الفصل الرابع

الخوارج١

يكاد يكون الأساس الذي يدور عليه مذهب الخوارج من الأساس الذي يدور عليه الإرجاء، أعني مسألة الكفر والإيمان.

قال في كتاب الفرق بين الفِرق: «قد اختلفوا فيما يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها، فذكر الكعبي في مقالاته أن الذي يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها إكفار عليّ وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وكل من رضي تحكيم الحكمين، والإكفار بارتكاب الذنوب. ووجوب الخروج على الإمام الجائر. وقال شيخنا أبو الحسن (الأشعري) الذي يجمعها إكفار علي وعثمان، وأصحاب الجمل والحكمين، ومن رضي بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما، ووجوب الخروج على السلطان الجائر».٢
والفرق بين رأي الكعبي ورأي الأشعري، أن الكعبي يحكم أنهم مجمعون على تكفير مرتكب الكبائر، والأشعري لم يوافقه على ذلك، لأن هذا هو رأي أغلبيتهم، لا محل إجماعهم، لأن النَّجدات من الخوارج لا يكفرون أصحاب الكبائر. وأما فيما عدا هذه النقطة فالكعبي والأشعري متفقان.

وترى من قولهما أن بحث الخوارج كبحث المرجئة يدور حول الكفر والإيمان، نظر إليه المرجئة نظرًا واسعًا رحيمًا، فأدخلوا في ساحة الإيمان كل مصدق؛ وأجازوا العفو عن كل عاص، وأرجأوا أصحاب الفتنة إلى الله يقضي بينهم، ونظر الخوارج إليه نظرًا شديدًا ضيقًا، فلم يعدوا مؤمنًا إلا من تحرز عن الكبائر، وخطأوا عثمان فيما فعله في سنيه الأخيرة فكفّروه، وإلى عليّ وحزبه وخصومه وأحزابهم فأكفروهم، لأنهم — على الأقل — قبلوا التحكيم وكتاب الله واضح لا يقبل تحكيمًا. ثم قالوا إن الولاة الظلمة من معاوية وقومه من الأمويين كَفَرة، ويجب أن يقابل كفرهم وظلمهم وجورهم بالخروج عليهم جهارًا.

فهم بهذا على النقيض من الشيعة في أمرين أساسيين:

  • (١)

    فبينا يقدس الشيعة عليًا يكفره الخوارج، ويرون عبد الرحمن بن ملجم — قاتله — من خير البرية، ويقول أحدهم وهو عمران بن حطان:

    يا ضربةً من منيب ما أرادَ بها
    إلا ليَبْلغَ عند العَرْشِ رِضواناَ
    إنّي لأذكرُهُ يومًا فأحسَبُهُ
    أوْفىَ البرَيَّةِ عند الله مِيزَاناَ
  • (٢)

    وبينما يعد الشيعة من أصولهم التقية، يعد الخوارج من أصولهم الخروج على السلطان الجائر في غير مواربة، ومن غير نظر إلى قوة الخارج وقوة الإمام.

وهم يخالفون المرجئة لأن الخوارج تؤلف جبهة معارضة وتقاتل الأمويين والعباسيين، والمرجئة يكونون جماعة حياد ومسالمة.

وهم أشد من المعتزلة، إذ يعدون مرتكب الكبيرة كافرًا، على حين أن المعتزلة تعده لا كافرًا ولا مؤمنًا، وهم أشد من المعتزلة أيضًا في تمسكهم بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في غير هوادة ولا حسبان قوة وضعف.

هذه هي الأصول التي أجمعت عليها الخوارج، وإن كانوا قد تفرقوا نحو عشرين فرقة تختلف فيما بينها في الفروع لا في الأصول؛ مثال ذلك أن الأزارقة والصفرية تتفق في أن أصحاب الذنوب مشركون، ولكن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم، والأزارقة يرون ذلك؛ ومثل أن الأزارقة استحلت أموال مخالفيهم بكل حال؛ والعجاردة لا يرون أموال مخالفهم فيئًا إلا بعد قتل صاحبه؛ ومنهم من يرى أن القتال لا يكون إلا مع إمام منهم، ومنهم من لا يرى اشتراط ذلك، وهكذا من التفاصيل والمسائل الجزئية.

وألمع فكرة لهم رأيهم في الخلافة، وأنه إن كان لابد منها فأصلح الناس لها أحق بها، قرشيًا كان أو غير قرشي، عربيًا أو غير عربي؛ فليس عندهم فكرة أن الخليفة معين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقول الشيعة، ولا هناك نظام الوراثة وتفويض الخليفة الأمر لمن يليه كما كان الشأن في عهد الأمويين والعباسيين.

ثم إذا انتخب الخليفة وتمت البيعة له، وسار سيرة لا تتفق ومصلحة المسلمين بأن جار و ظلم وجب عزله، فإن اعتزل وإلا قوتل حتى يقتل.

لقد كان أكثر من اعتنق المذهب الخارجي في أول الأمر عربًا سكنوا البصرة والكوفة بعد فتوح عمر، وكانت تغلب على أكثرهم البداوة، وكأن كثير منهم من بني تميم، ثم رأينا أن بعض الموالي دخل في عقيدتهم؛ ولعل السبب في دخولهم أنهم اشتركوا مع الخوارج في بعض الأمويين واعتقادهم بعدم صلاحيتهم ووجوب الخروج عليهم حتى تزول دولتهم.

ومع دخول بعض الموالي كان المذهب الخارجي مصبوغًا إلى درجة كبيرة بالصبغة البدوية في محاسنها ومساويها، فهم كثيرو الخلاف على الرؤساء، كثيرو التفرق شيعًا وأحزابًا، محدودو النظر، ضيقوا الفكر في نظرهم إلى مخالفيهم؛ وهم مع ذلك شجعان إلى أقصى حدود الشجاعة، صرحاء في أقوالهم وأعمالهم، أسهل شيء عليهم أن يبيعوا نفوسهم لعقيدتهم، يهزأون بما يقول الشيعة من تقية، ويحتقرون من باعوا آراءهم وضمائرهم للخلفاء الأمويين طمعًا في المال والجاه، ثم هم لغلبة بداوتهم أبعد عن التطور الديني والعلمي والاجتماعي؛ فدينهم تغلب عليه البساطة الأولى؛ وهم فيما عدا شذوذهم في بعض عقائدهم يمثلون الإسلام الأول على فطرته قبل أن تدخل فيه تعاليم من الأمم الأخرى، والديانات الأخرى، والتقاليد والنزعات من أهل الملل والنحل التي دخلت في الإسلام بعد. وظل إيمانهم إيمان قلب لا إيمان علم؛ وظلت حياتهم الاجتماعية — في معيشتهم، ونظرتهم للحياة، وحروبهم، ونحو ذلك — حياة بسيطة بدوية لم تتغير كثيرًا بتغير الزمان؛ فهم يذكروننا بالوهابيين الآن في بساطتهم وإن اختلفت تعاليمهم.

من أجل ذلك لم يكن ينتظر منهم أن يبحثوا في صفات الله، هل هي عين الذات أو غيرها، وأن الله يرى بالأبصار أو لا يرى، كما فعل المعتزلة؛ لأنها نظرات فلسفية أبعد ما تكون عن طبيعة البداوة، ولا ينتظر منهم أن يقدسوا أئمتهم كما تفعل الشيعة، لأنهم إنما كانوا ينظرون إلى إمامهم كما كان ينظر العرب الأولون إلى شيخ القبيلة.

ومصداق ذلك ما نراه في كتب الملل والنحل عند ذكر خلافات الخوارج؛ فهم يبدأون رأيهم في التحكيم الذي كان بين عليّ ومعاوية في سذاجة، ويختلفون في القعدة الذين قعدوا عن قتال الأعداء مع قدرتهم هل هم كافرون أم مؤمنون؟ ويختلفون في المعاصي التي يكفر الإنسان بارتكابها. ويختلفون في أطفال المسلمين والكافرين، هل هم مسلمون أم كافرون؟ ونحو ذلك من المسائل الدينية التي تفلسف، واختلافهم في هذا ساذج بسيط. خطب عبد الجبار إلى ثعلبة ابنته، وكلاهما من الخوارج، فسأله ثعلبة أن يمهرها أربعة آلاف درهم، فأرسل الخاطب إلى أم البنت مع امرأة يقال لها أم سعيد، يسأل هل بلغت ابنتهم أم لا (لأنه لا يرى الابن أو البنت يسلم حتى يبلغ)، وقال: إن كانت قد بلغت وأقرت بالإسلام لم أبال ما أمهرتها؛ فلما بلَّغتها أم سعيد ذلك، قالت: ابنتي مسلمة بلغت أم لم تبلغ، فاختلف الخاطب وأبو البنت وأمها، وتدخل عبد الكريم بن عجرد من رؤساء الخوارج في الأمر فزادهم خلافًا، وبرئ بعضهم من بعض على ذلك.٣

نعم تروي هذه الكتب عن بعض الفرق الخوارج أنهم بحثوا في القَدَر خيره وشره، وإثبات الفعل للعبد، وإثبات الاستطاعة قبل الفعل ونحو ذلك، ولكن هذه المباحث لم تكن من نفسها، وإنما استعارتها من المعتزلة.

ومن أكبر مظاهر بساطتهم وعدم تفلسفهم أن الناظر فيما روي لنا من جدلهم مناظراتهم يرى أنهم التزموا حرفية الكتاب والسنة، ولم يتعمقوا في التأول، فلو أنهم عاشوا في العصر العباسي لكانوا من أهل الظاهر الذين لا يقولون بقياس ويرون إتباع ظواهر النصوص من غير تأويل. وقد أدى تمسك الخوارج بظواهر النصوص إلى سخافات، فكان منهم من يرى أن رجلًا لو أكل من مال يتيم فلسين وجبت له النار لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا، ولو قتل اليتيم أو بقر بطنه لم تجب له النار، لأن الله لم ينص على ذلك؛ ومنهم من استحل دماء أطفال المشركين، ولم يستحلوا أكل ثمرة بغير ثمنها؛٤ ومنهم من كان يقتل المسلم المخالف ولا يقتل الذمي؛ ويروي المبرد في الكامل أن واصل بن عطاء (زعيم المعتزلة) وقع هو وبعض أصحابه في يد الخوارج، فقال لأصحابه: اعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك؟ فخرج إليهم، فقالوا ما أنت وأصحابك؟ قال مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا: قد أجرناكم، قال: فعلّمونا، فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا، قال: ليس ذلك لكم قال الله تبارك وتعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، فأبلغونا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلك لكم. فساروا بأجمعهم حتى بلغوهم المأمن.٥

ويقتل عبد الرحمن بن ملجم عليّ بن أبي طالب، ثم يظل يقرأ القرآن ويرى أنه تقرب بعمله إلى الله، فإذا أريد قطع لسانه جزع، ويقال له: لم تجزع؟ فيقول: أكره أن أكون في الدنيا مواتًا لا أذكر الله! إلخ إلخ.

ثم إن المذاهب الأخرى التي تفلسفت كالاعتزال والتشيع إنما استمدت فلسفتها العميقة من العصر العباسي، فقد كان جوه جوًا تشيع فيه الفلسفة من قصور الخلفاء، ومن اليهود والنصارى، ومن الفرس، ومن الكتب المترجمة، ومن الأطباء، ومن الجدل والمناظرة؛ فكانت كل فرقة تأخذ منه بقدر استعدادها، وبالقدر الذي يتفق وأصولها. وقد جاءت الدولة العباسية والخوارج في أخريات أيامهم، فقد أنهكوا الدولة الأموية وأنهكتهم، ونالوا منها ونالت منهم؛ حتى إذا أعقبهم العباسيون كان الخوارج في حالة تشبه الاحتضار. وحركاتهم التي أتوا بها في العهد العباسي تشبه حركة المذبوح، فلم يتح — من أجل هذا — للمذهب الخارجي فرصة أن يتفلسف.

نعم! كان من بين علماء العصر العباسي من اعتنق مذهب الخوارج، كأبي عبيدة مَعمَر بن المُثنّى، قال ابن خِلِّكان: «إنه كان يرى رأي الخوارج»، وقال: «كان يميل إلى مذهب الخوارج»، وقال أبو حاتم السجستاني: كان أبو عبيدة يكرمني على أنني من خوارج سجستان، وقال الثوري: «دخلت المسجد على أبي عبيدة وهو ينكت الأرض جالسًا وحده، وقال من القائل:

أقولُ لها وقد جشأت وجاشت
مكانَكِ تُحْمَدِي أوْ تَسْترَِيحي
فقلت له قطري بن الفجاءة. فقال: فض الله فاك، هلا قلت هو لأمير المؤمنين أبي نعامة؟ ثم قال لي: أجلس وأكتم عني ما سمعت مني».٦

وقد ألف فيما ألفه كتابًا في «خوارج البحرين» — ولكن أبا عبيدة لم يكن فيلسوفًا ولا من أهل الكلام حتى يستطيع أن يفلسف المذهب الخارجي. وإنما كان عالمًا واسع الاطلاع في الغريب وأيام العرب — ثم كان إن صح أنه خارجي يكتم مذهبه، كما تدل عليه الحكاية السابقة، فهو يتمذهب بالمذهب الخارجي لنفسه، ومع ذلك يخالفه في الصميم منه، فهو يتقي الجهر به؛ ومن أصول الخوارج عدم التقية، ثم هو أكره للعرب وأميل إلى الشعوبية، ومتصل بالخلفاء والأمراء ومتملقهم، فهو ليس خارجيًا إن كان إلا في بعض عقائدها كالطعن على الخلفاء، وكثرة التكفير للمخالفين على أن يكون ذلك سرًا مكتومًا.

وكذلك الهيثم بن عدي، قال فيه ابن خِلِّكان: «إنه كان يرى رأي الخوارج»، وألف فيهم كتابًا اسمه «كتاب الخوارج»، ولكنه كان كأبي عبيدة إخباريًا لا فيلسوفًا، وكان متصلًا بالمنصور والمهدي والهادي والرشيد، ولو كان من الخوارج حقًا لخرج خروجهم.

من أجل هذا لم يرو لنا عن الخوارج مذهب مفلسف، ولا فقه واسع منظم ولا نحو ذلك، إلا ما كان من الإباضية أتباع عبد الله بن إباض الخارجي الذي مات في عهده عبد الملك بن مروان؛ فإن هذه الفرقة عاشت وانتشرت في شمالي إفريقية، وفي عمان، وفي حضر موت، وزنجبار، واستمرت إلى يومنا هذا. فكان من الطبيعي أن يكون لهم أصول اعتقادية، وتعاليم فقهية، وكذلك كان فقد تعدل مذهبهم مع الزمان، فلهم أصول كلامية متأثرة إلى حد كبير بمذهب المعتزلة في القول بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الجنة، والله لا يغفر الكبائر، كما لهم كتب فقهية خاصة تخالف أهل السنة في بعض الفروع مثل أنهم لا يرون الزواج يصح إلا فيما بينهم.

•••

تاريخهم السياسي في العصر العباسي: كان نظر الخوارج إلى خلفاء بني العباس كنظرهم إلى خلفاء بني أمية كلهم لا يصلح للخلافة، ولم يخَتر اختياريًا حرًا صريحًا، ولم يستوف الشروط التي يجب توافرها في الإمام، وكلهم يجب الخروج عليه، ومقاتلته وعزله إن أمكن، وقتله إن أمكن.

فظل نظرهم في العهد العباسي كما كان في العهد الأموي، إلا أن قوتهم في هذا العهد لم تكن كقوتهم في العهد الأموي، لأن الأمويين وولاتهم — ولا سيما المهلب بن أبي صفرة — فتكوا بهم فتكًا ذريعًا، وإن كان انتصار الأمويين أضعف قوتهم هم أيضًا.

ومع هذا فقد حاربوا العباسيين في قوة، وصلابة، وجلد يشبه ذلك الذي كان لهم في العصر الأموي.

فما استقر السفاح في خلافته حتى تحرك خوارج عُمَان، وعلى رأسهم الجلندى، وكان هو وأصحابه من الخوارج الإباضية، فأرسل إليهم السفاح جيشًا، على رأسه أحد القواد العظام «خازم بن خزيمة»، فسار في البحر حتى أرسى على ساحل عمان ثم خرج ومن معه إلى الصحراء، وتقاتلوا قتالًا شديدًا كانت الحرب فيه سجالًا؛ ثم أشار إلى خازم بعض أصحابه أن يأمر جنوده فيجعلوا على أطراف أسنتهم المشاقة ويرووها بالنفط، ويشعلوا فيها النيران. ثم يمشوا بها حتى يضروها في بيوت أصحاب الجلندي، وكانت من خشب؛ فلما فعل ذلك وأضرمت بيوتهم بالنيران اشتغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأهاليهم، فحمل عليهم خازم وأصحابه، فوضعوا فيهم السيف فقتلوهم، وقتل الجلندي فيمن قتل. وبلغ عدة القتلى نحو عشرة آلاف، وبعث رءوسهم إلى البصرة، فأرسلت إلى السفاح٧ وكان ذلك سنة ١٣٤.
وفي عهد المنصور ثار الخوارج بالجزيرة،٨ وعلى رأسهم ملبد بن حرملة الشيباني سنة ١٣٧، فأرسل إليه المنصور يزيد بن حاتم المهلبي ليمثل معهم دور عمه المهلب بن أبي صفرة فهزمه ملبد؛ ومازال المنصور يرسل إليه القائد بعد القائد وملبد يهزمهم، وأخيرًا وجه إليه خازم بن خزيمة ومعه نحو ثمانمائة ألف من أهل مروروذ، فتقاتلوا طويلًا، ثم أمر خازم أصحابه أن يرموهم بالنشاب، فرشقوا ملبدًا بنشاته فقتل معه كثيرون، وكان ذلك سنة ١٣٨.

وثار الخوارج أيضًا في المغرب (تونس وما حولها) من صفرية وإباضية، فأرسل إليهم المنصور عمر بن حفص من ولد قبيصة بن أبي صفرة أخل المهلب، فدامت المعارك بينهم طويلًا، وانضم كثير من البربر إلى الخوارج، وكان على رأس الخوارج أبو حاتم الإباضي، وانتهى الأمر بقتل عمر بن حفص واستيلاء أبي حاتم والخوارج على القيروان؛ فأرسل المنصور يزيد بن حاتم بن قبيصة بن أبي صفرة، فتغلب على الخوارج، وقتل أبو حاتم وأتباعه من الخوارج والبربر، وكان عدة من قتل في المعركة نحو ثلاثين ألفًا، وجعل آل المهلب يقتلون الخوارج ويقولون يا لثارات عمر بن حفص؛ ومكث يزيد في إخماد هذه الثورة نحو خمس عشرة سنة؛ وقد قالوا إنه كان بين الخوارج وجنود المنصور من لدن قاتلوا عمر بن حفص إلى أن انقضى أمرهم على يد يزيد بن حاتم نحو من ثلاثمائة وخمس وسبعين وقعة.

وفي عهد المهدي خرج بخراسان جماعة من الخوارج وعلى رأسهم يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرم، منكرًا هو ومن معه على المهدي سيرته التي يسير بها، واجتمع معه خلق كثير، فأرسل إليه المهدي يزيد بن مزيد الشيباني، فأسر يوسف البرم، وبعث به إلى المهدي ومعه وجوه أصحابه، فقتلهم المهدي وصلبهم، وكان ذلك سنة ١٦٠.

وفي عهد المهدي أيضًا خرج يس التميمي بالموصل، واستولى على أكثر ديار ربيعة والجزيرة، فبعث إليه المهدي. من هزمه وقتله وعدة من أصحابه، وذلك سنة ١٦٨.

وفي عهد الرشيد خرج الصحصح بالجزيرة وغلب على. ديار ربيعة، فسير الرشيد إليه من قتله سنة ١٧١.

ثم في سنة ١٧٨، كانت ثورة الوليد بن طريف الخارجي بالجزيرة، وقد قال السمعاني في الأنساب: إنه شيباني، وتبعه في ذلك ابن خلكان، وقال ابن الأثير إنه تغلبي. وقد أرسل إليه هارون يزيد بن مزيد الشيباني ابن أخي معن بن زائدة، فكانت البرامكة منحرفة عن يزيد، فقالوا للرشيد: إنما يتجافى يزيد عن الوليد لما بينهما من الرحِم. فعلى كلام السمعاني وابن خلكان تفسير هذا أنهما معًا من شيبان، وفسر ابن الأثير هذه العبارة بأن شيبان وتغلب كلتيهما من وائل، وهذا هو الرحِم. ولعل قول ابن الأثير أصح، فقد قال بعض الشعراء في الوقائع التي بينهما:

وائلٌ بعضهم يقتل بعضًا
لا يفلْ الحديد إلا الحديدا

وأيًا ما كان، فقد عظم أمر الوليد في الجزيرة، فنازله يزيد بن مزيد، وقال لأصحابه: «إنما هي الخوارج، ولهم حملة فاثبتوا، فإذا أنقضت حملتهم فاحملوا عليهم، فإنهم إذا انهزموا لم يرجعوا»، وكان الوليد يوم خرج يقول:

أنا الوليد بن طَرِيف الشَّاري
قَسْوَرَةٌ لا يُصْطَلَي بناري٩
جوركُمُ أخْرَجَنيِ من دَارِي

وقد انكسر جيش الوليد بعد وقائع عنيفة، واتبعه يزيد فقتل الوليد. وأخذ رأسه.

وهكذا كانت ثورات الخوارج في الجزيرة وعمان، وبلاد المغرب، وقد انتصر فيها العباسيون، ولم يلقوا فيها من العنت ما لقي الأمويون، وكانت هذه الهزائم المتوالية للخوارج سببًا في ضعف أمرهم، وقلة شأنهم، فلم يعد لهم من القوة والقتال أثر في التاريخ كبير.

•••

أدب الخوارج: لقد كان في الخوارج كل العناصر التي تكون الأدب: عقيدة راسخة لا تزعزعها الأحداث، وتحمس شديد لها تهون بجانبه الأرواح والأموال، وصراحة في القول والعمل لا تخشى بأسًا، ولا ترهب أحدًا، وديمقراطية حقة لا ترى الأمير إلا كأحدهم، ولا العظيم إلا خادمهم، ورُسِم الطريق الذي ينبغي أن يسلكوه رسمًا مستقيمًا واضحًا لا عوج فيه ولا غموض، يجب أن يعدل الخليفة والأمراء، وإلا يقاتلوا حتى يعزلوا أو يقتلوا، ويجب أن يسير المسلمون حسب نصوص الكتاب والسنة من غير أن ينحرفوا عنها قِيد شعرة، وإلا يقاتلون ليحل محلهم مسلمون مخلصون طاهرون، ويجب أن يسلك السبيل إلى ذلك من غير تقية، ومن غير مجاملة ولا مواربة، ويجب أن يقابل الواقع كما هو، ويشخَّص كما هو، ويعالج كما هو، على طريقة عمر بن الخطاب، لا على طريقة عمرو بن العاص؛ ووراء ذلك كله نفوس بدوية — غالبًا — فيها كل الاستعداد للقول، وفصاحة اللسان، وفيها كل ما نعهده في البدوي من قدرة على البيان، وسرعة في البديهة، وأداء للمعنى بأوجز عبارة وأقوى لفظ.

من هذا كله نرى الخارجي قد اجتمعت له العاطفة القوية، والأداة الصالحة للتعبير عنها.

وهذا الذي ذكرنا قد جعل لأدبهم لونًا خاصًا غير لون الأدب المعتزلي، وغير لون الأدب الشيعي. أدب المعتزلة أدب فلسفي، فيه عنصر المعاني أغلب وأقوى؛ وأدب الشيعة أدب باك أو أدب حزين على فقدان الحق، أو أدب غضبان على أن لم توضع الخلافة موضعها؛ أما أدب الخوارج فأدب القوة، أدب الاستماتة في طلب الحق ونشره، وأدب التضحية، فلا تستحق الحياة البقاء بجانب العقيدة، وأدب التعبير البدوي الذي لا يتفلسف ولا يشتق المعاني ويولِّدها كما يفعل المعتزلة؛ هو في بعض الأحيان أدب غضبان، ولكنه ليس غضبان من جنس غضب الشيعة، فالشيعة يغضبون لشخص أو أشخاص، ولكن الخوارج يغضبون للعقيدة وللإسلام عامة، بقطع النظر عن الأشخاص؛ وإن نظروا للأشخاص ففي ضوء العقيدة، لا كما يفعل غيرهم من النظر إلى العقيدة في ضوء الأشخاص؛ وقد يرثون ويبكون، ولكنهم حتى في رثائهم وبكائهم أقوياء، يذرفون الدمع ليسفكوا الدم، ويبكون الميت ليتشجع الحي، ويؤبنون المفقود، ليرسموا المثل الأعلى للموجود؛ لا يعرفون هزلًا في الحياة، فلا يعرفون هزلًا في الأدب، ولا يعرفون خمرًا ولا مجونًا، فلا نجد في أدبهم خمرًا ولا مجونًا؛ إنما يعرفون الجهاد والقتال والتربية المتزمتة القاسية التي تخرج رجالًا أقوياء لا يحرصون على الحياة، فكذلك أدبهم؛ كالذي روي أن مروان أخا يزيد لأمه دخل وهو صغير على عبد الملك بن مروان يبكي لضرب المؤدب له، فشق ذلك على عبد الملك، وكان عنده أحد الخوارج، فقال له الخارجي: «دعه يبكي فإنه أرحب لشدقه، وأصح لدماغه، وأذهب لصوته، وأحرى ألا تأبى عليه عينه إذا حضرته طاعة ربه فاستدعى عبرتها». لا يحبون الكذب، ولا يحبون المعاصي، فكانوا كما قال المبرد: «والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب، ومن ذي المعصية الظاهرة»١٠ فكذلك أدبهم، قال قائل:
لقد زاد الحياة إليّ حبًا
بناتي إنهن من الضعاف

قال عمران بن حِطَّان الخارجي:

لقد زاد الحياة إليّ بغضًا
وحُبًا للخروج أبو بلال١١
أحاذر أن أموتَ على فراشي
وأرجو الموت تَحْتَ ذُرَى العَوَالي
فمن يك هَمُّه الدنيا فإني
لها والله ربِّ البيت قاَليِ

ويقول قائلهم:

ومن يحش أطْرَافَ المنايا فإننا
لَبسْنَا لَهُن السَّابِغاتِ من الصَّبْرِ
فإنَّ كريه الموتِ عذبٌ مَذَاقُهُ
إذَا مَا مَزَجنَاهُ بِطيبٍ من الذِّكر
وما رُزِقَ الإنسانُ مِثْلَ مَنيّةٍ
أراحَتْ من الدنيا ولم تُخْزِ في القبر

وهم حتى في غزلهم يمزجون بين الشجاعة والغزل، ويوفقون بين حب الموت وحب الحياة، ويتقربون إلى من يحبون بحسن البلاء في الأعداء، إن شئت فاقرأ قول قطرِي:

لعمرك إني في الحياة لزاهدٌ وفي
العيش ما لم أَلْقَ أُمَّ حَكِيمِ
من الخَفِرَات البيض لم يُرِ مثلُها
شِفَاء لذي بَثٍّ ولا لِسَقيمِ
لعمرُك إني يومَ ألطِم وَجْهها
على نَائباتِ الدَّهْرِ جِدُّ لَئيمِ
ولو شَهِدَتنيِ يَوْمَ دُولاَبَ أَبْصَرَتْ
طِعَان فَتى فيِ الحربِ غَيرَْ ذميمِ
ولو شهدَتْنا يوم ذَاكَ وخَيْلُنَا
تُبيحُ من الكفار كل حَريمِ
رأتْ فِتْيَةً باعوا الإله نُفُوسَهُمْ
بجناتِ عَدْنٍ عنده ونعيمِ

إن كان الأدب ظل الحياة الاجتماعية وصورة من صورها، فأدب الخوارج صورة صادقة صحيحة من صور حياتهم. لقد كانوا شجعانًا لا يبالون الموت، حتى أدخلوا الرعب على قلوب خصومهم، فكان معاوية بن قرة يقول: لو جاء «الديلم من ههنا، والحرورِية (أي الخوارج) من ههنا لحاربت الخوارج» أي لأنهم أشد خطرًا؛ وكان العدد القليل من الخوارج يوقع الفزِع والرعب في العدد الكثير من غيرهم.

وقد قال في هذا المعنى عيسى بن فاتك الخارجي لما هزم الخوارج جنود السلطان يوم آسك:

فلما أصبحوا صلُّوا وقاموا
إلى الجُردِ العِتاق مسوَّمينا
فلما اسْتَجْمَعُوا حَمَلوا عليهم
فظل ذوو الجعائِلِ يُقْتَلونا
بقيةَ يومِهم حتى أتاهم
سوادُ الليل فيه يُراوِغُونَا
يقول بصيُرهْم لما أتاهم
بأن القوم ولَّوا هاربينا
أَأَلْفَا مُؤمن فيما زَعَمتْمْ
ويهزِمُهم بآسَكَ أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زَعَمْتمْ
ولكنَّ الخوارِجَ مؤمنونا
هم الفئَةُ القليلة غْيرَ شَكٍ
على الفِئة الكَثيرَة يُنصَرُونا
أطعْتم كلَّ جبَّار عنِيدٍ
وما مِنْ طَاعَةٍ للظالمين

من أجل هذا كان كلامهم كسهامهم، وخطبهم كقلوبهم؛ يصفهم عبيد الله ابن زياد فيقول: «لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع»، ويروي المبرد «أن عبد الملك بن مروان أتى برجل منهم، فبحثه فرأى منه ما شاء فهمًا وعلمًا، ثم بحثه فرأى منه ما شاء أربًا ودهيًا، فرغب فيه واستدعاه للخروج عن مذهبه، فرآه مستبصرًا محقِّقًا، فزاده في الاستدعاء، فقال له: فُتغِنك الأولى عن الثانية، وقد قلت فسمعت، فاسمع أقلْ. قال له: قل. فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزين له من مذهبهم بلسان طِلق، وألفاظ بينة، ومعان قريبة. فقال عبد الملك: لقد كاد يوقع في خاطري أن الجنة خُلقَت لهم وأني أوْلَى بالجهاد منهم».

•••

لقد كانت ثقافة الخوارج — بحكم غلبة البداوة عليهم — ثقافة عربية خالصة، لا أثر فيها لفلسفة اليونان، كما هو الشأن في ثقافة المعتزلة؛ ولا أثر فيها لثقافة الفرس كما هو الشأن في الشيعة. ثقّف الخوارج ثقافة أدبية لغوية على نمط العرب في ثقافتهم، وثقافة إسلامية على النمط المعهود في عصرهم، من تفهم للكتاب والسنة في سهولة ويسر؛ فإن جادلوا في الدين فاحتجاج بظواهر النصوص وتمسك بحرفيتها، فكان على أدبهم هذا الطالع.

لذلك كان مظهر أدبهم من جنس أدب العرب، لا كُتب تؤّلف، ولا بحوث تصنّف، ولا موضوع يحلَّل، ولكنه شِعر كثير وخُطَب كثيرة؛ وحِكم منثورة. وقد أنتجوا في هذا إنتاجًا ضاع كثيره وبقي قليله، ولو لم يحفظ لنا المبرد في كتابه الكامل طائفة صالحة منه لعمي علينا أمره. وقد دلنا هذا القليل المروي على الكثير الضائع، كما لم يبق في أيدينا — على ما أعلم — من دواوينهم إلا ديوان الطِّرماح الشاعر الخارجي.

وأكثر ما روي لنا من شعرهم وخطبهم وحكمهم ونوادرهم كان في العصر الأموي. أما ما روي لنا في العصر العباسي فقليل؛ وربما كان السبب أن أمرهم ضعف في العصر العباسي فضعف أدبهم تبعًا لذلك، أو أن مدوني الأدب في العصر العباسي أباحت لهم السياسة أن يرووا الأدب الخارجي الأموي؛ لأن هذا الأدب خصم للدولة الأموية، وخصومتها حلال في نظرهم من جميع الوجوه، أما خصومة الخوارج للعباسيين فمبغضة مكروهة. فإن اعترضت بأن الشعر الشيعي قد روي وحفظ في العصر العباسي، وهو خصم كخصومة الخوارج، قلنا إن الشيعة لم يضعف أمرهم في العصر العباسي ضعف أمر الخوارج، وظل منهم قوم ذوو جاه يعطفون على آثار الشيعة، فإن لم يستطيعوا حفظه جهرًا حفظوه سرًا، فإذا قوي أمرهم أظهروه. أما الخوارج فلم يبق لهم في المدن من يعني بأمرهم كثيرًا. ثم إن الأدب الخارجي أدب لساني لا أدب مكتوب، فكان يتطلب لحفظه أن يذهب رواة الأدب كالأصمعي إليهم ليأخذوه عنهم، وأكثر هؤلاء الرواة كانوا صنائع للدولة العباسية يتقربون إليهم برواية ما يرضيهم.

على كل حال ليس من شأننا في هذا الجزء أن نقف طويلًا عند الأدب الخارجي الأموي، فإن نظرنا إلى الأدب الخارجي العباسي رأينا كثيرًا منه أدبًا إباضيًا؛ وقد حفظت مكاتب الإباضية في المغرب وعمان بعض آثارهم التي ترجع إلى العصر العباسي الأول، وإن لم نقف عليها. وربما كان ألمع شيء في الأدب العباسي ما قيل في حادثة الوليد بن طريف التي ذكرناها قبل؛ فقد حاربه يزيد ابن مزيد الشيباني، وكان مسلم بن الوليد (صريع الغواني) متصلًا به، فنوه بحروبه للخوارج في شعره؛ من قصيدته المشهورة التي مطلعها:

أَجْرِرْتُ حَبْلَ خليع في الصِّبا غزِلِ
وشَمَّرَت هِمُ العُذّال في العذل

وقد أطال فيها وصف حروبه مع الخوارج ثم قال:

ويوسُفُ البرَْمُ قد صَبَّحْتَ عَسْكَرَهُ
بعسكر يْلفِظُ الأقدارَ ذي زَجَلِ١٢
والمارقُ ابن طَريف قد دَلَفَت له
بعسكر للْمَنَايا مُسْبِلٍ هَطِلِ
لما رآك مجُدًّا في منيَّته
وأنَّ دفعك لا يسطاع بالحيل
شَامَ النِّزال فأبرقت اللِّقاءَ له
مقدِّم الخَطْوِ فيه غيرَ متكل

إلى آخر القصيدة، وقد عددنا هذا أدبًا خارجيًا لأنه يتصل بحوادث الخوارج ويلقي ضوءًا على حروبهم.

ولما مات الوليد بن طريف وقفت منه أخته الفارعة الخارجية موقف الخنساء من أخويها، ورثته بجملة قصائد، منها قصيدتها المشهورة:

بَتلِّ نهَُاكَى رَسْمُ قَبرٍْ كأنَّه
عَلَى جَبَلٍ فَوْقَ الجبَال مُنيفِ
تَمَّنَ مَجْدًا عُدْ مُليَّا وسُؤددًا
وَهمَّةَ مِقدَامٍ ورَأْىَ حصيفِ
فيا شَجَرَ الخابور مالكَ مُورقًا
كأنك لَمْ تَجْزَعْ عَلَى اُبْنِ طَريف
فَتى لا يُحِبُّ الزَّادَ إلا مِنَ التَُّقَى
ولاَ المالَ إلاّ مِن قَنًا وسُيُوفِ
ولا الذَّخرَ إلاَّ كُلَّ جَرْدَاء صِلدِمٍ
مُعَاوِدَةٍ للكرِّ بَينَْ صُفُوفِ
كأنَّكَ لمَْ تشْهَدْ هُنَاكُ ولَْم تَقُمْ
مَقامًا عَلَى الأعْداء غَيْرَ خَفيفِ
ولَمْ تَسْتلمِ يَوْمًا لِورْدِ كَريَهةٍ
مِنَ السِّردِ في خَضرَاء ذَات رَفيفِ
ولَْم تَسَعْ يَوْمَ الحرب والحَرْب لاقحٌ
وسُمْرُ اُلْقَنَا يُنكُزْنهَا بأُنُوفِ
حَليفُ النَّدى ما عاشَ يَرْضَى به النّدى
فإنْ ماتَ لا يَرْضَى النَّدى بَِحليف
فَقَدْنَاكَ فِقْدانَ الشَّبَابِ وَلَيتَنَا
فَدَينَاكَ مِن فتيانِنا بِألُوفِ
وما زال — حتَّى أزْهَقَ الموْتُ نَفْسَهُ
شَجًا لعَدُوٍّ أَوْ لَجًا لضعيفِ
ألاُ يا لَقَوْمِي للنَّوائِبِ وَالرَّدى
وَللأرْضِ هَمَّتْ بَعْدَهُ برُجُوفِ
ألاُ يا لَقَوْمِي للنَّوائِبِ وَالرَّدى
ودَهَرٍ مُلحٍّ بالكِرَامِ عَنيف
وَللبَدرِ مِنْ بينِْ الكَوَاكِب إذ هَوَى
وَللشَّمْسِ لَماَّ أزْمَعَتْ بكُسُوفِ
وَللّيْثِ كلِّ اللَّيْثِ إذ يحَملُونَه
إلى حُفرَةٍ مَلْحُودَةٍ وسَقِيفِ
ألاَ قاَتَلَ اللهُ الجُثَا حَيثُ أَضْمَرَتْ
فَتى كَانَ للمَعْرُوفِ غَيْرَ عَيُوفِ
فَإنْ يَكُ أَرْدَاهُ يَزيدُ بْنُ مَزْيدٍ
فرُبَّ زُحُوفٍ لَفَّهَا بزُحوف
عَلَيه سَلاُمُ اللهِ وَقفًا فإنني
أرَى المَوْتَ وقاعًا بِكُلِّ شرِيفِ

ومنها قصيدتها:

ذكرتُ الوَليدَ وأيَّامَهُ
إذ الأرضُ من شَخْصِه بَلقَعُ
فأقْبَلْتُ أطْلُبُه في السَّماء
كما يَبْتَغى أنفُهُ الأجْدَعُ
أضاعَكَ قومُكَ فليَطلبوا
إفادةً مثل الذي ضَّيعوا
لوَ أنَّ السُّيوفَ التي حَدُّها
يصيبك تَعْلمُ ما تصنع
نَبتْ عَنْكَ إذ جُعِلَت هَيْبَةً
وخوفًا لصَوْلك لا تَقْطَعَ

إلخ …

١  انظر ما كتبناه عنهم في فجر الإسلام.
٢  ص ٥٥.
٣  انظر مقالات الإسلاميين ١١٢ و١١٣.
٤  انظر تلبيس إبليس ص ٩٥.
٥  الكامل ٨٦/٣.
٦  ابن خلكان ١٥٧/٢. وقد قال: إن الصحيح أن البيت لعروة بن الإطنابة القطري.
٧  انظر ابن الأثير ١٨٣/٥.
٨  يراد بالجزيرة القسم الشمالي بين دجلة والفرات، وهو يشمل ديار مضر وديار بكر، ومن مدنه الشهيرة: حران، والرها، والرقة، ونصيبين، وسنجار، والخابور، وماردين، وآمد، والموصل.
٩  الشاري من الشراة: وهو اسم الخوارج لقولهم: إذا شربنا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها. والقسورة: الأسد.
١٠  الكامل ١٠٦/٣.
١١  أبو بلال: هو مرداس بن أدية.
١٢  ذو زجل: أي ذو أصوات ورجة من كثرته وعدته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤