الفصل الثامن عشر

ثرثار يَتَعَرَّضُ لِلسُّخْرِيَةِ

قَالَ سامي فِيمَا يُشْبِهُ صَرْخَةَ مَرَحٍ؛ إِذْ حَدَّقَ النَّظَرَ فِي ثرثار مِنْ أَعْلَى شَجَرَةِ التُّفَّاحِ، فِي الْقَفَصِ الَّذِي صَنَعَهُ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون مِنْ أَجْلِهِ: «هَا هَا هَا! هِي هِي هِي! أَخِيرًا وَقَعَ الْمُتَذَاكِي فِي الْفَخِّ!» كَانَ سامي يَشْعُرُ بِارْتِيَاحٍ عَارِمٍ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّ ثرثار مَا زَالَ حَيًّا يُرْزَقُ، وَبِمُتْعَةٍ بِالِغَةٍ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّ ثرثار — الَّذِي طَالَمَا ظَنَّ نَفْسَهُ حَادَّ الذَّكَاءِ — وَقَعَ فِي الْفَخِّ، فَمَا كَانَ فِي وُسْعِهِ سِوَى أَنْ يُعَذِّبَ ثرثار بِالضَّحِكِ مِنْهُ وَالتَّحَدُّثِ إِلَيْهِ بِفَظَاظَةٍ، حَتَّى فَقَدَ ثرثار أَعْصَابَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ كَعَادَتِهِمَا الْقَدِيمَةِ؛ وَهُوَ مَا أَمْتَعَ سامي أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى؛ لِأَنَّهُ بَدَا لَهُ تَمَامًا كَطَبْعِ ثرثار عِنْدَمَا كَانَ شَيْطَانًا صَغِيرًا مُشَاغِبًا طَلِيقًا فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، حَتَّى أَيْقَنَ سامي أَنَّ ثرثار كَانَ بِخَيْرٍ.

وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ التَّوَقُّفَ طَوِيلًا لِلسُّخْرِيَةِ مِنْ ثرثار الْمِسْكِينِ؛ فَأَوَّلًا، كَانَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون قَدْ أَطَلَّ بِرَأْسِهِ مِنْ بَابِ مَخْزَنِ الْحُبُوبِ؛ لِيَرَى سَبَبَ الضَّجَّةِ. وَثَانِيًا، كَانَ سامي يَتَحَرَّقُ شَوْقًا لِنَشْرِ الْأَنْبَاءِ فِي أَنْحَاءِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ وَالْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ؛ فَسامي نَمَّامٌ كَبِيرٌ كَمَا تَعْلَمُونَ، وَكَانَتْ تِلْكَ أَنْبَاءً غَيْرَ عَادِيَّةٍ بِحَقٍّ، وَكَانَ سامي يَعْلَمُ جَيِّدًا أَنَّ أَحَدًا لَنْ يُصَدِّقَهُ. كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُمْكِنَهُمْ تَصْدِيقُ أَنَّ السَّيِّدَ ثرثار الذَّكِيَّ قَدْ وَقَعَ فِي الْفَخِّ حَقًّا. وَفِعْلًا لَمْ يُصَدِّقْهُ أَحَدٌ.

فَكَانَ سامي يُجِيبُ قَائِلًا: «حَسَنًا. إِنَّ تَصْدِيقَكُمْ مِنْ عَدَمِهِ لَا يَهُمُّنِي مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. يُمْكِنُكُمُ الذَّهَابُ إِلَى مَنْزِلِ الْمُزَارِعِ براون لِتَرَوْهُ فِي السِّجْنِ بِأَنْفُسِكِمُ، تَمَامًا مِثْلَمَا فَعَلْتُ أَنَا.»

وَفِي وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ جِدًّا مِنْ عَصْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ — عِنْدَمَا سَادَ الْهُدُوءُ فِنَاءَ الْمَزْرَعَةِ — رَأَى ثرثار شَيْئًا مَأْلُوفًا لِلْغَايَةِ خَلْفَ الْجِدَارِ الْحَجَرِيِّ الْقَدِيمِ الْقَائِمِ عَلَى أَطْرَافِ الْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ. وَقَفَزَ ذَلِكَ الشَّيْءُ إِلَى أَعْلَى، ثُمَّ تَوَارَى عَنِ الْأَنْظَارِ مِنْ جَدِيدٍ. وَقَفَزَ إِلَى أَعْلَى ثَانِيَةً، ثُمَّ تَوَارَى عَنِ الْأَنْظَارِ بِالسُّرْعَةِ ذَاتِهَا.

فَقَالَ ثرثار لِنَفْسِهِ: «يَبْدُو لِي كَأَنَّ الْأَرْنَبَ بيتر هُنَاكَ وَيَشْعُرُ بِتَوَتُّرٍ بَالِغٍ.» ثُمَّ نَادَى بِحِدَّةٍ، تَمَامًا مِثْلَمَا كَانَ يَفْعَلُ عِنْدَمَا كَانَ طَلِيقًا فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. وعَلَى الْفَوْرِ ظَهَرَ رَأْسُ بيتر فَجْأَةً، وَظَلَّ ثَابِتًا هَذِهِ الْمَرَّةَ. وَاتَّسَعَتْ عَيْنَا بيتر دَهْشَةً، لَدَى تَحْدِيقِهِ فِي سِجْنِ ثرثار.

ثُمَّ شَهَقَ بيتر كَأَنَّ تَصْدِيقَ عَيْنَيْهِ كَانَ بِالصُّعُوبَةِ ذَاتِهَا كَتَصْدِيقِ سامي، وَقَالَ: «أُوهْ! لَقَدْ كَانَ مُحِقًّا! لَا بُدَّ أَنْ أَذْهَبَ عَلَى الْفَوْرِ لِأَرَى مَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ لِتَخْلِيصِ ثرثار مِنْ ذَلِكَ الْمَأْزِقِ.» ثُمَّ إِنَّهُ — نَظَرًا لِكَوْنِهِ فِي وَضَحِ النَّهَارِ، وَلَمْ يَكُنْ يَجْرُؤُ عَلَى الْبَقَاءِ دَقِيقَةً أُخْرَى — لَوَّحَ لِثرثار مُوَدِّعًا وَاتَّجَهَ إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ مُطْلِقًا سَاقَيْهِ لِلرِّيحِ.

وَبَعْدَ فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ، ظَهَرَ الثَّعْلَبُ ريدي دُونَ سِوَاهُ فَوْقَ الْجِدَارِ الْحَجَرِيِّ. بَدَتْ تِلْكَ جُرْأَةً بَالِغَةً مِنَ الثَّعْلَبِ ريدي، وَلَكِنَّهُ فِي الْوَاقِعِ لَمْ يَكُنْ جَرِيئًا مِثْلَمَا بَدَا؛ فَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون وَكَلْبَ الصَّيْدِ باوزر فِي الْمَرْعَى الْقَدِيمِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ شَيْءٌ يَسْتَدْعِي الْخَوْفَ. وَابْتَسَمَ لِثرثار ابْتِسَامَةً مُسْتَفِزَّةً أَيَّمَا اسْتِفْزَازٍ، وَهُوَ مَا أَوْرَثَ ثرثار شُعُورًا بِالْغَضَبِ لِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهِ.

أَنْتَ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُتَذَاكِي
تَسُرُّنِي رُؤْيَتُكَ مُعَافًى!
وَكَمَا تَرَى فَالْجَوُّ بَدِيعٌ
فَلِمَ لَا تَأْتِي لِتَتَمَشَّى مَعِي؟

كَانَ هَذَا مَا قَالَهُ الثَّعْلَبُ ريدي، وَهُوَ يَعْلَمُ طَوَالَ الْوَقْتِ أَنَّ ثرثار لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَمَشَّى مَعَ أَحَدٍ. فَفِي الْبِدَايَةِ، عَنَّفَهُ ثرثار وَسَبَّهُ بِكُلِّ الشَّتَائِمِ الَّتِي خَطَرَتْ عَلَى بَالِهِ، وَلَكِنَّهُ بَعْدَ بُرْهَةٍ لَمْ يَعُدْ يَشْعُرُ بِالرَّغْبَةِ فِي تَعْنِيفِهِ. بَلْ إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ نِصْفَ مَا قَالَهُ الثَّعْلَبُ ريدي مِنْ أَشْيَاءَ لَئِيمَةٍ؛ فَقَدْ كَانَ يَزْدَادُ إِدْرَاكًا لِحَقِيقَةِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنِ الْحُرِّيَّةِ؛ فَقَدْ كَانَ لَدَيْهِ بَيْتٌ مُرِيحٌ، وَطَعَامٌ وَافِرٌ، وَكَانَ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْأَذَى، وَلَكِنَّهُ كَانَ سَجِينًا، وَحُضُورُ أُولَئِكَ الزُّوَّارِ جَعَلَهُ يُدْرِكُ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى؛ فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ بِمَا يُشْبِهُ الدُّمُوعَ، وَتَسَلَّلَ إِلَى الْجِذْعِ الْأَجْوَفِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ رُؤْيَةُ أَحَدٍ وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ رُؤْيَتُهُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤