الفصل السابع والعشرون

العودة إلى جزيرة الخيال

نوفمبر ٢٠١١

القيادة في هندوراس أشبه بخوض سباق الاتحاد القومي لسباقات السيارات القياسية (ناسكار) بخيولٍ على طُرُق بها حُفَر عميقة كالأخاديد؛ فهندوراس ليست المكان الذي يَفتح فيه الراكب النافذة ويدع الرياح تُداعب خصلات شعره، ولكن كان هذا ما فعلته كارلا على أيِّ حال.

تجاهلَت السيارات القادمة من الاتجاه المعاكس علامات عدم المرور المُصمتة. لا توجد قواعد للقيادة على الطُّرق، بل مجرَّد مقترحات لطيفة. وقوانين الفيزياء هي القوانين الوحيدة التي يتبعها الناس، وحتى هذه تتحداها السيارات الرياضية مُتعدِّدة الأغراض غير المرخَّص لها التي تتخذ مُنحنيات حادَّة. قطعتُ طريقي عبر الجبال جنوبي مدينة سان بيدرو سولا في هندوراس. عندما جرؤت على رفع عيني من فوق الطريق، وجدتُني أُحدِّق في سروال كارلا الجينز الأزرق الضيق جدًّا والمُمزَّق، ذي الجيوب المزوَّدة بالسحاب وسير حمالة الصدر الظاهر من قميصها الأسود الشفاف الذي جعَلها تبدو وكأنها خرجَت توًّا من فيديو من فيديوهات مايكل جاكسون.

لغتي الإسبانية ضعيفة جدًّا؛ فهي عبارة عن مزيج من اللغة اللاتينية التي تعلمتها في الجامعة وقائمة مفردات من المرحلة الثانوية مرَّ عليها عقد من الزمن وأتذكَّرها بصعوبة بالغة. بحثتُ عن مرادف كلمة «بحق الجحيم» في اللغة الإسبانية لأقول شيئًا على غرار: «ماذا تفعلين بحق الجحيم؟!»

هزَّت كتفَيها. لدقيقة ظننتُ أنها تعاني من الفواق وأن هذا نوع من العلاج المُتبع في هندوراس. كنت أتوقع منها أن تطلب مني إمساك أذنيها أثناء انحنائها إلى الخارج وتناولها كأسًا من الماء وهي في وضع مقلوب. لا بد أن هذا يفي تمامًا بشرط التخلُّص من نوبة الفواق. هزة أخرى بالسيارة وفهمت الأمر؛ إنها تعاني من دوار السفر بالسيارة.

انعطفتُ بسيارتي طراز تويوتا كورولا زرقاء مثل لون السنافر إلى محطة وقود تكساكو، ولكن بعد فوات الأوان.

وهناك تمخَّطت؛ كان هذا بمثابة خرق لبندٍ من بنود اتفاقية تأجير سيارتي. فبمُجرد أن فتحتُ الباب لم تخرج، وإنما انحنَت إلى الخارج ببساطة كما لو أنها تتحقَّق من أن الإطارات غير مُفرغة من الهواء.

دخلت إلى محطة الوقود وأحضرتُ بضع زجاجات مياه. بالأساس كنت أريد مناديل وأكياسًا بلاستيكية. وحين عدتُ إلى السيارة، كنت أرغب في قول عبارة من فيلم «عالم وين» لطالما انتظرت أن أقولها.

قلت وأنا أناولها كيسًا بلاستيكيًّا: «إذا كنتِ ستتقيَّئين، تقيئي هنا.»

كنَّا راكبَيْن من المُستبعَد أن تجمعهما رحلة واحدة على الطريق، متجهَيْن إلى قرية البورفينير التي يَعني اسمها المستقبل.

نعم كنا بحقٍّ عائدَيْن إلى المستقبل.

•••

«دعنا نتصل به.» قالها جابرييل المُترجم المُرافق لي.

قرأت بصوت عالٍ رقم هاتف أميلكار الذي دوَّنتُه في مفكرتي من رحلتي الأولى في هندوراس قبل ست سنوات. كنتُ قد اتصلت بالرقم من قبل، ولكن لم يُفلح اتصالي.

أمسك جابرييل بالهاتف ورفعه إلى رأسه الذي يَليق برأس مذيع. كان له فك مربع الشكل وعينان تُشعان بالذكاء وشعر مصفَّف على نحوٍ مثالي. كان جابرييل يدرس الصحافة بجامعة سان بيدرو سولا وعُرض عليه العمل مراسلًا صحفيًّا في القناة السادسة بسان بيدرو سولا، ولكنه رفض؛ إذ كان يريد العمل لحسابه الشخصي. غير أنني أدركت ما رأته القناة السادسة فيه. سواء أكانت الأخبار سارة أو سيئة: كان جابرييل قادرًا على نَقلها بتعبيرات وجهية صارمة.

رنَّ جرس الهاتف.

صحتُ قائلًا: «أغلق الخط!» أغلق جابرييل الخط. كان الوقت متأخرًا في المساء لإجراء مثل هذه المكالمة.

لم يكن بإمكاني تصديق أن الاتصال نجَح فعلًا. كانت خطتي للبحث عن أميلكار مُبعثَرة فوق فراشي: صورتان فوتوغرافيتان له وأقل من ١٠٠ كلمة في مذكرتي تصف لقاءنا الأول والوحيد. كنتُ أخطط أنا وجابرييل للذهاب إلى المصنع في اليوم التالي كمُخبِرَيْن من مسلسل «قانون ونظام» (لو آند أوردر)، يُمسكان بصورتين ٥ × ٧ ويقولان: «هل رأيتم ذلك الرجل؟» بدلًا من ذلك، اتصلنا بأميلكار الساعة الحادية عشرة مساءً أحد أيام الثلاثاء في مكالمة هاتفية أشبه بمُكالمات المقالب.

وعندما عاودْنا الاتصال في اليوم التالي، ردَّت سيدة على الهاتف.

حبستُ أنفاسي. حيَّاها جابرييل وبدأ كلامه. كان يتحدَّث بسرعة بالغة لم أتمكن من التقاط سوى بضع كلمات مُتفرِّقة بالإسبانية كانت معانيها هي: مجنون، أجنبي، ملابس.

لعلَّ هذه الكلمات الثلاث هي أفضل وصف سمعته على الإطلاق لرحلة البحث هذه. وبينما استمرَّت المكالمة الهاتفية، توقفتُ عند كل كلمة ينطقها جابرييل لمتابعة الحديث. وأشرتُ له رافعًا إصبعي الإبهام لأعلى ومبتسمًا له ابتسامة عريضة مُتوتِّرة. فنظر إليَّ نظرة خالية من أي تعبيرات.

ونظرًا لكونه مُستغرِقًا في المكالمة الهاتفية لدرجةٍ أعجزته عن الرد عليَّ، مرَّر أصابعه خلال شعره ومال إلى الأمام. استمرت المكالمة لفترة طويلة جدًّا يستحيل معها افتراض أن يكون الرقم خطأً — لا بد أنها تَعرف أميلكار — غير أن المكالمة استمرت لفترة طويلة جدًّا يستحيل معها افتراض أنها مقتصرة فقط على كيفية مُواصلة أميلكار العمل في المصنع أو كيف تفاقمت الأمور.

هل كان أميلكار على قيد الحياة؟ هل وقع مكروه؟

ذرعتُ الغرفة جيئةً وذهابًا.

أغلق جابرييل الخط وقال: «لن تُخمِّن أبدًا ما حدث يا رجل.»

•••

«كان هذا كلب أميلكار المفضل، ديوك.» قالتها والدة أميلكار بينما كانت تقودنا إلى داخل منزلها وتابعت قائلة: «كان أميلكار يعود أيام الجمعة إلى المنزل ثملًا، ولكنه يُواظب على التنزُّه بكلبه.»

كانت السيدة التي تحدَّث إليها جابرييل عبر الهاتف هي والدة أميلكار. وكُنا قد استغرقنا بعض الوقت لإقناعها بمقابلتنا. في البداية ظنَّت أننا ننوي إيذاءها. كان من الظاهر أن ثمَّة عمليات نصب تحدث في هندوراس؛ إذ يَتصل بك أحدهم ويُخبرك بأنه يعرف أين تعيش وأين يكون أبناؤك، وإذا لم تدفع المال، يؤذيك أنت وأسرتك.

لم تكن هندوراس مكانًا آمنًا ليُقيم فيه المرء في تلك الأيام. في الواقع، قبل أن أُسافر إلى هندوراس، أطلقَتْ عليها صحيفة واشنطن بوست «العاصمة العالمية لحوادث القتل.» وعلَّقت إحدى الصُّحف الصادرة في تيجوسيجالبا، عاصمة البلاد، على انخفاض معدَّل حوادث القتل «هذا الأسبوع». إنهم يقيسون معدلات حوادث القتل «بالأسبوع».

وهندوراس، من الناحية الجغرافية والمجازية، مطحونة بين رحى الحرب على المُخدِّرات التي تتصاعد وتيرتها في المكسيك وكولومبيا. ولقد وقعت مذبحة في المطار قبل شهرٍ من وصولي إلى سان بيدرو سولا. وما إن قرأتُ عن المذبحة حتى نشرتُ على موقع الفيسبوك منشورًا: «أشياء لا تريد قراءتها عن المطار الذي ستُسافر إليه غدًا: «بعد المذبحة التي وقعت الأسبوع الماضي … صار مكانًا يجب تفاديه بأي ثمن»!»

سألني جابرييل عن سبب كتابتي لهذا المنشور حين رآه. وفي النهاية، علق قائلًا: «كان هذا قبل شهر كامل مضى.» يبدو أن إطلاق النار في المطار ومقتل ستة أشخاص إثر ذلك مشكلة مرَّ عليها وقت طويل ليَطويَها النسيان بعد مرور بضعة أسابيع فقط. وفي وقتٍ قصير كنتُ قد سافرت إلى هندوراس، كان لديَّ اجتماع مع أستاذ بجامعة محلية قد أُلغي بعد أن أُطلقت النار على زميله وقُتل أثناء مغادرته أحد البنوك. وشقيق أحد العاملين في دار الضيافة التي نزلتُ بها أُوقفت سيارته وأُطلق عليه ٢٠ طلقة وأوشك أن يموت. ربما لا يوجد شيء يُلخِّص معدلات الجريمة والعنف أفضل مما حكاه لي جابرييل عن تعرُّضه للسرقة تحت تهديد السلاح أثناء نقله لجثمان جده المُتوفَّى مؤخرًا من منزله.

لطالما كنت أقول للناس إن العالَم مكان آمِن أكثر مما يظنون، ولكن ليس في هندوراس، وليس في الوقت الحالي.

«ما احتمالية أن يُمثِّل شخص أجنبي هدفًا مُغريًا؟» طرحتُ السؤال على جابرييل متوقعًا منه أن يقول لي إن السياح يُتركون وشأنهم وإنها مجرد نزاعات بين العصابات في الأساس، وإن شخصًا أجنبيًّا قتيلًا أو مفقودًا عادة لا يَستحق التورط في مشكلة من أجله؛ مثل هذه التبريرات المعروفة.

رد قائلًا: «احتمالية كبيرة!» كان هذا مطمئنًا جدًّا.

هندوراس مكان خطير، إنها من نوعية الأماكن التي يَختفي فيها الناس وحسب؛ بمعنى أنها من نوعية الأماكن التي إذا اتصل بك شخص غريب ليقول إنه يعرف ابنك وإنه يُريد زيارتك، فعليك أن تدرس الموقف بعناية وحذر؛ ومن ثم تبحث عن التفاصيل على جوجل وعلى موقع الفيسبوك. وتطلب صورًا تُثبت ذلك.

أخيرًا أقنع جابرييل والدة أميلكار بأننا شابان صالحان ووافقَت على مقابلتنا. قُدنا السيارة إلى منزلها على بُعد بضعة أميال من مصنع دلتا الذي قابلتُ فيه أميلكار لأول مرة.

حيَّانا الكلب، ديوك، عند الشرفة الأمامية للمنزل؛ حيث كان مربوطًا بسلسلة رفيعة تكاد تكون للزينة فحسب متصلة بطوقٍ جلديٍّ سميك. نبَح نحونا من مُنطلق شعوره بالواجب قبل أن يعود ثانية إلى مرقده. رشَّت والدة أميلكار دواءً على جرح كبير موجود على ظهر ديوك، ثم قادَتْنا إلى داخل منزلها.

شارك ثلاثة كلاب عند الشرفة الخلفية في النباح. كان أميلكار ووالدته مُغرمَين بالكلاب.

قادَتْني أنا وجابرييل ودعتنا للجلوس على أريكة مخملية مطبوعة عليها زهور ذكَّرتني بأريكة جدتي. لقد شاهدت الكثير من حلقات برنامج «٦٠ دقيقة» وأنا جالس على أريكة كهذه. جلسَتْ والدة أميلكار على مقعد بجوار الباب وتكوَّرت على المسند قطة بيضاء. أخذَت تعبث بكأس صغيرة بها دواء سعال؛ كمية قليلة من سائل أزرق يدور في دوامة بالقاع. انضمَّت إلينا كارلا، الأخت الكبرى لأميلكار، لتجلس على الأريكة.

لم يكن من المُمكن أن تُعلَّق صورة والد أميلكار على ارتفاعٍ أعلى مما كانت عليه بالفعل؛ حيث إنها كانت قريبة جدًّا من السقف. كان والد أميلكار قد تُوفي قبل أحد عشر عامًا. عندما التقيتُ بأميلكار، أخبرني بأنه يعيش مع والديه، وليس مع والدته وذكرى والده. كانت الصورة بمنزلة تذكرة لي بالقدر القليل الذي عرفتُه عن الفتى الذي صار أسطورة في خيالي. فرحلة البحث هذه بدأت بأميلكار.

أخرجتُ نسخة من كتابي هذا من حقيبتي وقرأت الجزء الخاص بالشكر والتقدير: «قبل كل شيء، أنا مدين لأميلكار وعريفة وناري وآي وديوان وتشو تشون الذين سمحوا لي بدخول حياتهم وتحمَّلوا أسئلتي. فهذا الكتاب ملك لهم مثلما هو ملك لي تمامًا.»

ناولت كتابي إلى كارلا، تصفَّحته في عجالة.

عقبت قائلة: «شكرًا لك؛ إهداؤك لي كإهدائك إياه لأميلكار بالضبط. سأَحتفظ به.»

بعد ذلك أخرجت الدليل الوحيد الذي كان بحوزتي على مقابلتنا: صورتي وأنا عاري الجذع رافعًا إصبع الإبهام لأعلى بيد واحدة واليد الأخرى تستند على كتف أميلكار. كان أميلكار يضع ذراعيه حول خصري ويرتدي تي-شيرت شخصية «تاتو» الخاص بي؛ كان كلانا يبتسم كما لو أننا صديقان لم يلتقيا منذ فترة طويلة وجاهلان تمامًا للطرق التي سنَسلكها في حياتنا بعد لقائنا هذا.

عرضتُ الصورة على والدة أميلكار وأخبرتها بقصة ذهابي إلى المصنع وطلبي القيام بجولة داخل المصنع من الحُراس أصحاب الكروش المليئة بالبيرة والذين تدلَّت المُسدَّسات من الجيوب الخلفية لسراويلهم. ضحكت حتى تحوَّلت ضحكتها إلى سعال.

قلت: «كنتُ بصدد الاستسلام. لم يتوقَّف أحدٌ للحديث معي. مئات العمال مروا من جانبي، كما لو أنني شخص غير مرئي، ولكن أميلكار توقف.»

علقت قائلة: «لستُ مُستغرِبة. هو شخص ودود.»

وقفتْ وسحبَت ألبوم صور عليه شخصية دب ويني ذا بوه من على رفِّ مكتبة التليفزيون. ومن الجزء العلوي للألبوم، تدلَّت أجراس زينة الكريسماس لشخصية إنديانا جونز مصدرةً خشخشة. فتحت على صورة لصبيٍّ صغيرٍ وهزيل؛ كانت الصورة بأكملها عبارة عن أذنين وابتسامة.

استطردتْ، وكأن الحياة عادت لتدبَّ فيها من جديد على الرغم من إصابتها بالبرد، قائلة: «هذا أميلكار في الصف السادس … عندما كان في المدرسة، كان يخبرني بأنه ذاهب لحضور الحصة، ولكنه كان يُخبِّئ كتبه أسفل شجرة ويلعب كرة قدم.» مرة أخرى تحوَّلت قهقهتها إلى سعال، وتابعت قائلة: «كان مُتمرِّدًا صغيرًا. وحين وصل إلى الصف السابع، لم يعد راغبًا في الذهاب إلى المدرسة.»

ومن ثم، في سن الثانية عشرة، انتقل أميلكار من قريته القريبة من تيجوسيجالبا، عاصمة البلاد، إلى مدينة فيلانويفا. وقد سار على نفس خُطى أخته دينيا؛ حيث كانت قد انتقلت إلى مدينة فيلانويفا في سن الخامسة عشرة لتُطارد فتًى وفي النهاية حصلت على وظيفة في مصنع الملابس. ومعها بدأت أسرة أخرى الهجرة من المزرعة إلى المصنع.

قالت: «انتقلوا إلى مدينة فيلانويفا بحثًا عن عمل. كنتُ قَلِقة على أولادي؛ ولذا تبعتُهم.»

عملت كارلا أيضًا في مصنع ملابس قريب؛ شركة جيلدان. إذا كان لديك مجموعة من التي-شيرتات بمقاسات متنوعة، فثمة احتمال كبير أن واحدًا من هذه التي-شيرتات صنعته شركة جيلدان. فشركة جيلدان المنتج الرئيسي للقمصان المطبوعة بتقنية الطباعة بالشاشة الحريرية في الولايات المتحدة وكندا. وللشركة قُوى عاملة في مختلف أنحاء العالم قوامها ٣٠ ألف موظَّف، كما أنها الراعي الرسمي لدوري كرة القدم للجامعات؛ دوري جيلدان نيو مكسيكو.

قالت كارلا: «لقد قضيتُ هناك ست سنوات، ولكني شعرت بالملل. تُوفِّر شركة جيلدان بيئة عمل رائعة. إننا نعمل في فِرَق. وكلما أنتجنا أكثر، حصلنا على المزيد من العلاوات. فإذا أبلى فريقي بلاءً حسنًا، نحصل على [نحو ٦٥ دولارًا] في الأسبوع. وإذا كان أداؤنا سيئًا، نحصل على الحد الأدنى [٥٤ دولارًا في الأسبوع، أو ١٫٣١ دولار في الساعة]. بالإضافة إلى ذلك، فإن لدينا تأمينات واقتطاعات لمَعاش التقاعُد. كان الأسبوع الأخير ممتازًا، ولكن كانت نوبة عملي الأخيرة سيئة.»

كانت كارلا تتقاضى راتبًا أكبر من اللازم.

وذلك على الأقل وفقًا لمجلس هندوراس للمشروعات الخاصة؛ حيث قدر المجلس الحد الأدنى للأجر المعيشي في هندوراس ﺑ ٢٣٢ دولارًا في الشهر. وقد توصَّل المجلس إلى هذا الرقم من خلال فحص التكاليف الشهرية ﻟ ٣٢ شيئًا ضروريًّا لأسرة مكوَّنة من ستة أفراد. وتعتقد النقابات العمالية أن الحد الأدنى للأجر المعيشي ينبغي أن يكون ٣٣٣ دولارًا.

بصرف النظر عن أي مدًى يَتقاضى العمال رواتب مُبالَغًا فيها أو إلى أي مدًى لا يَتقاضون رواتب كافية، ذكرت دراسة — أجرَتْها حكومة هندوراس بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي عام ٢٠١٠ — أن ٧٢ بالمائة من مُواطني هندوراس — البالغ عددهم ٥٫٧ ملايين نسمة — لم تُلبَّ احتياجاتهم الغذائية الأساسية. وبينما كان ١٫٥ مليون مواطن بهندوراس قادرين على تحقيق الكفاية لأسرهم بخصوص الطعام؛ فإنه لم يكن لديهم ما يَكفي لتغطية تكاليف الاحتياجات الأساسية الأخرى مثل المسكن والرعاية الصحية والتعليم والمواصلات.

لا تزال الرواتب في هندوراس (١٫٣١ دولار في الساعة) أعلى من نيكاراجوا (٦٥ سنتًا في الساعة) والسلفادور (٩٢ سنتًا في الساعة) ويَخشى الكثيرون أن تُرَحَّل صناعة الملابس عن البلاد في المستقبل سعيًا وراء الأجور الأدنى في مكان آخر. أخبرني محامٍ بلجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في هندوراس أنه كان يَعتقد أن صناعة الملابس قد تختفي في غضون عامَيْن. بالتأكيد يُعدُّ هذا السيناريو هو سيناريو الهلاك، وذلك بالوضع في الاعتبار أن نحو ١٣٠ ألف شخص يعملون في المجال، ولكن يوجد حالات تسريح مؤقتة للعمالة وحالات إغلاق للمصانع تُثبت أن الصناعة تسير في هذا الاتجاه فعلًا؛ فلقد صفَّى ٢١ مصنعًا أعماله وانتقل إلى دول مجاورة، وفقد العمال ١٠ آلاف وظيفة على مدار فترة امتدت لسبعة أشهر خلال عام ٢٠١١.

وفي يناير ٢٠٠٩، أغلقَت شركة راسل للملابس الرياضية مصنعًا في مدينة تشولوما في هندوراس، وسرحت ١٢٠٠ عامل. جاء قرار إغلاق المصنع في أعقاب تشكيل العُمال لنقابة. ولم يَرُق هذا الأمر بالنسبة إلى اتحاد الطلاب المناهضين للمصانع المُستغِلة الذين كانوا قد ناضلوا من أجل وضع قواعد السلوك المِهني — بما في ذلك حق تشكيل النقابات العمالية — في المصانع التي تُنتج الزي المرخَّص لجامعاتهم. وأصدرت جمعية حقوق العمال — وهي جهاز رقابي مستقل شكَّله النشطاء في مجال حقوق العمال — واتحاد الطلاب المناهضين للمصانع المستغلة والإدارات الجامعية تقريرًا يُطالبون فيه بوقف الانتهاك الصارخ لقواعد السلوك المهني؛ ومن ثم هبَّ اتحاد الطلاب المناهضين للمصانع المستغلة من أجل فعل شيء. فخرجوا في مظاهرات أثناء نهائيات دوري الرابطة الوطنية لكرة السلة ولجئوا إلى وارين بافيت في مدينة أوماها (حيث إن شركته، بيركشاير هاثاواي، تمتلك شركة فروت أوف ذا لوم، وهي الشركة الأم لشركة راسل) والأهم من ذلك أنهم ضغطوا على الجامعات لإلغاء اتفاقيات منح الترخيص الموقعة مع شركة راسل. وأعلنت جامعة ديوك وجامعة جورجتاون وجامعة ميامي وجامعة ويسكونسن وجامعة روتجرز وأكثر من ١٠٠ جامعة أخرى في المجمل أنها ستُلغي اتفاقية منْح الترخيص لشركة راسل لأن اتحاد الطلاب أصابهم في مقتل؛ في مواردها المالية تحديدًا.

وبعد مرور أقل من عام، أعلنت شركة راسل أنها ستُعيِّن اﻟ ١٢٠٠ عامل جميعهم في مصنع جديد. وفي مايو ٢٠١١ تفاوض الاتحاد على زيادة الأجر بنسبة ٢٦ بالمائة، وشراء مُعدات جديدة لزيادة أرقام الإنتاج، وتقديم وجَبات غداء مجانية وتوفير التدريبات الخاصة بحرية تأسيس النقابات في جميع مصانع شركتي راسل وفروت أوف ذا لوم. مثل هذه الأمور لا تَحدث عادةً في هندوراس، بل إنها تُوضِّح أنه حين يجتمع المُنتِج والمستهلك ويتعاونان معًا، يصبح بإمكانهما تحقيق إنجازات عظيمة. ولقد سجلت الحركة الطلابية أكبر انتصار لها حتى الآن.

وتبع اتحاد الطلاب المناهضين للمصانع المُستغلة هذا الانتصار بحملة شعارها «فقط ادفعها» ضد نايكي؛ حيث أُغلق مصنعان يُنتجان ملابس نايكي دون دفع مكافآت إنهاء الخدمة التي نص عليها القانون في هندوراس استنادًا إلى عدد سنوات العمل. وهكذا، احتجَّ الطلاب مرة أخرى. وفسخت جامعة ويسكونسن تعاقُدها مع شركة نايكي وهدَّدت جامعة كورنيل بأن تسير على النهج نفسه. ومع ذلك تأثَّرت حسابات الأرباح والخسائر الخاصة بشركة أخرى. وفي النهاية وافقَت شركة نايكي على دفع ١٫٥٤ مليون دولار لصندوق إغاثة العاملين على الرغم من حقيقة تمسُّك شركة نايكي بأنها لم تكن تَمتلِك المصنع ولم تكن مسئولة عن دفع مكافآت إنهاء الخدمة لموظَّفي شركة مستقلة عنها.

مثل معظم العُمال الذين تحدَّثتُ معهم، كانت كارلا سعيدةً بأن النقابات العمالية موجودة، ولكنها لن تنضم إلى واحدة منها مطلقًا. كانت تعرف أن الانضمام لنقابةٍ ما من شأنه على الأرجح أن يُساعدها في تقاضي أجر أكبر وتأمين وضعها الوظيفي على نحوٍ أكبر، ومع ذلك كانت تخشى أنها إذا فقدت وظيفتها، فقد تضعها جميع الشركات الأخرى على القائمة السوداء ولن تتمكَّن من العثور على وظيفة جديدة.

علقت كارلا قائلة: «أنا أمٌّ عزباء، وهذا يُخيفني. إنها [صناعة الملابس] مصدر العمل الوحيد هنا في مدينة فيلانويفا.»

لقد التقَيت بعُمالٍ فقدوا وظائفهم مؤخرًا بعد التعرُّض لموقف مشابه جدًّا لموقف شركتي راسل ونايكي؛ حيث شرَع العُمال في إنشاء نقابة عمالية، ثم أُغلق المصنع دون دفع مكافآت إنهاء الخدمة المستحقة. ولسوء الحظ لم يكن هناك طلاب في الولايات المتحدة للاعتراض والتظاهر في ذلك الوقت؛ إذ كان المصنع يُنتج ملابس أطفال، وبالطبع لن يُنظِّم الأطفال الصغار المظاهرات الصامتة المحاكية للموتى. والآباء الذين يشترون الملابس الجاهزة كانوا مُنشغلين جدًّا على الأرجح مع أطفالهم الصغار لدرجة يستحيل معها أن يُدركوا حدوث هذا الانتهاك.

الآباء في أي مكان مشغولون بكونهم آباء، والعُمال الذين فقدوا وظائفهم لا يَشذون عن القاعدة. إنهم يُناضلون من أجل الحصول على مكافآت إنهاء الخدمة ويُحاولون التفكير في طريقة لإعالة أولادهم. وكارلا لا تشذ عن القاعدة.

لقد اعترفت قائلة: «سمعتُ شائعات عن انتقال فُرص العمل إلى السلفادور ونيكاراجوا لأن أجورنا في هندوراس هي الأعلى في منطقة أمريكا الوسطى. حتى وإن كانت هندوراس بها الراتب الأعلى، فأنا لا أحصل إلا على [٦٥ دولارًا] في الأسبوع، ولكن يجب عليَّ أن أدفع فواتير المرافق والهاتف والإيجار وأُلحق ابنتي بالمدرسة.»

إذا كنتَ غير مشترك في نقابة، فإن وظيفتك عُرضة لخطرٍ أكبر. وإذا اشتركتَ فأنت تُخاطر بقدرتك على العثور على وظيفة أخرى. وإذا كنت عاملًا عاديًّا أو مواطنًا عاديًّا في هندوراس، فلن يكون بمقدورك أن تُوفر كمية الطعام الكافية لأسرتك.

«الفرص» في هندوراس لا تكاد تكون فرصًا، إنها بكل بساطة فرص تُقلِّل مستوى معاناتك من أجل العيش على الكفاف.

«من تكون ملكة الجمال هذه؟» قلتها وأنا أشير إلى صورة مُهترئة في الألبوم لفتاة في الثانية عشرة من عمرها يُرافقها على طول ممر الكنيسة صبيٌّ يتباهى بربطة عنق جاهزة. كانت ترتدي فستانًا مزخرفًا شديد البياض في لونه.

ردَّت كارلا قائلة: «هذه ابنة أميلكار، جينيسيز.»

أميلكار لديه أطفال! في الواقع، عندما التقيتُ به، كان لديه ابنتان وفي انتظار ميلاد الثالثة. لم يذكر لي شيئًا من هذا، ولكن من المفترض أنك لن تَكشف كل شيء عن حياتك لشخص غريب عاري الجذع التقيتَ به لمدة ١٠ دقائق. كانت جينيسيز تعيش في مسقط رأسها بإحدى قرى مدينة البورفينير مع والدتها، جولانيس.

وبينما كنتُ أتصفح ألبوم الصور، كانت كارلا تُضيف التعليقات على كل صورة: هذه ابنة أميلكار الصغرى، بيتسابي، تبلغ من العمر خمس سنوات. لا توجد صورٌ لابنته الوسطى؛ حيث انفصلت جولانيس وأميلكار — وهي صديقة حميمة له على مدار فترة طويلة — لبضع سنوات، وأنجب أميلكار ابنةً من علاقة أخرى، تُدعى كاري وتَبلُغ من العمر ثماني سنوات. شاهدتُ أيضًا صورًا لحفل عيد ميلاد وصورًا لتجمُّع عائلي وصورًا لحفل تخرج. بالتدريج كشفَت صورة تلو أخرى النقاب عن تفاصيل حياة وأسرة.

ومن حينٍ لآخر، كانت والدة أميلكار تُعلِّق بقصة تخصها عن أميلكار.

كان أميلكار يُعاني من مشكلة الإفراط في شرب الخمور، ولكنه كان أبًا وأخًا صالحًا حين لا يكون ثملًا. كان يحب كلبه وشطائر التورتيلا التي تصنعها والدته. لقد فشلَت زيجتهما، ثم حاولا أن يُصلحا الأمور بينهما. كان عاملًا بارعًا، ولكن الحياة كعامل ملابس لم تكن كافية.

كثيرًا ما نتعامل مع من يعيشون في الفقر على أنهم جمادات لا بشر. إننا نَرسمهم كشخصيات خاوية مسطَّحة نَشعر حيالها بالشفقة. كنتُ مذنبًا بهذا الشعور عندما التقيتُ لأول مرة بأميلكار وسط سيل جارف من العُمال المندفعين إلى خارج المصنع. كنتُ أشعر بالشفقة حياله حتى من قبل أن ألتقي به. وكنت أخشى مما بدَتْ عليه حياته وأتساءل ما إذا كان أسلوب حياتي فيه تواطؤ مع ما آل إليه حاله. كل ما كنت أعرفه عنه أنه كان يبلغ من العمر ٢٥ عامًا، ويعيش مع والديه، ويحب لعب كرة القدم.

غير أن كل واحد مِنا — سواء أكان عامل ملابس أو أحد أثرياء العالم — بمثابة شخصية معقَّدة لها اهتمامات ونقائص وانفعالات ومشاكل.

بعد أن أقنعتُ كارلا بأنني سائقٌ قدير، وافقت أن تذهب معي لزيارة أسرتها في مدينة البورفينير.

كان يوجد شيء واحد أكيد وهو أنهم كانوا يَفتقدون أميلكار بشدة. فعادةً ما تنتهي قصص الأسرة عنه بضحكة يتبعها تنهيدات. لقد مهَّدتْ لحظات إحياء الذكريات للحقيقة؛ وهي أن أميلكار قد رحل.

قلت: «إنه يبدو رجلًا طيبًا حقًّا.»

أضافت كارلا: «بل هو رجل طيب.» عمَّ الصمت الغرفة باستثناء الإيقاع المحفِّز لموسيقى الصلصة المنبعثة من جهاز الكمبيوتر الموجود بجوار التليفزيون في مكتبة التليفزيون. «بل هو رجل طيب.»

لقد قطعتُ كل هذه المسافة من ولاية إنديانا لتعقُّب أثر أميلكار. كان جابرييل محقًّا، حين قال إنني لن أخمِّن أبدًا ما قالته والدة أميلكار عبر الهاتف:

«أوه، أميلكار، إنه يعيش في كاليفورنيا.»

إنه يعيش هناك.

•••

لا أظن أنه يوجد شيء أسوأ من راكب مصاب بدوار السفر بالسيارة يجلس في المقعد الخلفي ليَدلَّك على الطريق، ولكنه لم يَقُد سيارة أبدًا من قبل ولا يتحدث اللغة نفسها.

وبعد مرور أربع ساعات من القيادة الوعرة عبر الجبال — توقفنا فيها عدة مرات من أجل كارلا كي تتقيأ — وصلنا إلى مدينة تيجوسيجالبا. صحيح أن مدينة سان بيدرو سولا هي العاصمة التجارية لهندوراس، ولكن مدينة تيجوسيجالبا هي عاصمة البلاد. المدينة مُمتدة عبر شوارع ضيِّقة ووعرة — ربما كدليل دامغ على كفاءة الحكومة في التخطيط العمراني للمدينة — بها بالوعات صرف ليس لها أغطية. أخذتُ أتفادى جميع البالوعات المُتهدِّمة أثناء ما كانت كارلا تقودني على طول شارعٍ أُحادي الاتجاه في الطريق الخطأ. ونِعمَ الفريق.

تقع مدينة البورفينير على بُعد ساعتين بالسيارة شمالي مدينة تيجوسيجالبا. لقد اجتزنا صخب المدينة لنصل إلى هدوء الريف (شكل ٢٧-١). رجال على خيول يَرتدون قبعات. أظنك تتخيَّلها قبعات مثل قبعات رعاة البقر، ولكن هذا أشبه بأن تُطلق على وجبة في الصين بأنها طعام صيني. إنهم لا يَرتدون القُبعات من باب استعراض الموضة، وإنما من باب أداء مهمة محدَّدة؛ وهي حجب أشعة الشمس وحماية عينيك من قطرات المطر والتلويح للماشية وتحية الجيران. اجتمع بعض الرجال وهم يمتطون خيولهم للحديث عند نقطة التقاء الطريق الترابي بالرصيف. وآخرون في طريق عودتهم إلى منزل من العمل بعد الظهيرة. كانت الخيول تمر خلال الحُفر التي تملأ الشوارع ومن فوق المطبات الصناعية بلا تردد. وكنت أنا أمر عليها في توتر وفزع شاعرًا بالإجهاد خلال البضعة الأميال الأخيرة لرحلة قيادة امتدَّت ست ساعات.
fig27
شكل ٢٧-١: في شوارع مدينة البورفينير.

بدأت كارلا تُهندم نفسها في المرآة الجانبية للسيارة؛ ومن ثم عرفت أننا اقتربنا. تركنا الطريق المرصوف. كانت كارلا قد انقطعت عن زيارة مسقط رأسها قبل عامين.

أثرنا فضول المارة. كانت كارلا تُومئ للمارة وأصحاب المتاجر الذين كانوا ينظرون إلينا. حينها خطر على بالي ما يبدو عليه الموقف للناظرين؛ ها هي كارلا تعود لزيارة أسرتها بصحبة زوجها الأجنبي الذي لم يكن لديه ما يَكفي من الفطنة لتأجير شاحنة قادرة على السير في شوارع البورفينير الوعرة. اعتدلَت في جلستها ولوَّحت بيدها كما لو أننا في عرض عسكري.

انعطفتُ إلى زقاق، ثم إلى زقاق أضيق قبل أن تُوجِّهني كارلا في النهاية للتوقف عند تجمُّع غفير من الأطفال المتقافزين. كان يوجد أبناء أعمام وأبناء إخوة، وبنات إخوة لأبناء أعمام أبناء الإخوة، وجيران من أعمام الخالات. لم أستطع حفظ الأسماء والمواضع التي تنتهي عندها علاقة وتبدأ أخرى، فالجميع كانوا يحيَّنوننا باعتبارنا أفرادًا من الأسرة.

كان الباب الأمامي — وهو عبارة عن بوابة خشبية في ارتفاع الخصر — للمنزل المبني من قوالب أسمنتية مفتوحًا على مصراعَيه، قادوني إلى الأريكة وقُدِّمَت إليَّ كأس من الكوكا الفوارة. كان هذا منزل خالة كارلا وأميلكار. كانت حجرة المعيشة والمطبخ يتشاركان غرفة طويلة ومفتوحة. كانت توجد قِطع أثاث بالغرفة تكفي لجلوس اثنَي عشر فردًا على الأقل، إلا أنها كانت مُمتلئة عن آخرها. كانت الرءوس الصغيرة تختلس النظرات من فوق البوابة ومن وراء ستائر النوافذ التي كانت بلا ألواح زجاجية. كان بعض أفراد الجموع يَحدوهم الفضول بكل بساطة حيال مجيئنا، ولكن انتابني شعور بأن هذا المنزل هو مركز لجميع أفراد عائلة أميلكار.

تعرفت على الفتاة الموجودة في آخر الغرفة بوصفها ملكة الجمال صاحبة الصورة التي رأيتها في مدينة فيلانويفا. تدلَّت حلقات متموجة مشدودة من تسريحة ذيل الحصان خاصتها وانسدلَت على ظهرها. تعلقت ابنة أميلكار، جينيسيز، بذراع شابة تبدو أصغر كثيرًا من أن تكون والدة الفتاة. كانت كلتاهما تضعان مساحيق التجميل وترتديان قميصَيْن مُتناسقَيْن لونهما وردي. وبينما كان يحدق بي الجميع في فضول واضح، كانت الأم وابنتها يختلسان النظر ناحيتي.

قالت كارلا: «كيلسي، أُقدم لكَ جولانيس وجينيسيز.» نهضتُ وصافحتهما.

لقد اتَّصل أميلكار وأخبر جولانيس بأن شخصًا أمريكيًّا غريبًا كان قد زار والدته وأخته بصدد قطع كل هذه المسافة من مدينة سان بيدرو سولا ليُقابلها. وها أنا ذلك الغريب الأمريكي وها هي الآن تُصافحني.

جلستُ أنا وكارلا وجولانيس وجينيسيز على طاولة بلاستيكية وتناولنا الغداء. كان غداءً هادئًا دون الكثير من الكلام باستثناء تعليقات عما إذا كان يروق لي الطعام والإقامة في هندوراس. قدمت الإجابات التي أُقدِّمها دومًا حين أُسئلُ هذه الأسئلة بصرف النظر عن الدولة التي أزورها: أجل، الطعام رائع وأهل البلد ودودون فعلًا!

وبعد تناول الغداء، توجهنا إلى قلب القرية عابرين شارعًا مرصوفًا بالحجارة. لم تكن توجد مصابيح إنارة في الشوارع، وإنما كان القمر بدرًا مكتملًا يُلقي بظلاله على الأشكال المتحركة — لأجسادنا أثناء السير — التي تختفي أمام الأضواء المتراقصة للسيارات العابرة. أحضرنا آيس كريم ووجدنا بعض المقاعد في حديقة في الجهة المقابلة من الشارع.

طارد مجموعة من الأطفال حمارًا إلى خارج ملعب كرة السلة، الذي لم تكن به سلة، وشرعوا في لعب كرة القدم. تناولنا الآيس كريم وشاهدنا المباراة. كان اللاعبون مزيجًا من الصِّبية والبنات. بعضهم كان جادًّا بخصوص المباراة، والبعض الآخر كان جادًّا بخصوص المغازلة.

كان أميلكار وجولانيس حبيبَين من المرحلة الثانوية وجارَين في نفس المنطقة السكنية. تواعَدا لأول مرة قبل ١٥عامًا في هذه الحديقة، لتتشابك أيديهما لأول مرة، ويُضايقهما أصدقاؤهما على الأرجح. لم يعودا يلعبان أو يطارد كلٌّ منهما الآخر أو يأملان في مشاركة أحدٍ لحظات الوداع الخرقاء. لقد اختارا.

قالت جولانيس: «كنتُ معجبةً به. كنت أضع عيني عليه.» ثم وضعَت يدها على عينيها. لم تتمالك جينيسيز نفسها من الضحك؛ ففكرة الإعجاب والغزل بين والدَيكَ هي فكرة مثيرة للضحك. واستطردت قائلة: «لقد سألني عما إذا كنتُ أرغب في الخروج، فوافقته على الفور. سألني يوم الجمعة وخرجنا معًا يوم السبت.»

وبعد مرور خمس سنوات، كانا لا يَزالان معًا ويعيشان مع والدَيها. وبعد فترة وجيزة، استقبَلا مولد جينيسيز.

كان أميلكار يعمل في الحقول بالقُرب من بيت خالته مع خاله خوسيه أنطونيو، يَزرعان الفول والذرة ويحصدانهما. قال خوسيه أنطونيو إن أميلكار كان عاملًا بارعًا. ولكن السنوات الأولى من علاقتهما لم تكن رغدة وهانئة.

قالت جولانيس: «كان يُفرط في الشراب ويهدر المال على الكحوليات.»

أحيانًا كان لا يعود إلى المنزل في المساء؛ إذ كان يسهر في الخارج ليَسكر ويبيت في الفندق لدى صديقٍ له كان يعمل هناك. كانت أمسياته تمتلئ بمزاح السكارى واصطدام الزجاجات الفارغة بالأسفلت. كان يَخون جولانيس.

أدركا أنه يوجد ما هو أكثر من الحياة الريفية في مدينة البورفينير؛ ومن ثم انتقلا إلى مدينة سان بيدرو سولا حيث عمل أميلكار في عدد من مصانع الملابس المختلفة. كان يصنع الملابس لصالح شركتَي نايكي وبوما وغيرهما. وواصل السهر لوقت متأخِّر من الليل. انفصل أميلكار وجولانيس. كان قد أنجب ابنة أخرى تُدعى كارين، بعد قضاء ليلة مع الأصدقاء في شرب الخمور. تصالح أميلكار وجولانيس. ثم التقى أميلكار بشخص أجنبي مجنون لا يرتدي قميصًا خارج مصنع دلتا حيث يعمل. وأنجبت جولانيس ابنتهما الثانية، بيتسابي، عام ٢٠٠٦.

كان أحد أصدقاء أميلكار قد رُحِّل من الولايات المتحدة مؤخَّرًا إلى هندوراس وكان يُخطط للعودة مرة أخرى. وكان لدى صديقه قصص عن جميع الفرص التي تنتظره في الولايات المتحدة وهذه الفرص تستحق المُخاطَرة بخوض رحلة محفوفة بالمخاطر من هندوراس عبر جواتيمالا والمكسيك. وخلال تلك الفترة نفسها، كافأت شركة دلتا أميلكار بعلاوة قدرها ٣٣٣ دولار على أدائه الممتاز في المصنع.

أعطى جولانيس ثلث المبلغ وأعطى والدته الثلث الثاني واحتفظ بالباقي لنفسه.

في الساعة السادسة من صبيحة يوم ٣٠ مارس ٢٠٠٧، كان من المفترض أن يَلتقي أميلكار بثلاثة من أصدقائه على الطريق الرئيسي. وبدلًا من ذلك، شرع في شرب الخمور. كان مُتحمِّسًا رغم حزنه. لم تكن بيتسابي قد بدأت تزحف بعد. ولم يكن قد سمعها تقول «بابا.» ولم يَكن معلومًا ما إذا كان سيسمع هذه الكلمة أبدًا.

وفي السابعة صباحًا، عثر عليه أصدقاؤه وهو شبه ثَمِل عند الشرفة الأمامية لمنزل والدته. وعندما غادر أميلكار، ودَّع أسرته ومسد على رأس كلبه ديوك للمرة الأخيرة.

وبمجرد أن خرج من منزل والدته، لم ينظر وراءه ثانيةً.

قالت جولانيس، وقد لمع العرق أو الدموع أو كلاهما على وجنتَيها في ضوء القمر: «عندما رحل، انتابني شعور سيئ. لم يودعني. [اعتقدت] أنه رجل صالح وسيَعتني بأمرنا.»

لقد حدث الكثير منذ أن تشابَكت أيدي أميلكار وجولانيس لأول مرة في هذه الحديقة.

امتلأ ملعب كرة السلة بالصراخ حين سُجِّل هدف. جلسنا في صمت حتى قطعتُ أنا الصمت.

قلت، وأنا أَعرض عليها صورة لابنتي على هاتفي وهي تَرتدي قبعة رعاة البقر وقميصًا غربي الطراز وحذاءً برقبة عليه شخصيتا باظ ووودي من فيلم «حكاية لعبة» (توي ستوري): «احتفالًا بالهالوين … كانت ابنتي تتنكَّر في زي رعاة البقر. تبدو كما لو أنها تنتمي إلى مدينة البورفينير.»

علقت جولانيس قائلة: «أوه، جميلة.»

فتابعت قائلًا: «أما بالنسبة لابني، فقد فرغَنا ثمرة اليقطين، وأخرجنا لبَّها وصنعنا ثُقبَين بها لساقيه.» وعرضت عليها صورة لابني، جريفين داخل ثمرة اليقطين. ضحكوا على الصورة، ولكني لست متأكدًا مما إذا كانوا يضحكون على المشهد أم على حقيقة أننا نضع أولادنا داخل ثمار الفاكهة.

أثار هاتفي اهتمام جينيسيز وابنة خالتها. جلست كلٌّ منهما على أحد جانبيَّ، وشغَّلت لهما لعبة الطيور الغاضبة (أنجري بيردز) ثم لعبة شريك كارت. ومن أجل إعطاء شريك دَفعة سرعة، تضغط على زر يجعله يُخرج ريحًا. ولا يوجد طفل في العالم، يَبلغ من العمر ١٠سنوات، لا يُسعده هذا.

سألتهن قائلًا: «ما مقابل عبارة [صنعت صوت إخراج ريح بشفتي] في الإسبانية؟»

أجابت جينيسيز وهي تضحَك بشدة قائلة: «بيدو.»

غادرنا الحديقة وسرنا إلى منزل جولانيس. كانت جولانيس وجينيسيز تشبكان أيديهما.

كان المنزل يقع خلف منزل خالة أميلكار وإلى جوار حقل الفول الذي عمل به أميلكار في وقتٍ من الأوقات. كان المنزل مبنيًّا بالطوب الأسمنتي وله سطحٌ من الصفيح وباب معدني يُصدر صريرًا. ومن الداخل، كان يوجد شراشف بلاستيكية تَفصل المطبخ عن غرفة النوم؛ وهي الغرفة الوحيدة في المنزل. كان الحمَّام محشورًا في ركنٍ من غرفة النوم وراء ملاءة سرير وإلى جوار حوض غسيل. كانت أحبال الغسيل تتقاطع فوق الفراش وكانت أعمال فنية غير كاملة مأخوذة من كتب تلوين معلَّقة على الحائط. كان يوجد جهاز تليفزيون محشور في ركن من غرفة النوم وموجَّه ناحية الفراش المغطى بالغسيل.

كانت جولانيس وجينيسيز يعيشان هنا (شكل ٢٧-٢). أما بيتسابي فتعيش حاليًّا في مدينة فيلانويفا مع أقارب لديهم أطفال في نفس سنها لتلعب معهم.

كان هذا هو المنزل الذي بناه أميلكار. كانت تكلفة الأرض والمنزل نحو ٨ آلاف دولار، وهو مبلغ لم يكن في مقدور أميلكار ادِّخاره قط من العمل في صناعة الملابس في هندوراس.

قالت جولانيس: «انتهى بناء المنزل، ولا بد أن يعود إلى وطنه الآن.»

كان أميلكار يرسل الأموال إلى أهله للمأكل والملبس وتعليم البنات. كما كان يرسل الأموال أيضًا إلى والدة كارين، وهو أمر وصفتْه كارلا بأنه استثنائي بالنسبة إلى الرجل العادي في هندوراس.

fig28
شكل ٢٧-٢: جولانيس وجينيسيز بمنزلهما.

شعرت وكأنني شخص مُتطفِّل على حياة أميلكار. ها أنا أجلس في منزلٍ لم يرَه قط، وأتحدث إلى الحبيبة التي لا يستطيع احتواءها، وأضحك مع الابنة التي لا يستطيع معانقتها. طلبت من جولانيس أن تفكر مليًّا في أمور نُسيت منذ فترة طويلة وتُخطط لمستقبل يصعب تصوره؛ فحضور أميلكار كان محسوسًا في المكان أكثر مما كان ستُصبح عليه الحال لو كان حاضرًا فعليًّا بجسده.

في الخارج، كانت الحشرات تطنُّ، والكلاب تَنبح. كان الهدوء يعم مدينة البورفينير.

قالت جولانيس: «سأنتظره ١٠ سنوات لو اضطررتُ إلى ذلك.» رغم أنها كانت تتوقَّع عودته خلال السنوات الثلاث القادمة.

سألتها: «ماذا ستقولين لأميلكار عندما يعود وترينه لأول مرة؟»

لقد مر أميلكار وجولانيس بالكثير من التجارب. لقد خاطر أميلكار بحياته وصحته ليقطع رحلة تفوق الخيال حتى يصل إلى الولايات المتحدة. أما جولانيس فتُواجه الحياة كل يوم كأمٍّ عزباء.

ضحكت جولانيس وتطلَّعت إلى جينيسيز. توردت وجنتاها؛ فالتفكير به لا يزال يُحرك فيها مشاعر الفتاة المُراهِقة.

ردت قائلة: «سأقول له: «لا ترحل ثانيةً أبدًا، أبدًا، أبدًا!».»

قبل أن أغادر مدينة البورفينير، أعطتني جولانيس خطابًا.

على الجزء الخارجي من الظرف، كتبت: «إلى أميلكار … من جولانيس.»

وقالت: «من فضلك، أعطه إياه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤