الفصل الرابع

تصنيف العلوم

يمكننا أن نتَّخذ من تقسيم «أوجست كونت» أساسًا، وتبعًا لهذا التقسيم، ينبغي التمييز بين العلوم العمليَّة أو علوم الأساليب الفنيَّة، التي يُطبقها المهندسون، والعلوم النظريَّة التي يبحث فيها العلماء، والعلوم النظريَّة إما عينيَّة (كعلوم الحيوان أو النبات مثلًا) أو مجردة (كعلم وظائف الأعضاء).

والعلوم المجردة الرئيسية ستة: الرياضة، والفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء، وعلم الحياة، وعلم الاجتماع. وهذه العلوم مُرتبة ترتيبًا من حيث البساطة والعموم، وهي علوم لها صفاتها النوعيَّة، إذ لا يمكن إرجاع كلٍّ منها إلى العلم السابق عليه، فالمذهب الوضعي يتنافى مع المذهب المادي.

ومنذ عهد أوجست كونت، تطوَّرت العلوم بحيث أصبح تصنيفه غير مطابقٍ لحالة العلم كل المطابقة. فقد ظهرت علوم جديدة (مثل علم الطبيعة الفلكي، وعلم الطبيعة الذري)، واحتلت هذه العلوم مكانةً تعلو مكانة علومٍ كثيرة أخرى، وأثبتت وحدة العلم التي تعبِّر، كمال قال «ديكارت» عن وحدة العقل الإنساني، وأصبحت المثاليَّة، التي تؤكد هذه الوحدة، في مركز أقوى من حيث قدرتها على مناهضة المادية، من النزعة الروحيَّة عند أوجست كونت.

فائدة القيام بتصنيف للعلوم، ولو كان مؤقتًا

كوَّنَّا فيما سبق فكرةً أولى عن العلم، وعلينا الآن أن ندرس مختلف العلوم على التخصيص، ولأجل هذه الغاية ينبغي لنا أن نُصنفها.

ومن المؤكد أنَّنا لا نُولي تصنيف العلوم أهميَّة أساسيَّة، وذلك لأسباب سنُوضحها في ختام هذا الفصل، ولن يكون التصنيف الذي سنعرضه إلَّا تصنيفًا مؤقتًا، ولكن من الضروري أن يُوجَد تصنيف أيًّا كان. فميزة التصنيف أنه يُضفي دقةً على المصطلحات الفنيَّة في العلوم. والحق أنَّه لو لم تكن له من فائدة إلا هذه، لكان ذلك كافيًا. ولقد وصف كوندياك Condillac العلم بأنَّه «لغة أُحسِن إعدادها». وفي مقابل ذلك نرى أن اكتمال اللغة يؤدي إلى بدء المعرفة، كما يؤدي وضع المصطلح على أسسٍ عقلية إلى البدء في معرفة الأشياء. وفضلًا عن ذلك، فلمَّا كنَّا سنقتبس تصنيفنا المؤقت من أوجست كونت١ الذي كان شديد الانكباب على معرفة علوم عصره، والذي اتجه بفكره إلى المشاكل التي تُثيرها الصِّلات بين هذه العلوم، فسوف نستطيع الاهتداء خلال ذلك إلى أفكار طريفة وعميقة.

تصنيف بيكن (١٦٢٣م) وأصحاب جائزة المعارف (١٧٥١م)

لكي يتسنَّى لنا فهْم تصنيف «أوجست كونت»، يجب علينا أن نقول بضع كلمات عن التصنيفات السابقة له، والتي نقدَها هو. فهو يتحدَّث أولًا عن تصنيف «فرانسيس بيكن»، وأساس هذا التصنيف هو التفرقة بين ثلاث ملَكات لدى الإنسان، وهي الذاكرة، والخيال، والعقل. فالذاكرة يناظرها التاريخ، الذي ينقسم إلى التاريخ المدني (وهو ما نُسميه عادةً اليوم بالتاريخ، بمعناه الصحيح) والتاريخ الطبيعي. والخيال يُناظره الشِّعر. وأخيرًا فالعقل هو أساس الفلسفة أو العلم بمعنى الكلمة، وهو الذي قد يكون موضوعه الله (اللاهوت) أو الطبيعة (الفلسفة الطبيعيَّة) أو الإنسان (الفلسفة الإنسانيَّة).

ثم يتحدث كونت بعد ذلك عن تصنيف أصحاب دائرة المعارف، وهو تصنيف ديدرو.٢ وهذا التصنيف شبيه من حيث المبدأ، بتصنيف «بيكن»، وهو التفرقة بين الكلمات الأساسيَّة الثلاث للعقل: الذاكرة، والعقل، والخيال.

نقد التصنيفين: لا يعترفان بوحدة العقل

يقول «كونت» إن مثل هذه التصنيفات «معيبة من أساسها»، إذ إن عقلنا يستخدم، في كل مجال من مجالات نشاطه، جميع ملكاته الأساسية في آنٍ واحد، وإنه لمن اليسير أن نُبيِّن أن الفنون الجميلة، مثلًا لا تقوم على أساس الخيال وحده، وإنما على الذاكرة والعقل أيضًا، إذ إنها كثيرًا ما تتطلَّب من الفنان أن يكون ملمًّا بمعلومات واسعة، وتقتضي في جميع الأحوال تنظيمًا عقليًّا للعناصر التي يُمدُّنا بها الخيال. ولكن، لما كان اهتمامنا هنا مُنصبًّا على العلوم وحدَها، فلنقتصِر إذن على تذكرة القارئ بما قُلناه عن مكانة الخيال العلمي٣ ولنُضف إلى ذلك أن الذاكرة، هي دون ريب، ملكة لا غِنى للعالِم عنها، لا لأنها كما قال باسكال «ضرورية في كل عمليات العقل٤ فحسب، لأن العالِم هو أيضًا جامع للوقائع، فهو إذن في حاجة إلى ذاكرته حتى يكوِّن مادة تجربته.»

ولنقل بوجهٍ عام إن الوظائف العقلية لا يمكن أن تُفصَل كل منها عن الأخرى، وهي تتضافر دائمًا، بحيث إن كلَّ تقسيمٍ يقوم على أساس التمييز بينها هو تقسيم مصطنع.

تصنيف أوجست كونت (١٨٣٠م): العلوم النظرية والعلوم التطبيقية

إن أول تقسيم يُفرَض هنا هو تقسيمها إلى علوم نظريَّة، وعلوم تطبيقيَّة أو عمليَّة أو فنيَّة.

والفارق بين النوعَين واضحٌ كل الوضوح؛ فموضوع الفئة الثانية هو تأثير الإنسان في الطبيعة، بغية زيادة قوته ورفاهيته، وضمان صحته، وإطالة عمره. وربما كان الهدف منها هو أن تساعده على أن يُصبح أرجح عقلًا مما هو عليه. والعِلمان الرئيسيان في هذا الفرع هما الصناعة والطب، ويرتبط علم الصحة بالطب، بمعناه الصحيح. أما الصناعة فتحتلُّ ميدانًا واسعًا، نستطيع أن نتبيَّن بعض أجزائه بوضوح وهي: الكيمياء الصناعية، والكهرباء التطبيقية، وسبك المعادن، والميكانيكا التطبيقية؛ بل نستطيع أن نُضيف إليها «معرفة الأجواء» وهو تطبيقٌ للمعارف الفلكية على الملاحة.٥

ولقد نبَّه «أوجست كونت» إلى الأهمية المتزايدة التي تحتلها فئة المهندسين في المجتمع الحديث، وهي فئة تحتل مكانًا وسطًا بين العلماء ورؤساء العمل في الصناعة.

ولكن العلوم النظريَّة هي التي تهمنا بوجهٍ خاص، وهدف هذه العلوم هو معرفة الطبيعة والإنسان، لا لشيء إلا لأجل إشباع غريزة حُب الاستطلاع في الإنسان، وزيادة شعوره بذاته وبالعالَم.

تقييم العلوم النظرية إلى مجردة وعينية

إذا نحن اقتصرنا على العلوم النظرية، وجدناها تنقسِم بدورها إلى علومٍ مجردة، وعلوم عينية. «فالعلوم المجردة، العامة، تهدف إلى كشف القوانين التي تتحكَّم في مختلف أنواع الظواهر، أما العلوم العينية، أو الخاصة، أو الوصفية .. فمهمتها تنحصر في تطبيق هذه القوانين على التاريخ الفعلي لمختلف الكائنات الموجودة.»

وهاك أول مثال يؤيد هذه الفكرة؛ فإذا تأمَّلنا عِلم وظائف الأعضاء العام من جهة، وعلم الحيوان وعلم النبات من جهةٍ أخرى، وجدنا الأول يدرس «قوانين الحياة بوجهٍ عام» والآخران يحددان «طريقة وجود كلٍّ من الأجسام الحية، على وجه الخصوص».

وإليك مثالًا آخر؛ فالكيمياء ترتبط بعلم المعادن: «ففي الكيمياء نبحث كل التجمعات الممكنة للجسيمات، وفي كل الظروف التي يمكن تصورها، وفي علم المعادن، لا نبحث إلا في تلك التجمعات التي تتحقَّق في التركيب الفعلي للكرة الأرضية، وتحت تأثير الظروف الخاصة التي تتميز بها الأرض وحدها.»

وهاك مثالًا ثالثًا، هو علم الطبيعة المجردة (physique abstraite) بالنسبة إلى علم الطبيعة العيني، وأوجست كونت يعني بكلمة «علم الطبيعة العيني» ما نعنيه نحن اليوم بكلمة «علم الطبيعة للكرة الأرضية»، وهو يشمل، بطبيعة الحال، علم الأرصاد الجوية.
وفي استطاعتنا أن نأتي بأمثلةٍ أخرى؛ فعلم الفلك المجرد، أو الميكانيكا السماوية، يتميز عن علم الأكوان «الكوسموجرافيا Cosmographie» الذي يدرس النجوم كلًّا منها على حدة، لا القوانين بوجهٍ عام.
وسوف نستبقي هذا التقسيم لما فيه من فائدة جمَّة؛ فالعلوم المجردة تُحدد صيغ القوانين العامة، وتدرس جزءًا معينًا من الطبيعة، واضعةً نُصب أعينها ما يظهر بين الموجودات التي تُكوِّن هذا الجزء من «أوجه تشابه». أما العلوم العينية فتركز بحثها على «الفروق» فهي إذن تقوم على التصنيف، والوصف التفصيلي؛ بل إنها في أيامنا هذه أقرب كثيرًا إلى الوصف التفصيلي منها إلى التصنيف؛ إذ إن التصنيف الطبيعي قد فقَد قدرًا كبيرًا من أهميته بسبب تأثير المذهب التطوري.٦
ولنُضف إلى ذلك أن «كورنو»٧ قد اعترف لتفرقة أوجست كونت ذاتها، وإن كان قد عمَّقها وأضفى عليها مزيدًا من الوضوح؛ فهو يضع تقابلًا بين وجهة النظر النظرية، ووجهة النظر التاريخية. ففي رأيه أن العلوم التاريخية لا تتميَّز عن العلوم النظرية فحسب، بأنها ليست مُستمدةً منها، كما اعتقد أوجست كونت، فيما يبدو. فهي تكوِّن مجموعةً منفصلة، لها منهجها الخاص، وتعتمد على حالة عقلية مختلفة كل الاختلاف، وتُوجِّهها أفكار مُتباينة كل التباين.

العلوم المجردة الرئيسية الستة

ولن نتابع بعد الآن نص أقوال أوجست كونت طويلًا، وذلك لأنه يمضي عن طريق التفريع، أي عن طريق تقسيمات ثنائية متتابعة٨ وهذه الطريقة منهجية إلى أبعد حدٍّ، ولكنها تترك خارجها العلم الرياضي — ويجب أن نعترف بأن ذلك كان مقصودًا، وراجعًا إلى أسبابٍ سنوضحها فيما بعد — ثم إنها لا تكشف بما فيه الكفاية عن الفكرة الأهم، وأعني بها تسلسُل العلم.

فلنكتفِ إذن بالقول إنه قد ميز في نهاية الأمر بين ستة علوم مجردة أساسية وهي: الرياضة، والفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء، وعلم الحياة وعلم الاجتماع.

هذه العلوم الستة متسلسلةٌ

توزع هذه العلوم توزيعًا متسلسلًا، أعني تبعًا لنظامٍ يقضي بأن يؤدي كلٌّ منها إلى الإتيان بشيء جديد بالنسبة إلى ما سبقه، وبحيث يكون هذا الشيء أسمى وذا قيمة أكبر. فموضوع الرياضة مجرد تمامًا، وهو ليس متصلًا بالواقع بالمعنى الصحيح؛ فالرياضة تدرس الأفكار لا الأشياء. أمَّا العلوم التالية فتدرس أشياء تزداد قيمتها بالتدريج: كالمادة الجامدة أولًا، ثم المادة الحيَّة، وأخيرًا العقل الإنساني. فإذا ما تتبَّعنا ترتيب العلوم التي صُنفت على هذا النحو، سِرنا من الأدنى إلى الأعلى.

ويمكن القول بلغة بعض الفلاسفة المعاصرين إن كلًّا من موضوعات هذه العلوم المتعاقبة هو «نوع من الارتقاء» بالنسبة إلى سابقه، والمقصود بكلمة «الارتقاء» ظهور حقيقة لها قيمة أكبر، من داخل حقيقة لها قيمة أقل.

ومن المهم أن نلاحظ أن هذا الارتقاء يتوقَّف على ما يسبقه؛ أي أن الأدنى يتحكم في الأعلى. فالحياة مثلًا، تتحكم فيها قوانين المادة الجامدة، والجسم الحي يخضع لقوانين الثقل أو الجاذبية. ولكي يكون في حالة توازن يجب أن يكون الخط العمودي النازل من مركز ثقله داخل الشكل الهندسي الذي يكونه وهو واقف، وإلا سقط، وذلك لأن صفة الحياة لا تكفل له أية ميزةٍ في هذا الصدد.

وهذا يؤدي بنا إلى القول بأن الكائن الحي مثلًا يخضع لنوعَين من القوانين: هي قوانين الحياة، وقوانين المادة الجامدة. وإذن، فإذا تأمَّلنا مفهومه وجدناه أوسع من مفهوم المادة الجامدة، وبالتالي يكون «ماصدقه» أقل.٩ ولقد عبَّر «أوجست كونت» — الذي كان يجهل مصطلح المناطقة، وقانون التناسُب العكسي الذي عرضناه — عن الفكرة ذاتها بطريقة أخرى فقال «إن أبسط الظواهر، أعني تلك التي تُعَد أقل تعقيدًا من الظواهر الأخرى، هي أعمُّها بالضرورة.» فلنقُل نحن إذن، مستخدِمين مصطلح المناطقة: إن العلوم توضع في ترتيبٍ يتناقص فيه ماصدَق موضوعاتها ويزداد مفهومها. أما بلغة كونت، فلنقل أنها تُرتَّب ترتيبًا تنازليًّا من حيث البساطة والعموم.

ولقد تأملنا، منذ قليل، حالة خاصة، هي حالة علوم المادة الجامدة بالنسبة إلى علوم الحياة. ولكن نفس الفكرة تنطبق على الصِّلة بين الرياضة وبقيَّة العلوم، كما تنطبق على الصِّلة بين عِلم الفلك وعلم الطبيعة الأرضية؛ إذ إن الأرض نجم، ثم إنها مقر الظواهر الحرارية والكهربائية والضوئية التي تُدرَس في علم الطبيعة. كذلك الحال في علاقة علم الطبيعة بالكيمياء؛ فالظاهرة الكيميائية تخضع لقوانين علم الطبيعة، وتزيد عليها من جهة أن فيها تفاعلات لها قوانينها الخاصة. وأخيرًا، فالطبيعة البشرية إذا اتخذت موضوعًا، تشذُّ على كل قوانين الفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء، وعلم الحياة؛ إذ إن الإنسان كائنٌ أرضي، وجسم جامد، ومُوصِّل جيد أو رديء للحرارة والكهرباء، ويمكن أن يتفحَّم وأن يحترق، وأن تؤذيه الأحماض، وهو كائن حيٌّ يهضم ويفرز، وهو فضلًا عن ذلك إنسان له مصيره الروحي.

كل حقيقة لها نوعها الخاص بها أي لا يمكن إرجاعها إلى الحقائق السابقة

ومن هذه الملاحظة الأخيرة تتضح لنا الفكرة الفلسفية العميقة التي أوحت بهذا التصنيف: ألا وهي أن الحقائق تتمثَّل في سلسلةٍ يكون لكلِّ واحدة منها نوعها الخاص بها، أعني لا يمكن إرجاعها إلى الحقائق السابقة عليها.

والواقع أن لدى العلماء ميلًا إلى «المذهب المادي» وهو — على حدِّ التعبير الرائع الذي عرفه به «كونت»: «تفسير الأعلى بالأدنى.» على أن العالِم ذاته يرى أن كلَّ مرحلةٍ من مراحل الواقع، كالعالَم الرياضي (وهو ليس في حقيقة الأمر عالَمًا واقعيًّا) والعالَم الطبيعي، والعالَم الكيميائي، وعالَم الأحياء، وعالَم البشر. كل مرحلة من هذه تُعَد جديدة كل الجدَّة بالنسبة إلى المرحلة السابقة عليها. فالمذهب المادي إذن في رأي «كونت»، مضاد للعلم في أساسه.

ومن هنا كانت تلك الحملات التي وجهها إلى ما أسماه بمذهب «الواحدية monisme»، أعني المذهب الذي يُرجِع الواقع بأسره إلى الوحدة: «إنني أعتقد، في قرارة نفسي، أن محاولات تفسير الكون بناءً على قانون واحد، محاولات باطلة في أساسها، حتى لو تصدَّت للقيام بها أكثر العقول ذكاءً وتخصصًا.»

أوجست كونت من السابقين إلى القول ﺑ «مذهب العرضية»

يُعد أوجست كونت في هذه المسألة سابقًا للفلاسفة الفرنسيين الذين أكدوا في القرن التاسع عشر من بعده، «عرَضية» مختلف المجالات التي تدرسها العلوم المتعاقبة، والعرَضية ضد الضرورة، وإذن فتأكيد عرَضية حقيقةٍ ما يعني تأكيد استحالة استخلاصها كنتيجة، من الحقيقة الأدنى منها. فعلم الطبيعة «عرَضي» بالنسبة إلى الرياضة، أي أن الحقيقة الفيزيائيَّة فيها شيء لا يمكن إرجاعه إلى الرياضة. كذلك شأن الحياة بالقياس إلى المادة الجامدة، والكائن الإنساني بالقياس إلى الكائن البيولوجي. وذلك هو المذهب الذي جمع بين رافيسون Ravaisson وكورنو Cournot إميل بوترو E. Boutroux وأخيرًا برجسون Bergson.١٠ وهكذا وُجد في فرنسا مذهب وضعي مضاد للمادية، ومذهب روحي يُبنى على أساس العلم ذاته.

الترتيب المتسلسل يجب أن يكون هو أيضًا ترتيب العلوم في برامج التدريس

يوحي تصنيف «أوجست كونت» بفكرةٍ أخرى. فإذا كانت مجالات العلوم المتعاقبة يتوقَّف كلٌّ منها على الآخر تبعًا لترتيب متسلسل، فإن دراسة كل علم تتوقف على دراسة العلوم السابقة عليه، بحيث يتعيَّن علينا أن ندرسها بالترتيب الذي يُحدِّده التصنيف، وعلى ذلك يكون أساس تدريس العلوم هو دراسة الرياضيات؛ وتلك فكرة تبدو لنا في القرن العشرين، طبيعية إلى أقصى حد، ولا شك في أنها ليست جديدةً؛ بل لقد دعا إليها من قبلُ علماء القرنَين السابع عشر والثامن عشر. لكن المذهب الوضعي عند «أوجست كونت» هو الذي فرضَها على الرأي العام، وبالمثل تنطوي دراسة العلوم البيولوجية ضمنًا على دراسة العلوم الفلكية، أو على الأقل العلوم الطبيعية الكيميائية. فعلم الإنسان يفترض العلوم السابقة له.

الترتيب المتسلسل هو الترتيب الذي ظهرت به مختلف العلوم

إذا كان حقًّا أن العلوم يعتمد بعضها على بعض في الترتيب المتسلسل فلا بد أن تكون العلوم قد ظهرت تبعًا لهذا الترتيب ذاته، ولكن لنلاحظ أولًا أنه يجب علينا ألا ننظُر إلى نقطة بدء العلوم على أنها هي اللحظة التي بدأت فيها البحوث التي استغلها ذلك العلم، فلو صحَّ ذلك لكانت العلوم كلها قديمة كالإنسانية نفسها، فقد كان هناك دائمًا حاسبون، وفلكيُّون (أو بالأحرى منجِّمون) وأطباء. غير أن العلم يبدأ عندما يُحدد المنهج الخاص به، وفضلًا عن ذلك فإن الترتيب التاريخي لا يتفق اتفاقًا دقيقًا، بأية حال من الأحوال مع الترتيب المنطقي؛ بل يتضمَّن ظروفًا لا يمكن حسبانها، فهو «عرضي» بدوره وبطريقته الخاصة.

ويمكننا القول، على وجه الإجمال، إن العلوم قد ظهرت في صورتها النهائية، بهذا الترتيب المتسلسل، وسوف تتاح لنا، فيما بعدُ، فرصة إثبات هذه الحقيقة على نحوٍ أدق. وحسبنا الآن أن نقول أن الرياضيات والفلك عِلمانِ يونانيان، وأن علم الطبيعة قد اتخذ صورته الحديثة في القرن السابع عشر، والكيمياء في القرن الثامن عشر، وعلم الحياة في القرن التاسع عشر، وفي ذلك القرن نفسه، وبعد فترة طويلة، ظهرت علوم الإنسان، كالتاريخ العلمي، وعلم النفس التجريبي وعلم الاجتماع.

عيب تصنيف «أوجست كونت» وحدة العلوم

رغم أننا اقتبسنا من «أوجست كونت» معلوماتٍ عديدة، فإن هذا لا يمنعنا من أن نوجِّه إليه نقدًا عامًّا، وأن نُوضح بعد ذلك، النقط التي يؤدي فيها تطور العلم في وقتنا الحالي إلى تجاوز تصنيفه.

أما النقد العام، فينحصر في التنبيه إلى أن أوجست كونت، وإن كان قد أوضح الطبيعة الخاصة للعلوم المختلفة، لم يكشف عن وحدتها بما فيه الكفاية. فقد كان شديد الحذَر من المذهب المادي، إلى درجة أنه كان يخشى أن يشجع مذهب «الواحدية» إذا ما أكد وحدة العلم، غير أن هذه الوحدة يمكن أن تتصوَّر بطريقتَين مختلفتَين كل الاختلاف؛ تقوم أولاهما على الموضوع، والأخرى على الذات أو العقل، ويأبى «كونت» الاعتراف بالوحدة القائمة على الموضوع، والتي تُرجِع جميع الحقائق إلى حقيقةٍ واحدة هي أدنى هذه الحقائق. غير أن ثمة وحدة أخرى، مضادة تمامًا لهذه، تؤكد وحدة العقل خلال مناهجه العديدة. ولنستمع إلى ديكارت وهو يقول: «إن كل العلوم مجتمعة ما هي إلا العقل البشري الذي يظلُّ واحدًا على الدوام، ويظل دائمًا على ما هو عليه مهما تغيرت الموضوعات التي ينصرف إلى بحثها، والذي لا يطرأ عليه من التغيُّر أكثر مما يطرأ على ضوء الشمس نتيجةً لاختلاف الأشياء التي تُضيئها.»١١ وليس لنا أن نخشى أن يؤدي بنا هذا النوع من الأصل المشترك إلى المذهب المادي؛ بل هو يُقرر فورًا حقيقة العقل. ومع ذلك، فلن نُطلق عليه اسم «المذهب الروحي» رغم ارتباطه الاشتقاقي بمضمون هذا المذهب؛ إذ قد شاع إطلاق اسم النزعة الروحية على المذهب الذي يهتدي إلى الروح في الأشياء.

فالمذهب الوضعي روحي باعتبار مقصده؛ لأنه يعترف بأن الحقيقة الواقعية تنطوي على قِيَمٍ متدرجة تتجه في أعلاها إلى الروحية، ولنقل بدلًا من ذلك، إن تأكيد ديكارت «مثالي». فالمثالية تسعى وراء الروح، لا في الأشياء، ولكن في معرفة الأشياء.

العلم المعاصر وتصنيف كونت

لقد أحرز العلم منذ عهد أوجست كونت تقدمًا كبيرًا، فكان من الطبيعي أن يتجاوز هذا التقدم تصنيفه. ومما يؤيد ذلك أن العلم المعاصر يستلهِم روحًا مخالفة لروح «أوجست كونت» إلى حدٍّ ما، وهي أقرب إلى روح ديكارت، الذي اتجه إلى الوحدة — وليس المقصود هنا الوحدة عن طريق وضع قانون شامل؛ بل عن طريق تطبيق منهج واحد بقدر الإمكان، وهذا المنهج الرياضي — فالمثل الأعلى المشترك لكل العلوم هو علم الطبيعة الرياضي، الذي ينطوي على علم الفلك، وعلى علم الطبيعة والكيمياء، ويضمُّ هذه العلوم كلها في وحدة وثيقة الارتباط، يكاد يكون من المستحيل تمييز كل علمٍ فيها عن العلوم الأخرى، ويستحيل بالفعل فصلها بعضها عن بعض. ولقد أدَّى هذا النشاط الموحد إلى ظهور علمينِ جديدين كل الجدة، سبَقَا العلوم الأخرى، وأصبَحا رمزًا لهذا العلم الموحد، الذي يناظر ما كان يحلم به ديكارت من وحدة العقل. وهذان العلمانِ هما:
  • (١)
    علم الطبيعة الفلكي astrophysique أعني تطبيق علم الطبيعة، ومن خلالها الكيمياء، على النجوم، لتحديد تركيبها وحرارتها وكتلتها ومقاديرها وأبعادها وعمرها أيضًا، وذلك عن طريق عمليات غير مباشرة تتضافر كلها لتحقيق هذا الهدف، وتقتضي براعةً لا حد لها.
  • (٢)
    علم الطبيعة الذري microphysique وهو تطبيق علم الطبيعة على الذرات ومكوناتها (الإلكترونات … إلخ) وهذه الدراسة تؤدي إلى تأكيد وحدة المادة، وهي فكرة مخالفة تمامًا لما قال به كونت.

ومن جهة أخرى، فلما كانت البيولوجيا تتحول بالتدريج إلى أن تعدو علمًا طبيعيًّا كيميائيًّا، ولما كان علم الطبيعة الفلكي وعلم الطبيعة الذري يتصلان في مواضع عديدة، بحيث تُطلعنا الذرة والنجم كل منهما على أسرار الآخر، لهذا كله يبدو أن رأي ديكارت كان أقرب إلى الصواب من رأي أوجست كونت.

خطة هذا البحث

ومع ذلك، فسوف نتبع الخطوط الرئيسية للتصنيف الوضعي، إذ إنه لا يزال ينطبق، إلى حدٍّ غير قليل، على ترتيب العلوم على النحو الذي ندرس عليه (ولكنه لا ينطبق تمامًا على هذه العلوم من حيث شأنها). وإذن، فسنبدأ بدراسة العلوم الرياضية، من حيث موضوعها، ثم من حيث منهجها، وننتقل بعد ذلك إلى العلوم الطبيعية (علم الفلك والفيزياء والكيمياء)، ثم تأتي علوم الحياة (البيولوجيا) ثم نُخصص فصلًا للعلوم الأخلاقية التي تتجاوز علم الاجتماع إلى حدٍّ غير قليل. وأخيرًا، نلم إلمامًا سريعًا بالنظريات الحديثة في علم الطبيعة.

١  أوجست كونت (١٧٩٨–١٨٥٧م) تخرَّج في معهد الهندسة التطبيقية، ثم أصبح معيدًا به، وهو مؤسس المذهب الوضعي، انظر ملحوظة «شارل لالو» في مقدمة المختارات من «محاضرات في الفلسفة الوضعية» (الدرسان الأول والثاني) طبعة هاشيت Hachette، وفي الدرس الثاني من هذه المحاضرات يجد القارئ النصوص التي سوف نشير إليها في هذا الفصل.
٢  ينسب «كونت» هذا التصنيف خطأ إلى دالمبير D’Alembert ونحن نعلم أن «دائرة المعارف» أو «المعجم العقلي للعلوم والفنون والحرف» كانت جامعة للمعارف العلمية والفنية المكتسبة حتى ١٧٥١م (وهو تاريخ ظهور أول مجلد من مجلداتها) كما أنها سجل سياسي وفلسفي في الآن نفسه، وكان يشرف على نشرها ديدرو ودالمبير.
٣  انظر الفصل السابق، قسم ١.
٤  طبعة برنشفيك فقرة ٣٦٩.
٥  في كل عام يُصدِر مكتب المرصد الفلكي نشرةً سنوية الغرض منها إذاعة التنبؤات الفلكية، من أجل تلبية حاجات الملاحة بوجهٍ خاص.
٦  انظر في هذا الكتاب الفصل الثامن، قسم «٤» (السبب في ذلك أن مذاهب التطور أدمجت الأنواع بعضها في بعض، وقضت على الفروق الحاسمة بينها، وجعلتها كلها مظاهر لتطورٍ واحد). المترجم
٧  انظر في هذا الكتاب: الفصل الثالث، قسم «١٣».
٨  علم الطبيعة غير العضوي، علم الطبيعة العضوي، علم الطبيعة (غير العضوي) السماوي، علم الطبيعة (العضوي) الأرضي. ويحتوي هذا الأخير على علم الطبيعة بمعناه الخاص، وعلم الكيمياء، ثم علم الطبيعة (العضوي) الفردي أو علم وظائف الأعضاء، وعلم الطبيعة (العضوي) الاجتماعي، أو علم الاجتماع.
٩  انظر الفصل الثاني، قسم ٤.
١٠  رافيسون: «في العادة De l’habitude» ١٨٣٨م ونشر مرةً أخرى في ١٩٢٧م بمكتبة ألكان Alcan «كورنو» المذهب المادي، والمذهب الحيوي، والمذهب العقلي (١٨٧٥م أعيد نشره في ١٩٢٣م بمكتبة هاشيت) وتتبدَّى أصالة «كورنو» بالنسبة إلى سواه من أصحاب المذهب العرضي، في أنه يُدرك وجود تماثُل، أو على حدِّ تعبيره قطبية تماثلية، بين المادية والعقلية، وبين المجال الرياضي والمجال العقلي أو البشري؛ فالبشري ينتج الرياضي، ويعلو به على الحيوي، في المرحلة العليا «بوترو» في عرَضية قوانين الطبيعة (١٨٧٤م ألكان De la contigence des lois de nature برجون: رسالة في المعطيات المباشرة للشعور ١٨٨٩م ألكان) Essai sur les données immédiates de la conscience.
١١  Règles pour la direction de l'esprit, Règle “1”.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤