الفصل الخامس

موضوع العلوم الرياضية

الترتيب والقياس – العدد والمقدار

العلوم الرياضية هي الأدوات العقلية لكل العلوم، وهي أيضًا علوم قائمة بذاتها؛ بل هي أكمل العلوم، لأن موضوعها هو القياس والترتيب.

فالرياضة، من حيث إن موضوعها هو القياس، تنقسم إلى رياضة المقادير (الهندسة والميكانيكا)، ورياضة العدد (الحساب والجبر)، ورياضة العدد الذي يطبق على المقادير وعلى الحجوم (الهندسة والميكانيكا التحليليتان).

والمكان، الذي هو رمز ومقياس لكل المقادير «صورة أولية»، وليس معنى ذلك أنه يعرف عن طريق الحدس الفطري؛ بل معناه أنه يُبنى بوساطة نشاط العمليات العقلية المستقلة، فينشأ أولًا في الإدراك الحسي، ومن بعده في الرسم وغيره من الأساليب العملية.

والعدد أيضًا ينتج عن نشاط عمليات عقلية، تضع الوحدات، وتُحصيها.

موضوع الرياضيات، من حيث هي علوم قائمة بذاتها، هو الترتيب والقياس

يمكن القول، بمعنًى ما، إن العلوم الرياضية هي العلوم على الحقيقة؛ ولقد قال ديكارت أنه يعجب بها «لما لبراهينها من يقين وبداهة.»١ ومعنى ذلك بعبارة أخرى، أن البراهين التي تأتي بها تستتبع يقينًا مطلقًا، ولها في الوقت ذاته وضوح كامل. لهذا كان المثل الأعلى عند ديكارت هو أن يرد إليها كل العلوم: «إن هذه السلاسل الطويلة من الأدلة، التي تتميز بالبساطة والسهولة التامة، والتي اعتاد علماء الهندسة أن يستخدموها للوصول إلى أصعب براهينهم، قد دفعتني إلى أن أتصور أن جميع العلوم التي يمكن أن تدخل في نطاق معرفة الإنسان، تتوالى على هذا النحو ذاته، وأننا لو امتنعنا عن التسليم بصحة أية معرفة لا تكون صحيحةً بالفعل، وحرصنا دائمًا على الترتيب اللازم من أجل استنباط بعضها من بعض، فلن يستعصي علينا في نهاية الأمر بلوغ واحدة منها، مهما بعدت، أو كشفها، مهما غمضت.»٢ وسوف نرى أن علم الطبيعة الحديث هو بالفعل علم طبيعة رياضي.
ومع ذلك، فللمرء أن يقول، بمعنى آخر، إن الرياضيات ليست علومًا، لأنها هي اللغة العامة والصيغة المشتركة لكل العلوم، ثم لأنها لا يمكن أن تكون منصبَّة على حقيقة محددة تتميز بها عن سائر العلوم الأخرى. ولقد لاحظ «أوجست كونت» في ختام الدرس الثاني من «دروس في الفلسفة الوضعية» أن تصنيفه للعلوم يتضمن «ثغرة هائلة وأساسية» «تركها عامدًا»؛ فليس للعلم الرياضي في ذلك التصنيف مكان. «والدافع إلى هذا الإغفال المتعمد هو الشعور بأهمية هذا العلم، العظيم الاتساع، الكبير الأهمية … ففي المرحلة الحالية من تطور معارفنا الوضعية، يجدر بنا — في رأيي — أن نكفَّ عن النظر إلى العلم الرياضي على أنه جزءٌ مُكمل للفلسفة الطبيعية بمعناها الصحيح، وأن نؤكد أنه قد أصبح، منذ ديكارت ونيوتن، الأساس الحقيقي الضروري لهذه الفلسفة، وإن كان يجمع، في حقيقة الأمر، بين الصفتين معًا.»٣

وإذن، فعلينا أن نفحص العلوم الرياضية بطريقتين متتابعتين: فنعدها في الأولى أكمل العلوم جميعها، وفي الثانية نعدها الأداة العقلية «للفلسفة الطبيعية» كما قال كونت. وفي هذا الفصل سوف نفحصها تبعًا لوجهة النظر الأولى.

وعلى هذا النحو، يمكننا أن نتحدَّث عن «موضوع» العلوم الرياضية، أعني أننا نستطيع أن نُعيِّن ونُحدد ونُحلل نوعًا من الوقائع تنصبُّ عليه هذه الدراسة، وإن تكن هذه الوقائع فكرية وعقلية إلى أبعد حدٍّ؛ بل هي في نهاية الأمر غير مادية. لكن سنرى أنها كانت ماديةً في بادئ الأمر.

فإذا تأمَّلنا العلوم الرياضية الحديثة، أمكننا القول بأن موضوعها مزدوج، لأنها العلوم الخالصة للترتيب والقياس٤ كما بين ديكارت بوضوح. فلنحلل هاتين الفكرتين، بادئين بالثانية.٥

القياس يخلق العدد والمقدار

إن القياس عمليةٌ فنية معروفة، يكوِّن المرء بها — «عن طريق كمية تُسمَّى وحدة القياس» — كمية أخرى مثالية يجب أن تكون في نهاية العملية مساوية تمامًا لكمية حقيقية مقررة. فمن الممكن مثلًا، استخدام «المتر» الصلب لتكوين خطٍّ مستقيم مثالي، ينطبق على ضلع المنضدة، وله نفس طرفَيه. وهذه العملية تنطوي، كما هو واضح، على معنيَين: معنى المساواة ومعنى الجمع، ذلك لأن وحدة القياس يجب أن تظلَّ مساويةً لذاتها، وإذا ما جمعناها مع نفسها عددًا معينًا من المرات، أنتجت كميةً مساوية للكمية المطلوب قياسها.

وللكم نوعان؛ كمٌّ منفصل، هو العدد الذي يتكوَّن أساسًا من وحدات، وكمٌّ متصل أو مقدار، ويمكننا أن نلحظ فيه وحدات اخترناها بإرادتنا. ويتكوَّن العدد — مؤقتًا على الأقل — من وحدات لا تقبل الانقسام. أما المقدار فهو ينقسِم إلى ما لا نهاية له.

وإذن يمكننا أن نُميِّز في رياضيات القياس، بين مجموعتَين: رياضيات المقدار، ورياضيات العدد.

رياضيات المقدار هي: الهندسة والميكانيكا الأوليتان

إن موضوع الهندسة الأولية هو المكان، وقد ظهرت في القرن السادس ق.م. في اليونان، وكان الفيثاغوريون وعلى رأسهم فيثاغورس (من ساموس Samos) أول علماء الهندسة وقد أكملها من بعده علماء يونانيون، واتخذت صورتها التقليدية على يد الأستاذ الإسكندري إقليدس (٣٣٠–٢٧٠ق.م.)، وقد ظلَّ كتابه «المبادئ»، الذي يشتمل بجانب هندسة السطوح وهندسة المكان، على نظريةٍ للنسب؛ بل على نظرية للمعادلات؛ ظلَّ هذا الكتاب أنموذجًا لكل الكتب الأساسية التالية، خلال ما يربو على العشرين قرنًا.
أما الميكانيكا فتدرس الزمان والحركة، والقوة وتنقسم الميكانيكا التقليدية إلى ثلاثة أقسام:
  • (١)

    الاستاتيكا «السكونية» التي تدرس القوة، ومراكز الثقل، وشروط التوازن، وقد أسس هذا العلم أرشميدس السيراكوزي (٢٨٧–٢١٢ق.م.).

  • (٢)
    السينماتيكا Cinématique الحركية التي تدرس الحركة وأنواعها المختلفة، وانتقال الحركة بواسطة التروس بأنواعها المختلفة، والقضبان، ودواليب الحركة، وكل أجهزة الأدوات الصناعية بوجهٍ عام، وقد ظهر هذا العلم على يد جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م).
  • (٣)

    الديناميكا، التي تحدد العلاقة بين القوة والحركة، وقد اتخذت صورتها الحالية على يد نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧م).

المكان أو الامتداد، هو مقياس كل المقادير الأخرى ورمزها

المكان هو أولًا مقياس الزمن ورمزه، فالواقع أن الزمان عابر بحسب جوهره. وأجزاؤه يقتفي بعضها أثَر بعض على الدوام، وليست هناك وسيلةٌ أخرى لتصوُّره ودراسته إلا بالرمز له بخطٍّ يسير فيه جسم متحرك؛ بل سنرى فيما بعد أن العلم المعاصر يجعل الزمان البُعد الرابع للمكان، فليس ثمة وسيلة لقياسه إلا بالمكان، عن طريق الحركة.

مقياس الزمن يُرد إلى مقياس المكان

فلنتريث لحظةً عند مقياس الزمن، وهو مشكلة رياضية ترجع إلى عدة ألوف من السنين؛ فمن المحال تثبيت وحدة زمنية، لنجعل منها أساسًا للقياس يمكن الاحتفاظ به؛ بل يجب أن يصبح الزمان مكانًا، ويقاس على هذه الصورة، وهذا لا يتأتَّى إلا إذا تحوَّل الزمان إلى حركة. غير أن الحركة التي ترمز إلى زمن هي حركة مطردة. فأين نجدها، إذا كنا لا نتعلم كيف نقيس الزمن، وكيف أن الأمكنة المتساوية تقطع في أزمنة متساوية؟ تنطوي هذه المشكلة على نوع من الدور، لم تخرج منه البشرية إلا بصعوبة كبيرة؛ فلقياس الزمن، تختار حركات يحق لنا افتراض اطرادها، أو اطراد تعاقُبها في فترات منتظمة، ويقوم هذا الافتراض المشروع على سببين، أولهما سبب سلبي. فلنا أن نعد الحركة التي لا يطرأ عليها ما يسبب تغيرها حركة دورية باطراد، ومن قبيل ذلك، الحركات الفلكية، التي لا يؤدي الاحتكاك إلى إبطائها، والتي تعود فضلًا عن ذلك على أعقابها، أي تظل مرتبطةً بعلتها دائمًا، والسبب الآخر إيجابي، وهو ينحصر في أن العلة المنتجة للحركة تؤثر دوريًّا، وعلى نمط واحد؛ فالجسم الذي يسقط مثلًا، يصلح أن يكون في سقوطه مقياسًا لوحدة الزمن، إذا نجحنا في جعله يسقط ثانية، بعد سقوطه الأول مباشرة، في نفس الظروف، ومن نفس الارتفاع، أو إذا ما سقط جسم آخر مماثل له من كل الوجوه بعد سقوطه مباشرة، وبنفس الطريقة. وذلك هو وصف أدوات قياس الزمن، المبنية على الثقل، كالساعة الرملية أو المائية، التي تفي بالشرط الثاني، والبندول الذي يفي بالشرط الأول. ولقد كانت الساعات الرملية والمائية هي أقدم الساعات التي يمكن حملها، والفكرة التي تُبنى عليها مفهومة. وأخيرًا فإن الوسائل المختلفة للقياس تُحقق كل منها الأخرى؛ فالساعة الرملية تحقق صدق الساعة التي تكونها حركات النجوم؛ بل تمكننا من الاختيار بين هذه الحركات، التي لا تتصف جميعها بالانتظام. أما البندول، فاستخدامه أحدث بكثير من الساعة الرملية، وإنا لنعلم أن جاليليو قد اكتشف تساوي هزات البندول الضعيفة التي تبطئ شيئًا فشيئًا في الزمن. أما الهزات «المستمرة» فمن الواضح أن تعريفها يدل على أنها متساوية في الزمن، ما دام البندول المعلق هو ثقل يظل دائمًا متساويًا، ويعود دائمًا إلى السقوط من نفس الارتفاع.

ولقد اكتشف «جاليليو» تساوي زمن هذه الهزات الأولى عن طريق مقارنتها بضربات الساعة النابضة (ساعة قديمة، غير دقيقة)، ثم حقَّقها فيما بعدُ، بمقارنتها بالحركات الفلكية. وقد أفلح بعد ذلك في الربط بين البندول وسقوط الثقل، وفي الوقت ذاته، نجح في الربط بين ذبذبات البندول في الساعة ذات البندول وذات الثقل. وقوام هذه الآلة العجيبة، ينحصر في الربط بين ثقل يسقط بضربات صغيرة منتظمة وبين بندول ذي هزات متصلة، ويرتبط الثقل والبندول بطريقةٍ تجعل كلًّا منها يتجنب الآخر، بحيث أن ضربات البندول تثير السقطات المتعاقبة للثقل، ثم توقفها، بانتظام، وبحيث أن سقوط الثقل، هو الآخر، يبقي على ضربات البندول. وتؤدي حركة الثقل إلى إدارة جهاز من المؤشرات، له وجه دائري، يمثل مجرى الزمان ذاته.

وعلى هذا النحو حلَّت البشرية مشكلة قياس الزمن.

قياس الحركة يرجع هو الآخر إلى قياس المكان

أما الحركة فتقاس بمقياس الزمن، وبمقياس مسارها، وبهذا يمكن الوصول إلى تحديد سرعتها، التي هي الجزء الذي قطع من مجال الحركة خلال وحدة زمنية، وتمثل هذه السرعة بموجة السرعة، وهو جزء من مستقيم يمثل الاتجاه مباشرة، ويمثل القيمة المطلقة للسرعة بطريقة رمزية.

ولقد أثار تصوير القوة بدوره مشاكل متعددة، حلتها البشرية بالتدريج. فالقوة هي أولًا الجهد الذي يبذل للتغلُّب على الثقل، بطريق مباشر أو غير مباشر، وهذه القوة أصبحت تقاس بالميزان، ثم حلَّت محلَّ فكرة الوزن فكرةُ الضغط، التي لا تخضع لنفس القوانين، كما تدل على ذلك مثلًا مفارقة توازن السوائل Le paradoxe hydrostatique وأخيرًا عرَّف نيوتن القوة، في أعم معانيها، بأنها دالة مرتبطة بمعدل السرعة.

فالمعادلة: ق = ك × س (القوة = الكتلة في السرعة) أصبحت هي المعادلة الأساسية للميكانيكا الكلاسيكية.

المكان «صورة»

قلنا إن المكان هو موضوع الهندسة، غير أن هذا الموضوع ليس «شيئًا» على غرار الضوء أو المادة. إذ لو كان شيئًا لكان إمَّا مخترقًا أو مجاورًا لهما، فهل لنا أن نعدَّه حاويًا réceptacte (أو حاويًا شاملًا كما قال أفلاطون)؟ لكن المكان لا يمكن أن يكون حاويًا إلا بمعنى مجازي، إذ إن الحاوي الحقيقي له حدود وشكل وهذا ما يتوافر في المكان.
إذن فما المقصود بالقول بأن المادة في المكان، أو أن المادة ممتدة؟ إن المقصود بقولنا إن المادة في المكان، هو أنها تقبل «التجاور» تبعًا لقوانين معينة، وأن أجزاءها المختلفة تشغل حيزًا، بحيث إن كلًّا منها يستبعد الآخر، تبعًا لشكله ومقداره وبُعده. أما المقصود بقولنا إن المادة ممتدة، فهو أن لها شكلًا ومقدارًا وأبعادًا داخلية، خاضعة لقوانين مُعينة. ومن هذا نستنتج إذن أن المكان أو الامتداد هو مجموعة من القوانين التي تُنظم تجاوز الأشياء تبعًا لشكلها أو مقدارها أو بُعدها، ولكن إذا أردنا إكمال فكرة المكان وجب علينا أن نُضيف أن هذه المجموعة من القوانين تتحكم في الوقت نفسه في الإدراك الحسِّي للمادة، وأنها هي التي تجعل هذا الإدراك ممكنًا. فالمكان يُشبه الشمس المعقولة عند أفلاطون بالنسبة إلى المثل؛ لأنه ينظم المادة وإدراكنا لها في آنٍ واحد. وهذه الطبيعة المزدوجة للمكان، التي تجعل منه قانونًا داخليًّا للمادة، وقانونًا لإدراكها في الوقت ذاته، يُعبر عنها بكلمة «الصورة». فالمكان هو صورة الحساسية الخارجية، كما يقول «كانت» وكلمة «صورة» تُستخدَم هنا بمعنًى مجازي، أصبح مألوفًا منذ أرسطو، وهي ترجمة لكلمة eidos في اليونانية، ويطلق أرسطو هذا الاسم على التركيب الداخلي لشيءٍ ما، والتنظيم الذي يتميَّز به، والذي يجعله قابلًا لأن يعرف. فالامتداد أو المكان هو التركيب الأساسي للمادة، وهو الذي يجعل إدراكها ممكنًا.

فكيف تعرف هذه الصورة؟

هذه الصورة أوليَّة a priori

هناك مذهب فلسفي دعت إليه، بوجهٍ خاص، المدرسة الفلسفية الإنجليزية في القرنين السابع عشر والثامن عشر (لوك ١٦٣٢–١٧٠٤م، هيوم ١٧١١–١٧٧٦م). هذا المذهب لا يكتفي بالقول بأن لمعارفنا جميعها «أصلًا» تجريبيًّا، وهو أمر لا شك في صحته، إذ إننا لا نستطيع أن نعرف شيئًا قبل التجربة؛ بل يذهب إلى أن كل معارفنا ناشئة عن التجربة أو الحواس، وهو أمر مختلف كل الاختلاف، إذ معناه أن التجربة وحدَها هي السبب في وجود معارفنا كلها، وفي تبريرها. وسنرى فيما بعدُ، أن هذا رأي لم يُتفق عليه مطلقًا. ومن جهة أخرى، فإن التسوية بين التجربة والإحساس، هو بدوره رأي لم يُتفق عليه مطلقًا؛ إذ ليس من المؤكد أن التجربة ترجع إلى الحس؛ بل من الجائز أن تحتوي على عناصر تأتي من مصدر مختلف كل الاختلاف — ويُسمى هذا المذهب بالمذهب «التجريبي» (emprisme)، وهي كلمة مشتقة من اليونانية، ومعناها التجربة.٦

كذلك يُوجَد مذهب تجريبي يسلك نفس المسلك في تفسير أصل المعاني التي تكون الامتداد.

ولنضرب لذلك مثلًا: فكتب الهندسة الأولية تقول عادةً إن الخيط الممتد يوحي إلينا بفكرة الخط المستقيم، وإن صفحة المياه الهادئة توحي بفكرة المسطح. ولكن إذا ما تركنا جانبًا الصعوبةَ التي تتمثَّل في أن الخيط الممتد ليس خطًّا مستقيمًا، وإنما هو منحنًى يُسمى «قوسًا» قد يقترب أو يبتعد عن الخط المستقيم الذي يُعتبَر حدَّه النهائي، وكذلك إذا ما تركنا جانبًا الصعوبة الأخرى، التي تتمثل في أن صفحة المياه الهادئة ليست مسطحًا، لوجود التموجات التي ترفع الماء بهدوء شديد على الضفتين، فكيف يمكن أن نتصور العملية التي «نغض الطرف» فيها عن سُمك الخيط؟ إن «غضَّ الطرف» معناه «ألا نحسب حسابًا …» أي أن «نغفل، أو ألا نُدرك» ولكن إذا كان المرء يُغفل السُّمك أو لا يدركه، فذلك لأنه يفكر في شيء آخر. أي يفكر في محور الخيط، ويتصور الخط المستقيم الذي يُعبِّر عن اتجاهه غير أن هذا التجريد لا يحلُّ مشكلة معرفة مصدر المحور وفكرة الاتجاه. وفضلًا عن ذلك، فعلم المكان يُثير أفكارًا أخرى عديدة، تفوق هذه عمقًا وتعقيدًا، ومنها المنحنيات، مثل «القطاعات المخروطية» بما فيها من قَطعٍ مخروطي وقَطعٍ زائد وقطعٍ ناقص؛ وهي كلها معانٍ أصبح بحثها أمرًا مألوفًا منذ عهد بعيدٍ ولكن التجربة لا تزودنا بأية صورة محددة لها. ونحن، وإن كنا نقول إن مدارات الكواكب بيضاوية، فإننا متى أردنا أن نتبيَّن ذلك وجب علينا أن نتصوَّر الشكل البيضاوي أولًا، دون أي نموذج ولم يكن لدى اليونانيين، حين أدركوا القطاعات المخروطية، أي أنموذج؛ بل استمدوها كلها من أذهانهم.

وهكذا يجد المرء نفسَه مضطرًّا إلى القول بأن فكرة الامتداد لا تأتي من التجربة، وأن الهندسة بأَسرِها «أولية a priori»، أي إن التجربة ليست هي الأساس الذي يبرر وجودها.

لكن المكان لا يتكشَّف بحدس «أولي» بل هو يركَّب بطريقة أولية

وعلى ذلك، فالمذهب الأولي أو العقلي هو الصحيح. ومع ذلك فعلينا أن نُحسن فهْم هذا المذهب، وألا نُفرِط في تبسيطه. وأبسط صورة — بل أبسطها إلى حدِّ الغلو — هو الاعتقاد أن هناك عالمًا عقليًّا، نستكشفه بملكةٍ خاصة، أو قد تكشَّف لنا بالأحرى قبل التجربة، أي قبل ميلادنا، وهو، كما يُقال، عالم «فطري» وتلك هي بحذافيرها نظرية أفلاطون، ومالبرانش (١٦٣٨–١٧١٦م)؛ فقد وصف أفلاطون رحلة النفس خلال عالَم «المثل» قبل هبوطها إلى عالَم الأبدان، كما قال مالبرانش إننا نرى «الامتداد المعقول» في العقل الإلهي، لكن يجب علينا أن نتعمَّق فهْم فكرتهما، إذ لو فهمها المرء على نحو سطحي، لواجهته صعوباتٌ لا سبيل إلى حلِّها؛ إذ ما هي ملكة إدراك المعاني المحضة، ورؤيتها على نحو ما ترى الأجسام؟ إنها نوع من الإحساس الذي ينصب على شيء غير المادة، وإذا فُهم المذهب العقلي على هذا النحو، لم يعد إلا مذهبًا تجريبيًّا مُحوَّرًا، تحوَّل إلى الطابع الأسطوري.

والفكرة التي تُرشدنا في تفسير المذهب الأوَّلي aphorisme هي أن أفلاطون يرى أن العالَم المحسوس، أي عالَم الإدراك الحسي، مُستمدٌّ من العالَم المعقول، أي من عالَم الهندسة. أما «مالبرانش»، فيزعم أننا عندما نُدرك حسيًّا، فنحن «نرى في الله» أي نرى عالَم الأجسام من خلال الامتداد المعقول، وعن طريق هذا الامتداد. وهذا يُنبهنا إلى ضرورة البحث عن نقطة بدء الهندسة في الإدراك الحسي ذاته.
ونقول: نقطة البدء، ولا نقول «الأصل أو السبب». وهذا يعني، بعبارة أخرى، أن الإدراك الحسي ليس هو الذي يُفسِّر الهندسة؛ بل الهندسة هي التي تفسر الإدراك الحسي، فالهندسة تبدأ مع الإدراك الحسي، ولقد قال ليبنتز (١٦٤٦–١٧١٦م) إن العالَم قد ظهر عندما كان الله يحسب Dum Deus calculat fit mundus ويمكننا القول بأن العالَم قد ظهر عندما كان الإنسان يحسب Dum homo calculat fit mundus أي أن العالَم قد ظهر من تلك الهندسة التلقائية التي هي الإدراك الحسي.
فإذا أردنا فهْم المذهب العقلي، وجب علينا أن ندرك أن العقل يبدأ في أداء وظيفته منذ مرحلة الإدراك الحسي. لكن ينبغي أيضًا ألا نتصوَّر العقل على أنه مجرد وظيفة تأمُّليَّة؛ بل على أنه نشاط فعَّال activité opératoire عامل، يبني العالَم عندما يدفع الإنسان بأكمله، بجسمه وروحه، وذهنه وعضلاته، إلى العمل ولا ينطبق ذلك على الإنسان الفردي وحده؛ بل أيضًا على الإنسان الجماعي الذي يحيا في مجتمع.

النشاط الفعال يُنشئ المكان بوساطة مجموعات من الحركات في الإدراك الحسي

وإذن فما صورة الشيء، وبُعده، ومقداره؟ إنها إحساسات بشرية ولمسية نضمها، بعضها إلى بعض، عن طريق حركات؛ حركات استطلاع، وعبور، ومقارنة. وهذه الحركات حقيقية، تؤديها الأذرع والأرجل، وتهدف إلى تمكيننا من النفاذ إلى العالَم المادي، المشترك بيننا وبين أقراننا، ولكنا في نفس الوقت الذي نُنشئ فيه العالَم المادي بفاعليتنا فيه، نفهمه أيضًا، إذ إن المسافة، والصورة، والمقدار، كلها أفكار؛ فالصورة شكل هندسي يُستمَدُّ من المظهر المرئي والإطار الملموس والعضلي للشيء، وهما يُعبران عنها بطريقتهما الخاصة، والمسافة علاقة بين الشيء وبيننا، وهي بدَورها علاقة عقلية في جوهرها، لأنها تُستخدم في تفسير التناقض الظاهري بين فقدان الاتصال اللمسي، ووجود الاتصال البصري، وهو تناقض يزداد قوةً لأننا عندما نُحاول القضاء على فقدان الاتصال اللمسي، أي عندما نلمس الشيء، فإن الصورة البصرية تتضخم شيئًا فشيئًا.

وليس لنا أن نأمُل هنا أن نصف النشاط الفعال للعقل الذي يسيطر على الجسد في الإدراك الحسي، ولن نستطيع إلا أن نُقدِّم عنه فكرةً مختصرة، تكفي لإفهامنا أن المكان يُبنى منذ مرحلة الإدراك الحسي.

يمكننا الشعور بهذا النشاط الفعال عن طريق الرسم

ويبقى علينا أن نجعل علمنا بالمكان ممكنًا، أعني أن نحوله إلى موضوع من نوعٍ ما، على أن المكان ليس موضوعًا في ذاته؛ بل هو صورة، كما سبق أن قلنا، ومهمتنا هنا هي أن نحدد له نوعًا من الوجود المادي، فما هدف هذه العملية؟ إن لها هدفًا مزدوجًا؛ هو أن نشعر بالنشاط الفعال الذي كوَّنَّا به المكان، ذلك النشاط الذي كان سيظل، لولا ذلك، غير مُنفصل عن أثره، أي غير مُنفصل عن العالَم المادي؛ ثم العمل على إكمال النتيجة التي نصل إليها؛ إذ من الممكن أن يكون المكان، بمعنًى ما، أكثر اتساعًا من العالَم المادي، وأن يسمح بتجاوز ذلك العالَم.

وينبغي أن نؤكد هذه النقطة الأخيرة بأن نُقدم مثلًا لتقدُّم الهندسة بالنسبة إلى الإدراك الحسي؛ فالعالَم الذي نُدركه حسيًّا كرةٌ جوفاء نعيش في وسطها. وهو بعبارة أدق، كما قال مالبرانش، «شبه بيضاوي دوار» أي أنه كرة مسطحة في اتجاهها الرأسي، لأننا نميل إلى اعتبار المسافة التي تُباعد بيننا وبين السمت على أنها أقل من تلك التي تفصلنا على الأفق، كما يدلُّ على ذلك كبر الحجم الظاهري للقمر عندما يكون قريبًا من الأفق. فلنقُل إذن إن تصوير هذا العالَم بالكُرة هو في حدِّ ذاته دليل على بلوغ الإنسانية حدًّا بعيدًا من العمق، وأن البدائيين كانوا يتصورون أشكالًا أكثر سذاجةً من ذلك إلى حدٍّ كبير، كوجود أمكنةٍ مربعة مماثلة لخريطة موطن القبيلة. هذا ولنلاحظ أن هذا المكان المدرَك ليس مُتساوِيَ الوجهات anisotrope، أعني أن اتجاهاته ليست متساويةً؛ فالاتجاه الرأسي، وهو اتجاه الثقل، له طابعٌ مميز، إذ إن للعالَم المدرَك أعلى وأسفل.

ولقد كانت الهندسة في مراحلها الأولى هي التي جعلتنا نتصور مكانًا لا مُتناهيًا، ومتجانسًا، على أنه أساس مثالي للمكان الذي نُدركه بالحس، وعندئذٍ نفهم أن من الممكن أن نتبادل الاتجاهات فيما بينها، إذا ما نظرنا إليها على أنها مجرد اتجاهات فحسب، وأنه من الممكن مدُّ كل اتجاهٍ إلى ما لا نهاية، من حيث هو اتجاه. ونقول بالاختصار إن المكان المتجانس واللامتناهي هو وعينا بالمكان الذي نُدركه حسيًّا.

بقي علينا أن نوضح العمليات الفعالة التي نصل بها إلى هذا الوعي، والواقع أن ذلك يتم عن طريق الرسم والأساليب العملية التي تُستمد منه، كالنحت وقطع الأحجار؛ فبهذه الأساليب، لا نقتصر على اجتياز المكان؛ بل نصنعه ونحققه ماديًّا، وإذا نحن أدركناه بحواسنا على أنه موضوع، استطعنا التفكير في طبيعته. فالرسام هو أول عالِم هندسة وهو في الوقت نفسه أول مَن يفكر من المكان بطريقة ميتافيزيقية.

الانتقال العملي من الهندسة إلى الميكانيكا انتقال مباشر

بعد أن يدرك المرء المكان عن طريق الرسم، ثم عن طريق الهندسة، التي هي رسم عقلي، ينتقل انتقالًا طبيعيًّا إلى الميكانيكا.

والواقع أن الميكانيكا قد بدأت بوصفها هندسة للآلات (الماكينات). والمقصود بالماكينات، الآلات التي يستخدمها الإنسان ليزيد من قدرته، ولكي يبذل قوة أقل للتغلب على مقاومة أكبر، كما هي الحال في «العتلة» الرافعة مثلًا. وإذا حاول المرء فهم الصفة شِبه السحرية للعتلة، فإنه يرسمها، وعندئذٍ يدرك أنها نوع من الميزان المائل غير المتعادل، ويحاول أن يفسر عدم تساوي الأثقال المتوازنة بعدم تساوي الذراعين.٧

المذهب العقلي أو الأولي يؤكد النشاط الفعَّال المستقل للعقل

ونتيجة ذلك هي أن أفلاطون ومالبرانش كانا على حق في الواقع؛ فهناك بالفعل عالَم عقلي، بمعنى أن هناك عالمًا من الحقائق العقلية التي يُدركها الذهن، بصرف النظر عن التجربة. غير أنه من الضروري أولًا أن ننظر إلى هذا العالَم على أنه «غير منفصل عن التجربة» أي أنه كامن فيها. فنحن نبنيه في التجربة ذاتها، حتى يتسنى لنا فهمها، والعالَم المادي أثر من آثار التجربة، ولا يُفهم إلا عن طريقها.

ثم يجب علينا النظر إلى هذا العالَم على أنه ناتج عن فاعلية. فالعقل ليس سلبيًّا تجاه العالَم الهندسي؛ بل إنه هو الذي «يخلقه» بأقوى معاني كلمة الخلق، أي بمعنى أنه هو أصل وجوده، وهو الذي يخترعه.

على أن هذا الإبداع لا يتم اعتباطًا؛ بل هو أمر «يحقق» في كل لحظة، أعني أنه يدمج في حقيقة العالَم المادي. فالإدراك الحسي يُحقق في كل لحظة عن طريق الفعل المادي، والهندسة تحقق، وذلك لأنها لمَّا كانت تُستخدَم أساسًا لعلم الطبيعة وبالتالي للمعرفة العملية الخاصة بالمادة، فإن هذه الأخيرة هي السبيل إلى التحقق من صدقها.٨

العلم الأول للعدد هو الحساب الذي وضع الفيثاغوريون أُسسه

ونصل الآن إلى رياضيات العدد. لقد كان الفيثاغوريون هم الذين وضعوا أُسس علم العدد، ويمكن القول، بمعنًى ما، إنهم قد اكتشفوه في السماء ذات النجوم، التي تتمثل لنا في أشكال وأعداد في الوقت ذاته، على هيئة مجموعاتٍ من النجوم، ولذا فإن الفكرة الأولى للعدد كانت تنحصِر في نقطٍ مُتجمعة في أشكال مُعينة، فالعدد المربع، مثل ٩، شكل مُكوَّن من ٩ نقط مجموعة في مربع، له ثلاثة خطوط في كل منها ثلاث نقط، وعلى هذا النحو بدا العدد منفصلًا بوضوح، أي بدا مكونًا من وحدات.

وبهذه الرمزية الساذجة، برهن الفيثاغوريون على نظريات حسابية. فمن المعروف مثلًا أن مجموع الأعداد الفردية حتى (٢ن − ١) يساوي ن٢، أثبت المحدثون ذلك باستخدام التدوين الجبري، فكتبوا المتتالية:
١ + ٣ + ٥ + + (٢ن − ٣) + (٢ن − ١).

ثم كتبوها هي نفسها بالعكس، كل حدٍّ تحت السابق:

(٢ن − ١) + (٢ن − ٣) + ٥ + ٣ + ١
والمجموع يعادل ٢ن٢، لأن كل حدٍّ يساوي ٢ن، وعدد الحدود «ن»، لأن المدى بينها يساوي «ن» إذا كان هو ذاته مساويًا ٢ن − ١. فإذا كان المجموع ٢ن٢، فإن كلًّا من المتتاليتين تساوي ن٢.٩
ومن هذا ينتج أن مجموع الأعداد الفردية المتوالية يعطي المربعات المتوالية.١٠ ولقد كان الفيثاغوريون يقولون: إن كل مربع يساوي المربع السابق مضافًا إليه زاوية الظل (gnomon)، وكانوا يعبرون بكلمة زاوية الظل عن العدد الفردي؛ إذ إن العدد الفردي يتكوَّن من عددَين متساويين، مضافًا إليها العدد «١» مما يرمز إلى زاوية قائمة ضلعاها متساويان، بحيث يكون الواحد المكمل هو رأس الزاوية. فالزاوية الظل هي مثلث مفرغ ذو زاوية قائمة.١١

وهناك الشكل الفيثاغوري الذي يمثل هذه النظرية.

وبالطريقة نفسها أثبت الفيثاغوريون أن مجموع الأعداد الزوجية حتى ٢ن يساوي ن (ن + ١).١٢ وفي هذه الحالة تُسمى المجموعات المتعاقبة «متغايرة» أعني كالمستطيلات قائمة الزوايا.
تتغاير في كل مرة، إذ إن العلاقة (ن + ١)/ن تتنوع تبعًا لكل قيمة من قيم ن، كذلك برهنوا على أن مجموع الأعداد المتعاقبة حتى ن يساوي ن (ن + ١)/٢١٣ وتُسمى المجموعات المتعاقبة باسم الأعداد «المثلثة» إذ إن المقدار ن (ن + ١)/٢ يمثل مساحة المثلث.

العدد يركَّب في الإدراك الحسي ذاته، بواسطة النشاط الفعال للذهن

قلنا إن الحساب قد بدأ بتأمُّل السماء ذات النجوم. لكن هذا لا يعني أن فكرة العدد تأتي من الملاحظة. فلنعرف أن التجربة تبدو في هذه الحالة مواتية تمامًا لتمييز الوحدات؛ إذ إن الوحدة في هذه الحالة نقطة تنفصل تمامًا على صفحة السماء، بحيث لا يكون أمامنا إلا أن نراها كلها متشابهة، متجانسة (فيما عدا الفروق في اللمعان) وغير قابلة للقسمة مطلقًا، ولكن لم يكن بُد من وجود شروط أخرى لكي تظهر فكرة العدد؛ فيجب أولًا أن تُطبق هذه الفكرة على كل المجموعات، أي أن يكون العدد ٧ ليس خاصًّا فقط بعدد نجوم «الدب الكبير» بل بعدد أيام الأسبوع أيضًا، وبعجائب الدنيا، وحكماء اليونان … إلخ. وينبغي أن ينطبق العدد نفسه على كل المجموعات التي يمكن إحصاء نفس مجموعة الوحدات فيها: مثل الكرات (في عدد البلي) والتفاح (في سلة تفاح). على أنه عندما لا يكون الأمر متعلقًا بنجوم، فإن الوحدة لا تبدو في ظروفٍ تجريبية مواتية كهذه؛ فالوحدات ليست غير منقسِمة، ولا هي متجانسة. وفضلًا عن ذلك، فكيف يتم التمييز بين عددين مختلفين؟ إن الملاحظة لا تُطلعنا إلا على انطباعٍ غامض عن الاختلاف بين مجموعتَين. هذا إلى أن ذلك الانطباع يختفي إذا كان الفارق العددي أقلَّ من حدٍّ أدنى مُعين، فمثلًا، ليس ثمة فارق، بالنسبة إلى البصر، بين مجموعة مكونة من ١٠٠ نجم، ومجموعة أخرى من ١٠١ نجم. أما من الوجهة العددية فهذا الفارق يساوي ذلك الذي يتمثل بين نجم مزدوج ونجم بسيط.

فلنقل إذن إنه لا وجود للعدد إلا إذا عدَّ المرء أو أحصى، وهذه الفكرة نتيجة مباشرة لتحليلاتنا السابقة، وهي تناظر تمامًا الفكرة التي عرضناها بصدد المكان. فقد شرحنا المكان عن طريق نشاط فعَّال للعقل، يَعبُر المجال الإدراكي ويرسُم. وكذلك نشرح العدد بالعد، أي فعل الإحصاء.

وهكذا تظلُّ فكرتنا على المذهب العقلي أو الأولي على ما هي عليه، فنحن نرى أنه ها هنا أيضًا على صواب في مخالفته للمذهب التجريبي، ولكن بالشروط نفسها؛ فليس هناك عالَم عقلي للأعداد، وإنما تُوجَد عملية عقلية للعد بطريقةٍ سابقة على التجربة. وبهذا المعنى تكون النظرية الفيثاغورية عن العقول أو الأعداد المثالية، ونظرية مالبرانش عن الأعداد العادَّة “nombres nombrants”١٤ صحيحتين.

العد، عملية مادية وعقلية في آنٍ واحد

وهذا يؤدي بنا إلى عملية العد. لنلاحظ أن لهذه العملية مظهرَين؛ فهي مادية من جهة؛ إذ إنها فعل عملي ينصب على أشياء مادية، كالبلي في صندوق «البلي»، غير أن هذه العملية تصحبها عملية عقلية هي تفسير لها، فالكل يكون نوعًا من الإدراك الحسي الإيجابي، مشابهًا تمامًا لإدراك المكان حسيًّا.

ولقد أطلق على أبسط صورة لهذه العمليات اسم «مبادلة واحد بواحد échange un contre un» قوامها أن نجعل لكل شيء في مجموعةٍ شيئًا يناظره في مجموعة أخرى، ونحقق تناظُرهما واحدًا مع الآخر. ولنضرب لذلك مثلًا بالطفل الذي لا يعرف العد، فيكلَّف بشراء عددٍ من التفاح بقدْر ما معه من القروش فهذا الطفل يستطيع أن يتأكد من أن كل قرش تناظره تفاحة.

على أن هذا لا ينطوي بعدُ على فكرة الوحدة العددية.

ولا يصل المرء إلى المرحلة التالية، إذا عرف كيف يعُد على أصابعه، بل إذا عرف كيف يضع وحدةً بالتوالي مقابل كل إصبعٍ من أصابعه، معدودة تبعًا لترتيبٍ معين، وبحيث يُطلِق على كل منها اسمًا مختلفًا كما يفعل البدائيون. تلك هي المرحلة «الترتيبية ordinal للعدد».
أما مرحلة الأعداد الأصلية (cardinal) فيبلغها المرء عندما يكشف فكرة العدد مميزة، لا فكرة ترتيب معين بين الأعداد فحسب، أي عندما يُدرك أن كل عدد يمثل مجموعة معينة من الوحدات، تتكوَّن عن طريق إضافة وحدة إلى المجموعة السابقة عليها في الترتيب؛ فالأربعة تعرف بأنها ٣ + ١ وهذه العملية تتطلَّب من المرء أن يتصور كل عدد على أنه «كل» يعتبر وحدة لكثرة من الوحدات، وأن يتصوره على أنه وحدة جديدة في مرتبة أعلى، أو بعبارة أخرى أن يتمثل الهوية بين ١ × ٤ = ٤ × ١. ولقد أورد برنشفيك ملاحظةً طريفة أبداها الأب «بوردان» P. Bourdin في «اعتراضاته» على «تأملات» ديكارت، قال فيها: لقد عرفت شخصًا سمع ذات يوم، وقد دبَّ النوم إلى جفونه، دقاتِ الساعة الرابعة، فعدها على النحو الآتي: واحد، واحد، واحد، واحد، ولما اهتدى إلى ما في تصوُّره من غرابة، هتف: هذه ساعة مجنونة بحق؛ لقد دقَّت الواحدة أربع مرات.١٥ وفي هذه الحالة، شِبه الْمُرضية، التي أدى فيها الشروع في النوم إلى إحداث خللٍ جزئي في التركيب العقلي، يُدرك المرء طرفي الهوية المكونة للعدد، ولكنه يُدركهما منفصلَين. فالشخص وهو شِبه نائم، لم يعُد يدرك الفكرة القائلة إن الواحد مكررًا أربع مراتٍ هو ذاته الأربعة مكررة مرةً واحدة.

وعندما تتكون لدى المرء فكرة العدد، والهوية الأساسية التي تُعبر عن تركيبه، وهي ١ × ن = ن × ١، يمكنه تصوُّره فكرة تكوين العدد الواحد، بطرق كثيرة مختلفة، كلها متساوية، وأن يحدد العلاقة بين الأعداد بعضها ببعض، فيستخلص من الهوية ٣ + ١ = ٤، التي هي تعريف العدد ٤، أن ٢ + ٢ = ٤ إلخ وبهذا يتكون الحساب.

وسنرى في الفصل القادم، حين نعرض مشاكل فلسفة الرياضيات الحديثة، مدى التوسع الذي طرأ على علوم الامتداد والعدد.

١  مقال في المنهج، الطبعة المذكورة سابقًا، ص٤٨.
٢  المرجع نفسه، ص٦٦–٦٧.
٣  دروس في الفلسفة الوضعية، الطبعة نفسها، ص١١٢، ١١٣.
٤  Règles pour la direction de l'esprit, Règle IV.
٥  سوف نرى في الفصل التالي (القسم ١٩) أن الموضوع الأساسي للعلم الرياضي المسمَّى بتحليل المواضع Analysis situs أو علم المواضع topologie هو فكرة الترتيب.
٦  كان اليونانيون يُطلقون اسم التجريبي empiricos على الطبيب الذي يزعم أنه يبني ممارسته الطبية كلها على الخبرة والتجربة، دون أن تدعمها أية نظرية.
٧  انظر الفصل الثالث عشر، قسم ٤: ذلك هو العمل الذي قام به أرشميدس.
٨  للهندسة بوجهٍ خاص صحة مستقلة، لا تعتمد على غيرها، كما سنرى في الفصل التالي.
٩  لشرح هذه النظرية، نفرض أن ن = ٥ فيكون (٢ن − ١) = ٩ ومجموع الأرقام الفردية حتى ٩ هي ١ + ٣ + ٥ + ٧ + ٩ = ٢٥ أي ن٢.
أما شرح البرهان الجبري الحديث عليها فهو:
إذا جمعنا كل عددين رأسيين معًا، كان مجموع كل منهما = ٢ن، وهذا ظاهر بالحساب، كما أنه بالجبر ظاهر أيضًا، لأنه يساوي (١ + ٢ن − ١) أي ٢ن وكذلك ٣ + (٢ن − ٣) أي ٢ن وهكذا .. أي إن لدَينا مجموعات رأسية كل منها = ٢ن، وعدد هذه المجموعات ذاتها يساوي ن (لأنها هي الأعداد الفردية، التي يفصل بين كل منها عدد زوجي) فبالضرب إذن يكون مجموع الصفَّين معًا ٢ن٢ وما كان كل منهما معادلًا للآخر، كان كل منهما ن٢ (وهو المطلوب) . (المترجم)
فمثلًا ١ + ٣ (وهما أول عددين فرديين) يعطي أول مربع.
١٠  ١ + ٣ + ٥ يعطي المربع الثاني (٩)، ١ + ٣ + ٥ + ٧ يعطي المربع الثالث (١٦) وهكذا. (المترجم)
١١  كانت صورته الأولى هي القضيب العمودي المغروز في الأرض، والذي يلقي الظل على المرقم الشمسي، وهو يعد الأصل الأول للآلات المعقدة التي تستخدم اليوم في المراصد. (المؤلف).
١٢  إذا فرضنا أن ن = ٣ مثلًا كان مجموع الأعداد الزوجية حتى ن هو ٢ + ٤ + ٦ أي ١٢ ويساوي ٣ (٣ + ١). المترجم
١٣  نفرض أن ن هنا «٥»، فيكون مجموع الأعداد المتعاقبة حتى ٥ = هو ١، ٢، ٣، ٤، ٥ = ١٥. (المترجم)
١٤  وهي عنده في مقابل «الأعداد المعدودة nombres nombré» فالأعداد العادَّة هي الأعداد بمعناها الصحيح، أي الأعداد المحضة، التي تُعبر عن عملية العد، أما الأعداد المعدودة فهي المجموعات التي تُعَد وحداتها.
١٥  Brunschvicg: ouvrage cité. S 293.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤