الدار والحاجة إليَّ لبيّنة، فقال: وما هي؟ قال: أشاور في مثلك هل تصلح لموضعك أم لا تصلح؟ فأفحم.١٩٤
فلما مات أحمد بن أبي خالد عاد المأمون فأراد ثمامة على الوزارة فأبى، فاستشاره فيمن يصلح، فنصحه بيحيى بن أكثم، بعد أن استوثق ثمامة من يحيى بألا يغدر به كما غدر من قبله، ولكن سرعان ما وقع بينهما الشر.١٩٥ ولعل السبب في ذلك كله ما كان يدور في مجلس المأمون من مناظرات ومباحثات يظفر فيها ثمامة بخصمه لفصاحته وقوة حجته؛ فيحقد ذلك عليه من يناظره، ولو كان هو السبب في نعمته، سيما وقد كان ثمامة لا يرحم مناظره ويلزمه الحجة في قسوة.
وكان لثمامة الفضل في نشر الاعتزال، لقربه من المأمون ومعرفة الناس بأنه يستشار في المناصب؛ حتى يحكي طيفور: «أنه بلغ من مقاربة يحيي بن أكثم لثمامة وطلب المنزلة منه أنه جعل يتعلم القول في الاعتزال».١٩٦

يقول الجاحظ: «قال ثمامة، كان جعفر بن يحيي (البرمكي) أنطق الناس، قد جمع الهدوء، والتمهل والجزالة والحلاوة وإفهامًا يغنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطق يستغني بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة». وقال ثمامة مرة: «ما رأيت أحدًا كان لا يتحبس ولا يتلجلج ولا يتنحنح، ولا يرتقب لفظًا قد استدعاه من بُعْد ولا يتلمس التخلص إلى معنى قد تقصّى عليه طلبه، أشد اقتدارًا ولا أقل تكلفًا من جعفر ابن يحيي». يقول الجاحظ بعد هذا القول: «وهذه الصفات — التي ذكرها ثمامة بن أشرس فوصف بها جعفر بن يحيي — كان ثمامة بن أشرس قد انتظمها لنفسه واستولى عليها دون جميع أهل عصره، وما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي، كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه، وكان لفظه في وزن إشارته، ومعناه في طبقة لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك». قال بعض الكتاب: معاني ثمامة الظاهرة في ألفاظه، الواضحة في مخارج كلامه كما وصف الخُرَيميّ شعر نفسه في مديح أبي دُلَف حيث يقول:

له كَلَمٌ فيك معقولةٌ
إزاء القلوب كركب وُقُوْف»١٩٧

وهي شهادة من الجاحظ تعترف بأن ثمامة كان أبلغ أهل عصره وأحسنهم منطقًا وأقدرهم على أداء المعاني. وحسبك بقول الجاحظ من شهادة. وقد كان ثمامة من شيوخ الجاحظ، نقل عنه كثيرًا من أدبه في البيان والتبيين والحيوان، ويقول «أخبرنا ثمامة» و«حدثني ثمامة»، وانتفع به في أسلوبه ومعانيه؛ كما كان — على ما يظهر لي — أستاذه في المجون والفكاهة والنادرة اللاذعة، فما حكى لنا من نودر ثمامة تدل دلالة واضحة على ذلك.

حرض ثمامة المأمون يومًا على لعن معاوية وأن يكتب بذلك كتاب يقرأ يوم الدار، ولم يرض عن ذلك يحيي بن أكثم، وقال: يا أمير المؤمنين إن العامة لا تحتمل هذا ولا سيما أهل خراسان، ولا نأمن أن تكون لهم نفرة، وإن كانت لم تدر ما عاقبتها، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، وألا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصح في السياسة وأحرى في التدبير، فمال المأمون إلى رأي يحيى، وقال لثمامة إن يحيي يخوفني من العامة. فقال ثمامة: وما العامة؟ والله لو وجهت إنسانًا على عاتقه سواد ومعه عصا لساق إليك بعصاه عشرة آلاف منها، وقد سواها الله بالأنعام فقال: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا، والله يا أمير المؤمنين لقد مررت منذ أيام بشارع الخلد فإذا إنسان قد بسط كساءه وألقى عليه أدوية وهو ينادي: «هذا الدواء لبياض العين والعشاء والغشاوة والظلمة وضعف البصر»، وإن إحدى عينيه لمطموسة … والناس قد انثالوا عليه يستوصفونه، فنزلت عن دابتي، ودخلت في غمار تلك الجماعة، وقلت: يا هذا، أرى عينك أحوج هذه الأعين إلى العلاج، وأنت تصف هذا الدواء وتخبر أنه شفاء لوجع العين، فلم لا تستعمله؟ فقال: أنا في هذا الموضع منذ عشر سنين ما مر بي شيخ أجهل منك، فقلت: وكيف ذلك؟ قال: يا جاهل أين اشتكت عيني؟ قلت: لا أدري. قال: بمصر. فأقبلت عليَّ الجماعة وقالوا: صدق الرجل وهموا بي. فقلت: والله ما علمت أن عينه اشتكت بمصر. فما تخلصت منهم إلا بهذه الحجة. فضحك المأمون وقال: ما لَقيت منك العامة! قال ثمامة: الذي لقيت من الله من سوء الثناء وقبح الذكر أكثر.١٩٨

فثمامة في هذا يدفع المأمون إلى تنفيذ مذهب الاعتزال، وقد بدأ برأي المعتزلة في سب معاوية، وهذه كانت أول خطوة يتلوها ما بعدها، ومنه خلق القرآن كما سترى. وهو يحقر العامة ويحمل الخليفة على ألا يعبأ بهم، لأنهم هم أكبر عقبة في سبيل مذهب الاعتزال الحقيقي.

وله في تحقير العامة الشيء الكثير؛ سأل الرشيد يومًا جلساءه عن أسوأ الناس حالًا، فقال كل واحد شيئًا، حتى جاء دور ثمامة فقال: أسوأ الناس حالًا عاقل يجري عليه حُكم جاهلٍ. قال ثمامة: فتبينت الغضب في وجه الرشيد (لأنه ظن أنه يعنيه وكان قد حبسه)، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أحسبني وقعت بحيث أردت، وإنما عنيت حادثة، وهي أن سلاما الأبرش (وكان سجانًا) وأنا في السجن كان يقرأ في المصحف: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فقلت له: المكَذَّبون هم الرسل، والمكَذِِّّبون هم الكفار، فاقرأها وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فقال سلام: «قيل لي من قبل إنك زنديق ولم أقبل» ثم ضيق عليَّ أشد الضيق، فجعل الرشيد يضحك.

وهو قوي الحجة: ناظر يحيى بن أكثم بين يدي المأمون في خلق الأفعال فقال ثمامة: ليست تخلو أفعال العباد من أمور: أن تكون كلها من الله ليس للعباد فيها صنع، أو أن يكون بعضها من العباد وبعضها من الله؛ فإن زعمت أن ليس للعباد فيها صنع كفرت، ونسبت إلى الله كل فعل قبيح؛ وإن زعمت أنها من الله ومن العباد كفرت، لأنك جعلت الخلق شركاء الله في فعل الفواحش والكفر؛ وإن زعمت أنها للعباد ليس لله فيها صنع صرت إلى ما أقوله.

ورأى أبو العتاهية يومًا ينشد:

إذا المرء لم يُعْتِقْ من المال نَفسَه
تَمَلَّكَه المالُ الذي هو مالِكه
ألاَ إنما مالي الذي أنا مُنْفِقٌ
وليس ليَ المالُ الذي أنا تارِكه
إذا كنتَ ذا مالٍ فبادر به الذي
يَحقُّ وإلا استهلكَتْهُ مهالِكه
فسأله ثمامة: من أين قضيت بهذا؟ قال: من قول رسول الله : «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» فقال ثمامة له: أتؤمن بأن هذا قول رسول الله، وأنه الحق؟ قال له: نعم، قال ثمامة: فلِم تحبس عندك سبعًا وعشرين بذرة١٩٩ في دارك ولا تأكل منها ولا تشرب، ولا تزكي، ولا تقدمها ذخرًا ليوم فقرك وفاقتك؟ فقال: يا أبا معن والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس. قال ثمامة: وبم تزيد حال من افتقر على حالك، وأنت دائم الحرص، دائم الجمع، شحيح على نفسك، لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد؟

ورووا أن المأمون سأل يحيى بن أكثم عن العشق ما هو: فقال يحيى: إنه «سوانح للمرء تؤثرها النفس، ويهيم بها القلب»، فقال له ثمامة: إنما شأنك أن تفتي في مسألة طلاق أو مُحرّم، فقال المأمون: قل يا ثمامة، فقال «العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مالك، ومالك قاهر؛ مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة؛ ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأُعطي عنان طاعتها، وقياد ملكها، وقوى تصرفها، توارى عن الأنصار مدخله، وغمض في القلوب مسلكه» فقال له المأمون: أحسنت.

قال رجل لثمامة: إن لي إليك حاجة. قال ثمامة: ولي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها. قال: قد فعلت. قال ثمامة: حاجتي ألا تسألني هذه الحاجة. قال: رجعت عما أعطيتك. قال ثمامة: لكني لا أرد ما أخذت» إلخ.. إلخ.

فهو مناظر قوي، وأديب بارع، وفكه جيد الفكاهة؛ وهو معتزلي ينشر الاعتزال بمناظراته وبقربه من المأمون، ونفوذه في القصر. وقد حكى لنا الشهرستاني أنه كان له فرقة تنتسب إليه وترى رأيه، اسمها «الثمامية»، وقد وسَّع نظرية التولد التي أشرنا إليها قبل، وقال إن المعارف متولدة من النظر، وهي فعل لا فاعل له كسائر المتولدات، كما توسع في نظرية التحسين والتقبيح العقليين. وقال: «إن العالم فعلُ الله بطباعه ولعله أراد بذلك ما أراده الفلاسفة من الإيجاد بالذات دون الإيجاد على مقتضى الإرادة».٢٠٠ وهذا القول قد حكاه عن ثمامة الشهرستاني، ولكن صاحب الانتصار نفاه عنه وقال إنه من كذب ابن الراوندي عليه، وقال: «إن المطبوع على أفعاله عند أصحاب فعل الطباع هو الذي لا يكون معه إلا جنس واحد من الأفعال كالنار التي لا يكون منها إلا التسخين، والثلج الذي لا يكون منه إلا التبريد، وأما من تكون منه الأشياء المختلفة فهو المختار لأفعاله لا المطبوع عليها»٢٠١

أحمد بن أبي دُؤَاد

شخصيته من أقوى الشخصيات في عصره — كان له الأثر الكبير في حياة المسلمين وتاريخ الإسلام — هو عربي من إياد، «قيل إن أصله من قرية بقنسرين، واتجر أبوه إلى الشام وأخرجه معه وهو حدث، فنشأ أحمد في طلب العلم وخاصة الفقه والكلام حتى بلغ ما بلغ، وصحب هياج بن العلاء العلمي، وكان من أصحاب واصل بن عطاء فصار إلى الاعتزال».٢٠٢ ويروي الخطيب البغدادي أنه ولد بالبصرة سنة ١٦٠.

وقد اتصل بالمأمون من طريق يحيي بن أكثم، فكان يحضر مجالس المأمون في الجدل والمناظرة؛ فأعجب المأمون بعقله وحسن منطقه فقربه، وأصبح ذا نفوذ كبير في قصره، وكان من وصية المأمون للمعتصم: «وأبو عبيد الله أحمد ابن أبي دؤاد لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع ذلك ولا تتخذن بعدي وزيرًا». فلما ولي المعتصم جعل ابن أبي دؤاد قاضي القضاة مكان يحيى بن أكثم، وكان كذلك قاضي القضاة في أيام الواثق، فلما ولي المتوكل أصيب بالفالج وأفل نجمه، فكانت مدة عظمة ابن أبي دؤاد ونفوذه وجاهة نحوًا من ثمان وعشرين سنة، من سنة ٢٠٤، وهي السنة التي عرفه فيها المأمون، إلى ٢٣٢ وهي سنة خلافة المتوكل. ومات أحمد سنة ٢٤٠ على ما حكى المسعودي والذهبي وابن خِلِّكان.

كان ابن أبي دؤاد عظيم الجاه، قوي النفوذ، وقد كسب نفوذه من شخصيته الفذة ومكانته من الخلفاء؛ مَثّل في دولة النفوذ الفارسي المروءة العربية، فكان واسع المروءة، بعيد الهمة، كان مظهر مروءته الكرم الوافر الذي يمتلك به قلوب الناس، وأعلى بكرمه شأن العرب كما أعلى البرامكة بكرمهم شأن الفرس، وكان يقال: «أكرم من كان في دولة بني العباس البرامكة ثم ابن أبي دؤاد».٢٠٣ وكان كالبرامكة في أنه يغمر بكرمه أهل الأدب ورجال العلم، فالتف حوله الناس، ثم كان بحكم عربيته يتعصب للعرب ويدفع — ما قدر — السوء عنهم من الفرس والأتراك، وكان عمله في ذلك شاقًا لنفوذ الفرس والأتراك في الدولة، فخلَّص أبا دلف العجلي من يد الإفشين وقد كاد يقتله، وأنقذ حياة خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني من يد المعتصم، وقصده الشعراء والأدباء لأنه كان أديبًا مثلهم، كما كان فقيهًا متكلمًا. قال أبو العيناء: «كان ابن أبي دؤاد شاعرًا مجيدًا، فصيحًا بليغًا». وقال المرزباني: «وقد ذكره دعبل بن عليّ الخزاعي في كتابه الذي جمع فيه أسماء الشعراء وروى له أبياتًا حسانًا»،٢٠٤ فمدحه أبو تمام في ديوانه بقصائد كثيرة؛ فمن قوله فيه:
إليكَ تناهَى المَجْد مِنْ كلِّ وِجْهَةٍ
يَصِيرُ فما يَعْدُوكَ حَيْثُ يصِيرُ
وبدرُ إيادٍ أنت لا يُنكرونهُ
كذاكَ إياد للأنام بدُورُ
تجنَّبْتَ أن تُدْعَى الأمِيرَ توَاضعًا
وأنت لمن يدعَى الأميرَ أمِيرُ
فما مِنْ نَدى إلاَّ إلَيْك مَحله
ولا رِفعةٍ إلَّا إلَيْكَ تُشيرُ

ويقول:

أيسلبني ثرَاء المالِ رَبىِّ
وأَطْلُبُ ذاكَ من كفّ جَمَادِ
زعمتُ إذا بأنّ الجود أمْسى
لهُ ربُّ سِوى ابن أبي دؤَاد

ومدحه مروان الأصغر بن أبي الجنوب وغيره. وقد وقف ببابه أبو تمام وجماعة من الشعراء، وقد طالت أيامهم في الوقوف على بابه، فلما دخلوا قال لأبي تمام: أحسبك عاتبا؟ فقال أبو تمام: إنما يُعْتَبُ على واحد وأنت الناس جميعًا فكيف يعتب عليه؟

واتصل به الجاحظ بعد أن كان منحرفًا عنه، لأن الجاحظ كان من أتباع محمد بن عبد الملك الزيات، وكان محمد من أعداء أحمد بن أبي دؤاد، فلما أوقع بابن الزيات خاف الجاحظ من ابن أبي دؤاد، وتوقع أن يوقع به، ولكنه عفا عنه وأطلقه، فاتصل بعد ذلك الجاحظ بابن أبي دؤاد، وأهدي إليه كتابه «البيان والتبيين»، وأعطاه ابن أبي دؤاد خمسة آلاف دينار، ومدحه الجاحظ بقوله:

وَعَويص منَ الأمُورِ بهيمٍ
غامِضِ الشخص مُظلمٍ مَستورٍ
قد تَسنَّمت ما توَعَّرَ منه
بلسَانٍ يزينُه التَّحْبيرُ
مثل وشى البرد هلهله النسجُ
وعند الحِجَاج دُرٌّ نثيِرُ
حسنُ الصوتِ والمَقاطعِ إمَّا
أنصت القومُ والحديثُ يدورُ
ثمَّ من بَعْدُ لحظةٌ تُورثُ اليُسْرَ
وعِرْضٌ مهذب موفورُ٢٠٥

وفتن به المعتصم حتى ما كاد يرد له طلبًا، وكان يقول فيه: «هذا والله الذي يُتزيَّنُ بمثله، ويُبْتَهَجُ بقربه؛ ويُعدّ به ألوف من جنسه» وقال له الواثق: «قد اختلَّت بيوت الأموال بطُلبائك اللائذين بك، والمتوسلين إليك. فقال: يا أمير المؤمنين، نتائج شكرها متصلة بك، وذخائر أجرها مكتوبة لك، وما لي من ذلك إلا عشق اتصال الألسن بحُلْو المدح فيك». فقال الواثق: يا أبا عبد الله! لا منعناك ما يزيد في عشقك، ويقوي من همتك، فتناولنا بما أحببت.

وهكذا كان ينال من الخلفاء كثيرًا، وينفق على الناس كثيرًا، ويستحث الخلفاء في عمل الخير للناس وإعطائهم، وتخفيف ويلاتهم؛ لقد وقع حريق بالكرخ فمازال بالمعتصم حتى عوضهم في حريقهم؛ ومرض ابن أبي دؤاد فعاده المعتصم في داره، ونذر المعتصم إن شفاه الله أن يتصدق بعشرة آلاف دينار، فقال ابن أبي دؤاد: فاجعلها لأهل الحرمين، فقد لقوا من غلاء الأسعار عنتًا؛ فقال المعتصم: نويت أن أتصدق بها ههنا، وأنا أطلق لأهل الحرمين مثلها.

«وقيل للمعتصم: كيف تعوده وأنت لا تعود إخوتك وأجلّاء أهلك؟ فقال: وكيف لا أعود رجلًا ما وقعت عيني عليه قط إلا ساق إليَّ أجرًا، أو أوجب لي شكرًا، أو أفادني فائدة تنفعني في ديني ودنياي، وما سألني حاجة لنفسه قط».

هذا النفوذ الكبير، والجاه العريض في قصور الخلفاء، وفي أوساط العلماء والأدباء، وعلى قضاة الأمصار (إذ كان قاضي القضاة) قد أخطأ فاستعمله في حمل الناس على الاعتزال، وإكراههم على القول بخلق القرآن، فهو أكبر سبب في هذه المحنة، فاستوجب سخط كثير من الناس وضاع مجده وعلو شأنه في كثير من الأوساط، حتى قال محمد بن يحيى الصولي: «لولا ما وضع به نفسه من محبة المحنة لاجتمعت الألسن عليه؛ ولم يضف إلى كرمه كرم أحد»؛ فقد كان موصوفًا بالجود والسخاء، حسن الخلق، وافر الأدب، واسع العلم، ولكنه حمل الخلفاء الثلاثة: المأمون، والمعتصم، والواثق، على أن يمتحنوا الناس بالقول بخلق القرآن، فكانت المحنة، وكانت الكارثة، حتى على مذهب الاعتزال نفسه. لقد رأينا قبل أن ثمامة بن الأشرس حاول بعض هذه المحاولات في جعل الاعتزال مذهبًا رسميًا للدولة، ولكن لم يكن له من الجاه والنفوذ، وحسن مداخلة الخلفاء وسحر التأثير فيهم ما كان لابن أبي دؤاد، فنجح ابن أبي دؤاد حيث فشل ثمامة، أو قلْ أتم أحمد ما بدأ به ثمامة.

•••

هؤلاء الذين ذكرناهم أعلام المعتزلة في البصرة وبغداد، وكان لكل مدرسة من المدرستين ألوان خاصة:

  • (١)

    من ذلك أن الاعتزال في البصرة كان مذهبًا نظريًا، والاعتزال في بغداد كان عمليًا متأثرًا بالدولة، قريبًا من السلطان.

  • (٢)

    وأن تأثر الاعتزال بالفلسفة اليونانية كان أظهر في مدرسة بغداد منه في مدرسة البصرة، لقوة حركة الترجمة في بغداد، ولأن بلاط الخلفاء كان ملتقى رؤساء المسلمين رؤساء المفكرين من أهل الديانات الأخرى؛ فنرى ثمامة بن الأشرس يقرر أن العالم نشأ عن طبيعة الله، أو بعبارة أخرى أن العالم برز من الله، لأن طبيعة الله من شأنها — طبعًا — الإيجاد، ولا يمكن ذلك أن يتخلف، وهذا يؤدي حتمًا إلى القول بقدم العالم، لأن طبيعة الله لا تتغير؛ وهذا متأثر بآراء أرسطو في قدم العالم وطبيعته، وأنه قانون. وقد أشار إلى هذه الصلة بين هؤلاء المعتزلة وفلاسفة اليونان — الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل»، في أكثر من موضع.

  • (٣)

    أخذ البغداديون كثيرًا من المسائل التي عرض لها البصريون، فوسعوا مدى بحثها، واستفادوا مما نشر من آراء الفلاسفة فيها؛ كمسألة تحيد «الشيء» ومسألة الجوهر والعرض. ولنشرح هاتين المسألتين بعض الشرح: فقد أثار المعتزلة مسألة «هل المعدوم شيء»؛ وبعبارة أخرى: هل «الشيء» يرادف الموجود؟ وكان النظر في أول الأمر تفسيرًا لغويًا؛ فقد كان سيبويه يقول: «إن الشيء ما يصح أن يعَلم ويخبر عنه»، وبناء على ذلك يكون المعدوم شيئًا، لأنه يصح أن يعلم أنه معدوم، ويصح أن يخبر عنه؛ وكان غيره يرى أنه مرادف للموجود، فلا يصح أن يطلق على المعدوم أنه شيء. ولكن بعد ذلك نرى أن المسألة تطوّرت وبحث فيها على هذا النحو: هل المعدوم جوهر ووجوده عبارة عن اتصافه بالأوصاف وقيام الأعراض به أو ليس بجوهر؟ إلى غير ذلك من التفصيلات الواردة في كتب الكلام.

كذلك كان من أظهر المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين الكلام في الجوهر والعرض، وتابعوا اليونانيين في القول بأن الجوهر ما قام بنفسه، والعرض ما قام بالجوهر ولا يقوم بنفسه، وأطالوا في الفرق بين الجوهر والجسم والعرض، وبحثوا في النفس هل هي جوهر؛ وما الجوهر الفرد، وهل له شكل، وما علاقة الأعراض بالجواهر، وهل الطعوم والألوان والروائح أجسام أو أعراض؟ وقد أطالوا في هذه البحوث، وتعمقوا فيها تعمقًا مدهشًا، وملئت بها كتب الكلام، وقام خلاف شديد بين البصريين والبغداديين فيها، وقد بقي لنا من ذلك كتاب لأبي رشيد سعيد النيسابوري في آراء البصريين والبغداديين في مسائل الجوهر، وحجج كل فريق مما يطول شرحه.٢٠٦

ولعل أهم مسألة وسعَّها معتزلة بغداد مسألة خلق القرآن.

وإذا كانت هذه المسألة أهم مظهر من مظاهر الاعتزال في هذه الفترة، وكانت الشغل الشاغل للأذهان، والعمل الذي أقام الدولة وأقعدها؛ صح لنا أن نفردها بشيء من التفصيل.

(٤) مسألة خلق القرآن

لهذه المسألة ناحيتان: ناحية نظرية وقد عرضنا لها من قبل في هذا الجزء٢٠٧ وتتضمن الكلام في تحديد موضع النزاع، ورأى كل فريق وحججه؛ والناحية الثانية تاريخ المسألة سياسيًا، وتدخل الحكومة في شأنها، وتنفيذها بقوة الدولة، وما جري في ذلك من أحداث، وهذا ما نتعرض له الآن.
قد ذكروا أن القول بخلق القرآن ظهر في آخر الدولة الأموية على لسان «الجَعْد بن دِرْهَم» معلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية. قال في سرح العيون: «وهو أول من تكلم بخلق القرآن من أمة محمد، بدمشق؛ ثم طلب فهرب، ثم نزل الكوفة فتعلم منه الجهم بن صفوان القول الذي نسب إليه الجهمية. وقيل إن الجعد أخذ ذلك من أبان بن سمعان، وأخذه أبان من طالوت ابن أعصم اليهودى».٢٠٨ وقد قتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالكوفة وكان واليًا عليها، وقال: إني أريد اليوم أن أضحي بالجعد؛ فإنه يقول: ما كلم الله موسى تكليمًا، ولا اتخذ الله إبراهيم خليلًا. ولعل الجعد كان مظلومًا في هذا، وأنهم استنتجوا من قوله — إن القرآن مخلوق — هذا الاستنتاج البعيد.

ويستنتج من ذلك أن الجعد كان في دمشق، ولكنه بذر بذرته في العراق لما هرب إليه وقتل به.

وقال بذلك أيضًا جهم بن صفوان الترمذي الذي قتله سالم بن أحوز بمرو سنة ١٢٨؛ فقد كان ينفي الصفات، واستتبع ذلك نفي الكلام، والقول بخلق القرآن.

ثم يحدثوننا أن بشرا المريسي (ويروي بعضهم أنه من أصل يهودي) كان يقول بخلق القرآن في أيام الرشيد، وظل يدعو إلى ذلك نحوًا من أربعين سنة، ويؤلف في ذلك الكتب، وقد مات سنة ٢١٨.٢٠٩

وقد رووا أن الرشيد قال يومًا: بلغني أن بشرًا يقول القرآن مخلوق؛ والله إن أظفرني الله به لأقتلنّه. فأقام بشر متواريًا أيام الرشيد.

وورثت المعتزلة هذا القول عن الجعد والجهم، فكانوا يقولون بذلك؛ وزادوا المسألة تفصيلًا، ووسعوا فيها الجدل. وقد رأينا «المردار» المعتزلي يتوسع في هذا القول، ويكفر من يقول بقدم القرآن.

ويختلف الباحثون في أن المسلمين تأثروا — في قولهم بخلق القرآن — باليهودية كما يروي ابن الأثير؛ أو بالنصرانية، تقليدًا لقولهم في عيسى: إنه كلمة الله، وكلمة الله لا يصح أن تكون مخلوقة، فقلد المسلمون ذلك بقولهم مثل هذا القول في كلام الله.

ولعله مما يؤيد القول الأخير قول المأمون في كتابه الآتي: «فضاهوا به قول النصارى في ادعائهم في عيسى بن مريم أنه ليس بمخلوق، إذ كان كلمة الله».

فيظهر من ذلك أن مسألة خلق القرآن خلقت في آخر الدولة الأموية، وظلَّت تنمو ويدور حولها الجدل، وتتسع فيها المناظرة، وتؤلَّف فيها الكتب إلى عهد المأمون. ولكن أحدًا من قبل لم يفكر في أن تتخذ هذه المسألة الدين الرسمي للدولة حتى جاء المأمون.

كان المأمون مثقفًا ثقافة واسعة عميقة، وشغف من أجل ذلك بالبحث العلمي والأدبي، واتخذ له رجالًا يجتمعون في قصره، فيتجادلون ويتناظرون في شتى المسائل: مرة أدبًا، ومرة فقهًا، وحينًا تاريخًا، وحينًا كلامًا. وكان عقله عقلًا فلسفيًا، حرًا في تفكيره مع التقييد بأصول الدين. وكان ما يدور في مجالسه من الجدل والمناظرة يتناقل على ألسنة الناس فيتجادلون فيه هم كذلك؛ ويكون جدالهم صدى لجدال القصر.

وإذ كان المأمون على ما ذكرنا من حرية التفكير، كان الاعتزال أقرب المذاهب إلى نفسه، لأنه أكثر حرية وأكثر اعتمادًا على العقل؛ فقرب المعتزلة منه، وأصبحوا ذوي نفوذ في القصر، وكان من أظهرهم ثمامة بن الأشرس وأحمد بن أبي دؤاد.

ولكن مع ميل المأمون إلى الاعتزال كان بجانب ذلك مسألة أخرى، وهي هل يظل الاعتزال مذهبًا كغيره من المذاهب كالإرجاء ونحوه، كل إنسان حر أن يعتنق منها ما يراه صوابًا، ولا دخل للدولة في ذلك، لأن المسألة ليست مسألة كفر وإيمان، إنما هي آراء داخل حدود الإسلام، فلا سبيل إلى الإقناع فيها إلا الحجة والبرهان، أو أن الدولة تتخذ شعارها الاعتزال وتحمل الناس عليه، ويكون المذهب مذهبها الرسمي، كما أن الإسلام دينها الرسمي؟

يظهر أنه كان هناك تياران في هذا، فقد كان هناك فرقة ترى أن الدولة لا شأن لها بذلك، والناس أحرار في اعتقاد ما يرون، والخليفة لا ينبغي أن يدخل في نصرة مذهب على مذهب، وعلى رأس هذا الرأي يحيى بن أكثم قاضي المأمون، ويزيد بن هارون الواسطي؛ فيحيى بن أكثم يقول للمأمون عندما هم بلعن معاوية: «والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير»، وقد تقدم قوله هذا؛ ويزيد بن هارون يحكي عنه يحيى بن أكثم أن المأمون قال: «لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت القول بخلق القرآن. فقال له بعض جلسائه: ومن يزيد بن هارون حتى يتقيه أمير المؤمنين؟ فقال: إني أخاف إن أظهرته يرد عليَّ فيختلف الناس وتكون فتنة، وأنا أكره الفتنة».

وهناك حزب آخر يحسّن للخليفة رأي حمل الناس على ما ثبتت عندهم صحته، وكان من أظهر هؤلاء ثمامة وابن أبي دؤاد.

وشاء القدر أن يضعف الحزب الأول؟ فقد مات يزيد بن هارون سنة ٢٠٦، وعزل يحيى بن أكثم عن منصب قاضي القضاة سنة ٢١٧، وتولى مكانه ابن أبي دؤاد، فرجحت كفة المؤيدين، وحمل المأمون الناس على القول بخلق القران سنة ٢١٨.

لم يكن المأمون إمَّعة يوجَّه فيتوجَّه، ولكنه مع قوة شخصيته يتأثر برأي من حوله، وكان على استعداد لذلك؛ فمن قبلُ أدخل المسائل الدينية في شئون الدولة فأعلن تفضيل عليّ بن أبي طالب على أبي بكر وعمر، وأغضب بذلك كثيرًا من الناس؛ ونادى من قبل بتحليل نكاح المتعة وهو في طريقه إلى الشام لما صح عنده من حديث حلّ المتعة، فمازال يحيى بن أكثم يروي له الأحاديث في حرمتها عن الزُّهْري، ويقيم له البراهين على حرمتها حتى اقتنع، فأمر بأن ينادى بتحريمها بعد أن كان أمر به.٢١٠

فهو — من قديم — يميل إلى حمل الناس على ما يعتقد أنه الحق في مسائل الدين، وَنصره في ذلك وشجعه المعتزلة، لأنهم بالغوا في أصولهم بالقول بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما رأيت قبل؛ وكان كثير منهم يرون أن المؤمنين هم من اعتنقوا أصول الاعتزال، وغيرهم ليس بمؤمن، فحمل الناس على مذهبهم يساوي أو يقرب من دعوة الكفار إلى الإسلام، فإذا نجحوا في حمل الخليفة على أن نسخر الدولة في تعميم رأي المعتزلة، فقد خدموا الإسلام ونشروا العقيدة الصحيحة. وقديمًا حارب واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد الزنادقة والمستهترين، وحملا بشارًا على الهرب لفسقه. وقد كانت مسألة خلق القرآن هي المسألة التي تركَّز فيها الاعتزال في زمن المأمون لكثرة القول والجدل فيها، ولأنها تبتني على أكبر أصل من أصولهم، وهو التوحيد وعدم تعدد صفات الله، فساعدوا المأمون في ميله، وكان حامل لوائهم هو أحمد بن أبي دؤاد، وظلت هذه المسألة مسألة الدولة والناس من سنة ٢١٨ إلى سنة ٢٣٤.

وسميت في التاريخ بالمِحنة، وهي في الأصل الخْبرة: محنتُه وامتحنته: خبرته واختبرته، وامتحنت الذهب والفضة إذا أذبتهما لتخبرهما، والاسم المحنة، واستعمل فيما لقيه الأنبياء من العذاب فصبروا على دعوتهم، كما استعمل فيما لقيه الشيعة من العذاب وصبرهم على بلائهم؛ ثم اشتهر استعماله في اختبار العلماء بالقول بخلق القرآن وما لقوه في ذلك من عذاب.

وقد ذكروا أن المأمون نضجت عنده هذه الفكرة واعتنقها من قديم، فإن صحت الرواية عن المأمون أنه كان يتقي بزيد بن هارون في إذاعة هذا القول، وكان يزيد قد مات سنة ٢٠٦، دلَّنا ذلك على أن المأمون كان يفكر في حمل الناس على القول بخلق القرآن قبل هذه السنة؛ ويروي الطبري أنه في سنة ٢١٢ أظهر المأمون القول بخلق القرآن، وذلك في شهر ربيع الأول — ثم في سنة ٢١٨ امتحن الناس بذلك. فجمعا بين هذه الأقوال يمكن أن نقول إن المأمون كان يتكلم في خلق القرآن في مجالسه الخاصة إلى سنة ٢١٢، ثم أعلن رأيه للناس في تلك السنة من غير أن يضطرهم إلى القول به، وظل على هذا الحال ست سنين، ثم كانت الخطوة الأخيرة سنة ٢١٨ تحمل الناس على ذلك.

بدأ المأمون في سنة ٢١٨ بإرسال كتاب إلى واليِ بغداد إسحق بن إبراهيم بن مصعب، وهو كتاب مطول حفظ لنا نصه، رواه الطبري في تاريخه وطيفور في تاريخ بغداد.

بدأه بالسبب الذي ألجأه إلى حمل الناس على ذلك، وهو أن خليفة المسلمين واجب عليه حفظ الدين وإقامته، والعمل بالحق في الرعية، «وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة — ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، ولا استضاء بنور العلم وبرهانه، في جميع الأقطار والآفاق — أهل جهالة بالله وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، وُنكوبٍ عن واضحات أعلامه، وواجب سبيله، وقصورٍ أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم، ونقص عقولهم، وجفائهم عن التفكر والتذكر، وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين … على أنه (أي القرآن) قديم أزليّ لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه. وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاء، وللمؤمنين رحمة: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، فكل ما جعله الله فقد خلقه. وقال: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وقال عز وجل: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ فأخبر أنه قصص لأمور أحدثها بعده وتلا به متقدمها، فقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وكل محكم مفصلِّ فله محِكم مفصِّل، والله محكم كتابه ومفصِّله فهو خالقه ومبتدعه، ثم هم الذي جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطلُ قولهم. ومكذب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم. ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة؛ فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله، والتقشف لغير الدين، إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيئ آرائهم، تزينًا بذلك عندهم، وتصنعًا للرياسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم».

ثم ذكر أن هؤلاء قد زكَّوا أمثالهم، وُقبلت شهادتهم، وُنفِّذت الأحكام بهم، مع دغل دينهم، وفساد عقيدتهم.

«وأولئك شر الأمة، ورءوس الضلالة المنقوصون من التوحيد … وأحق من يتهم في صدقه، وُتطرح شهادته، ولا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام وإخلاص التوحيد».

ثم قال: فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فأبدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلده الله واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه: فإذا أقروا بذلك … فمرهم بنظر من بحضرتهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقرّ أنه مخلوق محدث … واكتب إلى أمير لمؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله. كتب في «شهر ربيع الأول سنة ٢١٨».

نستخلص من هذا الكتاب:

  • (١)

    أن المأمون كان يرى أن واجبًا عليه تصحيح عقائد الناس الفاسدة ولا سيما إذا تغلغل الفساد إلى أصل من أصول الدين، كالإشراك مع الله في القدم شيئًا آخر مثل القرآن.

  • (٢)

    وأن كثيرًا من عامة الناس كانوا يتكلمون في خلق القرآن ويرون أنه قديم، ولهم علماء ومتورعون يدعون إلى ذلك؛ وقد رد عليهم المأمون في كتابه بالحجج من القرآن.

  • (٣)

    وأن بعض القضاة كان على هذا الرأي من القول بقدم القرآن، وكان يقبل شهادة من يقول بقدمه، وقد يرد شهادة من يقول بحدوثه.

  • (٤)

    وأن المأمون يرى أن القاضي أو الشاهد لا يوثق بقضائه ولا بشهادته إذا كانت عقيدته غير صحيحة؛ فمن اعتقد قِدم القرآن قد ضعف توحيده، وساءت عقيدته، وصار لا يؤتمن على شهادة ولا حكم، وكان مظَّنة أن يكذب في شهادته، وأن يظلم في حكمه.

  • (٥)

    فهو لذلك لا يريد أن يولّي الأحكام ويزكي الشاهد إلا إذا صح إيمانه، وصح توحيده.

لهذا كانت خطوة المأمون الأولى مقصورة على هذا؛ فلا تعذيب، ولكن لا يتولى أحكامه إلا من وثق به، وهو لا يثق إلا بمن قال: إن القرآن مخلوق، لأنه في نظره برهان صحة عقله وصحة إيمانه؛ فمن لم يكن كذلك يعزل إن كان قاضيًا، ولا تقبل شهادته إن تقدم للشهادة. ولا شيء من التهديد في هذا الكتاب وراء ذلك.

والكتاب ظاهر عليه روح الاعتزال، وتعبيرات المعتزلة، وحججهم في التوحيد، كما يظهر فيه طابعهم، فقد كان لها طابع خاص غريب يجمع بين التعصب الحاد وحرية الفكر المفرطة؛ فهم متعصبون أشد التعصب فيما يتصل بتوحيد الله وعدله، لا يقبلون في ذلك هوادة؛ ثم هم أحرار فيما عدا ذلك من الآراء واستعمال العقل والقول بسلطانه. فالمأمون الحر التفكير، الواسع العقل، إذا وصل إلى التوحيد واعتقد أن القول بقدم القرآن يمس هذا التوحيد، خرج عن حريته كالمعتزلة وأبى أن يتولى أحد من القضاة عملًا له إلا وحَّد توحيده.

وإذا علمنا أن المأمون توفي في ١٨ رجب سنة ٢١٨، علمنا أن هذا الكتاب صدر قبل موته بنحو أربعة أشهر، وأرسلت منه صور للأقطار الإسلامية لمصر والشام والكوفة وغيرها، وأمرِ الولاة أن يفعلوا بقضاتهم كما فعل والي بغداد بقضاتها.

ثم كتب المأمون بعد ذلك إلى إسحق بن إبراهيم أيضًا أن يرسل إليه سبعة من كبار المحدّثين، وهم محمد بن سعد كاتب الواقدي،٢١١ وأبو مسلم مستمليِ يزيد ابن هارون،٢١٢ ويحيي بن معِين،٢١٣ وزهير بن حرب أبو خيثمة٢١٤ وإسماعيل ابن داوود وإسماعيل بن أبي مسعود٢١٥ وأحمد بن الدورقي.٢١٦ ويظهر أن هؤلاء كانوا من وجوه المحدّثين في بغداد، وممن شنعوا على المأمون بالقول بخلق القرآن، ومن رءوس الذين يقولون بقدمه. ولعل المأمون رأى أنهم إن حضروا أمام الخليفة نفسه كان ذلك أرهب لهم، وحملتهم الهيبة والرهبة على متابعة الخليفة فيما يقول، فينقاد الناس لهم، ويتبعون قولهم فتنقطع الفتنة؛ وقد صدق في حدسه في الشطر الأول، ولم يصدق في الثاني، فأجاب هؤلاء ولم تنقطع الفتنة.
فإنهم لما حضروا امتحنهم المأمون وسألهم جميعًا عن خلق القرآن، فأجابوا جميعًا إن القرآن مخلوق، فأعادهم إلى بغداد، وأمر إسحاق بن إبراهيم أن يجمع الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث في داره، وأن يقول أمامهم هؤلاء السبعة بمثل ما قالوا به أمام المأمون، ففعلوا وخلى سبيلهم.٢١٧
ولم نجد اسم أحمد بن حنبل بين هؤلاء السبعة؛ إما لأنه لم يكن معروفًا إذ ذاك بشدة المعارضة، وأن شهرته في هذا أتت بعد هذا التاريخ؛ أو كما روى بعضهم من أن اسمه كان بين هؤلاء، ولكن ابن أبي دؤاد نصح باستبعاده لأنه يعرف صلابته، فلم يكن من مصلحة القضية أن يكون بينهم. وقد روي أن ابن حنبل حزن لهذا الحادث جدًا، وقال: «لو كانوا صبروا وقاموا لله لكان انقطع الأمر، وحذرِهم الرجل (يعني المأمون)، ولكن لما أجابوا — وهم عين البلد — اجترأ على غيرهم»، وكان ابن حنبل إذا ذكرهم يغتم ويقول: «هم أول من ثلموا هذه الثلمة».٢١٨

وهذه الحادثة — من غير شك — قوَّت جانب الحكومة، وفتت في عضد المحدّثين والعامة وأحزنتهم، وهيأتهم لأن يرتقبوا البطل الذي يردّ على هذا الحادث.

وفي هذه الخطوة الثانية لم يكتف المأمون بأن يحرم من ليس على مذهبه من مناصب الدولة؛ بل أراد أن يحمل الفقهاء والمحدّثين على الإقرار بخلق القرآن ولو لم يرد أن يتولى عملا، أو يؤدي شهادة، فكأنه اعتقد أنه — وهو خليفة المسلمين وراعيهم — مسئول عن رعيته؛ ومن هذا أنه مسئول عن توحيدهم، والقول بقدم القرآن شبه إشراك، فيجب أن يُردّ الناس عن ذلك كما يرد الكافر عن كفره. والخطوة الثالثة أن يقتله كما يقتل المرتد؛ وإذ كان العلماء هم قادة الناس في هذه العقائد، فيجب أن يبدأ بهم وبتصحيح عقيدتهم وبعقابهم إن أصرّوا، بل بقتلهم أحيانًا.

ثم أصدر المأمون بعد ذلك كتابًا ثالثًا لإسحاق بن إبراهيم، بدأه كما بدأ الكتاب الأول بشيء من التفصيل، وأن من الواجب على الخليفة أن يهدي من زاغ ويردّ من أدبر، وأن ينهج لرعاياه سمت نجاتهم. ثم قال: «ومما تبيّنه أمير المؤمنين برويته، وطالعه بفكره، فتبين عظيم خطره وجليل ما يرجع في الدين من وكفه وضرره، ما يناله المسلمون من القول في القرآن الذي جعله الله إمامًا لهم وأثرًا من رسول الله باقيًا لهم، واشتباهه على كثير منهم حتى حسن عندهم وتزين في عقولهم ألا يكون مخلوقًا … فضاهوا به قول النصارى في ادعائهم في عيسى بن مريم أنه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله، والله عز وجل يقول: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وتأويل ذلك إنا خلقناه، كما قال جل جلاله: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِليْهَا؛ وقال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ، فسوَّى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق التي ذكرها إلخ … وقد عظَّم هؤلاء الجهلة — بقولهم في القرآن — الثلم في دينهم والجرح في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام … ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التي هي لله وحده، وشبهوه به … وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظّا في الدين، ولا نصيبًا من الإيمان واليقين. ولا يرى أن يحل أحدًا منهم محل الثقة في أمانة ولا عدالة ولا شهادة ولا صدق في قول ولا حكاية، ولا تولية لشيء من أمر الرعية، وإن ظهر قصد بعضهم وعرف بالسداد مسدَّد فيهم، فإن الفروع مردودة إلى أصولها، ومحمولة في الحمد والذم عليها، ومن كان جاهلًا بأمر دينه الذي أمره الله به من وحدانيته، فهو بما سواه أعظم جهلًا … فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحق القاضي كتاب أمير المؤمنين بما كتب به إليك، وانصصهما عن علمهما في القرآن؛ وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق، فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما بالشهادات على الحقول … فمن لم يقل منهم إنه مخلوق أبطلا شهادته، وإن ثبت عفافه بالقصد والسداد في أمره، وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافًا يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله».

وليس في هذا الكتاب الثالث جديد إلا التوسع في الحجة والبرهان، والأمر بالتوسع في امتحان الناس، وتقرير أن من لا يقول بخلق القرآن لا يصلح لتولي عمل ما؛ ولذلك رأينا إسحاق بن إبراهيم بعد هذا الكتاب يجمع كثيرًا من الفقهاء والحكام والمحدّثين ويمتحنهم، فالفقهاء يتولون الفتيا، والحكام يتولون الحكم، والمحدّثون يتولون التعليم، وكلها أمور لا يريد المأمون أن يتولاها إلا من قال بخلق القرآن.

أحضر إسحاق بن إبراهيم مشاهير العلماء ورءوس الناس وامتحنهم. ولنقص عليك نماذج من الأسئلة والأجوبة كما وردت في كتب التاريخ:

إسحق بن إبراهيم : ما تقول في القرآن؟
بشر بن الوليد : القرآن كلام الله.
إسحق : لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
بشر : الله خالق كل شيء.
إسحق : هل القرآن شيء؟
بشر : هو شيء.
إسحق : فمخلوق هو؟
بشر : ليس بخالق.
إسحق : لا أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
بشر : ما أُحسنُ غير ما قلت لك.

امتحان آخر

إسحق : هل القرآن مخلوق؟
عليّ بن أبي مقاتل : القرآن كلام الله.
إسحق : لم أسألك عن هذا، هل هو مخلوق؟
علي : هو كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا.

امتحان ثالث

إسحق : هل القرآن مخلوق؟
أبو حسان الزيادي : القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وإن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا.
إسحق : هل القرآن مخلوق؟
أبو حسان : يعيد عليه مقالته.
إسحق : هذه مقالة أمير المؤمنين.
أبو حسان : قد تكون مقالة أمير المؤمنين، ولا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها، وإن أخبرتنى أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول: قلُت ما أمرتني، فإنك الثقة المأمون.
إسحق : ما أمرني أن أبلغك شيئًا، وإنما أمرني أن أمتحنك.

امتحان رابع

إسحق : ما تقول في القرآن؟
أحمد بن حنبل : هو كلام الله.
إسحق : أمخلوق هو؟
أحمد : هو كلام الله لا أزيد عليها.
إسحق : ما معنى أنه تعالى سميع بصير؟
أحمد : هو كما وصف نفسه.
إسحق : فما معناه؟
أحمد : لا أدري، هو كما وصف نفسه.

امتحان خامس

إسحق : ما تقول في القرآن؟
ابن البكَّاء : القرآن مجعول لقول الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا والقرآن محدث لقوله: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبَّهِم مُّحْدَثٍ.
إسحق : فالمجعول مخلوق؟
ابن البكاء : لا أقول مخلوق ولكن مجعول.
إسحق : فالقرآن مخلوق؟
ابن البكاء : لا أقول مخلوق ولكن مجعول.

وهكذا كانت إجابات القوم.

حرر إسحق بن إبراهيم محضرًا بجميع أقوال الممتحنين وأرسلها إلى المأمون فثارت ثائرته، وجن جنونه؛ وفي تاسع يوم من إجاباتهم جاء كتاب المأمون وهو الكتاب الرابع في هذا الموضوع، وكله عنف وتقريع؛ فقد رأى المأمون أن أجوبتهم لا تدل على عقل، لا تنكر في صراحة، ولا تقر في صراحة؛ وبعضهم يسلم بالمقدمات وينكر النتيجة، فيقول القرآن مجعول، والمجعول مخلوق، ولا يرضى أن يقول القرآن مخلوق؛ كمن يقول إن هذه الكمية ٣ وهذه ٤ ولا يريدون أن يقول إن المجموع سبعة. واعتقد أن عقلية هؤلاء عقلية عوام، يريدون أن يتظاهروا بالبطولة أمامهم، وهم على خلاف ذلك أمام أنفسهم، ولو كانوا ذكروا له حججًا على نظريتهم أو امتناعهم لجادلهم فيها، ولكنهم كانوا كما رأيت لا يريدون أن يقروا، ولا يريدون أن ينكروا. ولعل هذا ما أغضب المأمون في كتابه الرابع أشد الغضب، فأمره أن يستدعي بشر بن الوليد، فإن أصر على شركه، ولم يقل إن القرآن مخلوق فاضرب عنقه وابعث برأسه إلَّي، وإن تاب فأشهر أمره بالتوبة وأمسك عنه، وكذلك أمره في إبراهيم بن المهدي؛ وأما غير هذين فلم يأمر بضرب عنقهم، ولكنه عرَّض بهم، وذكر أفعالهم ومخازيهم ليبين أن امتناعهم ليس عن دين، ولكن عن تصنع؛ «فالذيال بن الهيثم» يقول المأمون إنه كان يسرق الطعام في الأنبار. و«أبو العوام» صبي في عقله لا في سنه، ويقول: إنه سيحسن الجواب في القرآن إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك. و«أحمد بن حنبل» إجابته تدل على جهله، و«الفضل بن غانم» اغتنى في مصر من منصبه في أقل من سنة، ومحمد ابن حاتم وابن نوح وأبو معمر فإنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على حقيقة التوحيد. وهكذا استمر يعدد لكل رجل امتحنه عيوبه؛ ثم أمر المأمون إسحاق في كتابه هذا أن يعيد الكرَّة عليهم، فمن أبى غير بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي «فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في طريقهم حتى يؤديها إلى عسكر أمير المؤمنين ويسلمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه لينصحهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعًا على السيف إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله».

وقد أسرع المأمون بإرسال هذا الكتاب غير منتظر اجتماع البريد، فجمعهم إسحاق ثانية، وكانوا نحوًا من ثلاثين قاضيا ومحدثًا وفقيهًا، فأعاد امتحانهم وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فأقروا جميعًا بأن القرآن مخلوق إلا أربعة: أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمد بن نوح؛ فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدوا في الحديد، فلما أصبحوا أعاد امتحانهم ثالثة، فاعترف سجادة بخلق القرآن فأطلقه، وبعد يوم آخر أجاب القواريري بأن القرآن مخلوق فأخلى سبيله، ولم يبق بعد من هؤلاء إلا أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فشُدَّوا في الحديد، ووُجِّها إلى طرسوس للمأمون؛ وكتب إسحاق كتابًا إلى المأمون يخبره بإشخاصهما، وكتب كتابًا آخر يذكر فيه أن القوم الذين أجابوا لم يجيبوا عن عقيدة، وإنما أجابوا عن تأويل، وقد تأوّلوا أنهم مكرهون، وليس على المكره حرج.

فبعث المأمون كتابًا خامسًا يعلن أن هؤلاء أخطأوا التأويل، وليست الآية: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ منطبقة عليهم، «إنما عني الله بهذه الآية من كان معتقد الإيمان مظهر الشرك، فأما من كان معتقد الشرك مظهر الإيمان فليست الآية له». ثم أمر بإشخاص — من أبى — إليه في طرسوس، فأرسل واحدًا وعشرين كانوا امتنعوا عن الإقرار بخلق القرآن؛ فلما كانوا في الرقّة بلغتهم وفاة المأمون، فأعادهم والي الرقة إلى والي بغداد فخلى هذا سبيل أكثرهم.

فأما محمد بن نوح فقد مات وهو عائد إلى بغداد بعد موت المأمون، ففك عند قيده وصلى عليه ابن حنبل. وتركزت رياسة المعارضة في أحمد بن حنبل، فكان زعيمها وعَلمها ومتجه الأنظار فيها، ولذلك لم يخل سبيله كما خلي غيره؛ وبذلك انتهى المأمون وانتهى دوره في المحنة.

وقد كتب المأمون وصيته للمعتصم، وجاء فيها مما يتصل بموضوعنا: «وخذ بسيرة أخيك في القرآن»، كما أوصاه بابن أبي دؤاد وحرصه عليه وإشراكه في المشورة في أموره كلها.

كان المأمون عالمًا فكانت كتبه في خلق القرآن تصدر عن علمه، ولكن المعتصم كان رجلًا جنديًا كره العلم منذ صغره، فكان كما قال الصولي: «يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة»، وكانت ثقافته من جنس ثقافة الذين يجربون الحياة ويسمعون أحاديث الناس والعلماء، ولم نعد نرى مجالس المناظرة في قصره كالتي كانت في عهد المأمون. فقد نفذ الامتحان بخلق القرآن في عهده لأنه وكِّل بذلك من المأمون في العهد الذي صار به خليفة، فكان يرى أنه ملزم بذلك؛ لهذا استمر على طريقة المأمون ولكن لم يصدر منشورات جديدة فيها معان وحجج جديدة — فكتب إلى الأمصار بالاستمرار في امتحان الناس بخلق القرآن، «وأمر أن يعلموا الصبيان ذلك، وقاسى الناس منه مشقة في ذلك، وقتل عليه خلقًا من العلماء، وضرب الإمام أحمد بن حنبل، وكان ضربه في سنة عشرين و(مائتين)».

وأصر أحمد بن حنبل على امتناعه عن القول بخلق القرآن، وأصرت دولة المعتصم على حمله على ذلك، واتجهت أنظار الجمهور يعجبون بصلابة أحمد، واتجهت أنظار رجال الدولة لأنه يتحداهم. وظل محبوسًا من آخر عهد المأمون. وكان يتسلل إليه قوم، منهم عمه إسحاق بن حنبل، يطلبون إليه أن يقول بخلق القرآن تَقّيةًً كما قال غيره من العلماء، فيقول: «إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل، فمتى يتبينّ الحق»، فذُكر له ما روي في التقية من الأحاديث، فقال: كيف تصنعون بحديث خباب: «إن من كان قبلكم يُنشر أحدهم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه»، فيئسوا منه.٢١٩

ثم دعاه المعتصم فأدخل والمعتصم جالس، وابن أبي دؤاد وأصحابه في حضرته والدار غاصة بأهلها، وبالقضاة والفقهاء من أتباع الدولة، فأمرهم أن يناظروه؛ وهذه خلاصة المناظرة:

المعتصم : ما تقول؟
ابن حنبل : أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن جدك ابن عباس يحكي أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله. فقال: أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة وإتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخُمس من المغنم (يعني أحمد بن حنبل أن ليس منه القول بخلق القرآن). يا أمير المؤمنين: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسوله أقول به.
أحد الحاضرين : قال الله تعالى: مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ أفيكون محدث إلا مخلوق؟
ابن حنبل : قال الله تعالى: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، فالذكر هو القرآن وتلك ليس فيها ألف ولام.
آخر : أليس قال الله خالق كل شيء؟
ابن حنبل : قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فهل دمرت إلا ما أراد الله؟
ثالث : ما تقول في حديث عمران بن حصين: إن الله خلق الذكر؟
ابن حنبل : هذا خطأ، إن الرواية إن الله كَتَبَ الذِّكْرَ.
رابع : جاء في حديث ابن مسعود: «ما خلق الله من جنة ولا نار، ولا سماء ولا أرض، أعظم من آية الكرسي».
ابن حنبل : إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض ولم يقع على القرآن.
خامس : إن القول بأن كلام الله غير مخلوق يؤدي إلى التشبيه.
ابن حنبل : هو أحد صمد لا شبيه له ولا عدلِ، وهو كما وصف به نفسه.
المعتصم : ويحك ما تقول؟
ابن حنبل : يا أمير المؤمنين أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسوله.
بعض الحاضرين : يحاجه بحجج عقلية.
ابن حنبل : ما أدري ما هذا؟ إنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله.
بعض الحاضرين : يا أمير المؤمنين إذا توجهت له الحجة علينا وثب، وإذا كلمناه بشيء يقول لا أدري ما هذا؟
ابن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل مبتدع.

وهكذا ينفض المجلس، ويعاد إلى الحبس ويوكَّل به من يناظره، ويعاد إلى مجلس آخر على هذا النمط، واستمرت هذه المناظرات ثلاثة أيام.

فلما ملوا مناظرته ويئسوا منه، أمر المعتصم بضربه بالسياط، فضُرب كما قال المسعودي «ثمانية وثلاثين سوطًا» حتى سال منه الدم، وتعددت فيه الجراحات ثم أُرسل إلى السجن، وأُرسل إليه طبيب يعالج جراحاته، فعالجه حتى برئ.٢٢٠
ويروون أن ابن أبي دؤاد حرّض المعتصم على قتله، وقال: «يا أمير المؤمنين إن تركته قيل إنك تركت مذهب المأمون وسخطت قوله وإنه غلب خليفتين»، ولكن المعتصم اكتفى بضربه على نحو ما ذكرنا، ثم أمر به فخلي سبيله.٢٢١

ولم يقتله المعتصم كما قتل غيره (مع أنهم يروون أنه حتى في اليوم الذي دعا المعتصم ابن حنبل لامتحانه كان قد قتل قبله رجلين)، وهذا يرجع لأسباب: منها أن جمهور الناس التفوا حول ابن حنبل أكثر من التفافهم حول أي شخص آخر، فإذا قتله المعتصم كانت فتنة. قال ميمون بن إصبع: «أخرج أحمد بعد أن اجتمع الناس وضجوا حتى خاف السلطان» ويروون أيضًا أنه قال: «لو لم أفعل ذلك لوقع شر لا أقدر على دفعه»، ومنها: أن المعتصم أعجب بشجاعته وثباته على ما يعتقد أنه الحق، فلم يخف ولم يهن؛ وكان المعتصم شجاعًا يحب الشجعان؛ هذا إلى أنه قرأ في وجهه أنه ليس بمنافق يريد التظاهر بالورع، بل قرأ فيه أنه يتكلم عن عقيدة، ويصرح بأن الله قديم وليس كمثله شيء، ولكن لا يقول بخلق القرآن لأن الله لم يقله، ورسوله لم يدع إليه.

ومات المعتصم سنة ٢٢٧، أي بعد محنة أحمد بن حنبل بسبع سنوات، فلم يتعرض له؛ وخلفه الواثق، وكان مثقفًا ثقافة واسعة أيضًا، وكانت أمه رومية اسمها «قراطيس». قال الصولي: «كان الواثق يسمى المأمون الأصغر لأدبه وفضله»، بل فضله بعضهم على المأمون من ناحية أنه كان أكثر رواية للشعر العربي من المأمون؛ فتعصب للقول بخلق القرآن عن علم وعقيدة.

وأظهر ما حدث في أيامه حادثة أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي، كان جده مالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس في أول الدولة العباسية، ولذلك يقولون إنه كان من أولاد الأمراء، وكان يرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أعني أنه كان يرى تنفيذ ذلك بيده، والخروج على الحكومة إن جارت، والثورة عليها فيما انحرفت فيه عن الصواب، وتبعه على ذلك أتباع كان يستعملهم في خطته؛ ولم يعجبه المأمون في سيرته، فثار هو وأتباعه ببغداد أيام كان المأمون بخراسان، فلم قدم المأمون بغداد استتر أحمد بن نصر؛ فلما ولي الواثق استمر في خطته، وعزم هو وأتباعه على الثورة، فوصل الخبر إلى والي بغداد إسحاق ابن إبراهيم، فقبض عليه وعليهم، وقدم إليه أحمد، فقال الواثق: دع ما أُخِذت له، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله، ليس بمخلوق، فحمله على أن يقول إنه مخلوق فأبى؛ وسأله عن رؤية الله يوم القيامة (والمعتزلة كما رأيت ينكرونها) فقال بها، وروى له الحديث في ذلك، فقال الواثق: ويحك هل يُرى كما يرى المحدود المتجسم، ويحويه مكانه ويحصره الناظر، إنما كفرت برب هذه صفته.

فأمعن بعض الحاضرين في الحصن على قتله، فدعا بالسيف وقال: إني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربًا لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها، ثم مشي إليه فضرب عنقه، وأمر به فحمل رأسه إلى بغداد، فنصب بالجانب الشرقي أيامًا والجانب الغربي أيامًا. ولما صُلب كتب الواثق ورقة وعلقت في رأسه نصها: «هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون (وهو الواثق) إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجله الله إلى ناره، ووكل بالرأس من يحفظه ويصرفه عن القبلة».٢٢٢
وظاهر أن بعض غضب الواثق سببه ثورة أحمد بن نصر، وخروجه عن الطاعة وحمل الناس على العصيان، وجاء خلق القرآن خاتمة الغضب، ومظهر الانتقام. ولم يتعرض الواثق لأحمد بن حنبل، ولكن روى بعضهم أن الواثق أمره ألا يساكنه بأرضه، فاختفى ابن حنبل حتى مات الواثق.٢٢٣

ثم مات الواثق سنة ٢٣٢ وبويع للمتوكل فلم يتحمس، للقول بخلق القرآن، ففترت حركة الامتحان حتى سنة ٢٣٤ «فنهي فيها عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك إلى الآفاق، وتوفر دعاء الخلق له، وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له، حتى قال قائلهم، الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رده المظالم، والمتوكل في إحياء السنة»، مع ما كان عليه من الظلم والتعسف. وكما شغل الناس في العراق — مستقر الدولة — بالجدل في خلق القرآن شغل الناس في كل قطر من الأقطار الإسلامية، فكان الجدل بين العلماء وامتحان الأمراء للعلماء والقضاة والحكام في مصر والشام وفارس وغيرها من البلدان.

فيحدثنا أبو المحاسن في كتاب النجوم الزاهرة أن كتاب المأمون الأول الذي صدر لإسحاق بن إبراهيم — والي بغداد — في ربيع الأول سنة ٢١٨ وصل إلى مصر في جمادى الآخرة ونصه كنصه، وكان الوالي على مصر نصر بن عبد الله الملقب «كَيْدَر»، فامتحن كيدرُ قاضي مصر هارون بن عبد الله الزهري، فأجاب بالقول بخلق القرآن؛ وامتحن الشهود، فمن توقف منهم عن القول بذلك سقطت شهادته،٢٢٤ وامتحن القضاة وأهل الحديث وغيرهم.٢٢٥
وقال كيدر يمتحن الناس حتى جاء الخبر بموت المأمون قبل أن يقبض على من طلبه المأمون؛ ثم ولي مصر المظفر بن كيدر، فأتاه كتاب المعتصم يأمره أن يمتحن العلماء بخلق القرآن بمصر ففعل ذلك. ثم ولي موسى بن العباس مصر سنة ٢١٩، فيذكر أبو المحاسن «أنه أباد فقهاء مصر وعلماءها إلى أن أجاب غالبهم بالقول بخلق القرآن».٢٢٦

وكان من أشد الناس تحمسًا للقول بخلق القرآن، وتعذيب من أنكر من المصريين، محمد بن أبي الليث قاضي مصر في بعض أيام المعتصم وفي أيام الواثق، وكان يناصر المعتزلة، وكان حنفي المذهب، وكان يكره المالكية والشافعية، فاضطدهم واستغل المحنة بخلق القرآن لتعذيبهم والإيقاع بهم، وبجانبه شاعر مصر إذ ذاك الحسين بن عبد السلام الجمل يشيد بذكره ويتشفى ممن نكل به.

ويذكر في قصيدة من قصائده أنه نكل بالشافعية والمالكية، وما زال يعذبهم حتى اعترفوا بخلق القرآن، وصار الأمر كما قال:

كل ينادي بالُقرآن وخلقه
فَشَهرتَهُمْ بمقالة لم تُشْهَر
لم ترض أن نَطَقَت بها أفواهُهُم
حتى المساجدُ خَلْقَه لم تُنْكِرِ
لما أَرَيتَهُمُ الردى متصوَّرا
زعموا بأن الله غيُر مُصَوَّرِ

فبعض الناس لزم بيته فلم يظهر، وبعضهم هرب إلى اليمن، وكان ممن هرب ذو النون المصري الصوفي، ثم عاد فقبض عليه وامتحن فأقر.

ولما ولى الواثق ورد كتابه على محمد بن أبي الليث بامتحان الناس أجمعين، فلم يبق أحد من فقيه ولا محدّث ولا مؤذن ولا معلم حتى أُخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس وملئت السجون ممن أنكر المحنة؛ وأمر ابن أبي الليث أن يكتب على المساجد: (لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق)، فكتب ذلك على المساجد بفسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد، وأمرهم ألا يقربوه.٢٢٧

واستمر الحال على ذلك في أيام الواثق، ثم ورد كتاب المتوكل مصر برفع المحنة والسكوت عن هذه المقالة جملة.

وكان ممن نُكِّل به بمصر في أيام الواثق يوسف بن يحيي البُويْطي صاحب الإمام الشافعي ووارث علمه — وشى به حَرْمَلة والمزني وابن الشافعي، ولعلهم نفسوا عليه علمه. وقيل وشى به ابن أبي الليث الحنفي قاضي مصر، فكتب ابن أبي دؤاد إلى والي مصر أن يمتحنه، فأبى أن يقول بخلق القرآن، وقال: «إنما خلق الله الخلق بكن، فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقًا خلق بمخلوق، ولئن أُدخلت عليه (على الواثق) لأصدقته، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم. وقد حُمل من مصر إلى بغداد ومات في سجنها سنة ٢٣١.

ولم يقتصر الأمر على محاكمة الولاة للناس؛ بل كانت مجالس الخاصة والعامة تلوك هذه المسألة. فإذا جلس عالم مجلسًا سأله سائل: هل القرآن مخلوق؟ وإذا خلا الناس بعضهم إلى بعض تحدثوا في أخبار خلق القرآن؛ ومن حقد على آخر وأراد أن يدسّ عليه اتهمه بأنه يقول القرآن غير مخلوق.

وقد ورد من ذلك أن البخاري اتهم بأنه يقول إن اللفظ بالقرآن مخلوق، فلما كان بنيسابور وحضر الناس لسماعه قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن، أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه ولم يجبه، فأعاد السؤال فأعرض عنه، ثم أعاد فالتفت إليه البخاري وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة. فشغب الرجل وشغب الناس، وتفرقوا عنه.٢٢٨

وسبب شغبهم عليه أنه أراد أن يفرق بين القرآن وهو كلام الله، والقرآن الذي هو نطقنا به، وكتابتنا له، وأراد أن يقول إن الأول قديم والثاني محدث، فشغبوا عليه لأنه يقول إن الثاني محدث، إذ يريدون أن يقال إنه قديم حتى ألفاظنا به.

والأمثلة من هذا القبيل كثيرة، وأسئلة وإجابات، وفتن ودسائس، بل وأدخلوا المسألة في المزاح والأدب أيضًا.

رووا أن رجلًا من الظرفاء سمع آخر يقرأ قراءة قبيحة، فقال: «أظن هذا هو القرآن الذي يزعم ابن أبي دؤاد أنه مخلوق».

ودخل عبادة المخنث على الواثق وقال له: يا أمير المؤمنين، أعظم الله أجرك في القرآن. قال: ويلك، القرآن يموت؟ قال: يا أمير المؤمنين كل مخلوق يموت، بالله يا أمير المؤمنين من يصلي بالناس التراويح إذا مات القرآن؟ فضحك الخليفة وقال: قاتلك الله! أمسِكْ.

وقال أبو العالية:

لو كان رأيك منسوبًا إلى رَشَدٍ
وكان عزمك عزمًا فيه توفيقُ
لكان في الفقه شُغْلٌ لو قنعتَ به
عن أن تقولَ كلامُ الله مخلوقُ
ماذا عليك وأصل الدين يَجمعُكُمُ
ما كان في الفرع لولا الجهل والموق

وكان بعض القصاص بأصبهان يتشدد في القول يخلق القرآن، فسئل معاوية: هل كان مخلوقًا؟ فقال: نعوذ بالله من نهايات الجهالات … إلخ.

•••

وبعد، فما هذه المسألة وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟ وكيف بلى بها المسلمون هذا البلاء؟ وما الداعي إليها؟ وما وجهة نظر كل فريق؟ وما نتائجها؟ هذه أسئلة تجول في ذهن الباحث لأن المسألة غريبة في بابها، وكانت أشبه بمحكمة التفتيش تمتحن فيها العقائد ويعذب عليها الناس.

أما الداعي لحزب الحكومة من معتزلة وخلفاء، ففي رأيي أن نيتهم حسنة وقصدهم حميد، فقد رأى المعتزلة من أول أمرهم — من عهد واصل وعمرو بن عبيد — أن عقائد الناس قد فسدت ويجب تصحيحها، وفي نظرهم أن التصحيح يجب أن يدور على توحيد الله وعدله، وجرهم القول في التوحيد إلى التوحيد بكل معانيه، ورأوا أن القول بقدم القرآن تعديل للقديم، كما أنكروا الصفات لأن فيها تعديدًا، وأنكروا رؤية الله لأن فيها تجسيمًا، فأرادوا أن يدعوا الناس إلى تنزيه فلسفي وتوحيد فلسفي لا تجسيم فيه، ولا تشبيه، ولا تعدد، وكانوا يبثون دعاتهم في الأمصار والبلاد النائية لدعوة الناس إلى ذلك، فإذا أتيحت لهم فرصة في سلطة وقوة استعملوها؛ فمن رأوا منه انحرافًا عن الدين، وميلًا إلى الإلحاد، وإفسادًا لعقيدة الناس، حاربوه وهددوه، وإن استطاعوا قتلًا قتلوه، وبذلوا جهدًا كبيرًا في نشر مذهبهم، وعنونوه بمذهب التوحيد والعدل، وأرسلوا الدعاة لذلك في الهند وفي المغرب وفي مصر والشام وفي فارس، فلبى دعوتهم خلق كثير — ولكن في أدوارهم الأولى لم يظفروا بانضمام الحكومة إليهم — نعم ظفروا بالحكومة في آخر الدولة الأموية، ولكنها كانت صائرة إلى الزوال، وكانت في شغل عن الاعتزال بتوطيد مركزها الذي ينهار. فلما جاء المأمون في العصر العباسي مال إلى نفس الفكرة، ورأى أن يكوّن مجمعًا يتباحث عنده في المذاهب، وينقد صحيحها من فاسدها، ويكون الجدل حُرًا والبحث صريحًا، فما اتفق عليه الرأي ألزم الناس العمل به.٢٢٩ وشاء القدر أن يكون مظهر هذا مسألة خلق القرآن، لأنها أثيرت من قبل — كما رأيت — ولأنها مسَّت أصلًا من أصول الدين وهو التوحيد؛ وكان يمكن أن يكون المحك مسألة أخرى كرؤية الله يوم القيامة، وكخلق الأفعال؛ ونحو ذلك من مسائل الاعتزال؛ ولكن مسألة خلق القرآن كانت أوضح، وعُذْرُ المنكر فيها أضعف، فإن رؤية الله يستطيع أن يهرب المجيب بأنا سنكون يوم القيامة خلقًا آخر، ليست عيوننا كعيوننا في الدنيا، ولأن مسألة خلق الأفعال ليست جلية، ففي القرآن آيات تدل على هذا وذاك، أما خلق القرآن فعليه الأدلة العقلية والنقلية جلية.

ثم في كل مسائل التاريخ توجِّه الظروف الحوادث جهات قد لا تخطر على البال؛ فقد أصدر المأمون «ديكريتو» بتحليل المتعة وبتفضيل عليّ، ولكن لم تتطور الحوادث فيهما كتطورها في هذه المسألة، لأن المأمون اكتفى فيهما بالقرار ولم يصدر أمرًا بالامتحان؛ أما في خلق القرآن فأصدر أمرًا بالامتحان، وكانت وجهة نظره في ذلك أن القضاة والشهود يجب أن يكونوا مؤمنين ولا يوثق بأحكام القضاة ولا شهادة الشهود إذا فسدت عقيدتهم؛ كما صرّح هو بذلك في كتابه الأول، ومن اعتقد بقدم القرآن فقد أشرك، ومتى أشرك لم يصح منه حكم ولا شهادة؛ ولكنه نظر فرأى قومًا لما امتحنوا أنكروا القول بخلق القرآن وقومًا لم يريدوا أن يصرّحوا؛ وغاظه جدًا أن يرى قومًا من هؤلاء وهؤلاء يعرف منهم سوء النية وضعف الدين، فمنهم المرتشي والمرابي، وأنهم قد حملهم على مخالفته حب الحظوة عند العامة، فتألم من هذا. وكان المأمون مع حلمه له لحظات حدَّة، وانفعالات غضب، فثار ثائره واشتد في طريقه، وغلا في عمله، ومن حوله من المعتزلة يدفعونه أيضًا إلى ذلك لأنه وفق عقيدتهم، ولأنه وفق هواه.

ومن الناحية الأخرى، فالناس من طبيعتهم حب المعارضة والعطف عليها، سواء في ذلك المعارضة السياسية والمعارضة الدينية، وهم أشد تحمسًا للمعارضة الدينية، فوقف المأمون ورجاله في صف، ووقف هؤلاء العلماء المعارضون والعامة من ورائهم، وتكوّن بذلك معسكران، وكلما أفرطت الحكومة في التعسف أفرط العامة في التصفيق للمعارض. وظلت كل خطوة تدفع إلى ما وراءها. وكلما علت نغمة حزب أعلى الآخر نغمته حتى تفوقه. وفي عهد المعتصم صار زعيم الحكومة الخليفة؛ وحوله العلماء المعتزلة ورجال الدولة؛ وزعيم المعارضة أحمد ابن حنبل وحوله قلوب الشعب.

وتورطت الحكومة وأصبح من الصعب رجوعها، لأنها من ناحية تعتقد أنها على حق، وأن خصومها ليسوا إلا مشاغبين، وأكثرهم يحب التصفيق أكثر من حبهم للحق. ومن ناحية أخرى فالرجوع عن ذلك يضيع هيبة الحكومة، ويمكن العامة وقادتهم الجهال في نظرهم من السيطرة على الحكومة، وفي هذا خطر كبير.

هذه هي وجهة نظر المعتزلة والحكومة. وأما وجهة نظر المعارضين، فيظهر لي أنهم لم يكونوا جميعًا على رأي واحد كما كانت المعتزلة، بل كانوا أصنافًا، أمثلهم قوم كانوا في باطن أنفسهم مع المعتزلة في أن القرآن مخلوق، ولكنهم يرون أن الكلام في هذا لا يصح، ولا يصح أن يصل إلى العامة، لأنهم ليسوا أهلًا للنظر، وأنا إذا قلنا لهم القرآن مخلوق لم يبق في نفوسهم إلا شيء واحد هو عدم التقديس والإجلال، وهذا يدعو إلى ضعف العقيدة، فوجب أن يسد هذا الباب بتاتًا، حفظًا لدين العامة وهم السواد الأعظم في الأمة. ولذلك كان هؤلاء إذا سئلوا لم يجيبوا ولم يقولوا إنه مخلوق ولا إنه غير مخلوق، ولا يزيدون عن قولهم إنه كلام الله. وزادهم إيمانًا بذلك أنها مسألة لم تثر في عهد النبي ولا صحابته، فما الداعي إلى إثارتها الآن؟ وقد كان إيمان النبي والصحابة والتابعين موفورًا من غير هذه المسألة، والقول فيها بنفي أو إثبات.

ومن هذا القبيل ما روي أن الواثق أُتى بشيخ بحضرة ابن دؤاد، فسئل: ما تقول في القرآن؟ قال الشيخ: لابن أبي دؤاد لم تنصفني ولي السؤال. قيل: سل. قال: هل هذا شيء علمه رسول الله ؛ وأبو بكر وعمر والخلفاء؟ أم شيء لم يعلموه فقال ابن أبي دؤاد: لم يعلموه. فقال الشيخ: سبحان الله! شيء لم يعلموه، أعلمته أنت؟ وفي رواية أنه أعاد عليه السؤال، فقال ابن أبي دؤاد: علموه ولم يَدْعوا إليه. فقال الشيخ: هل وسعهم ذلك؟ قال: نعم: قال الشيخ: أفلا وسعك ما وسعهم؟!

ومثله ما رواه العقد الفريد أن بشرا المريسي كتب إلى أبي يحيي منصور بن محمد يسأله: القرآن خالق أو مخلوق؟ فكتب إليه أبو يحيى: «عافانا الله وإياك من كل فتنة، وجعلنا وإياك من أهل السنة، وممن لا يرغب بنفسه عن الجماعة، فإنه إن يفعل فأعظِم بها منَّةً، وإن لا يفعل فهي الهلكة، ونحن نقول: إن الكلام في القرآن بدعة يتكلف المجيب ما ليس عليه، ويتعاطى السائل ما ليس له، وما نعلم خالقًا إلا الله، وما سوى الله فمخلوق، والقرآن كلام الله، فانته بنفسك إلى أسمائه التي سماه الله بها، فتكون من المهتدين، ولا تسمِّ القرآن باسم من عندك فتكون من الضالين جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون».٢٣٠
وقد روي أن البوَيطِي قال له الوالي: قل إن القرآن مخلوق فيما بيني وبينك، قال: «إنه يقتدي مائة ألف ولا يدرون المعنى».٢٣١
ومن أجل هذا كان أحمد بن حنبل يكره من يتكلم في المسألة بنفي أو إثبات، فقد روي أنه قيل للكرابيسي، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله غير مخلوق، فقال له السائل: فما تقول في لفظي القرآن؟ فقال: لفظك به مخلوق. فروي هذا لأحمد بن حنبل، فقال: هذه بدعة. وروي أن السائل رجع على الكرابيسي ونقل له قول أحمد واستنكاره، فقال الكرابيسي: إذا فتلفظك بالقرآن غير مخلوق. فرويت لأحمد فأنكر ذلك أيضًا وقال: هذه بدعة.٢٣٢ وعلق السبكي على ذلك بقوله: «وهذا يدلك على أن أحمد إنما أشار بقوله (هذه بدعة) إلى الكلام في أصل المسألة … والسلف لم يكونوا ينكرون أن لفظنا حادث، وأن سكوتهم إنما هو عن الكلام في ذلك لا عن اعتقاده». وقال في موضع آخر: «والسر في ذلك تشديدهم في الخوض في علم الكلام خشية أن يجرهم الكلام فيه إلى ما لا ينبغي، وليس كل علم يفصح به».

هؤلاء هم أمثل المعارضين؛ وهناك قوم أداهم السخف إلى القول بقدم القرآن حتى المكتوب في المصاحف، والملفوظ به في ألسنتنا، وهو قول جر إليه ضيق النظر وضعف العقل، وقد نسب الذهبي إلى ابن حنبل القول بقدم الألفاظ، وما أظنه كذلك، كما نفاه السبكي عنه نفيًا باتًا.

فإن نحن تساءلنا: أي الحزبين على حق؟ قلنا: إن المعتزلة والمأمون وإن كان رأيهم العلمي حقًا وصحيحًا، فإن خصومهم على حق في ألا تثار هذه المسألة أمام العامة. وقد أخطأ المعتزلة والحكومة خطأين: (الأول) إرادتهم إشراك العامة في هذه المسائل، والعامة أبعد الناس عن ذلك، وكيف يفهمون علم الكلام وهو علم دقيق تاهت فيه عقول الخاصة؟ إنما هو للفلاسفة وأمثالهم، لا للعامة وأشباههم. هل يريد المعتزلة أن يفهم العامة صفات الله، وهل هي عين الذات أو غير الذات، وأن الرؤية تقتضي أن يكون المرئي محدودًا في مكان؟! إن فهموا هذا فهو خرق في الرأي، وقد قبل النبي من الجارية أن تعتقد أن الله في السماء وأن تشير إليه، لأن عقلها لا يسمح لها بأكثر من ذلك، ولم يحاول أن يفهمها أنه ليس في مكان، فمحاولة المعتزلة تفهيم العامة ما هو أدق من ذلك تكليف بما لا يطاق.

والخطأ الثاني حملهم الحكومة أن تتدخل بسلطانها وسيوفها وسياطها وجنودها وولاتها في هذه المسألة، فكأنهم أرادوا أن يجعلوا مجالسهم للجدل والمناظرة مجمعًا كمجامع القساوسة يقررون فيه ما يشاؤون، ثم يرغمون الناس على القول بما يقررون، بل زادوا عليهم قسوة وتعذيبًا. وقد دلوا بعملهم هذا على جهلهم بنفسية الشعوب، وجهلهم بتاريخ انتشار العقائد؛ فالعقيدة لا ينشرها التعذيب، إنما ينشرها الإقناع، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. وقد غلوا غلوًا شنيعًا في أنهم عدو السكوت عن القول بخلق القرآن إشراكًا؛ فالإسلام عماده «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، فمن قالها عصم دمه وحسابه بعدُ على الله.

وأشد ما يدعو إلى الغرابة أن يكون مصدر هذا التعذيب والمحنة هم المعتزلة الداعين إلى حرية الفكر والقائلين بسلطة العقل، فقد كان الظن بهؤلاء التسامح في العقيدة والبعد عن الضغط والتعذيب. ولكن المعتزلة كما قلنا كانوا عقليين، وكانوا متزمتين في عقليتهم، فهم يؤمنون بسلطان العقل، ولكنهم يرون أن من لا يحكّم عقله كما حكّموا أنعام أو كالأنعام. ويجب أن يحمل من لا يعقل على قول من يعقل؛ وفاتهم أن العقول متفاوتة وأنماطها مختلفة، وأن القول بسلطان العقل يقضي أن يعذر من ضاق عقله ويسمح له أن يسير في حياته حسب عقله الضيق ما لم يضر بمصلحة عامة.

لقد تجلى في هذه الحركة بأجلى بيان صراع العقل والعاطفة، كان العقل والمنطق في جانب المعتزلة، والعواطف في جانب الجمهور والمحدّثين. وكان عقل المعتزلة عقلًا حادًا جافًا فلسفيًا، وأضعف نقطة فيه أنه يراد أن يفرض على العامة فرضًا، يراد أن تكون الأمة فلاسفة تعرف الجوهر والعرض والكمية والكيفية، والمحدود واللا محدود، والوحدة والتعدد والمكان والجهة، وإلى الآن لم يخلق الله أمة كلها فلاسفة على هذا النمط، ولا أدري إن كان ذلك في مصلحة الإنسانية أو لا.

والمعارضون شعب يؤمن بقلبه لا عقله، ولا يستطيع أن يفهم ما يقوله المعتزلة في صفات الله، وزادهم فيه كراهية أن الحكومة تنصره، والجنود بسيوفها وسياطها تؤيده، وأصحاب المناصب الكبيرة في كل ولاية تَمْتَحِن فيه، والناس دائمًا يكرهون من أعماق قلوبهم هذه المظاهر، ويدعون الخارج عليها بطلًا، ويحلّون رجال الدين يوم يبتعدون عنها، ويحترمون من يزهد فيها. وكُتُب التراجم مملوءة بإطراء من رفض عطاء من وال وسلطان؛ فلما رأوا السلطة تؤيد القول بخلق القرآن جال الشك في نفوسهم، وأحسوا إحساسًا من طريق الإلهام أن هذا القول لا يتفق والدين؛ والعقلاء من علماء المحدّثين فطنوا إلى هذا ورأوا أن العامة إذا تفلسفوا ألحدوا، وإذا قلت لهم إن القرآن مخلوق فذلك يساوي أنه يصح الرد عليه، ويجوز الإتيان بمثله وتصح مخالفته، ويمكن للعقل أن يأتي في التشريع ونحوه بخير منه، إلى غير ذلك من المعاني الغامضة التي قد تجول — مع غموضها — في أنفسهم ولا يستطيعون التعبير عنها، فرأى هؤلاء العقلاء من المحدّثين أن الكلام في نفس الموضوع لا يصح لا بالنفي ولا بالإثبات، وعبروا عن ذلك بأن الكلام فيه بدعة، حتى امتنعوا أن يقولوا ما هو ظاهر بالبداهة لا ينكره عاقل، وهو أن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، والحروف والورق في المصاحف مخلوقة، فهذا يكاد يكون محسوسًا، فألفاظنا تفنى بمجرد النطق بها، والمصحف عرضة للحريق والفناء بالزمان؛ ولكنهم مع إيمانهم بهذا لا يريدون أن يقولوا به المبدأ الذي ذكرنا. فتلاقى عقل العقلاء من المحدّثين مع عواطف العامة، وكونوا جبهة واحدة، وزادهم قوة معنوية أن الجنود والسلاح ليست معهم، وأن العذاب يوقَّع عليهم، وأن فضيلة التضحية إنما تظهر من جانبهم، وكلما عذب أحد من رجالاتهم زادهم برأيهم إيمانا — وهذا ما صرح به كبراؤهم كأحمد بن حنبل وأحمد بن نصر والبُوَيْطي، فقد قالوا جميعًا أقوالًا متشابهة تدل على أن إيمان العامة أصبح في عنقهم، وأن إقرارهم بخلق القرآن هزيمة للشعب، وهزيمة لإيمان الشعب، وشعور بخذلان الدين، فليضحوا بدمائهم وأنفسهم نصرة للدين وإعلاء لكلمة الله.

ومن الحق أن نقول إن في كل من المعسكرين من كانوا مخلصون لعقيدتهم، فأنا أعتقد أن مثل المأمون والواثق وأحمد بن أبي دؤاد كانوا مخلصين في آرائهم: رأوا أن ما يقولونه هو الحق، وأنا معهم أنه هو الحق، وإن لم أكن معهم في أن كل حق يقال لكل إنسان، وإن لم أكن معهم أيضًا في إلزام الناس أن يقولوا ما أرى أنا أنه الحق، ولكن الكثير في هذا المعسكر أتباع كل سلطان، إن قالت السلطة هو أحمر فهو أحمر، أو أسود فهو أسود. ويعبر عن ذلك تمام التعبير ما روي من أن جنديًا قال لأحمد بن حنبل لما امتُحن أمام المعتصم: «ويحك! إمامُك على رأسك قائم، والناس حولك، وتريد أن تغلب هؤلاء جميعًا؟»، وكثير من هؤلاء رأوا أنهم لا يستطيعون أن يبقوا في مناصبهم إلا إذا جاروا السلطة في رأيها فقالوا بذلك؛ كما أن في المعسكر الآخر مخلصين كابن حنبل وأشباهه، ومنهم من أعجبه تصفيق العامة، خصوصًا إذا لم يصل الأمر إلى السيف، ففضلوا أن يكونوا أبطال العامة على أن يكونوا جنودًا مجهولين في معسكر السلطان، لا سيما وكره العامة يكون أحيانًا أنكى وأوجع من سياط الحكومة، ومكافأة الجمهور قد تكون أروع من مكافأة الحكومة؛ لقد كوفئ أحمد بن حنبل من جمهور المسلمين مكافأة أين منها مكافأة المأمون والمعتصم والواثق لابن أبي دؤاد؟ لقد مات أحمد فقال فيه القائل:

أضحى ابن حنبل محنة مأمونة
وبحب أحمدَ يُعْرفُ المتنسِّك
وإذا رأيت لأحمدٍ منقِّصًا
فاعلم بأن سُتُوره ستُهتَّك

ويقول عبد الوهاب الوراق في جنازة ابن حنبل: «ما بلغنا أن جمعًا كان في الجاهلية والإسلام مثله، حتى إن المواضع التي وقف فيها الناس مسحت وحُزرتْ، فإذا هي نحو من ألف ألف، ولحزرنا على السور نحوًا من ستين ألف امرأة»، وكان الناس في الشوارع والمساجد حتى تعطلَ بعض الباعة، وحيل بينهم وبين البيع والشراء، وقيل في عدد المصلين عليه إنهم كانوا نحو ألف ألف وثلاثمائة ألف سوى من كان في السفن إلخ.

أضف إلى ذلك حرمة العلماء والمحدّثين له، حتى إن من وثّقه ابن حنبل وثِّق، ومن ضعَّفه ضعف، وكان أحد الأسباب التي يَبني عليها توثيقه وتضعيفه القول بخلق القرآن وعدمه.

وكان بجانب هؤلاء العقلاء من المعارضين طائفة أخرى سخيفة ضيقة العقل، لا تمتنع عن الكلام في القرآن، ولكنها تقول بقدمه حتى المكتوب والملفوظ، وربما دعاهم إلى ذلك أنهم رأوا الأئمة الكبار كأحمد بن حنبل يعارضون المعتزلة، فلم يفهموا سر معارضتهم ووجهة نظرهم، فظنوا أن المعتزلة يقولون بخلق القرآن، فيجب أن يقولوا هم بقدمه في كل مظاهره، وقد حكي هذا القول عن كثيرين.

ثم نلاحظ أن ما نقل إلينا من المناظرات كان ضعيفًا سطحيًا، فلم يتعرض المتجادلون لجوهر المسألة، ولا أثاروا حقيقة المشاكل، ولا برهنوا البراهين العقلية على وجهة نظرهم، ولا دخلوا في الصميم من الموضوع. وإذا نحن وازنّا بين هذه المناقشات التي رويت وبين الكتب التي صدرت عن المأمون، وجدنا كتب المأمون تعرضت لجوهر الموضوع، وأبانت وجهة نظره ونظر حزبه بخير مما تعرض له المناظرات. ولعل السبب في ذلك أمران، (الأول): أن المأمون أثناء المناظرات كان قد لحق بربه وخرج من ميدان المناظرة، وقد كان من أكبر أصحابه عقلًا ومن أقدرهم إقناعًا، ومن أوقفهم على حقيقة الموضوع. (والثاني): أن المناظرة كانت بين المعتزلة وخصومهم، وخصومهم محدّثون لا يرون علم ولا يقرأونه، ولا يتعلمون مصطلحاته وقواعده ومبادئه، فكان المعتزلة إذا ناظروهم في شيء من ذلك قال المحدثون: لا نعلم شيئا مما تقولون، كما حدث مع ابن حنبل، فيضطرون إذًا إلى المجادلة فقط في النصوص وفي المنقول لا المعقول، وهي دائرة ضيقة لا تتسع لبيان الأسباب الخفية والدواعي العقلية.

•••

ولعل المعتزلة أو كبراءهم كانوا يؤملون من وراء هذه المسألة آمالا واسعة، فكانوا يؤملون أن يصبح الاعتزال مذهب الدولة الرسمي، كما أن الإسلام دينها الرسمي، فإذا تم ذلك انتشر الاعتزال تحت حماية الدولة، وأصبح أكثر المسلمين معتزلة، فوحدوا الله كما يوحدون، واعتنقوا أصول الاعتزال كما يعتنقون، ويحرر المسلمون في أفكارهم، فأصبح المشرّعون لا يتقيدون بالحديث تقيد المحدّثين، إنما يستعملون العقل ويزنون الأمور بالمصالح العامة، ولا يرجعون إلى نص إلا أن يكون قرآنًا أو حديثًا مجمعًا عليه؛ وتتحرر عقول المؤرخين من المسلمين، فيتعرضون للأحداث الإسلامية بعقل صريح ونقد حر، فيشرحون أعمال الصحابة والتابعين ويضعونها في نفس الميزان الذي توزن به أعمال غيرهم من الناس؛ ثم تهجم العقول على فلسفة اليونان والهند والفرس فتستقي منها، وتُعمل — فيها — عقولها، وتأخذ منها ما لا يتنافى مع القرآن والحديث المجمع عليه. وتتحرر عقول العامة فلا يخافون من جن، لأن الجن لا ترى، ولا تصدق بغول وسعلاة، وعلى العموم لا يشلها الخوف من الخرافات؛ ولا يشلها الخوف من الله لأن الله في نظر المعتزلة ليس حاكمًا مستبدًا، بل هو تعالى قد ألزم نفسه بقوانين العدل، فالعدل سيرته تعالى وسيرتنا، وقانونه وقانوننا، ثم يؤمن الناس أنهم متسلطون على إرادتهم، قادرون على الخير والشر، ما صدر من خير فمن خلقهم وبإرادتهم، وما صدر من شر فمن خلقهم وبإرادتهم، ومن أجل ذلك يُجزوْن الجزاء الحسن والجزاء السيئ، فلا يرتكن أحد إلى القدر، ولا يتوقع مسيء مثوبة، ولا محسن عقوبة، بل جزاء الإحسان الإحسان، والإساءة الإساءة، وبهذا تكثر أعمال الخير في العالم، وتقل أعمال الشر، لأن التشكك في النتيجة، واعتقاد الإنسان أنه قد يغفر له إذا أساء، وقد يعاقب إذا أحسن، يقلل إيمانه في الخير والشر. قالوا: فإذا سَرَت هذه المبادئ في الناس ونفّذتها الحكومة زمنا، أشربتها قلوبهم، وجرت عليهم عاداتها، ونشأ عليها ناشئهم، فأصبح العالم الإنساني خير العوالم؛ فلنحتمل شرور المحنة، ولتذهب بعض الضحايا، فالغاية تبرر الوسيلة، ولا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل.

لعل هذه وأمثاله كان هو ما يتوقعه كبار المعتزلة عندما انغمسوا في المحنة، ولكن ماذا كان؟

كَرِه الناس الاعتزال لأن الحكومة احتضنته، ولأن المعتزلة أيام دولتهم عسفوا بالناس وبالمحدثين والعلماء، واستباحوا دماءهم، وملأوا منهم السجون؛ واستغل المشنعون هذا فأساءوا سمعتهم، وشوَّهوا دعوتهم، ودخلوا على أذهان العامة من الباب الذي يتفق وعقليتهم. قالوا: إن المعتزلة لا يرون أن الله يُرى يوم القيامة، فحرموا المؤمنين من أكبر لذة، والمعتزلة يقولون بخلق القرآن، فأنكروا قدسيته وعظمته وجلاله؛ وقالوا إن الإنسان يخلق أفعال الناس، فجعلوا مع الله آلهة يخلقون. ثم كان المعتزلة في دولتهم لا يضحّون، بل يغنمون المال والمناصب والجاه، والمحدّثون يضحون بالمال والمناصب والجاه والنفس، والناس مع من يضحي ولو لم يسألوا لِِمَ ضحَّى فتجمّع في اسم الاعتزال كل هذه المعاني الكريهة وأمثالها.

وجاء المتوكل فأعلن سنة ٢٣٤ إبطال القول بخلق القرآن، وهدّد من آثار هذه المسألة، ودعاه إلى ذلك ما رأى من قوة الرأي العام ضد الاعتزال، وما سببته هذه المسألة من مشاكل للدولة؛ فرأى أن يخلص من هذه المشاكل، ويريح نفسه وحكومته منها، ولم يقف موقف الحياد، بل أظهر الميل للمحدّثين ووقف بجانبهم «فاستقدم المحدثين إلى سامرا، وأجزل عطاياهم، وأكرمهم، وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية. وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة، فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه في جامع المنصور، فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس؛ وتوفر دعاء الخلق للمتوكل، وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له …. ثم أمر نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر أبي بكر محمد بن أبي الليث، (وهو الذي عذب الناس في المحنة)، وأن يضربه ويطوف به على حمار ففعل … وولى القضاء بدله الحارث بن مسكين من أصحاب مالك».٢٣٣ ومدح أبو بكر بن الخبازة المتوكل في ذلك فقال:
وبعدُ فإن السنّة اليوم أصبحت
معزَّزَةً حتى كأن لم تُذَلَّل
تصول وتسطو إذ أُقيم منارُها
وحَطّ منارَ الإفكِ والزُّور من عَلِ
وولى أخو الإبداع في الدين هاربًا
إلى النار يَهْوِي مُدبرا غير مقبل
شفى الله منهم بالخليفة جعفر
خليفته ذي الُّسنة المتوكِّلِ
خليفة ربي وابنِ عَمِّ نَبيهِّ
وخيرِ بَني العَبَّاس مَن منهمو وَلي
وجَامِع شَملِ الدينِ بعد تَشَتتٍ
وَفَاري رُءوسِ المارقينَ بمنْصلَ
أطال لنا ربُّ العباد بقاءَه
سليمًا من الأهوال غير مبدَّل
وبوَّأه بالنصر للدِّين جَنَّة
يجاور في رَوْضاتهِا خير مرسل
ووصفه المسعودي فقال: «لما أفضت الخلافة للمتوكل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدال، والترك لما كان عليه الناس في أيام المعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر الشيوخ المحدّثين بالتحديث، وإظهار السنة والجماعة».٢٣٤

ومدحه البحتري بقصائد كثيرة، منها في هذا المعنى الذي نحن بصدده، قوله:

قُل للخليفة جَعْفَرِ اْل
مُتَوَكِّل ابنِ المعتصم
المرتضَى ابنِ المجتَبى
والمنعِمِ ابن المنتقِمْ
أما الرَّعِيةُ فهي من
أمانِ عَدْلِك في حَرَمْ
يا بانِيَ المجد الَّذي
قد كان قَوِّضَ فانهدَمْ
اسلم لدين محمد
فإذا سَلِمْتَ فقد سَلِمْ
نلنا الهدَى بعد العَمى
بِكَ والغِنى بعد العدَمْ

ومع أنه كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه أهل السنة، واغتفروا له سوء فعاله لرفعه المحنة. ورأى له كثير من المحدثين رؤى في المنام تذكر أن الله غفر له.

وكان من أثر هذا حدوث رد فعل عنيف، فانتصر المحدّثون انتصارًا هائلًا، وأخذوا ينتقمون من المعتزلة بأيديهم وعلمهم، وأخذوا يجرّحون المعتزلة تجريحًا شنيعًا، بل يجرّحون من امتُحن فأقرّ؛ وأخذ أحمد بن حنبل رئيس المحدّثين يشرح الناس، فيحكم على هذا بالضعف، وهذا بالقوة، وكان من أكبر أدواته في الميزان القول بخلق القرآن، ولم يرض حتى على من خاف على نفسه فأقر، ولم يعدَّ هذا إكراهًا.. وسئل: إذا اجتمع رجلان، أحدهما قد امتحن، والآخر لم يمتحن، ثم حضرت الصلاة فأيهما يقدم؟ قال: يتقدم الذي لم يمتحن.. وسئل عمن قال لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: هذا لا يُكلم، ولا يُصلي خلفه، وإن صلى رجل أعاد.. واجتمع الأشعث بن قيس وجرير على جنازة، فقدّم الأشعث جريرًا وقال له: إني ارتددت (أي بالقول بخلق القرآن) وأنت لم ترتد. فروىَ هذا الخبر لابن حنبل فأعجب به.. وبلغ ابن حنبل أن القواريري سلّم على ابن رباح؛ فلما أراد القواريري أن يزور ابن حنبل قال له: ألم يكف ما كان من الإجابة حتى سلمت عليّ ابن رباح؟ ورد الباب في وجهه. وجاءه الخزامي — وكان قد بلغ ابن حنبل أنه زار أحمد بن أبي دؤاد — فطرده ابن حنبل، وأغلق وراءه الباب. ونهى الشهود عن أن يشهدوا أمام قاض جهمي (يريد معتزليًا) ولو استُعدي عليه.٢٣٥

وتعالت سلطة المحدّثين وعلى رأسهم الحنابلة، وقوي نفوذهم حتى كانوا حكومة داخل الحكومة، وحتى ذكروا أن محمدًا بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ألّف كتابًا في اختلاف الفقهاء لم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فسئل عن ذلك فقال: لم يكن أحمد فقهيًا، إنما كان محدّثًا، وما رأيت له أصحابًا يعول عليهم، فأساء ذلك الحنابلة، وقالوا إنه رافضي؛ وسألوه عن حديث الجلوس على العرش فقال: إنه محال، وأنشد:

سبحان من ليس له أنيسُ
ولا له في عرشه جليسُ

فمنعوا الناس من الجلوس إليه، ومن الدخول عليه، ورموه بمحابرهم، فلما لزم داره رموه بالحجارة حتى تكدست، وحتى ركب صاحب الشرطة ومعه ألوف من الجند لمنع العامة عنه ورفع الحجارة.

وبالغوا بعد في ذلك، حتى إنه في سنة ٣٢٣ «عظم أمر الحنابلة ببغداد وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون دور القواد والعوام، وإن وجدوا نبيذًا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، فأرهَجُوا بغداد».

فكان سلطانهم وقوة شوكتهم إجابة لعمل المعتزلة قبلهم. ومن عهد المتوكل ونجم المعتزلة في أفول، ومَن اعتزل فسِرًا، فإن جهر احتاج إلى شجاعة كبيرة، وعرض نفسه لغضب الناس عليه وكرههم له — يروي ابن زولاق في أخبار سيبويه المصري الموسوس المولود سنة ٢٨٤ والمتوفى سنة ٣٥٨ «أن سيبويه هذا اشتهى الجدل وعلم الكلام، وأخذ علم الاعتزال عن أبي عليّ بن موسى القاضي الواسطي وكان وجه المتكلمين بمصر؛ وكان سيبويه يظهر الكلام في الاعتزال في الطرق والأسواق فيحتمل، لما هو عليه (أي من الوسوسة والجنون)؛ حدثني من حضره يوم الجمعة في سوق الوراقين في جمع كبير، وفي الحاضرين أبو عمران موسى ابن رباح الفارسي المتكلم أحد شيوخ المعتزلة المشهورين، فكان سيبويه يصيح ويقول الدار دار كفر، حسبكم أنه لم يبق في هذه البلدة العظيمة أحد يقول القرآن مخلوق إلا أنا وهذا الشيخ أبو عمران أبقاه الله، فقام أبو عمران يعدو حافيًا خوفًا على نفسه حتى لحقه رجل بنعله».٢٣٦

فمن عهد المتوكل والسيادة للمحدثين ومنهجهم، ولم يسترد المعتزلة سلطتهم يوميًا بعد المحنة.

لقد كان عمرو بن عبيد أبعد نظرًا من ثمامة وابن أبي دؤاد، فقد عرض المنصور على عمرو بن عبيد أن يسمي له قومًا من أصحابه المعتزلة ليعهد إليهم ببعض أموره في الدولة فأبى، ولكن ثمامة وابن أبي دؤاد وأمثالهما اختطوا خطة الانتفاع بالحكومة فخسروا دولتهم. وكان المنصور أصدق نظرا من المأمون، فأدرك المنصور حق الإدراك مركز الخلافة، وأنها فوق الأحزاب وفوق المذاهب الدينية، يستعين بكل المذاهب، ولا يخضع سلطانه لواحد منها، يقرّب المعتزلة إذا شاء، ويقرب المحدثين والفقهاء ما لم تقض تعاليم أحدهم بشيء يمس سلطانه، فهناك التنكيل. أما في غير ذلك فواسع الصدر لجميعهم. ولكن المأمون خلط بين منصب الخليفة ومنصب المعلم، فأراد أن يكون خليفة ومعلمًا معًا، وفاته أن طبيعة الملك والخلافة إصدار الأوامر الحاسمة التي لا تحمل جدلًا ولا مناقشة. وطبيعة المعلم أن يعرض النظريات، ثم توضع نظرياته على بساط البحث، فتارة تقبل وتارة ترفض، والطبيعتان مختلفتان، فتعرَّض قوانين الدولة وأوامر الخليفة للعبث بها والشك فيها مفسد لها، ونظريات المعلم إذا اتخذت شكل «دكريتو» أفسدت العلم. وهذا ما حدث من المأمون يوم أن أصدر «ديكريتو» وعاقب مخالفها معاقبة من يخالف أمرًا رسميًا، فكانت النتيجة إخفاقًا تامًا له ولمن خلفه على مبدئه. وكانت إخفاقًا للمعتزلة لأنهم ربطوا أنفسهم به وبهم، ورضوا عنه وعنهم، وغامروا في الفتنة، وتولوا أمر المحنة.

والآن يحق لنا أن نتسائل: هل كان في مصلحة المسلمين موت الاعتزال وانتصار المحدثين؟

في رأيي أن ذلك لم يكن في مصلحتهم، وأنه كان خيرًا للمسلمين ألا يدخل المعتزلة في أحضان الدولة، وأن يعيشوا كما عاشوا في عهد المنصور، وأول عهد المأمون؛ فلو ساروا على هذا النهج، وسار المحدّثون على النهج الذي وضعوه لأنفسهم، لانتفع المسلمون من ذلك أكبر نفع، ولتغير تاريخ الإسلام؛ فحزب المعتزلة يمثل حزب الأحرار، وحزب المحدّثين يمثل حزب المحافظين؛ ومن مصلحة الأمة أن يكون الحزبان، يدفع المعتزلة الناس إلى إعمال العقل، وإطلاق الفكر ويتقدمون الناس بمشاعلهم وأضوائهم ينيرون السبيل أمامهم؛ ويحافظ المحدّثون على العادات والتقاليد الموروثة، ويتعلقون بأذيال المعتزلة يمنعونهم أن يندفعوا في السير حتى لا يَنبَتُّوا، فتسير الأمة سيرًا هينًا، ولكن إلى الأمام دائمًا. وإخلاء السبيل أمام طائفة من الطائفتين وفقدان الأخرى ضار ضررًا بليغًا.

فلما ذهب ضوء المعتزلة وقع الناس تحت سلطان المحدثين وأمثالهم من الفقهاء، وظلوا تحت هذا السلطان من عهد المتوكل إلى ما قبل اليوم بقليل؛ فكانت النتيجة جمودًا بحتًا، عِلم العالِم أن يحفظ الأحاديث ويرويها كما سمعها، ويفسرها تفسيرًا لغويًا ويشرح رجال السند كما شرحه الأقدمون، هذا ثقة، وهذا ضعيف، من غير نقد عقلي؛ وفِقه الفقيه أن يروي أقوال الأئمة قبله، فإذا عرضت مسألة جديدة لم تكن، فقصارى جهد المجتهد أن يخرّجها على أصول إمامه. وتعجبني عبارة المسعودي السابقة، وهي أن المتوكل أمر الناس بالتسليم والتقليد؛ فهذه هي طبائع العلماء من عهد المتوكل، تسليم بالقضاء والقدر، وتسليم بما كان وما يكون، وتقليد للسابقين، وتقليد في الفتاوى والآراء، ومن ثم تكاد تكون الكتب المؤلفة في الحديث والفقه والتفسير، بل والنحو واللغة من عهد المتوكل صورة واحدة، إن اختلفت في شيء فاختلاف في الإطناب والإيجاز والبسط والاختصار. أما الترتيب فواحد، وأما الأمثلة فواحدة، وأما العبارة الغامضة في الكتاب الأول فغامضة في الكتاب الأخير؛ كلها خضعت لأمر المتوكل بالتسليم والتقليد، وانعدمت فيها كلها الشخصية لأن الشخصية عدوة التسليم والتقليد. ولو بقي الاعتزال لتلون المسلمون بلون آخر أجمل من لونهم الذي تلونوا به.

نعم وجد في الإسلام فرقة الفلاسفة وقاموا على أنقاض المعتزلة، وكان من هؤلاء الفلاسفة أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد وأمثالهم، ولكنهم في الحقيقة لم يغنوا غناء المعتزلة. لقد كان الفلاسفة فلاسفة أولًا ودينيين آخرًا، لا ينظرون إلى الدين إلا عندما تتعارض نظرية فلسفية مع الدين فيجدّون للتوفيق بينهما، أما المعتزلة فكانوا دينيين أوّلًا وفلاسفة آخرًا، همهم الأول تعاليم الدين مفلسفًا، والقرآن معقولًا؛ وهمّ الفلاسفة آراء أرسطو وأفلاطون بحيث لا تصطدم مع الإسلام، وشتان بين النظرتين وبين الصبغتين. من أجل ذلك تعرض المعتزلة لمسائل الدين عن قرب، وتعرضوا للمحدّثين وصدموهم، وللفقهاء ونازلوهم، وكانوا يقررون الأصل الديني ويردون على مخالفيهم في وضوح وجلاء؛ أما الفلاسفة فأرادوا أن يكونوا في سمائهم الفلسفية، وودوا لو نَحَّوا الدين جانبًا، فإن كان ولابد فمحاولة للتوفيق حتى لا يثور عليهم رجال الدين. لذلك أرى أن الفلاسفة لم يمسوا الحياة الواقعية للمسلمين، وكانوا في فلسفتهم اليونانية كالمفوضية اليونانية في البلاد الإسلامية، لا تمس مصالح الأمة التي تقيم فيها إلا عند التعارض مع مصلحتها. أما المعتزلة فتريد احتلالًا وتريد إصلاحًا وتريد توجيهًا، ولا تطمئن لعيشة العزلة. وناحية أخرى، وهي: أن المعتزلة كانوا أئمة البيان في الأمة العربية، وعلى رأسهم النّظَّام والجاحظ وبشر بن المعتمر وثمامة، وأحمد بن أبي دؤاد. كل منهم إمام البيان في عصره، قد تثقفوا ثقافة عربية واسعة. يعرفون أشعار العرب وأخبارهم وآدابهم، ويعرفون المعاني العميقة التي هداهم إليها علم الكلام، فكانوا أدباء من نوع عميق لا يدانيهم فيه غيرهم؛ ومن ثم اخترعوا علم البلاغة كما أشرت من قبل — فكانوا من هذه الناحية أكثر اتصالا بالأمة الإسلامية وأبعد تأثيرًا، إن لم يقرأ الناس كلامهم لاعتزالهم قرأوه لأدبهم وبلاغتهم، فكان الاعتزال يندس في ثنايا قولهم العذب، ومنطقهم الفصيح، ومعانيهم السائغة؛ أما عبارة الفلاسفة فعبارة جافة غامضة، كأنها رموز وإشارات، قد ملئت بالمصطلحات الثقيلة والعبارات الركيكة، فكانت وقفًا عليهم وعلى من تتلمذ لهم لا تعدوهم، فكأنهم ألَّفُوها واشترطوا في فهمها أن يكونوا معها ليشرحوها، فكانوا بذلك أمة وحدهم في عقليتهم وعباراتهم، فضاقت دائرتهم، وضعف أثرهم.

ومن أجل هذا لا أرى أن فلاسفة المسلمين سدُّوا مسد المعتزلة، بل ظلت سلطة المحدِّثين كما هي لم تتأثر بالفلاسفة أبدًا؛ والفلاسفة كانوا يحمدون الله على السلامة منهم، ويرجونه أنه يديم عليهم السعادة التي يشعرون بها في تفكيرهم السماوي الميتافيزيقي.

لقد أدى المعتزلة للإسلام خدمة لا تقدر، فقد جاءت الدولة العباسية تحمي الفرس لأنها قامت على أكتافهم، وطارت من على عاتقهم، ولكن مذاهب الفرس ثنوية وتشبيه وتجسيم ونحو ذلك، وفي إعطاء الحرية للفرس خطر في دخول هذه المذاهب وتسربها إلى المسلمين؛ وقرّب العباسيون اليهود والنصارى واستخدموهم في الطب وغير الطب، وكلفوهم الترجمة إلى العربية، فكان ذلك داعيًا إلى تقريبهم واختلاط المسلمين بهم أكثر من اختلاطهم في العصر الأموي. فشعور الفرس واليهود والنصارى بهذه الحرية مكن طائفة منهم أن يتسللوا بأديانهم القديمة يريدون نشرها، ولذلك نجد في هذا العصر دعاة كثيرين يدعون إلى ثنوية الفرس ومانوية الفرس، وبعض تعاليم اليهودية والنصرانية، وبعض تعاليم الهنود الأقدمين؛ وبعض هؤلاء الدعاة تستروا بالإسلام، وبعضهم دعا دعوته في علانية، وأبيح الجدل والمناظرة في أدق المسائل وأعمقها، ولم يكن المحدثون والفقهاء يستطيعون أن يقفوا أمامهم، لأن المحدثين وأمثالهم مهرة في النصوص، والذي ينكر الإسلام لا يقتنع بمجرد ذكر آية أو رواية حديث، إنما يريدون دلائل عقلية على وجود الله وعلى نبوة محمد ؛ وعلى صحة أن القرآن من عند الله، كما يريدون دلائل عقلية على بطلان مذاهبهم؛ وكان هؤلاء جميعًا من ثنوية ويهود ونصارى قد تسلحوا بالفلسفة اليونانية، واستخدموا منطقها فكوّنوا منه براهين على مذاهبهم، واستخدموا اللاهوت اليوناني يدعمون به معتقداتهم؛ فكان لابد لمن يقنعهم ويرد عليهم أن يتسلح بسلاحهم، وأن يكون على معرفة تامة بأساليبهم وأسرار مذاهبهم، فيقرع حجة عقلية بحجة عقلية، ويحمي المسلمين من هجومهم، وبث دعواتهم، فلم يقم بهذه المهمة، ويحمل هذا العبء في ذلك العصر إلا المعتزلة، فقد نازلوا الثنوية والديصانية والدهرية، واضطهدوا بشارًا وجرير بن حازم السُّمَني في البصرة، وجعلوا قومًا من الثنوية يدخلون في الإسلام بناء على دعوتهم، وألفوا الكتب الكثيرة في الرد عليهم، ونازلوا اليهود والنصارى وردوا عليهم، وألفوا في إثبات النبوة عامة، وفي إثبات نبوة محمد خاصة، وأبلوا في ذلك بلاء حسنًا؛ ولعل هذا هو السبب في أنا لا نجد — فيما وصل إلينا — لتعاليم المعتزلة نظامًا عامًا في البحث شاملًا مرتبًا، ولكن مسألة من هنا ومسألة من هناك حسب الجدل والمناظرة، لا حسب العقل الهادئ الذي يرتب في حجرته الأبواب والفصول ترتيبًا منطقيًا، فالمسائل تثار حسبما اتفق، إما في الجو الوثني أو اليهودي أو النصراني، أو في جو مجالس الخلفاء، أو مجالس العلماء، ويرد عليها المعتزلة، وتدوَّن فيها آراؤهم من غير نظام إلا النظام الزمني في ظهور المسألة.

ولا يدري إلا الله ماذا كان يكون من الشر على المسلمين لو لم يقف المعتزلة هذا الموقف وقت هجوم خصوم الإسلام بهذه القوة التي هجموا بها، بل إن الأسلحة التي تسلح بها المسلمون بعد من علم الكلام على النمط الذي وضعه أبو الحسن الأشعري وخلفه، هي — من غير شك — وليدة الاعتزال، وترتيب لآراء المعتزلة، وتعديل لبعضها، وما كانت تكون لولاهم.

فلما ضعف شأن المعتزلة بعد المحنة ظل المسلمون تحت تأثير حزب المحافظين نحوًا من ألف سنة، حتى جاءت النهضة الحديثة. وفي الواقع أن فيها لونًا من ألوان الاعتزال، ففيها الشك والتجربة وهما منهجان من مناهج الاعتزال، كما رأيت في النَّظَّام والجاحظ؛ وفيها الإيمان بسلطة العقل، وحرية الإرادة؛ وبعبارة أخرى خلق الإنسان لأفعال نفسه، وما يتبع ذلك من مسئولية، وفيها حرية الجدل والبحث والمناظرة، وفيها شعور الإنسان بشخصيته، وعدم تحميل القدر كل تبعة ومسئولية، إلى كثير من أمثال ذلك، وكلها مبادئ — كما رأينا — قد قال بها المعتزلة وجروا عليها. وربما كان الفارق الوحيد بين تعاليم المعتزلة وتعاليم النهضة الحديثة، أن تعاليم المعتزلة لهذه المبادئ كانت مؤسسة على الدين، وتعاليم النهضة الحديثة مؤسسة على العقل الصرف؛ وبعبارة أخرى كان المعتزلة يرون هذه البادئ دينًا، والنهضة الحديثة تراها عقلًا، فاتصلت هذه المبادئ عند المعتزلة بالدين أتم الاتصال، ولم تتصل بالدين في النهضة الحديثة، بل كانت في كثير من المظاهر والأحوال خروجًا على الدين.

في رأيي من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة، وعلى أنفسهم جَنوا.

١  الانتصار ١٢٦.
٢  ج ٢ ص ١٥٠.
٣  مقالات الإسلاميين للأشعري ص ١٥٥.
٤  الزمخشري في الكشاف ٢٢٠/١.
٥  الكشاف ١٩/٢.
٦  الكشاف ٢٦٩/٢.
٧  الكشاف ٤٣٦/١.
٨  الكشاف ٢٣٤/١.
٩  الكشاف ١٩٨/١.
١٠  الكشاف ٤٤٠/٢.
١١  مقالات الإسلاميين ١٥٧/١.
١٢  انظر في هذا مقالات الإسلاميين ١٦٥/١ وما بعدها.
١٣  الانتصار ص ١٧ و١٨ وما بعدهما.
١٤  الانتصار ٢٧.
١٥  رجعنا في هذا إلى كتاب نهاية الإقدام للشهرستاني طبعة أكسفورد ص ٢١٥ وما بعدها، وكتاب الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشيد، وكتاب الانتصار، وكتاب الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي، وكتاب المواقف: ورسالة في العقائد للكافيجي، ورسالة في صفات الله للشيخ العطار، وكلتاهما عندي مخطوطة بخط والدي رحمة الله عليه.
١٦  هذا تفسير الزمخشري المعتزلي للآية.
١٧  أبو المعالي الجويني.
١٨  مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري.
١٩  المواقف ٧٦/٣.
٢٠  الشهرستاني في نهاية الإقدام ص ٣١٣.
٢١  انظر نهاية الإقدام ص ٣٢٠ وما بعدها.
٢٢  مبادئ الفلسفة لرابوبورت.
٢٣  المواقف ٧٩/٣.
٢٤  ابن حزم ٩٨/٣.
٢٥  الشهرستاني في نهاية الإقدام ٣٩٧.
٢٦  تجد هذه الأمثلة وأكثر منها في ابن حزم ١٦٦/٣ وما بعدها، وفي نهاية الإقدام للشهرستاني ص ٤٠٣ وما بعدها.
٢٧  انظر نهاية الإقدام الشهرستاني.
٢٨  انظر في هذا المستصفي للغزالي ٥٥/١ وما بعدها.
٢٩  انظر المواقف ١٤٦/٣ وما بعدها.
٣٠  انظر «فلسفة المحدثين والمعاصرين» للأستاذ أ. وولف الذي ترجمه الدكتور أبو العلا عفيفي.
٣١  انظر محصل أفكار المتقدمين للرازي ص ١٤٢ وما بعدها.
٣٢  ص ١٠٧ وما بعدها.
٣٣  انظر الكشاف ١٨/١.
٣٤  انظر مقالات الإسلاميين للأشعري ٤٠٤ وما بعدها، والمواقف ١٢٨/٣ ما بعدها.
٣٥  ابن حزم ١٨٨/٣ فيما حكاه المعتزلة.
٣٦  انظر الكشاف ١٣٤/١.
٣٧  مقالات الإسلاميين ٤٦٦/٢.
٣٨  أغاني ٢٤/٣.
٣٩  أغاني ٣٤/٣.
٤٠  ٤٧/٣.
٤١  هذا بعض رسالة طويلة في هذا الموضوع نقلها ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة ٤٥٤/٤ عن بعض الزيدية، والزيدية تلاميذ المعتزلة.
٤٢  الشهرستاني، نهاية الإقدام ص ٤٨١.
٤٣  أصول الدين للبغدادي.
٤٤  كان ابن أبي الحديد شيعيًا معتزليًا.
٤٥  ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٣/١.
٤٦  الانتصار ٩٧.
٤٧  مقالات الإسلاميين ٤٥٥/٢.
٤٨  ابن أبي الحديد الشيعي المعتزلي ٦٦/١.
٤٩  ابن أبي الحديد ٢٢٠/١ وما بعدها.
٥٠  الانتصار ٩٧ و٩٨.
٥١  المصدر نفسه.
٥٢  المصدر نفسه.
٥٣  ابن أبي الحديد ١٣٧/١.
٥٤  المصدر نفسه.
٥٥  المصدر نفسه ص ١٦١.
٥٦  طيفور، تاريخ بغداد.
٥٧  ٣٨٨/٣.
٥٨  مروج الذهب ١٥٢/٢.
٥٩  المصدر نفسه ١٥٠/٢.
٦٠  ١٥٢/٢ — ويظهر أن المعتزلة لم تكن تميل كثيرًا لعمر بن عبد العزيز، وربما كان السبب أنه ناقش القدرية وهم بقتل بعضهم كما تقدم، بل إن الجاحظ كان يفسقه. ويستهزئ به ويكفره، كما نص على ذلك ابن أبي الحديد في ٤٦١/٤.
٦١  تاريخ الخلفاء ٩٨.
٦٢  عيون الأخبار ٣٣٧/٢.
٦٣  ١٦٩/١٢.
٦٤  الجهشياري في تاريخ الوزراء ١٢٨.
٦٥  الجهشياري ٢٩٠.
٦٦  المنية والأمل ٣١.
٦٧  مزوج الذهب ٢٧٨/٢.
٦٨  الحكاية في تاريخ بغداد الخطيب ١٨٧/١٢.
٦٩  تأويل مختلف الحديث ٧٢.
٧٠  تضامون: رويت بتشديد الميم وتخفيفها، ففي التشديد معناها لا تزاحمون. وبالتخفيف من الضيم لا يظلم بعضكم بعضًا في الرؤية.
٧١  ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ٢٥.
٧٢  انظر الحيوان ٨٥/١ وما بعدها.
٧٣  ١٤٥/١.
٧٤  نشوار المحاضرة ٢٧٤/١.
٧٥  النشوار ٢٧٢/١.
٧٦  الفرزان: هو ما نسميه الآن الوزير. والبيدق: ما نسميه بالعسكري. وتفرزن البيدق صار فرزازًا، والفصوص في الأبيات الأولى هي ما نسميه «بالزهر».
٧٧  أي لزعيم المعتزلة وهو واصل بن عطاء.
٧٨  يعني ببلاد البربر المغرب.
٧٩  قال في الأساس: «نحن في شهر ناخر وهو الشهر الواقع في صميم آخر».
٨٠  يريد بعلم التشاجر علم الجدل والكلام.
٨١  الغزال: لقب واصل.
٨٢  الحروري: من الحرورية وهم الخوارج.
٨٣  المنية والأمل ص ١٩.
٨٤  الغيث المسجم ٧١/١. ومما يؤسف له أن كتاب الطبقات هذا لم نعثر له على أصل، لا كله وبعضه.
٨٥  الحيوان ٥٣/٥.
٨٦  أغاني ٥٧/١٢.
٨٧  رسائل الخوارزمي ص ٦١.
٨٨  الأغاني ١٠/١٧.
٨٩  ص ٧٢.
٩٠  ص ١٤٢.
٩١  ص ١٧.
٩٢  ص ٤١.
٩٣  الرسالة مذكورة في الجزء الأول من البيان والتبيين ص ١٠٥.
٩٤  البيان والتبيين ١٠٦.
٩٥  محاضرات الأدباء ٤٦/١.
٩٦  انظر فجر الإسلام ص ٣٤٥ وما بعدها.
٩٧  المنية والأمل ٧٧.
٩٨  المنية والأمل ٦١.
٩٩  هذا ما اعتمده الخطيب البغدادي في تاريخ ولادته ووفاته، وهناك أقوال أخرى في هذا.
١٠٠  المنية والأمل ٣٦.
١٠١  الانتصار ٦٧.
١٠٢  المنية والأمل ٢٦
١٠٣  ٦٩ طبعة أوروبا.
١٠٤  يقال فلان «ما يليق درهما من جوده» أي ما يملكه.
١٠٥  مقالات الإسلاميين ٤٨٥.
١٠٦  الحيوان ١٨/٢. يريد أنه إذا صارح النظام في الجدل غلبه واستيقن الناس قوة النظام وضعف أبي الهذيل، فلأن يزوغ أبو الهذيل ويعتل فيحتمل أن يظن ظان أنه لولا اعتلاله لغلبه خير من أن ينكشف أمره ويتيقن الناس ضعف أبي الهذيل.
١٠٧  الأغاني ١٨٨/١٨.
١٠٨  سرح العيون، وقد روى الجاحظ الحكاية بشكل آخر في الحيوان ١٤٦/٣.
١٠٩  زهر الآداب ١٠/٢.
١١٠  زهر الآداب ١٢٣/٢.
١١١  البيان والتبيين ٧٧/١.
١١٢  انظر الحيوان ٨٣/٣.
١١٣  ١٠٦/٤.
١١٤  الحيوان ٦٤/٥.
١١٥  الحيوان ١١/٦.
١١٦  المصدر نفسه.
١١٧  انظر ذلك في الحيوان ٨٣/٢.
١١٨  الحيوان ١٠٦/٤، وقد قرأت في كتاب حديث ثقة في علم الحيوان أن النعام إذا صيد وحبس مال إلى ابتلاع كل ما يقدم له؛ وقد شرِّح ظليم مات في حديقة الحيوان بإنجلترا فوجد في معدته تسعة بنسات ونصف بنس من البرونز مما قدمه إليه الزائرون.
١١٩  الحيوان ١٣٩/٣.
١٢٠  الحيوان ٧٧/٦. وقد أصلحنا بعض الكلمات لفسادها في الأصل وعدم استقامة العبارة.
١٢١  انظر هذا الجزء ص ٨٦ وما بعدها.
١٢٢  الحيوان ٥٥/٢.
١٢٣  الحيوان ٣٠/١، وقد وردت إلى نسبته ابن إسحاق والصواب أبو إسحاق — وهو النظام — كما يدل عليه السياق.
١٢٤  انظر هذا الجزء ص ٨٦ وغيرها.
١٢٥  انظر الخبر بطوله في ابن أبي الحديد ٤٨/٢.
١٢٦  ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص ٢١.
١٢٧  أغاني ١٥٤/٧. وقد أخذ أبو دلف هذا المعنى من النظام فقال:
أحبك يا جنان وأنت مني
محل الروح من جسد الجبان
١٢٨  انظر الانتصار.
١٢٩  ص ٤١.
١٣٠  المرتضى في المنية والأمل ٢٩.
١٣١  المنية والأمل ٢٩.
١٣٢  انظر الشهرستاني في الملل والنحل ص ٢٠١ طبع أوروبا.
١٣٣  انظر مادة الدهريين في دائرة المعارف الإسلامية.
١٣٤  انظر قول الفيلسوف اليوناني في ذلك.
١٣٥  الحيوان ١٤/٥.
١٣٦  تجد حكاية أقوالهم والرد عليهم في الحيوان ١٤/٥ وما بعدها.
١٣٧  انظر كتاب الحيوان جزء ٥ من ص ١ إلى ص ٣١.
١٣٨  مقالات الإسلاميين ٣١٦ و٣١٨.
١٣٩  الدوامة: يريد بالدوامة ما نسميه نحن في مصر النحلة وهي فلكة يرميها الصبي بخيط فتدور على نفسها.
١٤٠  انظر مقالات الإسلاميين ٣٢٤ وما بعدها وانظر كذلك ٣٤٦ وما بعدها.
١٤١  انظر مقالات الإسلاميين ٢٢٥ والشهرستاني في الملل والنحل ٣٩ طبع أوروبا. والانتصار ص ٢٧.
١٤٢  الانتصار ٥١.
١٤٣  الحيوان ٦٩/٤.
١٤٤  الحيوان ١٢٩/٤.
١٤٥  انظر الحيوان ٣٨/٥ و٣٩ ومحاضرات الأدباء ٧٦/٢.
١٤٦  ١١١/٥.
١٤٧  ٧٤/٤.
١٤٨  انظر الحيوان ٨٦/١.
١٤٩  الحيوان ٨٧/١.
١٥٠  انظر الحيوان ٧٦/٤و ٣ ١٦٢ و١١/٤ إلخ.
١٥١  الحيوان ٥٢/٤.
١٥٢  الحيوان ٧٧/٥.
١٥٣  الحيوان ٧٨/٥.
١٥٤  الحيوان ١٣٣/٦.
١٥٥  الحيوان ١٤٩/٦.
١٥٦  الحيوان ٨٠/٥.
١٥٧  الحيوان ٤١/٥.
١٥٨  الحيوان ٢١/٥ و٢٢.
١٥٩  الحيوان ٨٩/٥.
١٦٠  الحيوان ١٢٠/٥.
١٦١  الحيوان ٤٧/٢.
١٦٢  ٢٤/٤.
١٦٣  ص ٣٧.
١٦٤  مقالات الإسلاميين ص ٤٠٧.
١٦٥  الملل والنحل ص ٥٢ طبعة أوروبا.
١٦٦  انظر الشهرستاني ص ٤٩.
١٦٧  المستصفي للغزالي ٣٥٩/٢.
١٦٨  الملل والنحل ص ٥٢ طبعة أوروبا.
١٦٩  انظر الفصول المختارة من كتاب «استحقاق الإمامة» المطبوعة على هامش كتاب «الكامل» الجزء الثاني ص ٢١٢ وما بعدها و٢٦٩ وما بعدها.
١٧٠  انظر رسالته في بني أمية المطبوعة في الجزء الثالث من عصر المأمون.
١٧١  انظر الرسالة على هامش الكامل ٢٥١/٢.
١٧٢  الحيوان ١٦٦/١.
١٧٣  رسالة بني أمية.
١٧٤  ١٢٦/١.
١٧٥  انظر هما في الجزء السادس من الحيوان ص ٩٢ وما بعدها.
١٧٦  يقول الجاحظ في تفسيره: (إن الذئاب قد تتهارش على الفريسة فإذا أدمى بعضها بعضًا وثبت عليه فمزقته كما قال الفرزدق:
وكنت كذئب السوء لما رأى دمًا
بصاحبه يومًا أحال على الدم
والزفر: جمع زفرة وهي جنب الدابة المنتفخ.
١٧٧  الذيخ: ذكر الضبع، والتيتل شبيه بالوعل، وهو مما يسكن في رءوس الجبال ولا يكون في القرى. والغفر: ولد الأروية. والأروية: الذكر والأنثى من الوعول.
١٧٨  الصدع: الشاب من الأوعال، والجأب: الحمار الغليظ، والجأبة: الأتان الغليظة.
١٧٩  التنقل: الثعلب، وهو موصوف بالروغان والخبث.
١٨٠  الهقلة: أنثى النعام، وعرارها: صياحها.
١٨١  المرو: حجارة صلبة، وقد تقدم القول في ابتلاع النعام للحجر والحديد والنار، وحب شيء أي أحب شيء.
١٨٢  الإلقة: القردة، وترغث: ترضع، والرباح: ولد القردة، والسهل: الغراب، والنوفل: بعض أولاد السباع.
١٨٣  حرقوص بن زهير عربي من سعد اختلف في صحبته. له أثر كبير في فتح فارس على عهد عمر، وكان مع عليّ بصفين ثم صار إمامًا من أئمة الخوارج.
١٨٤  الشهرستاني في الملل والنحل ص ٤٤ طبعة أوروبا.
١٨٥  الانتصار ٦٧.
١٨٦  الانتصار ٦٩.
١٨٧  الشهرستاني في الملل والنحل ٤٨.
١٨٨  حكى ذلك عنه الشهرستاني في الملل والنحل، والسمعاني في الأنساب..
١٨٩  الشهرستاني ٤٨ طبعة أوروبا.
١٩٠  انظر الانتصار ص ٨١ و٨٩، وعانات أو عانة بلد مشهور بين الرقة وهيت على نهر الفرات تعد من أعمال الجزيرة.
١٩١  المنية والأمل ٤٣.
١٩٢  أي أنه لا يرى الخليفة الواثق أهلًا للإمامة حتى يصل وراءه.
١٩٣  طيفور ٢١٥.
١٩٤  طيفور ٢٢٨.
١٩٥  طيفور ٢٥٦.
١٩٦  المصدر نفسه ٢٥٧.
١٩٧  البيان والتبيين جزء ١ ص ١٩٠ و١٩٥.
١٩٨  طيفور ٩١ وما بعدها.
١٩٩  البدرة عشرة آلاف درهم.
٢٠٠  الشهرستاني: الملل والنحل ص ٥٠.
٢٠١  الانتصار ٢٢ وما بعدها.
٢٠٢  الخطيب البغدادي ١٤٢/٤.
٢٠٣  ابن خلكان ٢١/١.
٢٠٤  ابن خلكان ٣١/١.
٢٠٥  حكى هذه الأبيات الجاحظ في البيان والتبيين ونسبها (لشاعر) وأبان ياقوت في معجم الأدباء أنها للجاحظ نفسه.
٢٠٦  نشر هذا الكتاب في برلين سنة ١٩٠٢ أرثر بيرام، فارجع إليه وإلى المواقف وشرحه وتعريفات الجرجاني وكشاف مصطلحات الفنون.
٢٠٧  انظر هذا الجزء ص ٣٤ وما بعدها.
٢٠٨  سرح العيون ١٥٩.
٢٠٩  انظر الخطيب البغدادي ٦٧/٧.
٢١٠  انظر ابن خلكان ٣٢٤/٣.
٢١١  هو محمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى وأحد الحفاظ الكبار، عرف بالتحري في روايته، توفي ببغداد سنة ٢٣٠هـ.
٢١٢  هو أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس مولى أبي جعفر المنصور. كان يستملي على يزيد ابن هارون المحدث، فلقب بالمستملي. وقد روى عنه البخاري في صحيحه.
٢١٣  يحيي بن معين من أكابر المحدثين البغداديين ونفدة الرجال، ويعول على آرائه المحدثون في توثيق الرجال وضعفهم. مات بالمدينة سنة ٢٣٣.
٢١٤  زهير بن حرب محدث مشهور روى عنه البخاري ومسلم كثيرًا. مات سنة ٢٣٤.
٢١٥  إسماعيل بن أبي مسعود كان أيضًا من كتاب الواقدي، وكان من أشهر المحدثين ببغداد.
٢١٦  أحمد بن إبراهيم الدورقي محدث، روى عن إسماعيل بن علية ويزيد بن. هارون، ومات في شعبان سنة ٢٤٦.
٢١٧  انظر الطبري وطيفور.
٢١٨  انظر كذلك: أحمد بن حنبل والمحنة، للأستاذ Walter M. Patton.
٢١٩  تاريخ الخلفاء ١٣٣.
٢٢٠  انظر هذه المناظرات في طبقات الشافعية لابن السبكي وأبي نعيم في الحلية.
٢٢١  أنظر أيضًا ما نقل Pattom من النصوص في محنة أحمد.
٢٢٢  انظر طبقات الشافعية وتاريخ الخلفاء وتهذيب التهذيب لابن حجر.
٢٢٣  طبقات الشافعية السبكي.
٢٢٤  كان الشهود في كل مدينة أشخاصًا معينين يزكون ويعدلون وتسجل أسماؤهم وتزاد وتنقص، لا أن كل إنسان يحق له أن يشهد، وبهذا التفسير يتضح معنى ما ورد في هذا الباب.
٢٢٥  النجوم الزاهرة ٢١٨/٢.
٢٢٦  ٢٣٢/٢.
٢٢٧  استقينا هذا من مواضع مختلفة من كتاب الولاة والقضاة للكندي.
٢٢٨  السبكي في طبقات الشافعية ١٠/٢.
٢٢٩  انظر دليل ذلك فيما نقلنا عنه قبل.
٢٣٠  العقد ٣٢٢/١.
٢٣١  الطبقات ٢٧٦/١.
٢٣٢  الطبقات ٢٥٢/١.
٢٣٣  تاريخ الخلفاء ص ١٣٨.
٢٣٤  المسعودي ٢٨٨/٢.
٢٣٥  نقلنا هذه الأخبار من كتاب ابن الصابوني في ترجمة ابن حنبل (مخطوط).
٢٣٦  كتاب أخبار سيبويه المصري ص ١٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤