الفصل الحادي عشر

السيارات العليا

السيَّار أروس

منذ عشرين سنة كنا إذا عدَّدنا السيَّارات العليا من أقربها إلى أبعدها نبتدئ بالمرِّيخ فالنُّجيمات فالمشتري فزُحَل وهلمَّ جرًّا، ولكن بينما كان الفلكي ده وت الألماني يرصد النجوم بتصويرها في مرصد برلين سنة ١٨٩٨ وهو يفتِّش عن مذنَّب أنكي الذي كان ينتظر رجوعه تلك السنة اكتشف في ألواح التصوير صورة سيَّار صغير بين فلك الأرض وفلك المرِّيخ وكان ذلك في ١٤ أغسطس، ووجد بالرصد أنَّ هذا السيار يدنو من الأرض حتى يصير منها على ١٣ مليون ميل ونصف مليون فهو أقرب كل الأجرام السماوية إليها ما عدا القمر لكنه صغير جدًّا لا يزيد قطره على عشرين ميلًا،١ وفلكه كثير الإهليلجية والانحراف على دائرة البروج فيجتاز محله بين الأرض وفلك المرِّيخ ويتخطَّى فلك المرِّيخ.
ثم ظهر من رصد السيدة مرغريت هارود لهذا السيَّار سنة ١٩١٤ أنَّ نوره يتغيَّر كل نحو سبع ساعات فاستدلَّت من ذلك على أنه غير كروي الشكل فيختلف النور المنعكس إلينا عنه باختلاف وجهه المتَّجه إلينا.٢

وقد أشار الفلكي غال سنة ١٨٧٢ والسر دافد جل سنة ١٨٧٧ باستخدام إحدى النُّجيمات لمعرفة بُعد الشمس عن الأرض معرفة دقيقة فلمَّا كُشف هذا السيَّار بادر علماء الفلك إلى قياس بُعد الشمس به فوجدوا أنه نحو ٩٢٩٠٠٠٠٠؛ أي مثلما وُجِدَ بالأقيسة الأخرى، والمرجَّح الآن أنه إن وجد خلل في هذا القياس فهو لا يزيد على جزء من ألف.

المرِّيخ

ما من كوكب من كواكب السماء كثر تحدُّث الناس في أمرهِ مثل المرِّيخ ولا سيَّما بعد أن اكتشف فيه شيبارلي الفلكي الإيطالي ما خُيِّل إليهِ أنهُ ترع محفورة فقال البعض إنَّ المرِّيخ مسكون وأن سكانهُ احتفروا تلك الترع لري مزروعاتهم، ومن ثَمَّ كثرت الكتابات عن المرِّيخ في المجلات العلمية والجرائد السياسية وجارى المقتطف سائر المجلات فنشرنا فيه مقالات ونُبذًا في المرِّيخ لو جُمعت لملأت كتابًا كبيرًا، ومن أبسط ما نقلناه في هذا الموضوع مقالة للسر روبرت بول أستاذ علم الفلك في جامعة كمبردج قال فيها ما يأتي:

لنلتفت أولًا إلى الأمور التي يُشبه فيها المرِّيخ الأرض إذا أُريد النظر إليه كدار للأحياءِ، فالمرِّيخ ليس كبيرًا كالأرض ولا كالزهرة ولكنه أكبر كثيرًا من النُّجيمات وأكبر جدًّا من القمر، وهو من حيث جِرْمه ليس فيهِ ما يمنع كونه دارًا للإحياء بل إن صِغَر الكوكب يزيد صلاحيته لإقامة الأحياء التي لها حركات مستقلَّة فثقل الأجسام على سطح المرِّيخ أقل من ثقلها على سطح الأرض فتكون حركاتها عليهِ أسهل من حركاتها على الأرض حتى إذا أرادت الطيران مثلًا لم تجد فيه من الصعوبة ما تجدهُ فوق سطح الأرض.

والشمس تشرق على المرِّيخ كما تشرق على الأرض وترسل إليه نورها وحرارتها كما ترسلهما إلينا ولكنه أبعد من أرضنا عنها فلا يصل إلى سكانه منهما مقدار ما يصل إلينا، ولكن ذلك لا يستلزم أن تكون حرارة هوائه قليلة جدًّا؛ لأن الحرارة لا تتوقَّف على القرب والبعد من الشمس فقط، انظر إلى الأرض فإنَّ شدَّة الحرارة عند خطِّ الاستواء وشدَّة البرد عند القطبين ليستا ناتجتين عن قرب خط الاستواء من الشمس وبُعْد القطبين عنها، وقمم الجبال العالية يغطِّيها الثلج الدائم وبطون الأودية تحتها شديدة الحرِّ مع أن قمم الجبال أقرب إلى الشمس من بطون الأودية؛ ولذلك لا يصح الحكم على أن هواء المرِّيخ أبرد من هواء الأرض لأن المرِّيخ أبعد عن الشمس من الأرض بل قد يكون الأمر على الضد من ذلك، ويظهر مما رُئي في المرِّيخ بالتلسكوب أنَّ الحرارة على سطحه أشد من الحرارة على سطح الأرض بنوع عام.

وقد عُلِمَ من عهد السر وليم هرشل الفلكي الشهير أنه إذا جاء فصل الشتاء في المرِّيخ تتكوَّن على كلٍّ من قطبيه بقعة بيضاء كبيرة ثم تضيق رويدًا رويدًا بمجيء فصل الصيف إن لم تزل تمامًا، ويظهر بقياس التمثيل بين المرِّيخ والأرض أن فيه ماءً وهذا الماء يجمد ويصير ثلجًا وجليدًا عند القطبيين في فصل الشتاء ثم يعود ماءً في فصل الصيف، ولا أقول إنَّ علماء الفلك مجمِعون على أن تينك البقعتين ثلج وجليد كما يظهران لعين الرائي فإن بعضهم ينفي ذلك وبعضهم زاد تطرُّفًا وظنَّ أنهما غاز الحامض الكربونيك وقد جمد من شدة البرد، أمَّا أنا فلا أرى موجِبًا لهذا الفرض الغريب لا سيما وأنْ ليس لهُ مثيل في الأرض وأنَّ فرض وجود الماء كافٍ لتعليل ما يُرى على سطح المرِّيخ.

فإذا حسبنا أنَّ تينك البقعتين ناتجتان من تجمُّد الماء بالبرد كما يذهب الأستاذ لول وأكثر الذين رصدوا المرِّيخ وجدنا أن فيه شيئين من ألزم لوازم الحياة المعروفة وهما: الماء والحرارة، بل إن إقليم المرِّيخ أقل بردًا من أقاليم الأرض الباردة؛ لأن ثلج قطبيهِ لا يستمرُّ على مدار السنة كما يستمرُّ على قطبي الأرض ولو كان أبعد من الأرض عن الشمس.

وبين المرِّيخ والأرض اختلاف من وجه آخر وهو أنْ ليس فيه بحور واسعة كبحور الأرض كما يُسْتدلُّ من أرصاده الكثيرة؛ فسطحه برٌّ لا بحر فيه، وقد ظُنَّ قبلًا أن البقع التي ترى على سطحه بحور واسعة وأنَّ البُقع المحمرَّة برور ولكن ثبت الآن أو كاد يثبت أن ليس الأمر كذلك فالجانب المسود من سطحه والجانب المحمرُّ كلاهما برُّ لا بحر فيه والماء إنما يوجد حول القطبين حينما يذوب ثلجهما في فصل الربيع وقد أبان الأستاذ لول أنَّ هذا الماء ينتشر على سطح المرِّيخ ثم يغيض سريعًا.

ومن المشابهات بين المرِّيخ والأرض أن النهار والليل يتعاقبان فيه كما يتعاقبان فيها ويومه أربع وعشرون ساعة ونصف ساعة؛ أي أنه يُتِمُّ دورته على محوره في هذه المدة فالفرق قليل جدًّا بينه وبين الأرض من هذا القبيل.

بقي أمرٌ آخر يجب الالتفات إليه إذا أريد البحث عن وجود الأحياء في المرِّيخ وهو أنَّ وجود الأحياء على الأرض مرتبط بنوع هوائها وكثافته، فهل للمرِّيخ هواء يحيط به كما يحيط الهواء بالأرض؟ والمرجَّح أن للمريخ هواءً ولكن هواءه لطيف جدًّا بالنسبة إلى هواء الأرض، فإذا راقب الأرض مراقب من القمر رأى الغيوم الكثيفة تحيط بها وقد لا تنجلي له جبالها ووهادها وبحورها وبرورها لكثرة ما يراه حولها من الغيوم، أمَّا المرِّيخ ففي جوِّهِ شيء من الغيوم لكنها قليلة لا تُذْكَر في جنب غيوم الأرض.

ولا نعلم تركيب هواء المرِّيخ فقد يكون مؤلَّفًا من النتروجين والأكسجين مثل هواء الأرض، ولكن قد لا يكون فيه شيءٌ منهما بل هناك أدلَّة تدلُّ على أنه مؤلَّف من غاز أثقل من الأكسجين فإن دقائق الغاز سريعة الحركة فإذا لم تكن جاذبية السيار الذي هي فيه شديدة أفلتت منه وأبعدت عنه، والمرجَّح أن جاذبية المرِّيخ ليست كافية لحفظ الأكسجين في جوِّه، ويظهر بادئ بدءٍ أنَّ انتفاء الأكسجين من جوِّ المرِّيخ ينفي وجود الأحياء فيه لكن قد لا يكون الأمر كذلك فإن الأحياء الأرضية وجدت الأكسجين في جوِّ الأرض فاستخدمته بالانتخاب الطبيعي؛ لأنه أصلح من غيره لتوليد القوة باتحاده مع الكربون وبذلك تعلل دورة الدم في جسم الحيوان، ويتَّضح هذا من النظر إلى شجر الصنوبر فإنه يُزْرَع في الجبال الصخرية حيث يقلُّ وجود التربة الكافية لنموه لكن جذوره تتشبث بالصخر حيث تجد شقًّا فيه لتتناول ما تجده من الغذاء وتنتشر عليه حتى تعلق به من كل ناحية وتقوى على مقاومة الرياح والعواصف، وهذا كله من أوضح الأمثلة على أن الحيَّ يوفِّق نفسهُ للأحوال التي يوجد فيها ويستخدمها لنفعه؛ ولذلك لا يمكننا الحكم بأن الأكسجين لازم للحياة لزومًا لا انفكاك عنه حتى يتعذَّرَ وجود الأحياء بدونه ولو كانت من الأنواع العليا.

هذه زُبدة ما يُعْلَم من أمر المرِّيخ مما يتعلَّق بالموضوع الذي نحن فيه ويظهر منها أنه ليس في المرِّيخ ما يجعل وجود الأحياء فيه مُحالًا أو بعيد الاحتمال جدًّا، ولكن إذا وُجدت الأحياء هناك فضعف الجاذبية على سطح المرِّيخ يقضي بأنْ تكون تلك الأحياء كبيرة الحجم بالنسبة إلى ما يقابلها على سطح الأرض، وعلى الأرض حيوانات مختلفة الأقدار جدًّا فمنها ما هو في غاية الكِبَر كالفيل والحوت ومنها ما هو في غاية الصغر حتى إن الألف منه تسبح في خَرَب إبرة، وإذا كبر جِرْم السيَّار صغرت الحيوانات التي تسكنه وإذا صغر كبرت ولو ظهر ذلك مخالفًا لم ينتظر، فإذا انتقل إنسان إلى عالم كبير جِرْمه مثل جِرْم الشمس وكان ذلك العالم معدًّا لمعيشة الأحياء لم يستطع ذلك الإنسان أن يعيش فيه؛ لأن ثقله يزيد ستة وعشرين ضِعْفًا بزيادة الجاذبية نحو مركز ذلك العالم فلا يقوى على حمل نفسه، وإذا انتقل إلى عالم صغير جدًّا خفَّ ثقلهُ كثيرًا فزادت قوتهُ على مقاومة أثقال الأجسام؛ لأن أثقالها تكون قليلة فالحيوانات الكبيرة تصلح لسكن الأجرام الصغيرة والحيوانات الصغيرة لسكن الأجرام الكبيرة.

هذا من حيث وجود الأحياء على سطح المرِّيخ، ولكن إن قيل هل تلك الأحياء عاقلة أو غير عاقلة؟ قلنا: إنَّ ذلك ليس مما يمكن إثباته أو نفيه بالتلسكوب؛ لأنه مهما قرب المرِّيخ منا يبقى بعيدًا عنا ٣٥ ألف ألف ميل، والتلسكوب يُقرِّب الأبعاد حقيقة ولكنه مهما قرَّبها لا يقرِّبها إلى أكثر من جزء من ألف جزء من بُعْدِها، فإذا نظرنا المرِّيخ به وهو على أقرب بعده عنا رأيناه على ٣٥ ألف ميل على الأقل ومعلوم أننا لا نستطيع أن نرى جسمًا بأقوى تلسكوب أوضح مما نراه بعيوننا إذا كان بُعْدُه عنا ٣٥ ألف ميل، فلو رُفِعَت الولايات المتحدة الأمريكية فوق أوروبا وجُعِلَ بُعْدها عنها عشرة أضعاف ما هو الآن فماذا يراه الناس منها بعيونهم لا يرون شيئًا من مدنها ومبانيها الفخمة ولا من أنهارها الكبيرة، وقد يرون أكبر بحيراتها كنقطة صغيرة وقد يرون تغيرًا في حراجها الواسعة حينما يسقط ورقها ولكن سكان البلاد وأعمالهم لا يظهر منها شيء، وهذا شأننا في نظرنا إلى المرِّيخ بأقوى نظاراتنا فلا سبيل لنا لنعرف هل هو مسكون أو غير مسكون.

وعندي أنه إذا قايسنا بين الأرض والمرِّيخ ترجَّح لنا أنَّ الأحياء العاقلة غير موجودة فيه فإن الأحياء العاقلة وُجِدَت على الأرض منذ عشرات الألوف من السنين ولكن سبقتها عشرات الملايين من السنين والأرض مسكونة بأحياء غير عاقلة فمرَّت عشرات الملايين من السنين قبلما وصلنا إلى الأحياء العاقلة، والمدة التي وُجِدَت فيها الأحياء في الأرض قصيرة جدًّا إذا قسيت بالدهور المتطاولة التي مرَّت على الأرض قبلما وُجِدَ فيها حيٌّ، فالمدة التي وُجِدَت فيها الأحياء العاقلة في هذه الأرض ليست سوى نقطة في أوقيانوس الزمان، ولا يبعد أن يكون تاريخ المرِّيخ مثل تاريخ الأرض فيمرُّ على الأطوار التي مرَّت عليها الأرض وتتولَّد فيه أحياء عاقلة كما تولَّدت فيها ولكن يبعد عن التصديق أن تجتمع فيه وفي الأرض أحوال واحدة في وقت واحد وهذه الأحوال لم تصر في الأرض إلا في برهة من تاريخها نسبتها إلى تاريخها كله كنسبة نقطة إلى بحر.

وإذا سُئِلْتُ عن رأيي في وجود الأحياء في المرِّيخ مهما كان نوعها أجبت أنِّي أعتقد أنه لا يخلو من المخلوقات الحية، ودليلي على ذلك قانون المُرجِّحات فإنَّ الأحياء موجودة على الأرض في كلِّ مكان وفي كل الأحوال فيُرجَّح أن تكون موجودة في المرِّيخ أيضًا. انتهى.

وقد نشرنا هنا خريطة المرِّيخ كما رسمها الأستاذ بروكتر وصورتين رسمهما الأستاذ لول الذي همُّهُ الأكبر إثبات وجود القنوات في المرِّيخ وأنها صناعية احتفرتها مخلوقات عاقلة لريِّ الأراضي الزراعية على ضفَّتَيها.

fig34
شكل ١١-١: خريطة المرِّيخ كما رسمها الفلكي بروكتر منذ خمسين سنة.
fig35
شكل ١١-٢: صورة المرِّيخ كما رسمها الأستاذ لول وتظهر فيها ترعه المختلفة.

النُّجيمات

قلنا في الفصل الثالث إنَّ أبعاد السيَّارات عن الشمس جارية على قاعدة مُقرَّرة فعطارد على نحوِ ٣٦ مليون ميل من الشمس والزهرة على ٦٧ مليون ميل والأرض على ٩٣ مليونًا والمرِّيخ على ١٤٢ مليونًا والمشتري على ٤٨٤ مليونًا، فيجب أن يكون بينه وبين المرِّيخ سيَّار آخر على نحوِ ٢٥٢ مليون ميل، لكنَّ الذين رصدوا الأفلاك من عهد الكلدانيين والمصريين واليونان والرومان والعرب لم يروا سيَّارًا بين المرِّيخ والمشتري ولذلك تألَّفت لجنة من الفلكيين في أواخر القرن الثامن عشر لرصد السماء والبحث عن هذا السيار فوجدت ضالَّتها ولكن الذي وجدها لم يكن من اللجنة بل كان إيطاليًّا من أهالي بالرمو اسمه جوسبي بيازي فإنه كان يرصد نجمًا صغيرًا في أول يناير سنة ١٨٠١ في برج الثور فرأى أنَّ موقعه تغيَّر بعد يومين دليلًا على أنه ليس من النجوم الثوابت؛ لأن نسبة مواقعها بعضها إلى بعض لا تتغيَّر بل هو من السيَّارات التي تتغيَّر مواقعها بين الثوابت، وبعد قليل قربت الشمس من برج الثور فتعذَّرت رؤية هذا النجم ثم رآه سنة ١٨٠٢ فحسب الفلكي غوس فلكهُ وإذا بُعْده عن الشمس مطابق للقاعدة المشار إليها آنفًا، ووَجَدَ أنه نجيمة صغيرة فسُمِّيت سرس باسم إلهة الحبوب والحصاد عند الرومان، وفي ٢٨ مارس من تلك السنة اكتشف الفلكي ألبرس نجيمة ثانية فلكها أوسع قليلًا من فلك سرس فسمِّيَت بلاس وهي إلهة أثينا اليونانية، وارتأى ألبرس أن هاتين النجمتين من قطع سيَّار كبير تمزَّق وأنه لا بدَّ من اكتشاف قطع أخرى منه، فاكتُشفت نُجيمتان أخريان ووقف الاكتشاف عند هذا الحدِّ إلى أن كانت سنة ١٨٤٥م فاكتُشف نجيمة خامسة سيَّارة ثم ثلاث نجيمات سنة ١٨٤٧، وزاد عدد ما كشف من هذه النجيمات سنة بعد سنة حتى زادت الآن على سبعمائة ولا سيَّما بعد أن نيط البحث عنها بآلة التصوير التي سمَّيناها عين العلماء فإنها تنصب أمام جزء من فلك هذه النجيمات وهي متصلة بآلة تديرها كما تدور السماء؛ أي عكس دوران الأرض على محورها فتبقى متَّجهة إلى ذلك الجزء من السماء ساعة بعد ساعة فتظهر النجوم على لوح التصوير الذي فيها نقطًا صغيرة، ولكن إذا كان بين النجوم نجم متحرِّك فإن صورته لا تكون نقطة بل خطًّا حسب سيره في المدة التي بقيت النظَّارة موجَّهة إليه فيها، ويكون هذا الخط مائلًا حسب سير ذلك النجم وعلى هذا الأسلوب كشف السيار أروس كما تقدَّم.

والنُّجيمات كلها صغيرة جدًّا، الكبريان منها وهما: سرس وجونو قُطْر كلٍّ منهما نحو ٤٠٠ ميل، أمَّا الصغيرات فتختلف أقطار كلٍّ منها من ١٥ ميلًا إلى ٢٠ وأكثرها من هذا القدر، ولا بدَّ من وجود نُجيمات كثيرة أصغر من ذلك ولكنها أصغر من أن تُرى بأقوى النظارات المعروفة، وقد حسبوا مجموع أجرام النجيمات كلها فإذا هو أقل كثيرًا من رُبع جِرْم الأرض وكلها تدور في أفلاك بين فلك المرِّيخ وفلك المشتري إلَّا اثنتين تقربان في فلكهما من المشتري كأنه جذبهما إليهِ إلَّا أنَّ التي تدور بين فلك المرِّيخ وبين فلك المشتري تبلغ سعة أفلاكها ٣٠ مليون ميل كما ترى في الشكل الثاني المرسوم في الفصل الثالث في هذه البسائط.

قلنا إنَّ الفلكي أُلبرس ارتأى أنَّ النُّجيمات من قطع سيَّار كبير كسر بالانفجار إلَّا أن هذا الرأي أُهْمِلَ الآن وأُبدل برأيٍ آخر وهو أنَّ الحلقة التي انفصلت عن الشمس ليتكوَّن منها سيَّار بين المرِّيخ والمشتري كانت أصغر من أن تتجمَّع وتكوِّن سيارًا كبيرًا والمشتري على مقربة منها يمنع تجمعها فبقيت أجزاءً متفرقة تكوَّنت منها النجيمات.

المشتري

المشتري أكبر السيارات التابعة للنظام الشمسي، سمَّاهُ العرب بهذا الاسم لأنهُ اشترى الحُسْنَ لنفسه كما قالوا، فإن كان الأمر كذلك فما الذي أبقوه للزهرة وهي أسطع منه نورًا وأعظم سناءً وقد لقَّبها غير واحد منهم بملكة الجمال، ويُسمِّي الغربيون المشتري جوبتر وهو اسم كبير آلهة الرومان يُقابله زفس عند اليونان قبلهم ومردوخ عند البابليين والآشوريين، ولعلَّهم سمُّوه بهذا الاسم تشبيهًا له بكبير آلهتهم، أو لأنهم حسبوه أليق الأماكن بسكنى كبير آلهتهم فسمُّوه باسمهِ.

وقُطر المشتري ٨٥ ألف ميل وحجمه ١٢٥٠ ضعف حجم الأرض ولكن كثافة مادته ربع كثافة مادة الأرض؛ فلذلك كان ثِقَلهُ غير مناسب لحجمهِ إذا قيس بحجم الأرض وثقلها، فبينا نرى حجمه ١٢٥٠ ضعف حجم الأرض كما تقدَّم نرى ثقله ٣٠٠ ضعف ثقلها.

ومتوسط بُعْدِهِ عن الشمس ٤٧٨ مليون ميل، فلو أنَّ قطارًا يقطع ٥٠ ميلًا في الساعة خرج من الشمس قاصدًا المشتري لبلغه في تسعمائة سنة، وبعبارة أخرى لو قام قطار من الشمس في عهد الحاكم بأمر الله العبيدي ما بلغ المشتري إلَّا في أيامنا هذه.

ولتقريب أمر حجمهِ وكثافتهِ إلى الأفهام نقول إنهُ لو قُطِعَ ١٢٠٠ قطعة لكانت كلٌّ منها أكبر من الأرض، ولو جُمِعَت السيَّارات كلها كتلة واحدة ما بلغ ثقلها نصف ثقل المشتري.

وسنة المشتري تساوي اثنتي عشرة سنة من سِني أرضنا وهو يدور على محوره في نصف المدة التي تدور فيها الأرض على محورها، ولكن لمَّا كان جِرْمه أكبر من جِرْم الأرض بكثير فإن سرعته في الدوران على محوره أعظم من سرعتها بكثير أيضًا، وبينا الأرض تدور ١٧ ميلًا في الدقيقة يدور المشتري ٤٦٦ ميلًا وهو يُتِمُّ دورتهُ على محورهِ في نحو ١٠ ساعات؛ أي إنَّ طول يومه نحو ١٠ ساعات في حين أنَّ الأرض تُتِمُّ دورتها اليومية في ٢٤ ساعة وهي طول اليوم من أيامها.

ويمكن حسبان المشتري إمَّا شمسًا صائرة إلى الانحلال والاضمحلال، وإمَّا أرضًا في دور التكوين فإنه كرة كبيرة من الغاز والمواد الذائبة لم يمر عليها الزمان الكافي لتصير كتلة باردة جامدة، ولمَّا كان أشبه بالشموس منهُ بالكواكب التابعة لها فقد ارتأى البعض أنَّ بعض نورهِ أصليٌّ منبثقٌ منهُ لا مكتسبٌ من الشمس كله، ولكن الفلكيين ليسوا مُتَّفقين في ذلك وما يُقال في نورهِ يقال في نارهِ فإن السحب التي تتجمَّع في جوِّهِ قد تكون ناشئة عن حرارة أصلية فيه أو عن حرارة الشمس الواردة إليه.

والناظر إليه بالتلسكوب يرى على سطحه منطقتين عريضتين ومنطقتين أخريين أو ثلاثًا أضيق منهما على جانبيهما، وهذه المناطق موازية لخطِّ الاستواءِ فيهِ وقد تضيق هذه المناطق جدًّا وحينئذٍ يرى عددها على ازدياد.

ولمَّا كان المشتري غير جامد القوام كالأرض؛ أي لا يزال بين الغازية والسيولة بسبب اشتداد الحرارة فيه فهو لذلك مغلَّف بغلاف كثيف من السحب والغيوم، ويُرجَّح أن المناطق المشار إليها إنما هي شقوق في غلافه إلى ما تحت سطحه، وهذا غاية ما عُرِفَ عنها فإنها تبقى شهورًا طوالًا غير متغيِّرة ثم يطرأ عليها ما يغيِّر منظرها مما بَعَثَ على الظنِّ أن أعاصير شديدة تثور على سطح المشتري فتغيِّر هيئته، وقد تلوح مناطقه في بعض الأحيان مبقعة منقطة ولا تعلم ماهيَّة هذه البقع والنقط حتى الآن.

fig36
شكل ١١-٣: المشتري ومناطقهُ وبقعهُ.

وتدلُّ الدلائل على أنَّ المشتري في حالة لولا كرامة سميه إله آلهة البابليين واليونان والرومان لقلنا إنها أشبه الحالات بمخاض الحامل، وأن تمخضه هذا قد ينتهي بانقداد قطعة كبيرة منه وولادة قمر جديد يضاف إلى الأقمار التي تدور حوله الآن كما جرى للأرض مع قمرها وكما جرى للشمس مع السيَّارات كلها، فإن على سطحه بقعة حمراء غريبة حيَّرت الفلكيين وكان أول مَنْ رآها فلكي بلجيكي في بروكسل سنة ١٨٧٨، وكان طولها حينذاك ٣٠ ألف ميل وعرضها ٨ آلاف ميل فلو ألقيت الأرض برمَّتها فيها لوسعتها وضفت عليها.

بقي الفلكيون يدرسون هذه البقعة ثلاث سنوات وهي ظاهرة لهم أتمَّ ظهور، وكانت تجول في صدر المشتري وتدور حوله وتُتِمُّ دورتها في ٩ ساعات و٥٥ دقيقة و٣٦ ثانية فذهبوا فيها كلَّ مذهب، فمن قائل إنها بركان ولكن ينقض هذا الزعم كونها جوَّالة غير مقيمة في مكان، ومن قائل إنها هي ما رآه هوك سنة ١٦٦٤ وسيني معاصره وهذا مشكوك فيه، ومن قائل إنها جزيرة طافية على سائل لا تُعْلَم طبيعته ولكن طول بقائها لا يوافق هذا الرأي.

والذين يقولون إن المشتري في حالة مخاض يقولون إن حالتهُ هذه لا بدَّ أن تنتهي بانفصال هذه القطعة الحمراء منهُ فتصير قمرًا يدور حوله، فإن أرضنا لمَّا كانت كتلة رخْوة القوام كانت تدور على محورها بسرعة عظيمة حتى إنَّ أجزاءها الاستوائية لم تستطع التماسك فانفصل بعضها وطار في عرض الفضاء ولكنه بقي تحت تأثير جاذبية الأرض حتى إذا بلغت القوة الدافعة حدَّها دار ذلك الجزءُ حول الأرض وكان دورانهُ هذا نتيجة فعل قوتين: قوة الدفع أو الاستمرار من جهة وقوة جذب الأرض من جهة أخرى فكان القمر.

وقد خَطَرَ لبعض الفلكيين أن يصوِّرَ البقعة الحمراء وما طَرَأَ عليها من الحركة والانتقال من أول ما رُئيت سنة ١٨٧٨ إلى سنة ١٩١٨ كما ترى في الشكل المتقدِّم.

وللمشتري حاشية من الأتباع تسعة أقمار تدور حوله أربعة منها معروفة من عهد غاليليو فإنه اكتشفها بنظارته وأطلق عليها اسم النجوم المديشية نسبةً إلى آل مديشي وهي كبيرة، ولولا سطعان نور المشتري حولها لرُئيت بالعين من غير نظارة. والقمر التاسع كُشِفَ منذ أربعة أعوام وقد أسهبنا الكلام عليه وعلى القمر السادس والسابع في مقتطف دسمبر سنة ١٩١٧.

والقمر الأول والثاني من الأقمار الأربعة التي اكتشفها غاليليو قُطْر كلٍّ منهما مثل قُطْر قمرنا، وقطر كلٍّ من القمرين الآخرين مثل نصف قُطْر قمرنا وأقرب هذه الأقمار يدور حول المشتري في يومين من أيامنا والثاني في يوم والثالث في سبعة أيام والرابع في يوم، ومن دوران هذه الأقمار حول المشتري واختفائها وظهورها ثانية استنتنج رومر الفلكي الدنماركي سنة ١٦٧٥ أن النور يقضي مدة من الزمن في انتقاله من مكان إلى آخر، فإنه لمَّا حُسِبَت المدة التي تدور فيها هذه الأقمار حول المشتري كان المشتري في أقرب بُعْدِه من الأرض، ووُضِعَت حينئذٍ جداول تُعلَمُ بها أزمان اختفاء هذه الأقمار؛ أي خسوفها ولكن لما بعُدَ المشتري في فلكه عن الأرض ظهر أن اختفاء هذه الأقمار بدخولها في ظلِّه صار يتأخَّر عن الزمن المحدَّد له في الجداول؛ فخَطَرَ لرومر أنَّ الأقمار تختفي وتظهر في الوقت المعيَّن لها بالحساب ولكن النور الواصل منها إلينا يُقيم مدة في الطريق فتبقى منظورة به مدة بعد اختفائها وتتأخَّر رؤيتها مدة بعد خروجها من الظلِّ حسبما يقضي النور في سيره منها إلينا، فحسب مدة التأخر هذه بالتدقيق وقسَّم عليها المسافة التي بعُدَ بها المشتري عنها فظهر منها أنه لا بدَّ للنور من ثانية من الزمان حتى يقطع ١٨٦٠٠٠ ميل، وقد ثبت هذا بعد ذلك بأدلة أخرى فكان لهذه الأقمار أكبر فضل في إثبات حقيقة من أهمِّ الحقائق العلمية وهي مقدار السرعة التي يسير فيها النور.

زُحَل

إذا نظرنا إلى زُحَل من غير نظَّارة رأيناه كغيره من الكواكب نقطة لامعة، ولكن إذا نظرنا إليه بنظارة مقربة رأيناه يمتاز عن سائر نجوم السماء بحلقة عريضة رقيقة ملتفَّة حولهُ كما ترى في الشكل ١١-٤ وإذا دقَّقنا النظر إليه بنظَّارة كبيرة رأينا هذه الحلقة مؤلَّفة من ثلاث حلقات متراكزة؛ أي ذات مركز واحد أبعدها عنهُ منيرة كزُحَل نفسه والتي تليها منيرة أيضًا ويفصل بينهما خلاء يسمَّى فاصل كاسيني نسبة إلى دومنك كاسيني الفلكي الإيطالي الذي اكتشفه في مرصد باريس سنة ١٦٧٥، وداخل الحلقة الثانية حلقة ثالثة متصلة بها وهي قليلة الإشراق وتكاد تكون شفَّافة يُرَى جسم زُحَل من خلالها وهي غير متصلة به بل يفصل بينها وبينه فاصل واضح كما ترى في الشكل، وهذه الحلقة لم تُكْشَف حين اكتشاف أختيها بل تأخَّر اكتشافها إلى سنة ١٨٥٠ اكتشفها حينئذٍ الفلكي بوند في أمريكا والفلكي دوز في إنكلترا اكتشفاها في وقت واحد، أمَّا الحلقتان الأوليان فاكتُشِفَتا من عهد غليليو، ومادة هاتين الحلقتين محتشدة نوعًا فيُرَى ظلُّ زُحَل عليهما ويُرَى ظلُّهما عليه وليس كذلك الحلقة الثالثة، وسعة هذه الحلقات من طرف إلى طرف ١٧٢٣١٠ أميال؛ أي أكثر من مضاعف قُطْر زُحَل، ويختلف منظرها باختلاف موقع زُحَل منا فقد تكون هالات إهليلجية حولهُ وهو في وسطها كما ترى في الشكل ١١-٦، وقد يتجه حرفها إلينا فنراها خطًّا منيرًا على وسط زُحَل ممتدًّا على جانبيه كما ترى في الشكل ١١-٥ ويحدث ذلك مرة كل نحو ١٥ سنة ولمَّا حدث سنة ١٨٩٢ اختفى هذا الخط تمامًا دلالة على أن الحلقات رقيقة جدًّا لا يزيد سمكها على ٥٠ ميلًا وكان حرفها غير مائل حينئذٍ فلم يُرَ لبُعده الشاسع ثم رُئيت خطًّا دقيقًا آخر مرة سنة ١٩٠٧ ورُئيت كذلك سنة ١٩٢٢.
fig37
شكل ١١-٤: زُحَل.
fig38
شكل ١١-٥

وقد اختلف الفلكيون في مادة هذه الحلقات بين أن تكون جامدة أو سائلة إلى أن قام كلارك مكسول الرياضي وأثبت سنة ١٨٥٧ أنها لو كانت جامدة أو سائلة متصلة الأجزاء لمَا استطاعت أن تبقى في مكانها فلا بدَّ من أن تكون مؤلَّفة من أجزاء صغيرة جامدة أو منفصل بعضها عن بعض؛ أي من أقمار صغيرة جدًّا تدور حول زُحَل بعضها مع بعض، وكان في الإمكان أن تتجمَّع وتصير قمرًا واحدًا أو أقمارًا قليلة لو لم يكن زُحَل قريبًا منها فيمنع تجمعها بجذبه الشديد لها إذ قد أثبت روش الفلكي الفرنسوي أن الأقمار لا تتكوَّن حول سياراتها إلَّا إذا أُبْعِدَت عنها بُعْدًا يتوقَّف مقدراه على كِبَر جِرْم السيَّار.

fig39
شكل ١١-٦

وارتأى علماء الفلك من عهد قديم أنَّ هذه الحلقات تدور حول زُحَل دوامًا وإلا ما استطاعت البقاء في أماكنها بل كان جذبه الشديد لها يمزِّقها كلَّ ممزَّق، ثم أثبت الأستاذ كلير منذ عهد غير بعيد أنها تدور فعلًا وبين مَنْ رصدها بالسبكتروسكوب أنَّ أجزاءها القريبة من زُحَل أسرع في دورانها من أجزائها البعيدة عنه، وهذا يُؤيد ما قيل من أنها مؤلَّفة من أقمار صغيرة أو أجزاء منفصلة بعضها عن بعض، وذلك شأن الأقمار القريب منها أسرع دورانًا من البعيد، ثم لو كانت كلُّ حلقة منها مادة جامدة متصلة الأجزاء لوجب أن تكون البعيدة منها أسرع من القريبة ولا بدَّ من أن تكون مادتها قليلة؛ لأنها لا تؤثِّر في حركات زُحَل.

وقُطْر زُحَل أقصر من قُطْر المشتري نحو الخُمس وهو شديد التفرطح من قطبيه حتى يظهر تفرطحه بالتلسكوب فإن قطره الاستوائي ٧٦٩٧٧٠ ميلًا وقطره القطبي ٧٦٠٤٧٠ ميلًا، وسطحه يشبه سطح المرِّيخ من حيث وجود المناطق والبُقع عليه ويعلم منها أنه يدور على محوره مرة كل نحو عشر ساعات وربع ساعة، وأجزاؤه الاستوائية أسرع من أجزائه القطبية كأنَّ مادة سطحه مائعة متحرِّكة لا ينتظم سيرها مع سيره كله، وكثافته أقل من كثافة المشتري دلالة على أن جانبًا كبيرًا منه لا يزال بخارًا؛ أي إنه لا يزال في الدرجات الأولى من التكوُّن.

والمعروف حتى الآن أنَّ له عشرة أقمار فهو أكثر السيَّارات أقمارًا وأحدث أقماره اكتشافًا القمر الذي كُشِفَ سنة ١٨٩٨ وأخوه الذي كُشِفَ سنة ١٩٠٤ وقد كُشِفَ كلاهما بواسطة التصوير كما كُشِفَ كثير من النُّجيمات ومكتشفهما الأستاذ بكرنج الأميركي والأخير منهما أصغر جِرْم يرى في النظام الشمسي.

وأغرب أقمار زُحَل القمر التاسع الذي اكتشفه بكرنج فإنه لا يدور حوله من الغرب إلى الشرق كسائر الأقمار بل من الشرق إلى الغرب.

وتظهر الشمس من زُحَل صغيرة جدًّا حتى لا يكاد يكون لها قرص ظاهر ويصل إليه من نورها وحرارتها ما يُماثل جزءًا من تسعين جزءًا مما يصل إلى الأرض منهما، والذي يُقيم في زُحَل لا يرى من الأرض والسيَّارات كلها إلَّا المشتري وهو يراهُ كما نرى الزهرة حجمًا ووضعًا؛ أي نجم صباح ونجم مساء.

ولمَّا رصد غليليو زُحَل بالتلسكوب رأى حلقاته ككوكبين كبيرين على جانبيه فكتب إلى كبلر يقول إنَّ زُحَل مؤلَّف من ثلاثة كواكب ثم رَصَدَه بعد نحو سنة ونصف سنة فإذا بالحلقات صارت منطقة حول زُحَل بارزة عن جانبيه؛ لأن حرفها كان مُتَّجهًا حينئذٍ نحو الأرض فوقع في حيرة شديدة وقال أين الكوكبان اللذان كانا على جانبَي زُحَل أين طارا أو أي شيطان ابتلعهما، ثم تغيَّر منظرهما رويدًا رويدًا حتى صارا كيدين معكوفتين على زُحَل وقضى غليليو نحبه وهو لا يعلم سرَّ هذه الحلقات، ولكن هجنس الفلكي الهولندي اكتشف سرهما سنة ١٦٥٦ بتلسكوبه الكبير الذي طوله ١٢٣ قدمًا، وترى في الشكل ١١-٦ صور زُحَل وحلقاته كما كان يتصوَّرها القدماء.

وزُحَل أبعد الكواكب التي عَرَفَ الأقدمون أنها سيَّارات لا نجوم ثابتة وهو عند العرب مَثلٌ في العلوِّ والبُعْدِ وفي ذلك يقول المتنبي:

وعزمة بعثتها هِمَّة زُحَل
من تحتها بمكان الأرض من زُحَل

أورانوس

زعم الأقدمون أنَّ زُحَل أبعد الكواكب السيَّارة كلها؛ لأنهم لم يروا سيَّارًا أبعد منه واستمرُّوا على هذا الزعم إلى أنْ كان السر وليم هرشل يرصد النجوم سنة ١٧٨١ بنظارته الكبيرة، فرأى نجمًا في برج الجوزاء لم يكن قد رآه قبلًا فوضع في النظَّارة بلورة تكبِّر ما يرى بها من الكواكب كثيرًا فرأى أنها كبرته وصار له قرص ظاهر وهي لا تكبر النجوم الثوابت لبُعْدِها الشاسع فقال إنه ليس منها ثم راقبه ليلة بعد ليلة فرأى له حركة بطيئة فاستنتج أنه من ذوات الأذناب وأرسل أخبر العلَّامة مسكلين الفلكي بذلك ثم وجد أنَّ بُعْدَه عن الأرض لم يتغيَّر من يوم إلى آخر كما يتغيَّر بُعْدُ ذوات الأذناب؛ فاستنتج أنه سيَّار من السيارات وراء زُحَل وسمَّاه جورجيوم سيدوس باسم الملك جورج الثالث ملك إنكلترا لأنه كان ولي نعمته، لكن فلكيِّي أوروبا سموه هرشل باسمهِ ثم أُطْلِقَ عليه اسم أورانوس؛ أي السماوي ولم تزل علامته الفلكية حرف H باسم هرشل، وكان فلمستيد الفلكي الملكي وغيره من الفلكيين قد رأوه قبلًا لأنه يكاد يُرَى بالعين المجرَّدة ولكنهم لم يعلموا أنه سيَّار فحسب دلمبر الفلكي الفرنسوي فلكه من المواقع التي رأوه فيها؛ لأنه إذا كان كوكب اليوم في نقطة معلومة من السماء وانتقل بعد شهر إلى نقطة أخرى وبعد شهر آخر إلى نقطة غيرها سهُلَ معرفة الدائرة التي يدور فيها حول الشمس، ثم اكتشف هرشل قمرين لهذا السيَّار وظنَّ أنه رأى له أربعة أقمار أخرى لكن رؤيتهما لم تثبت وإنما ثبت أن له قمرين آخرين اكتشفهما لسل سنة ١٨٥١ ولم يُكْشَف له من الأقمار غير هذه الأربعة.

قُطْرُ أورانوس نحو نصف قُطْر زُحَل وقد شُوهدت على سطحه علامات يُسْتَدلُّ منها على أنه يدور على محوره كالأرض كلَّ نحو عشر ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة، والمرجَّح أن جسمه بخاري كجسم زُحَل والمشتري ولا يصل إليه القليل من نور الشمس وحرارتها.

نبتون

ونبتون أبعد من أورانوس وقد كان اكتشافه من الغرائب العلمية التي تأيَّدت بها حقائق علم الفلك في نظر العامة، فإن أحد تلامذة كمبردج واسمه جون أدمس كان ينظر فيما يعرف عن فلك أورانوس حول الشمس فرأى فيه اختلافًا وكان واحد آخر قد رأى هذا الاختلاف وَبَحَثَ عن سببه لكنه مات قبل أن يعرف السبب فترك أدمس المسألة إلى أنْ جاز الامتحان سنة ١٨٤٣ ثم جعل يبحث حاسبًا أنَّ هذا الاختلاف مسبَّب عن جذب سيَّار آخر أبعد من أورانوس فطلب من أري الفلكي أن يُخبره عن رصود أورانوس الحديثة وفي ذلك الحين كان أراغو مدير مرصد باريس قد طلب من لفريه أن يبحث عن سبب هذا الاختلاف في حركة أورانوس، وفي خريف سنة ١٨٤٥ اكتشف أدمس سبب الاختلاف وبعث به إلى أري فأرسل أري يسأله هل هذا السبب يصدق أيضًا على نصف القطر الحامل في فلك أورانوس فتأخَّر أدمس في إرسال الجواب بضعة أشهر فأرسل أري يسأل لفريه وكان لفريه قد أخذ يبحث عن سبب الاختلاف في فلك أورانوس فأجابه بالإيجاب وأنه واثق بصحة ما استنتجه، حتى إنه بعث إلى الدكتور غال في برلين ليبحث عن السيَّار المسبِّب لهذا الاختلاف في بقعة عيَّنها له في السماء فبحث غال عنه ووجده فيها، وكان الأستاذ تشلمس قد أخذ يبحث عنه في المكان الذي عيَّنه أدمس فرآه غير مرة ولكن لم تكن عنده خريطة سماوية كالخريطة التي عند غال فلم يُقر على أنه هو السيَّار المنشود؛ ولذلك نسب حق الأولية في اكتشافه للفريه ثم جعل أدمس قسيمه فيه، وأطلق على السيار أولًا اسم لفريه ثم سمِّي نبتون وهو اسمه الذي يُعْرَف به الآن، وكان لالند الفلكي الفرنسوي المشهور قد رآه سنة ١٧٩٥ ورأى أنه انتقل من مكانه بعد يومين فظنَّ أنه أخطأ في رصده الأول ولم يخطر بباله أنه سيَّار.

ولا يُرى نبتون بالعين المجرَّدة ولم يكشف له حتى الآن إلَّا قمر واحد وهو يُماثل أورانوس حجمًا، ولكن لم يثبت حتى الآن أنه يدور على محوره ولعله لا يزال في الحالة السديمية، ومن المحتمَل أنه توجد سيَّارات أخرى تدور حول الشمس أبعد منه ولكن لم يُكْشَف منها شيءٌ حتى الآن.

أمَّا الأرض من حيث هي سيَّار من السيارات فقد جاء وصفها في أماكن مختلفة من هذه البسائط وأمَّا أوصافها الطبيعية فمن خصائص الجغرافية الطبيعية ولا محلَّ لبسطها هنا.

انتهينا من الكلام على النظام الشمسي؛ أي على الشمس وسيَّاراتها وأقمار تلك السيَّارات ولم يبقَ إلا الكلام على ذوات الأذناب المتَّصلة بهذا النظام، وقد رأى القارئ مما تقدَّم أن الشمس لا تصلح لسكنى المخلوقات الحية؛ لأن درجة حرارتها تصهر الذهب والبلاتين وتحلُّ كل المواد المركَّبة حية كانت أو غير حية، وكلُّ سيَّاراتها وأقمار هذه السيَّارات لا يصلح منها لسكن الأحياء غير الأرض والمرِّيخ، والمرجَّح أن المرِّيخ غير صالح لهذه الغاية وإن صَلَحَ فلغير البشر فتبقى الأرض وحدها صالحة لسُكنى الإنسان من كلِّ كواكب النظام الشمسي، ولا ندري ما هو شأن النجوم الأخرى وكلٌّ منها شمس أكبر من شمسنا، وقد يكون لها كلها سيَّارات مثل سيارات الشمس ولكن يُحْتَمل أيضًا أنها كلها لا تزال في دور التكوُّن وفي حالة سديمية فلا تصلح لإقامة حي مركَّب، وإن صحَّ ذلك فكُرَتُنا الأرضية أصلح الأماكن كلها لسكنى المخلوقات الحية والإنسان أوسع هذه المخلوقات إدراكًا وهو على سعة إدراكه لا يعلم تركيب جسم النملة ولا كيفية تجمُّع الدقائق في حبة الرمل، علم واسع وجهل مُطبق وكلهما ناطق بأنَّ مبدع هذا الكون أعظم وأعلم وأحكم من كلِّ ما يتصوَّره عقل الإنسان.

١  المقتطف، مجلد ٢٢، صفحة ٧٩٨.
٢  المقتطف، مجلد ٤٨، صفحة ٤٠٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤