الفصل الثاني عشر

العمليات العامة للتفكير الاستنباط والاستقراء

تطبق الروح على العالَم الواقعي، في العلم، وفي الإدراك الحسي، وفي العمليات الفنية التطبيقية؛ أساليب واحدة في كل الأحوال، وترجع هذه الأساليب كلها إلى عمليتَين: الاستدلال الباحث investigatif والاستدلال الاستنباطي déductive.
والاستدلال الاستنباطي أو الاستنباط déduction يتنقل من المبدأ إلى النتائج. وقد رده أرسطو إلى أبسط صُوَرِه، أي القياس، وهو استنباط يُستخلص نتيجة من مقدمتَين، ويجمع بين حدَّين بتوسُّط حد أوسط. ولقد استخلص «المدرسيون» من القياس الأوسط فكرة «منطق صوري». وعمَّم المحدثون هذه الفكرة فجعلوا منه «منطقًا رياضيًّا logistique» يتمثل على صورة حساب منطقي؛ بل يزعم أنه هو منطق الحساب.
أما الاستدلال الباحث فهو الاستقراء، الذي ينتقل من الوقائع إلى القوانين: وهو يفترض مبدأ خاصًّا به، هو مبدأ الحتمية. فإذا ما توسَّعنا في هذا المبدأ، وجدنا فيه ثلاثة مبادئ أخرى هي التي أسماها «كانْت» بمبادئ «علاقات التجربة analogies de l’expérience» والتي تبررها «المثالية الترنسندنتالية».

التفكير العلمي مشترك بين كل المناهج

أوردنا في موضع سابق١ الفقرة الرائعة التي ذكر فيها «ديكارت» أن وحدة العلم هي وحدة العقل البشري. وعلينا الآن أن نكشف عن هذه الوحدة، بأن نبين أن مختلف المناهج العلمية ترجع إلى منهج واحد، وأن هذا المنهج الواحد يُعبر عن خطوات التفكير ومراحله العامة. وبعبارةٍ أخرى، علينا أن ننتقل من «البحث في المناهج n methodolgie» إلى «البحث في نقد المعرفة épistmologie» لنعود أخيرًا إلى المنطق.

بل إن علينا أن نُبين أن هذه الخطوات نفسها ليست مشتركةً بين العلوم كلها فحسب وإنما تمتدُّ أيضًا إلى «كل» تفكير، سواء أكان ذلك تفكير الإنسان الذي يُدرك العالَم الخارجي، والصانع الذي يؤلِّف بين أساليب فنية، والفيلسوف الذي يحاول فهم الأخلاق والدين، والعالِم الذي يعمل ويفكر أمام سبُّورته السوداء أو في معمله. ونحن نعترف بأن أنواع التفكير هذه ليست جميعها على مستوًى واحد، أو متساوية من حيث القيمة، ومع ذلك يجب أن تنطوي على عنصر مُشترك، وأن تتشابَهُ أساليبها من حيث الجوهر.

وسنبدأ أولًا بإرجاع التفكير العلمي إلى صوره العامة، ثم ندرس كل عمليةٍ من العمليات العامة المكوِّنة له على حدة.

وقد حدَّد كلود برنار بدقة بالغة خصائص المراحل الأساسية للروح العلمية، وقارنها بمراحل المشي؛ «فكما أن الإنسان في مشيته الطبيعية لجسمه، لا يستطيع أن يخطو إلى الأمام إلا إذا قدَّم رِجلًا على الأخرى، كذلك لا يستطيع الإنسان في السير الطبيعي لعقله أن يتقدَّم إلا إذا وضع فكرةً أمام الأخرى.» وهو يُحدِّد ما يعنيه بالفكرة فيقول إنها «هي حقيقة أو مبدأ يعيه العقل».٢

والحق، إن المرء ليعجزُ عن فهم الشيء، أيًّا كان، إلا إذا أدمج فيه «فكرة». فالفكرة مجموعة مُنسقة من العلاقات التي تجمع بين مختلف أوجه الشيء أو أجزائه أو تجمع بين أشياء مختلفة؛ فالصورة المدرَكَة لشيءٍ مثلًا، هي فكرة تبدأ بربط مظاهره المرئية المتعاقبة، وفكرة الدائرة تربط المظاهر التي تتشكل بها الدائرة، وهي مظاهر بيضاوية عادة، إذ إن الشكل البيضاوي صورة منحرفة للدائرة، كذلك تربط الفكرة بين المظاهر البشرية واللمسية لهذا الشيء، ولنضرب لذلك مثلًا آخر؛ فموضوع القطعة المسرحية أو الرواية أو الشريط السينمائي هو الخيط الذي يجمع بين مراحلِهِ ويبررها. والأمثلة العلمية أكثر وضوحًا من ذلك: ففكرة المثلث هي سبب خصائصه، وهي تُلقي ضوءًا على النظريات الخاصة بالمثلث. وقانون نيوتن أو فكرة الجاذبية تفسِّر الثقل، وحركة الكواكب، والمد والجزر.

ولكن الفكرة لا تؤدي دورها إلا إذا كشفنا عنها أولًا، ثم أجرينا التجارب عليها، فمراحل التفكير العلمي تُشبه مراحل المشي في أنها تتكون من خطوتين أطلق عليهما كلود برنار اسم «الاستدلال الباحث» «والاستدلال البرهاني»، وأضاف إلى ذلك أن هذَين النوعَين من الاستدلال يوجدان في كل العلوم.

الاستدلال أو الأسلوب التدريجي في التفكير

يطلق اسم الاستدلال على العملية العقلية المركبة، التي يمكن التعبير عنها على هيئة جملة نجمع فيها بين عدة تأكيدات أو قضايا (مقدمات)، ونستخلص منها ناتجًا يُسمى «بالنتيجة» والاستدلال مقالي أو تدريجي أي أنه ينحصر في «سلسلة من البراهين» كما يقول ديكارت، أي أنه سلسلة من العمليات التي يمكن أن تتطور إلى «مقال discours».

هذه البراهين أو الحجج هي حدود وُسطى، أو وسائط، تربط العناصر التي تظهر متضامنة في النتيجة.

الاستدلال «البرهاني» أو الاستنباط

سوف نبدأ بهذا النوع من الاستدلال لأنه يمدنا بأوضح الأمثلة دلالة على الطريقة التدريجية في التفكير.

ولقد قلنا أنه يبدأ «بفكرة» أعني «بحقيقة» أو «مبدأ»، وإذن فهو الاستدلال الذي ينتقل من المبدأ إلى نتائجه.

أرسطو يصف الاستدلال الاستنباطي بأنه قياس

كان أرسطو أول من شعَر «بالضرورة المنطقية» التي تربط المبادئ بالنتائج في الاستدلال الاستنباطي. فخلال دراسته لعمليات «الديالكتيك»، أي للجدل المنظم، حدَّد معالم استدلال «يرغم» السامع، إذا ما اعترف بمبادئ معينةٍ تُسمَّى «بالمقدمات»، على قبول النتيجة، بحيث لا يكون المرء في حاجة — كما يقول — إلى «طلب النتيجة»، كما يفعل أصحاب الديالكتيك وإنما تفرض النتيجة بضرورة مُطلقة. وهذا النوع من الاستدلال يُسمَّى في أبسط مظاهره باسم «القياس» وهذه صورته الكاملة.

كل إنسان فانٍ (مقدمة أولى، تُسمَّى بالكبرى)
وسقراط إنسان (مقدمة ثانية، تُسمَّى بالصغرى)
إذن سقراط فانٍ (نتيجة)

ويدل حرف العطف في المقدمة الصغرى ولفظ «إذن» بوضوح على أننا هنا بإزاء نظام عقلي ذي مراحل متميزة.

ومن السهل أن نُدرك أن هذه العملية تنحصر في ربط الحدَّين «سقراط» و«فان» وهما الحدان اللذان يكونان موضوع النتيجة ومحمولها، بوساطة الحد «إنسان» الذي يتمثَّل في المقدمتَين، والذي يختفي إذا ما انتهى دوره، ولا يظهر بعد ذلك في النتيجة، وهو يُسمى «بالحد الأوسط»، وذلك راجع إلى وظيفته المتوسطة هذه. وكان أرسطو يقول إنه هو سبب النتيجة أو عِلتها: ويُسمَّى موضوع النتيجة (سقراط) بالحد الأصغر، ومحمولها (فان) بالحد الأكبر وتُسمَّى المقدمة التي تحتوي على الحد الأكبر بالمقدمة الكبرى، وتلك التي تحتوي على الحد الأصغر بالمقدمة الصغرى.

(١) المنطق الصوري

وضع المدرسيون، في العصور الوسطى٣ دعائم «منطق صوري» مُسترشدين في وضعه بتعاليم أرسطو، ويطلق هذا الاسم على نظرية للقياس يُرَدُّ فيها الاستدلال إلى «صورته»، وإلى عمليته العقلية المجردة، مستقلًّا عن «المادة» المتضمنة فيه، وتستخلص النتيجة فيه «بقوة الصورة Vi Formae» وبفضل هذه العملية ذاتها، بحيث يمكن أن نستبدل بالحدود «سقراط» إنسان فان، حروفًا كما في الجبر:
كل أ هي ب
على أن كل ب هي ﺟ 
كل أ هي ﺟ

فإذا نظرنا إلى «ماصدق» الموضوع، وجدنا أن معنى المقدمة الماصدق ومن حيث المفهوم.

فإذا نظرنا إلى «ماصدق» الموضوع، وجدنا أن معنى المقدمة الكبرى هو: أن جماعة الناس هي جزء من جماعة الفانين. أما إذا نظرنا إلى مفهومه كان معنى الكبرى هو: أن صفات الإنسان تشتمل على الفناء. أو «فان» صفة من الصفات المكوِّنة للإنسان. وعلى ذلك، فإذا ترجم القياس إلى لغة الماصدق، كان معناه هو: لما كان الناس جزءًا من الفانين، ولما كان سقراط جزءًا من الناس، فسقراط إذن جزءٌ من الفانين. أما إذا تُرجِم إلى لغة المفهوم، كان معناه بعكس ذلك، أن الفناء لمَّا كان صفة للإنسان، ولما كان سقراط إنسانًا فإن الفناء صفة تدخل في مفهوم سقراط.

وفي القياس «الكامل» الذي تحدَّثنا عنه يكون الحد الأوسط متوسطًا من جهتين؛ فقد رأيناه من جهة يربط الحد الأكبر بالحد الأصغر، ومن جهةٍ أخرى نجد أن ماصدقه «متوسط» بين ماصدق الحدَّين. ولكنه إذا كان متوسطًا دائمًا بالمعنى الأول، فمن الممكن جدًّا ألا يكون كذلك بالمعنى الثاني.

ووظيفة الحد الأوسط (أعني كونه موضوعًا أو محمولًا) هي التي تُحدِّد «الأشكال». فالأشكال تختلف باختلاف مكان الحد الأوسط في المقدمات:

فالشكل الأول يتميز بأن الحد الأوسط فيه موضوعٌ في الكبرى ومحمولٌ في الصغرى.

والشكل الثاني يتميز بأن الحد الأوسط فيه محمول الصغرى.

والشكل الثالث يتميز بأن الحد الأوسط فيه محمول في الكبرى وموضوع في الصغرى.

والشكل الرابع يتميز بأن الحد الأوسط فيه محمول في الكبرى وموضوع في الصغرى.

ومن الممكن حفظ هذه الأشكال الأربعة بسهولة، بفضل الأبيات، التذكارية اللاتينية الآتية:

Sub-Prae, tum prae-prae, tum sub-sub, denique prae-sub
(ويلاحظ أن الحروف sub معناها subjectum أي الموضوع، والحروف prae معناها praedicatum أي المحمول).

فهناك إذن أربعة أشكال. ولكنا نرى أنه من الممكن رد الشكل الرابع إلى الأول بتبديل موضع الكبرى والصغرى، والحد الأكبر والحد الأصغر، ولهذا السبب رفض بعض المناطقة هذا الشكل الرابع، ولم يعترفوا إلا بالأشكال الثلاثة الأولى.

فإذا ما جمعنا بين صفتي الكم للقضية (كلي، جزئي)٤ وصفتي الكيف لها (موجب، سالب) حصلنا على أربعة أنواع من القضايا:
قضية كليَّة موجبة، يرمز إليها عادة بالحرف ك (A).
قضية جزئية سالبة، يرمز إليها عادة بالحرف س (E).
قضية جزئية موجبة، يرمز إليها عادة بالحرف ج (I).
قضية جزئية سالبة، يرمز إليها عادة بالحرف ب (O).

وتختلف التأليفات التي يطلق عليها اسم «ضروب» القياس إذا كانت القضايا التي يتكون منها القياس هي ك أو س أو ج أو ب.

ومن الممكن أن تكون القضايا الثلاث (الكبرى والصغرى والنتيجة) في كل شكل من أشكال القياس؛ إما ك أو س أو ج أو ب. فهناك ٤٣ = ٦٤ ضربًا ممكنًا من الوجهة النظرية، وإذا علمنا أن هناك أربعة أشكال، كان المجموع ٦٤ × ٤ = ٢٥٦ ضربًا.

غير أن هناك قواعد للقياس تمنع تجمعات معينة، هذه القواعد عددها ٨. ولن نذكر منها إلا واحدةً على سبيل المثال:

المقدمتان الموجبتان لا تنتجان نتيجةً سلبية.

Ambae affirmantes nequeunt generare negantem.

إذن فهذه القاعدة تؤدي إلى استبعاد الأقيسة من نوع ك ك س، ك ج س، ج ك س، ج ج ك، ك ك ب، ك ج ب، ج ك ب، ج ج ب، ولا يبقى من اﻟ ٢٥٦ ضربًا الممكنة نظريًّا سوى ١٩ لا تخالف قواعد القياس، منها أربعة من الشكل الثاني، وستة من الثالث، وخمسة من الرابع.

ولما كان الشكل الرابع قد أثار إشكالات، فلن نبحث إلا الأشكال الثلاثة الأولى.

قياس الشكل الأول يضع شرطًا كافيًا

في الشكل الأول، يكون للحد الأوسط ماصدق متوسط بالفعل؛ فالإنسان أخص من الفاني من جهة الماصدق، وسقراط أخص من الإنسان في ماصدقه (بل إن سقراط ليس له ماصدق على الإطلاق)، ما دام (فردًا) فمعنى الكبرى في الواقع هو: إن الشرط الكافي في فناء الكائن أن يكون إنسانًا.

ويكون الاستدلال من الشكل الأول إذا حددنا فيه قاعدة، وذكرنا الشرط الكافي لتطبيقها ثم أكدنا بعد ذلك أن هذا الشرط قد تحقق.

لهذا كانت المقدمة الكبرى في الشكل قضيةً كليَّة دائمًا (أي قاعدة) والصغرى قضية موجبة.

ومن الأحكام القضائيَّة ما يوضع في صورة أقيسة من الشكل الأول؛ فالمشرع يضع المقدمة الكبرى، مثل: القتل مع سبق الإصرار يعاقَب عليه بالسجن أو بالأشغال الشاقَّة إلخ (تبعًا لنوع الحالة)، ويضع المحلفون المقدمة الصغرى: على أن المدعو «م» قد ارتكب جريمة القتل مع سبق الإصرار، ونستخلص النتيجة «بالحكم»، بل ربما كانت جميع الأحكام القضائية نتائج لأقيسة، ما دامت تطبق قوانين، ولكن العلاقة الوظيفية بين المحلفين والمحكمة لا تظهر فيها صراحةً على الدوام.

كذلك يستدل المرء في الأخلاق عن طريق قياس من الشكل الأول، عندما يستنتج من القانون الأخلاقي الذي يدعو إلى واجب معين، إلزامًا بأداء هذا الواجب في حالة معينة، أو يستنتج من القانون الذي يصم فعلًا معينًا بمنافاته للأخلاق (كالكذب أو السرقة)، أن فعلًا معينًا تم أداؤه بالفعل منافٍ للأخلاق.

وقد ذكر أرسطو مثالًا لقياس الرغبة.

فالرغبة تقول: إنني عطشان.

ويقول الإحساس، أو الخيال، أو العقل: «هذا شراب»، فيشرب الحيوان في الحال.٥
وفي حياتنا المعتادة نقدم أو نقترح أقيسةً مختصرة، تظلُّ مقدماتها الصغرى ونتيجتها محذوفتَين، ويُطلِق عليها المناطقة اسم «الأقسية الناقصة enthymémes» فالإعلانات مثلًا تظهر غالبًا على صورة أقيسة ناقصة، مثل: كل ربات البيوت البارعات يستعملن السلعة س، (على أن قارئات هذا الإعلان ربات بيوت بارعات … إلخ).

قياس الشكل الثاني يقدم شرطًا ضروريًّا

يتميز القياس من الشكل الثاني بأن الحد الأوسط ماصدقُهُ ينطوي على الحد الأكبر والحد الأصغر فإذا ما فسَّرنا القياس تبعًا للماصدق، كما فعل أرسطو، أي إذا كانت كل قضية تذكر أن الموضوع جزءٌ من الفئة التي يدل عليها المحمول، وجب أن يكون الحد الأوسط محمولًا في المقدمتَين. وعلى ذلك فإذا قلت:

كلُّ فيلسوفٍ نزيهٌ

واتخذنا من هذه القضية مقدمة كبرى في قياس من الشكل الثاني، فيجب أن يكون محمول الصغرى بدَورها هو الصفة «نزيه». ولكن من اليسير أن نُدرك أن هذه المقدمة الصغرى لا يمكن أن تكون قضيةً موجبة، إذ لو كانت كذلك لكان معناها أن موضوعها ينتمي إلى نوع الكائنات «النزيهة»، فماذا عسى أن نستدل عليه من هذا، بشأن علاقاته بالموضوع «فيلسوف»؟ لا شيء ألبته، وهناك مثالٌ لقياسٍ باطلٍ يتخذ صورة مغالطة شائعة جدًّا:
كلُّ فيلسوفٍ نزيهٌ
وس نزيه  
س فيلسوف

إذن يجب أن تكون الصغرى سالبة، وكذلك النتيجة.

كل فيلسوف نزيه
وس ليس نزيها 
س ليس فيلسوفا

فالشكل الثاني يتميز بأن إحدى مقدمته ونتيجته سالبتان على الدوام، وهذا راجع إلى أن مقدمته الكبرى لا تُعبر عن شرطٍ كاف كما هي الحال في الشكل الأول القائل: «إن الشرط الكافي في غناء الكائن هو أن يكون إنسانًا.» وإنما تعبر عن شرط ضروري: «الشرط الضروري في أن يكون المرء فليسوفًا هو أن يكون نزيهًا.»

على أنه متى تحقق شرط ضروري، فليس في وسعنا أن نستدل منه على شيء، ولا نستطيع استخلاص نتيجة إلا في الحالة التي لا يكون الشرط الضروري قد تحقق فيها.

ولنلاحظ أن القضية «الكلية الموجبة» يمكن أن تُفهم بمعانٍ مختلفة، فإمَّا أن تعني: الشرط الكافي في فناء الكائن هو أن يكون إنسانًا، أو تعني: الشرط الضروري في إنسانية الكائن هو أن يكون فانيًا؛ ففي الحالة الأولى تكون القضية هي المقدمة الكبرى الممكنة لقياسٍ من الشكل الأول، وفي الحالة الثانية، لقياس من الشكل الثاني.

ولنلاحظ أيضًا أن الشرط الضروري قد يُعد «علامة مميزة» فكل فيلسوف «نزية» تعني: النزاهة علامة يُتعرف بها على الفيلسوف، على أن وجود هذه العلامة لا يسمح باستخلاص نتيجة، عن طريق قواعد الشكل الثاني، ما لم يسلم المرء مما يقول جوبلو Goblot٦ بنتيجة احتمالية:
كل فيلسوف نزيه
س نزيه   
س قد يكون فيلسوفا

ونحن في الحياة العملية «نتعرف» على الشخص أو الشيء بوساطة سلسة من العلامات، ولكنا دائمًا مُهددون بالوقوع في الخطأ، ولا نستطيع أن نستدل من العلامات على شيء إلا إذا كانت تُكوِّن مجموعًا ذا دلالة واحدة؛ وهو ما لا يتفق مطلقًا مع منطق الاستنباط وإنما مع منطق الاستقراء.

قياس الشكل الثالث يُفيد عدم التنافي بين صفتين

في الشكل الثالث يبلغ «ماصدق» الحد الأوسط أدنى حدٍّ ممكن. فهو إذن موضوع في المقدمتَين. فما الذي يمكننا أن نستدلَّ عليه من مُقدمتَين لهما موضوع واحد؟ يمكن الاستدلال على أن المحمولين «لا يتنافى أحدهما مع الآخر».

الحوت حيوان له رئتان.
والحوت حيوان بحري.
إذن فمن الحيوانات البحرية ما له رئتان.

والصيغة المنطقية لهذه النتيجة هي «بعض الحيوانات البحرية لها رئتان»، فنتيجة القياس من الشكل الثالث قضية جزئية دائمًا. وبالاختصار فالقياس من الشكل الثالث يستدل من «الواقع» على «الممكن»، فالحوت «يحقق» حالة الحيوان البحري ذي الرئتين، أي أن مثل هذا الحيوان ممكن.

ولا يُمكننا أن نذهب إلى أبعد من هذا إذا نحن اعتمدنا على الاستنباط وحدَه، فهنا أيضًا يقوم الاستقراء بما عجز الاستنباط عن القيام به: إذ إنه — كما سنرى فيما بعد — ينتقل من «الواقع» إلى «الضروري»، مرتكزًا على حالات اختيرت على أساس صحيح ومُخاطرًا لذلك بالوقوع في الخطأ.٧

المنطق الصوري القديم، والمنطق الصوري الحديث

لم يكن بُدٌّ من الانتظار قرونًا من الزمان حتى نهتدي إلى الوجهة الجديدة التي سار فيها المنطق الصوري. فحتى عام ١٧٧٠م، حين كتب «كانْت» مقدمة الطبعة الثانية من «نقد العقل الخالص» كنا لا زلنا نقرأ كلمات كهذه: «لم يضطر المنطق، منذ أرسطو، إلى التراجع خطوة واحدة إلى الوراء … وهذا أمر ينبغي أن نذكره له بالإعجاب، إذ إنه لم يتمكَّن أيضًا، حتى الوقت الحالي، من أن يخطو خطوةً واحدةً إلى الإمام، حتى لتدل كل الشواهد على أنه علم قد تم واكتمل.» والحق أن منطق أرسطو كان يمتاز بمحاولة تحليل تركيب الفكر في ذاته، بغض النظر عن مضمونه، وقد حدَّد بوضوح مبادئ تكفل صحة الفكر، ويمكن أن تستخلص منها قوانين عامة له.

غير أن منطق أرسطو لا يبحث إلا في حالات خاصة جدًّا للاستدلال الاستنباطي، وقد تُصادفنا مجموعات من القضايا مختلفة كل الاختلاف عن القياس. ثم إن المنطق في كتابات أرسطو لا يكاد يتميَّز عن الأنطولوجيا «مبحث الوجود»، وبالتالي يظل مرتبطًا بآراء ميتافيزيقية. والحق أن المنطق — كما لاحظ «دوب Dopp» في كتابه عن المنطق٨ — كان طول التفكير القديم والوسيط «مبحثًا ذا طبيعية فلسفية، أعني أنه يُنظِّم طريق تحليل فلسفي للصفات المميزة لتفكيرنا.» فإن كان على المنطق ألا يكون مجرد فن للتفكير الذي يتكيَّف مع اللغة والتفكير الشائع فحسب. وإن كان عليه أن يكون علمًا للعلم، فمن الواجب أن يتجه في المرحلة الحالية نحو مثال الوضعية الذي تضعه العلوم الحديثة نُصب أعينها. وعليه أن يحدد بدقة العمليات الفعلية للتفكير في المجالات التي وصل هذا التفكير فيها إلى أكمل درجات التنظيم. فإذا ترك الجدل الميتافيزيقي جانبًا، وجب عليه أن يحقق دراسة وضعية لأدق أساليب الاستدلال الاستنباطي، على نحو ما نجده في الرياضة مثلًا.
ولنتابع «دوب»٩ في ملاحظةٍ أخرى له، إذ يقول: «لقد تعاقب في التاريخ فهمانِ للمنطق يختلفان فيما بينها أشد الاختلاف، فالمنطق القديم يمكن أن يوصف بأنه منطق فلسفي، والمنطق الحديث (الذي لا ترجع آثاره الأولى إلى أكثر من نصف قرن من الزمان) يمكن أن يوصف بأنه منطق «وضعي»، والموضوع الذي تدرسه هاتان الفئتان الكبيرتان من المنطق واحد في أساسه: فهدفهما الدائم هو البحث في شروط صحة الاستدلالات … غير أن المنطقيَن يُقدمان إلينا معرفة منظمة بهذه الشروط تخضع لمثالَين في المعقولية مختلفَين أشد الاختلاف: إحداهما معقولية نصفها بأنها فلسفية، والأخرى معقولية يمكن وصفها بأنها وضعية.»

الجبر المنطقي

ولنتساءل هنا بوجهٍ خاص: كيف تسنَّى للمنطق الصوري أن يتلاءم مع موضوع الاستدلال الرياضي ومناهجه؟ إذا لاحظنا دور الرموز في ظهور التفكير الرياضي، أدركنا أهمية إدخال الرمز بطريقةٍ منظمة في المنطق. حقًّا أن المنطق المدرسي كان يستخدِم نوعًا من الرمزية، ولكنها كانت رمزيةً ساذجة إلى حدٍّ بعيد، ثم إن الذي أدى إلى استحداث تجديدٍ شامل في المنطق، لم يكن مجرد إدخال الرمز، وإنما الاستعمال المنظم للرمز تبعًا لقواعد فنية بالغة الدقة. ويرجع الفضل إلى عالِم منطقي إنجليزي هو «بول Boole» (١٨١٥–١٨٦٤م) في القيام بأول محاولة مُتسقة جدية لإيجاد منطقٍ يسير في هذا الاتجاه، ويشيع إطلاق اسم «الجبر المنطقي» على منطق «بول» هذا.

ولقد لاحظ «بول» أننا إذا كنا نَستخدِم في عمليات الجبر رموزًا لها خصائص مُعينة، فمن الممكن استخدام رموز مشتقَّة من الرمزية الجبرية للتعبير عن العمليات الفكرية.

فلنتأمَّل مثلًا عملية الجمع في الجبر الأوَّلي، هذه العملية لها خصائص شكلية مُعينة، أعني خصائص مستقلة عن طبيعة الكيانات الرياضية التي تجري عليها. ولنضرب لهذه الخصائص مثلًا بصفة «التبديل Commutativité» ويعبر عن التبديل في الجمع بالعلامة س + ص = ص + س. ومعناها أن مجموع عاملَين من س، ص يمكن قلبه، أي «تبديل» ترتيب الحدود، مهما كانت قيمة س، ص.

فلنتأمل الآن العملية الفكرية التي تجمع أو تضمُّ مجموعتَين من الأفراد — ويُسمِّيها المنطقي فئتين — وهي العملية التي يُعبر عنها مثلًا بالصيغة: «الفرنسيون والإنجليز» ففي هذا الجمع بين الحدَّين: الفرنسيين — الإنجليز، بوساطة العملية المنطقية «و» يمكننا أن نعكس ترتيب الحدَّين، فنقول: «الإنجليز والفرنسيون» وهنا نجد صفةً مستقلة كل الاستقلال عن الحدود التي تجمعت، ويُمكننا القول بأن هذا التجمع، الذي نُعبر عنه بحرف العطف هو تجمع «قابل للتبديل» مثله في ذلك مثل الجمع في الجبر الأوَّلي. فالعملية المنطقية للعطف (أي الواو) — حين يُنظَر إليها من وجهة النظر الشكلية الخالصة هذه، وبغضِّ النظر عن «معنى» الحدود التي تربط بينها — لها بدورها خصائص جديدة مماثلة تمامًا للخصائص المميزة للجمع الجبري الأوَّلي. وعلى ذلك ففي وسعنا أن نرمز لعملية الضم هذه برمز الجمع: +.

غير أن حرف العطف (الواو) قد يُشير إلى عملية أخرى للفكر. فعندما نقول «الأشخاص الذين يسكنون إنجلترا» و«الذين ينتمون إلى جنس الذكور» لا نكون بإزاء عملية جمعٍ أو ضمٍّ لفئتَين من الأفراد، وإنما بإزاء نوعٍ من التأليف، أو «الضرب» بين فئتَين: فنحن نرمي في هذه العملية إلى الإشارة إلى الأفراد الذين ينتمون إلى طائفتَين في آنٍ واحد، ويمكننا التحقُّق من أن هذه العملية المنطقية لها خصائص شكلية مشابهة لخصائص الضرب المنطقي — باستثناء خاصية واحدة سنذكرها فيما بعدُ. وعلى ذلك نرمز لهذه العملية المنطقية بعلامة الضرب ×، ونُسميها بالضرب المنطقي.

ولنلاحظ أن اللغة المتداولة تستخدم حرف الواو ذاته في وظيفتَين مختلفتَين، أما المنطق فيقضي على هذا الخلط، هو يدفع الذهن إلى المُضي في التحليل إلى أقصى درجاته. ففي حالات مُعينة تؤدي الواو وظيفة علامة الجمع + وفي حالات أخرى تؤدي وظيفة علامة الضرب × فإذا ما عبرنا عن الفئة بدائرة، أمكننا تصوير هاتَين الحالتَين بالشكلين الآتيين:

فالتعبيران: «سكان إنجلترا»، و«الذين ينتمون إلى جنس الذكور»، تدل عليهما عندئذٍ حروف س، ص … كما في الجبر. ويُعبر عن الهوية بعلامة التساوي، وعلى أساس هذه الرموز يُمكننا بالفعل أن نُنشئ «حسابًا» من نوع الحساب الجبري، لا يتسع المجال هنا لإيضاح تفاصيله. فمثلًا نُعبر عن تساوي التعبيرَين «الأشخاص الذين يسكنون إنجلترا وينتمون إلى جنس الذكور» و«الأشخاص الذين ينتمون إلى جنس الذكور ويسكنون إنجلترا» بقانون في صورة جبرية هو س × ص = ص × س: أي أن الضرب المنطقي قابل للتبديل مثله في ذلك مثل الضرب الجبري.

وحين وضع بول هذا الحساب المنطقي لم يدَّعِ أن ماهية المنطق جبرية، وإنما أراد فقط أن يؤكد أنه «إذا أمكن التعبير عن العمليات الجبرية والمنطقية برمزٍ واحد، فإن تعبيراتهما الرمزية تخضع لقوانين واحدة.»١٠ ومن الممكن دائمًا أن يصطلح على تصوُّر عملية منطقية مُعينة عن طريق رمز خاص بعملية جبرية معينة، ولكن ليس هناك ما يضمن أننا متى ارتضينا رموز الجبر للتعبير عن العمليات المنطقية فإن التفسير المنطقي لهذه الرموز يُفضي إلى قوانين مشابهة لقوانين الجبر. غير أن هذا هو ما حدث بالفعل، فقد استعرْنا من الجبر المادة الرمزية: كالحرف س، ص والعلامات +، ×، = … إلخ. ولما عبَّرنا عن خاصية منطقية بوساطة هذا النظام الرمزي، أي حين عبَّرنا مثلًا عن قابلية الضرب المنطقي للتبديل، اهتدينا إلى علاقة هي بعَينها العلاقة الجبرية: س × ص = ص × س.

غير أنَّ هناك استثناءً نبَّهنا إليه من قبل، فإذا كنا في المنطق نضرب فئة في ذاتها فسيكون الناتج هو هذه الفئة ذاتها.

وهو ما تُعبر عنه علاقة س × س = س (فإذا قُلنا «الأشخاص يسكنون إنجلترا ويسكنون إنجلترا في الوقت نفسه» كان هذا مجرد تكرار)، ومن هنا لم يكن في الجبر المنطقي أسس.

على أن الصيغة س × س = س لا تصحُّ في الجبر إلا إذا كانت س هي صفر أو ١. وعلى ذلك فالجبر المنطقي يختلف عن الجبر الأوَّلي في أنه يعترف بأن الصيغة س × س = س صحيحة على الدوام.

ولكن مثلما أن الرياضيات الحديثة تحتوي على «هندسات». كذلك يحتوي الجبر على نُظم مختلفة، تتكوَّن عن طريق تغيير نسَق البديهيات الأساسي فحسب. ومن هذه الأنواع الحديثة في الجبر يُوجَد نوع هو النظرية التي وضعها بول، ولهذا السبب يُسمِّيه الرياضيون «جبر بول» وهذا الجبر يتميز عن الجبر الأوَّلي بأنه لا يقبل أُسسًا، وإذا كان «بول» قد استخدم الرمزية الجبرية لوضع دعائم منطقٍ جديد فإنه في الواقع قد خلق جبرًا جديدًا.

المنطق الرياضي Logistique

بلغ الطموح بالمنطق الأرسطي حدًّا جعله يهدف إلى أن يكون نظريةً منظمة في الاستنباط بوجهٍ عام، لكنَّا لاحظنا من قبل أن هذه التنظيم كان يفتقر إلى الأساليب الفنية والمناهج التي تستخدمها العلوم الاستنباطية. وهكذا لم يعرض المنطق الأرسطي ذاته في صورة استنباطية، أما الجبر المنطقي فيُعرَض في صورة استنباطية بالفعل، ولكن ليس له أن يدَّعي أنه علم للاستنباط بوجهٍ عام، فهو يمثل تفسيرًا منطقيًّا لعلمٍ استنباطي خاص، هو «جبر بول». والمثل الأعلى للجبر المنطقي يظل «حسابًا» يسمح بحل المسائل المنطقية ومع ذلك، فالجبر المنطقي، يفتقر إلى ذلك الاتساع والشمول الذي تتصف به «النظرية» المنهجية في الاستدلال. وهكذا لم يصل المناطقة إلى ذلك العلم المنهجي للاستدلال إلا عن طريق «المنطق الرياضي» وهو (علم جديد خلَّف الجبر المنطقي).

وقد ظهر «المنطق الرياضي» وهو مُشتق من اللفظ اليوناني Logistiché (techné) أي (فن) الحساب — ظهر في بداية القرن العشرين، على يد عالمين منطقيين إنجليزيين، هما: برتراند رسل B. Russell وألفرد نورث هوايتهد A. N. Whitehead اللذان نشرا من ١٩١٠م إلى ١٩١٣م ثلاثة أجزاء كبيرة عنوانها «المبادئ الرياضية Principia mathematica» وهذا المؤلَّف هو المرجع الأساسي في المنطق الرياضي، ومنذ ذلك الحين تكونت مراكز دراسية في ألمانيا، وبولندا، وأمريكا، وسَّعت في أبحاث المنطق الرياضي توسعًا كبيرًا، حتى أصبح المنطق الرياضي في الوقت الحاضر علمًا له فروع عديدة، ومنافسًا للعلوم الرياضية في دقة الصياغة.
والمنطق الرياضي، الذي يدرس الاستدلال الاستنباطي على نحوٍ ما يتمثل في التفكير الشائع، وفي النظريات الرياضية أيضًا، يحتاج إلى نظام رمزي يُلائم تفكيرًا بلغَ هذا الحدَّ من التخصص؛ فليس في وسع الذهن أن يتابع عملية الاستنباط في مجالاتٍ فكرية تصِل إلى هذا الحد من التجريد، دون معونة الرمز الذي يُضفي عليه دقته وإحكامه، ولا يكتفي الحساب المنطقي باستخدام رموز؛ بل إن عليه أن يُوضح بطريقة دقيقة محددة قواعد استخدام هذه الرموز ومعالجتها، كما كان يحدُث في الجبر المنطقي. ولكن لنُنبِّه هنا إلى ما لاحظه «فيز Feys» في مؤتمر عُقد حديثًا، من أن «معنى أي رمز من هذه الرموز لا يُفتَرَض مقدمًا قبلَ طريقةِ استخدامه.» على عكس المحاولات الأولى في الجبر المنطقي، فالمنطق الرياضي ليس في حاجةٍ إلى الرجوع إلى معنى الرموز لتكوين نظرية في استخدام هذه الرموز «بل إنَّ صِفته الرمزية لا ترجع إلى استخدام الرموز الفنية فحسب، إنما ترجع إلى أن كل ما ينطوي عليه من يقينٍ مردُّه إلى استخدامنا لهذه الرموز فحسب.»

هذا العلم العام الذي يدرس الاستدلال الاستنباطي من حيث صورته، لا يهتم بالرجوع إلى المحتوى الخاص للاستدلال؛ بل يدرس أي الصور تصلح في الاستدلال، دون أيةِ إشارة إلى الطبيعة العينية للأحكام، وعلى هذا النحو يستخلص تركيب الاستدلالات، فإذا أراد الكشف عن كُنْهِ هذا التركيب، قام أولًا في الجزء المبدئي منه، بدراسة كل الارتباطات الممكنة بين الأحكام أي بين القضايا. فهو يتَّخِذ هذه القضايا بدلًا من الفئات نقطَ بدءٍ له. وعندئذٍ ينظر إلى هذه القضايا مؤقتًا على أنها عناصر ووحدات لكي يركز الانتباه على طريقة ربط هذه القضايا فيما بينها فحسب، ويُسمَّى هذا الجزء من المنطق الرياضي «منطق القضايا»، ما دامت الموضوعات التي يستدل عليها قضايا، وبعد أن تتمَّ هذه الدراسة ينتقل منها إلى دراسة التركيب الداخلي للقضية (الموضوع، والمحمول) وتُفضي به هذه الدراسة إلى منطق للمحمولات وللفئات وللعلاقات.

ولقد ذكرنا من قبل أن المنطق الرياضي كان يتطور بوصفه علمًا استنباطيًّا، ومعنى ذلك أن نقطة بدايته بديهيات — بالمعنى الحديث لهذا اللفظ بالطبع — وهي في حقيقتها قضايا يُسلَّم بها دون برهنة، وتصلح أساسًا للبرهنة على النظريات المنطقية. ومعناه أيضًا أن المنطق الرياضي ينطوي على معاني تعريف، وتُستخدَم في تعريف المعاني المنطقية الأخرى، ومن قبيل هذه المعاني: الانفصال بين قضيتَين باستخدام «أو» واللزوم بين قضيتَين. وقد اصطلح على التعبير عن القضايا برموز مثل أ، ب، ﺟ وعن الانفصال بالرمز v (وهو الحرف الأول من كلمة Vel وتُقابِل في اللاتينية «أو» التي لا تفيد الاستعباد وعن اللزوم بالرمز.١١ تُعبر إحدى البديهيات عن علاقة بين هذه الأفكار، مثل البديهية التالية (أ V ب) (ب V أ) (وهذا تعبير عن قابلية علاقة الانفصال للتبديل). وإذا بدأنا من هذه البديهيات أمكننا مواصلة تقدُّمنا، بفضل «قواعد» للاستنباط تمكننا من استخلاص نتيجةٍ صحيحة من قضيةٍ مُعينة متى سلَّمنا بصحة هذه القضية، وهكذا ننتهي إلى نظريات منطقية تؤلِّف قواعد المنطق. وبفضل عملية التعريف، يُمكننا أن نصل من المعاني الأولى إلى معانٍ جديدة، ويتضمن المنطق الرياضي إذن «حسابات» لها نفس طبيعة الجبر المنطقي، غير أنه يزيد عنه في أنه يُبين «تدرُّج» هذه الحسابات، ويربطها في نظرية للاستنباط، تمامًا كما ترتبط الحسابات الرياضية في نظرية رياضية. وهكذا تتمثل في هذه النظرية الاستنباطية كل مزايا النسق؛ من تفكير في نقط البداية وفكرٍ مُوجَّه.
وطبيعي أن ينطوي المنطق الرياضي على دراسة تثبت عدم التعارُض بين بديهياته، واستقلالها كلٍّ عن الأخرى، فقد يبحث هذا الحساب عن أضيق نقط البداية حدودًا، أو عن أبسط قواعد استخدام الرموز … ويُطلق على هذه الدراسة اسمٌ خاص، هو «ما بعد المنطق métalogique» أي التفكير الواعي في المنطق، ولا شك في أن هذا الجزء من المنطق يُفضي بنا إلى إدراكٍ واعٍ لأُسس المنطق وقيمته، وهكذا يُمكننا أن نتصوَّر كيف أن أحد المناطقة قد قال: «إن المنطق الرياضي ذاته يؤدي إلى تكوين فلسفة للمنطق الرياضي».١٢

مذاهب المنطق كثيرة

ولكن مثلما أن بديهيات الرياضة ليست بطبيعتها غير قابلة للبرهنة عليها (كما أوضحنا في الفصل السادس) كذلك نجد في المنطق الحديث نفس النسبية في اختيار البديهيات والمعاني الأولى، فإلى جانب المنطق الرياضي الذي يمكن أن يُعدَّ الآن «تقليديًّا» تُوجَد أنواع أو مذاهب من المناطق، مثلما تُوجَد «هندسات» إلى جانب الهندسة الإقليدية.

والواقع أن تعبيرًا مثل «أنواع المنطق» قد يبعث الدهشة في نفس الفيلسوف الذي اعتاد النظر إلى المنطق على أنه علمٌ واحد لا كثرة فيه، ولكن لنستمع إلى المنطقي «فيز Feys» وهو يرد على دهشة الفيلسوف قائلًا: «ليس لأحد أن يدهش عندما يسمعنا نتحدث عن أكثر من منطق حديث واحد، فكل تغيُّر في البديهيات يولِّد مذهبًا صوريًّا جديدًا، وهذه الكثرة من مذاهب المنطق لا تتناقض فيما بينها؛ بل تظلُّ كلها في مستوياتٍ مختلفة للتفكير وكان من الممكن أن تتناقض لو كانت تُضفي معنًى واحدًا على الرموز التي تستخدمها، وتدَّعي مع ذلك إخضاعها لمصادرات مختلفة».
وهكذا تختلف البديهيات من منطقٍ إلى آخر، وكذلك التفسير الذي يمكن أن تُفسَّر به المعاني التي تمهد لها هذه البديهيات، فمن بديهيات المنطق التقليدي، مبدأ الثالث المرفوع (وصورته في المنطق الحديث: أ V~، أي أ أو لا – أ) — أي علينا إما أن نُثبت القضية أو نَنفيها، ولا يُوجَد احتمال ثالث. على أن منطقيًّا هولنديًّا هو «هينتج Heyting» قد أقام دعائم منطقٍ لا يضع هذا المبدأ ضمن بديهياته، ولا يعترف أيضًا بعكسه: ذلك هو المنطق الحدسي Logique intuitionniste الذي تتطلَّبه الرياضيات الحدسية عند بروفر Brouwer.١٣ أما بقية بديهيات المنطق الرياضي التقليدي فيعترف بها المنطق الحدسي. وأما المعاني أو المفاهيم فإن رفض بديهية الثالث المرفوع يُغير معناها، ولكنا نستطيع التعبير عن نظريات المنطق الرياضي الحدسي من خلال نظريات المنطق الرمزي التقليدي، وذلك عن طريق نظامٍ مُعين في الترجمة، مثلما يمكن ترجمة نظريات هندسة لوباتشفسكي إلى نظرياتِ الهندسة الإقليدية عن طريق القاموس الذي اقترحه بوانكاريه.

فكرة قِيَم الحقيقة في المنطق الرياضي

عندما يُعرَض المنطق التقليدي في صورة استنباطية (أعني باستنباط النظريات المنطقية من البديهيات) فإننا لا نرجع إلى قِيَم الحقيقة التي يمكن أن تتصف بها قضيةٌ ما. غير أنه من الممكن دراسة المنطق الرياضي التقليدي من وجهة النظر الجديدة هذه؛ فمن الممكن أن يكون للقضية قيمتان فتكون صادقة أو كاذبة، ولمَّا كان المنطق الرياضي التقليدي لا يعترف إلا بهاتين القيمتين، فقد سُمِّي منطقًا (ثنائي القيمة bivalente). على أن في وسعنا القول بأن معنى الصدق والكذب يُقحمنا في مجالٍ عيني، وعندئذٍ يكون علينا أن نكتفي بالقول إننا سنعزو إلى كل قضية قيمتَين: القيمة ١ والقيمة ٢ مثلًا. ولكننا سوف نستبقي التعبيرَين: صادق وكاذب، من أجل تيسير الفهم، فكيف ندرس المنطق الرياضي من وجهة النظر هذه؟ لنضرب بضعة أمثلة. فها هي ذي الطريقة التي نُعبر بها عن الجمع بين قضيتَين (أو ب) وتكون صادقة إذا كانت أ صادقة وب صادقة (فنحن لا نستطيع أن نؤكد صدق مجموع القضيتين إلا إذا كانت كل من هاتين القضيتين صادقة). أما الانفصال غير الاستبعادي بين قضيتين: (١ أو ب) فيُعرَف بأنه يصدق إذا كانت «واحدة على الأقل» ومن القضيتَين أ، ب صادقة، فإذا كانت أ كاذبة وب كاذبة، فعندئذٍ لا نستطيع تأكيد . وهكذا نرى أن قيمة مركبة مثل لا تتوقف إلا على القيمة التي تعزى إلى القضايا التي تُكوِّن عناصرها، وهي أ، ب. وهذه ليست سوى أمثلة بسيطة للغاية، غير أن كل التعبيرات المنطقية، مهما كان تعقيدها يمكن دراستها من وجهة النظر هذه … والنظرية أو المبرهنة theorém المنطقية بوجه خاص، هي تعبير صادق دائمًا أيًّا كانت القيمة التي تنسب إلى القضايا أ، ب، ج … المكونة لها، وهذا ما يطلق عليه اسم «تحصيل الحاصل Tautologie» بمعنى جديد كل الجِدة لهذه الكلمة.
ويمكننا أن نصل إلى أنواعٍ أخرى من المنطق إذا ما أدخلنا قيمًا جديدة غير الصدق والكذب، كالقِيَم التي تُحدد «درجاتٍ للصدق» مثلًا. وهذه الأنواع من المنطق تُسمى «بعديدة القيم Polyvalentes».
وهكذا قام منطقي بولندي، هو لوكاشيفتش Lukasiewicz بتشييد ودراسة منطق ذي ثلاثِ قِيَم يمكن الرمز لها بأرقام مثل صفر، ١، ٢. ويمكننا تفسير هذه القيم الثلاث بأنها: ما لا يصدق على الإطلاق، وما يصدق كل الصدق، وما هو صادق فحسب. غير أن التفسير العيني لهذه القِيَم هو الذي يُثير صعابًا عسيرة، وهي صعاب لا يتَّسِع المجال هنا لبحثها.

المنطق والرياضة

المشكلات الخاصة بالعلاقات بين المنطق والرياضة لها أنواع مختلفة فلنعرض بإيجاز لبعض هذه المشكلات.

  • (١)

    هل يجب على مناهج المنطق الصوري أن تستوحي المناهج الرياضية؟ يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال قد أصبحت واضحةً كل الوضوح في أيامنا هذه؛ فعن طريق المنطق الرياضي، أصبح النطق بالفعل عِلمًا له نفس وضعية العلم الرياضي، وبعد أن أصبح المنطق عِلمًا مضبوطًا بدقة، اتضح لنا مدى النجاح الذي يستطيع تحقيقه.

  • (٢)
    أراد بعض المناطقة إرجاع الرياضة للمنطق، والتعبير بوجهٍ خاص عن مفاهيم رياضية خالصة، كمفهوم العدد مثلًا، وذلك باستخدام معانٍ منطقية محضة، وتُعرَف هذه المحاولة لردِّ المعاني الرياضية إلى المعاني المنطقية باسم «النزعة المنطقية logicisme» غير أن هذا ليس إلا أحد الاتجاهات الكثيرة في المنطق.
  • (٣)
    يدرس المنطق مجموعات البديهيات الرياضية، وطريقة صياغتها، وصفات عدم التناقض والاستقلال فيها … إلخ، ولكن إذا كان المنطق يدرس «أسس» الرياضة، فهل معنى ذلك أن من الواجب أن يسبق تركيب النظريات الرياضية ذاتها؟ علينا أن نعترف بأن مهمة المنطق تتَّصف بوجهٍ خاص بأنها «راجعة أو ارتدادية retrospective»؛ فهو يحدد طبيعة العمليات الرياضية وقيمتَها بعد وجودها فعلًا، فالمنطق وسيلة إلى التبرير أكثر مما هو منهج للإبداع.

على أنه من العسير أن نحكُم على ما حقَّقه المنطق الحديث دون دراسةٍ عميقة لأساليبه الفنية، لهذا فنحن مُضطرون إلى أن ندع جانبًا مشكلات المنطق الحديث لنعودَ إلى آفاق البحث التي كانت معروفةً في القرن الماضي …

الاستنباط يفترض الاستقراء الذي يُزوِّده بمقدماته الكبرى

إذا كان حقًّا أن الاستنباط — كما يعرفه المنطق الصوري التقليدي ويصفه — ينطوي بوجهٍ عام على فقدانٍ للماصدق، فمن الضروري أن يوجَد نوع آخر من الاستدلال يزود الاستنباط الشكلي بالماصدق الذي يحتاج إليه، وبعبارة أخرى، يجب أن يتلقَّى المنطق الاستنباطي المقدمات الكبرى التي يبدأ منها، من نوعٍ آخر من الاستدلال. وهذا المنطق الآخر هو «الاستقراء». وكلمة «الاستقراء induction» هي المقابل اللاتيني للكلمة اليونانية epagogé (التي كان الأحرى أن تترجم بقولنا «إضافة adduction» أو «استيراد importation»).

والاستقراء استدلال يبدأ بعددٍ مُعين من القضايا الشخصية (المتعلقة بواقعةٍ واحدة أو فردٍ واحد) أو من القضايا الجزئية (المتعلقة ببعض الوقائع أو الأفراد) لينتهي إلى قضية كلية (تتعلق بكل الوقائع أو الأفراد من جنس معين). ويُعرِّفه أرسطو بقوله إنه هو الاستدلال الذي ينتقل من الخاص إلى العام.

ويمكننا تعريفه أيضًا. كما قال «لاشلييه» – بأنه: «العملية التي ننتقل بها من معرفة الظواهر إلى معرفة القوانين المحكمة فيها».١٤ ويتميز تعريف لاشلييه بأنه يوضح الاستخدام العلمي للاستقراء.

الاستقراء يمكن إرجاعه في حالات معينة إلى الاستنباط

وضع «أرسطو» الاستقراء في صورة قياسية، وهذا هو ما يُسمى بقياس «الحيوانات التي لا مرارة لها acoun» ولو كان هذا القياس معادلًا للاستقراء حقًّا، لكان المنطق الصوري هو كل المنطق، وإليك هذا القياس.
الإنسان والفرس والبغل يعيشون طويلًا.
على أن كل الحيوانات التي لا مرارة لها هي الإنسان والفرس والبغل.
فكل الحيوانات التي لا مرارة لها تعيش طويلًا.١٥
وهو قياس مُنتظم تمامًا، من الشكل الأول، وكل ما في الأمر أن حده الأوسط مُتعدد، فهو «الإنسان والفرس والبغل» على أن هذا استقراء من نوع خاص جدًّا، حتى إن أرسطو ذاته لم ينخدع في قيمته الحقيقية، إذ أننا نلاحظ أولًا أن «الإنسان والفرس والبغل» ليسوا أفرادًا، وإنما هي أسماء فئات استخلصت صفاتها باستقراء حقيقي يفترضه قياس (الحيوانات التي لا مرارة لها)، ويجمعه في كلٍّ مُوحَّد. ثم إن هذا القياس لا يفسر ميزة طول العمر التي تتصف بها الحيوانات التي لا مرارة لها، وهي الميزة التي يفسرها أرسطو في موضع آخر فيقول: إن هذه الحيوانات لها كبد أكثر نقاء، وبالتالي دم أنظف، ولهذا كان عمرها أطول.١٦

(١) الاستقراء الصوري

ومع ذلك فالاستقراء، على نحو ما وصفناه، لا يعدم أن يجد له استعمالًا. وهو يُسمى «بالاستقراء الكامل» أو «الاستقراء الصوري» وسبب هذه التسميات واضح، وهو يُستخدم في التصنيفات؛ فإذا وُجِد جنس مُعين يحتوي على عدد معين من الأنواع، وتحققنا من وجود صفة معينة في كل من هذه الأنواع، كانت هذه الصفة منطبقة على الجنس بأكمله، أو قد يشتمل نوع مُعين (كالكواكب مثلًا) على عددٍ معين من الأفراد، ويتصف كل من الأفراد بالصفة التي نحن بصددها (كأن يحتوي على جسم كيميائي معين مثلًا). ويظهر الاستقراء الكامل أيضًا في تلك العمليات الشائعة المسماة في اللغة الدارجة بعمليات «التتميم pointages»؛ فالطالب «أ» قد سلَّم بحثه، وكذلك الطالب «ب» … إلخ. إذن فكل طلبة الفصل قد سلَّموا أبحاثهم.

ومع ذلك يجب الاعتراف بأن مثل هذه التطبيقات محدودة، وأننا تناولناها بالبحث فإننا لا نعرض لمشكلة الاستقراء الحقيقية.

(٢) الاستقراء التعميمي amplifiante

إن الاستقراء الحقيقي هو ذلك الذي وُصف بأنه استقراء تعميمي؛ فهو يعمل في آنٍ واحد على زيادة الحكم كمًّا وجهةً، أما باعتبار الكم فذلك بانتقاله من الجزئي إلى الكلي، وأما باعتبار الجهة فذلك بانتقاله من العرضي (أي من المعطى، ومن الواقعة من حيث هي واقعة) إلى الضروري (أي القانون).

ولقد حاول «فرانسيس بيكن» وضع نظرية في «الاستقراء الحقيقي inductio vera» على حد تعبيره، ولم يُخْفِ طموحه في المضي إلى أبعدَ بكثيرٍ مما ذهب إليه أرسطو، وقد أطلق على مؤلَّفه الكبير الذي لم يُتمَّه، اسم الأورجانون الجديد Novum Organum أي المنطق الجديد؛ إذ كان المدرسيون يُطلقون اسم organon (أي الأداة) على مجموع المؤلفات المنطقية التي وضعها أرسطو.

(٣) نظرية بيكن في الاستقراء

وصف بيكن العمل الذي يجب على العالِم القيام به في بحثه عن «السبب الحقيقي vera causa» وصفًا رائعًا، وبلغةٍ طريفة حافلة بالتشبيهات والصور، فهناك أولًا ما يُطلق عليه اسم «صيد بان Pan» وهو الجمع المنهجي للتجارب العظيمة التنوع، التي يجب على العالِم إجراؤها أو جمعها. وعلى العالِم أن يُنوِّع التجربة، ومعنى ذلك أن يستخدِم الوسائل المعروفة تقليديًّا، ولكن بحيث يحاول الوصول بواسطتها إلى نتائج أخرى؛ فيستخدِم المرايا القوية لا في تركيز ضوء الشمس بل ضوء القمر، أو تركيز الحرارة في مصدرٍ أرضي، وعليه أن يُطيل التجربة، كأن يواصل التقطير مثلًا إلى مدًى أبعد من المدى الذي يمضي إليه المرء عادة … إلخ.
ثم تأتي مهمة التنظيم المنهجي للأمثلة (instantiae) في قوائم (tabulae) مقارنة توضح ما بينها من أوجه الشبه والاختلاف: وهي قائمة الحضور (tabula praesentiae) وتكاد تكون هي طريقة الاتفاق عند «جون ستورت مل» وقائمة الغياب tabula abséntiae (وتكاد تكون هي طريقة الاختلاف) وقائمة التدرج tabula granduum (طريقة التغير النسبي).
وقد أثنى ديكارت على بيكن، الذي كان أسبق منه، ثناءً عاطرًا، واعترف له بفضل التوجيه والابتكار في المنهج الذي يُمكِّن من إجراء تجارب نافعة، فقال: «ليس لدي ما أزيده في هذا الموضوع على ما كتبه فيرولاموس.» (وهو الاسم الذي كان يطلق على بيكن، الذي كان لوردًا لفيرولام Verulam).١٧
والحق أن بيكن كان يسعى، مثل ديكارت إلى أن يهتدي من وراء الوقائع إلى ما يُسميه «بالتركيب الدقيق الباطن Schematismus» أو «العملية الكامنة preocessus latens» وذلك من أجل تفسير هذه الوقائع.

(٤) الفرض والاستقراء

على أن منطق بيكن يفتقر إلى أمرَين؛ فهو أولًا لم يُوضِّح على الإطلاق أن كشف «التركيب الدقيق» أو «العملية الكامنة» هو نتيجة استدلال ينبغي تبريره منطقيًّا. وبعبارة أخرى، فالمشكلة المنطقية للاستقراء لم تطرأ على ذهنه، ثم إنه لم يوضح بجلاء تلك الفكرة الأساسية، وهي أن هذه النتيجة إنما هي فرض. وكلمة الفرض هذه تنطوي على معنيين، فالفرض تخمين وهو لا يعدو أن يكون احتماليًّا وغير يقيني ثم إن الفرض مبدأ، يستخلص الاستنباط منه نتائج يجب التحقُّق من صدقها بطريقة تجريبية. وفي هذه الصفة الثانية يَستبقي الفرض شيئًا من وظيفته الرياضية، كما أوضحنا من قبل.

ولقد حاول «هاملان Hamelin» وضع الاستقراء الذي قرر به كبلر قانونه الأول في صورة استدلال — ويذكر هذا القانون أن «الكواكب ترسم حول الشمس مدارات بيضاوية تكون الشمس في أحد مركزيها»١٨ وعندئذٍ تكون هذه القضية نتيجة لاستدلال لا يمكن أن يكون قياسًا بطبيعة الحال، ومع ذلك تتمثل فيه صفة الانتقال عن طريق حد أوسط، والحد الأوسط هنا هو: أن المواقع المتعاقبة للكواكب يمكن أن تُضم كلها بوساطة مدار بيضاوي. وفضلًا عن ذلك فقد أوضح «هاملان» الأساس الخفي للاستدلال، وهو فكرة الاحتمال التي تتمثل في النتيجة. فالنقط لا تقع على مدار «اعتباطًا»، وإنما نهتدي إلى المدار الحقيقي لأنه من «غير المحتمل» أن تبدو النقط التي تحدد مواقع الكواكب منتميةً إلى مدار بيضاوي، وتكون في الوقت ذاته مُنتمية في حقيقة الأمر إلى مدار آخر، ويزداد احتمال كوننا قد اهتدينا إلى المدار الصحيح كلما ازداد عدد النقط التي كشفناها. وبعبارة أخرى، فنقطة ارتكاز الاستقراء هي اعتقاد وإيمان، أي الاعتقاد بوجود منحنى، وبوجود قانون، وبوجود حتمية. فأساس الاستقراء هو الإيمان بالحتمية.

الطبيعة الحقيقية للاستقراء

والآن يمكننا أن نعرف كنه الاستقراء على نحوٍ أدق. فهو أولًا تخميني، وهو يفترض ابتداعًا حرًّا ترشده المعطيات وتلهمه، دون أن تقهره على شيء، فعندما بحث كبلر عن القانون الهندسي الذي تخضع له الكواكب، فكَّر أولًا في الدائرة، ولكن تبيَّن له أن هناك انحرافًا ضئيلًا جدًّا في الواقع بين الدائرة والمدار الحقيقي، فجرب ١٩ مدارًا مختلفًا قبل أن يصل إلى المدار الحقيقي. وقد استخلص هذه المدارات التسعة عشر من المعلومات الهندسية التي كونها علماء الهندسة، خلال أبحاثهم في عهد طاليس، وإقليدس، وفي أثناء قيامهم بالكشف وبتحسين كشوفهم.

ثم إن الاستقراء يفترض الإيمان بالحتمية، ولقد كان كلود برنار على حقٍّ عندما قال إن من الواجب على العالِم أن «يحتفظ بحرية كاملة تستند إلى الشك الفلسفي» ولكنه أضاف: «ومع ذلك فيجب عليه ألا يكون شكاكًا؛ بل يجب أن يؤمن بالعلم، أي بالحتمية، وبالعلاقة المطلقة والضرورية بين الأشياء.»١٩

وأخيرًا فالاستقراء ينتهي إلى «فرض» أي إلى مبدأ احتمالي يصلح أساسًا لاستنباط يمكن التحقق من صدقه.

فإذا كان الأمر كذلك، فليس لنا في الواقع أن نعد الاستقراء استدلالًا موازيًا للاستنباط. فالاستنباط «يرغم» ولا يترك أي مجال للاختيار. وفضلًا عن ذلك، فالاستنباط هو على نحو ما «جزء» من الاستقراء، فلنقل إذن، بالأحرى، إن الاستقراء منهج، أي أنه مسلك مُعين في الاستدلال.٢٠

مبدأ الحتمية أساس الاستقراء

قلنا إن الاستقراء يفترض الإيمان بالحتمية، أي اعتقاد خضوع الطبيعة لقوانين، ومن هنا كانت الحتمية أساس الاستقراء.

(١) المبادئ الثلاثة لعلاقات التجربة

إذا ارتضينا في هذه المسألة ما ذهب إليه «كانْت» قُلنا إن البحث عن القوانين يفترض ثلاثة مبادئ يُسميها «كانْت» «مبادئ علاقات التجربة Analogies de l’éxperiencé» وهو يرمي من هذه التسمية إلى بيان أنها تمكِّن العالِم من تفسير العلامات التي تكشف له عنها التجربة والتي تنمُّ عن وجود علاقات بين الظواهر.٢١ والواقع أن مبدأ العلاقة ليس إلا هوية في العلاقات تُمكِّننا، إذا وُجدت حدود ثلاثة، من التكهُّن بالرابع على أساس أن علاقته بالثالث مُماثلة لعلاقة الثاني بالأول، ولقد أوضح «كانْت» بجلاء في هذا الصدد أن عمل العالِم الذي يفسر التجربة ينحصر في التنبؤ بالعلاقات تبعًا لعلامات خاصة: ففي المثال الذي قدَّمناه من قبل (نقلًا عن هاملان) يكون «الحد الأوسط» في الاستقراء هو العلامة التي تُمكِّن من التكهن بوجود المدار البيضاوي الخفي، سواء أكان ذلك التكهن هينًا أم شاقًّا.

وقد حدد «كانْت» صيغة مبادئ علاقات التجربة الثلاثة كما يلي:

(أ) مبدأ الجوهر

يظلُّ الجوهر على حالة وسط تغير كل الظواهر دون أن تزيد كميته في الطبيعة أو تنقص. فمهمة العالِم تنحصر إذن في إيضاح طبيعة هذا الجوهر وتحديد كميته. وذلك هو موضوع تلك القوانين الكبرى المسمَّاة ﺑ «مبادئ بقاء المادة والطاقة».

العلم والجوهر

قد يظنُّ المرء أن العلم الاستقرائي المعاصر ليس في حاجة إلى مبدأ الجوهر؛ بل قد يُخيَّل إليه أنه ينبذه: هو ليس في حاجة إليه، لأنه يكتفي بصياغة قوانين سببية أو وظيفية تُعبر عن علاقات بين الظواهر المتعاقبة، أو بين العناصر المتلازمة للظاهرة، أو بين الظواهر المتلازمة. ومن جهة أخرى فهناك ظواهر تُناقِض مبدأ بقاء المادة، لأنها تُبين لنا أن بعض أجزاء المادة تُفقد أو تختفي بلا رجعةٍ. وفضلًا عن ذلك فالمادة هي الكتلة التي تتغيَّر تبعًا للسرعة، كما تقول بعض النظريات المعاصرة. ولكن يُلاحظ أن كل فقدان أو ظهور للكتلة، يَصحبه ظهور أو اختفاء للطاقة يتناسب معه، بحيث تكون إحدى صور الطاقة. وإذا كانت الكتلة تتغيَّر تبعًا للسرعة، فمن المؤكد أن الكتلة لن تعود هي الباقية؛ بل إن ما يبقى هو علاقة خاصة معقدة بين الكتلة والسرعة. فهناك إذن على الدوام مبادئ للبقاء، وكل ما في الأمر أن تحديد صيغة هذه المبادئ قد أصبح أكثر تعقيدًا وتجريدًا.

أما أن العلم في حاجة إلى هذه المبادئ، فذلك ما تُوضِّحه الملاحظة الآتية:

إن القوانين تُعبر عن العلاقات، غير أننا نظرنا إلى هذه العلاقات من وجهة النظر العلمية، فوجدناها تربط حدودًا «وأشياء» متضايفة.

ومن هذه الأشياء ما لا يتصف بالثبات، وما يستمر في البقاء، كالطاقة الكهربية مثلًا. ولكن ينبغي في نهاية الأمر أن يكون منها ما هو دائم، حتى يكون العلم منصبًّا على حقيقة واقعة.

وإذن فقد كان «كانْت» مُحقًّا عندما عدَّ مبدأ الجوهر ضمن مبادئ علاقات التجربة، فهذا المبدأ يعني كما لاحظ ميرسون Meyerson — مثلًا — أن الروح العلمية تنطوي على قدرٍ معين من الواقعية، أي من الإيمان بالواقع. ولا شك أن هذه الواقعية مؤقتة، وأن العلم مثالي في أساسه، ولكن العلم يرتكز، في مرحلةٍ مُعينة من مراحل البحث، على واقعيةٍ مؤقتة، يُعبر عنها مبدأ الجوهر.

(ب) مبدأ السببية

«كل التغييرات تحدث تبعًا لقانون الارتباط بين الأسباب والنتائج» وعلى هذا المبدأ تُبنى «القوانين السببية» ومن أمثلتها القوانين التي تُرجِع مرضًا معينًا إلى تأثير جرثومة معينة.

(ﺟ) مبدأ التأثير المتبادل

يُوجد تأثير متبادل عام بين الجواهر بالقدر الذي تكون فيه متزامنة في المكان. وبعبارة أخرى، فكل الأشياء المتزامنة في الكون يؤثر بعضها في بعض، وهذا التأثير المتبادل يخضع لقوانين. وهذه القوانين «ارتباطية»، فهي تُبين أن الحوادث المشار إليها «ترتبط» بعضها ببعض. وهذه القوانين لا تسري فقط على «الجواهر» — على حدِّ تعبير «كانْت» — أعني على الحقائق المادية؛ بل تسري أيضًا على الحوادث، أعني على تغيراتها وعلى صفات الحقائق أو الحوادث وعناصرها والعوامل المتحكمة فيها. وهكذا نجد قانون «ماريوت» يُحدد حجم كتلة من الغاز من حيث «ارتباطها» بالضغط وقانون «أوم Ohm» يمكِّن من حساب القوى الكهربية المحركة لتيار كهربائي من حيث «ارتباطها» بالمقاومة والشدة.

أساس الاستقراء عند «كانْت» هو إمكان التجربة

والآن نعرض لمشكلة أدق، هي مشكلة «أساس» الاستقراء. فالأساس هو الدعامة المتينة، وهو الحجة التي يدَّعيها العالِم لنفسه عندما يستقرئ. ونقول إنه يدَّعي لنفسه حجة، لأنه ينتقل من مجالٍ إلى آخر، فينتقل من الواقعة إلى القانون. فلم يكن كبلر يستطيع أن يرى المدار البيضاوي الذي أكد أن الكواكب تتحرك فيه، وهو لم يرَ إلا «بضع» مواقع لكوكب «واحد» فافترضَ أن هذه المواقع نقط في مدار بيضاوي. وذلك المدار يضمُّ عددًا «لامتناهيًا» من المواقع الماضية والحاضرة والمستقبلية «لأي» كوكب. وقد افترض كبلر أن كلَّ الكواكب «مُضطرة» بمعنًى ما إلى التحرك في مدار بيضاوي، وأنها ترسم «بالضرورة» وعلى الدوام، مدارات بيضاوية. ومن هنا نُدرك مدى «الوثبة» التي يقوم بها المرء عندما يَستقرئ. وهذه الوثبة تحدُث في كل الأحوال، ولا يتحقق أي علم دونها.

ومن المحال أن نُبرِّر هذه الوثبة عن طريق الاستنباط. فليس هناك أي «تحصيل حاصل» في حركة التفكير التي نستقرئ بها. ذلك لأن أساس المنطق الاستنباطي هو «مبدأ الهوية»، وتبعًا لهذا المبدأ لا يجوز للمرء متى أكد صدق قضيةٍ ما، أن يؤكد صدق قضيةٍ أخرى تُناقضها؛ بل إنه متى أكدها، وجب عليه أن يستمر دائمًا في تأكيدها، هي وما تستتبعه من نتائج. فهل يحق للمرء أن يمد هذه القضية ويُعمِّمها، وينتقل من تأكيد ظاهرة إلى تأكيد قانون؟ إن مبدأ الهوية لا يرفض هذا الحق، ولكنه عاجز تمامًا عن أن يُمدَّنا به، بل الحق أنه لا يذكر عنه شيئًا.

(١) الإدراك الحسي والعلم

لكن الأمر الذي يُطمئننا هو أن «الوثبة» التي نقوم بها عندما نستقرئ، هي وثبة نقوم بها بالضرورة ما دُمنا «نفكر». وفي هذه المسألة نجد أن الإدراك الحسِّي لا يقلُّ تعجلًا عن العلم؛ بل إنه ينطوي على نوعٍ من العلم. فهو لا يصوغ قوانين بالمعنى الصحيح، وإنما يُقرر أشياء وحقيقة واقعة، بطريقة ضرورية، ويدعي لنفسه صفة الحقيقة، ولو تخلَّى عن صفة الحقيقة، لتخلى عن وجوده ذاته. على أن إقرار حقيقة واقعة، معناه تأكيد أن لنا الحق في الاعتراف بوجودٍ يتقرَّر خارج الفرد الذي يُقرره، أعني الاعتراف بوجود ضروري شامل؛ ضروري بمعنى أنه يتمثل ويُوجَد ضمنًا في كل الإدراكات الحسية للشخص الذي يدرك، ويتحكم في هذه الإدراكات على نحوٍ ما، وشامل بمعنى أنه مُتضمَّن، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في جميع الإدراكات الحسِّية لكل الموجودات القادرة على الإدراك الحسي، وإذن فالإدراك الحسي ذاته يتجاوز نطاق التجربة المباشرة في تأكيد عمومية الوجود وضرورته.

وفي وسعنا أن نُقرِّب بين الإدراك الحسي والعلم بطريقةٍ أعمق من هذه. فليس ثمة إدراك حسِّي دون وجود هندسة تلقائية، لأننا لا نستطيع رؤية شيء أو لمسِهِ دون أن نُحدد له شكلًا. غير إن هذا الشكل هو ذاته «القانون». وكما أن كبلر قد جمع في المدار البيضاوي سلسلةً من مواقع الكواكب، فإن المدرك الساذج يجمع في دائرةٍ مثلًا، لمسات يده لمائدة مستديرة، أو الصور التي ترسمها هذه المائدة في عينيه، وفي معظم الأحيان لا يمكن أن تكون هذه الصورة دائرية؛ بل تكون بيضاوية بدرجات مختلفة، وإنما تكون فكرة الدائرة المتضمَّنة في رؤية المائدة المستديرة نتيجة لنوع من الاستقراء التلقائي الساذج، وهذا الاستقراء بدوره يُمكِّن من القيام بنوع من الاستنباط الذي يُشبههه في تلقائيته وسذاجته، إذ إن الدائرة التي نفكر فيها عن طريق الإدراك الحسي للمائدة المستديرة تتشكل ذهنيًّا بعددٍ لا متناهٍ من الدوائر أو من الأشكال البيضاوية الممكنة، فتسمح بالتنبؤ بكل الصور التي يمكن أن تبعثها المائدة المستديرة في أعين جميع مَن يُدركونها، أو بالتكهن بسلسلة الاتصالات اللمسية التي تُقدمها الدائرة أو يمكن أن تقدمها لهم.

(٢) الفلسفة الترنسندنتالية

علينا أن نبحث عن أساس الاستقراء في الإدراك الحسي، أي في أكثر التجارب تلقائية وبساطة وضرورة. وهذا ما تَعنيه الفلسفة الترنسندنتالية «عند كانْت» وقد عرض «كانْت» نفسه الفكرة الأساسية لهذه الفلسفة في مقدمة «نقد العقل المحض» (الطبعة الثانية) فقال «إن الأمر هنا لأشبه بالفكرة الأولى عند كبرنك فهو حين ألفى نفسه عاجزًا عن الوصول إلى تفسير لحركات السماء على أساس القول بأن جميع الأجرام السماوية تدور حول المشاهد، بدا له أنه قد يُحرز نجاحًا أكبر لو جعل المشاهد ذاته يدور، ويترك النجوم ساكنة، وفي الميتافيزيقيا يُمكننا أن نقوم بمحاولة مماثلة، وبالنسبة إلى إدراكنا الحسي للأشياء. فإن كان من الواجب أن ينظم هذه الإدراك تبعًا لطبيعة الأشياء، فلست أدري كيف يمكننا معرفة شيء عنه قبليًّا à Prori أما إذا كان الشيء (من حيث هو موضوع للحواس) هو الذي ينظم تبعًا لطبيعة قدرتنا على الإدراك الحسي، فعندئذٍ أستطيع أن أتصور هذا الإمكان بكل وضوح.»٢٢
وبعبارة أخرى، فقد أحدث «كانت» في الفلسفة انقلابًا مماثلًا لانقلاب كبرنك في علم الفلك؛ إذ بدَّد الفكرة الوهمية التلقائية التي تدعو المرء إلى اعتقاد أن الواقع الخارجي يفسر الإدراك الحسي تفسيرًا كاملًا، وينطبق عليه انطباقًا تامًا، كأن يظن المرء مثلًا أن النجوم تدور حول المُشاهد لأنه «يراها» تدور حوله، وقد بَيَّنَ «كانْت» أن هذا الإدراك الحسي تمثُّل representation أي تدخُّل من جانب الذهن الذي يُحدد الموضوع، ويُقرِّره على نحوٍ ما، كما أكد أن هذا التمثُّل تدخلٌ إيجابيٌّ للذهن الذي يفهم الأشياء لكي يتعرف عليها باعتبارها حقيقة واقعة في الوقت ذاته، وهذا ما فعله كبرنك عندما حمل على المذهب التلقائي القائل بمركزية الأرض، واستبدل به مذهبًا عقليًّا يقول بمركزية الشمس. وهذا المنهج يُسمى «بالمثالية». فالمثالية هي تفسير الحقيقة الخارجية عن طريق الحكم الواقعي، وتفسير الحكم الواقعي بالعقل الذي يُريد أن يفهم.

ويُطلق «كانت» على هذه الفلسفة اسم «الترنسندنتالية». ولقد كان المدرسيون يُطلقون هذا الاسم على المحمولات التي تنطبق على كل الموجودات، مثل صفة كون الشيء «واحدًا» أي كونه يكشف عن وحدة داخلية، أما «كانت» فيطلق اسم «الفلسفة الترنسندنتالية» على تلك الفلسفة التي تفرض على الوجود «شروطًا قبلية» مصدرها العقل. ولنلاحظ أن هذه الفلسفة ليست في أساسها جديدة كل الجدة، وذلك لأن «ديكارت» عندما بدأ تأمُّلاته بالشك المنهجي، ووضع «الكوجيتو» أنا أفكر إذن أنا موجود، قد قال في الواقع نفس ما قاله «كانت». فالشك تكذيب للواقعية الساذجة في الإدراك الحسي التلقائي، والكوجيتو تعريف للحقيقة، وأنموذج كل حقيقة، فليست هناك حقيقة سوى ما أفكر فيه بوضوح وما أفهمه، بل إن في وسعنا الاهتداء إلى أقدم أصول الفلسفة الترنسندنتالية في مثالية أفلاطون.

برهان الحتمية

وإذن ﻓ «كانت» يُسمِّي البرهان على مبدأ ما برهانًا ترنسندنتاليًّا، إذا كان يُثبته عن طريق الشروط القبلية للتمثُّل، فهو بعبارةٍ أخرى، البرهان الذي يؤكد وجود الحقيقة الخارجية عن طريق ضرورة الفهم.

(١) الجوهر

يأتي مبدأ الجوهر بالشرط الأول الذي ينبغي توافره لكي يُدرك الذهن أي تغيُّر، وهذا الشرط هو أن يظلَّ شيءٌ ما «ثابتًا» وسط التغير، إذ لو كان التغيُّر كاملًا، لقضى على نفس المعيار الذي يُمكِّن من إدراكه.

(٢) السببية

مبدأ السببية شرط يتطلَّبه العقل لكي يتصوَّر حقيقة تعاقُب الحوادث، والتعاقب الحقيقي هو التعاقُب الذي لا يمكن عكس اتجاهه، ولا يمكن تصوُّره بالترتيب العكسي دون خلف، كما هي الحال لو تصوَّرنا — على سبيل المثال — نهرًا يتجه تياره نحو منبعه. فللواقع اتجاه، لأن الزمان الذي نتصوَّره فيه له اتجاه المثال، ولو وجدت سلسلة من التصورات تسمح بأن تُعبَرَ في أي الاتجاهين حسبما نريد، لما كانت حقيقة، ولكنا نَعبُر بالفكر أو بالحواس مجموعة من الأشياء هي في حقيقة الأمر مقترنة زمانيًّا، كحجرات البيت الواحد مثلًا. ولكننا لا نستطيع أن نتصور موت لويس السادس عشر قبل مولده، لأن هذا الموت وهذا الميلاد واقعيان، وحادثان. فالحوادث لا يمكن أن ترجع على أعقابها. وتَصوُّرُ صفة عدم القابلية للرجوع هو ذاته السببية، إذ إن السبب يُحدد النتيجة، لا العكس، ولنقل بتعبير آخر، أعمق من الأول، إن المرء لا يستطيع أن يُوقِن بأن الحادثَين متعاقبان إلا إذا أدرك أحدَهَما بوصفه سببًا للآخر.

(٣) التأثير المتبادل

وكما أن السببية هي أساس التعاقب، فإن التأثير المتبادل هو أساس التزامن، فالحادثان المتزامنان ليسا مجرد حادِثَين غير مُتعاقِبَين؛ بل هما حادثان يؤثر كل منهما في الآخر تأثيرًا مُتبادلًا، ومُتساويًا، فهما يكونان معًا جزءًا من عالَم واحد، وهما مرتبطان، ولو عن طريق الضوء الذي يتبادلانه، والإشعاعات التي تنبعث من كلٍّ منهما نحو الآخر، ولقد كان تفكير ديكارت عميقًا عندما قال إن الضوء هو الحقيقة الأساسية للكون المادي، وأثبت تقدُّم العلم فيما بعدُ أنه كان مُحقًّا في قوله هذا. فالضوء (بمعناه العام، أي بمعنى الإشعاع) هو الذي يمثل ماديًّا وحدة الكون.

أساس الاستقراء عند لاشلييه

فلنفحص الآن الحجج الرئيسية لرأي مشهور في أساس الاستقراء٢٣ دافعت عنه فلسفة جول لاشلييه في ١٨٧١م.

فقد أكد لاشلييه، من وجهة نظرٍ يمكن تقريبها من وجهة نظر «كانْت» أن «شروط وجود الظواهر هي نفس شروط إمكان التفكير» (ص٤١) ولكن أصالة رأي لاشلييه إنما تنحصِر في قوله بأن «المبدأ الذي ترتكز عليه معرفتنا القبلية للطبيعة مبدأ مزدوج» (ص٦٩). ويتكوَّن هذا المبدأ من قانون العِلل «الفاعلة» وقانون العلل «الغائية» فالقانون الأول ينص على أن كل «ظاهرة متضمنة في سلسلة يتحكم وجود كل حدٍّ منها في وجود الحد الذي يليه» ص٤٢، ولكنا نُدرك، وسط كثرة الظواهر، وحدةً تربط بينها (ص٥٥) وعلى ذلك فهناك قانون ثان «تدمج فيه كل ظاهرة في نسق تتحكَّم فيه فكرة «الكل» في وجود الحد الذي يليه» (ص٤٢) ولكنا «نُدرك وسط كثرة لا يمكن أن تنتج إلا من اعتماد كل جزء منها على «الكل»، فلا بد إذن أن تكون فكرة «الكل» في الطبيعة قد سبقت وجود أجزائها وتحكمت فيه، وإذن ففي الجملة يجب أن تكون الطبيعة خاضعة لقانون العِلل الغائية.» (ص٧٩).

ويستخدم لاشلييه القانون الأول ليفسر ما تتصف به سلاسل الظواهر من ترتيب وانتظام بوساطة قانون «الآلية الشاملة» mécanisme univrsel وقد يبدو أن مثل هذا التفسير الآلي لصحة الاستقراء يتنافى مع أية طريقة أخرى للتفسير، وأن المرء لا يستطيع أن يُسلم في آنٍ واحد بالآلية الشاملة، وبالغائية. ولقد نبهنا برجسون فيما بعد، في كتابه «التطور الخالق» (ص٤٣) إلى أن «الفلسفة الآلية إما أن تُقبل أو تُرفض بحذافيرها، وينبغي رفضها لو كانت أصغر ذرة من التراب تُبدي أي نوع من التلقائية بانحرافها عن المسار الذي تتنبَّأ به الميكانيكا.» وإذن فكيف نعترف بقانون العِلل الفاعلة وقانون العلل الغائية في آنٍ واحد؟ يُحدد لاشلييه نفسه هذا الاعتراض بدقة فيقول: «… إن الوجود الموضوعي للظواهر ذاتها يُبنى على تسلسلها الضروري فهل يتسنَّى لنا أن نبحث لهذا الوجود ذاته عن أساسٍ جديد، وهلَّا تكون الظواهر أكثر حقيقةً وموضوعية لأن وحدة السلسلة، التي تؤدي إلى ظهور كلِّ حركةٍ من الحركةِ السابقةِ عليها، تُضاف إليها وحدة النسق، التي تؤدي إلى توجيه حركاتٍ مُتعددة نحو هدف واحد مشترك؟ أليس من الواضح، على عكس ذلك أن هذه الوحدة الثانية زائدة تمامًا، وأن العقل، بدلًا من أن يدمجها في الأشياء، يُضطر عندئذٍ إلى انتظارها، كما لو كانت مصادفةً سعيدة، ومنحةً تتكرَّم بها الطبيعة.» (ص٤٧).

ولكن الواقع أنه يُوجَد بين الظواهر نوعان من العلاقات: «علاقات السبب بالنتيجة» وفيها تكون الظواهر سلسلة متصلة في الزمان، وعلاقات الوسيلة بالغاية، وعليها ترتكز الوحدة المتجانسة المنظمة للطبيعة (ص٨٠) ففي الطبيعة ذاتها مستويان من مستويات الوجود، مما يبرر البرهان الفلسفي الذي أتى به لاشييه. ففي وسعنا القول إن الظواهر «تُوجَد» من حيث إنها تعتمد على سبب يسبقها في الزمان … كذلك يمكننا القول بأن الظاهرة «تُوجَد» من حيث أنها تساهم في تحقيق غاية هي أيضًا مثالية … بل إن هذا التعريف الثاني للوجود يتمشى، خيرًا من الأول، مع الفكرة التي نكونها عمومًا عن أحد الموجودات؛ لأن ما يُسمى بهذا الاسم، ولاسيما إذا كان كائنًا حيًّا، هو على وجه الدقة مجموعة من الظواهر التي تدور — على نحو — حول غاية مشتركة. وعلى ذلك فللطبيعة نوعان من الوجود، يقومان على القانونين اللذين يفرضهما التفكير على الظواهر: وجود مجرد، يتحد ذاتيًّا مع العلم الذي هو موضوعه، ويرتكز على القانون الضروري للعلل الفاعلة، وقانون عيني، يعادل ما يمكن تسميته بالوظيفة الجمالية للتفكير، ويرتكز على قانون عرضي للعلل الغائية) (ص٨٠–٨١).

وهذه الغائية هي التي تكشف عن سمة تتميز بها بوضوح فلسفة جول لاشلييه.

١  انظر الفصل الرابع، قسم ١٢.
٢  Intr. à l’étude de la médecine expérimentale 1 et partie chap II, § V.
٣  يُطلق اسم المدرسية — أي مذهب (المدرسة) — على الفلسفة التي ظهرت في العصور الوسطى، القرن الثالث عشر، ومزجت بين العقيدة الكاثوليكية، وهي موضوع للإيمان حدَّدته المجامع الدينية تبعًا لتعاليم آباء الكنيسة، وبين فلسفة أرسطو، التي تمثل «العقل».
٤  تكون القضية «كليَّة» إذا أخذ موضوعها في كليته وعمومه (كل ع هي ل مثلًا). تكون جزئيَّة إذا أُخذ موضوعها في جزء منه (بعض ع هي ل).
٥  De motu animalium 702 à 32.
٦  Goblot traite de logique, § 142.
٧  عند هذا الموضع يأتي المؤلف بملخص موجز للأقسام التالية، من ٨ إلى ١٣، وذلك ليكتفي به من طلاب الفلسفة مَن يجدون صعوبةً في فهْم هذه الأقسام، وقد أثرنا أن نترجم هذا الملخص بدوره، كاملًا في هذا الهامش.
لم يتخذ المنطق الصوري وجهةً مخالفة كل الاختلاف لوجهة المنطق الأرسطوطالي إلا في أواسط القرن التاسع عشر؛ فمنذ ذلك التاريخ لم يعد المنطق الصوري مبحثًا فلسفيًّا بل تحوَّل إلى مبحثٍ علمي وأصبح «علمًا» يُمكنه أن يقف بمعزلٍ عن المناقشات الفلسفية ووجهات النظر الميتافيزيقية. والمثل الأعلى الذي يسترشد به هذا العلم هو الدقة والوضعية اللتان تتصف بهما العلوم الرياضية. وهكذا سعى المناطقة إلى أن يقتبسوا من الرياضة منهجها وأساليبها في الحساب، ولقد كان أحد المناطقة الإنجليز وهو بول Boole (١٨١٥–١٨٦٤م) أول من وضع دعائم «حساب منطقي» مُشابهٍ للحساب الجبري، وعبَّر عن عملياتٍ للفكر بوساطة رموز مُستمدة من الجبر، فواو العطف مثلًا، كما يتضح في تعبيرات مثل: «الفرنسيون والإنجليز» لها خصائص شكلية (أي مستقلة عن طبيعة الحدود التي يربط العطف بينها) مشابهة لخصائص الجمع. ولنذكر من هذه الخصائص واحدة — على سبيل المثال لا الحصر — فنلاحظ أنَّ في وسعنا أن نعكس ترتيب الحدود التي تربط بينها واو العطف مثلما يمكننا في الجبر أن نعكس ترتيب الحدود في مجموع مثل: س + ص = ص + س لذا يُرمز إلى حرف العطف في صفته هذه بعلامة الجمع (+). وعلى هذا النحو يمكن التعبير عن قوانين الفكر بعلاقة جبرية، ومن هنا سُمي المنطق عند بول بالجبر المنطقي.
على أن هذا الحساب المنطقي لا يتصف بصفات العمومية والتنظيم التي ينتظرها المرء من المنطق إذا نظر إليه على أنه علم للاستنباط بوجهٍ عام؛ لذا كان من الضروري الانتظار حتى عام ١٩١٠م حين ظهر كتاب مشهور وضعه عالمان إنجليزيان في المنطق هما «رسل Russell» و«هويتهد Whitehead». فعندئذ فقط تكوَّن مثل هذا العلم الذي يُعبر عنه عامةً باسم «المنطق الرياضي» logistique وهي كلمة مشتقة logistiché tachné أي فن الحساب. ويَستخدِم الحساب المنطقي، كالجبر المنطقي، رموزًا ولكن هذه الرموز لا تكتفي بمحاكاة عمليات الحساب الرياضية ذاتها؛ ذلك لأن عالم المنطق الحديث يخالف المنطق التقليدي في أنه لا يَعُد المنطق واضحًا بذاته؛ بل «يستخلصه» من مبادئ (أي من بديهيات يضعها دون برهان عليها) مثلما يستخلِص العالِم الرياضي نظرياتِهِ من بديهيات. فهناك إذن نظريات منطقية «مثلما أنَّ هناك نظريات رياضية» وهذه النظريات المنطقية تستخلص من البديهيات عن طريق قواعد للاستنباط، ولكن ليس معنى الرمز هو المهم في البرهنة على هذه النظريات؛ بل إن صلاحية هذه النظريات لا تُستمَدُّ إلا من إمكان تطبيقها على الرموز ومدى استقلالها، ويستطيع المرء — كما هي الحال في الرياضة — أن يُغير نسق البديهيات المنطقية، وبهذا نصل إلى كثرةٍ من النظم المنطقية غير التقليدية، مثلما أمكن التوصل إلى هندسات لا إقليدية مثلًا، عن طريق تغيير بديهيات الهندسة الإقليدية التقليدية.
٨  Loc cit. 1er partie. p. 11.
٩  Loe cit 1er partie, p. 11.
١٠  أورد هذا النص جورجنسن J. Jorgensen في كتابه:
A Treatise of Formal Logic 1931, 1, p. 99.
١١  ومن المفهوم بالطبع أن هذه الرموز التي وضعت اصطلاحًا يمكن استبدال غيرها بها.
١٢  J. Jorgensen: A Treatise of Formal Logic 1931.
١٣  قدَّمنا وصفًا موجزًا للنظرية الرياضية عند «برفور» في الفصل السادس قسم ١٥.
١٤  Du fondement de l’induction (Alcan) p. 3.
١٥  Aristote: Premiers analytique II, 23.
١٦  Aristote: De Partibus animalium.
وهي فقرة أوردها هاملان Hamelin في كتابه: مذهب أرسطو.
Le Système d’Aristote (Alcan) p. 257.
١٧  Lettre de 1630 à Mersenne t. I de l’édition Adam et Tannery p. 195.
١٨  Année philosophique, 1899.
١٩  Introduction à l'étude de la médecine éxpériméntale 1re partie, chap II § III edition scolaire Hachette p. 62–63.
٢٠  A. Laland: les théories de I’induction et de l’éxperimentation Boivin 1929, p. 279.
٢١  Critique de la raison pure, 2eme partie livre II, 3eme section §3.
وسنتحدث في الأقسام أ، ب، ﺟ التالية عن هذه المبادئ الثلاثة ونبرهن عليها.
٢٢  Préface, ed. scolaire Mesnard (Hachette) p. 22–23.
٢٣  Du fondémént l’induction, suivi dé “Psychologie ét métaphysiqué” Alcan 1896, 2ndedition.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤