الفصل الرابع عشر

ثرثار قَرَّرَ أَنْ يَعِيشَ

فِي الْبِدَايَةِ قَرَّرَ ثرثار أَنَّ الْمَوْتَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سِجْنٍ، مَهْمَا كَانَ ذَلِكَ السِّجْنُ لَطِيفًا. كَانَتْ تِلْكَ حَمَاقَةً بَالِغَةً، وَلَكِنَّهُ اعْتَزَمَ الِامْتِنَاعَ عَنِ الطَّعَامِ. وَقَرَّرَ أَلَّا يَمَسَّ حَبَّةَ الذُّرَةِ الصَّفْرَاءَ اللَّذِيذَةَ الَّتِي وَضَعَهَا لَهُ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون فِي مَحْبِسِهِ؛ فَقَدِ اعْتَزَمَ أَنْ يُجِيعَ نَفْسَهُ حَتَّى الْمَوْتِ. بِالْفِعْلِ، اعْتَزَمَ أَنْ يُجِيعَ نَفْسَهُ حَتَّى الْمَوْتِ؛ لِذَا عِنْدَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مَا مِنْ سَبِيلٍ لِلْخُرُوجِ مِنْ مَحْبِسِهِ، انْزَوَى دَاخِلَ جِذْعِ الشَّجَرَةِ الْأَجْوَفِ الصَّغِيرِ الْمَوْضُوعِ بِالْقَفَصِ، حَيْثُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَرَاهُ، وَاعْتَزَمَ أَنْ يَمْكُثَ هُنَاكَ حَتَّى يَمُوتَ؛ فَالْحَيَاةُ لَا تَسْتَحِقُّ الْعَيْشَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهَا سَجِينًا. حَتَّى إِنَّهُ لَنْ يُوَفِّرَ لِنَفْسِهِ سُبُلَ الرَّاحَةِ؛ فَقَدْ كَانَ ثَمَّةَ كَوْمَةٌ صَغِيرَةٌ مِنْ نُشَارَةِ الْخَشَبِ وَقُصَاصَاتِ الْقُمَاشِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ مِنْهَا فِرَاشًا وَثِيرًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمَسَّهَا. بَلِ اكْتَفَى بِإِغْرَاقِ نَفْسِهِ فِي التَّعَاسَةِ.

فَلَمْ يُطِلَّ حَتَّى بِطَرَفِ أَنْفِهِ خَارِجَ تِلْكَ الرَّدْهَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ الصَّغِيرَةِ وَلَوْ مَرَّةً فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الطَّوِيلِ. وَكَثِيرًا مَا كَانَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون يَأْتِي لِزِيَارَتِهِ، وَيُصَفِّرُ لَهُ وَيُنَادِيهِ بِرِقَّةٍ. وَلَكِنَّ ثرثار لَمْ يُصْدِرْ صَوْتًا. وَأَخِيرًا حَلَّ اللَّيْلُ، وَأَخَذَ الْمَخْزَنُ، حَيْثُ وُضِعَ سِجْنُهُ، يَزْدَادُ ظُلْمَةً بَعْدَ ظُلْمَةٍ وَسُكُونًا. وَفِي ذَلِكَ الْحِينِ بَدَأَتْ مَعِدَةُ ثرثار تَسْتَرْعِي انْتِبَاهَهُ؛ فَحَاوَلَ ثرثار غَضَّ الطَّرْفِ عَنْهَا، وَلَكِنَّهَا أَصَرَّتْ عَلَى لَفْتِ انْتِبَاهِهِ إِلَيْهَا، وَلَمْ يَسْتَطِعْ ثرثار تَمَالُكَ نَفْسِهِ؛ فَقَدْ كَانَتْ مَعِدَتُهُ خَاوِيَةً، وَظَلَّتْ تُخْبِرُهُ بِذَلِكَ.

أَمَّا ثرثار فَقَالَ لِنَفْسِهِ مَرَّةً تِلْوَ أُخْرَى: «سَأُجِيعُ نَفْسِي حَتَّى الْمَوْتِ.»

فَهَمَسَتْ مَعِدَتُهُ: «أَنَا خَاوِيَةٌ، وَيُوجَدُ الْكَثِيرُ مِنَ الطَّعَامِ لِمَلْئِي، إِنْ تَوَقَّفْتَ عَنْ سَخَافَاتِكَ.»

وَكُلَّمَا حَاوَلَ ثرثار أَلَّا يُفَكِّرَ فِي الْمَذَاقِ الرَّائِعِ الَّذِي قَدْ يَحْمِلُهُ طَعَامٌ مَا، زَادَ تَفْكِيرُهُ فِي الْأَمْرِ؛ وَهُوَ مَا أَوْرَثَهُ شُعُورًا بِالْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ؛ فَرَاحَ يَتَلَوَّى وَيَلُفُّ وَيَتَقَلَّبُ. وَفِي النِّهَايَةِ قَرَّرَ أَنْ يُلْقِيَ نَظْرَةً أُخْرَى لِيَرَى إِذَا مَا كَانَ ثَمَّةَ سَبِيلٌ لِلْخُرُوجِ مِنْ سِجْنِهِ. فَأَطَلَّ بِرَأْسِهِ خَارِجَ الرَّدْهَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ الصَّغِيرَةِ. وَكَانَ الظَّلَامُ وَالسُّكُونُ مَا زَالَا يُخَيِّمَانِ عَلَى الْمَكَانِ. فَأَرْهَفَ السَّمْعَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ صَوْتًا. ثُمَّ تَسَلَّلَ إِلَى الْخَارِجِ بِنُعُومَةٍ وَتَفَحَّصَ سِجْنَهُ مِنَ الدَّاخِلِ مَرَّةً أُخْرَى مُتَعَجِّلًا. فَلَمْ يُجْدِ ذَلِكَ نَفْعًا! لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ يُمْكِنُهُ إِعْمَالُ أَسْنَانِهِ الْحَادَّةِ فِيهِ.

ثُمَّ هَمَسَتْ مَعِدَتُهُ: «هَا هِيَ كَوْمَةٌ صَغِيرَةٌ مِنَ الذُّرَةِ فِي انْتِظَارِي.»

فَرَدَّ ثرثار بِعُنْفٍ: «لَنْ أَمَسَّهَا أَبَدًا!»

وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ ضَرَبَ شَيْئًا مَا بِقَدَمِهِ، فَتَدَحْرَجَ عَلَى الْأَرْضِ. فَالْتَقَطَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى الْأَرْضِ ثَانِيَةً. كَانَ ثَمَرَةَ جَوْزٍ، ثَمَرَةَ جَوْزٍ سَمِيكَةً. وَأَعَادَ الْكَرَّةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكُلَّ مَرَّةٍ كَانَ يَجِدُ صُعُوبَةً أَكْبَرَ فِي وَضْعِهَا عَلَى الْأَرْضِ ثَانِيَةً.

فَغَمْغَمَ ثرثار قَائِلًا: «أَ… أَ… أَوَدُّ أَنْ أَتَذَوَّقَ ثَمَرَةَ جَوْزٍ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ جُوعًا.» وَدُونَ أَنْ يُدْرِكَ، بَدَأَ يَقْرِضُ الْقِشْرَةَ الصُّلْبَةَ. وَعِنْدَمَا فَرَغَ مِنْ تِلْكَ الثَّمَرَةِ، وَجَدَ أُخْرَى؛ وَعِنْدَمَا فَرَغَ مِنْهَا هِيَ الْأُخْرَى، أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى. ثُمَّ رَغِبَ بِشِدَّةٍ فِي تَذَوُّقِ حَبَّةِ ذُرَةٍ. وَفَجْأَةً اكْتَشَفَ ثرثار أَنَّ الْجَوْزَ وَالذُّرَةَ نَفِدَا عَنْ آخِرِهِمَا، وَأَنَّ مَعِدَتَهُ امْتَلَأَتْ. وَلِسَبَبٍ مَا، أَحَسَّ تَحَسُّنًا كَبِيرًا. وَلَمْ يَعُدْ يَشْعُرُ بِالرَّغْبَةِ فِي الْمَوْتِ جُوعًا.

وَقَالَ لِنَفْسِهِ: «أَ… أَ… أَظُنُّنِي سَأَنْتَظِرُ قَلِيلًا وَأَرَى مَا سَيَحْدُثُ. وأَثْنَاءَ انْتِظَارِي، فَلْأُوَفِّرْ لِنَفْسِي سُبُلَ الرَّاحَةِ.»

وَمِنْ ثَمَّ بَدَأَ يَحْمِلُ نُشَارَةَ الْخَشَبِ وَقُصَاصَاتِ الْقُمَاشِ إِلَى جِذْعِ الشَّجَرَةِ الْأَجْوَفِ، وَسُرْعَانَ مَا صَارَ لَدَيْهِ فِرَاشٌ وَثِيرٌ كَأَفْضَلِ فِرَاشٍ نَامَ عَلَيْهِ يَوْمًا. وَقَرَّرَ ثرثار أَنْ يَعِيشَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤